المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذو القعدة - 1329ه - مجلة المنار - جـ ١٤

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (14)

- ‌المحرم - 1329ه

- ‌فاتحة المجلد الرابع عشر

- ‌الاشتراك في المنار

- ‌فتاوى المنار

- ‌جمعية الدعوة والإرشاد

- ‌المقالة الأولى لجريدة العلم

- ‌المقالة الأولى التي كتبتردًّا على جريدة العلم

- ‌نهضة التعليم الإسلامي في سملك دابل

- ‌أعظم رجل في العالم

- ‌اعتصام الفئتين الكبريين من المسلمين

- ‌البابية البهائية

- ‌الماسون في الدولة العثمانية

- ‌صفر - 1329ه

- ‌الذكر بالأسماء المفردة

- ‌أسئلة من الهند

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌أقوال الجرائد

- ‌حال المسلمين والمصلحين

- ‌الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية [

- ‌تقرير مرفوع إلى جناب صاحب الدولةالأمير أحمد باشا فؤاد حضرتلري

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع أول - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع الآخر - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌أمير الألاي صادق بك

- ‌المسلمون والقبط(النبذة السادسة)

- ‌اقتراح صاحب المنار على المؤتمر المصري

- ‌كيف خلق الإنسان [*]

- ‌النسائيات [*]

- ‌مذكرة عن أعمالالمبشرين المسيحيين

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌مقدمة مقالات المسلمون والقبط

- ‌جمادى الأولى - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌العالم الإسلاميوالاستعمار الأوربي(1)

- ‌آراء أديسونفي مستقبل البشر

- ‌بيان أمير الألاي صادق بك

- ‌شيء من مناقب صادق بك

- ‌بيان هادي باشا الفاروقي

- ‌ألمانيا والعالم الإسلامي

- ‌(المؤتمر المصري)

- ‌اتفاق الدولوالمانع لها من قبول دولتنا فيه

- ‌احتلال فرنسة لمملكة المغرب الأقصى

- ‌جمادى الآخرة - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌العالم الإسلاميوالاستعمار الأوربي(2)

- ‌عليكم باللغة العربيةسيدة اللغات

- ‌المؤتمر المصري [*]

- ‌ملكة بهوبال الهندية في إنكلترة [

- ‌بلاغ محمود شوكت باشا

- ‌رأي الأمير صباح الدين

- ‌سياحة السلطانوالاستفادة من منصبه الديني

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌رجب - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌بحث الاجتهاد والتقليد

- ‌كلمة في السياحة المفيدة

- ‌قانون الجامع الأزهروالمعاهد الدينية العلمية الإسلامية

- ‌هل للقول من مستمع؟وهل للداعي من مجيب

- ‌ حضرموت

- ‌الدعاء للسلاطينفي الخطب وحكمه شرعًا

- ‌الإلحاد في المدارس العلمانية [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌فقيد مصرمصطفى رياض باشا(2)

- ‌جمعية الاتحادومشروع العلم والإرشاد

- ‌شعبان - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌علم الفلك والقرآن

- ‌فصل في بيان دقائقالمسائل العلمية الفلكية

- ‌كلمات علمية عربيةأسوقها إلى المترجمين والمعربين [1]

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌فقيد مصرمصطفى رياض باشا(3)

- ‌مشروع المنتدى الأدبي في التعليم العربي

- ‌الحريق في الآستانة

- ‌استدراك [

- ‌مخاطبات المنار

- ‌رمضان - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌كلمات علمية عربيةأسوقها إلى المترجمين والمعربين [*](2)

- ‌ملحق بقانون الجامع الأزهروالمعاهد الدينية العلمية الإسلامية

- ‌الكوليرا [*]

- ‌الإسعافات الطبية الوقتيةللمصابين بالكوليرا

- ‌أرباب الأقلام في بلاد الشامومشروع الأصفر

- ‌شوال - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌بحث الاجتهاد والتقليد

- ‌المسألة الشرقية [*]

- ‌حالة المسلمين في جاوه والإصلاح

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌رد المنار

- ‌نظام مدرسة دار الدعوة والإرشاد

- ‌ذو القعدة - 1329ه

- ‌العلوم والفنونالتي تدرس في دار الدعوة والإرشاد

- ‌فتاوى المنار

- ‌المسألة الشرقية

- ‌مقدمات الحربفي طرابلس الغرب

- ‌عِبَرُ الحرب في طرابلس الغرب

- ‌ذو الحجة - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌مناظرة عالم مسلملدعاة البروتستانت في بغداد

- ‌المسألة الشرقية

- ‌منشورات إيطالية الخداعية

- ‌إعانة أمير أفغانستان وكبراء قومهلأهل طرابلس الغرب

- ‌عريضة الشكرمن العثمانيين المستخدمين في أفغانستان إلى أميرها

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌كتابٌ رصيفٌ ورأيٌ حصيفٌفي المساعدة على الحرب بطرابلس الغرب

- ‌الخطر الأكبر على بلاد العربوالرأي في تلافيه

- ‌الانتقاد على المنار

الفصل: ‌ذو القعدة - 1329ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الرابع عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمدك اللهم وأنت ولي الحمد، ولك الأمر من قبل ومن بعد، تخرج الحي

من الميت، وتخرج الميت من الحي، وتخلق الضعف من القوة وتخلق القوة من

الضعف، وتجعل العلم من الجهل، وتجعل الجهل من العلم، وتنصر الحق على

الباطل ولا تنصر الباطل على الحق، فللحق السلطان الأعلى ما وجد من يقوم به،

وإنما بقاء الباطل في نوم الحق عنه، وقد قلت وقولك الحق {إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49) {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ} (هود: 45) .

أحمدك اللهم وأصلي وأسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين، النبي

الأمي الذي بعثته في الأميين، فزكّاهم بالتأديب والتربية الفضلى وعلّمهم الكتاب

والحكمة العليا، فكانوا بتربيته سادة العالمين، وبتعليمه أئمة العالمين، فاستجبت

فيه دعوة أبيه إبراهيم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ

وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) .

أحمدك اللهم وأسألك الرحمة والرضوان، والبركة والإحسان، لآل نبيك

الطاهرين، وأصحابه الهادين المهديين، الذين ابتلوا في سبيلك فثبتوا وصدقوا

وأوذوا لاتباع دينك فصابروا وصبروا، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم فهاجروا

وهجروا، الذين عاهدوا فوفوا وآووا ونصروا، ولمن اتبعهم بإحسان، على هداية

السنة والقرآن، أولئك هم الصالحون المصلحون، والعاملون المخلصون (9:

101) {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ

رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً

ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيم} (التوبة: 100) .

أحمدُك اللهم وأسألك أن تهدينا صراطهم المستقيم، وتقينا كما وقيتهم من كيد

الشيطان الرجيم، وتعيذنا كما أعذتهم من شر الوسواس، الذي يوسوس في صدور

الناس، من الجنة والناس، من شياطين الجن المستترين، وشياطين الإنس

الظاهرين، الذين يقعدون بكل صراط يوعدون، ويصدون عن سبيل الله من آمن

ويبتغونها عوجًا، الذين قطعوا حبل الرابطة التي آخيت بها بين المسلمين، ففرقوا

بينهم في الجنس والوطن ومذاهب الدين، فقالوا عربي وتركي، ومصري وغير

مصري، وسني وشيعي، وأنت قلت وقولك الحق: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً

وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ

إِخْوَاناَ} (آل عمران: 103) إلي قولك الحكيم: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا

وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:

105) .

اللهم، إنهم قد تفرقوا عن حقك، وفرقوا بين من جمعتهم بالتوحيد من خلقك،

واتبعوا سنن من قبلهم، في أيام فسادهم وجهلهم، وقد عادوا أولئك المتفرقون إلي

الاتحاد ولم يعودوا، وتابوا عن التعادي والخصام ولم يتوبوا، فغيرت ما بهم، لما

غيروا ما بأنفسهم، تصديقًا لكتابك، وإنفاذًا لسنتك، غيرت تلك النعمة التي أنعمت

بها على سلفهم من الملك الواسع، والعز السابغ والمال الوافر، وأدلت الدولة

لسواهم، وجعلتهم في حكمهم ورزقهم عالة عليهم، ولا تزال بلادهم تنتقص من

أطرافها، ويتغلغل نفوذ الأجانب في أحشائها، وقد أتى عليهم حين من الدهر

يسمعون نذر الزوال من كتاب الوحي ولا يزدجرون، ويشاهدون عبر النكال في

كتاب الكون ولا يعتبرون، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (المدثر: 49) ،

{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68) .

اللهم، إنك تعلم أن ما حل بالمسلمين بتركهم الاعتصام بكتابك، وإعراضهم

عن سنتك في خلقك، قد جعله الناس شبهة على كتابك الحكيم، ووسيلة للطعن في

دينك القويم، وما ظلمتهم ولكن كانوا هم الظالمين، والقرآن هو حجتك عليهم

أجمعين، أمرهم بالاتحاد والاعتصام فتفرقوا، ونهاهم عن الاختلاف فيه فاختلفوا، ولا

يزالون مختلفين، إلا من رحمتهم من المقربين {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ

الآخِرِينَ} (الواقعة: 13-14)) ومن أصحاب اليمين، {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ *

وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 39-40) .

اللهم، إنك لم تذر المؤمنين الأولين على ما كانوا عليه، ولا تدع المسلمين

على ما انتهوا إليه، بل مزت وتميز الخبيث من الطيب، وزيلت وتزيل بين المفسد والمصلح، ووفقت من شئت لنشر دعوة التوحيد والاعتصام، بين جميع

الشعوب والأقوام، اللهم، فانصرهم وهم حزبك على أحزاب الشيطان، المفرقين

بين المسلمين في المذاهب أو العناصر أو اللغات أو الأوطان، وقهم اللهم فتن السياسة

وشرور زعمائها محبي الرياسة، الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، ولقد

جاءهم من ربهم الهدى، ولكنهم آثروا عليه الشهوة والهوى، فيناضل فارسهم بسهام

البهتان، ولا بالدليل والبرهان، وينافح بالنميمة وقول الزور، ويدل بالمخيلة

والدعوى والعجب والغرور، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا

كِتَابٍ مُّنِيرٍ} (الحج: 8) ، {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي العُمْيَ وَمَن كَانَ فِي

ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الزخرف: 40) .

أحمدك اللهم عودًا على بدء؛ أن وفقتني لتأييد المصلحين، والدعوة إلي

الاتحاد والائتلاف بين المسلمين، فقد تم بفضلك وتوفيقك للمنار ثلاثة عشر عامًا،

يدعو إلي ذلك بدليلَيْ النقل والعقل، والأساليب المتنوعة من القول الفصل،

وأضرع إليك أن توفقني على رأس العام الرابع عشر في السعي إليه بالفعل، وأن

تظهر هذا الدين في الآخرين، كما أظهرته في الأولين، فقد بدا غريبًا، وعاد كما

بدا في غربته، فأتم اللهم التشبيه باستتباع ذلك لظهوره وقوته، وانصر دعاته

الصادقين، على عداته المنافقين، الذين يلبسون لباسه ويجهلون حقيقته، فيجنون

عليه ما لا يجني المنكرون له، حتى صدق عليهم ما قلته في المتفرقين قبلهم

{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ} (الحشر: 2) {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً

وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ

أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} (الحشر 14: 15) .

اللهم، إنك تعلم أن من هؤلاء المفرقين من أعماه الحسد وحب الظهور،

ومنهم من أصمه الكبر والغرور، ومنهم من أفسده الفسق والفجور، ومنهم من أبعده

الكفر بك، والصدود عن هداية رسلك، فهم أمشاج مختلفون في عقائدهم وأخلاقهم

الباطنة، مختلفون في عاداتهم وأعمالهم الظاهرة، لا يجمع بين قادتهم إلا حب المال

والجاه في الحياة، والطمع في نصب التماثيل والصور لهم بعد الممات، وتلك

عاقبة الذبذبة، فيما ابتليت به هذه الأمة من اختلاف التعليم والتربية، نال الأجانب

من نفوسهم ما يشتهون، وهم لا يشعرون، فهم لهم خادمون، ويحسبون أنهم هم

المقاومون، أولئك هم المفرقون، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، يفرقون

بين أعضاء الأمة، ويحللون العناصر التي يتركب منها جسم الدولة، أولئك هم

الأخسرون أعمالاً، والرابحون أقوالاً وأموالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا،

وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت

تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة: 16) .

اللهم، قد ضاق ذرع المصلحين، بهؤلاء المفسدين المفرقين، كلما داووا

جرحًا سالت جروح، وكلما رتقوا فتقًا ظهرت لهم فتوق، وكثرت الدعوة بالباطل،

واختلط الحابل بالنابل، وظهر في جو السياسة العارض الممطر، واضطربت

القلوب من موعد الصبح المسفر، يومئذ تظهر عاقبة الذين يعملون في السر، ضد

ما يقولون ويدعون في الجهر، ويتبرأ أهل الجنوب من شياطينهم أهل الشمال؛ إذا

ظهر ما يضمرون لما بقي للإسلام من سلطان وشبه سلطان، بإغراء أولئك الذين

قضوا على سلطة غيره من الأديان، ويومئذ يعلم المغرورون من نوكى المسلمين،

أنهم كانوا فاتنين مفتونين، ( {إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ} (الصافات: 106) ،

{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) .

تطلعت رءوس الفتن، واشتعلت نارها في ألبانية فحوران فاليمن، يخرب

المسلمون بيوتهم بأيدهم، ويقتلون أنفسهم بسيوفهم، ويمهدون السبل للطامعين فيهم،

فيكفونهم أمر الحرب، وبذل المال وسفك الدم، أهلك أهل الحضارة والترف منهم

حب الشهوات، وأهلك أهل الخشونة والتقشف الجهلُ بالفنون والصناعات، وقد

أفسد الرؤساء من الفريقين حب الرياسة، وما يتبعها من فتن السياسة (أعوذ بالله

من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من

كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها

السياسة، وكل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس

ويسوس، وسائس ومسوس) [1] فالسياسة مسار الفتن، ومصدر الإفك والكذب،

ومورد السعاية والمحل، وناهيك بسياسة أهل الضعف، في مثل هذا العصر،

الذين فقدوا كل شيء، ويدعي الواحد منهم كل شيء، ويجرد من لا يتبع أهواءهم

من كل شيء، يلبسون الحق بالباطل، وينصرون من يتبع أهواءهم من مظلوم أو

ظالم، يؤيدون المفسدين والمجرمين، ويتجرمون على البرآء الصالحين، {قُل لَاّ

تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 25) ، {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا

ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ} (سبأ: 26) .

يا أيها المفتون المغرور، المختال في ثوبين من الزور، اعلم أنه ليس في

طاقة أحد أن يتقن كل عمل، فيكون رئيسًا أو زعيمًا في السياسة، والعلم والدين

والأدب والكتابة والخطابة، والأمور الاجتماعية والمالية، وكل ما تحتاج إليه الأمة

لتكون من الأمم الحية، فعليك إن كنت من الصادقين أن تتقن عملاً ما، ثم تكون

عونًا وظهيرًا للعاملين، ويا أيها المفتون بالقوة، ادخر قوتك للقاء خصمك الأقوياء،

ولا تضعفها بالبغي على إخوانك الضعفاء، فرب جهاد في غير عدو، ورب

ضعة في حب العلو، ورب باغ على نفسه، وهو يحسب أنه ينتقم من خصمه،

والبغي مصرعه وخيم، {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا

السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ

أَلِيمٌ} (الشورى: 41-42) .

يا أهل القرآن، أقيموا القرآن، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان،

قد غلبتم على ما فرطتم فيه من حقكم، فنزا على مصالحكم الملاحدة والفاسقون من

قومكم، وكانوا هم المنافذ والكوى لدخول سلطان الأجانب في أرضكم، تركتم لهم

دنياكم فطمعوا في دينكم، يريدون إطفاء نوره والإحاطة بوليه ونصيره، فأفيقوا من

نومكم، واتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وانشروا دعوة الإسلام، واجعلوا أمامكم

القرآن، فهو حبل الله الممدود بين أهل الإيمان {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا

تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) ، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا

تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) .

هذا ما يذكِّر به المنار قراءه المصطفين الأخيار، على رأس عامه الرابع عشر،

كما هي سنته في فاتحة كل سنة، وإنها لتذكرة للخاصة، بحسب حالة الإصلاح

العامة، ويدعوهم كما يدعو جميع العلماء الذين يطلعون عليه، إلى الكتابة إليه بما

يرونه منتفدًا فيه، مؤيدًا بالدليل والبرهان، لا بقول فلان ورأي فلان، فإنما المنار

صحيفة جميع المسلمين، لا صحيفة طائفة واحدة من المقلدين، فهو يدعوهم إلى

الاجتماع على ما اتفقوا عليه، وأن لا يتعادوا فيما اختلفوا فيه، بل يردوه إلى الله

والرسول، فهو خير عمل وأحسن تأويل، {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) .

...

...

...

منشئ المنار ومحرره

...

...

...

محمد رشيد رضا الحسيني

_________

(1)

هذه الاستعاذة للأستاذ الإمام رحمه الله تعالى.

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاشتراك في المنار

(1)

جرى العرف في أقطارنا كلها بأن المشترك في صحيفة مؤقتة؛

كالجرائد والمجلات، اشتراكه مسانهة، كلما جاءت سنة كان مشتركًا فيها، ما لم

يؤذن صاحب الصحيفة قبل دخول السنة الجديدة أو في أولها بقطع الاشتراك.

وعملاً بهذا العرف، ترسل المنار إلى المشتركين في العام الماضي، فمَنْ قَبِلَ هذا

الجزء الأول كان مشتركًا إلى آخر هذه السنة، ووجب عليه أن يؤدي قيمة

الاشتراك كاملة وإن بدا له في أثناء السنة قطع الاشتراك وجعله نصف سنة، فمن

لم يرض بهذا الشرط، فليرد إلينا هذا الجزء.

(2)

من أحب ابتداء الاشتراك في المنار هذا العام، فعليه أن يرسل القيمة

سلفًا مع طلب، وهي مبينة على غلاف كل جزء.

(3)

إذا لم يصل بعض الأجزاء إلى المشترك، فالإدارة ترسله إليه إذا

طلبه بعد موعد وصوله إليه بشهر واحد، فإن طلبه بعد ذلك أو طلب بدلاً عما

أضاعه من الأجزاء، فعليه أن يرسل ثمن ما يطلبه، وثمن الجزء بمصر ستة

قروش، وفي الخارج فرنك ونصف.

_________

ص: 8

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

أسئلة من سومطرا

(س1-3) لصاحب الإمضاء في فيلمبغ (سومطرا) .

إلى حضرة الأستاذ الأكبر مرشد الأنام، ومشيد دعائم الإسلام، السيد محمد

رشيد رضا. بعد التحية والإكرام؛ بناءً على واسع حلمكم، ووافر علمكم، أتجاسر

على أن أقدم لحضرتكم بعض المسائل الدينية التي أعيانا حلها، وقد أصبحت اليوم

بطرفنا من الوقائع الحالية، مؤملاً من حميد شيمكم أن تجيبونا عنها على صفحات

مناركم المنير، ولشدة مسيس الحاجة إلى الجواب نلح على سماحتكم في المبادرة به،

فالناس لجنابكم منتظرون، ولكم من الله جزيل الأجر، ومنا جميل الشكر، وهي

هذه:

(1)

ما قولكم - لا برحتم نورًا للمبتدئين، وحسامًا مصلتًا على رقاب الملحدين

- في جبانة ببلادنا تدفن فيها أموات المسلمين، وقد اشتدت في هذه الأيام إليها حاجة

الحكومة؛ لجعلها رصيفًا على البحر لوقوف البواخر؛ بسبب لياقتها لذلك وقربها من

الميناء، وقد أضحى من المتعذر هنا وجود غيرها من الأراضي التي تجدر بأن تكون

رصيفًا، وقد أعلنت الحكومة قصدها هذا، وطلبت من المسلمين من غير إجبار أن

ينبشوا موتاهم، وينقلوهم إلى مكان آخر؛ ليتسنى لها بحث الأرض المطلوبة

وتسويتها؟ ولا برحت تكرر الطلب مع الإعلان بعدم الإكراه، فهل يجوز للمسلمين -

والحالة هذه - نبش موتاهم نظراً للمصلحة العمومية أم لا؟ فإن قلتم لا، فهل يحصل

الجواز لو فرضنا وجود الإكراه والإجبار من الحكومة أم لا يحصل؟ تفضلوا

سادتي بادروا بالجواب.

(2)

وما قولكم لا زال مناركم شجًا في حلوق الدجالين، وشبًا ترتعد منه

فرائص المحتالين، في خضاب اللحية أو حلقها، هل ورد في السنة المنيفة نص

يصرح بتحريم ذلك، فإن قلتم: لا، فهل وقع الإجماع على التحريم، وما هو

الحكم فيما لم يَنُص الكتاب والسنة على تحريمه، ولا انعقد عليه الإجماع، وهل

للقياس مدخل في هذا الباب؟ أفيدونا مأجورين.

(3)

وما قولكم - حفظكم الله وأبقاكم - في ضمانة الحياة، هل يجوز في

شرعنا الشريف الجنوح إليها؟ وما الدليل على عدم الجواز لو فرضنا قولكم به؟

فإن سبق لكم في هذا كلام في المنار أو غيره، فالمأمول من فضلكم عدم إحالتنا

عليه، والمكرر يحلو، جزاكم الله عن هذه الأمة خيرًا، آمين.

...

...

... السيد جعفر بن شيخ السقاف

(ج1 نبش المقابر وجعلها للمصلحة العامة)

المشهور في كتب الفقه أن المقابر المسبلة يحرم البناء فيها، سواء كان المبني

قبة أم بيتًا أم مسجدًا ويجب هدمه، قال ابن حجر الهيتمي: حتى قبة إمامنا الشافعي

التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين

الرفع للإمام. وقال: إنه لا يجوز زرع شيء فيها؛ لأنه لا يجوز الانتفاع بها بغير

الدفن.

قال الشمس الرملي: وقد أفتى جماعة من العلماء بهدم ما بني فيها، ويظهر

حمله على ما إذا عرف حاله في الوضع، فإن جهل ترك حملاً على وضعه بحق،

كما في الكنائس التي نقر أهل الذمة عليها في بلدنا، وجهلنا حالها، وكما في

البناء الموجود على حافة الأنهار والشوارع، وصرح في المجموع بحرمة البناء

في المسبلة، قال الأذرعي: ويقرب إلحاق الموات بها؛ لأن فيه تضييقًا على

المسلمين بما لا مصلحة ولا غرض شرعي فيه بخلاف الإحياء ا. هـ وتأمل تقييده

الحرمة بالتضييق بما لا مصلحة فيه، وهل يعمل بمفهومه من أنه إذا كانت هناك مصلحة عامة وامتنع التضييق باستبدال تلك المقبرة بغيرها فإنه يجوز.

وأما نبش القبور، فإن كان قبل البلى حرم إلا لضرورة وعد الفقهاء منها

الدفن بغير غسل، أو في أرض مغصوبة، أو ثياب مغصوبة، أو لغير القبلة أو

وقع في القبر مال، وغير ذلك، قال الرملي في النهاية أما بعد البلى عند من مر

(أي أهل الخبرة بتلك الأرض) فلا يحرم النبش، بل تحرم عمارته وتسوية ترابه

عليه، إذا كان في مقبرة مسبلة؛ لامتناع الناس من الدفن فيه لظنهم عدم البلى.

وقال الشعراني في الميزان الكبرى: (واتفقوا على أنه لا يجوز حفر قبر

الميت؛ ليدفن عنده آخر إلا إذا مضى على الميت زمن يبلى في مثله ويصير رميمًا،

فيجوز حينئذ، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: إذا مضى على الميت حول،

فازرعوا الموضع اهـ.

والشافعية صرحوا بمنع زراعة المقبرة المسبلة والموقوفة، كالبناء عليها

وتشريف القبور فيها؛ لأن ذلك يمنع من الانتفاع.

وفي كتاب (كشف القناع عن متن الإقناع) من كتب الحنابلة المعتبرة؛ أن

البناء على القبر مكروه، وفي المسبلة أشد كراهة، وعن الإمام أحمد منعه في وقف

عام، ثم قال ما نصه: وإذا صار (الميت) رميمًا جازت الزراعة وحرثه (أي

موضع الدفن) وغير ذلك؛ كالبناء عليه، قاله أبو المعالي. والمراد (أي بقول أبي

المعالي) : تجوز الزراعة والحرث ونحوهما إذا صار رميمًا (إذا لم يخالف شرط

الواقف لتعيينه الجهة) بأن عين الأرض للدفن، فلا يجوز حرثها ولا غرسها. اهـ.

المراد منه، ثم ذكر جواز نبش قبور المشركين؛ ليتخذ مكانها مسجدًا؛ لأن موضع

مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان مقبرة لهم؛ فاشترى الأرض، وأمر بنبشها

وجعلها مسجدا، وكذا إذا كان فيها مال. وعبر في المنتهى من كتبهم بقوله: (ويباح

نبش قبر حربي لمصلحة أو لمال فيه) .

هذا ما رأيت أن أورده من كلام الفقهاء، والمذاهب فيه متقاربة، ولا أذكر

نصًا صريحًا عندهم في الواقعة، وقد رأيت ما ذكره بعضهم من المصلحة،

وجمهورهم على أن المقبرة الموقوفة أو المسبلة ليس لأحد أن يتصرف فيها بغير

الدفن، حتى إنهم منعوا أن يحفر الإنسان فيها قبرًا لنفسه أو لغيره من الأحياء؛

ليدفن فيه عند الموت، ومن الفقهاء من يرى أنه يجوز التصرف في الوقف

بالاستبدال، وبما هو أقرب إلى مقصد الواقف، والتصرف في المسبلة أهون،

وروي عن الإمام أحمد جواز استبدال مسجد بمسجد للمصلحة، واحتج بأن عمر

أبدل مسجد الكوفة القديم بآخر، وصار الأول سوقًا، وجوز أن يباع ويبنى بثمنه

غيره للمصلحة، ولو في مكان أو بلد آخر.

أما الكتاب فلا ذكر فيه لهذه المسألة، والسنة كذلك، إلا أنه ورد فيها مما

يتعلق بالمسألة حديث بناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في مكان كان مقبرة،

وتقدمت الإشارة إلى ذلك في كلام الفقهاء، وحديث جابر عند البخاري والنسائي

قال: (دفن مع أبي رجل فلم تطب نفسي حتى أخرجته فجعلته في قبر على حدة.

قال بعض العلماء: وفيه دليل على أنه يجوز نبش الميت لأمر يتعلق بالحي،

أي على رأي من يعد فعل الصحابي حجة، وهو خلاف ما عليه الجمهور، ولو

كان لهم عناية بالاحتجاج لهذه المسألة، لقالوا: إن هذا العمل مما لا يخفى، وقد

أقره الصحابة عليه، فكان إجماعًا، وكم قالوا مثل ذلك.

والذي أراه أن هذه المسألة كسائر المسائل التي لا نص فيها عن الشارع ترد

إلى أولي الأمر من المسلمين، وهم رءوس الناس وأصحاب العلم والمكانة فيهم،

فيتشاورون فيها، ويقررون ما يرون فيه المصلحة للمسلمين، فإذا رأوا المصلحة

في استبدال مقبرة أخرى بها استبدلوا، ولهم أن ينقلوا حينئذ رمم الموتى ويدفنوها

في المقبرة الجديدة، وإلا فلا. وأما إذا أكرهتهم الحكومة على ذلك، فالأمر ظاهر

أنهم يكونون معذورين.

(ج 2 خضاب اللحية وحلقها)

أما خضاب اللحية وكذا غيرها فهو مستحب، وقد ثبت في الأحاديث

الصحيحة الأمر به؛ كحديث أبي هريرة في الصحيحين: (إن اليهود والنصارى لا

يصبغون فخالفوهم) وهناك أحاديث أخرى، وفيها تصريح بالخضاب بالحمرة

والصفرة والحناء والكتم وهو - بالتحريك - نبات بالبادية خضابه أصفر، وإذا مزج

بالحناء جاء لون الشعر بين السواد والحمرة. وخضب النبي صلى لله عليه وسلم كما

صححه النووي والحسن والحسين وكثير من كبراء الصحابة، وكره بعض

العلماء الخضاب؛ لما ورد من وصف الشيب بالنور، وقال بعضهم: يتبع عادة

بلده؛ لأن هذه المسألة من العادات لا من العبادات، ولكن آداب السلف أعلى،

فينبغي إيثارها.

قال علي القاري في الشمائل: ثم إن القائلين باستحباب الخضاب، اختلفوا

في أنه يجوز الخضب بالسواد والأفضل بالحمرة والصفرة، فذهب أكثر العلماء إلى

كراهة الخضاب بالسواد، وجنح النووي إلى أنها كراهية تحريم، وأن من

العلماء من رخص فيه للجهاد ولم يرخص في غيره، واستحبوا الخضاب بالحمرة

أو الصفرة؛ لحديث جابر قال: أتي بأبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

يوم فتح مكة، ورأسه كالثغامة بياضًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

غيروا هذا، واجتنبوا السواد أخرجه مسلم ثم قال: والثغامة بضم المثلثة وتخفيف

المعجمة نبات شديد البياض زهره وثمره، ولحديث أبي ذر رفعه (إن أحسن ما

غيرتم به الشيب الحناء والكتم) أخرجه الأربعة وأحمد وابن حبان وصححه

الترمذي، وتقدم أن الصبغ بهما يخرج بين السواد والحمرة. اهـ.

أقول: حديث مسلم في أبي قحافة رواه أحمد من حديث أنس بلفظ (ولا

تقربوا السواد) ، وزاد في الفردوس يعني أبا قحافة، فالنهي في الحديث خاص به،

والسواد للشيخ الهرم يستقبح. وفي الباب حديث ابن عمر عن الطبراني والحاكم

(الصفرة خضاب المؤمن والحمرة خضاب المسلم والسواد خضاب الكافر) .

والحديث منكر كما قال الحافظ الذهبي، وقال الهيتمي: فيه من لم أعرفه. وحديث

ابن عباس عند أبي داود والنسائي (سيكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا

السواد كحواصل الحمام لا يجدون رائحة الجنة) ، زعم العراقي أن إسناده جيد،

ولكن قال ملا علي القاري: في إسناده مقال، ولو كان مما يحتج به لجزموا

بالتحريم، وحديث أبي الدرداء (من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة)

قال علي القاري: إسناده لين اهـ. والصواب أن ضعفه أشد من ذلك، ولا يصح

في هذه الحنيفة السمحة، مثل هذا الوعيد فيما لا ضرر فيه في دين ولا نفس ولا

عرض ولا عقل ولا مال، وهي الكليات الخمس للمحرمات في الإسلام. على أن

هذه الأحاديث الضعيفة معارضة بمثلها، وبما هو أقوى كحديث الأمر المطلق

بالصبغ في الصحيح، وحديث صهيب عند ابن ماجه (إن أحسن ما اختضبتم به

لهذا السواد، أرغب لنسائكم فيكم، وأهيب لكم في صدور عدوكم) ؛ ولأجل

التعليل الثاني، قال بعض العلماء: إن كراهة الخضاب بالسواد، تنتفي بنية الجهاد

أي: لمن هو من أهله، وحملوا على ذلك ما روي عن بعض السلف من

الاختضاب به، ومنهم ابن عمر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، وما ورد

من تعليل كراهة السواد؛ لكونه كان من عادة الكفار، يفيد زوال الكراهية بانتفاء

اختصاصهم بذلك، وتتجه الكراهية الشديدة بل التحريم إذا كان في الخضاب غش

محرم.

وأما حلق اللحية فهو مكروه، فإن من آداب السنة قص الشارب وإعفاء اللحية،

وفي ذلك عدة أحاديث في الصحيحين والسنن، وقد علل ذلك فيها؛ بمخالفة

المشركين والمجوس واليهود والنصارى، وذلك أن الأمم تتميز بآدابها وعاداتها

وأزيائها، وإنما يتشبه الضعيف بالقوي، والواطئ بالعلي، وقد يفضي إسراف

الضعيف في التقليد والتشبه إلى ضياع استقلاله، وتمكين من يتشبه بهم ويقلدهم من

التصرف بجميع أمره، فلا يقولن قائل: إن هذا من أمور العادات لا من أمور الدين،

وقد فقه حكمته وفائدته للمتبعين، وأشهر الأحاديث في ذلك حديث ابن عمر

مرفوعًا (خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفروا اللحى) رواه الشيخان، وإذا

زال الاختصاص زال معنى التمايز، وقد صار بعض المسلمين يعفي لحيته تشبهًا

بالإفرنج. وأما سؤال السائل في هذا المقام عن العمل؛ بما لم يرد فيه كتاب ولا

سنة ولا إجماع، فقد أشرنا إلى جوابه بالإجمال في الجواب الأول، ويراه مفصلاً

في تفسير هذا الجزء من المنار وما قبله.

(ج 3 ضمان الحياة)

لم يذكر السائل كيفية هذا الضمان ولا عقده، والمشهور أن هذا عن العقود

التي تشبه الميسر (القمار) ؛ في كون الذي يعطي المال لشركة الضمان، لا

يعطيها إياه في مقابلة عمل تعمله له أو منفعة تسديها إليه، وإنما يرجو بذلك أن

تأخذ ورثته منها أكثر مما أعطى إن هو مات قبل المدة المعينة، وجمهور الفقهاء

يصرحون بأن مثل هذا العقد باطل ومحرم؛ لما فيه من إضاعة المال الواجب

حفظه، وعدم بذله إلا فيما فيه منفعة دينية أو دنيوية معلومة أو مظنونة، وليست

كل العقود التي يحكم الفقهاء ببطلانها محرمة دينيًا فإنهم قد يشترطون شروطًا

اجتهادية، لا يحكم قاضيهم ولا ينفذ أميرهم الحكم إلا إذا تحققت في العقد، وإلا لم

يكن في ترك الشرط منها مخالفة لأمر الله ورسوله، وقد صرح بعض الفقهاء بحل

جميع العقود والشروط التي يتعاقد الناس عليها، ويشترطونها إذا لم تكن مخالفة

للكتاب والسنة الصحيحة، وهذا هو الصواب. وقد ذكرناه في المنار غير مرة،

وربما نفصل القول فيه في وقت آخر تفصيلاً.

_________

ص: 29

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جمعية الدعوة والإرشاد

{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ

عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 46) .

أشهد الله وملائكته والصالحين من عباده؛ بأنني سعيت إلى إنفاذ مشروع

الدعوة والإرشاد في القسطنطينية، وأنا أعتقد اعتقادًا راسخًا لا زلزال فيه ولا

اضطراب؛ أنه أنفع ما يخدم به دين الإسلام في نفسه، وأنه أقرب الطرق لارتقاء

المسلمين في دينهم ودنياهم، وأن البلاد العثمانية ستكون هي التي تجني بواكر

ثمراته، وأن سيكون من هذه الثمرات ائتلاف الشعوب العثمانية وتعاونها على

ترقية البلاد في العلوم والآداب والثروة والعمران، وشدة الاتحاد بالدولة، ومنع

الفتن والثورات الداخلية؛ لأن المرشدين للعامة إذا كانوا من العلماء الأتقياء الخطباء،

يكون تأثيرهم أقوى من كل تأثير.

سعيت إلى إنفاذ المشروع هناك، فرأيت جميع العقلاء، حتى من غير

المسلمين متفقين على نفعه وفائدته، وكونه لا يحل محله سواه، حتى إن جريدة

صباح ولاتوركي أثنتا عليه وهما لغير المسلمين، ولكن تصدى لمقاومته رجلان من

المسلمين أحدهما من رجال الحكومة وجمعية الاتحاد والترقي والآخر من المبعوثين

قاوماه في الباطن، وهما يدعيان المساعدة عليه في الظاهر. فأما رجل الحكومة

والجمعية فلا أصرح باسمه الآن، ويعرفه جميع أعضاء جمعية العلم والإرشاد التي

أسسناها هناك، وأكثر أهل البصيرة في الآستانة من العلماء وغيرهم. وأما

المبعوث فهو عبيد الله أفندي مبعوث أزمير، وصاحب الجريدة المسماة بالعرب.

أقمت في الآستانة سنة كاملة كما علم قراء المنار، ومعظم أعمالي في مصر

معطلة، ثم عدت ولا زال يبلغني من بعض أصحاب الشأن في حكومتها أنهم

يريدون تنفيذ المشروع الذي وافقوا عليه فيها، وعن غيرهم أنهم لا يريدون ذلك،

وهذا ما حملني على السعي لتنفيذه هنا بأوسع وأكمل مما وافقوني عليه هناك.

لا يختلف اثنان في أن أول ما يبدأ به في مثل هذا العمل هو مكاشفة من

يرجى منهم القيام به؛ ودعوتهم إلى الاجتماع والتشاور فيه، وهذا ما بدأت به وقبل

أن يتم اختيار الأفراد الذين أحببت أن يكونوا هم المؤسسين. قامت جريدة العلم

التي هي لسان حال الحزب الوطني بمصر ترجف بالمشروع، وتلبس على الناس

أمره، وباتفاق محمد بك فريد رئيس الحزب والشيخ عبد العزيز شاويش رئيس

تحرير جريدة العلم على مقاومته، فكان مثل خذلان المسلمين لأنفسهم ولدينهم

بمصر والآستانة واحدًا.

كانت جريدة العلم زعمت أنه يوجد بمصر جمعية تدعى جمعية الاتحاد العربي

غرضها فصل البلاد العربية من الدولة العثمانية، وإقامة خليفة عربي فيها تحت

حماية الإنكليز، وأنها تعمل أعلامًا مطرزة لترسلها إلى البلاد العربية، ثم مزجت

مشروع الدعوة والإرشاد بتلك الأوهام، وأطلقت القول في ذم العرب.

خرق في السياسة وسعاية للإيقاع بين الشعبين الكبيرين المقومين للأمة

العثمانية؛ وهما العرب والترك، عن جهل أو علم، فالشعب العربي أكثر عددًا

وأوسع بلادًا، وقيمته وقيمة بلاده المعنوية في هذه الدولة أعظم من كل شيء،

وهذا الطعن فيه يتضمن الطعن في الدولة نفسها، كما نعلم ذلك من العهد الحميدي

المظلم الذي كان يروج فيه مثل هذه السعايات والوشايات الوهمية؛ التي كانت

جريدة اللواء ترجف بها.

ليس هذا المقام بمقام البحث في هذه المسألة، وإنما ذكرتها لأبين أن جريدة

العلم بنت عليها الطعن والإرجاف في مشروع الدعوة والإرشاد، وجعلته تابعًا لها

ووسيلة إليها، وهو المشروع المقدس من أدناس السياسة وأهلها المفسدين، وكان

المغرور بما أرجف به، كان يتوهم أنه بإرجافه يقضي على هذا المشروع ويقتله

وهو جنين حتى لا يطمع أحد في وجوده فيعمل له؛ وفاته أن المخلصين لا يبالون

من رماهم بالريبة، وأكل لحومهم بالغيبة، ولا يثنيهم عن عملهم الإفك والبهتان،

وإنما يزيدهم ذلك إيمانًا وعزمًا، ويقولون حسبنا الله ونعم الوكيل.

وها نحن أولاء نسجل ما كتب في جريدة العلم مع الرد عليه؛ ليكون من مادة

تاريخ هذا المشروع الجليل، وللزمان الحكم الفصل في إظهار الحقائق للعالمين،

وإبطال أباطيل المبطلين، وإلى الله المصير والعاقبة للمتقين.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 35

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المقالة الأولى لجريدة العلم

نشرت جريدة العلم بعد الذي أشرنا إليه في المقدمة المقالة الآتية في عددها

205 الذي صدر في 8 المحرم، وهذا نصها:

(مدرسة التبشير الإسلامي)

ما وراء الحجاب

إن فكرة إرسال مبشرين بالإسلام في أطراف الأرض؛ لنصح العامة،

وتمكين عقيدة التوحيد في نفوس أهل الشرك، قد عرضت في العهد الأخير للأستاذ

المرحوم الشيخ محمد عبده، ولقد سمعناه يقول: إنه لولا حكم عبد الحميد ووساوسه

لعرض على الدولة العلية اتخاذ الآستانة التي هي دار الخلافة مقرًّا لتلك المدرسة

الدينية.

مات الشيخ محمد عبده، ودالت دولة عبد الحميد، وحل الدستور والعدل

والعقل محل الفوضى والظلم والجنون، فخطر للشيخ رشيد فيما نظن تحقيق أماني

أستاذنا المرحوم، فذهب إلى دار السعادة، وأفضى بمشروعه إلى ذوي الحل والعقد

هناك، فرحبوا به لأنه من الضرورات اللازمة للعالم الإسلامي، وقد تمكنت

الجهالة بأصول الإسلام من نفوس عامة المسلمين وخاصتهم، حتى إن أحدهم ليسمع

آي كتاب الله أو شيئًا من سنة رسوله المصطفى، فلا يخيل إليه إلا أنها بدع أو

مفتريات تلصق بالدين!

رحب رجال الدولة بهذا المشروع، وأرادوا أن يحلوه محله الطبيعي، بجعله

تحت رعاية شيخ الإسلام الذي له دون سواه الإشراف على المعاهد الدينية، فأبى

ذلك صاحب المشروع، وزادهم نفورًا منه فيما يقولون ما اتصل بهم (إن صدقًا

وإن كذبًا) من إفراطه في الاشتغال بالمسألة العربية، وإغراقه في التحرش

بالأتراك، لقد كان يبلغهم ذلك فيظنون بالشيخ الظنون، ويخشون مغبة تسليمه مقاليد

تلك المدرسة، فأبوا إلا أن تلحق رأسًا بالمشيخة، وهم الآن فيما نعلم يشتغلون

بإقامتها واختيار المعلمين الصالحين لها، كما أنهم مشتغلون بوضع برامجها

وميزانيتها ونظامها، وربما افتتحت في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى.

ولقد نقل إلينا من الآستانة العلية أن الشيخ رشيد رضا لم يكد ييأس من

استقلاله بأمر تلك المدرسة حتى سارع إلى الاستعانة ببعض ذوي السلطان من

العرب؛ لينشئوا مدرسة للتبشير عربية، ويدور في الأندية من الإشاعات والأقاويل

ما لا يسعنا إلا استبعاده.

فمن ذلك أن جمعية الاتحاد العربي هي التي تسعى وراء ذلك في الخفاء،

وتريد أن توجد تلك المدرسة لتخرج في الظاهر مبشرين بالإسلام، وفي الباطل

مبشرين بدعوتهم الخصوصية إلى مناهضة الأتراك والاستبداد بالوظائف، ونحو

ذلك من الأغراض الحقيرة.

ومن الأقاويل أن الموعز بذلك هم الإنكليز، يردون أن يبلغوا بذلك ما يتمنونه

من تفويض دعائم المملكة العثمانية - خلَّدها الله - ليقيموا بدلها خلافة عربية،

يضعونها في أيدي عباد الشهوات والأموال، حتى يتم لهم الاحتكام المطلق في العالم

الإسلامي - لا قدر الله - كما تم لدولة المماليك، الذين سخَّروا الخلفاء في عهدهم

لبلوغ مآربهم، وقصورهم على الخطبة والصلاة على الجنائز، والتصدر في

المواكب والمجالس.

ولقد ظلت الخلافة الإسلامية في ذلك التعس والانحطاط، حتى قيَّض الله لها

آل عثمان فرفعوا من شأنها، وأعلوا من كلمتها، ودافعوا عن بيضتها. فالإنجليز

يريدون اليوم بتشجيع تلك العصبة الغوية الغافلة؛ أن يعيدوا للخلافة الإسلامية ذلك

العهد الذي كان شرًّا ووبالاً على العالم الإسلامي جميعه، فيتخذوا من تلك العصبة

خليفة، يقيمون به دولة سلطانها الأعظم وخاقانها الأفخم الملك جورج الخامس،

ويؤسسون ملكًا يكون حاكمه العامل السير إدوارد جرتي وكعبته المقدسة لندن.

ومن الإشاعات المتناقلة أيضًا أن القائمين بهذا المشروع مخلصون، لا

يريدون إلا الخير للعالم الإسلامي، ولكنهم مع ذلك يخطئون في عدم أخذهم بالحزم

من الأمور؛ إذ استهانوا بما يحف بعملهم هذا من الشبهات، وما يعتوره من الشكوك،

ويقول هؤلاء: إنه كان الأجمل أن يتربص بالأمر قليلاً حتى تقيم الدولة العلية

مدرسة الآستانة، فتلحق مدرسة القاهرة بها، أو أن يكتفى بتلقين تلاميذ الأزهر

جميع ما يلزم المبشرين من فنون الوعظ وأساليب الإرشاد، وإذا علمنا أن برنامج

الأزهر أمثل الأشياء وأشبهها بما يرمي إليه ذلك المشروع، نعلم أن زيادة مادة أو

مادتين على ما احتواه بالفعل كافية لجعل الأزهر تلك المدرسة التي يريدونها،

ويسعون إلى إقامتها، دون أن يكون من وراء ذلك مجلبة للظنون ومثار للتهم، وإذا

ارتأى بعض القائمين بهذا المشروع عدم كفاءة علماء الأزهر لتدريب طلاب التبشير

وتمرينهم على هذا الفن الجديد، فليتقدم بنفسه: إما متطوعًا أو مأجورًا ليقوم في

الأزهر بهذا الأمر، وليكون له في العاقبة جميل الشكر وجزيل الأجر.

هذا ما رأيناه أن نقدمه من النصائح للقائمين بهذه الحركة الجديدة، ناصحين

للمخلصين منهم أن يتجنبوا مواطن الشبه، وألا يساعدوا العاملين على التحرش

بدولتهم، المناهضين لإخوانهم العثمانيين، المساعدين للدسائس الأجنبية،

المروجين للفتن الداخلية، فليتقوا الله في دينهم، وليتقوا الله في جامعتهم، وليتقوا

الله في أنفسهم، فإنما هلك من قبلهم بهذا الطيش والرعونة، وبالكدح إلى نيل

مآربهم السافلة الحقيرة.

وإذا كان الأتراك فيما تزعمون؛ قد اغتالوا ما تسمونه بالوظائف واستبدوا بها،

فإنما هم إخوانكم في الدين وشركاؤكم في الجنسية.

وإذا كانوا أصابوكم بشيء من الأذى كما تتقولون، فقد قال المثل قديمًا: أنفك

منك ولو كان أجدع.

فاتقوا الله، واحذروا أن تنصب عليكم داهية ككسف الليل المظلم، لا تجدون

منها مخرجًا، ولا ترجون بعدها فرجًا.

إلا إنني لا أخاف على الدولة العلية من رعاياها البلغاريين ولا اليونانيين ولا

الأرمن ولا العربي المسيحي، وإنما أخاف عليها العربي المسلم يطمح إلى الوظائف،

ويعمد إلى كتاب الله، فيستفز العامة بما يؤول من آياته ويحرف من بيناته، ولولا

نزعات الشياطين، لكان العالم الإسلامي كما أمره الله أمة واحدة، ولقام بدل

المفرقين منهم أمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحفظ

حدود الله، وتصلح بين الناس، حتى لا يحب أحدهم لأخيه إلا ما يحب لنفسه،

ولكن {هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ

يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} (الأنعام: 65) .اهـ.

***

(المنار)

هذا أول ما كتبه الشيخ عبد العزيز شاويش في جريدة العلم، التي هي لسان

حال الحزب الوطني؛ إرجافاً بالمشروع من غير مشاورة أعضاء مجلس إدارة

الحزب ولا لجانه، ولكن بأمر محمد بك فريد. وقد جعل في الكلام منافذ لأجل

الخروج منها، إذا اضطر إلى الرجوع عن مقاومة هذا المشروع الإسلامي الجليل،

فبنى كلامه على (أقاويل) افتجرها، وقال: إنه يستبعدها، ورأيت بعدها بعض

أصحابه يقصدون إلى محادثتي في المشروع، ويمزجون كلامهم بالتعريض ثم

التصريح باستحسان دعوتي إياه؛ ليكون من المؤسسين، ويذكرون من الرأي في

الاستفادة منه ما يذكرون، وقد ذكر بعضهم من أمره وحاله في عمله الذي هو فيه ما

لا نذكره، فقلت لهم: إن هذا المشروع يجب أن يكون بعيدًا من السياسة والمشتغلين

بها، فلهذا السبب ولأسباب أخرى لا يمكن أن يكون الشيخ شاويش من المؤسسين

لهذا العمل والمديرين له الآن، وقد كنت عازمًا على استشارته فيه وطلب مساعدته

عليه، قبل أن يتهور في الإرجاف به وتشكيك الناس فيه. أما وقد فعل فعلته، فقد

أغنانا الله عن مساعدته.

بنى الشيخ شاويش إرجافه على الأقاويل المتفجرة، وهو يعلم أن جماهير

العامة لا يلتفتون إلى كلمة الأقاويل المستبعدة، وكلمة (إن صدقًا وإن كذبًا) وإنما

يأخذون من جملة الكلام أن هذا المشروع ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله

العذاب؛ لأنه سيفصل البلاد العربية من جسم المملكة العثمانية، ويؤسس فيها

خلافة لمملكة إنكليزية! ! بخ بخ لهؤلاء الزعماء الخادمين للدولة بمثل هذه الدسائس

التي كانت شر السيئات الرابحة في سوق السياسة الحميدية.

كتب الشيخ الشاويش ما كتبه، ونحن في ابتداء دعوة الفضلاء المخلصين

للإسلام إلى العمل، فعلمنا أن في الناس من ضعاف الرأي ومقلدة الجرائد الذين هم

أتباع كل ناعق، من يصدق كل ما ينشر فيها لعجزهم عن تمحيص الكلام، والتمييز

بين الممكن والمحال، فلأجل هذا كتبت المقالتين الآتيتين لأنشرهما في الجرائد

إبطالاً لإرجاف جريدة العلم، وبيانًا للمشروع في نفسه ليعلم حقيقته من لم يعلم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 37

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المقالة الأولى التي كتبت

ردًّا على جريدة العلم

التي يصدرها الحزب الوطني

(مشروع العلم والإرشاد في الآستانة)

(والدعوة والإرشاد بمصر)

] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ [[1]

ذكر هذا المشروع في بعض الجرائد محفوفًا بأوهام غريبة عنه، ونشرت

جريدة (العلم) مقالة افتتاحية في العدد الذي صدر في ثامن المحرم، أرجف كاتبها

فيها بالموضوع إرجافًا مبنيًّا على أقاويل لا يجزم بصحتها، وكان يسهل عليه أن

يراجعني أو يراجع المنار ويرى فيه ما كتبته عن المشروع، وأنا في الآستانة بين

أولي الأمر وأهل الحل والعقد، وكذا ما كتبته جرائد الآستانة التركية والعربية من

المقالات في إزالة سوء التفاهم بين العرب والترك، والتأليف بينهم بحجج الإسلام

القيمة، وآيات السياسة البينة.

فإن كان لم يتح له الرجوع إلى صاحب المشروع، ولا مراجعة ما كتبه فإن

صاحب المشروع يكتب بيانًا وجيزًا يعلم منه خطأ تلك الأقاويل التي بنى عليها كلامه،

لعله يرجع عنه، وينقض تلك الشكوك التي أقامها حول أفضل وأقدس عمل ديني

اجتماعي، يخدم به المسلمون دينهم وهو الدعوة إلى الإسلام، ودفع شبهات

المشككين فيه والمنفرين عنه، وهو فاعل- إن شاء الله تعالى - إن كان

حسن النية فيما أخطأ فيه من قبل.

ليست فكرة الدعوة وبث الدعاة إلى الإسلام بالفكرة التي حدثت عندي في هذه

الأيام، فيقال: إنني أريد أن أخدم بها جمعية سياسية جديدة؛ إن صح ما أذاعته جريدة

العلم ولم نسمعه إلا عنها من خبر هذه الجمعية، وإنما هي أمنية قديمة، صارت

رغيبة ثم اقترنت بها العزيمة بعد تمهيد طويل، وإليك البيان بالإيجاز:

كنت في أيام طلبي للعلم في طرابلس الشام، أتردد بعد الخروج من المدرسة

إلى مكتبة المبشرين الأمريكانيين، أقرأ جريدتهم الدينية، وبعض كتبهم ورسائلهم،

وأجادل قسوسهم ومعلميهم، وأتمنى لو كان للمسلمين جمعية كجمعيتهم، ومدارس

كمدارسهم، ولما هاجرت إلى مصر وأنشأت المنار، قويت عندي هذه الفكرة،

وأحببت أن أنبه المسلمين لها، فكتبت في جمادى الأولى من سنة 1318 مقالتين

عنوان إحداهما (الدعوة حياة الأديان)، وعنوان الثانية:(الدعوة وطريقها وآدابها)

ونشرتهما في المجلد الثالث من المنار، وكتبت مقالات أخرى في الرد على كتب

وصحف دعاة النصرانية الذين يطعنون في الإسلام، عنوانها العام: (شبهات

النصارى وحجج المسلمين) ، وكنت أقصد بذلك إعداد النفوس للقيام بهذه الفريضة؛

فريضة الاجتماع والتعاون على الدعوة، أي أنني بدأت بالكتابة في ذلك منذ عشر

سنين أو أكثر.

وفي سنة 1323 توجهت نفسي للسعي والعمل، فكتبت في المنار مقالة نوهت

فيها بالدعوة، وأشرت إلى ما تحتاج إليه من الاستعداد، وبحثت فيها عن دعوة

اليابانيين إلى الإسلام، وكان قد شاع أنهم يريدون عقد مؤتمر ديني للبحث عن أمثل

الأديان وأجدرها بالاتباع ليتبعوه، وبدأت بالسعي لتأسيس جمعية الدعوة، يكون أول

عملها إنشاء مدرسة لتخريج الدعاة، وجعلت تلك المقالة تمهيدًا لذلك، فكان لها

تأثير حسن في الأقطار الإسلامية شرقيها وغربيها، وبدأت المكاتبة في ذلك بيني

وبين أهل الغيرة من الصين إلى بلاد المغرب، وقد أشرت إلى ذلك في الجزء

الأول من المنار الذي صدر في المحرم سنة 1324 أي: منذ خمس سنين.

كاشفت يومئذ بهذا الأمر كثيرًا من أصدقائي بمصر، ورغبت إلى صاحب

الدولة رياض باشا أن يكون رئيس الجمعية التي تقوم بالاكتتاب لتنفيذ العمل، وإلى

محمود بك سالم أن يكون السر لها، وإلى حسن باشا عاصم - رحمه الله تعالى -

ومحمد بك راسم، وغيرهما من الفضلاء أن يكونوا أعضاء مؤسسين،

واجتمع بعض من دعوتهم للمذاكرة في ذلك مرارًا في إدارة المنار.

وشاورت يومئذ أحمد مختار باشا الغازي في العمل فاستحسنه هو وولده

محمود باشا، ووعدني ولده بالاشتراك بمائة جنيه في السنة عدا ما يدفعه من نفقات

التأسيس، ولكن عرض في أثناء السعي دعوة مصطفى كامل بك الغمراوي إلى

تأسيس مدرسة جامعة مصرية، وتلت ذلك العسرة المالية في مصر، فوقف

الاكتتاب للمدرسة الجامعة، ووقف أيضًا سعيي إلى مشروع الدعوة.

ثم حدث في سنة 1326 الانقلاب العثماني الذي كنا نسعى إليه في الخفاء، ثم

خلع السلطان عبد الحميد الذي كان مانعًا في بلاده من كل علم وعمل نافع يجب

على المسلمين القيام به مجتمعين، فعزمت أن أجعل مشروع الدعوة والإرشاد في

الآستانة لأسباب أهمها أمران: (أحدهما) أنني أرجو من نجاحه ومساعدته والثقة

به بالآستانة في ظل الدستور، ما لا أرجوه في مصر التي كنت أتوقع فيها مقاومة

الحزب الوطني، كما كنت أحذر مقاومته في طلب الدستور من السلطان عبد الحميد،

فاشتغل بذلك سرًّا. (وثانيهما) أنني رأيت بلاد الدولة تكثر فيها الفتن باختلاف

العناصر والأديان والمذاهب، وأنني أعلم أن لكل طائفة من النصارى العثمانيين

مدارس دينية تابعة لبطاركهم، على شدة إقبالهم على مدارس دعاة دينهم من الإفرنج،

وأعلم أن المسلمين هم المحرومون من ذلك، فقلت في نفسي: إن تأسيس

المشروع في الآستانة، تكون فائدته الأولى ترقية مسلمي الدولة العلية في دينهم

ودنياهم، والتأليف بينهم وبين أبناء وطنهم، ومنع أسباب الفتن والخروج على

الدولة من أقرب طرقها وهو الوعظ الديني، وبذلك يكون ارتقاء الأمة العثمانية

الاجتماعي والاقتصادي سريعًا، وبه تزيد ثروة الدولة وقوتها.

رحلت إلى الآستانة في أواخر رمضان من سنة 1327، بعد مكاتبة في

المشروع مع بعض معارفي فيها، ومع بعض رجال جمعية الاتحاد والترقي في

سلانيك، ظهر لي منها ميلها إلى مشروعي، حتى إنها سألت عن سفري بلسان

البرق، وتلقتني بالحفاوة في أزمير والآستانة، وقد أقمت في الآستانة سنة كاملة لا

عمل لي فيها إلا السعي لهذا المشروع، ولحسن التفاهم بين العنصرين المقومين

لهذه الدولة وهما العرب والترك اللذان شبهتهما بالعنصرين المكونين الماء أو الهواء،

وقد كتبت في هذه المسألة الأخيرة مقالات، نشرت أكثرها هنالك بالتركية

والعربية في جريدة إقدام، وجريدة كلمة الحق، ثم جريدة الحضارة، ويجدها

القارئ كلها في مجلدي المنار للسنتين الماضيتين.

عرضت المشروع هنالك على وزراء الدولة وكبرائها من رجال جمعية

الاتحاد والترقي وغيرهم، فاتفقت كلمتهم بعد البحث معي في لجنتين: إحداهما

علمية، والأخرى سياسية، على أن يصرف النظر عن البحث في مسألة تخريج

الدعاة إلى الإسلام، وإن تسمى المدرسة المراد إنشاؤها (دار العلم والإرشاد) ،

وجمعيتها (جمعية العلم والإرشاد) . وكان وصل المشروع في وزارة حسين حلمي

باشا إلى حيز التنفيذ؛ إذ قال لي: إن العمل قد تم نهائيًا، فألف الجمعية حالاً،

ونحن نصرف لكم الآن خمسة آلاف ليرة؛ لأجل الابتداء بالعمل، وفي أول السنة

المالية تزيد لكم بقدر الحاجة. ولكن استقالت وزارة حسين حلمي قبل أن نتمكن من

تأليف الجمعية.

ثم استأنفت العمل في وزارة حقي باشا، وقد عرض عليَّ ناظر الداخلية

وناظر المعارف فيها أن آخذ رخصة المدرسة باسمي، وأدع مسألة الجمعية إلى

فرصة أخرى، فلم أقبل، وقلت: يجوز أن أموت بعد مدة قليلة وحينئذ تصير

المدرسة لورثتي، وهم ليسوا أهلاً لهذا العمل، فلا بد من جمعية دائمة.

وقد فوضت إليهم اختيار أعضاء المؤسسين، فاختارهم ناظر المعارف مع

مدير شعبة الإلهيات والأدبيات في دار الفنون من صفوة رجالهم في المشيخة

الإسلامية ومجلس الأمة ونظارات الحكومة، وقد ذكرت أسماءهم في الجزء السادس

من المنار الذي صدر في آخر جمادى الآخرة سنة 1328، ومنهم شيخ الإسلام

الحال (وكان من أعضاء مجلس الأعيان والمدرسين) ومستشار المشيخة، واقترح

بعض الأعضاء أن يكون شيخ الإسلام رئيس شرف للجمعية، فقبلت.

* * *

قال صاحب مقالة جريدة (العلم) في مقالته التي أرد عليها بعد ذكر رحلتي

إلى الآستانة، وعرض المشروع على أولي الشأن ما نصه: (رحب رجال الدولة

بهذا المشروع، وأرادوا أن يحلوه محله الطبيعي بجعله تحت رعاية شيخ الإسلام

الذي له دون سواه الإشراف على المعاهد الدينية، فأبى ذلك صاحب المشروع،

وزادهم نفورًا منه فيما يقولون ما اتصل بهم (إن صدقًا وإن كذبًا) من إفراطه في

الاشتغال بالمسألة العربية، وإغراقه في التحرش بالأتراك، لقد كان يبلغهم ذلك

فيظنون بالشيخ الظنون، ويخشون مغبة تسليمه مقاليد تلك المدرسة، فأبوا إلا أن

تلحق بالمشيخة، وهم الآن فيما نعلم يشتغلون بإقامتها) .ا. هـ

أقول: (1) قول الكاتب إنهم رحبوا بالمشروع - يعني المشروع الذي عبر

عنه بالتبشير الإسلامي - غير صحيح، وإنما رحبت وزارة حسين حلمي باشا

بمشروع تربية المرشدين الذين يكونون وُعَّاظًا ومعلمين للمسلمين؛ لشدة الحاجة

إليهم في بلاد الدولة العلية، وأراد أن ينفذه كما اقترحت من غير أن يكون لشيخ

الإسلام رأي فيه، ولا إشراف عليه.

(2)

لما سقطت وزارة حلمي باشا، بقيت بضعة أشهر أراجع وزارة حقي

باشا، حتى اقتنعت بوجوب تنفيذ مشروع العلم والإرشاد، لا الدعوة والإرشاد،

بواسطة جمعية لا بواسطة شيخ الإسلام، وتأسست الجمعية، وصدقت عليها

الحكومة رسميًّا، وقانونها أو نظامها الأساسي مطبوع في المنار (ج6م13) .

(3)

إن كون المشروع في يد جمعية من خيار رجال العاصمة، ينافي أن

يكون بيدي، فلا محل لخوفهم مني إن صح أنهم سمعوا عني ما ينفرهم، فإن كان

جعل المدرسة تابعة للمشيخة مبنيًّا على عدم الثقة، فإنما ذلك عدم الثقة بالجمعية

التي ألفوها، لا بعضو واحد له فيها صوت واحد، وإن كان هو صاحب المشروع.

(4)

الحق الذي وقع هو أنه لم يقترح أحد من رجال الدولة جعل هذا

المشروع تابعًا للمشيخة، بل كانوا كلهم متفقين على جعل المدرسة من المدارس التي

يسمونها (المكاتب الخصوصية) وعلى أن فائدتها بأن لا تكون من مدارس

الحكومية الرسمية (ولا أزيد على هذا الآن) .

(5)

إننا بعد تأسيس الجمعية وتصديق الحكومة عليها، طلبنا من شيخ

الإسلام أن يستنجز الحكومة ما وعدتنا به من المال، فقال لنا بعد أن ذاكر الصدر

الأعظم واتفق معه على ذلك: اكتبوا ما تريدون من المساعدة، فكتبت صورة مذكرة،

وترجمها كاتب الجمعية العام بالتركية، وأعطيناه إياها، فأمر بتبييضها ثم ختمها،

وأخذها بيده إلى الباب العالي، وبقيت أنا ألح بعرضها على مجلس الوكلاء؛

لأجل تقريرها زمنًا طويلاً حتى عرضت، وبشَّرني شيخ الإسلام وناظر المعارف

بقبولها وصدور القرار الرسمي بمقتضاها.

(6)

كان هذا في شعبان من السنة الماضية، وفي الأسبوع الأول من

رمضان بلغنا شيخ الإسلام صورة القرار الذي قرره مجلس الوكلاء، فإذا فيه أن

المدرسة تكون لها لجنة تحت إدارة ومسؤولية شيخ الإسلام، ولم يطرق سمع أحد من

أعضاء الجمعية هذا الرأي إلا في أوائل رمضان، وهو الشهر المتمم للسنة من

سعيي للمشروع هناك.

(7)

لم أكن أنا الذي اعترضت وحدي على هذه الفقرة من القرار، بل

اجتمعت جمعية العلم والإرشاد بدار الفنون بعد ظهر يوم الجمعة 19 رمضان سنة

1328، وقررت باتفاق الآراء الاعتراض على قرار مجلس الوكلاء، وبلغوا شيخ

الإسلام قرارهم بالكتابة الرسمية، فقال - حفظه الله تعالى: إن الاعتراض في

محله (حقكز وار) أي معك الحق، وأنه سيراجع الباب العالي، ويقترح تعديل

قرار مجلس الوكلاء، وجعل المدرسة (دار العلم والإرشاد) خاصة بالجمعية التي

ألفت لأجلها، وكذلك قال ناظر المعارف ووعد، وقال لي أحمد نعيم بك بابان

العضو في مجلس المعارف وفي مجلس إدارة الجمعية: أظن أن الناظر كتب بالفعل

إلى الباب العالي يقترح تعديل القرار.

* * *

هذا نبأ وجيز من تاريخ المسألة، وهو يدحض جميع تلك (الأقاويل)

و (الإشاعات) التي بني عليها كلامه كاتب تلك المقالة في جريدة العلم، ومنه يعلم

كل من له مسكة من الاستقلال في الفهم والرأي أنه لا مجال للظنون والأراجيف في

هذا المشروع العظيم، ولا في سعي هذا العاجز الضعيف إليه، وهل يعقل أن أترك

عملي الكثير بمصر، وأقيم سنة كاملة في الآستانة، وأخسر من المال والوقت ما لا

غنى لي عنه، إلا لشدة إخلاصي في خدمة ديني ودولتي، كما سبق لي منذ قدرت

على خدمتهما.

أما ما قيل (إن صدقًا وإن كذبًا) من إفراطي في الاشتغال بالمسألة العربية،

فليعلم ذلك الكاتب أنه من الكذب والبهتان، وهو أغرب من اتهام الحزب الوطني

بخدمة الإنكليز في المسألة المصرية وتمهيده السبيل لامتلاكهم مصر. وذلك أن

كتاباتي في محاربة العصبية الجنسية في الإسلام، وفي أخوة المسلمين العامة،

وفي التأليف بين العرب والترك خاصة، منبثة في ثلاثة عشر مجلدًا ضخمًا من

المنار، وفي أربعة مجلدات من التفسير، ولا أطيل في هذه المسألة البديهية، فإنما

غرضي في هذا المقال بيان ما لا بد منه من أمر مشروع الإرشاد في الآستانة العلية،

ليعلم أنه لا مجال للاشتباه فيه، وأن ما تقرر هنالك لا يغني عن إنشاء مدرسة

للدعوة إلى الإسلام هنا.

وسأبين في مقال آخر جوهر المشروع المتفق على إنشائه هنا، وأنه لا مجال

فيه أيضًا للأراجيف والظنون، وأنه لا يعارضه ولا يناهضه إلا عدو للإسلام

والمسلمين، أو حاسد للعاملين، فاصبر إن الله مع الصابرين.

وما سكتنا عن بيان المشروع في الجرائد؛ لأنه سري أو لأن فيه شيئًا سريًّا، وإنما

هو طور التكوين، فمتى تم تكوينه بيناه للناس أجمعين، ولتعلمن نبأه بعد حين.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

فصلت: 33.

ص: 41

الكاتب: محمد رشيد رضا

المقالة الثانية

وهي المقالة التي أرسلتها إلى الجرائد في بيان المشروع ووجه الحاجة إليه

برأي الجماعة التي تسعى معي في تنفيذه.

(مشروع الدعوة والإرشاد في مصر)

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ

وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ

رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) ،

الدعوة إلى الإسلام فريضة، إذا تركها المسلمون يكونون كلهم عصاة لله تعالى

مستحقين لعذابه، وإذا قام بها بعضهم سقط الحرج عن الباقين.

والدفاع عن الإسلام عند ظهور الشُّبَه وإلقاء الشكوك في عقائده وأصوله

فرض أيضًا، فإذا سكتوا عنه حيث يظهر كانوا عصاة لله تعالى مستحقين لعذابه،

وإذا قام به بعضهم وحصلت بهم الكفاية سقط الإثم عن الباقين.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الحاجة من فرائض الكفاية أيضًا،

فإذا سكت المسلمون عنه حيث يترك المعروف من الفرائض والسنن ويظهر المنكر

من البدع والمعاصي، كان جميع المسلمين هناك آثمين مستحقين لعذاب الدنيا

بذهاب عزهم ومجدهم، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، وإذا قام به من

تحصل بهم الكفاية سقط الحرج عن الباقين.

هذه مسائل مجملة مجمع عليها بين المسلمين الذين يعتد بإسلامهم، ولها

تفصيل وجزئيات معروفة في مواضعها من كتب الدين بشروطها وأدلتها.

وقد أهملت هذه الفرائض في زماننا هذا إهمالاً لم يسبق له نظير، كما أن

الحاجة إليها قد اشتدت اشتدادًا لم يسبق له نظير في تاريخ الإسلام.

فشا الجهل بين المسلمين، وكثرت فيهم البدع والخرافات، وقل الوعاظ

والمعلمون الذين يتصدون لإرشاد العامة أو فقدوا (اللهم إلا الدجالين المحتالين على

التجارة بدينهم) ، وانبثت دعاة النصرانية في جميع شعوبهم، يشككونهم في دين

الإسلام، ويطعنون في كتابه المنزل، وفي نبيه المرسل، ويبثون مطاعنهم

بالخطب في المحافل العامة، والتعليم في المدارس الخاصة، والوعظ في الملاجئ

والمستشفيات، وبكتب ورسائل يطبعونها وينشرونها في الناس، وأكثر المسلمين

عوام أميون، لا يميزون بين الحق والباطل ولا بين الصادق والكاذب، مما يعزى

إلى دينهم وإلى علمائهم، ووراء ذلك أموال تبذل للمرتدين، تغر الطامعين الجاهلين.

فصار من الواجب المحتم عليهم في كل البلاد أن يقاوموا هذه الشكوك

والشبهات دفاعًا عن دينهم، وأن لا يكتفوا بالدفاع كما هو شأن الضعيف، بل

يزيدوا عليه تعليم عامة المسلمين حقيقة دينهم، ويدعوا غير المسلمين ولا سيما

الوثنيين إلى هذا الدين القويم، دين العقل والفطرة، المصدق لجميع الرسل،

الجامع بين مصالح الروح والجسد، المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة.

يجب أن تقاوم هذه القوة المهاجمة لهم بمثلها، وأنى لهم مع هذا التخاذل

والتواكل والتحاسد والتباغض أن يأتوا بمثلها.

إن لكل مذهب من مذاهب النصرانية جمعيات دينية غنية بالهبات والتبرعات

ولهذه الجمعيات فروع، كل فرع منها موجه لتنصير شعب من الشعوب؛ فمنهم

الموجهون لتنصير العرب يتعلمون العربية ويتقنونها أكثر من أهلها، يؤلفون الكتب

بها، ويعلمونها في مدارسهم، وهم منبثون في البلاد العربية والآسيوية والأفريقية،

ومنهم الموجهون لتنصير الفرس، والموجهون لتنصير الترك، والموجهون لتنصير

الهنود، ولتنصير الجاويين

إلخ.

يشعر المسلمون في مصر بالألم والامتعاض عندما يرون جريدة من جرائد

هؤلاء الدعاة، أو كتابًا من كتبهم، أو رسالة من رسائلهم، تطعن في دينهم.

يتألمون لأنهم يعدون هذا إهانة لهم، وقلما يخطر في بال أحد منهم؛ أن بعض

المسلمين ينخدع بها فيشك في دينه أو يخرج منه لأن ضروريات الإسلام معروفة

هنا بين العامة في الجملة، ومعرفتها كافية لرفض كل ما يخالفها والإعراض عنه،

ويزيدهم قلة مبالاة ما يرونه من المطاعن الجديرة بالسخرية؛ كالكتاب الذي نشرته

المكتبة الإنكليزية بمصر، لقسيس إنكليزي ذكر فيه سورة زعم أنها كانت سقطت

من القرآن أو كتمت، وما تلك السورة بسورة، وإنما هي كلام ركيك، تتبرأ منه

الصحافة والبلاغة؛ بل اللغة العربية.

إلا فاعلموا أيها الإخوة، إن هذه الجمعيات قد انتزعت في مصر نفسها أفرادًا

من المسلمين ونصرتهم، ولكنكم لا تشعرون بهم لقلتهم، فماذا ترونها تفعل في غير

مصر من البلاد التي لا يعرف فيها الإسلام كما يعرف بمصر، ولا يوجد فيها من

يدافع عنه كما يوجد في مصر.

جاءني في كتاب من سائح مسلم مشهور بسنغافورة بتاريخ 14 شوال سنة

1328 ما نصه: إني قد ترددت إلى جاوه ومتعلقاتها منذ ثلث قرن، وقد تبين لي

أن دعاة النصرانية قد أضروا بالإسلام وأهله؛ لتغلب الجهل عليهم لمنع الحكومة

الهولندية دخول الدعاة إلى الإسلام، وحجتها أنهم ليسوا علماء بل دجاجلة، وكل

من منعته أو طردته ليس من متخرجي المدارس، ولقد هالني جدًّا ما رأيته في

سياحتي هذه، فإن الداء قد تمكن وفتك بالأهالي فتكًا ذريعًا مهولاً، وبالجملة أقول:

إن المتنصرين سنويًّا من مسلمي جاوه ومتعلقاتها - هندينذرلند - لا يقلون عن مائة

ألف إنسان، وإذا دام هذا، عادت جاوه أندلسًا ثانية (إلى أن قال بعد لوم العرب

الذين هنالك على سكوتهم عن هذا الأمر) ولو وجد عالم له إلمام بفن الدعوة،

وبعض معرفة بلغة أورباوية، وكان ذا عقل واعتدال، وساح في هذه النواحي،

لأوقف هذا التيار الجارف. فكيف لو وجدت بعثة كالبعثات الأوربية.

ثم جاءني منه كتاب آخر جوابًا عن كتاب أرسلته إليه مبشرًا إياه بالسعي

لإنشاء مدرسة لتخريج الدعاة إلى الإسلام، وصل إليَّ في 11 المحرم الحال، وقد

كتب في 24 ذي الحجة الماضي، وفيه ما نصه:

(أما ما ذكرته لكم من فتك دعاة النصرانية بأهل هذه النواحي فصحيح لا

مرية فيه، بل الأمر أشد وأكبر ولا سيما في جزائر تيمور ويتووسليس وبندقيني

وفلفاني ولا قوة إلا بالله، إلى أن قال: أما ما عرفتموه عن عدم سريان سموم

أولئك الأدعياء في الأقطار التي عرفتموها فله أسباب، كلها لا توجد هنا من تصلب

الأهالي، ووجود شيء من العصبية، وقليل من العلماء وبصيص من نور التمدن،

وكثرة قراء المجلات ونحو ذلك) .

(ولو عرفتم ما عرفته عن حال من بهذه الجهات لعجبتم من بقاء عشرات

الملايين على الإسلام مع ما هم فيه من الجهل، وما يعرض عليهم من الإعانات إن

تنصروا) .

(وأسأل الله أن يمدكم بعونه وتوفيقه ليتم لكم إقامة جمعية الدعوة والإرشاد،

ويطيل عمركم حتى تروا ثمرتها ونفعها للإسلام وأهله، وأرى أن لو كاتبتم أهل

الهند ولا سيما رؤساء ندوة العلماء؛ ليمدوا لكم يد المعاونة لكان حسنا) .ا. هـ

لا يوجد قطر من الأقطار الإسلامية إلا وعنده من أنباء هؤلاء الدعاة في بلاده

ما يحرك غيرته الدينية، ويذكره بما يجب عليه لدينه من القيام بمثل ذلك. ولكن

المسلمين أصيبوا بأمراض اجتماعية، حتى صاروا على شدة تمسكهم بدينهم

وغيرتهم عليه أبعد أهل الملل عن التعاون والاجتماع لخدمته، وإذا قام فيهم من

يريد خدمة الإسلام، لا يلقى الخاذلين والمقاومين له إلا من المسلمين، إما من باب

السياسة وفتنها، وإما من باب الحسد، وهم يتهمون غيرهم ولا سيما الأوربيين

بالمقاومة التي كفوهم أمرها، والصديق الجاهل أضر من العدو العاقل.

ولكن حوادث الزمان وأحداثه قد نبهت المسلمين في جميع أقطار الأرض

وحفزت هممهم إلى التعاون على إحياء دعوة الإسلام والدفاع عنه، وإرشاد عامة

أهله إلى ما يجب عليهم في هذا العصر من الاستمساك بآدابه وأعماله، ومباراة

الأمم الأخرى في العلم والمدنية، مع الحكمة والمودة والسلام العام بين أهل الملل.

قد قطع الأوربيون حجتنا بمثل ما نقله السائح عن حكومة هولندة في جاوة،

وما قاله لورد كرومر في بعض تقاريره عن دعاة النصرانية في السودان [1] فلم يبق

لأحد منا حجة في تعصب الأوربيين. وأما من يخافون من حسد جهلة المسلمين

والمارقين منهم، فليعلموا أن هؤلاء لا قوة لهم إلا بالأراجيف وسفه القول، وليس

هذا بعذر شرعي يسقط هذه الفريضة، بل الفرائض التي بيناها في صدر المقال.

هذا العمل لا يمكن أن تقوم به الحكومات؛ لما يحدث فيه حينئذ من فتن

السياسة؛ ولأن الحكومات لا تربي أرواحًا بل عمالاً، ولا الأفراد لضعفهم،

والشرع قد أوجب علينا أن تقوم به مجتمعين بقوله: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى

الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 104) الآية، ولم

يوجد في دين من الأديان التصريح بمثل هذا في افتراض الاجتماع لهذا العمل، وما

يعضده في القرآن الحكيم من الأمر بالتعاون والاعتصام، وقد دلت التجارب على

ذلك في غيرنا من الأمم، فلهذه الأوامر الدينية والأسباب الاجتماعية استخار الله

جماعة من أهل الغيرة من المسلمين المقيمين بمصر، وشرعوا في التوسل إلى

إنشاء مدرسة؛ لتخريج الدعاة إلى الإسلام والمرشدين للمسلمين، وإقامة تلك

الفرائض، وسيعلنون الدعوة إلى التعاون على ذلك عن قريب.

* * *

(مدرسة الدعوة والإرشاد)

نبين للناس أهم ما تقرر بين الجماعة المشتغلة بتأسيس هذه المدرسة بادئ بدء

إلى أن يصدقوا على قانونها فننشره.

(1)

يختار طلاب هذه المدرسة من طلاب العلم الصالحين من مسلمي

الأقطار ويفضل الذين هم أشد حاجة إلى العلم على غيرهم؛ كأهل جاوه والصين،

وما عدا القسم الشمالي من إفريقية.

(2)

المدرسة تكفل لهم جميع ما يحتاجون إليه من الغذاء والمنام والكتب.

(3)

يعتنى بتربيتهم على آداب الإسلام وأخلاقه وعباداته، بحيث يطرد من

المدرسة من ثبت عليه الكذب أو إظهار العصبية الجنسية أو المذهبية أو ارتكاب شيء

من المعاصي، وعلى قيام الليل وصيام أيام من كل شهر، وعلى ذكر الله تعالى وتلاوة

القرآن مع التدبر.

(4)

يعلمون كل ما يحتاج إليه الدعاة من العلوم الدينية؛ كالعقائد والتفسير

والحديث والأحكام على الوجه المؤدي إلى القدرة على إقامة الحجة ودحض الشبهة،

وما يحتاجون إليه من العلوم الرياضية والكونية واللغات لأجل ذلك.

(5)

لا تشتغل المدرسة ولا الجماعة المديرة لها بالسياسة المصرية ولا

العثمانية، ولا سياسة الدول الأجنبية مطلقًا.

(6)

يرسل الدعاة والمرشدون الذين يتخرجون في المدرسة إلى أشد البلاد

الإسلامية حاجة إليهم؛ كجاوه والصين، ثم إلى الشعوب الوثنية، ثم إلى أمريكة

وأوربة من البلاد الكتابية، ولا يرسل أحد منهم إلى الولايات العثمانية؛ لما يترتب

على ذلك من اعتراض غير المسلمين وتهويشهم على الدولة، وإن كان لكل مذهب

من مذاهبهم دعاة في تلك الولايات، وللعلم بأنه سيوجد في الآستانة مدرسة لأجل

تخريج المرشدين لتلك دون الدعاة إلى الإسلام.

(7)

سيبدأ المؤسسون بجمع الإعانات للقيام بهذا العمل، ثم يفتحون باب

الاشتراك الدائم لأجل استمراره، ويرجون نجاح السعي بما يجود به أهل الخير

والبر من الاشتراكات والتبرعات والهدايا والوصايا، والأوقاف التي يرجى أن

توقف على هذا العمل.

(8)

نشرت هذا البيان بعد استشارة المتعاونين على تنفيذ هذا المشروع

واستحسانهم، وسينشر قانون المشروع الأساسي بعد التصديق عليه مذيلاً بأسماء

المؤسسين.

...

...

...

... محمد رشيد رضا

***

(إصرار جريدة العلم على الإرجاف)

أرسلنا المقالة الأولى من هاتين المقالتين إلى جريدة العلم، وعزمنا على أن لا

نرسلها إلى غيرها إذا هي نشرتها؛ لأنها رد عليها؛ أرسلناها مع صديق لنا

ولزعماء الحزب الوطني، فوعد الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس تحرير العربي

يوم الاثنين 15 المحرم بنشرها والتعقيب عليها، ثم أكد الوعد يوم الثلاثاء واعتذر

عن التأخير. ولكن بلغنا أنه حصل خلاف بينه وبين محمد بك فريد رئيس الحزب

الوطني في أمر نشرها، فكان رأي رئيس الحزب أن لا تنشر لأنها تفيد المشروع

قوة والمراد سحقه قبل أن يقوى، وكان رأي رئيس التحرير أن تنشر ويعقب عليها

بشدة تقوي الشبهة في المشروع وتزيده وهنًا على وهن، وقد انتظرت إلى يوم

الأربعاء، فلما رأيت جريدة العلم خلوًا منها، أرسلتها مع المقالة الثانية إلى جميع

الجرائد العربية في مصر والإسكندرية في مساء هذا اليوم.

***

(المقالة الثانية للعلم)

وفي صبيحة يوم الخميس 18 المحرم، صدر العلم وفيه المقالة، وفي فاتحة

باب الحوادث والأخبار منه ثلاثة أعمدة في سبي وشتمي، ووصفي بالعجز

والضعف، مع الإرجاف والإيهام بقوله: (ولو أن العلم شاء لبسط للناس، كيف

ذهب صاحب المشروع الذي هو (أقدس وأفضل عمل ديني) إلى السير غورست؛

ليعرض عليه مشروعه فيحظى برضاه، وينال إسعاده. ولو شاء العلم لبين للناس

ما في ذلك من المخازي والمآرب المكنونة.

لو كان في هذه الشتائم والأراجيف شبهة على الموضوع لنشرناها، كما نشرنا

مقالة العلم الأولى على وهنها وضعفها، ولكن فيها أمرين يحسن ذكرهما والجواب

عنهما، أحدهما: الإرجاف بعبارته التي نقلناها آنفًا، والثاني: تخطئة العلم إياي

بقولي: إنني كنت أتوقع مقاومة بعض رجال الحزب الوطني في هذا المشروع،

كما كنت أحذر مقاومتهم إياي في طلب الدستور من السلطان عبد الحميد.

أما الأول فأقول فيه: إنني لم أذهب إلى السير غورست لأحظي برضاه وأنال

إسعاده ومعونته على المشروع كما أرجف الكاتب، وأصرح بأعلى صوتي أن غاية

ما أرجوه وأتمناه من الإنكليز أن لا يقاوموا المشروع في مصر والهند؛ لأنني أرجو

من مساعدة المسلمين في هذين القطرين ما لا أرجوه من غيرهما، فإذا قاومه

الإنكليز فيهما، فلا شك في أنه يفوتنا من المساعدة ما لا غنى لنا عنه، على أنه لا

يوجد عاقل في الدنيا يقول إن طلب المساعدة على عمل نافع ممن لا نفع له فيه نفسه

ولا لقومه يخرج ذلك العمل عن وضعه، ولا سيما إذا كانت المساعدة المطلوبة سلبية

كعدم المقاومة، مثال ذلك الجمعية الخيرية الإسلامية طلبت المساعدة في السنين

الخالية من العميد الإنكليزي ومن غيره من الأجانب، وكانت ولا تزال تأخذ من

هؤلاء في كل سنة شيئًا من النقود فيما أعلم، فهل صارت الجمعية بذلك خادمة

للإنكليز وضارة بالمسلمين؟ ؟

ونحن لا نطلب من غورست ولا من غيره من الأجانب ولا غير المسلمين من

الوطنيين مساعدة مالية ولا أدبية، وإنما نطلب منهم أن لا يكونوا ضارين لنا ولا

مقاومين لمشروعنا كما يقاومه بعض المسلمين، ولا يبعد أن ننال هذه الأمنية

السلبية منهم، فقد قال الأستاذ الإمام وحلف على قوله بالله: إنه لم يقم بمشروع ينفع

المسلمين ووجد له مقاومًا فيه من الإنكليز، ولا من القبط، ولا من نصارى

السوريين، ولكنه لقي المقاومة في كل مشروع أراد به خدمة الإسلام من المسلمين

أنفسهم، أقول: ومن ذلك أنهم وشوا بالجمعية الخيرية إلى الإنكليز؛ بأنها تمد

مهدي السودان بالمال ليحارب به مصر والإنكليز، وهاجت جريدة اللواء عليه

وعليَّ اليهود عند تفسير بعض الآيات المتعلقة بهم في كتاب الله عز وجل.

إذا أثبتنا لرئيس تحرير العلم أن شيخ الأزهر أو بعض أعضاء إدارته زار

الوكالة البريطانية ولورد كرومر، فهل يعد هذا حجة على كون الأزهر صار خادمًا

للإنكليز، وقد علمنا ونحن في الآستانة أن بعض أعضاء جمعية الاتحاد والترقي

يختلفون إلى بعض السفارات؛ كاختلاف حسين جاهد بك وإسماعيل حقي بك بابان

إلى سفارة روسية، فهل يسمح لنا محرر العلم المنطقي أن نستدل بذلك على خيانة

الجمعية للدولة العلية؟ ؟

وأما الثاني فسببه أن مدير جريدة اللواء كان مقاومًا لي منذ سنته الأولى

وسبب ذلك أنني انتقدت عليه عند ظهوره أمرًا ضارًّا، فقلت في ص607 من مجلد

المنار الثاني ما نصه:

(وقد انتقدنا عليها أمرًا ذا بال، وهو الإرجاف بأن بعض الناس يسعون في

إقامة خلافة عربية، كأن الخلافة من الهنات الهينات، تنال بسعي جماعة أو

جماعات، ولا يمكن احتقار مقام الخلافة الأعلى بأكثر من هذا الإرجاف.

(مقام الخلافة أسمى من أن يتطاول إليه أحد، وقد سلم السواد الأعظم من

المسلمين زمامه لبني عثمان تسليمًا، والرابطة بين الترك والعرب هي (كما قال

المرحوم كمال بك الكاتب الشهير) موثقة بالأخوة الإسلامية والخلافة العثمانية، فإن

كان أحد يقدر على حلها فهو الله تعالى وحده، وإن كان أحد يطمع في ذلك فهو

الشيطان.

(ويعلم كل خبير بحال هذا الزمن أنه لا يرجف بالخلافة فيه إلا رجلان:

رجل اتخذ الإرجاف حرفة للتعيش وأكل السحت أو التحلي بالوسامات والألقاب

الضخمة، ورجل اتخذه الأجانب آلة لخداع بسطاء المسلمين؛ بإيهامهم أن منصب

الخلافة ضعيف متزعزع، يمكن لأي أمير أن يناله، ولأية جمعية أن تزحزحه عن

مكانه، ليزيلوا هيبته من القلوب، ويقنعوا نفوس العامة من الأغرار بإمكان تحويله

في وقت من الأوقات، وبأن المسلمين ليسوا راضين من الخلافة العثمانية جميعًا)

إلخ.

هذا ما كتبناه في الانتقاد على اللواء عند ظهوره أي: من إحدى عشرة سنة

وشهور، وإنه لم يظهر لنا في كل هذه المدة أن الأجانب اشتغلوا بهذه المسألة، بل

الذي ظهر أن الإرجاف والإفساد لم يكن إلا من الطامعين في دنانير السلطان عبد

الحميد وأوسمته ورتبه، المتوسلين إليها بدعوى الإخلاص له ولدولته، أو الانتقام

ممن يسلطون عليهم عقارب سعايتهم، ومن يريد بالمسلمين سوءًا من الأجانب، لا

يحتاج إلى سعي ولا عمل؛ فحمقى المسلمين يكفونه كل سعي.

كبر انتقادنا هذا على جريدة اللواء في ذلك الوقت، فصارت كلما سنحت

الفرصة، تنتقم منا ضروبًا من الانتقام، حتى إنها نشرت في سنة 1323 مقالة في

العدد ال1754، ثم بعد أسبوع نشرت مقالة أخرى في ع 1762، زعمت أنها

جاءتها من جاوه تؤيد المقالة الأولى وتستدرك عليها، توهم قراءها بذلك أن في

جميع البلاد الإسلامية أفرادًا يشايعونها على الطعن فينا، ولم يخطر لمديرها ولا

لمحرريها ولا لمصححيها أن البريد إلى جاوه غدوه شهر ورواحه شهر تقريبًا،

فكيف يصدق العارفون بتقويم البلدان من قراء اللواء؛ أن العدد الأول يصل إلى

جاوه، ويكتب الكاتب ما يكتب في استحسان تلك المقالة والاستدراك عليها، وتصل

رسالته إلى مصر، وتنشر، ويتم ذلك كله في أسبوع واحد! ! وزاد طعنها فينا

معاداتها للأستاذ الإمام ودفاعنا عنه كما هو مشهور.

هذا التحامل علينا من جريدة اللواء الذي استمر من أول إنشائه إلى سنة

1323 التي أردت فيها تنفيذ مشروع الدعوة والإرشاد، وتلك التهم التي كانت

تشيعها عن مسألة الخلافة العربية؛ لتنتقم بها لدى السلطان عبد الحميد ممن تتهمهم

بها، وذلك الإطراء الذي كان يطري به مدير اللواء ذلك السلطان المخرب للمملكة،

حتى إنه قال مرة ما معناه: إنه ينبغي لكل مسلم أن يضيف إلى الشهادتين بوحدانية

الله ورسالة خاتم النبيين شهادة ثالثة بخلافة عبد الحميد ذلك كله كان هو السبب في

حذرنا من مقاومة الحزب الوطني في مشروع الدعوة إلى الإسلام، وفي مقاومة

سياسة عبد الحميد ومطالبة بالشورى والدستور في (جمعية الشورى العثمانية) .

ولو شئت أن أشرح هذه المسألة وأنشر ما صار مطويًا في صحائف اللواء من

مدائح عبد الحميد وتقديسه، ومن الإرجاف بمسألة الخلافة العربية لأجل التزلف إلى

المابين، لأمكنني أن أكتب في ذلك مؤلفًا حافلاً، ولا سيما إذا أضفت إلى ذلك

بعض الوقائع؛ كإنكار محمد بك فريد على صاحب المؤيد نشره مقالاتي في إصلاح

الدولة العلية منذ ثنتي عشرة سنة؛ لأن ذلك يسيء السلطان و..

إن الذين كنت أحذر مقاومتهم وسميتهم الحزب الوطني؛ هم مدير اللواء

وبعض محرريه، ومحمد بك فريد وبعض مقلديه، ولا أعني أحدًا غيرهم ممن

اتصلوا بهم للمطالبة بجلاء الإنكليز عن مصر، ولجعل الحكومة المصرية دستورية

ولا يهمهم غير ذلك؛ كالانتقام الشخصي ومقاومة كل مشروع نافع يقوم به غيرهم،

ومن العجائب أن تطالبني جريدة العلم بالدليل على ما كان من حذري وتوقعي

مقاومة من ذكرت للمشروع في نفس العدد ونفس المقالة التي تقاومه هي فيه، فإذا

كان رئيس تحريرها ومن على رأيه من المحررين قد نسوا ما نشروه في جريدتهم

منذ أقل من أسبوع، كما نسي سلفهم الصالح المدة بين تينك المقالتين في اللواء

اللتين أشرنا إليهما آنفًا، فهل نسوا المقالة التي نزهوا فيها أنفسهم عن المقاومة؛

وهي ما أنشئت إلا للمقاومة! ! ! يقولون الآن: إن عندنا (أقاويل) أو (إشاعات)

أو شبهات على أن هذا يراد به غير ظاهر، وهذا عين ما كنت أحذره منهم من

قبل؛ إذ المقاومة لمثل هذا المشروع لا تكون إلا بمثل هذه (الأقاويل) والأراجيف

(شنشنة أعرفها من أخزم) .

على أنني كنت أظن في هذه المرة أن زعماء الحزب الوطني لا يقاومون هذا

المشروع؛ لأن لهم في شغل الحزب، وقد تكوّن ونمي ما يشغلهم عن انتقام هو في

الحقيقة جهاد في غير عدو، وقد مرت السنين وليس بيني وبينهم ما يسوء، ولأن

الشيخ عبد العزيز شاويش هو رئيس تحرير جريدتهم (العلم) وما كنت أظن أنه

يقدم على الإرجاف بهذا المشروع الجليل؛ بناء على الأقاويل والأوهام. فإذا كانوا

قاوموا في الحال التي حسن ظني بهم فيها، فكيف كان يكون شأنهم في الأيام التي

توفرت فيها الدواعي على المقاومة.

هذا، وإنني أبرئ كل عضو من أعضاء هذا الحزب عن مشايعة اللذين أو

الذين تصدوا للمقاومة، إلإ من كان إمعة لا روية له ولا استقلال، وأرجو - وقد بينا

لهم المشروع - أن يثوبوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى ربهم، فإن لم يفعلوا اليوم

فسيندمون بعد ظهور المشروع للوجود، وقيام حزبهم عليهم باللائمة والتفنيد، وما ذلك

من المستعجلين ببعيد.

ولا بأس أن نفكه القراء، وقد استولى عليهم الحزن من خذلان المسلمين

بعضهم لبعض بقول الشيخ عبد العزيز، وهو يكتب باسم الجريدة التي هي لسان

حزبه فإن كان الذي أغضب الأستاذ نسبتنا تلك الفكرة إلى أستاذنا المرحوم الشيخ

عبده، الذي كان لا يلقبه في حياته إلا بأمثال: (الأستاذ الحكيم والأستاذ الإمام،

وفيلسوف الإسلام) فليخفف عن نفسه قليلاً، فإنما أول من جاء بهذا الأمر منزل

القرآن) اهـ اقرءوا واسمعوا واضحكوا! ! ولا تعجبوا من قوله كان يلقبه في

حياته، وأنتم ترون هذا التلقيب في المنار بعد مماته أكثر ورودًا في المنار.

فمكابرة الحس لا تعد عجيبة من هؤلاء الناس، ولكن احمدوا الله معي، إن صاروا

يعترفون بأن الأستاذ الإمام أستاذهم، فالحمد لله على ذلك بعد أن كان معظم ما نالني

من آذاهم؛ سببه دفاع تهمهم عنه رحمه الله تعالى كما تعلمون من مجلدات المنار.

أنا لم أقل في ردي عليهم: إن الأستاذ الإمام لم يفكر في هذا الأمر ولا ذكرته؛

لأن الكلام كان مسوقًا لبيان أن هذا المشروع ليس جديدًا عندي، فيصدق أنني أريد

أن أخدم به الجمعية السياسية التي لم نسمع بخبرها إلا من العلم، ولكنني وأنا الذي

نشرت مناقب الأستاذ الإمام في الشرق والغرب أقول: إنني لم أسمع منه رحمه الله

تعالى كلمة تدل على أنه يريد تأسيس جمعية ومدرسة لهذا المشروع في مصر، ولا

على أنه يتمنى ذلك في الآستانة، وإنما كان يرجو أن يصلح الأزهر فيكون للمسلمين

منه كل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ومنه الاستعداد للدعوة إلى الإسلام، ولم

أسمع منه شيئًا في ذلك بعد تركه للأزهر.

وأقول: إنني لا أشك في تفكير كثير من مسلمي الأقطار في هذا المشروع كما

فكرت فيه، وقد أشرت في المقالة الأولى إلى تاريخ هذه الفكرة عندي، وإلى بعض

ما كتبته من التمهيد لها، وإنني لم أستقص في تلك الإشارات، وقد تذكرت الآن حديثًا

في ذلك دار بيني وبين شيخ الجامع الأزهر، وذكرته في عدد المنار الذي صدر في

شهر المحرم سنة 1319 أي منذ عشر سنوات كاملة، ذكرت فيه للشيخ شيئًا عن

الجمعيات الدينية في فرنسة وثروتها وأعمالها، وتوقف حفظ الدين الإسلامي على

مثل هذه الجمعيات المالية التي تجمع بين الدين والعلوم الكونية، وقلت له هذه العبارة

(وإن هذا ما يدعو إليه المنار) فليراجع ذلك من شاء في أول ص158 من مجلد

المنار الرابع.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) جاء في الفصل الذي عقده اللورد في تقريره عن السودان سنة 1904؛ أنه كتب إلى جمعية التبشير للكنيسة الإنجليزية كتابًا يدعوها فيه إلى التبشير في أقاليم السودان الجنوبية، ويخبرها أنه خُصص لها قسم كبير من تلك البلاد في الوقت الحاضر، كما خصصت أقسام أخرى للمبشرين النمساويين والأمريكيين وقال: إنه ذكر في كتابه إلى تلك الجمعية الجملة الآتية التي أوردها إفادة للقراء من المسلمين، وهي: (لم يطلب أحد حتى الآن رخصة لإنشاء مدارس في جنوب السودان على نفقته؛ تعلم فيها فرائض دين الإسلام، ولو طلب أحد طلبه لحل طلبه محل القبول، أقول ذلك إظهارًا لخطة الحكومة ودفعًا لكل وهم، فإن غرض الحكومة التعليم والتهذيب لا غير، فعلى الذين يتبرعون للدخول في هذا العمل على نفقة الجمعيات أو الأفراد أن ينتفعوا من مقاصد الحكومة، وينشروا معها تعاليمهم الدينية.

ص: 47

الكاتب: محمد رشيد رضا

مقالة العلم الثالثة

بعد نشر مقالتنا الثانية في بعض الجرائد اليومية، رجعت جريدة العلم عن

الإرجاف بكون مدرسة الدعوة والإرشاد تنشأ لهدم الخلافة العثمانية وتأسيس خلافة

إنكليزية، ونشرت في صدر عددها الذي صدر يوم الأحد 21 المحرم المقالة الآتية

بنصها، وهي:

(مدرسة الدعوة والإرشاد الإسلامي)

نشرنا في هذا الباب ما نشرنا، وكنا نحسب أنه غنية لمن كان مخلصًا من

رجال هذا المشروع، ولكننا نجد في كل يوم أفرادًا يكثرون من اللغط، ويطرحون

علينا أسئلة الاستنكار والاستهجان، زاعمين أننا أتينا بدعًا من الرأي، وزورًا من

القول، فلا بد لنا من كلمة ثالثة في الموضوع تزيده إيضاحًا وتبيانًا.

يعلم المفكرون أن أوربا كل يوم ترمينا بتلك التهمة الباطلة تهمة التعصب

الديني والجامعة الإسلامية.

طالما رمتنا بذلك، وكم جنت من وراء هذه التهمة التي تختلقها لتنال بها

مآربها من العالم الإسلامي، فتلزمه السكون والسكوت، وتقعده عن النشاط

والعمل، وتفرق بين أجزائه حتى لا يلتئم له شمل، ولا يرتق له فتق.

طالما رمتنا أوربا بذلك، وطالما جنت من وراء هذه التهمة المفتراه، فماذا

كنا ندرأ به عن أنفسنا هذه الويلات لا سيما في تلك السنين التي خضدت فيها شوكة

الحكومة الإسلامية، وأصبح الإسلام وأهله في أيدي الحكومات الصليبية.

وهل استطاع المسلمون أن ينجوا من آثار تلك التهم إلا بما كانوا يعلنونه

ويشهدون العالم عليه من أنهم أهل سلم لكل مسالم، وأرباب وفاء لكل معاهد، هل

استطاعوا أن يعدوا لأعدائهم مثل ما أعد هؤلاء لهم من مدافع مدمرة، وأساطيل

مصفحة، وكتائب سابغة الدروع تامة السلاح، هل استطاعوا أن ينافسوهم في

ميادين الاقتصاد، فيستغنوا عن مالهم، أو يزاحموهم في أسواق التجارة فيكفوا

الحاجة إليهم؟

إذًا، فماذا يبتغي أصحاب هذه المدرسة؟ قد يكونون - كما قلنا في أول كلمة

لنا - حسان القصد طاهري الضمير، ولكن إلى من يعدون خريجي مدرستهم؟ أَإلَى

أهل تونس والجزائر والمستعمرات الإسلامية الفرنسية، وهي تلك الدولة التي

لا تغفل عن مصالحها، ولا تكاد تبيح لأجنبي عنها التوغل في أعماق مستعمراتها

أو مخالطة أحد من رعاياها. أم إلى مسلمي جاوه، وتلك حكومة هولانده قد

أحاطتهم بنطاق من يقظتها، وحالت بينهم وبين العلم والنور والحرية والعوالم

الأخرى، فهي لا تسمح لأحد منهم بمقابلة أحد ولا معاشرته، إلا إذا كان هناك من

عيونها من لا يفتر عن مراقبته، ولا تأخذه غفوة عن سكونه أو حركته.

لعلهم يريدون أن يبعثوا بهم إلى أرجاء السودان؛ ليدخلوا أهله في دين

الإسلام، إذًا فهل أمنوا جانب إنجلترا ونسو مآربها هنالك، ألا والله لتعتبرن أولئك

الدعاة للإسلام أهل فتنة ودعاة ثورة، ولتقيمن لهم المحاكم المخصوصة ولتنصبن

لهم المشانق، ولتبطشن بهم بطش الجبارين، فهل أعددتم لوقايتهم ما أعدت دول

الصليب لمبشريها وحماة دينها من البأس والقوى، وهل سلكتم ما سلكه أولئك أيام

كانوا جهالاً ضعفاء من الدعوة من غير جلبة ولا ضوضاء.

أظننتم أن مريدي الشر للإسلام في غفلة عنّا، أو أنهم يسرهم أن تقوم على وجه

البسيطة مدرسة كهذه على النحو الذي يقوله أصحاب ابتداعها.

أأمنوا اتحاد دول الصليب علينا إذا علموا أننا نسعى لنشر كلمة الإسلام،

وهل غرَّهم ما يرونه من إحدى الدول العظمى التي تظهر الميل والعطف على العالم

الإسلامي، وكيف يغتر بها من يستقرئ خطواتها، ويدرس اضطرابها وتذبذبها،

وهي تلك التي لا تكاد تستقرعلى حال واحدة عدة أيام، فكم من عهد لم توف به؟

وكم من أمة خدعت بمعسول وعودها واطمأنت لزخارف أقوالها، ثم قطعت أناملها

ندمًا على ما فرط منها.

اعقلوا أيها القوم، وتدبروا الأمر قبل أن تجنوا في مغبته الخيبة، وتعجلوا

للمسلمين ما لا قبل لهم به، وإذا زعمتم أنكم تريدون دعوة غير المسلمين كما

صرحتم بذلك، فخير لكم أن تبدأوا بالجهال من بني دينكم وكثير ما هم، ثم إذا

وجدتم من أوقاتكم ومجهوداتكم متسعًا فثنوا بمن تشاءون من غيرهم، ولقد أسلفنا لكم

أنكم إذا ربحتم المسلمين، وأصلحتموهم، واكتفيتم بهم، فقد ربحتم كثيرًا وخسرتم

قليلاً.

إننا أيها القوم لسنا أعداء الإصلاح، ولا محاربي العاملين في سبيل

الإصلاح. ولكنا قد أدركنا مغبة مساعيكم، فروينا الذي رويناه، ولم ندع اعتقاد

شيء منه، وإنما بسطنا لكم القول وشرحنا لكم وعورة الطريق التي تسلكونها،

وأرشدناكم إلى أن أمامكم الأزهر الذي هو المدرسة الإسلامية العظمى، فأدخلوا فيه

ما شئتم من مواد الدراسة، وأعدوا طائفة منهم للوعظ والإرشاد، وهداية العامة من

المسلمين وغيرهم إلى الحق، والصواب من قواعد الدين الحنيف وأركانه، ولا

تستمسكوا بالألقاب والأسماء، ولا تقيموا معهدًا خاصًّا لما أردتم، فقد نمتم عن قوم

لا ينامون، وتجاهلتم أمر أعدائنا الذين لا يغفلون، وإذا لم يكن لكم بد من إقامة هذه

المدرسة فلا تدعوها بما يجلب عليها وعلى الإسلام الشقاء من الأسماء.

هذه كلمتنا للعقلاء المفكرين من المشتغلين بهذا المشروع، أما النفر المتعصب

لرأيه المتنطع في قوله، فما كان لنا أن نعنيه برد ولا نصيحة، فليأت العقلاء

المخلصون من الأعمال ما تحتمله الأحوال الحاضرة ولا تنافره الظروف السياسية،

وليقيموا ما شاءوا من المدارس على شريطة ألا يجروا بأسمائهم الضخمة وعنوانيها

الفخمة عليها شيئًا من البلاء والشقاء، وليتقوا الله في العالم الإسلامي، فلا يجلبوا

عليهم بتسرعهم وعدم تحوطهم أكثر مما نزل بهم، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم

محسنون.

(الرد على هذه المقالة)

بينت لنا هذه المقالة التي نشرت يوم الأحد 21 المحرم عدة أمور نذكرها مع

التعقيب عليها:

(1)

إن أصحاب جريدة العلم يجدون في كل يوم أفرادًا يكثرون اللغط،

ويطرحون عليهم أسئلة الإنكار والاستهجان، ويرمونهم بالبدع من الرأي والزور

من القول، كل هذا صرحت به العلم، وما سمعنا من أصحاب جريدة الحزب

الوطني قبل مثل هذا الاعتراف بإنكار الناس عليهم كل يوم شيئًا من الأشياء، بل

ما رأينا المسلمين بمصر اهتموا بمواجهة فرد من الأفراد فضلاً عن حزب من

الأحزاب بالإنكار والاستهجان، وناهيك استنكار واستهجان ما يكتب في جريدة العلم

التي يتحامى الناس الجهر بالإنكار عليها؛ تكريمًا لأنفسهم وصونًا لها من هجو

جريدة تكتب بمداد من السمّ، بل العادة الغالبة أن ينتقد الناس المخطئ في غيبته

ويسكتون في وجهه، ولو علم رئيس تحرير العلم كل ما يقول الناس فيه، لتبين له

أن مقامه لم يصل في مصر إلى درجة يقبل معها كلامه في تقبيح أفضل وأقدس

خدمة يخدم بها الإسلام لا عند الحزب الوطني ولا عند الجمهور، وإنما يمكن أن

يقبله بعض الملحدين المارقين من الإسلام دينًا وجنسية. ويغلب على ظني أن في

المنكرين على الشيخ عبد العزيز شاويش بعض أعضاء الحزب الوطني، ولولا ذلك

لما غير رأيه وناقض نفسه فيما كتبه أولاً وثانيًا.

(2)

تقول جريدة العلم اليوم: إن أوربا تتهم المسلمين بالتعصب الديني،

وما استطاعوا أن ينجوا من آثار تهمتها بما يعلنونه من سلمهم ومسالمتهم، وإن هذه

الخدمة تزيد في اتهامهم وعداوتهم للمسلمين، فلا ينبغي أن تكون. ونجيبها عن ذلك

بأنه إذا كانت أوربا لا يرضيها منا إلا ترك شعائر الإسلام وفرائضه أو حتى نتبع

ملتهم، أفتأمرنا جريدة العلم بأن نترك فرائض ديننا لأجل إرضاء أوربا أو

دفع تهمتها. قد بينا في مقالتنا الثانية التي أرسلناها إلى العلم كغيره من الجرائد أن هذا

المشروع قيام بثلاث فرائض إسلامية مجمع عليها، فكيف ينهانا أن نؤدي فرائض ديننا خوفًا من اتهام أوربة إيانا بالتعصب، وهو تحصيل حاصل؟ ؟

(3)

تسألنا جريدة العلم في معرض الإنكار؛ إلى أين نرسل خريجي هذه

المدرسة، وفرنسة وهولندا وإنكلترا لنا بالمرصاد في مستعمراتهن وفي السودان،

وأقسم الكاتب على أن الأخيرة منهن لا بد أن تقيم لهم في السودان المحاكم

المخصوصة، وتنصب لهم المشانق، وتبطش بهم بطش الجبارين. يريد الكاتب أن

يوهم قراءه أن الرحمة والشفقة الفائضتين من قلبه الشريف على الذين سيتخرجون

في مدرسة الدعوة والإرشاد ويرسلون إلى السودان؛ هما اللتان حملتاه على هذا

الإنكار الشديد لاستعداد المسلمين لأداء هذه الفرائض الدينية، فأبرز إنكاره أولاً

بزعم أن المراد من هؤلاء الدعاة إسقاط دولة الخلافة العثمانية وإنشاء خلافة

إنكليزية، وآخر بأن الإنكليز سيبطشون بهم بطش الجبارين، ويجعلوهم عبرة

للمعتبرين، ويكون مؤسسو المدرسة هم السبب في ظلم هؤلاء المساكين! ! ! ،

ونجيبه: أولاً - بأن الناصح الغيور على المسلمين، الذي لا يعادي الإصلاح

والمصلحين، لا يستحل مثل البهتان الذي أرجف به العلم في المسألة من قبل،

وثانيًا - بأن الخوف من إيذاء المسلم في سبيل الله في المستقبل، لا يبيح له

ترك الفرائض والاستعداد لنشر الدعوة.

ثالثًا - بأن المتعاونين على هذا المشروع ومن يربونهم ويعلمونهم ليسوا ممن

قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ

كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت: 10) فهل يرضي أصحاب العلم أن يكونوا منهم.

رابعًا - إن لورد كرومر قال في تقريره الرسمي عن السودان: إن الحكومة

هناك تسمح للمسلمين بنشر الإسلام وتعليمه، فإذا أرسلنا إلى هنالك من يطلب منها

الإذن له بهذا ولم تأذن له؛ فإنه يمكنه أن يرجع إلى مصر بحجة ناهضة لجريدة

العلم أو ما يخلفها تجاهد بها الإنكليز، ولا يعرض نفسه لبطش الإنكليز.

خامسًا - إن السبب في اتهام أوربا إيانا بالتعصب الديني؛ هو السياسة في

الغالب، وقد امتاز مصطفي كامل باشا وأتباعه في الحزب الوطني بدعوة الوطنية

على وجه ينافي الوحدة الإسلامية، ونرى أوربة وغير أهل أوربة كالقبط، يتهمون

هذا الحزب وجرائده بالتعصب الديني ولم نرهم يتهمون مجلة المنار بذلك وهي

دينية؛ تقيم حجج الإسلام، وتردد شبهات النصارى وغيرهم، وتقيم الحجة عليهم؛

لأنها لا تفعل ذلك لأجل السياسة، وقد قامت جمعية ندوة العلماء في الهند بعمل

قريب من العمل الذي شرعنا فيه أو مثله، ولم تلق من الإنكليز بطش الجبارين،

بل أعطوها قطعة أرض لتبني مدرستها فيها. وغاية ما نرجو نحن بعملنا الديني

العلمي المدني الخالي من كل شائبة سياسية أن لا تعرقله وتضطهده كل حكومات

أوربة في مستعمراتها عملاً بحرية الدين، وقد صرحت هولندا بأنها تأذن لعلماء

المسلمين بالإرشاد في جاوه إن وجدوا، ولا تمنع إلا مشايخ الطرق الدجالين،

وسيكون المتخرجون في مدرستنا أبعد المسلمين عن أهواء السياسة ومقاومة

الحكومات.

وسادسًا - إذا منعنا الأوربيون من مستعمراتهم الإسلامية في إفريقية وجزائر

المحيط والهند فأمامنا اليابان والصين، فإذا تيسر لنا ترقية مسلمي الصين

بالإرشاد، وأهل اليابان بالدعوة إلى الإسلام، نكون قد عملنا أفضل الأعمال.

وسابعًا - إذا كان ذلك الكاتب في العلم يخاف على هذا المشروع من اضطهاد

دول الصليب كما ادعى، فلماذا يختار إلصاقه بمشيخة الإسلام في الآستانة،

ويقول: إن ذلك محله الطبيعي؟ أيجهل أنه لا يقيم قيامة أوربة عليه شيء كإلصاقه

بالدولة العلية، إن كان يجهل هذا فساسة الآستانة لا يجهلونه، وليعلم أن هذا هو

السبب الذي حملني على إيذان شيخ الإسلام وغيره من رجال الآستانة بأنني لا

أشتغل بالعمل هناك، إلا إذا كان بعيدًا عن السياسة ظاهرًا وباطنًا، ولم يكن له

صبغة رسمية.

(4)

تسألنا جريدة العلم هل سلكنا ما سلكه أهل الصليب أيام كانوا مثلنا

اليوم جهلاء ضعفاء من الدعوة من غير جلبة ولا ضوضاء، ونجيبها نعم.. إننا

أردنا ذلك، ولكن مصاب المسلمين بوجود مثل ذلك الكاتب محررًا أو رئيس تحرير

في جريدة تنتمي إلى حزب يعتقد أنه يؤديها ولو بالباطل؛ هو الذي حال بيننا وبين

ما نشتهي من السكون والسكوت، فماذا نفعل إذا كان الذي أثار بيننا الجلبة

والضوضاء هو أقدر أهل بلادنا على الجلبة والضوضاء لأنه هجيراه في حياته،

ومورد رزقه وعنوان جاهه.

(5)

ينصح لنا ذلك الكاتب المفتات بأن نبدأ بالجهال من أبناء ديننا،

فنعلمهم ونرشدهم ثم نثني بغيرهم إن وجدنا من أوقاتنا ومجهوداتنا متسعًا، كتب هذا

بعد أن قرأ في مقالتنا الثانية التي أرسلناها إليه مع كتبًا خاص، فلم ينشرها وبعد أن

نشرها المؤيد، ونشر موضوع المدرسة منها غير المؤيد؛ كالأخبار والأهالي،

وعلم الألوف من الناس كما علم هو أن هذا هو غرضنا، وليس هذا ببدع من إرشاد

جريدة العلم، فقد كنت منذ عهد قريب تقترح من إصلاح قانون الأزهر ما هو

منصوص في ذلك القانون؛ لأن رئيس تحرير هذه الجريدة جعل نفسه بغروره

مرشدًا للحكومة والأمة، وإن كان ما يأمر به تارة من تحصيل الحاصل، وتارة من

الممتنع شرعًا أو عقلاً أو قانوناً أو عادة، وماذا يهمه أن تمتع بلذة الأمر والنهي،

أن يكون إرشاده من العبث واللغو.

(6)

أمرنا رئيس تحرير العلم عملاً بشنشنته؛ بأن ندخل ما نشاء في مواد

المدرسة في الأزهر، ونعد طائفة من طلابه للإرشاد والدعوة، ونبأنا أن نقيم معهدًا

خاصًّا لما أردناه! ! وهو يجهل أو لا يجهل (الله أعلم) أن امتثال أمره ليس في

أيدينا، ولا مما يدخل في استطاعتنا، إن الداعي إلى هذا المشروع هو العاجز

الضعيف صاحب المنار، وقد عيره هو بالضعف والعجز في جريدة العلم مرارًا،

وما فعل ذلك إلا إعجابًا وغرورًا بحوله وقوته، واعتزازه بحزبه، ولكنه نسي مع

ذلك انه هو قد عجز على قوته وعظمته عن تعبير شيء من مواد قانون الدراسة في

الأزهر، فكيف يقدر على ذلك هذا العاجز الضعيف الذي لا حزب له ولا حول ولا

قوة إلا بالله العلي العظيم، وإذا كان أمره لا يطاع فكذلك نهيه فليترك هذه الرياسة

العامة، في هذه المسألة الخاصة، أو ليكتف بالإرجاف والتشهير، إن كان مُصرًّا

على مقاومة هذا العمل الشريف.

(7)

ناقض العلم نفسه كعادته، فأذن في آخر مقالته للعقلاء المخلصين منا

بالأعمال لتي تحتملها السياسة، وأن يقيموا ما شاءوا من المدارس (على شريطة أن

لا يجروا شيئًا بأسمائها الضخمة وعناوينها الفخمة عليها من البلاء والشقاء) ،

ونهاهم (أن يجلبوا على العالم الإسلامي بتسرعهم وعدم تحوطهم أكثر مما نزل

به) ! ! ! وغرضه من هذا الأمر - إن أطيع فيه - أن يتلذذ بنفوذه في إبطال

المشروع أو عنوانه الدال عليه، وما رأينا في غرائب هذا الكاتب وبعده عن

المعقول أبعد عن الصواب من توهمه أو إيهامه أن البلاء والشقاء سينزلان بالعالم

الإسلامي بسبب كلمة الدعوة والإرشاد، وإن الأوربيين مثله يحفلون بالألفاظ دون

المعاني والحقائق. وأما المشتغلون بتنفيذ هذا المشروع فيريدون أن يكون ظاهرهم

كباطنهم وقولهم كفعلهم، يعلمون أنهم لا يقدرون على غش الأوربيين وخداعهم إن

أرادوا ذلك - وهم لا يريدونه كغيرهم - ولذلك يصرحون بأنهم يربون طائفة من

الطلاب ويعلمونهم ما يقدرون به على الدعوة والإرشاد والتعليم، يرسلونهم إلى أحوج

البلاد الإسلامية إليهم، ثم إلى البلاد الوثنية، ثم إلى غيرها كما بينا في المقالة الثانية

من تقديم الأهم على المهم بحسب الاستطاعة، وسيسيرون على سنة الله تعالى في

أمثالهم من المصلحين، وقد وعد الله تعالى بإظهار هذا الدين كله ولو كره

الكافرون، وكان وعده مفعولاً في كل حين.

وقصارى الكلام، أن جريدة العلم قد خرجت عن منهج الرشد، وأسرفت في

البعد عن الحق، بالغلو في مقاومة هذا المشروع المفروض، بما لا يقبله إلا من اتبع

كل ناعق فيما يقول، لحرمانه من حرية الفكر، وعطله من حلية استقلال

الرأي، فهاجمته أولاً بالإرجاف السياسي وإيهام الناس أنه سيكون من القوة، بحيث

يسقط دولة للمسلمين ويؤسس دولة للإنكليز، بإيهامهم بعد ثلاثة أيام أنه من

الضعف بحيث يجزم الكاتب، ويحلف بأن الإنكليز سوف يسومون أهله سوء

العذاب! ! ! حار الكاتب في هذا الأمر وحاص، وناقض نفسه عدة مرات، ثم

تنصل من عداوة المشروع ومقاومة أهله، وادعى أنه ناصح ولو كان ناصحًا لنشر

مقالتنا الثانية، وجعل النصيحة بيننا وبينه، على أننا ننصح له كما نصح لنا بأن

يحاسب نفسه فيما يكتب بينه وبين الله، ولا يقفو ما ليس له به علم؛ عملاً بكتاب

الله عز وجل، وليقل خيرًا أو ليصمت؛ عملاً بهدي المصطفى صلى الله عليه

وسلم، لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وأن يرجع إلى الحق فذلك خير من

الإصرار على الباطل، كما هي سنة السلف الصالح، فإن قبل النصيحة عاد

من التشنيع والتشهير والتشكيك والتهديد والوعيد إلى بيان محاسن المشروع والحث

عليه والترغيب فيه، ويكون عمل بحديث: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق

الناس بخلق حسن) رواه أحمد والترمذي عن أبي ذر ومعاذ. وحينئذ يجعل

النصيحة بينه وبين القائمين بإحياء هذه الفرائض التي يرجى بها تجديد دعوة

الإسلام - إن شاء الله تعالى - كما هو شأن المخلصين في نصحهم؛ الذين لا

يقصدون به الرياء والدعوى. وإن أخذته العزة بالإثم، ولم يعمل بهذه النصيحة

فحسبه غروره وتغريره، وعاقبة عدوانه ومصيره، وحسبنا الله فهو أغيرعلى

دينه من جميع عبيده المؤمنين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

_________

ص: 59

الكاتب: محمد رشيد رضا

إنذار للمرجفين

لئن لم ينته المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والمرجفون في مصر،

بمشروع الدعوة والإرشاد لنكشفن الستار عن السر الخفي الذي آلى على نفسه

ذلك الرئيس في الآستانة أن يحارب به الإسلام، وعهد باسم جمعيته السرية إلى

مندوبه في مصر أن ينصره فيه ظالمًا ومظلومًا باسم الانتصار للدولة العلية

ومحاربة أعدائها، فصديق الدولة الحقيقي من يخدم الإسلام، وأعدى أعدائها من

يخذل أي مشروع إسلامي في أي مكان، ولا خير لها في إصلاح يضع أساسه يهود

أوربا في سلانيك، ويؤيدهم فيه ملاحة الروملي والأناطول، وإن شايعهم عليه

المندوب الأخرق، ومحرره البذيء الأحمق، وتضافروا على نصر الباطل وخذل

الحق، نعم.. إننا نكشف الستر، ونفشي ذلك السر، الذي أشرنا إليه في فاتحة

هذه السنة، ولا نخشى في ذلك لومه لائم، ولا عذل عاذل، فإننا لم نحلف عليه يمينًا،

ولم نعاهد عليه أحدًا عهدًا، وإنما جاءنا من مصادر شتّى في الآستانة يتمنى رواتها لو

يعرفه المسلمون؛ ولكنهم لا يأذنون الآن بذكر أسمائهم، ولا الإشارة إلى سماتهم؛ بل

سمعنا بآذاننا، وشهدنا بأنفسنا في مقام الجهر لا في زوايا السر، ما لا يمكن دفعه

ولا يستطاع دحضه.

_________

ص: 67

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نهضة التعليم الإسلامي في سملك دابل

بعد حمد لله، والصلاة والسلام على المصلح الأعظم سيدنا محمد وآله وصحبه.

نقدم تحياتنا الخالصة لحضرة الإمام العلامة الداعي إلى الله على بصيرة الغيورعلى الملة الإسلامية، حضرة الأستاذ: محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار

الغراء.

سيدي، إنا لما نعلمه من تفانيكم في خدمة الإنسانية عمومًا والمسلمين

خصوصًا؛ الذي نرى أعظم شاهد عليه انتشار مجلتكم الغراء في أرجاء العالم وما

لها من التأثير العجيب في استنهاض همم المسلمين إلى ما يعلي شأنهم، ويأخذ بهم

إلى الطريق الأقوم، وتحسين حالاتهم الأدبية والمادية، ولما نعلم من شغفكم

بالاطلاع على ما يتجدد من حركات التقدم بين المسلمين في هذه الجهات، والطرق

التي يسلكونها للرجوع إلى أحوال دينهم القويم، وما جاء به سيد المرسلين، وما

كان عليه السلف الصالح من التخلق بأخلاق القرآن العزيز، والتأدب بآدابه،

والسير في حالاتهم الاجتماعية على ذلك الدستور الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا

من خلفه، الصالح لكل زمان ومكان، الموافق لحالة أي جنس من الأجناس البشرية،

إنا لما نعلم كل ذلك منكم أحببنا أن نبشركم أن حركة تقدم المسلمين في كل حالاتهم

بجهاتنا لا تزال في تقدم مستمر، وقد أدرك جميع العقلاء أن لا سبيل إلى نيل ما

يؤملون إلا بالعلم الذي به تتنور الأذهان، وتتثقف العقول، وقضية مسلمة تكاد

تكون مجمعًا عليها عند سائر الأمم؛ ولهذا لهجت الألسن، وقامت الخطباء، وكتبت

الكتاب التعليم التعليم العلم العلم، حتى أصبحت فكرة التعليم هي الشائعة

هنا، وقد أنشئت في المدن الكبرى عدة مدارس وكتاتيب، وهي وإن كانت لم تبلغ

الدرجة المطلوبة، إلا أنها الآن عاملة على إحداث حركة فكرية لا يستهان بها

يصحبها ترق في الأخلاق والآداب، وهي سائرة على سنة النمو الطبيعي، ولا بد

يومًا أن يكون لها شأن يذكر في العالم الإسلامي.

ونبشركم أيضًا، وهو ما جعلنا نتجاسر على مكاتبتكم من غير سابق معرفة،

أنا قد وفقنا بعونه تعالى إلى إقامة مدرسة بقريتنا المسماة (سملك دابل) التي لا

تبعد عن مدينة (سورت) إلا بمسافة قريبة بجهة الهند، هذه المدرسة تعاون على

إنشائها أعيان المسلمين في القرية المذكورة، وأول اكتتاب سمحت به أنفس أولئك

الكرام لإنشاء هذا المعهد العلمي يقدر بأربعين ألف روبية، ثم تعاونوا على أخذ

عقار تكفي غلته نفقات المدرسة، تأسست منها المدرسة منذ سنتين باسم (مدرسة

تعليم الدين) . أما العلوم التي تدرس فيها، فإنما هي العلوم الدينية والقرآن الشريف

والخط العربي والفارسي والأوربي والإنكليزي والقزاري مع تعليم هذه اللغات

الخمس، ويدرس فيها علم التاريخ الإسلامي بوجه خاص مع بقية التواريخ بوجه

أعم، وتدرس فيها أيضًا مبادئ العلوم الأخرى. أما المدرسون في هذه المدرسة

فكلهم من مسلمي الهنود، وتتكفل هذه المدرسة بتعليم أولاد الفقراء مجانًا، وتقوم بكل

ما يلزم لهم من السكنى والنفقة والكسوة وغير ذلك حتى من المكملات الغير

الضرورية، كل ذلك رغبة في نشر العلم، وتربية الناشئين تربية دينية تهذيبية

تزرع في قلوبهم حب الخير، وتقدح في صدورهم زناد الغيرة، وتحثهم على

النشاط والجد والسعي إلى كل ما يعلي شأنهم وبلادهم.

وقد أنشئت حتى الآن لهذه المدرسة فروع عديدة في نواحي القرية المذكورة،

وكلها عامرة بالتلاميذ، وترسل هذه المدرسة إلى نواحي القرية والأماكن النائية قليلاً

عنها المعمورة بالفلاحين المسلمين ترسل إليها بعثات تدعوهم إلى الدين الحق،

وتعلمهم واجباته الأولية، وتعود هذه البعثات يتبعها من أولاد المسلمين الفقراء

وغيرهم عدد غير قليل، كلهم يهاجرون من أماكنهم رغبة في التعليم، والمدرسة

تتكفل بكل ما يلزم لهؤلاء الغرباء، وكل تلميذ يدخل في هذه المدرسة لا يكون لوليه

أن يخرجه من المدرسة قبل أن يمضي عليه فيها ثلاث سنوات على الأقل.

وبالجملة فنحن - بتوفيق الله - سائرون بهذه المدرسة إلى طريق التقدم؛

راجين من كل من تجمعنا معه الجامعة الإسلامية والشريعة مد يد المساعدة إلينا

بالأفكار السديدة والآراء الحميدة، فالمرء كثير بأخيه، ولولا ضيق المقام لشرحنا لكم

من أخبار هذه الجهة ما ربما أحببتم الاطلاع عليه، وربما بعد هذا أرسلنا إليكم

الرسالة التي تطبع رأس كل سنة مبينًا فيها من تنجبهم مدرسة التعليم الديني، وفي أي

العلوم، وعدد التلاميذ، والمرسلين، وقدر المصروفات والتبرعات، وكيفية إخراج

ذلك ذلك، ولولا أنها مطبوعة باللغة الأوردية لأرسلنا إليكم منها نسخة الآن. لكن

عسى تحصل فرصة لنترجمها إلى العربية، فنرسلها إليكم أو نرسل إليكم رسالة

السنة القادمة لقرب موعدها.

وفي الختام نمد يد الفاقة إلى مساعدتكم، وذلك بأن تسعفونا بإرسال مجلتكم

المنار لهذه المدرسة مساعدة لإخوانكم في الدين، ولكم من الله مزيد الأجر، وفي

محلنا هذا قل أن توجد المجلات والجرائد العربية، ونحن كثيرو التلهف إلى

انتشارها هنا؛ لنطلع على ما عليه إخواننا بجهاتكم، وما هي المسافة التي قد

قطعوها في سيرهم العلمي، ونطلع على أحوال الدول الإسلامية بتلك الجهات، ولا

سيما ما يتجدد من أخبار دولتنا العلية، وما هو مركزها اليوم بين دول الأرض بعد

أن أصبحت حكومتها دستورية موافقة لروح العصر، وبناء على ذلك، فنحن نطلب

منكم أن تلفتوا أنظار أهل الجرائد المصرية والبيروتية والتي تصدر بالآستانة بأن

يمنّ علينا من شاء منهم بإرسال جريدته، وله منا مزيد الشكر والامتنان، وكذلك

المؤلفون والمتصدقون بالكتب العلمية، من سمحت نفسه منهم بإرسال كتاب أو كتب

لمكتب هذه المدرسة، فنحن له من الشاكرين، ويقلدنا بذلك منة لا نستطيع القيام

بحق شكرها، ويخدم بني ملته خدمة يحفظها له التاريخ.

أما مجلتكم، فلا تخيبوا آمالنا بتأخير إرسالها، كما أن ثقتنا بإخلاصكم في

خدمة المسلمين تجعلنا لا نشك في مساعدتكم، وإن تفضلتم بإرسال نسخة من تفسير

الأستاذ الإمام فحاجتنا إليها شديدة جدًا. أكتب لكم هذا وأنا الآن بسرباية جزيرة

جاوه، وأتيت إليها من مدة قريبة؛ لاستنهاض مواطني المهاجرين بهذه الديار،

وحثهم على مد يد المساعدة على إحياء العلم ونشره ببلادهم.

...

...

... محبكم: حسن أحمد منصور

...

...

... خادم مدرسة تعليم الدين

(المنار)

نشكر للكاتب ولسائر أهل الغيرة القائمين بأمر هذه المدرسة، والمتبرعين

لها حسن سعيهم، ونرغب إلى الكاتب أن يعجل بإرسال الرسالة التي وعد بها

مترجمة بالعربية، وأن يبين أسماء الكتب العربية التي تدرس في المدرسة؛

لنبدي رأينا فيها، وسنرسل المنار وغيره من الجرائد للمدرسة إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 68

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقريط المطبوعات الجديدة

(النسائيات)

كنا نقرأ في (الجريدة) مقالات في شؤون النساء، عنوانها العام (النسائيات)

بإمضاء (باحثة بالبادية) ، وكنت ظننت عند قراءة أول ما اطلعت عليه بهذا

الإمضاء أن كاتبه رجل، ثم علمت أنه من إنشاء الكاتبة الشاعرة الأديبة ملك

ناصف، كريمة صديقنا حفني بك ناصف وقرينة صديقنا عبد الستار الباسل الزعيم

في قبيلة الرماح العربية التي تقيم في جهة الفيوم، وكأن الكاتبة بدأت بما كتبته

للجريدة وأمضته بلقب (باحثة بالبادية) وهي في دارها التي هناك بجوار القبيلة،

وإن كانت دار مقامها عامة السنة في القاهرة.

تربت الكاتبة في حجر والدها، ومقامه في العلم والأدب والنظم والنثر

معروف، فهو من الرعيل الأول الذين تخرجوا في مدرسة دار العلوم بعد الدراسة

في الأزهر، وأخذ عن الأستاذ الإمام، ثم علم وصنف، ثم صار قاضيًا في المحاكم

الأهلية، فقتل الزمان علمًا وخبرًا، وآثار علمه وأدبه مدروسة غير دراسة،

وتعلمت في المدرسة السنية الأميرية حتى صارت من المعلمات، ثم اقترنت

بالرجل البدوي الحضري الذي عرف أوربا كما عرف القاهرة، وخبر الأحوال

الاجتماعية البادية والحاضرة، وهو من مؤسسي حزب الأمة، ولهذا خصت قرينته

(الجريدة) بمقالاتها. وغرضنا من هذا البيان أن يعرف القارئ بأن صاحبة

مقالات النسائيات جديرة بذكائها الفطري والوراثي، وبتربيتها المنزلية والمدرسية،

ثم صيرورتها ربة بيت وقرينة بعل يعرف قيمة العلم والأدب والإصلاح، جديرة

بأن تكتب ما ترجى فائدته في النسائيات التي هي أهم المسائل الاجتماعية في مصر

والعالم الإسلامي المدني في هذا العصر.

تغيرت حال الاجتماع في المدائن الإسلامية بقدر انتشار التعليم العصري فيها،

واختلاط أهلها بالإفرنج والمتفرنجين، فتجددت لكثير من الرجال آراء ورغبات

فيما ينبغي أن تكون عليه بيوتهم ونساؤهم، والنساء لا يشعرن بالحاجة إلي تغيير ما

في نظام البيوت ولا في معارفهن وآدابهم وعادتهن. واقتضت تلك الرغبات في

بعض الرجال أن يعلموا البنات كما يعلمون الصبيان في المدارس العصرية التي

أنشأتها الجمعيات النصرانية الإفرنجية، ثم المدارس التي أنشأتها الحكومة، ثم

الأهالي لمحاكاة مدارس الإفرنج وتقليدًا لهم فيها، ولما تعلم بعض البنات صار فيهن

من يرغبن فيما يرغب فيه بعض المتعلمين من التغيير، ولكن الراغبات في ذلك من

المتعلمات أقل من الراغبين فيه، على أن المتعلمات أقل من المتعلمين.

يختلف المفكرون في هذه المسالة اختلافًا كبيرًا، فمنهم من يرى أنه ينبغي لنا

تقليد الإفرنج حذو القذة بالقذة، ومنهم من يرى أن ذلك أضر علينا من جهل النساء،

وبين هذين الطرفين آراء كثيرة، والحق الذي لا ريب فيه هو أنه لا يمكن أن

ينتظم حال الحضارة الإسلامية إلا بتربية البنات وتعليمهن، ولذلك قلت في فاتحة

العدد الأول من منار السنة الأولى عند بيان مقاصد الصحيفة: (وغرضها الأول

الحث علي تربية البنات والبنين) ولكنني لم أشرح هذا المقصد كثيرًا كما شرحت

غيره من مقاصد المنار؛ لأنني أرى أن التربية والتعليم لا يفيدان الفائدة التي نحتاج

إليها إلا إذا قامت بهما الجمعيات الخيرية الملية دون الحكومة، ودون الأفراد الذين

ينشئون المدارس لأجل الكسب، فكنت لهذا أطالب الأستاذ الإمام المرة بعد المرة

بإنشاء معهد خاص لتربية البنات بالعمل وتعليمهن، يكون تابعًا للجمعية الخيرية

الإسلامية، وكان - رحمه الله تعالى - يقول: إن المال الخاص بالتعليم في الجمعية

لا يكفي لهذا العمل، فلا بد من انتظار فرصة لفتح اكتتاب لذلك، وكنا ننتظر هذه

الفرصة ونرجئ القول في الحاجة إلى هذا التغيير في حال نسائنا، وفي طريقه

وكيفيته إلى وقت الشروع في العمل، حتى لا يكون القول مثارًا للمراء والجدل.

ما فتحنا باب البحث والجدل في المسألة، ولكن سخر الله له قاسم بك أمين

ففتحه هنا بكتابه (تحرير المرأة) ؛ إذ كتب في مسألة الحجاب ما أسخط السواد

الأعظم من الناس، فردوا عليه في الجرائد والمصنفات الخاصة، وبينوا آراءهم

في التربية والتعليم النافعين لترقية النساء.

ثارت الرياح في ذلك عند ظهور كتاب تحرير المرأة، ثم كتاب (المرأة

الجديدة) الذي رد به قاسم على المعترضين، ثم سكتت زمنًا وكاد يغلق باب البحث

فيه، لولا أن فتحت (الجريدة) مصراعيه لغير واحد من الكتاب، وفي أثناء ذلك

دخلت صاحبة مقالات (النسائيات) في مضمار البحث مناضلة مناظرة للكاتبين من

الرجال، ومظهرة لهم مالا يعرفون من شؤون النساء، ثم دعت النساء مرتين إلى

سماع خطبتين لها: إحداهما في شؤونهن العامة، وما ينبغي أن يكن عليه في

البيوت. والثانية في المقارنة بين المرأتين المصرية والغربية، وبيان ما يصلح

العمل به، وأجابها إلى سماعهما المئات من المصريات. وقد نشرناهما في المنار.

الحق أقول: إن ما كتبته هذه الكاتبة في بدايتها خير مما كتبه الكثيرون من

الرجال عبارة ورأيًا، فأكثر الرجال جاءوا بالآراء النظرية والأهواء النفسية، أو

تقليد الإفرنج والمتفرنجين، وهي قد بنت كلامها على اجتهاد واستقلال، يرجع إلى

أصول ثلاثة: أحدها الدين، وثانيها الاختبار، وثالثها مصلحة المرأة المصرية،

ومن فروع هذا الأصل الأخير استنكارها تزوج المصريين بالإفرنجيات والتركيات،

وإنا لنقرها على هذه الأصول، وإن كنا نخالفها في بعض الفروع، ونشهد أن ما

كتبته مفيد للقارئين والقارئات، ونشكرها شكر المستزيد من هذه الفوائد، ونهنئ بها

بيت الزوج وبين الوالد.

طبع الجزء الأول من (النسائيات) في منتصف العام الماضي، فكان 146

صفحة، وطبع معه تقريظ من أرباب القلم المشهورين بلغت 20 صفحة وافتتح

بمقدمة حكيمة لأحمد لطفي بك السيد مدير الجريدة أحسن ما فيها مسألة (المرأة

والدين) ، وثمن النسخة من هذا الجزء عشرة قروش صحيحة، فعسى أن ترى

الكاتبة من رواج كتابها ما يبعث همتها إلى زيادة العناية، ويرغب غيرها من

الكاتبات في الكتابة والخطابة والتأليف.

(البرهان الصريح في بشائر النبي والمسيح صلى الله عليهما وسلم)

جمع هذا الكتاب من نصوص العهد القديم والعهد الجديد أحمد أفندي ترجمان،

وهو رجل واسع الاطلاع في كتب أهل الكتاب الدينية، كثير الحفظ منها، قوي

الاستحضار لها، وأعانه على تحريره وترجمة النصوص من الأصل العبراني

محمد أفندي حبيب صاحب مكتبة برج بابل (بموافقة عالمين من علماء الإسرائيلية

على صحة النصوص العبرانية والكلدانية) وفي الكتاب فوائد كثيرة دينية وتاريخية،

ومقارنات غريبة بين النصوص وتفسير بعضها ببعض، لا يستغني عنها من

تعنيهم هذه المباحث. وثمن النسخة منه قرشان، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.

(مصادر المسيحية وأصول النصرانية)

(رسالة لاهوتية تاريخية، تبين المصادر الأصلية للدين المسيحي القديم وما

ورد فيه من توحيد وتثليث واثنينية وتسبيع وتتسيع، ومقبول ومرفوض من

العناصر الدينية القديمة؛ كالمصرية والبرهمية والبوذية والبابلية والآشورية

والميثرايزمية لمؤلفها محمد أفندي حبيب، صاحب مكتبة برج بابل في مصر مؤسس

حزب الله، وهذه الرسالة مأخوذة من الكتب الدينية والتاريخية المكتوبة باللغة

الإنكليزية في الغالب، وثمنها خمسة مليمات وتطلب من مؤلفها.

(الدرة اليتيمة لابن المقفع)

طبعت هذه الرسالة الأدبية الطبعة الخامسة في مطبعة الرغائب بمصر، وتطلب

من مكتبتها، وهي غنية بشهرتها عن الوصف.

(دروس التاريخ الإسلامي)

كتاب مختصر مفيد في تاريخ المسلمين، يؤلفه الشيخ محيي الدين الخياط،

ويطبع في بيروت بنفقة المكتبة الأهلية، وقد صدر منه ثلاثة أجزاء أو ثلاثة

أقسام كما عبر المؤلف: الأول في مجمل من السيرة النبوية، والثاني في مجمل من

تاريخ الخلفاء الراشدين، والثالث في مجمل تاريخ دولة بني أمية، ويقرب الجزء

من 90 أو 100 صفحة مقسمة إلى دروس، في كل درس مسائل مختصرة،

لكل مسألة عنوان وفي آخره خلاصة وأسئلة، فيصلح هذا الكتاب أن يدرس في

المدارس الابتدائية؛ لسهولته وحسن ترتيبه، على أنه للعارفين كالمذكرات

الوجيزة التي تسمى بالأعجمية (النوتة) ، وثمن الجزء قرشان ونصف، ويباع

في المكتبة الأهلية ببيروت، والمكتبة السلفية بمصر.

(المشير)

الجريدة جديدة أسبوعية (إسلامية إصلاحية عمومية) ظهرت بتونس في

أوائل هذا الشهر، وقد كتب إلينا من نثق بعلمه ورأيه من الثناء على صاحبها

(الطيب بن عيسى) والثقة بحسن قصده، ما جعلنا نتمنى لها الثبات والنفع

العام، وعسى أن يعضدها أهل الغيرة والرأي.

_________

ص: 71

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أعظم رجل في العالم

اختلف أحرار الباحثين في أعظم رجل ظهر في العالم، وقد سبق لبعض

الجرائد الأوربية الاقتراح على قرائها أن يكتبوا إليها آراءهم في ذلك، وكان منهم

من صرح بأن رأيه أن أعظم رجل ظهر في البشر هو سيدنا محمد خاتم النبيين

والمرسلين، قد اقترحت هذا الاقتراح وآخر في معناه من عهد قريب جريدة الوطن

البيروتية وصاحبها مسيحي، وكان أول من أجابه كاتب من أحرار الطائفة

المسيحية، قالت الجريدة:

سألنا فريقًا من الفضلاء عمن هو أعظم رجل في العالم وفي سوريا، ولماذا؟

فوردتنا الأجوبة الآتية ننشرها بحسب ورودها:

(1)

من هو أعظم رجل في العالم، ولماذا؟

أعظم رجال العالم على الإطلاق؛ رجل وضع في عشر سنين دينًا، وفلسفة

وشريعة اجتماعية، وقوانين مدنية، وغير شريعة الحرب، وأنشأ أمة ودولة

طاولت الدهر، وكان أميًّا ذلك هو:

محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي العربي نبي المسلمين.

وقد تدارك النبي لمشروعه العظيم كل حاجاته، فوفر لأمته ولتابعيه وللملك

الذي أنشأه أسباب الانتشار والخلود، بحيث إذا انقطع المسلم إلى القرآن والحديث

وجد فيهما ما يهمه من أمور دينه ودنياه، وجعل للمسلمين مؤتمرًا ينعقد كل عام في

مكة، ومن تنبه إلى فرض الحج على من يملك الراحلة والنفقة وإسقاطه عمن لا

يملكها، أدرك أن الغاية من الحج اجتماع الموسرين والوجوه من الأمة للبحث في

شؤون جامعتهم وأمور سياستها واجتماعها وتعاونها. وتدارك أمر الفقير بالزكاة

المفروضة على كل مسلم، بحيث إذا أداها المسلمون على حقها لم يبق في الأمة فقير.

وجعل نواة أبدية للإسلام بكون القرآن كتابًا عربيًّا، يتحتم على كل مسلم أن

يتفهمه بلغة العرب، وإذا لم يكن في هذا غير أن فهم العربية حتم على كل عالم

وإمام، يكفي به جامعة لسان للمسلمين.

ومهد طريق النبوغ لأفراد الأمة بكون المسلم لا يفضل المسلم إلا بالتقوى،

فكان الإسلام جمهورية حقيقية، يختار المسلون رئيسها الذي هو الخليفة، وقد

ساروا على هذه السنة حينًا من الدهر، ولن تزال المبايعة بالخلافة رمزًا من

رموزها.

وسهل اعتناق الإسلام لغير العرب بقوله: لا فضل لعربي على عجمي ولا

لعجمي على عربي.

ويسر لغير المسلمين العيش برخاء في بلاد الإسلام بقوله:

(الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله) .

ونظر في أمر (العائلة) ، فرتب أمور الزواج والتناسل والتوارث، ورفع

من شأن المرأة، وعاد إلى الأمور المدينة، فوضع قوانين وقضاء للنظر في شؤون

الأفراد.

ولم يهمل مالية الدولة، بل وضع سننًا لبيت المال.

وكان للعلم من همه نصيب وافر، فجعل الحكمة ضالة المؤمن، وأوصاهم

بأن يطلبوا العلم ولو في الصين، فكان لهذه الوصية شأن عظيم في اقتباس

المسلمين العلم من كل أبوابه وازدهاره في أيامهم.

أفلا يكون الذي فعل كل هذا أعظم الرجال؟

من هو أعظم رجل في سوريا ولماذا؟

لو عرف التاريخ اسم الفينيقي الذي اخترع الكتابة بالحروف، لكان جوابي

اسم ذلك الرجل.

وإذا صح أن نعد صلاح الدين الأيوبي سوريًّا لموته في سورية، ولإقامة أبيه

فيها، فهو أعظم رجالها لأنه انتصر في تسعين موقعة، وكان أعدل الملوك وأكرمهم

خلقًا ويدًا، فقد مات ولم يخلف دارًا ولا عقارًا، ولم يكن في خزانته يوم توفي غير

47 درهمًا.

أما التاريخ لا يعرف ذاك، وللناس على سورية هذا اعتراض، فإني أرى أبا

العلاء المعري السوري القح الذي كان شاعراً كبيرًا، ومنشئًا بليغًا، وفيلسوفًا

عظيمًا، وإنسانًا حكيمًا، ونابغة في حدة ذهنه، وفي حرية قلبه ولسانه، أعظم

رجال سوريا.

...

...

...

...

داود مجاعص

_________

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اعتصام الفئتين الكبريين من المسلمين

جاء في بعض جرائد العراق ما نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين وآله

وصحبه المنتخبين، قد رأينا أن اختلاف الخمسة الفرق الإسلامية في بعض ما لا

يتعلق بأصول الديانة، والشقاق بين طبقات المسلمين؛ هو السبب الموجب

لانحطاط دول الإسلام واستيلاء الأجانب على معظم ممالكها، فلأجل المحافظة على

كلمة الجامعة الدينية والمدافعة عن الشرعة الشريفة المحمدية، قد اتفقت الفتاوى من

المجتهدين العظام الذين هم رؤساء الشيعة الجعفرية، ومن علماء أهل السنة

المقيمين بدار السلام على وجوب الاعتصام بحبل الإسلام، كما أمر الله به، فقال

عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)

وعلى وجوب اتحاد كافة المسلمين في حفظ بيضة الإسلام وصون جميع الممالك

الإسلامية من العثمانية والإيرانية عن تشبثات الدول الأجنبية، وهجمات السلطة

الخارجية، وقد اتحد الرأي منا جميعًا تحفظًا على الحوزة الإسلامية أن نبذل تمام

قوانا ونفوذنا في ذلك، ولا نكف عن كل إقدام يقتضيه المقام، واثقين بكمال اتحاد

الدولتين العليتين الإسلاميتين، وعناية كل منها بحفظ استقلال الأخرى وحقوقها،

وقد أعلن لعموم الملة الإسلامية وجوب السكون والتعاون في حفظ استقلال دولتها

العلية، وحماية مملكتها وصيانة ثغورها عن مداخلة الأجانب، فيكونوا كما قال الله

تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ونذكر عامة المسلمين

الأخوة التي عقدها الله تعالى بين المؤمنين، ونعلن لهم وجوب التحرز والتجنب عما

يوجب الشقاق والنفاق، وأن يبذلوا جهدهم في نواميس الأمة، والتعاون والتعاضد

وحسن المواظبة على اتفاق الكلمة، حتى تصان الراية الشريفة المحمدية ويحفظ

مقام الدولتين العثمانية والإيرانية - أدام الله تعالى شوكتهما بمحمد وآله وصحبه خير

البرية.

...

...

... الأحقر شيخ الشريعة الأصفهاني

...

...

الراجي إسماعيل بن الصدر العاملي

(المنار)

لكل عمل وحال أجل، ولكل أجل كتاب، وقد طال الأمد على التفرق

والتدابر بين المسلمين، وقد بح صوتنا وحفيت أقلامنا من كثرة الدعوة إلى

الاعتصام. ولكن كان المفرقون يهدمون ما نبني، حتى قام يوهم الناس بعض

المفتونين بالرياسة أننا غيرنا طريقتنا؛ لأننا نشرنا تلك الرسالة المعهودة لسائح في

العراق، وما كنا مغيرين، ولكن كانوا هم المفرقين، ولم ينس القراء خطابنا في

العام الماضي لعلماء الطائفتين، بالقيام بما يجب من جمع الكلمة في الدولتين،

ونحمد الله أن أجاب دعاءنا، وهذا أول صوت من الفريقين في تلبية طلبنا، وإنا

لنرجو فوق ذلك اعتصامًا واتحادًا.

_________

ص: 77

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌البابية البهائية

ضاق هذا الجزء عن متابعة الكلام في الباطنية سلف هؤلاء البهائية، وقد

جرى بيني وبين أحد كبار رجال القضاء في الإسكندرية حديث في شأن عباس

أفندي زعيمهم، وكنا بدار محمد سعيد باشا رئيس النظار بمصر وقد اتفق جلوسنا

في إحدى الحجرات ليلة احتفال الرئيس بعيد جلوس الأمير، وكان معنا بعض

العلماء الوجهاء.

افتتح محدثي الكلام بمعاتبتي على ما كتبت في شأن عباس أفندي، وأطراه

أشد الإطراء، وشهد له بالإسلام الكامل علمًا وحكمة وعملاً، فقال: إنه يؤدي

الصلوات الخمس وغيرها من الفرائض والنوافل، ويبين من فضائل الإسلام ما لا

يكاد يستطيعه سواه، ويسعى في نشره في أمريكة وسواها، ويحاول جمع الشعوب

عليه، فكان سبب دخول الملايين في هذا الدين المبين، قال: ولو سواك طعن في

إسلامه، وقال فيه ما قلت وأكثر مما قلت، لما كنا نبالي بقوله، ولكن لكلامك من

القيمة والاحترام ما ليس لغيره؛ ولذلك ساءني أن تتكلم في هذا الرجل العظيم وأنت

لم تعرفه معرفة اختبار، بما لعلك أخذته من غمر جاهل أو ذي غمر متجاهل، وإني

أدعوك إلى ضيافتي بالإسكندرية، وأجمع بينك وبين الرجل وأنا موقن بأنك تعجب

بدينه وعقله وعلمه وآدابه الجذابة وفصاحته الخلابة، هذا حاصل معنى ما قاله هذا

اللائم المعجب بالرجل.

ومما قلته له: إنني أسلم بما سمعته منك ومن سواك عن شمائل الرجل وأدبه

وفصاحته، ولم أكتب فيه إلا ما يدل على هذا، وهذا التسليم لا ينقض شيئًا من بناء

اعتقادي واختباري، وإن قواعد هذا الاعتقاد ليست مأخوذة عن أعداء الرجل

وأعداء قومه، بل منهم ومن كتبهم، فقد جرى بيني وبين داعيتهم هنا مناظرات

متعددة، وثبت عندي أنهم من الباطنية الذين كانوا يظهرون للمسلمين وكذا لغيرهم

أنهم منهم وعلى ملتهم، ولا يطلبون إلا الإصلاح فيها، وهؤلاء البهائية إذا دعوا

النصارى في أمريكة مثلاً إلى نحلتهم قالوا لهم: إنا نصارى مثلكم نؤمن بألوهية

المسيح وبمجيئه في يوم الدين- أو الدينونة كما تقول النصارى - وقد جاء المسيح

كما وعد في ناسوت البهاء وآمنا به واتبعناه، وكذلك يقولون للمسلمين: إنا منكم

ونطلب إصلاح حالكم باتباع المهدي المنتظر، والمسيح الموعود به، بل يقولون:

إن دين برهما ودين بوذه ودين زردشت حق، ويقولون لهؤلاء إذا لقوهم: إنا منكم،

وإن ربنا وربكم هو البهاء، أو بهاء الله دفين عكا من بلاد الشام، ولا يفصحون

عن عقيدتهم كلها لأحد دفعة واحدة، وإنما يرتقون به درجة بعد أخرى، وقد وضع

سلفهم الأولون هذه الدرجات وجروا عليها، وقلدهم الماسون فيها (أي الدرجات

فقط) وقصارى دعوتهم الرجوع إلى نوع من الوثنية ملون بلون جديد من ألوانها.

ولما بالغ محدثي بإنكار ذلك، قلت له: إنني لا أدعي معرفة الرجل والحكم

عليه بما ظهر لي منه نفسه، وإنما أحكم عليه من حيث هو زعيم هؤلاء القوم

باعترافهم واعترافه، وقد بلغني عنه نفسه أنه يدعي الإسلام ويجاري أهله في

عباداتهم عندما يكون معهم، ونحن لا نقول لمن أظهر الإسلام: إنك لست بمسلم

اتباعًا للظن، ولكننا نعلم من تاريخ هؤلاء الباطنية مثل هذا، فقد كان العبيديون

بمصر يدعون أنهم مسلمون ويبثون دعاتهم في الناس لتحويلهم عن الإسلام إلى

عبادة إمامهم المعصوم بزعمهم، فإذا كان عباس أفندي مسلمًا حقيقة لا بالمعنى الذي

تقوله الباطنية عادة، فليكتب لنا مقالة بخطه وإمضائه يصرح فيها بالنص الصريح

بأن سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب هو خاتم النبيين والمرسلين، لا دين

بعد دينه، ولا شرع ينسخ شرعه، وأن القرآن هو آخر كتب الله ووحيه لأنبيائه

ورسله، وأن معانيه الصحيحة هي ما دالت عليه مفرداته وأساليبه العربية.

فقال محدثي البارع: كيف يمكن أن تقول للبريء: إنك متهم بالجناية،

وينبغي أن تتبرأ منها وتدافع عن نفسك؟ إننا لا نطلب أن يكتب ذلك بأسلوب الدفاع،

وإنما نطلب أن يكتبه في مقال يبين فيه حقيقة الإسلام؛ إرشادًا للناس وتعليمًا أو

ردًا على المعترضين، ومثل هذا يقع كثيرًا، ولذلك اكتفينا منه بذلك، ولم نكلفه أن

يتبرأ مما سمعناه من أتباعه من القول: بألوهية والده، ونسخه للشريعة الإسلامية؛

كجعل الصلوات ثنتين بدل خمس بكيفية غير كيفية صلاة المسلمين، فإن كان لا

يكتب من تلقاء نفسه، فإننا نكتب إليه أسئلة ونطالبه بالجواب عنها، فهل يضمن لنا

ذلك المعجب بإسلامه أن يجيب عنها؟ ؟

_________

ص: 78

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الماسون في الدولة العثمانية

كان السلطان عبد الحميد عدوًّا للجمعية الماسونية؛ لاعتقاده أنها جمعية سرية،

وهو يخاف من كل اجتماع وكل سر، وإن غرضها إزالة الاستبداد وهو مستبد،

وإزالة السلطة الدينية من حكومات الأرض كلها وهو يفخر بالخلافة الإسلامية

ويحرص عليها، وقد تنفس الزمان للماسون بعد الانقلاب الذي كان لهم فيه أصابع

معروفة، فأسسوا شرقًا عثمانيًّا أستاذه الأعظم طلعت بك ناظر الداخلية، وأركانه

زعماء جمعية الاتحاد والترقي، وأنصارها من اليهود وغيرهم، ولأجل هذا نرى

طلعت بك لا يبالي بسخط الأمة ولا برضاها في إدارته التي استغاثت منها المملكة

بألسنة ولاياتها كلها إلا ولاية سلانيك وكذا أدرنة فيما أظن، وألسنة مبعوثيها حتى

بعض الاتحاديين، وسلانيك هي الآن مركز السلطة الحقيقية في المملكة، وإنما

الآستانة مركز التنفيذ، كأن حظ عبد الحميد أن تكون السلطة الحقيقية حيث يكون

ما دام حيًّا، وإن لم تكن في يده الخاطئة.

وإنا نتمنى أن لا يكون تصرف طلعت بك في الماسونية كتصرفه في نظارة

الداخلية، فإنني والله لم أسمع من أحد في الآستانة ولا في غيرها شهادة له بحسن

التصرف، ولا أحصي عدد الشهادات التي سمعتها عن سوء تصرفه الذي ظهر أثره

في اضطراب أكثر ولايات المملكة، فسوء تصرفه في مسألة الأرنؤد قد عرف الآن،

وإن لم تظهر عواقبه السيئة كلها. وأما سوء تصرفه في مسألة اليمن فقد ظهرت

عواقبه السيئة كلها، وأما سوء تصرفه في مسألة اليمن فقد ظهرت بوادره

ونعوذ بالله من أواخره.

نتمنى أن يكون تصرفه في الماسونية أحسن حتى لا يجني عليها ولا على

الملة والدولة، فإن الفرق بيننا وبين فرنسة والبورتغال بعيد جدًّا، وإن كان يراه

هو والدكتور ناظم بك وبعض الزعماء قريبًا، فليتدبروا ولا يغتروا بقوة الجمعية

ولا بغيرها فطبيعة الاجتماع أقوى من تدبير الجمعيات، وقد يكون مع المستعجل

الزلل.

_________

ص: 80

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الذكر بالأسماء المفردة

(س4) من صاحب الإمضاء بطوخ القراموص

حضرة الفاضل صاحب المنار المنير الأفخم:

اطلعت على ما جاء في جوابكم على سؤال في الطريقة الشاذلية الدرقاوية

المنشور في ج3 م13 ص 194 من المنار؛ من أن الذكر بالأسماء المفردة لم يرد

في الشرع الأمر به ولا العمل

إلخ.

وحيث إن هذا المذهب، وإن سبقكم إلى القول به العز بن عبد السلام وابن تيمية

الحنبلي وغيرهما ممن حذا حذوهما؛ مخالف للسنة ولإجماع الصوفية وجمهور

الفقهاء والمحدثين، رأيت أن أرسل إليكم بهذه العجالة؛ لتنشروها في المنار، فإن

الحقيقة بنت البحث وإليكم البيان.

(1)

في الجوهر الخاص للعلامة الغمري أن الذكر ما أتى قط مقيدًا بشيء،

فليس في الكتاب ولا السنة اذكروا الله بكذا، بل اذكروا الله مطلقًا من غير تقييد بأمر

زائد على هذا اللفظ.

وفيه أيضًا: هل قول الذاكر: الله الله، يحتاج إلى تأويل خبر أم لا؟ الجواب:

أما من حيث الأكمل فيحتاج إلى خبر ليتم المعنى لا من حيث إنه يسمى ذكرًا فإنه

يسمى ذكرًا بدون ذلك؛ لأن صيغ الذكر وضعت للتعبد بها، ولو من غير تأويل

خبر.

ونقل العلامة العسقلاني في شرحه على البخاري في الكلام على حديث: (إنما

الأعمال بالنيات) أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما

يتميز بنفسه فإنه يتصرف بصورته إلى ما وضع له: كالأذكار والأدعية والتلاوة؛

لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة.

(2)

مما يدل على الذكر بالاسم المفرد من السنة، ما ورد في الحديث

الشريف عن ثابت عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة

على أحد يقول: الله الله) ، وعن علي كرم الله وجه من حديث طويل، قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: (يا علي لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول: الله

الله) ، وفي رواية حميد عن أنس: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله

الله) ، وفي الأنوار السَّنِيَّة أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا قال العبد: الله -

خلق اللهُ من قوله ملكًا مقربًا لا يزال يصعد حتى يغيب في علم الله وهو يقول:

الله الله

) إلى آخر الحديث.

(3)

في ذيل الرسالة القشيرية: كان رجل يكثر أن يقول الله الله، فوقع يومًا

على رأسه جذع فانشج رأسه فقطر الدم فاكتتب على الأرض: الله الله. وذكر ابن

العربي أن هذا الذكر ذكر الخاصة من عباده الذين عمر الله بأنفاسهم العالم.

وقال اليافعي ذكر الأقطاب: الله الله الله بسكون الهاء وتحقيق الهمزة، كما في

شموس الآفاق. وكان العارف بالله تعالى سيدي أبو الحسن الشاذلي قدس الله روحه،

يقدمه في التلقين على لا إله إلا الله. وقال في رسالة القصد: يقول المريد: الله الله،

وكما تلقنا لقنا وعمل بها واختارها هو وجمع من الصوفية لا يحصون، واختار

الغزالي في كتاب الميزان الإكثار من ذكر الله، وذكر أنه تلقن عن بعض مشايخه: الله

الله، وقال: إنها متضمنة لمعنى الشهادتين، وفصل أخو الإمام الغزالي فقال:

للمبتدئ: لا إله إلا الله، فقال: وهو ذكر ينفي الحظوظ ويبقي الحقوق، ويسرع

ذهاب الأغيار بالأنوار، وللمنتهي هو هو، وصنف في ذلك كتابه. وذكر العلامة

العدوي على كفاية الطالب عند قول الرسالة: وليقل الذابح عند الذبح بسم الله والله

أكبر لا يشترط بسم الله، إلى أن قال: لو قال: الله مقتصرًا على لفظ الجلالة أجزأ

ولو لم يلاحظ له خبرًا؛ لأن الواجب ذكر الله، وفي بعض حواشي الخرشي: لو

لم يلاحظ له خبرًا لكفى، وإما بالصفة كالخالق والرازق فإنه لا يكفي اهـ.

هذا ما حضرني الآن على مشروعية الذكر بالاسم المفرد والعمل به، ولو

أردت أن أورد الشواهد من السنة وأقوال الأئمة على اختلاف درجاتهم ومنازعهم

لطال بنا المقام، وفي هذا القدر كفاية. وعليه ترون أن القول بخلاف ذلك

مردود بما ذكر. والله ولي التوفيق.

...

... خادم العلم الشريف أحمد محمد الألفي

...

بطوخ

(ج) استدل السائل على مشروعية الذكر بالأسماء المفردة بقول الغمري:

إن الذكر ما أتى قط في الكتاب ولا في السنة مُقَيَّدًا بشيء، وبقوله: إنه لا يحتاج

في صحة كونه ذكرًا إلى تقدير خبر، وقول الحافظ ابن حجر فيما تشترط فيه النية،

ثم ببعض الأحاديث، ثم بأقوال وحكايات عن بعض المتصوفة.

فأما كلمات المتصوفة وحكاياتهم فليست بحجة عند أحد من علماء المسلمين،

حتى تحتاج إلى إثباتها والبحث في دلالتها، ومن السهو أن يعبر السائل الفاضل عن

ذلك بإجماع الصوفية؛ إذ لا يمكنه إثبات هذا الإجماع، وهو ليس بحجة لو ثبت،

ومثل ذلك قوله جمهور الفقهاء والمحدثين، وإنما الفقهاء الذين يعتد بكلامهم فهم

المجتهدون، ولم يذكر كلام أحد منهم ولا من المحدثين في محل النزاع.

وأما قول الغمري فهو لا حجة فيه من حيث هو قوله ولا صحة له في نفسه

بل هو باطل، فقد جاء الذكر في كل من الكتاب والسنة مطلقًا ومقيدًا بذكر آلاء الله

ونعمته؛ كقوله تعالى في سورتي المائدة والأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (الأحزاب: 9)، وقوله في سورة الملائكة: {يَا

أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ

وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (فاطر: 3)، وقوله في سورة الأعراف:

{فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} (الأعراف: 69) ، وكل ما ورد في الكتاب والسنة

من أنواع الأذكار كالتهليل والتسبيح والتمجيد فهو من الذكر المقيد، والأمر بذكر

الله مطلقًا من غير ذكر الاسم ينصرف غالبًا إلى الذكر النفسي؛ كذكر الآلاء

والنعم أي: تذكرها والتفكر فيها، وحيث يذكر لفظ (الاسم) يراد ذكر اللسان

كقوله تعالي في سورة الأنعام: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: 118)

وقد حققنا هذا المبحث فيما زدناه أخيرًا في تفسير الفاتحة عند شروعنا بطبعها في

الجزء الأول من التفسير، وأما ما نقله عن الحافظ في مبحث النية فليس مما نحن

فيه.

بقي ما ذكره من الأحاديث وهي موضع البحث دون سواها؛ لأن المسألة

صارت من المسائل المختلف فيها بين المسلمين، فمثل العز بن عبد السلام من أكبر

علماء الشافعية وكان يلقب بسلطان العلماء، وابن تيمية من أكبر علماء الحنابلة،

يقولان بعدم مشروعية الذكر بالأسماء المفردة، وناهيك بسعة علمهما بالكتاب

والسنة، وقد شهد العلماء لكل منهما بالاجتهاد المطلق. ويقول غير واحد

كالذين ذكر السائل أسماءهم: إنه مشروع، فيجب أن يرد هذا الخلاف إلى الكتاب

والسنة لا أن يقال: إن كلام عز الدين مردود بكلام الغمري مثلاً.

السنة النبوية هي البيان الأجلى لكتاب الله تعالى، ولم نر في كتب الناقلين لها

من الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم المعتبرة؛ أن للنبي صلى الله عليه وسلم

وأصحابه كانوا يذكرون الله تعالى بالأسماء المفردة، كما يفعل أهل الطريق الله الله

الله أو هو هو هو (إن صح أن هذا اسم) ، أو حق حق حق، فهل يعقل أن يترك

النبي صلى الله عليه وسلم هذه العبادة إذا فهم أنها مرادة لله تعالى من إطلاق الذكر

في بعض الآيات، وأن يتركها أصحابه رضي الله عنهم إذا فهموا ذلك أو رأوا

النبي صلى الله عليه وسلم فعله؟ أم يصح أن تكون هذه عبادة قد مضت بها سنتهم

ولم ينقلها أحد من الرواة؟ ثم إننا روينا من أحاديث الأذكار الكثير الطيب؛ كالتوحيد

والتسبيح والتجميد والتكبير والاستغفار، ولم نرو فيها أمرًا بقول الله الله، أو حي

حي باللفظ المفرد.

أما حديث إذا قال العبد الله

إلخ الذي نقله عن كتاب الأنوار، فهو لا يصح

ولا يحتج به بل هو موضوع، وأما حديث: (لا تقوم الساعة

إلخ) ، فقد

رويناه عن مسلم في صحيحه من حديث أنس، وكذا عن أحمد في مسنده والحاكم

وابن حبان وغيرهم، وكان ينبغي للسائل عزوه إلى صحيح مسلم، وعبد بن حميد

من شيوخ مسلم، وقد رواه من طريق حماد عن ثابت عن أنس بلفظ (لا تقوم

الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله) ، ومن طريق معمر عن ثابت عنه بلفظ:

(لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله) ، ورواه عبد بن حميد وابن حبان عنه

بلفظ: (على أحد يقول لا إله إلا الله) ، وكذا ابن جرير والخطيب وزادا (ويأمر

بالمعروف وينهى عن المنكر) ؛ والظاهر أن المراد من الرواية الأولى ما هو

بمعنى الثانية أي: لا أحد يذكر الله وحده في إسناد الأمور إليه؛ بل يكون الناس

كلهم ملحدين أو مشركين، وهذا ما صح في الأحاديث عند البخاري ومسلم وغيرهما،

والرواية وردت برفع لفظ الجلالة لا بسكونه، واللفظ في العربية لا يكون مرفوعًا

ولا منصوبًا ولا مجرورًا إلا في الكلام المركب، وقد ذكر علماء البلاغة نكت حذف

المسند والمسند إليه من الكلام، والعمدة فيها كلها القرينة المبينة للمراد، وقد وقع

الحذف في القرآن كثيرًا، كقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ

لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25) أي خلقهن الله، وقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي

جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا

لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام: 91)

أي قل الله أنزله أي: كتاب موسى إن لم يقولوه، ولو علمنا ما كان يحتف بالحديث

من قرائن الأقوال والأحوال لجزمنا بالمحذوف كما نجزم به في الآيتين، ولكننا

نقدره، ولم نطلع على تلك القرائن بما يتفق مع رواية على أحد يقول لا إله إلا الله

وروايات غلبة الشرك والكفر على الناس الذين تقوم عليهم الساعة، فنقول المعنى

لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله فعل كذا، الله قدر كذا، ولا يظهر إرادة النطق

بلفظ الجلالة مفردًا، فإن المشركين والملاحدة يذكرون الاسم الشريف بمناسبات

كثيرة.

_________

ص: 99

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسئلة من الهند

(س5 11) من صاحب الإمضاء:

سيدي رأيت في حاشية كتاب العلو لابن قدامة المطبوع في مطبعة المنارالأغر

على القصة المروية عن عبد الله بن رواحة مع امرأته رضي الله عنها حيث رأته

مع جارية له قد نال منها، فلامته فجحدها، فقالت له: إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن،

فإن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال: شهدت

الأبيات، فقالت: آمنت بالله وكذبت

بصري، وكانت لا تحفظ القرآن. كلامًا ما نصه: لا شك عندي في أن الرواية في

هذه المسألة موضوعة

إلخ. مع أن الحافظ ابن عبد البر قال في الاستيعاب (كما

ذكر ذلك ابن القيم في الجيوش الإسلامية وأقره) : رويناها (يعني القصة) من

وجوه صحاح، فالمسئول إيضاح الصواب.

قوله صلى الله عليه وسلم كل قرض جر نفعًا هو ربا ما هو تفصيل هذا النفع،

ويفعل الغواصون عندنا أمرًا هو أن صحاب السفينة يقرض الذين يغوصون معه

في سفينته؛ بشرط أن لا يغوصوا مع غيره، وأمرين آخرين (وهما وإن لم يكونا

من باب القرض، لكن نحتاج إلى بيان الحكم فيهما) الأول: أن يبيع صاحب

السفينة من أحد رفقائه سلعة بثمن إلى أجل، على أن يغوص معه في سفينته،

والثاني: هو أن يبيع رجل من آخر صاحب سفينة سلعة بثمن إلى أجل، على أن

يأتي إليه بلؤلؤ ليشتريه، فإذا جاء إليه به (بعد الغوص) فهو بالخيار، إن

تراضيا على ثمن حينئذ باعه منه وإن لم يتراضيا باعه صاحبه حيث شاء، وأدى

ذلك الطلب الذي عليه إلى المذكور، فهل هذه الصورة من صور الرهن؟ وهل

يحرم شيء من ذلك؟ .

ما هي ضربة الغائص المحرمة شرعًا، هل هي كل غوصه، ويفعل

الغواصون عندنا أمرًا؛ هو أن صاحب السفينة يستأجر من يغوص له مدة معلومة (

لا مرات معلومة) بأجرة معلومة، فهل ذلك جائز أم لا، وما العلة في تحريم

ضربة الغائص، هل هي جهالة اللؤلؤ الذي في الصدف أم ما هي أرجوك الجواب

بما يبين به الصواب، وبيان الدليل بما يشفي العليل، أثابكم الله، داعيكم حرر هذه

السطور بطريق الاستعجال، فأرجوكم السماح وغض الطرف، وعلى كل حال

فلسيدي إصلاح ما وقع من خطأ إن كان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

...

... داعيكم

...

...

...

...

عبد الصمد الوهبي

* * *

(قصة عبد الله بن رواحة مع امرأته)

(ج5) إن العبارة التي قلتها ظاهرة في أنها إبداء رأي مني لا نقل عن

المحدثين، وقد بنيت هذا النقل على أصول الدراية، لا على نقد أسانيد تلك الرواية،

فإنني لم أطلع على إسناد ابن عبد البر لهذه القصة، وقد رأيت ما نقله ابن القيم

عن الاستيعاب في الاستيعاب نفسه، ولم يغير رأيي في القصة، وإنني أعلم أنه

ليس كل ما صحح بعض المحدثين سنده يكون صحيحًا في نفسه أو متفقًا على تعديل

رجاله، فكأين من رواية صحح بعضهم سندها، وقال بعضهم بوضعها لعلّة في

متنها أو في سندها، والجرح مقدم على التعديل بشرطه، وقد ذكروا من علامات

الوضع ما ردوا به بعض الروايات الصحيحة الإسناد؛ كرواية مسلم في صلاة

الكسوف بثلاث ركوعات وثلاث سجودات، وروايته في حديث (خلق الله التربة يوم

السبت) ؛ لأن الأولى مخالفة للروايات الصحيحة التي جرى عليها العمل، والثانية

مخالفة للقرآن.

من العبرة في هذا الباب حديث علي كرم الله وجهه في كون النبي صلى الله

عليه وسلم ما كان يقرأ القرآن جنبًا، صححه الترمذي وابن حبان وابن السكن

والبغوي وغيرهم، وقال الشافعي: أهل الحديث لا يثبتونه، وقال الخطابي: كان

أحمد يوهن هذا الحديث، وقال النووي: خالف الترمذي، أما الأكثرون فضعفوا

هذا الحديث، وعلته من عبد الله بن سلمة راويه، حكى البخاري عن عمرو بن مرة

الراوي له عنه أنه قال: كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر، وقال البيهقي

في قول الشافعي الذي ذكرناه آنفًا: إنما قال ذلك لأن عبد الله بن سلمة راويه

كان قد تغير، وإنما روى هذا الحديث بعدما كبر، قاله شعبة.

ومما يدلك على أن تصحيح ابن عبد البر لتلك القصة لم يعتد به جماهير

العلماء؛ عدم ذكرهم إياه في بحث تحريم القراءة على الجنب، حتى صرح بعض

المحدثين والفقهاء بأن أقوى ما روي في هذا الباب حديث علي الذي أشرنا إليه آنفًا،

والقصة تدل على أن هذا كان معروفًا مستفيضًا بين الصحابة، يعرفه النساء

والرجال، وما كان كذلك تكثر الروايات الصحيحة فيه. والمعروف الذي تداولوه

وبحثوا فيه حديث علي وقد علمت ما فيه، وحديث ابن عمر مرفوعًا: (لا يقرأ

الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وهو ضعيف

، وفي المعنى حديث جابر مرفوعا:(لا يقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئًا)

، رواه الدارقطني وهو واهٍ أو موضوع، وأقوى ما في الباب من الآثار ما صح

عن عمر بن الخطاب أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب.

لم يذكر الحافظ ابن حجر قصة عبد الله بن رواحة في ترجمته من كتابه

(الإصابة) ، وهي في كنز العمال تختلف عما في الاستيعاب، فقد عزاها إلى ابن

عساكر من رواية عكرمة مولى ابن عباس؛ وفيه أن امرأة عبد الله لما رأته مع

الجارية رجعت، وأخذت الشفرة فلقيها، فقالت: لو وجدتك حيث كنت لوجأتك بها (

أي بالشفرة) فأنكر أنه كان مع الجارية، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه

وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب، فقالت: اقرأه، فقال:

أتانا رسول الله يتلو كتابه

كما لاح مشهور من الصبح ساطع

أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا

به موقنات أن ما قال واقع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا اشتغلت بالكافرين المضاجع

قالت: آمنت بالله وكذبت بصري، قال عبد الله بن رواحة: فغدوت على

النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك، حتى بدت نواجذه، وكأن السيوطي

رجح هذه الرواية على اعترافه بضعفها على رواية ابن عبد البر فاقتصر عليها،

ويعلم السائل أن ابن قدامة أورد رواية أخرى في المسألة، وفيها أنه لما أنكر على

امرأته، قالت له: اقرأ القرآن؛ فأنشد:

شهدت بإذن الله أن محمدًا

رسول الذي فوق السماوات من عل

وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما

له عمل من ربه متقبل

وقد روى هذه الرواية من طريق أبي بكر بن شيبة عن أسامة عن نافع، وسنده

إليه ضعيف، فقد طعنوا في عبد العزيز الكناني وشيخه عبد الرحمن بن عثمان

وقالوا في شيخه عمه محمد بن القاسم: إنه قد اتهم في إكثاره عن أبي بكر أحمد بن

علي، فهذه ثلاث روايات في الشعر الذي قيل: إن عبد الله بن رواحة أنشده،

الثالثة منها ما أورده ابن عبد البر وهي:

شهدت بأن وعد الله حق

وإن النار مسرى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش رب العالمينا

ولم يستدل الفقهاء بشيء منها على تحريم التلاوة على الجنب على أنها

أصرح شيء فيه، وما ذلك إلا لعدم اعتمادها أو وضعها.

أما وجه حكمي بوضعها فهو ما فيها من نسبة تعمد الكذب من صحابي من

الأنصار الأولين الصادقين الصالحين، وتسميته الشعر قرآنًا أي نسبته إلى الله عز

وجل القائل فيه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِر} (الحاقة: 41) وإقرار النبي صلى

الله عليه وسلم له على ذلك بالضحك الدال على الاستحسان، كما صرح به في

بعض الروايات، وقد صرح العلماء بأن من نسب إلى القرآن ما ليس منه كان

مرتدًّا.

* * *

(حديث كل قرض جر نفعًا)

(ج6)(حديث كل قرض جر نفعًا فهو ربا) ضعيف، بل قال الفيروزآبادي:

إنه موضوع ولا عبرة بأخذ كثير من الفقهاء به، كما قال المحدثون وهم أهل هذا

الشأن، وقد بينا ذلك في ص362 وما بعدها من مجلد المنار العاشر في سياق

الفتوى في أمانات المصارف (البنوك) ، والنفع عندهم عام يشمل العين والمنفعة،

ولا يحرم إلا إذا اشترط في العقد، وقد بينا هناك في المنار جواز أن يؤدي المدين

أفضل مما أخذ.

* * *

(القرض بالشرط الفاسد)

(ج7) من أقرض الغواصين بشرط أن لا يغوصوا مع غيره، كان هذا

الشرط فاسدًا، فإنهم إذا لم يغوصوا معه لا يلزمهم إلا وفاء الدين، بل الظاهر أن

هذا وعد لا شرط، والوعد يجب الوفاء به ديانة لا قضاء عند جماهير الفقهاء، أي أن

الحاكم لا يجبر الواعد أن يفي بوعده، ولا يحكم للموعود بأن الموعود به حق له.

* * *

(البيع بشرط عمل أجنبي عن العقد)

(ج8) إذا باع صاحب السفينة للغواص سلعة بثمن مؤجل بشرط أن يغوص

معه فجماهير الفقهاء لا يعتدون بهذا الشرط، والقول فيه كالقول في مثله في المسألة

السابقة أي أن قبول المشتري له عبارة عن وعد منه، وهو لا يجب عليه للبائع

غير الثمن المسمى غاص مع غيره أم لا، نعم.. إنه يجب عليه الوفاء بالوعد ولا

سيما لمن تمتع بماله بهذا القصد.

(ج9) ومثل هذه المسألة ما بعدها؛ وهو أن يبيعه سلعة بثمن إلى أجل

على أن يأتيه بلؤلؤ ليشتريه منه بالتراضي، فإن لم يتراضوا باع لؤلؤه حيث شاء،

وأدى الثمن، وليس هذا من الرهن في شيء، فللمشتري أن يتصرف في السلعة

ويستهلكها، وليس عليه غير ثمنها إلا الوفاء بوعده ديانة.

* * *

(ضربة الغائص)

(ج10) ضربة الغائص التي ورد النهي عنها؛ هي أن يقول الغائص

للتاجر مثلاً: أغوص لك في البحر غوصة، فما أخرجته فهو لك بكذا، قالوا وقد

نهي عنه لما فيه من الغرر؛ ولأنه من بيع المجهول وهو يشبه القمار وهو غير

جائز، ومثله ضربة القانص - أي الصائد - يرمي شبكته في البحر مرة بكذا درهمًا،

والحديث في النهي عن ضربة الغائص ضعيف، رواه أحمد وابن ماجه والبزار

والدارقطني عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد قال: (نهى النبي صلى الله عليه

وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها إلا

بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء

الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص) ؛ وشهر بن حوشب مختلف فيه،

حسن البخاري حديثه، وقال ابن عدي: شهر ممن لا يحتج به ولا يتدين بحديثه.

وقد صرح الحافظ ابن حجر بضعف سند الحديث، ولكنهم قووا متنه بالأحاديث

الصحيحة في النهي عن بيع الغرر.

* * *

(استئجار الغواصين)

(ج11) استئجار الغواص للغوص مدة معلومة أو مرات معدودة جائز؛ لأن

كلا منهما استئجار لعمل معين بأجرة معلومة، والفرق بين ضربة الغائص

والاستئجار للغوص، أن الغواص في الحالة الأولى يبيع شيئًا مجهولاً لا يملكه،

وفي الحالة الثانية يعمل عملاً بأجرة، وليست الأجرة للغوص عدة مرات جائزة

لأجل تعدد المرات، ولا ضربة الغائص ممنوعة لأنها مرة واحدة، بل لما ذكرنا

من الفرق فالضربة والضربات سواء في ذلك البيع وفي هذه الإجارة، والأجير

يستحق الأجرة بمجرد العقد كما صرح به الحنابلة، ويجوز تأخيره بالتراضي،

ولأصحاب الأموال وأصحاب السفن الذين يقرضون الغواصين بتلك الشروط التي لا

علاقة لها بالقرض، ولا تقيم المحاكم لها وزنًا أن يستأجروهم للغوص قبل وقته،

ويعطوهم الأجرة كلها أو بعضها عند العقد أو بعده وقبل زمن الغوص بحسب

الحاجة، فهذه أمثل الطرق إن كانوا يخافون غدرهم وعدم وفائهم. وأما الذين

يقرضون المال لأجل أن يشتروا اللؤلؤ في موسمه، فخير لهم أن يطبقوا معاملتهم

على قواعد السلم إن أمكن.

هذا ما ظهر لنا في أجوبة هذه المسائل بناء على قواعد الفقه المشهورة المبنية

على المعاملات القضائية، وأشرنا إلى أن المتدينين يتعاملون فيما بينهم بالصدق

والوفاء بالوعود، فهم لا يختلفون إذا كان ما تعاقدوا أو تعاهدوا عليه صريحًا

مرضيًّا بينهم، وقد ثبت في الكتاب والسنة وجوب الوفاء بالعقود التي يتعاقد الناس

عليها برضاهم، وعمل المسلمين بشروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً،

والمحرم في العقود هو الغش والخداع والغرر وكل حيلة يأكل بها الإنسان مال

الآخر بالباطل، وقد شدد بعض الفقهاء كالحنفية في العقود والشروط، ووسع فيها

بعض الحنابلة وفقهاء الحديث، والذي حققه ابن تيمية بالدلائل القوية هو أن كل

عقد وكل شرط لا يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو

جائز، والوفاء به واجب سواء اقتضاه العقد أم لا، وهذا ما نراه ولا نحب أن نطيل

في المنار في مسائل المعاملات الفقهية؛ لأن غرضنا مما ننشره من الأحكام العلمية

في باب الفتاوى وغيره، هو بيان عدل شريعتنا وموافقتها لمصالح الناس في كل

زمان ومكان للرد على الطاعنين فيها وتمكين عقائد الجاهلين من أهلها، وبيان

المسائل الدينية المحضة وحكمها للعلة المذكورة آنفًا.

_________

ص: 103

الكاتب: محمد رشيد رضا

المسلمون والقبط

(1)

إنما بقاء الأمم والملل بمقوماتها التي تمتاز بها عن غيرها، فإذا قصر أفرادها

في التماسك والاعتصام بالمحافظة على تلك المقومات وما يتبعها من المشخصات،

زالت الأمة أو الملة بانقراض أهلها أو اندغامهم في أمة أخرى.

مضت سنة الله في البشر بمحافظة كل قوم على مقوماتهم ومشخصاتهم

وحرصهم عليها بقدر ارتقائهم في حياتهم الاجتماعية، فالأمة الحية المستقلة لا تتبع

أمة أخرى، ولا تقلدها في دينها ولا عاداتها ولا تقاليدها، ومثلها في ذلك كمثل

الأفراد، فالعالم المستقل لا يتقلد رأي غيره وإن كان مثله أو أعلم منه، وإنما يعمل

بما يظهر له أنه الصواب لا بما يظهر لغيره.

يتعصب بعض الشعوب لما هم عليه، وإن ثبت لهم أن المخالف لهم فيه أولى

بالصواب وأجدر بالاتباع، كما يتعصب الإنكليز لمقاييسهم ويأبون اتباع الفرنسيين

وغيرهم في المقاييس العشرية التي هي خير منها، فإذا ثبت لهم أن ما هم عليه

ضار بهم أو مقدم لغيرهم عليهم، تبدلوا به غيره بالتدريج البطيء لكيلا تتزلزل

مقومات الأمة أو مشخصاتها، فيضعف تماسكها وتشعر بعلو غيرها عليها.

كان المكونون للأمم يراعون هذه السنن فيها، حتى إن رؤساء النصارى لما

أرادوا فصل أتباع المصلح العظيم لليهودية (عيسى عليه السلام من قومه اليهود،

تركوا من تعاليم الناموس (التوراة) ما أقره المسيح، ولم ينقضه كالراحة في يوم

السبت والامتناع عن عمل الدنيا فيه، واستبدلوا به يوم الأحد بغير أمر من المسيح

ولا من حواريه، ووضعوا لهم غير ذلك من العبادات والأعياد، حتى صارت ملتهم

من أبعد الملل عن اليهودية، كذلك فعل المصلح الأعظم خاتم النبيين (صلى الله

عليه وعليهم أجمعين) بما كان يأمر به من مخالفة أهل الكتاب وغيرهم في عاداتهم

وتقاليدهم زائدًا ذلك عما جاء به الوحي من الإصلاح في أصول دين الله وفروعه،

والحكمة في ذلك تكون الأمة وامتيازها بما تكون به قدوة لغيرها لا تابعة مقلدة.

كذلك مضت سنة الله في البشر بتقليد الضعيف للقوي وتشبهه به فيما يسهل

التقليد، والتشبه فيه سواء ذلك في الأفراد والأمم، وإنما السنة فيه أن يكون

بالتدريج والانتقال من محقرات الأمور كالأزياء والعادات إلى ما فوقها، حتى ينتهي

بأعظم المقومات التي بها التمايز كاللغات والمذاهب والأديان، ولولا التعارض بين

داعيتي التقليد والاستقلال، لكان أمر البشر على غير ما نعهد الآن، فإما أن يكون

كل منهم مقلدًا لمن قبله فيكونون كالأنعام، وإما أن يكون كل منهم مستقلاً في كل

شيء، فلا يكادون يشتركون في شيء يجمع بينهم، ويرى بعض الحكماء أنه يجب

التأليف بين جميع البشر واتحادهم، وما هذا بالذي يتم، وغاية ما يرجى من الكمال

أن يتعارفوا ولا يتناكروا في اختلافهم كما أرشد القرآن.

كان أمر الناس في الزمان الماضي متروكًا إلى طبيعة الاجتماع، تعمل عملها

بسنن الله تعالى فيهم، وهم لا يشعرون بسيرها، فيساعدوها عليه أو يقاوموها فيه

بالطرق العلمية إلا ما كان من الحروب التي توقد نيرانها مطامع الأقوياء، وقد

اتسع نطاق علم الاجتماع في هذا العصر، فصارت الأمم العالمة المتحدة تفضل قوة

العلم على قوة السلاح في محاربة الأمم الجاهلة المتخاذلة، فتسطو على مقوماتها

ومشخصاتها من الدين واللغة والتقاليد والعادات فتزلزلها، وتزيل ثقتها بها بالتدريج،

وتزين لها أن تتبدل بها ما تخيل إليها أنه خير منه، فتزيدها بذلك ضعفًا ومرضًا

حتى تكون حرضًا أو تكون من الهالكين، إما بالاستبعاد وذهاب الاستقلال، وإما

بالاندغام والاضحلال.

هذا هو السبب في بث الإفرنج دعاة دينهم، وفي بنائهم المدارس في البلاد

الإسلامية وغيرها، وفي اتخاذهم الوسائل إلى بث لغاتهم وآرائهم وعاداتهم في

مدارسنا، حتى صارت نفوس نابتتنا في البلاد المقلدة لمدينتهم في تصرف الأساتذة

من الافرنج والمتفرنجين، ينقشون فيها من الأفكار، ويطبعون فيها من الملكات ما

يغير نظام الاجتماع في بلادنا، ويجذب أموالها وميولها إليهم حتى يكون أهلها عالة

عليهم أو خدمًا لهم في كل شيء، إلى أن تصير ملكًا خالصًا لهم في الحقيقة دون

الاسم أو في الأمرين معًا، وقد صرح لورد كرومر في بعض تقاريره عن مصر

بأن الغرض من مدارس الحكومة فيها فرنجة المصريين، فهل اعتبر بهذا القول أحد

من القارئين، أو نبه عليه أحد من السياسيين؟ وهو الذي ترتب عليه تقليد

حكوماتنا لأوربا بغير اجتهاد ولا استقلال.

لا أقول ما قلته ذمًا في الافرنج بل مدحًا لهم؛ فإن هذه الطريقة هي أرقى ما

وصل إليه البشر في الفتح والاستعمار، واستيلاء الأقوياء على الضعفاء الذي هو

من سنن الاجتماع، فلهم في شرع العمران والفلسفة أن يجدوا ويجتهدوا في جذب

جميع الأمم إلي دينهم ولغاتهم وعاداتهم، وفي تسخيرها لخدمتهم ومنافعهم، وإنما

يمكن أن تلومهم الفلسفة أنهم لا يرضون أن يساووا هؤلاء المجذوبين بأنفسهم، ولا

أن يرقوهم إلى درجتهم، فالشرقي عندهم لا يمكن أن يساوي الغربي وإن اتبعه هذا

في دينه ولغته وعاداته، والإسلام يفضلهم في هذه المسالة، فهو قد سبقهم إلى تلك

الطريقة السلمية في جذب الناس إليه مع تقرير المساواة التامة بين المنجذبين إليه

الداخلين فيه، لا فرق بين الملك العظيم كجبلة بن الأيهم والصعلوك الفقير. ولا

بين السيد الشريف الفاتح كخالد بن الوليد وبين العتيق الأسود كبلال الحبشي، بل

الإسلام يساوي بين المسلم وغير المسلم في الحقوق، كما ساوى أعدل أمرائه عمر

بن الخطاب بين أكبر سيد فيه علي بن أبي طالب وبين رجل من آحاد اليهود،

والانكليزي لا يساوي الهندي بنفسه، ولا الفرنسي يساوي الجزائري بنفسه، بل

ميزوا أنفسهم علينا في عقر ديارنا وأرقى حكومتنا.

الإفرنج أرقى منا في العلم والمدنية، فنحن في حاجة إلي أخذ الفنون

والصناعات منهم بالاجتهاد والاستقلال، مع المحافظة على مقوماتنا الملية والقومية

التي تحول دون فنائنا فيهم. ولكننا لم نأخذ منهم شيئًا مما نحتاج إليه بالشرط الذي

بيناه، وإنما سرى إلينا ما سرى منهم بالتقليد لا بالاستقلال؛ لذلك كان سببًا لضعف

استقلالنا أو ذهابه لا لرسوخه وثباته، اللهم إلا ما اقتبسته دولتنا العثمانية من فنون

الحرب، فلها استقلال واجتهاد ما فيه، لعلمها بتوقف حياتها عليه، ولم يكن استقلالها

فيه تامًّا؛ لأنها لا تزال عالة عليهم حتى في تعليم الجند، فما بالك بصنع الأسلحة

والآلات والبوارج والمدرعات، ولو تواطأت دول أوربا على منع بيع

السلاح وآلات الحرب للدولة لقضين على قوتها بغير مقارعة ولا مكافحة.

من آية استقلال الأمة فيما تأخذه عن غيرها، وما تدعه من عاداتها التي هي

عرضه لها، أن يكون ذلك رأي زعمائها وعمل جمعياتها، باسم الأمة ولمصلحتها

العامة، ولسنا معاشر المسلمين على شيء من هذا الاستقلال، بل نحن مقلدون

للأفرنج حتى فيما نحسب أننا نهرب به من سيطرتهم؛ كالدعوة الوطنية التي كان

الخسار فيها علينا والربح لغيرنا، ومن الشواهد المحسوسه على ما ذكرنا من

المقدمات ما يسمونه اليوم بالمسألة القبطية في مصر.

***

سكان القطر المصري اثنا عشر مليونًا منهم أحد عشر مليونًا ونيف من

المسلمين، ويزيد عدد القبط فيه عن نصف مليون والباقي من سائر الشعوب والملل،

ودخل بعض القبط في حماية الدول الأجنبية، فلم يعد لهم من الحقوق ولا عليهم

من التكاليف مثل ما للوطنيين وعليهم، والمشهور أن نسبة القبط إلى المسلمين في

هذا القطر هي نسبة ستة إلى مئة.

في هذه الفئة القليلة من الحياة الملية ما ليس في تلك الفئة الكثير العدد،

صاحبة الحق في الملك والسؤدد؛ لأن الحاكم العام منهم، وهو صاحب التصرف

المطلق في إدارة بلادهم التابعة في السياسة والسلطة لخليفتهم، ولغة الحكومة والأمة

هي لغة دينهم، ولم تغن عنها كثرتهم، ولا سلطتهم، ولا شكل حكومتهم، ولا

تبعيتهم لخليفتهم من شيء لما قامت القبط تنازعهم ما في أيديهم، فتنزعه شيئًا بعد

شيء على سنة الكون ونظام الاجتماع، فما أجدر القبط في سيرتهم هذه بالفخر

والإعجاب.

ليس لمسلمي مصر جمعيات دينية محضة ولا مجلس ملي إسلامي كما للقبط

وغيرهم، ليس لهم أندية إسلامية خاصة بهم من حيث هم مسلمون، ليس لهم

جرائد ولا مجلات دينية محضة كجرائد غيرهم ومجلاتهم، لا يوجد فيهم أفراد ولا

جماعات ينظرون في أمورهم الاجتماعية ونسبتهم فيها إلى غيرهم، ويعملون عملاً

ما لمسابقة غيرهم أو مزاحمته في أعمال الحكومة أو الأعمال المالية أو الأدبية،

الجرائد السياسية لغير المسلمين تروج عند المسلمين، وجرائد المسلمين لا تروج

عند القبط. والمسلمون يعلمون ذلك ولا تحركهم نعرة عصبية، ولا غيرة ملية،

وما ذلك إلا من بقايا ما ورثوا من أخلاق دينهم من صفاء القلب والتساهل.

أما القبط فإنهم يعملون كل شيء للقبط باسم القبط، ويعبرون عن أنفسهم بالأمة

القبطية، ويسمون البلاد المصرية بلادهم وبلاد آبائهم وأجدادهم، ولهم مجلس ملي

وجمعيات وأندية وجرائد ومجلات قبطية محضة، ويطلبون ما يطلبون من

المناصب والأعمال في الحكومة للقبط باسم القبط على أنها حق للقبط من حيث إنهم

قبط، ويتعاونون في جميع مصالح الحكومة، فيفضل القبطي أخاه القبطي على

غيره، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، ولا شيء عند المسلمين من هذا التعاون

والتكافل، على أن البلاد بلادهم وليس للقبط فيها مزية على غيرهم من النصارى

واليهود إلا بتمييز المسلمين لهم، ثم إنهم يتهمون المسلمين بالتعصب الذميم

والتحامل وهضم حقوقهم، فمرحى للقبط المتعاونين، ويا حسرة على المسلمين

المتخاذلين.

إن معظم أعمال الحكومة المصرية ومصالحها في أيدي القبط، ولا يمتاز

المسلمون عليهم إلا بقليل من المناصب الرئيسية التي لا حظ لهم منها غير الفخفخة

والتحلي بكساوى التشريف والأوسمة، فالمديرون على قلتهم من المسلمين وكثيرًا ما

يكونون من غير الأكفاء المختبرين، وينقلون من مديرية إلى أخرى، ورؤساء

الكتاب وأكثر العمال الذين تحت أيديهم من القبط ثابتون في أعمالهم عارفون

بقوادمها وخوافيها، متكافلون في الاستئثار بها؛ ولذلك يكون أكثر المديرين آلات

في أيديهم لا يقدر أعلاهم كفاءة أن يخالف رئيس الكتاب القبطي في شيء يريده؛

لأن العمال في المديرية وأكثرهم من القبط يتعصبون حينئذ على المدير، ويعرقلون

أعماله ويوقعونه في المشكلات مع نظارة الداخلية أو نظارة المالية، وينصرهم

إخوانهم في النظارة عليه؛ لأنهم كلهم يد على من عداهم، وعلى هذا القياس

تناصرهم في القضاء وسائر المصالح، ثم إنهم يزعمون مع هذا كله أنهم مظلومون

مهضومون، وأن المسلمين هم المتعصبون الظالمون، فمرحى للقبط المتحدين، ويا

حسرة على المسلمين المتفرقين.

هذا ما كانت عليه الفئة الكثيرة بالعدد القليلة بالتخاذل والغفلة، والفئة القليلة

الكثيرة بالتعاون والوحدة، وهذا هو الذي أطمع القبط في جعل حكومة مصر قبطية

محضة في يوم من الايام، وكان من حسن حظهم أن فتن الباحثون في الأمور العامة

من المسلمين بالسياسة، وجعلوا هجيراهم فيهم دعوة الوطنية، وصاروا يلهجون بهذه

الكلمات: إخواننا القبط، إخواننا القبط، نحن مصريون قبل كل شيء، لا دين في

الوطنية، إنما الدين في المساجد والكنائس، وبلغ من لهجم بالوطنية وإخلاصهم فيها

أن صار بعضهم يقول: لا فرق عندي بين أن يكون الخديوي مسلمًا أو قبطيًا،

وإنما المهم عندي أن يكون مصريًا، وقد سمعت مثل هذه الكلمة من بعض

المدرسين في مدارس الحكومة العالية، فقلت له: وهل تظن فيمن سمحت لهم

عاطفتك الوطنية بعرش الإمارة أن يسمحوا لك بوظيفة (قومسير) في مصلحة سكة

الحديد؟ ؟ أما وسر العقل والبصيرة إنهم لا يسمحون بذلك مختارين، وما هم على

ذلك عندي بملومين، فمرحى للقبط المتعصبين، ويا حسرة على المسلمين

المتساهلين.

***

سبق لي مدح القبط في المنار غير مرة، وتفضيلهم على المسلمين بالتعاون

والتناصر والرابطة الملية، وإن كانوا دون المسلمين في الكفاءة الشخصية إلا التملق

الذي يستميلون به الرؤساء، واتباعهم في ذلك طريق العقل والحزم وسنن الاجتماع

التي أشرنا إليها في فاتحة القول بترك المسلمين بين عامل خامل، وذكي يائس،

ونشيط مغرور شغله الكلام في مقاومة الاحتلال عن كل عمل تقوى به الأمة في

وجه الاحتلال (وهو عندي محصور في التربية الملية والأعمال الاقتصادية، كما

بينت ذلك مرارًا) وتوجيه همتهم في هذه الفرصة إلى التربية القبطية والتعليم،

وتنمية الثروة، والتغلغل في أعمال الحكومة، ولكنني أنكرت عليهم في هاتين

السنتين سيرتهم فرأيتهم قد تركوا ما عهدت فيهم من الهدوء والسكينة، واللين التملق،

وطفقوا يطعنون في جرائدهم طعنًا صريحًا في سلف المسلمين وخلفهم، ودينهم

وآدابهم ولغتهم، فعجبت من هذه الطريقة الجديدة، التي يخشى أن تعلم المسلمين

التعصب والمقاومة، فتكون كرة القبط هي الخاسرة، وصرت أقول في نفسي: ما

عدا مما بدا، وأقدح زناد الفكر لعلي أجد على النار هدى.

ولو صبروا على جدهم وتعاونهم، وتركوا المسلمين في غفلتهم وتخاذلهم،

لنالوا كل ما أملوا، ولساعدوهم باسم الوطنية على ما أرادوا، يريدون أن يثبوا

على الوظائف الإدارية العالية، كما وثبوا في القضاء، يريدون أن تترك الحكومة

العمل في يوم الأحد، يريدون أن تدرس الديانة المسيحية في الكتاتيب والمدارس

كلها، يريدون أن لا يكون للمسلمين في هذه الحكومة مزية ما، كل هذا كان سهلاً

إذا رضوا بسنة التدريج، والمسلمون أنفسهم يساعدونهم على كل ذلك؛ حتى إذا

نالوه سهل عليهم أن يجعلوا الحكومة وقفًا عليهم، ويمنعوا المسلمين منها ألبتة.

أليس بعض كتاب المسلمين يهينون في جرائد الأحزاب القوية كل من يرتقي

من المسلمين إلى منصب عال في الحكومة، ويعدونه خائنًا لوطنه، مشايعًا للإنكليز

فيه، بقدر ما يعظم القبط كبار الموظفين منهم، ويستعينون بهم على سعة نفوذهم في

الحكومة؟

أليس هذا تمهيدًا لنيل القبط هذه البقية القليلة من الوظائف؟ ألم يساعدهم

الوزراء المسلمون على ما طلبوا من تعليم دينهم في مدارس الحكومة (وهو ما لا

نظير له في حكومات الأرض) ؟ بلى، وكذلك يساعدهم المسلمون في فرصة

أخرى على كل ما يطلبون، وإذا هم نالوا بقية الوظائف الرئيسة وتمكنوا بها من

جعل تسعة أعشار الموظفين منهم، يكون لهم الوجه الوجيه في طلب إبطال الأعمال

يوم الأحد دون يوم الجعة، ولا يتجرأ مسلم يومئذ أن يفتح فمًا، أو يحرك قلمًا؛

خوفًا من تهمة التعصب الديني من جهة، ومن تحامل الحكومة القبطية عليه من

جهة أخرى.

هذا ما أقوله معتقدًا له ولا شك فيه عندي، ولذلك عجبت كيف خانهم الصبر،

وفاتهم إدراك هذا الأمر، وحرت في تعليل هذا المسلك الجديد، حتى كان مما خطر

في بالي أنهم ربما كانوا يريدون إحراج المسلمين لإحداث فتنة في البلاد، تكون

وسيلة لإعلان إنكلترا الحماية عليها أو ضمها إلى مستعمراتها، ولم أصدق ما يقوله

بعض الناس من أنهم أحسوا من المسلمين ضعفًا، ووجدوا فرصة لإخراج

أضغانهم، وشفاء غليل حقدهم، ففعلوا ذلك لمجرد اللذة بإيذاء من كان يستثقلون

اسم سيادتهم عليهم، لا أرى هذا القول ولا ذلك الخاطر بالمعقول، وإنما هناك سبب

آخر نشرحه في النبذة التالية، ثم نبين شكل هذه الحكومة الرسمي، وهل للقبط حق

فيها أم لا؟ ثم مسألة يوم الراحة الأسبوعية في الأديان الثلاثة، وما ينبغي أن يكون

عليه الحال في مصر.

(للمقال بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 108

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جماعة الدعوة والإرشاد

" يد الله على الجماعة "(حديث شريف)

النظام الأساسي للجماعة

اخترنا أن نوقع هذا النظام المبارك في ليلة المولد النبوي الشريف (وهي في

الحقيقة تسعة ربيع الأول) ؛ تيمنًا وتفاؤلاً، وأن نذيعه في صبيحة اليوم الذي

يحتفل فيه ليلته بتذكار تلك السعادة أي: 12 ربيع الأول، وقد تأخر هذا الجزء من

المنار، وهو جزء صفر إلى منتصف ربيع، فرأينا أن ننشر هذا النظام فيه.

***

أما أعضاء مجلس الإدارة المؤسسون الذين وقعوه فهم عشرة:

(1)

محمود بك سالم المحامي المشهور الذي كان يصدر مجلة عرفات

باللغة الفرنسية، وهو يعرف عدة لغات غربية، انتخب رئيسًا للجمعية.

(2)

السيد محمد رشيد رضا صاحب هذه المجلة، وقد انتخب وكيلاً

للجمعية وناظرًا لمدرستها الكلية (دار العلم والإرشاد) .

(3)

الشيخ حسين والي المدرس في الجامع الأزهر ومدرسة القضاء

الشرعي، وهو من المؤلفين، وقد انتخب كاتبًا لسر الجمعية.

(4)

محمود بك أنيس من وجهاء مصر، وكبار مزارعيها، وأرباب القلم

فيها، وقد كان يصدر مجلة زراعية، وانتخب أمينًا للصندوق.

(5)

الشيخ أحمد زناتي معاون الديوان الخديوي، وهو من المؤلفين، وكان

ناظر مدرسة العزبة المتمدنة.

(6)

الشيخ عبد الوهاب النجار المحامي الشرعي والمدرس بمدرسة

البوليس.

(7)

محمد أفندي سعودي من موظفي المحكمة الشرعية العليا.

(8)

محمد لبيب بك البتانوني من أدباء مصر ووجهائها، وأرباب القلم فيها.

(9)

الدكتور محمد توفيق صدقي صاحب كتاب الدين في نظر العقل

الصحيح.

(10)

الشيخ محمد المهدي الشهير، الأستاذ في مدرسة القضاء الشرعي.

* * *

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ

وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ

وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 104-105) .

الفصل الأول

(في الجمعية ومقصدها)

(الأصل الأول) تألفت في مصر القاهرة جمعية باسم (جماعة الدعوة

والإرشاد) .

(الأصل الثاني) مقصد هذه الجماعة إنشاء مدرسة كلية باسم: (دار الدعوة

والإرشاد) في مصر القاهرة؛ لتخريج علماء مرشدين قادرين على الدعوة إلى

الإسلام والدفاع عنه، والإرشاد الصحيح، وإرسالهم إلى البلاد الشديدة الحاجة إليهم

على قاعدة تقديم الأهم على المهم.

(الأصل الثالث) يرسل الدعاة إلى البلاد الوثنية والكتابية التي فيها حرية

دينية، ولا يرسلون إلى بلاد الإسلام إلا حيث يدعى المسلمون جهرًا إلى ترك دينهم

والدخول في غيره، مع عدم وجود علماء مرشدين يدفعون الشبهات عن الإسلام

ويبينون حقيقته لأهله.

(الأصل الرابع) لا تشتغل هذه الجماعة بالسياسة مطلقًا، لا بالسياسة

المصرية، ولا بسياسة الدولة العثمانية، ولا بسياسة غيرها من الدول.

***

الفصل الثاني

(في أعضاء الجمعية ومجلس إدارتها وشعبها)

(الأصل الخامس) كل مسلم يبذل للجمعية مقدارًا من المال في كل سنة أو

كل شهر، يكون عضوًا فيها، وأعضاؤها أربعة أقسام: أعضاء مؤسسون وأعضاء

عاملون، وأعضاء معاونون، وأعضاء شرف. فالمؤسسون: هم الموقعون على

هذا النظام، وكل من يدفع للجمعية عشرين جنيهًا مصريًّا فأكثر إلى مدة شهرين من

تاريخ نشر هذا النظام في القطر المصري، ومدة ستة أشهر منها لسائر الأقطار،

والعاملون هم الذين يقومون بالأعمال؛ كجمع المال في اللجان التابعة للمركز العام،

وفي الشعب الخارجية وغير ذلك. والمعاونون: هم الذين يشتركون بالمال فقط.

وأعضاء الشرف: هم الذين ينفعون الجمعية بمالهم أو مكانتهم نفعًا عظيمًا.

(الأصل السادس) يتألف مجلس الإدارة في المركز العام من عشرة أعضاء،

تنتخبهم الهيئة العامة فيما عدا المرة الأولى، وهم ينتخبون من أنفسهم الرئيس

والوكيل وكاتب السر وأمين الصندوق.

(الأصل السابع) ناظر مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) يكون من أعضاء

مجلس الإدارة، وهو الذي يعينه.

(الأصل الثامن) مدة مجلس الإدارة سنتان، وفي المرة الأولى فقط تكون

مدته أربع سنين؛ ليتمكن أعضاؤه المؤسسون من إحكام العمل، وفي نهاية الأربع

الأولى، وكل سنتين بعدها تقترع الهيئة العامة للجماعة على إبقاء خمسة من

الأعضاء مع ناظر المدرسة، وتنتخب بدل الستة الآخرين أو تعيد انتخابهم.

(الأصل التاسع) يجوز أن يكون للجمعية رئيس شرف، ويختاره أعضاء

مجلس الإدارة باتفاق الآراء.

(الأصل العاشر) المركز العام لجماعة الدعوة والإرشاد مدينة القاهرة

عاصمة القطر المصري، ويكون لها شعب في سائر الأقطار الإسلامية، لكل شعبة

منها مجلس إدارة، ولكل من مجلس الإدارة في المركز العام ومجالس الإدارة في

مراكز الشعب أن يؤسس لجانًا في قطره لجمع الإعانات.

(الأصل الحادي عشر) من أعمال مجلس الإدارة في المركز العام.

اختيار المؤسسين للشعب في الخارج والإدارة العامة، واستغلال أموال الجمعية

بالطرق المشروعة. والإنفاق منها في مصارفها، وإدارة مدرستها الكلية، ووضع

الميزانية السنوية، وتعيين العمال وتنفيذ قرارات الهيئة العامة.

(الأصل الثاني عشر) على الشعب جمع الإعانات والاشتراكات المالية

للجمعية، والنظر في شؤون الدعاة والمرشدين الذين يرسلون إلى بلادهم، واختيار

المندوبين لحضور الهيئة العامة السنوية.

(الأصل الثالث عشر) يتألف من الأعضاء المقيمين بالقطر المصري لجنة

من اثنين فأكثر؛ لمراقبة الأعمال المالية.

(الأصل الرابع عشر) تشرف لجنة المراقبة المالية على الدخل والخرج

وتقدم في كل سنة تقريرًا للهيئة العامة بما تراه، ولها حق حضور جلسة مجلس الإدارة

إذا أرادت؛ لمذاكرته فيما يتعلق بعملها، وليس لها حق الرأي والتصويت فيه، وعليها

أن تقدم نسخة من تقريرها إلى رئيس مجلس الإدارة قبل اجتماع الهيئة

العامة بشهر على الأقل، وعليه عرضه على المجلس حالاً.

(الأصل الخامس عشر) أعضاء مجلس الإدارة في المركز العام، يشترط

أن يكونوا من المقيمين في مدينة القاهرة أو ضواحيها.

(الأصل السادس عشر) إذا استقال أحد أعضاء مجلس الإدارة أو خلا مكانه

بسبب ما، فالباقون ينتخبون بدله بالاشتراك مع أعضاء لجنة المراقبة للمدة الباقية

لسلفه.

***

الفصل الثالث

(في الهيئة العامة للجمعية)

(الأصل السابع عشر) تتألف الهيئة العامة من كل عضو يدفع ثلاثة

جنيهات فأكثر كل سنة ومن مندوبي الشعب، وتنعقد بمن يحضر منهم، ورئيسها هو

رئيس مجلس الإدارة، ولمجلس الإدارة أن يدعو رئيس الشرف إلى رياسة الجلسة

العامة، ولأعضاء الشرف الحق في حضورها مع حق الرأي والتصويت كغيرهم.

(الأصل الثامن عشر) تجتمع الهيئة العامة كل سنة بالقاهرة في النصف

الأول من شهر ذي القعدة الحرام، وعلى مجلس الإدارة دعوة الأعضاء إليها بتذاكر

بريدية والإعلان في الجرائد.

(الأصل التاسع عشر) الهيئة العامة رقيبة على مجلس الإدارة، تبحث في

جميع أعماله السنوية وتحاسبه على تطبيقها على النظام الأساسي والنظام الداخلي،

وتنظر في الميزانية وتقرها، وتنتخب أعضاء مجلس الإدارة ولجنة المراقبة المالية،

ولها أن تقرر تعيين أعضاء الشرف.

***

الفصل الرابع

(في أموال الجمعية)

(الأصل العشرون) تتكون أموال الجمعية من الاشتراكات الموقوتة

والإعانات والتبرعات والهدايا والوصايا والأوقاف التي توقف عليها، أو ما تناله

من ريع أوقاف أخرى، ومن ريع رأس مالها.

(الأصل الحادي والعشرون) تودع أموال الجمعية مؤقتًا في مصرف من

المصارف الموثوق بها، ما عدا مقدارًا يقرره مجلس الإدارة، ينفق منه على

الإدارة والمدرسة، يكون بيد أمين الصندوق وطريقة إيداع المال في المصرف

والأخذ منه يبين في النظام الداخلي.

(الأصل الثاني والعشرون) يجب أن يضاف ربع دخل الجمعية السنوي إلى

رأس المال؛ لأجل الاستغلال، وهذا ما عدا المبلغ الاحتياطي الذي يبين في النظام

الداخلي.

(الأصل الثالث والعشرون) ليس لمجلس الإدارة أن يقرض من مال

الجمعية، ولا أن يقترض لها.

***

(أحكام عامة)

(الأصل الرابع والعشرون) تنفذ قرارات مجلس الإدارة والهيئة العامة

بالأكثرية المطلقة، فإن تساوت الآراء رجح من كان معهم الرئيس، ولا رأي لأحد

فيما يخالف نص الشارع.

(الأصل الخامس والعشرون) مجلس الإدارة في المركز العام هو الذي

يضع النظام الداخلي، الذي يبين فيه كل ما يحتاج إليه في تنفيذ النظام

الأساسي.

(الأصل السادس والعشرون) أعضاء مجلس الإدارة متبرعون بأعمالهم ما

عدا ناظر المدرسة.

(الأصل السابع والعشرون) تنشر الجماعة كل سنة كراسة في بيان:

ميزانيتها ومهمات أعمالها، وأسماء الباذلين ومقدار ما بذلوه لها، ومن لا يحب

إظهار اسمه يذكر بلقب (محسن) .

(الأصل الثامن والعشرون) يجوز تعديل ما عدا الفصل الأول من أصول

هذا النظام؛ إذا اتفق على ذلك ثلاثة أرباع أعضاء مجلس الإدارة ولجنة المراقبة،

وأكثر من نصف من يحضر الهيئة العامة من غيرهم.

...

صدر بمصر في 12 ربيع الأول سنة 1329

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 114

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أقوال الجرائد

في الجمعية ومدرستها

(مدرسة التبشير الإسلامي)

كتب الشيخ عبد العزيز شاويش في هدايته تحت هذا العنوان ما نصه:

عز على نفر لم يتح لهم التربع في دسوت المناصب في الحكومة العثمانية أن

لا تكون هذه المناصب وقفًا عليهم، يلونها دون أولئك الذين أهلهم لها ما عهد فيهم

من اختبار تام ونزاهة وافية فضلاً عن خلوص نفوسهم من شائبة الأغراض

وتمسكهم بأهداب الدستور الذي ركبوا في طلبه الأهوال ولم يضنوا عليه بإنفاق

الآجال. عز عليهم أن لا تكون مناصب الدولة وفقًا عليهم يلونه أو تراثًا لهم

يتقاسمونه فنقموا على الدستوريين أنهم أخفقوا سعيًا وأسروا ذلك في نفوسهم ثم

طفقوا يعالجون طلب الوظائف تارة بالدهان والملق وطورًا بالتهديد والوعيد، وقد

فطن رجال الدولة وأرباب الحل والعقد ثمت إلى ما يضمر أولئك النفر فما أجابوا

لهم مطلبًا ولا أنالوهم مأربًا.

عز على أولئك النفر أن يحال بينهم وبين شهواتهم وهالهم أن يفطن إليهم

رجال الدولة فجعلوا يبيتون لها الشر ويضمرون لها الكيد ناسين أو متجاهلين أن

منارها هو منار الإسلام القائم وذمارها ذماره المهيب وحرمها حرمه الممنوع وعلمها

علمه المرفوع.

زين لهم أمثالهم من الرجعيين الذين لا وازع لهم من وجدان أو دين أن يسعوا

في تمزيق شمل الجامعة العثمانية كل ممزق ويتراموا في أحضان أولئك الذين لا

يريدون بدولة الخلافة الإسلامية خيرًا انتقامًا لأنفسهم مما نالهم من الفشل ولو علموا

أنهم بذلك يحاربون الله ورسوله لما نقلوا لتحقيق مأربهم قدمًا ولا أجروا فيه قلما.

أراد أولئك النفر وهم خارجي ورجعي ودعي أن يكيدوا للدولة خلف ستار من

مشروع قبح باطنه بقدر ما حسن ظاهره وهو مشروع (مدرسة التبشير

الإسلامي) .

مرحبًا بالغيورين على الدين وهم أضر عليه من أعدائه؟ مرحبًا بأنصار

الدولة وهم ألدّ خصومها؟ ؟ مرحبًا بالذين أدنفهم الهوى بالخلافة الإسلامية وهم

أعداؤها المستترون؟ ؟

لبس أولئك الجماعة لمشروعهم لبوسه، وظهروا في مظهر من يغارون على

الإسلام، ويعنيهم ألا تقوم للفتنة قائمة، والله يعلم ونفوسهم عليهم تشهد أنهم دعاة

فرقة وفتنة وضلال.

وإلى أولئك النفر اجتماعهم خفية غير مبالين ما تجلب مقاصدهم السافلة من

الخطر على الإسلام، والويل على الدولة المؤيدة بعناية الله وقلوب المسلمين في

جميع بقاع الأرض، ثم أخذوا يهمسون بمشروعهم همسًا، ويعمون على الناس

تعمية، موهمين أنه لا يراد منه إلا أن يخرج للناس مبشرين يبشرون بالدين

الحنيف، والذي نعرفه وإن أنكروه، وقد قلناه قبل اليوم وإن جحدوه؛ إنهم أرادوا

أن يثيروا ثائرة القلوب الضعيفة إيمانها على دولة الخلافة المعتزة بآل عثمان،

ويعينوا الإنجليز على تفسير ذلك الحلم الذي طالما حلموه؛ وهو إقامة خلافة عربية

يختارون لها من يبغون؟ ؟

ذلك ما يبغونه وإن تظاهروا بإنكاره، وقد أراد الله تعالى أن يقرن سعيهم

الخبيث بالفشل الحثيث، ويقتله فكرة في الرؤوس، فما ظهر إلا في نطاق من

الشبه والريب التي لا تدفع. قد راب المسلمين أن يتسارّ من عرفوهم قبل اليوم

خارجًا على الدولة الدستورية، يقلب حسناتها سيئات، ورجعيًا ينتحب على فوات

عهد الاستبداد، وطامعًا لم ينل غرضًا فجعل الدولة غرضًا يصوب إليه السهام فترتد

إلى نحره سراعًا، نعم.. راب المسلمين أن يتسارّ أولئك النفر الذين يعرفون

بسيماهم، وقد أهاب بالأمة داعي الحق منذرًا بما يسعى إليه هؤلاء المفتونون،

محذرًا مما يضمرون ويبيتون، وقد جعلوا بعد أن كشفنا الستار عن مخبآتهم يكتبون

في - صحيفة النفاق - ما يظنونه ردًا علينا، ما هو إلا الخذلان على أنفسهم،

يجلبونه، والخزي على ذواتهم بأيديهم يسجلونه، وقد حاولوا أن يستنفروا العرب

المسلمين، ويستعدوهم علينا بدعوى أننا تهمهم جميعًا بالخروج على الدولة، وما

اتهمنا منهم إلا نفرًا في مصر يعرفون أنفسهم كما يعرفهم الناس.

يريدون أن يلقوا في النفوس بذرًا من الكراهية لدولة أعزت الإسلام، وجمعت

أمر المسلمين؛ ليشب المفتونون بهم على البغض لدولة الخلافة المعتزة بآل عثمان -

خلدها الله فيهم - ويتسنى لهم إذ ذاك فيما يزعمون أن يقيموا خليفة عربيًا يقلبه

الانكليز في أيديهم فيتقلب، ويتخذونه آلة لتنفيذ أغراضهم، وما تخفى على أحد تلك

الأغراض.

ثوبوا أيها المضلون إلى رشدكم، وأقبلوا على أنفسكم فحاسبوها، أشرًا تدبروا

للدولة أم خيرًا بها تريدون، وفتنة تلك التي تحاولون أن تثيروها أم هي خدمة

للدولة أنتم مزلفوها، وقربة تتقربون بها إلى خليفة رسول رب العالمين.

فكروا طويلاً أيها المقدمون على ما تجهلون خطره ولا تعرفون ضرره لقد

نقلنا لكم من قبل ما يحيط مشروعكم من الريب والظنون، وقلنا لكم لا ينبغي أن

يكون مثل هذا العمل الذي قدر له اثنا عشر ألفا من الجنيهات بلا كلفة، والذي

تزعمون أنه أعظم خدمة خدم بها الإسلام مما يدبر خلف ستار، ولا أن يكون

القائمون به من خصوم الملة والدولة، ولا أن يسبق الشروع فيه طوافكم ببعض

القصور، ولا أن تأبوا إشراف شيخ الإسلام عليه، ولا أن تنشأ مثل هذه المدرسة؛

لما نعلم من سيئ الأغراض وسافلها. فقلنا لكم ذلك كله، فما خشيتم لله حسابًا، وما

زدتم على أن جعلتم السباب جوابًا.

أتكيدون لدولة الخلافة أيها المضلون هذا الكيد على أعين المسلمين؟ وهل

ضعف إيمانكم ورشدكم إلى حد أن تعملوا على إيقاظ فتنة، وشق وحدة، وتمزيق

كلمة، وتفريق شمل مجموع؟ أليست هي دولة الخلافة تلك التي تحاربونها،

والرابطة العثمانية التي بالتمزيق تريدونها؟

ثم ألا تتقون الله أن تجمعوا على المسلمين كلمة دول الصليب؛ إذ توهمونها

أنكم متعصبون بالمعنى الذي تفهمه الدول لا بالمعنى الصحيح؟

اللهم أرشد بصائر عن سبيل الحق عميت، وألهم السداد قلوبًا إلى ما هو

شر نزغت، وزد المسلمين يقينًا بأن تلك النزغات محاربة لك ولنبيك ودينك

وخلافتك وأمتك، وأفض على الدولة العلية من عنايتك ورعايتك ما يمنعها من كيد

المفرقين وشر المضلين.

***

(وهنا نقل الشيخ شاويش عبارة في المشروع من جريدة الحقيقة البيروتية،

كتبها محرر مصري اغترارًا بما كتبه الشيخ شاويش في جريدة العلم، ولما علم

أصحاب الجريدة بأن جريدة العلم تعني مشروعنا، رجعوا عما كتبوا وأثنوا على

المشروع، وعلموا أن ما كتب في العلم إفك وبهتان. وسيأتي نص ما تنصلت به في

ص129. ثم قال) .

فعلى ما يظهر من هذا المشروع الجديد المستور بسجوف التعمية والدهاء؛ أن

صاحب المؤيد يريد اليوم أن يعمل على تأييد هذه الفكرة وإعلانها في ثوب التبشير

الإسلامي؛ ليتمكن هو وأنصاره من تنفيذ ما بيتوه في ضمائرهم السيئة، وذلك

بإعلان رغائبهم الممقوتة في طول البلاد العربية وعرضها تحت هذا الستار بطلاء

الخبث والحيلة، فينقلب كيان الدولة العلية من آثار التفريق الذي هو بيت قصيد

الخوارج المعروفين في مصر لكثير من الناس.

من في مصر من الأعيان وأصحاب الأموال يقدم على هذا المشروع ويرضى

بالاكتتاب فيه، مع كثرة الشكوك والظنون حوله، وإجماع الناس على أنه ما وضع

إلا لتمزيق الرابطة العثمانية، وتبديل وفاقها شقاقًا، وليجر عليها مالا يرضاه لها

من المغبة كل عثماني تجري في عروقه قطرة من الدم، وكل مسلم في قلبه ذرة من

الإيمان؟

اللهم، إنه لا يدفع مبلغ الاثني عشر ألف ليرة الذي قدر لهذا المشروع

المجهول برنامجه، المجهول رئيسه وأعضاؤه ورجاله العاملون غير (العابد)

وفائق المابينجي ووالخ؛ من رجال الدور السابق الذين تواطنوا مصر في هذه

الأيام الأخيرة، ممن لا يهدأ بالهم ولا يستقر حالهم إلا بالتفكير فيما يكدر سلام الدولة

ويوقعها في هوة المصائب والفتن، فيصطادوا بعد ذلك في الماء العكر، ويحققون

وعدهم لطالب الزعامة المنتظرة! ! !

نحن لا نقول غير ذلك ما دام هؤلاء القوم ينكرون مبادئ مشروعهم،

ويسترون عن الناس أغراضهم وحقيقة مقاصدهم من وضعه، وإلا فما معنى هذا

الكتمان إذا كان حقيقة نافعًا للعالم الإسلامي؟ ولماذا تجهل مقدماته وتغمض أسماء

القائمين به كما يقولون، والأعمال النافعة التي يراد تأييدها ونفع العالم بها، لا

يجوز أن تدغم تفاصيلها، وتطمس عن عيون الناس فوائدها؟ ؟ هذا ما نقوله الآن

ممسكين عن بقية ما لدينا من المعلومات حيت يتبين غث المشروع من سمينه؛ إلخ.

***

(المنار) تبين بهذه المقالة أن ما كتب في جريدة العلم عن هذا المشروع

الجليل، قد كان كله بقلم الشيخ عبد العزيز شاويش، ولا ندري أكتب هذه المقالة

بعد أن بينا له حقيقة المشروع، حتى اضطر إلى النكوص على عقبيه وتكذيب نفسه

في جريدة العلم أم كتبه قبل ذلك البيان، فإن كان كتبها بعد البيان، فهو مُصر على

الإرجاف حسدًا وتملقًا لمن لا يغني عنه من الله شيئًا، ولا يفسر حينئذ رجوعه في

العلم ثم سكوته إلا بإكراه أهل الغيرة الدينية من رجال الحزب الوطني إياه على ذلك،

وقد بلغنا أن هؤلاء قد ضاقوا ذرعًا بقلم شاويش الذي أهان الحزب بسبابه

وشتائمه، وفتح في وجهه أبواب السجون وهم يحبون إخراجه من حزبهم، ولذلك

لم ينتخبوه في هذه السنة لعضوية مجلس إدارة الحزب على طمعه في الرياسة أو ما

يقرب منها.

وإن كان كتبها قبل ذلك البيان، كما نحب أن نرجح تحسينًا للظن، فالواجب

عليه الآن أن يتوب ويتبرأ مما سجله على نفسه في صحيفته، وليتذكر يوم الحساب

إن كان يخاف الله تعالى أن يقول له فيه: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ

حَسِيباً} (الإسراء: 14) بل عليه أن يحاسبها قبل يوم الحساب على الجزم بهذه

الأباطيل التي ظهر بها مبلغ صدقه ورويته، ويكفر عنها بالرجوع إلى الحق

ومساعدته، كما نصحنا له في الجزء الماضي ولا يكونن من المستكبرين.

عني الشيخ عبد العزيز بمقاومة هذا المشروع الإسلامي الأكبر، وفكر في

طرق ذلك وقدر، فكان منتهى شوط ذهنه الوقاد، وفكره النقاد، أن يقضي على

المشروع بمقالة ومقالتين، يجمع فيهما من التهم والشتائم ما ينفر كل أحد من الإقدام

على المشروع فيه، وحينئذ يصدق الناس جميع ما قال، ويكفي الكافرين والمنافقين

أمر المقاومة والجدال.

لو وصل عقل الشيخ عبد العزيز إلى معنى المثل العامي (الذي يكبر الحجر لا

يضرب) واعتبر به لما كتب الذي كتب، فقد بنى كل ما قدره وزوره على شفا جرف

هار، فانهار به في مهواة الخزي والعار، بنى كلامه على اتهام الذين اجتمعوا

للتشاور في تنفيذ المشروع؛ بأنهم كانوا يريدون الاستئثار بمناصب الدولة وجعلها

وقفًا عليهم، وحرمان رجال جمعية الاتحاد والترقي منها، فلما عجزوا عن ذلك

أرادوا الانتقام من الدولة بإسقاطها، وأخذ الخلافة الإسلامية منها وإعطائها للإنكليز

(بخ بخ) ، وقد نبهنا إلى ما في هذا على ظهروه في الجزء الماضي، على أن

الشيخ شاويش قد رجع عن هذه التهمة في جريدة العلم.

ولو تركنا المشروع؛ خوفًا من سعاية الشيخ شاويش وإرجافه لصدق الجمهور

الغافل كلامه وإن كان غير معقول، ولكننا لا نترك ما فرض الله علينا من خدمة

ديننا لمثل ذلك البهتان البديهي البطلان، وإن إظهار أسمائنا كاف لنسف بنيانه،

وهدم أركانه، فإنه لا يوجد فينا أحد يتجرأ الشيخ شاويش أن يقول: إنه خطر في

باله أن يطلب منصبًا من الحكومة العثمانية أو يقبله إذا عرض عليه.

كتب الشيخ عبد العزيز ما كتب، وكانت الجماعة التي تبحث في تنفيذ

المشروع مؤلفة من عشرة رجال من المصريين الأصليين، وأكثرهم من الموظفين

في الحكومة المصرية، ليس فيهم عثماني بحت إلا كاتب هذه السطور، وليس فينا

أحد يعرف اللغة التركية التي هي شرط لنيل أقل خدمة في الحكومة العثمانية، دع

المناصب العالية التي اتهمنا الشيخ شاويش بأننا نريد أن نسلبها من أهلها ونجعلها

وقفًا علينا! ! !

أراد الشيخ شاويش أن يتزلف إلى جمعية الاتحاد والترقي بما كان يتزلف به

أمثاله إلى عبد الحميد من السعاية؛ ظانًا أنهم يقبلون في هذا الموضوع كل تهمة كما

كان يقبل عبد الحميد، وما كان عبد الحميد يصدق كل ما يقبله من تقارير أولئك

الجواسيس، وإنما كان يبني على الاحتياط، فيقبل أقوال الكاذبين على ظهور كذبها؛

رجاء أن يصدقوا في بعض الأحيان، وما عظم الاتحادين من يضعهم موضعه،

ويتجسس ويسعى لهم بمثل ما كان يتجسس ويسعى له، وكيف حاله ومقامه عندهم

وعند سائر العقلاء، وقد ظهر رجال المشروع، وعلم أن عزت العابد وفائق

المابنجي ليسوا منهم، بل كيف حاله بعد هذه الفضيحة في خاصة نفسه، وبينه

وبين ربه.

نذكر الشيخ شاويش بالله؛ لأنه نسب إلى علم الله ما ليس له به علم، فقال في

جماعة المشروع: (والله يعلم ونفوسهم عليهم تشهد؛ أنهم دعاة فرقه وفتنة

وضلال) ، وقال بعد أن زعم أن المشروع قدر له اثنى عشر ألف جنيه: (اللهم،

إنه لا يدفع مبلغ الاثني عشر ألف ليرة الذي قدر لها هذا المشروع المجهول رئيسه

وأعضاؤه ورجاله العاملون غير (العابد) وفائق المابينجي ووالخ) ، وهكذا يذكر اسم

الله ويفتات على علمه، فهل راقبه في ذلك مراقبة المؤمنين الصادقين، قال

الفقهاء: إن إسناد الشيء إلى علم الله تعالى أبلغ من الحلف به، وصرح بعضهم

بأن الكاذب في ذلك يكون مرتدًّا عن الإسلام؛ لأنه نسب الجهل إلى الله تعالى،

فهل علم ذلك الشيخ شاويش وفكر فيه.

يتكلم الشيخ شاويش ويجزم ويدعي أن ما قاله في هؤلاء العاملين هو ما يعلم

الله تعالى، ثم يعترف بأنه لا يعرف أحدًا منهم لا الرئيس ولا الأعضاء، وأنه

استنبط أنهم العابد وفائق استنباطًا؛ لأن عقله لم يستطع أن يتصورأكثر من ذلك،

فيا حسرة على قراء هذا الكاتب الذين يثقون به، كيف يحشوا أذهانهم بالأباطيل

والأكاذيب؟ ! ويا لله العجب، كيف صبر عليه الحزب الوطني إلى هذا اليوم.

***

(ما كتب في مجلة بيان الحق عن المشروع)

(والرد على جريدة العلم)

لما كتب الشيخ شاويش في جريدة العلم ما كتب من الإرجاف بالمشروع وقرأه

طلاب العلم في رواق الترك في الأزهر، كبر على غيرتهم الإسلامية ذلك، فكتب

أحد فضلائهم برأي إخوانه مقالة باللغة التركية، وأرسلها إلى مجلة بيان الحق

الغراء التي تصدرها في الآستانة العلية الجمعية العلمية المؤلفة من خيار علماء

الترك الأعلام في العاصمة وغيرها، فنشرتها وهذه ترجمتها:

(مشروع مهم)

قام في هذه الأمة الإسلامية رجال مصلحون كثيرون أرادوا أن ينقذوها من

الأدواء المادية والأدبية التي أصابتها منذ سنين كثيرة، فكادت تذهب بها إلى

حضيض التدني والانقراض، وقد باشر هؤلاء المصلحون إنفاذ مشروعاتهم بأنفسهم،

ولكنهم أخفقوا في ذلك ولم يثمر غرسهم.

وممن بذل جهده في هذا السبيل المقدس الأستاذ المحترم السيد رشيد رضا

أفندي صاحب (المنار) ، فنجح بمؤازرة كثيرين من رجال الفضل والعقل والدين

في تأسيس جمعية دعوها (جمعية الدعوة والإرشاد) ، وغايتها - كما يظهر في اسمها

أيضا - إنشاء مدرسة كبرى، يتخرج فيها العلماء والواعظون ممن درسوا

علوم الدين خاصة وغيرها من الفنون التي تتطلبها حاجة العصر.

أما قانون الجمعية الأساسي وبرنامج المدرسة فإنهما لم ينشرا بعد، ولكنا علمنا

من مقالات نشرها السيد رشيد أنهم سيقبلون في المدرسة كل مسلم من أقطار

العالم معروف بالصلاح والتقوى، ويرجح من أهل الأقطار مسلمو الصين

وجاوة وأمثالهم من سكان البلاد النائية؛ لأنهم أكثر حاجة للتنور بنور العلم،

والجمعية تضمن لطلاب مدرستها كل ما يحتاجون إليه من مأكل ومشرب ومبيت

وكتب وما أشبه ذلك، كما أنها تعنى بتربيتهم وتهذيب أخلاقهم بما ينطبق على

الآداب الإسلامية، وتقوم بمراقبتهم للمواظبة على العبادات والطاعات بكمال الدقة.

وعلى هذا، فإن المتخرجين في هذه المدرسة سيكون منهم الواعظون

والمربون في البلاد الإسلامية التي عمها الجهل؛ كالصين وجاوة، ودعاة في البلاد

التي عمتها الوثنية، فيدعون أهلها للتدين بدين الإسلام كما يدعون أهل الكتاب في

أوربا وأمريكا إليه؛ عملاً بقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّة} (آل عمران:

104) ؛ إلخ. وقوله جل وعز: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ} (النحل: 125) وقد وقعت فكرة السيد رشيد رضا أفندي وزملائه المحترمين

أحسن وقع في نفوس المسلمين، فارتاحوا لها، وشكروا القائمين بتنفيذها، وقد

بدأت الإعانات والهدايا والاشتراكات ترد عليهم من كل طرف.

ومن الغريب أن هذا المشروع بقدر ما سر المسلمين عامة، قد ساء جريدة

(العلم)، فجاءت بما يهيج أعصابهم في التنفير عنه. يقول أصحاب التجارب:

(إن مصر أم العجائب ومصدر الغرائب) ، وقد علمنا الآن أن هذا القول لم يقل عبثًا

فإن (العلم) وهي جريدة إسلامية في الظاهر، قد خيبت ما كان يظن فيها من

الترحيب بهذا المشروع الخيري؛ الذي يراد به ترقية العالم الإسلامي مادة وأدبًا،

وأخذت تشيع عنه الإشاعات الكاذبة والمفتريات المنوعة؛ لتضل عيون الأمة في

أمور لا يتحملها عقل ولا يقبلها عاقل. من ذلك ما تزعمه من أن القائمين بهذا

المشروع يريدون أن يتذرعوا به لاستقلال العرب وإعادة الخلافة. إلى غير ذلك

مما عزته إليهم، ولو قام رجل منصف لا غرض له، وسأل (جريدة العلم) فيما

لو قيل عن الحزب الوطني: إنه يسعى إلى استقلال العرب، بماذا تبرهن على أن

حزبك لا يسعى إلى ذلك؟ لا ندري بماذا يجيب.

ليقل أصحاب الأهواء الباطلة ما يقولون، فإن الأمة الإسلامية ستختص السيد

رشيد رضا أفندي وزملاءه الغيورين بمكان خاص من قلبها؛ ما داموا باذلين

لجهدهم في سبيل السعادة والسلام، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم وستزدان صحف

التاريخ بأسمائهم، وسيظل العالم الإسلامي مدينا بالشكر لهم إلى الأبد. والله ولي

التوفيق.

***

(مدرسة الدعوة والإرشاد)

وجاء في جريدة الحضارة المعروفة بلسان الصدق والاعتدال التي تصدر في

الآستانة أيضًا تحت هذا العنوان ما نصه:

يعلم القراء أن العلامة الكبير الأستاذ السيد محمد رشيد رضا، كان قد وفد

على الآستانة؛ ليدل الحكومة الجديدة على أمر كانت قد نسيته الإدارة السابقة؛ هو

تأسيس مدرسة لتخريج رجال جامعين بين العلوم الفنية والعلوم المسماة بالعصرية،

وقد وافقته الحكومة. ولكن بعد إقامتة عامًا تحولت في أثنائه الوزارة، واضطربت

النية، رأى أن مصر خير مجالاً لهذا العمل من الآستانة، فغادرها وقفل إلى مصر

التي هي مطلع مناره الزاهر، وهناك وجد المساعدين الطيبين على هذا العمل،

والآن جاءنا منه هذا البيان العام للنشر، ونرجوا أن ييسر الله له الإتمام عما

قريب.

(المنار: ثم ذكرت الجريدة ما بينا به مقاصد الجمعية ومدرستها في المقالة

الثانية من مقالتي الجزء الماضي) .

***

(قول جريدة الحقيقة البيروتية)

نقل الشيخ الشاويش ما كتب أولاً في جريدة الحقيقة من الإرجاف الذي تابعت

به جريدة العلم تحسينًا للظن بها، ولم ينقل ما كتب فيها بعد أن علمت من صحف

مصر الحقيقة، فرجعت إليها، وهو ما كتبته في آخر نبذة ثانية لها في العدد الذي

صدر منها في 25 المحرم، وإنما لم ننشر نحن طعنها الباطل؛ لأنها كانت

مخدوعه فيه بقول العلم، فلم نحب أن نسجله عليها مع رجوعها عنه، وهذا نص

ما قالته:

(بعد كتابة ما تقدم، وصلنا بريد مصر، فعلمنا عند مطالعة صحفه أن

صاحب مشروع مدرسة التبشير الإسلامي هو حضرة السيد محمد رشيد رضا منشئ

مجلة المنار، وأن ذلك المشروع هو الذي كان يريد حضرته مزاولة عمله في

الآستانة عند سفره إليها في الصيف الماضي، وكنا في مقدمة الذين رحبوا به

واستبشروا منه خيرًا؛ لعلمنا أن الرجل يغارعلى دينه وأمته، فلا مندوحة لنا من

مقابلته بالتهليل والتكبير؛ راجين أن يكون بالصبغة التي عهدناه عليها بعيدًا عن

ظنون جريدة العلم التي تفاءلت به شرًّا؛ عند زيارة صاحب المشروع للوكالة

البريطانية في مصر؛ لعرض الموضوع على السير غورست كما تقول، فلا

نجاريها في هذا التشاؤم؛ إذ ربما يكون غرض السيد رشيد من زيارة الوكالة

البريطانية لماجريات يضطره إليها نظام الحكومة هناك، وعلى كل حال نسأل الله

أن يحقق أمل الأمة في هذا العمل، ويبعد عنا دسائس الأشرار الفجار) .

(المنار) لا بد أن يكون أصحاب الحقيقة قد علموا بعد هذه الكتابة أيضًا؛

أن جريدة العلم لم تتشاءم بالمشروع لما زعمته من ذهابي إلى الوكالة لعرضه على

السير غورست، وإنما كان بهتانًا افتجرته افتجارًا، على أن الحقيقة قالت في هذه

المسألة نحوًا مما يقوله، بل ما قاله العقلاء هنا: وهو أن إعلام العميد بمثل هذا

المشروع من مؤسسة أحسن عاقبة من علمه به من قبل غيره؛ لاحتمال أن يصبغه

أولئك الأغيار بصبغة سياسية، تحمل العميد على مقاومته وليست مقاومته بالأمر

الذي لا يؤبه له.

***

(مدرسة العلم والإرشاد)

وجاء في جريدة (وكيل) الهندية الشهيرة، التي تصدر في (أمر تسر)

في العدد الذي صدر منها في 8 صفر تحت هذا العنوان ما ترجمه.

العلامة السيد محمد رشيد رضا؛ الذي هو التلميذ الشهير للمفتي الأعظم

المرحوم الشيخ محمد عبده، والمصلح العظيم لشتات المسلمين، يريد أن يؤسس

مدرسة عظيمة تكون حاوية لتعليم العلم وحقيقة الإسلام، وبعد التحصيل يرسل

طلابها لإشاعة فرائض الإسلام في أقطار الأرض؛ لهذا أقام حضرته في القسطنطينية

مدة سنة، شاور وباحث في هذا الموضوع كبار أهل الحكومة حتى أجابت الحكومة

التركية مطالبه، ووعدت بإعطاء خمسة آلاف جنيه في العام بشروط:

(أولها) أن يكون اسم الجمعية (انجمن علم وإرشاد) .

(ثانيها) أن تكون المدرسة تحت إدارة شيخ الإسلام.

(ثالثها) أن يكون التعليم فيها بالتركية، ولكن فخامته رد هذه الشروط وما

قبلها؛ لأنه يريد أن تكون الجمعية خالية من سلطة الحكومة، حتى لا تكون مريبة

عند أهل أوربا.

وما دامت تكون الجمعية والمدرسة مشتركة بين جميع المسلمين في الدنيا،

فأحرى أن يكون لسانها التعليمي العربي، وأن تسمى باسم عربي، وسعادته يسعى

الآن في مصر لهذا الموضوع ويجمع نفقاته، واسم المدرسة دعوة العلم والإرشاد

(الصواب دار الدعوة والإرشاد) .

***

(في سبيل الإصلاح)

نشرت جريدة المؤيد تحت هذا العنوان أربع مقالات بإمضاء محمد شكري

بالإسكندرية، ولعله كاتب مشيخة المعاهد العلمية هناك، وقد أفرع الكاتب مقالاته

الإصلاحية الإسلامية في قالب محاورة في جمعية إسلامية، وجعل الرابعة منها في

مشروع الدعوة والإرشاد وهذا نصها:

(مشروع الدعوة والإرشاد)

كان آخر المقال السابق نهاية الخطبة التي كلفني حضرة مولانا الشيخ الرئيس

بإلقائها على مسامع السادة الإخوان الموجودين بالجلسة المباركة التي انعقدت بهم

للنظر في شؤون المسلمين وأحوالهم، وكنت أرى علائم الفرح والارتياح لما ألقيه

على مسامع حضراتهم بادية على وجوههم، ظاهرة على محياهم، خصوصًا لما

كان دائرًا حول النقط الآتية التي لو نفذت لأمكن انتشال المسلمين من وهدة سقوطهم

وهوة خمودهم وجمودهم إلى أوج العز والسؤدد والسعادة والفخر الأثيل، وتلك النقط

هي:

(1)

رفع غياهب الجهل عن أذهان المسلمين، وتثقيف عقولهم بالعلوم

والمعارف.

(2)

ترك الخمول والكسل والجمود وضعف العزيمة جانبًا.

(3)

وجوب تصدر العلماء لقيادة الأمة الإسلامية بآرائهم وإرشاداتهم.

(4)

محاربة البدع بالسلاح الماضي المناسب للوقت الحاضر.

(5)

معاقبة من يخالف أوامر الدين، مهما كان مركزه معاقبة شديدة،

تجعله عبرة لغيره، حتى لا يتجارى الغير على إتيان فعله أو على الافتداء به

(6)

الدفاع عن الشريعة الغراء، ودحض قول كل معتد أثيم يتقول عليها

بالباطل، ويرميها بالبهتان.

(7)

القيام بالدعوة إلى إعادة عرى الألفة، حتى يكون المسلم لأخيه

كالبنيان، يشد بعضه بعضًا. هذا ، وما انتهيت من خطابتي ونزلت من على منبر

الخطابة، حتى صعد عليه خطيب مصقع من حضرات الأعضاء، فابتدأ وقال:

(بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله

الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: فلقد أجاد السيد وأفاد في خطبته،

وأطرب بأفكاره مسامعنا وأعجب. وإننا لنشكره على غيرته الدينية وجمعيته

الإسلامية التي من أجلها تكبد شأن السفر فجاءنا، وما جاء إلا واعظًا مرشدًا وبشيرًا

مذكرًا.

على أننا مع موافقتنا على ما جاء في خطبته من ذكر أسباب تأخر المسلمين،

وأدواء انحلال عصبيتهم، ووصف الدواء المعافي لهم من مرضهم والبلسم الشافي

لجسمهم من سقام تأخرهم وتفرقهم وانحطاطهم، الأمر الذي سنعمل به ونأخذه

نموذجًا نسير على دربه، وننسج على منواله.

إلا إننا مع هذا كله لا نوافقه على الطريقة التي يذهب إليها، ويحضنا على اتباعها لتأليف جامعتنا وتركيب وحدتنا، فإنه أثابه الله ذهب إلى أنه لبلوغ هذا الغرض، يلزمنا أن نقوم في مشارق الأرض ومغاربها لدعوة الناس لها.

وإني لأعجب؛ كيف يفوته ما ذكره في سياق كلامه في خطبته الفيحاء؛ من

أن الأكثرية في الأمة الإسلامية على ضلال عن الدين مبين، غير واقفة على أسرار

الشريعة السمحة وما تحويه من الفضائل التي يقف دون إحصائها العد والحصر،

فيذكر حضرته طلب تعميم هذه الدعوة بين عموم المسلمين، مع أنه لا يصح القيام

بالدعوة إليها وتعميمها بينهم إلا إذا كانوا على درجة من الرقي والتمدن والتقدم،

يمكنهم معها فهم معناها ومبناها وإدراك مغزاها ومرماها. أما وهم في الدرجة التي

وصفها من تمكن الجهل فيهم، وضرب أطنابه بين جموعهم، فإنني أرى - والحالة

هذه - أنهم الآن في أحوج ما يكون إلى قيام الخطباء والوعاظ والمبشرين والمرشدين؛

لوعظهم وإرشادهم وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم وإصلاح مرافق معاشهم ومعادهم،

حتى تتنور أذهانهم وتثقف عقولهم، فيصبحون في استعداد تام لمعاونته ومساعدة

نهضته عند المناداة بها، والعمل لإبرازها لأول مرة.

فالواجب علينا أيها السادة، إعداد العدد الكافي من الوعاظ والمرشدين

والخطباء والمبشرين على طريقة عصرية تؤثر في القلوب، وتملك عليها حواسها،

فتوجهها إلى ما يرمي إليه الخطيب وينادي به المبشر أو الواعظ، ثم بث هؤلاء في

بقاع الأرض، حيث يقومون بإرشاد المسلمين ووعظهم وغرس محبة إخوانهم في

قلوبهم، فإنه متى تمت هذه المهمة الأولية، كان من ورائها إبراز المهمة الثانوية؛

ألا وهي النهضة المدنية بأسهل مما يتصوره المرء وتتخيله الأذهان.

أمامكم أيها السادة النجباء والإخوان الفضلاء، مشروع يريد القيام به بعض

ذوي الغيرة الدينية والحمية الإسلامية بالديار المصرية؛ قيامًا منهم بما يفرضه

عليهم الواجب، ويحضهم على تحقيقه وإبرازه الغرض الديني، وهو ينطبق على ما

ندعو إليه ونرمي إلى السعي وراء إيجاده وإظهاره؛ ألا وهو مشروع الدعوة

والإرشاد على نحو ما يفعل المسيحيون، وغرضهم أيها السادة تخريج مبشرين

دينيين، يقومون بمهمة التبشير بالإسلام، ودعوة المسلمين إلى العمل بأوامر دينهم،

والتمكن من أصوله، والوقوف على أسراره وخفاياه الكافلة بإصلاح أحوالهم،

وفتح أبواب الرزق والرحمة أمامهم.

أمامكم تلك المدرسة، فقوموا عن بكرة أبيكم وعضدوها وأيدوها، وارفعوا

شأنها، وثبتوا قدمها، وانصروا لله بنصرها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ

يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) إنني أناديكم أيها السادة، وأنادي كافة

المسلمين الغيورين على دينهم بما ينادي به لسان حال الإسلام أبناءه الأمناء

المخلصين؛ من الأخذ بيده ورفع شأنه، وإعلاء كلمته؛ لإرجاعه إلى ما كان عليه

من علو الشأن ورفعة المقام في العصر السالف؛ عصر فتوته وشوكته بالأخذ بيد

تلك المدرسة التي هي طريق الوصول به إلى مبتغاه، والعامل الوحيد الذي

بواسطته يبلغ ما يتمناه.

إن الإسلام يا قوم يناديكم جميعًا: أن كدوا وجدوا واعملوا واكدحوا بكل ما في

طاقتكم ومكنتكم؛ لإبراز تلك المدرسة وإمدادها بالمال الوفير والعقار الكثير، حتى

تستمر في طريقها وتسير في الدرجة المرسومة لها، وتفي بالغرض المقصود منها،

فشمروا عن ساعد الجد، وأجيبوا نداءه بأن تتبرعوا بالتبرعات المالية اللائقة بتلك

المدرسة الجليلة، وقفوا الأراضي والعقار لها وتنافسوا في ذلك ما استطعتم، فإن

ذلك خير ما يتنافس فيه العاملون، واصرفوا عن أفكاركم وأذهانكم تشويش

المشوشين، وهتر الهاترين، ومكابرة المكابرين، ولا تقيموا لأقوالهم وزنًا، فإنهم

لا يبغون سوى عرقلة المسعى في إيجاد تلك المدرسة التي اتفقت الآراء على

تحبيذها، وأجمع الكل على ضرورة إيجادها، حتى لا يكون الغير قد سبقهم بها،

وهم الذين يودون أن يكونوا مصدر كل خير وأصل كل منفعة، ولو بغير حق

وبدون جدارة وكفاءة، حتى لا ينسب إليهم أحد التشدق بالكلام المزخرف، الذي لا

فائدة منه للمسلمين ولا عائدة تعود عليهم من ورائه، فيعيرهم بالمثل السائر (أسمع

جعجعة ولا أرى طحنًا) .

ليت هؤلاء المعارضين يثوبون إلى رشدهم بعد ما تبين لهم الحق، فيسيرون

مع هذا المشروع جنبًا لجنب، خصوصًا وإنهم من المسلمين الذين يهمهم شأن

الإسلام، فإننا معشر الإخوان، والحق يقال: لنحب ونود من صميم الفؤاد أن تكون

كلمة المسلمين في أي شأن من الشؤون التي تعود عليهم بالفائدة متحدة متفقة، فإن

ذلك أولى لهم ثم أولى وأنفع لمصلحتهم ثم أنفع، وفي الختام أدعو الله أن يكلل هذه

المدرسة بالنجاح والفلاح، وأرجو منه تعالى أن يحول حال المسلمين إلى أحسن

حال، آمين.

وبعد أن نزل الخطيب، قام الرئيس وقال: ما رأيكم أيها الأعضاء الكرام في

المدرسة التي أشار إليها حضرة الخطيب المتقدم. فقالوا جميعًا: إن إبراز تلك

المدرسة من الضروري اللازم الذي لا يمكن للمسلمين الاستغناء عنه، وإننا لنرى

أن يصدر من جمعيتنا قرار موجه إليهم؛ لحثهم على معاونة ومساعدة تلك المدرسة،

والعمل نحو إبرازها وإيجادها، ثم اتفق الجميع على نص القرار المشار إليه،

وكلفوني بإرساله إلى المؤيد الأغر لسان حال المسلمين في كافة أنحاء المعمورة،

وهاك هو القرار بنصه وفصه:

من (جمعية لا إله إلا الله) إلى كافة المسلمين الموحدين بالله أهل النخوة

والنجدة؛ إن من الواجب على كل مسلم أن يعمل كل ما فيه انتشار الإسلام وإعلاء

كلمة الإيمان، والتفاني في ذلك على قدر الإمكان، كما كان يعمل آباؤنا الذاهبون

الأولون في الصدر الأول من عهد نشأة الإسلام، وبزوغ شمسه المشرقة، ولذلك

اجتمعت جمعيتنا وقررت وجوب تعضيدكم لمدرسة الدعوة والإرشاد التي يراد

إنشاؤها بعاصمة الديار المصرية، بما يكفل لها الاستمرار والنمو، ويضمن لها

تنفيذ الغرض الذي يراد إنشاؤها من أجله؛ وهو تخريج مبشرين دينيين، ينتشرون

في جهات الأرض للتبشير بالدين الإسلامي، وحض الناس على اعتناق الإسلام؛

لتخليصهم من عذاب الآخرة الذي يشيب من هوله الولدان، ووعاظ يعظون

المسلمين ويحثونهم على اتباع أوامر الشرع الشريف، ولا يخفى ما في ذلك من

صلاح الحال وحسن المآل.

(فالبدار البدار أيها المسلمون؛ لمساعدة تلك المدرسة بالأموال الطائلة؛ لأن

المال هو حياة المشاريع والأساس الذي تقوم عليه وتظهر، والعمل العمل لإبرازها

في القريب العاجل، واعلموا أنكم إن تقدموا في الدنيا من حسنة فستجزون عليها في

الآخرة أضعافًا، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال. آمين) .

...

...

...

... عن رئيس الجامعة

...

...

...

...

محمد شكري

...

...

...

...

بإسكندرية

_________

ص: 121

الكاتب: سليمان الجادوي

‌حال المسلمين والمصلحين

أو هل إلى الرقي من سبيل [1]

لقد أسفر حديث مضى لنا، وكان لهذا الحديث صدرًا عن حقيقتين لا مراء

فيهما، بل مقدمتين لأقضية سنفيض الكلام فيهما، هما شعور عموم المسلمين بما

حاق بهم من سيئات ما كسبوا واختلافهم في الرأي، أي سبيل للنجاة يسلكون؟ ولقد

حدا بنا الحديث إلى الإفاضة في ولع المسلمين بالخلاف، حتى في أحرج المواقف

وأضيق الأوقات، وكذلك حقت عليهم الكلمة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك،

فإنهم يعلمون أن الرقي على ضربين: مادي وأدبي، وأن الرقي المادي نتيجة

السعي والأخذ بما أخذ به الأقوام، ولا يعصم من شروره إلا التحرز بحرز الآداب

الدينية التي أرشد لها الكتاب المبين. فهل بعد هذا لأحد هذين النوعين توقف على

الآخر أو بالحري: هل يكون نصيب كل منهما من الاهتمام في الوقت الحاضر

على السواء أو أن أحدهما الأحرى بالتقديم.

ألا لا يجادل أحد في أن الأفعال مهما كانت قيمتها، لا تصدر إلا عن وجدان

نفسي تابع للتربية العامة والتلقين بالتعليم، وإن التعليم ليجمع بين المختلفين في

أساليب التربية، فيجعلهم أشبه ببعضهم في كل شبيه، ولما كان المسلمون قد

أصابهم من سيئات الشقاق والتدابر ما أصابهم، وهم اليوم أحوج ما يكونون إلى

باعث يبعثهم على سلوك سبل الارتقاء الحق متحدين، فهل لذلك من واسطة غير

توحيد التعليم، وبذلك يتضح جليًا توقف أحد النوعين على الآخر وإن سلوك طرق

الرقي المادي قبل الوصول إلى غاية في الرقي الأدبي عسير إن كان ممكنًا،

وبعكس النتيجة إن لم يكن عقيمًا.

بقي النظر في هذه القضية وهي توحيد التعليم بين المسلمين، هل للنفس في

تحقيقها من طمع؟ وهل أسبابها مهيأة؟ وهل يقوم دون الوصول إليها من عائق

عتيد؟

لا أتوقف في الجواب عن جميع تلك الأسئلة بالإيجاب، وشرحها بيت القصيد،

ذلك بأن الله ورسوله يأمران جميع المسلمين بالائتلاف والاتفاق، وبحذرانهم

مزالق الفرقة، وقد جمع الله المسلمين في اليوم وما قبله على كتاب الله وسنة رسوله

صلى الله عليه وسلم، فهم وهم بضع وسبعون فرقة تدين بما ذكر، وتطأطئ

الرؤوس إذعانًا، وهذان هما جماع الخير ومنبع الرشد، وإذا وصل الفكر إلى هذا

الحد يرقص طربًا؛ إذ يرى فواق الناقة أبعد من رقي المسلمين، ولكن تجاوزه هذا

الحد يحدث له رد فعل، يخور معه عزمه، فيسقط في اليأس واهيًا حيث يقف أمامه

عائق عتيد، وذلك هو كثرة الأعداء وقوتهم الفائقة الحد وتيقظهم لكل بادرة، ينتج

عنها صلاح المسلمين.

إن المسلمين في سائر الأقطار قد تقاسمهم غيرهم، فهم بين استقلال مستبد أو

استيلاء غريب، وكل من هذين ضنين بما غنم منهم، فلا يغفل عن أقل شيء

يضعف ضغطه عليهم، حتى يستأصل شأفته، ولا يدع سببًا أوقعهم في يده، حتى

يحرص على استدامته حرصه على سيادته، وما المستبد إلا حافظ أمين على تلك

الغنيمة التي وقعت بين يديه، حتى يستلمها من يده الغريب، وهي على تربية

العبيد.

وهذه الحكومات بين مستبدة وغريبة، قد اتخذت لها أعوانًا قلدتهم أوسمة العلم

ونياشين المعارف، وأبرزتهم للعامة حتى يكونوا مقام التقليد، فكان هؤلاء حربًا

للمسلمين، ومانعًا من ائتلافهم، ومشنعًا على كل من جاهر بهذا القصد بأنه ملحد

عدو للمسلمين، فلا تلبث الحكومات أن تؤيدهم؛ لأنهم يؤدون لها أجل خدمة، ولا

تلبث العامة أن تزدري بما ألقي إليها؛ لأنه ضد إرادة سادتهم من أولي الأمر وأهل

الدين، وهكذا تذهب صيحات المرشدين ونصائح المصلحين دون صدى، ويذهب

جهدهم سدى، وما خصهم إلا من عرفت. وربما بحث الناظر عن سبب وقوف

هؤلاء سدًا في وجه كل إصلاح وهم أحق من قام بدعوى الإصلاح؛ لمكانهم من

الدين، فأقول: إن لذلك سببين: أولهما الاعتقاد بأن شكر المنعم واجب، وأن الذي

أجلسهم على الوثير، وألبسهم من الحرير، ورفع منزلتهم، وجلعهم يعيشون عيش

المترفين لخليق بأن يكونوا حراس عرشه الذي هو أصل عيشهم، ولعلهم

برجوعهم إلى الحق يرجعون إلى العيش الضيق، والشظف الذي كان يكابده

السلف، وذلك ما يرجفون لذكراه، وربما خرج بعضهم عن منصبه لسبب، فرأيت

منه من الأفكار ما سرك، وتمنيت أن يكون ذا منصب، حتى يكون للإصلاح خير

ظهير، هذا أضعف السببين. وأقواهما شعور أكثر هؤلاء بالقصور عن درجة العلم

الحقيقي وصعوبة اعترافهم بالحقيقة، ما داموا علماء رسميين، فغالطوا أنفسهم كما

غالطهم أولو الأمر، وأنفوا من ظهور ذي حجة مبين لقصورهم.

أقول ما أقول غير قاصد فردًا أو جمعًا خاصًا، ولكن هو وصف لمن اتصفوا

بالعلم قديمًا وحديثًا إلا أهل العلم من خير القرون، فلقد كان العلم على عهدهم رتبة

يمنحها الولاة للذوات، ولكنه حكمة يختص بها الله فريقًا ممن جاهدوا في سبيل

تحصيلها، وكانوا يطلقونه على أهل الرواية وأسرار التنزيل وكذلك كان العلماء

أحرارًا في الاستنباط والفهوم، وكان العوام أحرارًا في الاتباع والتقليد، ولكن ملوك

الاستبداد لما رأوا أن الدعاوي السياسية لم ترتكز إلا على أصل ديني، اضطروا

إلى إيجاد قوة تؤيد ما هم عليه من جليل الأشياء وحقيرها، فتجعله للدين أصلاً،

ويوفق بينها وبينه ولو بالتمحل في التأويل، ولن يرضى بهاته المنزلة الدنية إلا ذو

البضاعة المزجاة في العلوم، فإن العالم الذي أشربت نفسه عزة العلم لا يرضى

أن يخدم غرض جاهل تلقاء قليل أو كثير من الحطام، وأنه ليلقى أشد صعوبة إذا

رام أن يخالف ضميره ويأتي أمرًا نهاه عنه ما تلقاه. ولم يخل قرن من الأيام الخالية

من عالم يقوم بإنكاره ما يرى ويجهر لتلك الفئة أنهم على ضلال، وما هو إلا أن

يرى صدى مقاله في آذان الملوك الذين يضرهم قوله، فيجردون عليه جيشًا من

أولئك الذين ألبسوهم حيلة العلم وقلدوهم تاج المعارف؛ إذ كانوا يوقنون أنه لا يغني

عنهم في تلك الغارة سيف ولا سنان، ولا ينفك أولئك عن مطاردة الحق حتى يخفت

صوته، ويستقر في أذهان العامة أن أولئك العلماء يجاهدون في سبيل الدين، وهم

يجاهدون في سبيل شهوة الحاكمين، ويقوم لديهم في بعض الأحايين الباعث

الآخرعلى مطاردة أولئك المحقين، وهو خوف رجوع أولي الأمر، والعامة إلى

أولئك النابغين، فيفقدون منزلتهم التي تبوؤها عن غير حق، ويظهر جليًا عليهم

القصور، فأرهفوا الحد استعدادًا لتلك الطوارئ، ونصبوا الإسلام على أسنة أقلامهم،

وقالوا: أما التقليد لكل ما ترون أولاً فليس إلا إلحاد وزيغ وضلال دون أن يكلفوا

أنفسهم مشقة الاستدالال، ولئن سألتهم عما يقصدون عن إشهار تلك الحرب العوان

ليقولن: إنا حماة الدين، وإنه ليوجب علينا تغيير كل منكر رأيناه، ما لهم لا يغيرون

ما بين بأيدهم من المنكرات، بل بالعكس تراهم قائمين عليهم وبها يأمرون.

ألم تر أنهم يبصرون الشموس كالأساطين، والمصابيح الأولوف تسرج، ونور

السراج الوهاج يضيئ ما بين اللابتين. ألم تر أنهم يبصرون المباخر الفضية

توضع في مجالس أحاديث الرسول - صلوات الله عليه - وهو ينهى عنها وهم

بها راضون، ولكن هذه المنكرات الصريحة لا تسوءهم مثلما يسوءهم من ينادي بأن

الخلاف بين فرق المسلمين يمكن تسويته، وأنهم لو أحسنوا المناظرة لما اختلفوا، وأن

تنديد بعض هذه الفرق ببعض في غير محله، ولا ينبغي الإقرار عليه. من قام بهاته

الدعوة وقرع بها أسماعهم وهي كما رأيت أقصى ما يتمنى المسلمون، لا يكون

جزاءه منهم (أي من هؤلاء العلماء) سوى رميه بالاعتزال بل بالمروق والزيغ

والإلحاد، والاستدلال على ذلك لديهم هين؛ إذ لا يتجاوز حكاية منامية رآه فيها مسود

الوجه متغير الحال، كما بلي جمال الدين الأفغاني (بسميه) وكما بلي به الشيخ محمد

عبده وبمجنون بيروت، وكما بلي من قبله الغزالي بمن لا يصلح أن يكون شراكًا

لنعله، فرموا بالزندقة والإلحاد والكفر والاعتزال (لأن في عرفهم أن الاعتزال

منصفة) ويطلقون كل هاته الألفاظ على شخص واحد مع علمهم باختلاف معانيها،

ولكن حيث كان الباعث على قذفها الغيظ والعداء، لا يرون حرجًا في جمعها في

كنانة واحد؛ إذ جعبة الغضب أوسع من جعبة الحق، ويجرئهم على ذلك مركزهم

الذي يجعل كلامهم مقبولاً، ويأمنون به مناقشة الحساب.

ألا لقد سار القلم شوطًا بعيدًا في هذا الميدان، حتى أشفق الفكر على القارئ

السآمة والتشتيت، وما كان القصد سوى التعريف بأن السبب الذي يقف في وجه

رقي المسلمين هو قوة أعداء ذلك الرقي، وبيان أن أهل الأمر هم أصحاب الفائدة

من تقهقر الأمة، وهم الذين أوقفوا لسعيهم حدودًا ولأفكارهم جنودًا ممن ذكرنا، فهم

المؤاخذون الأصليون. وإن جندهم من أولئك ليعملون على قدرعقولهم، لم يصلوا

إلى مرتبة تعرفهم بالحق، حتى يكونوا إذا لم يأخذوا به مؤاخذين، بل ذلك مبلغهم

من العلم والحياة الدنيا جل ما يطلبون، وإن منهم لفريقًا يكتمون الحق وهم يعملون،

وما أولئك إلا القليل.

ذلك العائق الذي شرحناه هو الذي حجز بين المسلمين وبين ما يبتغون، فهل

من مطمع في زواله؟ وهل إلى الرقي من سبيل؟

...

...

...

...

سليمان الجادوي

(المنار) قلما رأيت في الجرائد كتابة في حال المسلمين أو في المسائل

الاجتماعية موزونة بميزان العقل، وصادرة عن روية واستقلال في الفكر كهذا

المقال، وإني أجيب الكاتب الفاضل بأن السبيل إلى رقي المسلمين واحدة؛ وهي أن

يكثر فيهم المصلحون من أهل العلم والبصيرة والتقوى، فيقوى حزبهم على حزب

الدجالين الجامدين، الذين حالوا بين المسلمين وبين الترقي في دينهم ودنياهم معًا،

ولا بد لهذا من سعي خاص، حتى لا يطول أمد الوصول إليه، وهو كائن بإذن الله

طالت المدة أم قصرت، ولا يهولنك كثرة أتباع الدجالين، فما ذلك تأثير دجلهم

الحادث، وإنما هي بقايا الداء الموروث، وقد يموت أكبر طاغوت منهم، فلا يشعر

الذين على رأيه بأنهم فقدوا شيئًا؛ فكثرتهم إلى قلة، وقلة المصلحين وأتباعهم إلى

كثرة، والعاقبة للمتقين.

_________

(1)

قرأنا في جريدة مرشد الأمة التي تصدر في تونس هذا القسم الثاني من مقال بإمضاء سليمان الجادوي عنوانه: (هل إلى الرقي من سبيل) فرأينا فيه من نور البصيرة ما بعثنا إلى نشره في المنار.

ص: 134

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية [

1]

جاء في كتاب الملل والنحل للشهرستاني تحت عنوان (الإسماعيلية) ما نصه:

قد ذكرنا أن الإسماعيلية امتازت عن الموسوية وعن الاثنا عشرية بإثبات

الإمامة لإسماعيل بن جعفر وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر، قالوا:

ولم يتزوج الصادق على أمه بواحدة من النساء، ولا اشترى جارية كسنة رسول الله

في حق خديجة، وكسُنَّة علي في حق فاطمة، وذكرنا اختلافهم في موته في حال

حياة أبيه، فمنهم من قال: إنه مات وإنما فائدة النص عليه انتقال الإمامة منه إلى

أولاده خاصة كما نص موسى إلى هارون عليهما السلام، ثم مات هارون في حال

حياة أخيه وإنما فائدة النص انتقال الإمامة منه إلى أولاده، فإن النص لا يرجع

قهقرى، والقول بالبداء محال، ولا ينص الإمام على واحد من ولده إلا بعد السماع

من آبائه، والتعيين لا يجوز على الإبهام والجهالة. ومنهم من قال: إنه لم يمت

لكن أظهر موته تقية عليه حتى لا يقصد بالقتل. ولهذا القول دلالات منها أن محمدًا

كان صغيرًا وهو أخوه لأمه، مضى إلى السرير الذي كان إسماعيل نائمًا عليه،

ورفع الملاءة فأبصره وهو قد فتح عينه ومضى إلى أبيه مفزعًا وقال: عاش أخي

عاش أخي. قال أبوه: إن أولاد الرسول كذا يكون حالهم في الآخرة. قالوا: وما

السبب في الإشهاد على موته، وكتب المحضر عليه ولم يعهد ميتًا سجل على موته؟

و (أجيب) عن هذا بأنه لما رفع إلى المنصور أن إسماعيل بن جعفر رؤي

بالبصرة مر على مقعد فدعا له فبرئ بإذن الله، بعث المنصور إلى الصادق أن

إسماعيل في الأحياء، وأنه رؤي في البصرة أنفذ السجل إليه وعليه شهادة عامله

بالمدينة.

قالوا: وبعد إسماعيل محمد بن إسماعيل السابع التام وإنما تم دور السبعة به

ثم ابتدأ منه بالأئمة المستورين الذين كانوا يسيرون في البلاد ويظهرون الدعاة جهراً،

قالوا: ولم تخل الأرض قط من إمام حي قاهر إما ظاهر مكشوف، وإما باطن

مستور. فإذا كان الإمام ظاهرًا يجوز أن تكون حجته مستورة، وإذا كان الإمام

مستورًا فلا بد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين، وقالوا: إنما الأئمة تدور أحكامهم

على سبعة كأيام الأسبوع والسماوات السبع والكواكب السبع، والنقباء تدور أحكامهم

على اثنا عشر، قالوا: وعن هذا وقعت الشبهة للإمامية القطعية، حيث قرروا عدد

النقباء للأئمة. ثم بعد الأئمة المستورين كان ظاهر المهدي والقائم بأمر الله وأولادهم

نصًّا بعد نص على إمام بعد إمام، ومذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات

ميتة جاهلية، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية، وكانت

لهم دعوة في كل زمان ومقالة جديدة بكل لسان، فنذكر مقالاتهم القديمة

ونذكر بعدها دعوة صاحب الدعوة الجديدة، وأشهر ألقابهم الباطنية.

وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنًا، ولكل تنزيل تأويلاً ولهم

ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم قوم، فبالعراق يسمون الباطنية والقرامطة

والمزدكية، وبخراسان التعليمية الملحدة وهم يقولون نحن إسماعيلية؛ لأنا تميّزنا

عن فرق الشيعة بهذا الاسم وهذا الشخص.

ثم إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنعوا كتبهم

على ذلك المنهاج، فقالوا في البارئ تعالي: إنا لا نقول هو موجود ولا لا موجود،

ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، وكذلك في جميع الصفات؛ فإن الإثبات

الحقيقي يقتضي الشركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقنا عليه، وذلك

تشبيه، فلم يكن الحكم بالاثبات المطلق والنفي المطلق، بل هو إله المتقابلين وخالق

الخصمين والحاكم بين المتضادين، ويقولون في هذا أيضًا عن محمد بن

علي الباقر: إنه قال لما وهب العلم للعالمين قيل: هو عالم، ولما وهب القدرة

للقادرين قيل: هو قادر، فهو عالم وقادر؛ بمعنى أنه وهب العلم والقدرة، لا بمعنى

أنه قام به العلم والقدرة أو وصف بالعلم والقدرة، فقيل فيهم: إنهم نفاة الصفات حقيقة

معطلة الذات عن جميع الصفات، قالوا: وكذلك نقول في القدم: إنه ليس بقديم ولا

محدث بل القديم أمره وكلمته، والمحدث خلقه وفطرته، أبدع بالأمر

العقل الأول الذي هو تام بالفعل، ثم بتوسطه أبدع النفس الثاني الذي هو غير تام،

ونسبة النفس إلى العقل، أما نسبة النطفة إلى تمام الخلقة والبيض إلى الطير، وأما

نسبة الولد إلى الوالد والنتيجة إلى المنتج. وأما نسبة الأنثى إلى الذكر

والزوج إلى الزوج. قالوا: ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى

حركة من النقص إلى الكمال، واحتاجت الحركة إلى آلة الحركة فحدثت الأفلاك

السماوية، وتحركت حركة دورية بتدبير النفس، وحدثت الطبائع البسيطة بعدها

وتحركت حركة استقامت بتدبير النفس أيضًا، فتركبت المركبات من المعادن

والنبات والحيوان والإنسان، واتصلت النفوس الجزئية بالأبدان، وكان نوع الإنسان

متميزًا عن سائر الموجودات بالاستعداد الخاص لفيض تلك الأنوار، وكان عالمه في

مقابلة العالم كله وفي العالم العلوي عقل ونفس كلي، وجب أن يكون في هذا العالم

عقل شخص هو كل، وحكمه حكم الشخص الكامل البالغ ويسمونه الناطق وهو النبي،

ونفس مشخصة هو كل أيضًا وحكمها حكم الطفل الناقص التوجه إلى الكمال أو حكم

النطفة المتوجهة إلى التمام، أو حكم الأنثى المزدوج بالذكر ويسمونه الأساس وهو

الوصي.

قالوا: وكما تحركت الأفلاك بتحريك النفس والعقل والطبائع، كذلك تحركت

النفوس والأشخاص بالشرائع بتحريك النبي والوصي في كل زمان دائر على سبعة

سبعة، حتى ينتهي إلى الدور الأخير ويدخل زمان القيامة وترتفع التكاليف

وتضمحل السنن والشرائع، وإنما هذه الحركات الفلكية والسنن الشرعية لتبلغ

النفس إلى حال كمالها، وكمالها وصولها إلى درجة العقل، واتحادها به ووصولها

إلى مرتبته فعلاً وذلك هو القيامة الكبرى، فتنحل تراكيب الأفلاك والعناصر

والمركبات، وينشق السماء وتتناثر الكواكب وتبدو الأرض غير الأرض، وتطوى

السماء كطي السجل للكتاب المرقوم فيه ويحاسب الخلق، ويتميز الخير عن الشر

والمطيع عن العاصي، وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلي، وجزئيات الباطل

بالشيطان المبطل، فمن وقت الحركة إلى وقت السكون هو المبدأ، ومن وقت

السكون إلى ما لا نهاية له هو الكمال.

ثم قالوا: ما من فريضة وسنة وحكم من أحكام الشرع من بيع وإجارة وهبة

ونكاح وطلاق وجراح وقصاص ودية إلا وله وزان من العالم عددًا في مقابلة عدد،

وحكمًا في مقابلة حكم، فإن الشرائع عوالم روحانية أمرية، والعوالم شرائع

جسمانية خلقية، وكذلك التركيبات في الحروف والكلمات على وزان تركيبات

الصور والأجسام، والحروف المفردة نسبتها إلى المركبات من الكلمات كالبسائط

المجردة إلى المركبات من الأجسام، ولكل حرف وزان في العالم وطبيعة يخصها

وتأثير من حيث تلك الخاصية في النفوس، فعن هذا صارت العلوم المستفادة من

الكلمات التعليمية غذاء للنفوس، كما صارت الأغذية المستفادة من الطبائع الخلقية

غذاء للأبدان.

وقد قدر الله أن يكون غذاء كل موجود مما خلقه منه، فعلى هذا الوزان

صاروا إلى ذكر أعداد الكلمات والآيات، وأن التسمية مركبة من سبعة واثني عشر،

وأن التهليل مركب من أربع كلمات في إحدى الشهادتين وثلاث كلمات في الشهادة

الثانية، وسبع قطع في الأولى ست في الثانية، واثنى عشر حرفًا في الثانية،

وكذلك في كل آية أمكنهم استخراج ذلك مما لا يعمل العاقل فكرته فيه إلا ويعجز عن

ذلك؛ خوفًا عن مقابلته بضده، وهذه المقابلات كانت طريقة أسلافهم، وقد صنفوا

فيها كتبًا، ودعوا الناس إلى إمام في كل زمان يعرف موازنات هذه العلوم، ويهتدي

إلى مدارج هذه الأوضاع والرسوم.

ثم أصحاب الدعوة الجديدة تنكبوا هذه الطريقة حين أظهر الحسن بن الصباح

دعوته، وقصر عن الإلزامات كلمته، واستظهر بالرجال وتحصن بالقلاع، وكان

بدء صعوده إلى قلعة الموت في شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربع ومئة، وذلك بعد

أن هاجر إلى بلاد إمامه، وتلقى منه كيفية الدعوة لأبناء زمانه، فعاد ودعا الناس

أول دعوة إلى تعيين إمام صادق قائم في كل زمان، وتمييز الفرقة الناجية من سائر

الفرق بهذه النكتة، وهو أن لهم إمامًا وليس لغيرهم إمام، وإنما يعود خلاصة كلامه

بعد ترديد القول فيه عودًا على بدء بالعربية والعجمية إلى هذا الحرف، ونحن ننقل

ما كتبه بالعجمية إلى العربية، ولا معاب على الناقل، والموفق من اتبع الحق

واجتنب الباطل، والله الموفق والمعين. فنبدأ بالفصول الأربعة التي ابتدأ الدعوة

وكتبها عجمية فعربتها.

قال للمفتي في معرفة البارئ تعالى أحد قولين: إما أن يقول أعرف البارئ

تعالى بمجرد العقل والنظر من غير احتياج إلى تعليم معلم، وإما أن يقول: لا

طريق إلى المعرفة مع العقل والنظر إلا بتعليم معلم صادق، قال: ومن أفتى بالأول

فليس له الإنكارعلى عقل غيره ونظره، فإنه متى أنكر فقد علم والإنكار تعليم ودليل

على أن المنكر عليه يحتاج إلى غيره، قال: والقسمان ضروريان فإن الإنسان إذا

أفتى بفتوى أو قال قولاً فإما أن يقول من نفسه أو من غيره، وكذلك إذا اعتقد عقدًا

فإما أن يعتقده من نفسه أو من غيره هذا هو الفصل الأول، وهو كسر على

أصحاب الرأي والعقل.

وذكر في الفصل الثاني أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم، أفيصلح كل معلم على

الإطلاق أم لا بد من معلم صادق؟ قال: ومن قال: إنه يصلح كل معلم ما ساغ له

الإنكار على معلم خصمه، وإذا أنكر فقد سلم أنه لا بد من معلم معتمد صادق، قيل

وهذا كسر على أصحاب الحديث.

وذكر في الفصل الثالث أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم صادق، فلا بد من

معرفة المعلم أولاً والظفر به ثم التعليم منه، أم جاز التعلم من كل معلم من غير

تعيين شخصه وتبيين صدقه؟ ؟ والثاني رجوع إلى الأول ومن لم يمكنه سلوك

الطريق إلا بمقدم ورفيق، فالرفيق ثم الطريق هو كسر على الشيعة.

وذكر في الفصل الرابع أن الناس فرقتان: فرقة قالت: يحتاج في معرفة

البارئ تعالى إلى معلم صادق، ويجب تعيينه وتشخيصه أولاً ثم التعلم منه، وفرقة

أخذت في كل علم من معلم وغير معلم، وقد تبين بالمقدمات السابقة أن الحق مع

الفرقة الأولى، فرأسهم يجب أن يكون رأس المحققين، وإذا تبين أن الباطل مع

الفرقة الثانية، فرؤساؤهم يجب أن يكونوا رؤساء المبطلين، قال: وهذه الطريقة

التي عرفتنا المحق بالحق معرفة مجملة، ثم نعرف بعد ذلك الحق بالمحق معرفة

مفصلة، حتى لا يلزم دوران المسائل، وإنما عنى بالحق ها هنا الاحتياج،

وبالمحق المحتاج إليه، وقال: بالاحتياج عرفنا الإمام وبالإمام عرفنا مقادير

الاحتياج، كما بالجواز عرفنا الوجوب إلى واجب الوجود، وبه عرفنا مقادير الجواز

في الجائزات، قال: والطريق إلى التوحيد كذلك حذو القذة بالقذة، ثم ذكر فصولاً

في تقرير مذهبه إما تمهيدًا وإما كسرًا على المذاهب وأكثرها كسر أو إلزام واستدلال

بالاختلاف على البطلان وبالاتفاق على الحق ، منها فصل الحق والباطل والصغير

والكبير. يذكر أن في العالم حقًا وباطلاً، ثم يذكر أن علامة الحق هي الوحدة ،

وعلامة الباطل هي الكثرة، وإن الوحدة مع التعليم، والكثرة مع الرأي، والتعليم

مع الجماعة والجماعة مع الإمام، والرأي مع الفرق المختلفة، وهي مع رؤسائهم،

وجعل الحق والباطل والتشابه بينهما من وجه التمايز بينهما من وجه التضاد في

الطرفين، والترتب في أحد الطرفين ميزانًا يزن به جميع ما يتكلم فيه، قال: وإنما

أنشأت هذا الميزان من كلمة الشهادة وتركيبها من النفي والإثبات أو النفي والاستثناء،

قال: فما هو مستحق النفي باطل وما هو مستحق الإثبات حق، ووزن بذلك الخير

والشر والصدق والكذب وسائر المتضادات، ونكتته أن يرجع في كل مقالة وكلمة

إلى إثبات المعلم، وأن التوحيد هو التوحيد والنبوة معًا حتى يكون توحيدًا، وإن

النبوة هي النبوة والإمامة معًا حتى تكون نبوة، وهذا هو منتهى كلامه.

وقد منع العوام عن الخوض في العلوم، وكذلك الخواص عن مطالعة الكتب

المتقدمة إلا من عرف كيفية الحال في كل كتاب، ودرجة الرجال في كل علم، ولم

يتعد بأصحابه في الإلهيات عن قوله: إن إلهنا إله محمد. قال أنا وأنتم تقولون:

إلهنا إله العقول أي: ما هدى إليه عقل كل عاقل، فإن قيل لواحد منهم ما تقول في

البارئ تعالى؛ وأنه هل هو (كذا) ، وأنه واحد أم كثير، عالم قادر أم لا؟ ؟ لم

يجب إلا بهذا القدر؛ أن إلهي إله محمد، وهو الذي أرسل رسوله بالهدى،

والرسول هو الهادي إليه، وكم قد ناظرت القوم على المقدمات المذكورة، فلم

يتخطوا عن قولهم أفنحتاج إليك أو نسمع هذا منك أو نتعلم عنك؟ وكم قد ساهلت

القوم في الاحتياج، وقلت: أين المحتاج إليه وأيش يقدر لي في الإلهيات، وماذا

يرسم في المعقولات، إذ المعلم لا يعنى لعينه وإنما يعنى ليعلم، وقد سددتم باب

العلم وفتحتم باب التسليم والتقليد، وليس يرضى عاقل بأن يعتقد مذهبًا على غير

بصيرة، وأن يسلك طريقًا من غير بينة، فكانت مبادئ الكلام تحكيمات، وعواقبها

تسليمات {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي

أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65)(للكلام بقية) .

(المنار)

هذا ما أورده الشهرستاني من دين الباطنية الإسماعيلية الذين كانوا يخادعون

الناس فيه زاعمين أنه مذهب إسلامي، وأن أهله هم الفرقة الناجية، وكانوا

يستدرجون الضعفاء بهذه السفسطة المموهة، ويستزلونهم بما يخيلون إليهم من

حجج العقل، فيستنزلونهم به عن العقل، ويسترضونهم بالخضوع الأعمى لكل ما

ينقلونه عن إمامهم، وقد هدم سفسطتهم العلماء الأعلام كالغزالي في كتابه القسطاس

المستقيم وغيره.

_________

(1)

تابع لما نشر في (ج12 م13) .

ص: 138

الكاتب: صالح علي

‌تقرير مرفوع إلى جناب صاحب الدولة

الأمير أحمد باشا فؤاد حضرتلري

رئيس مجلس إدارة الجامعة المصرية [1]

مولاي:

إن جامعة مصرية تدرس فيها آداب اللغتين الفرنسية والإنجليزية لجديرة بأن

تكون فيها حلقة لتعليم تاريخ الأدبيات العربية، فإن هذا التاريخ يا مولاي على تعدد

موارده وغزارة مناهله، لا يزال إلى وقتنا هذا شتيتًا، لم يقم بعد من يؤلف بين

أجزائه في رسالة يعول عليها سواء بالعربية أو بأية لغة أجنبية.

ما كان [2] لأحد من رجال الأدب في العالم الإسلامي على سعته أن يفكر

في جمع مثل هذا المؤلف، فبقيت هذه الثغرة مفتوحة من وقت أن كانت سوق

الأدب نافقة إلى وقتنا هذا.

نحن لا ننكر أن بين أيدينا كثيراً من أمهات الكتب الأدبية، ولكن ليس فيها يا

مولاي ما ينقع الغلة ويبرئ العلة. فإن كتاب الأغاني مثلاً ومعجم الأدباء لياقوت،

ووفيات الأعيان لابن خلكان على جلالة قدرها، ليست إلا كتب تراجم. كما أن

كتاب الفهرست لابن النديم، وكشف الظنون لملا كاتب جلبي وكتاب اكتفاء القنوع

بما هو مطبوع للأستاذ إدوارد فان ديك Dyck Van E أولى لها أن تسمى فهارس

من أن تعد في طبقة الكتب التي تبحث في تاريخ الأدبيات العربية.

أخذ المستشرقون في أوربا منذ صدر القرن التاسع عشر الميلادي يكتبون عن

آداب العرب كتبًا بعضها يكاد يفي بالحاجة وبعضها ناقص من كل وجه، فكتب من

يدعى يوسف برلنجتن Berligton goseph رسالة صغيرة بالإنجليزية ترجمت فيما

بعد إلى الفرنسية (سنة 1823) ، ثم جاء من بعده نويل ديفر جير الفرنسي

Dcsvergers Noel صاحب كتاب (بلاد العرب L'arabie) فاختص بعض

صحائف من كتابه بهذا الموضوع (سنة 1847) ، وحذا حذوه في ذلك سديو edillot

صاحب كتاب (تاريخ العرب Arabas des L'histoire) سنة1854، وفي سنة

1890 قام أربثنوت Arbuthnot المستشرق الإنجليزي فألف رسالة عنوانها

(المؤلفات العربية Authors Arabic) غير أنها لا تفي بالغرض؛ لما فيها من

النقض. أما روسية وإيطاليا فقام فيهما عالمان هما فلادمير جرجاس Guirgass. V

والكافالييري فيلبو دي باردي Bardi de Filippo Cav. كتب أولهما رسالته

المسماة (خلاصة الآداب العربية) وألف الثاني رسالته المسماة تاريخ الآداب العربية

في عهد الخلفاء (Storia della Litteratura Arape sotto il Califfato) سنة

1864 وكلتاهما على نفاستها لا تفي بالغرض.

أما اللغة اللمانية (الألمانية) فقد كتبت فيها بعض رسائل في الأدبيات العربية،

فقام المستشرق المجري همر برجبستال Purgstall - Hammer بتأليف رسالة

عنوانها (تاريخ آداب العرب der Araber Geschichte Litteratur) ظهرت في

مدينة ويانة بين سنة 1850 وسنة 1856 في ستة أجزاء، ولكن هذا العالم مع كثرة

بحثه في الكتب العربية، لم يخرج كتابه للناس تامًّا، فاستحق قول الشاعر.

ولم أر في عيوب الناس شيئًا

كنقص القادرين على التمام

ولكن جاء بعد العلامة بروكلمان Brokelmann الأستاذ بجامعة برسلاو

Breslau فأصدر أحدث كتاب في الموضوع سماه (تاريخ الآداب العربية

litteratur Arabischen der Geschichte) وهو يقع في جزئين اثنين، ظهر

أولهما في مدينة ويمار Weimar سنة 1897 و1898، وطبع الثاني في برلين

Berlin سنة 1902، ومما يؤسف عليه أن هذا الكتاب النفيس قد شوهت محاسنه

إغلاط كثيرة في الطبع من حيث التواريخ، وفوق ذلك فإن تبويبه ليس كما يجب أن

يكون، وعبارته جافية ليس عليها مسحة من العذوبة التي يرغب فيها الأديب، فهو

من هذا القبيل أشبه شيء بالفهارس منه بكتب التاريخ، غير أنه كتاب لا بأس به

في هذا الباب، جزى الله مؤلفه عنا خير الجزاء، هذا، ولا يفوتني يا مولاي أن

أذكر أنه قد ظهر بعد كتاب الأستاذ بروكلمان بقليل مؤلف آخر لمستشرق فرنسي هو

مسيو هيوار Huart الأستاذ بجامعة اللغات الشرقية الحية speciale ecole

vivantes orientales des langues عنوانه (الأدبيات العربية LaLlttcratute

Arabe) وهو على صغر حجمه، يكاد يكون أوفى ما ألف في هذا الفن إلى

اليوم.

إذا تقرر ذلك بان لنا أننا لا نزال مدينين لعلماء أوربا في تدوين تاريخ الآداب

العربية، وإن كان هذا التدوين لم يصل بعد إلى طور الكمال.

ظهر يا مولاي في مصر من عهد قريب كتاب صغير الحجم عنوانه (أدبيات

اللغة العريبة) ، ولكنه لم يتعرض لتاريخ الأديان، بل اقتصر على ذكر مقتطفات

يسيرة من الشعر والنثر العربي مرتبة على العصور؛ ليتيسر حفظها لطلبة المدارس

الثانوية المصرية، فهو من هذا القبيل كتاب مطالعة أدبي أو صورة مصغرة من

كتاب مجاني الأدب المشهور، لا علاقة له بتاريخ الأدبيات العربية، ذاك التاريخ

الجليل.

هذا، ومما لا نزاع فيه يا مولاي أنه بالرغم عن ضياع جزء عظيم من أمهات

الكتب العربية، لا تزال البقية لباقية على قلتها (سواء كانت من الآداب المحفوظة

أو المطبوعة في الشرق أو الغرب) كافية جدًّا؛ لإنشاء تاريخ كامل لأدبيات اللغة

العربية.

إن قيام العلماء المستشرقين بأوربا منذ القرن السادس عشر الميلادي بنشر

المتون العربية وترجمة بعضها إلى اللاتينية أولاً ثم إلى كثير من اللغات الأوربية

ثانيًا، وعنايتهم بجمع فهارس مضبوطة للمخطوطات العربية المحفوظة بخزائن

الكتب في أوربا (ذاك العمل الشريف الذي تم منه جزء عظيم للآن) وكذا نشر

فهارس الكتب المحفوظة في مساجد الآستانة وفي دار الكتب الخديوية بالقاهرة، كل

هذا يا مولاي قد ساعد علماء الإفرنج مساعدة عظيمة في درس الآداب العربية، ومن

السهل أن يساعدنا نحن أيضا على بناء هيكل بديع لتاريخ آدابنا إذا بعث الله فينا من

بين أدبائنا من يقوم بهذا العمل المجيد.

إن درس الآداب العربية منذ نشأتها، والبحث في أطوار نمائها ونهضتها ثم

سقوطها وعثرتها ثم بعثتها من رقدتها؛ إنما هو يا مولاي درس مفيد كله عبر،

وكيف لا يكون كذلك، ونحن نعرف بالبداهة أن تلكم المحاضرات النفيسة التي

يلقيها الشيخ الجليل العلامة جويدي في الجامعة المصرية، لا تخرج عن كونها بابًا

واحدً أو فصلاً من باب من أبواب تاريخ الأدبيات العربية، مقصورًا هذا الباب أو

الفصل على علمي التاريخ والجغرافيا.

إذا تقرر ذلك، علمنا أن درس هذه الأدبيات يجب أن يحل المحل الأول في

جامعة مصرية؛ إذ أن مما يؤسف عليه يا مولاي أن عدد من يعنى بهذه الأدبيات

بيننا معاشر المشارقة (سواء في مصر أو في سائر بلاد المشرق) لا يكاد يعدو

أصابع اليدين، وإذا تصفحنا أسباب هذا الجمود رأيناها ترجع إلى أمرين: ندرة

المؤلفات الكافية في هذا الفن من جهة، وانعدام المدارس الجامعة في بلادنا من

أخرى.

وبهذه المناسبة أورد هنا مسألة واحدة على سبيل الاستشهاد، ذلك أني لاحظت عند سماع المحاضرات الجليلة التي يلقيها الأستاذ جويدي أن معظم الطلبة

(إن لم يكونوا كلهم) كانوا يجهلون أسماء مشاهير المؤلفين؛ كالمقدسي وابن واضح

وابن خرداذبه وابن حوقل وغيرهم، وهي حقيقة تثبت أن ناشئتنا في حاجة كبرى

إلى تعلم تاريخ الآداب العربية على طريقة منتظمة. أليس مما يؤلم يا مولاي أن يكون

المصري المتعلم ملمًّا بآداب الإنجليزية والفرنسية قبل أن يعرف شيئًا من

آداب أسلافه؟

هذا، وإني أتشرف يا مولاي، أن أقدم في طي تقريري هذا ملحقًا يشتمل

على برنامج مختصر عن سلسلة محاضرات في تاريخ الأدبيات العربية، وهو

برنامج لا بأس من إدخاله في الجامعة هذا العام، من غير أن يحدث ضررًا أو ينشأ

عنه تهويش ما في النظام الحالي.

فبدلاً من أن يكون عدد المحاضرات واحدة فقط في أيام الآحاد، يحسن إبلاغه

إلى اثنتين: تختص أولا هما بالحضارة القديمة، وتكون الثانية للآداب العربية. ثم

لا بأس من تخفيض عدد المحاضرات النفيسة التي يلقيها العلامة جويدي إلى ثنتين

في الأسبوع، حتى يحصل هنالك فراغ يتسنى شغله بمحاضرة ثانية على تاريخ

الأدبيات العربية.

(هذا ومما تجب الإشارة إليه في هذا المقام أن تلكم المحاضرات الجليلة

التي يلقيها الأستاذ جويدي، لا تستغرق (على نفاستها) في الدفعة الواحدة أزيد من

ثلاثين إلى أربعين دقيقة؛ أعني أن هناك ثلاث محاضرات، مقدار كل منها أربعون

دقيقة، وهو ما يساوي مائة وعشرين دقيقة أو ساعتين في الأسبوع.

فلو جعلت محاضرات هذا العلامة ثنتين، مقدار كل منهما ستون دقيقة لما

اختل النظام في شيء، ولكان عدد المحاضرات مضروبًا في عدد الدقائق معادلاً

لمائة وعشرين دقيقة أي: ساعتين في الأسبوع وهو المطلوب) .

مولاي، إذا أتيح للجامعة أن تعثر على مدرس لتاريخ الآداب العربية، أصبح

عدد المدرسين ستًّا، يصيب كلاًّ محاضرتان في الأسبوع؛ أعني بذلك أيام العمل

الستة بعد استثناء أيام الجمع.

أنا يا مولاي، لا أعلم علم اليقين إذا كان ميزان دخل الجامعة، وخرجها في

استطاعته أن يحتمل مرتب هذا المدرس الجديد، غير أني أكاد أجزم أن هناك

بعضًا من الأدباء الضليعين بهذا الفن (على قلتهم في بلادنا) مستعد للتطوع في هذا

السبيل الوطني الشريف عند أول نداء، ثم هو لا يريد بعد ذلك جزاء ولا شكوراً.

مولاي، إنه ليس من الضروري أصلاً أن يكون انتقاء مثل هذا المدرس من

بين المتعممين، فإن مجرد حذق فني النحو والصرف والإلمام بكتابين أو ثلاثة من

كتب الأدب أو التاريخ، ليس كل ما يلزم توفره في هذا الباب. إنما يحب أن يكون

مدرس هذا الفن أديبًا بكل معاني الكلمة، وفوق ذلك فإنه ينبغي عليه أن يكون على

علم بالنهضة الأدبية القائمة سوقها الآن في أنحاء المشرق والمغرب، ولا يكون ذلك

كذلك حتى يكون عارفًا على الأقل بلغتين أجنبيتين الإنجليزية والفرنسية، كيما

يتمكن من تتبع خطى الحركة الأدبية في أوربا، ويطالع بإمعان أمهات الكتب التي

تكتب من آن إلى آخر بأقلام كبار العلماء المستشرقين، أولئك الذين وقفوا حياتهم

على إحياء آدابنا، بعد أن كاد يدركها العدم.

مولاي، لو كان هذا العاجز من أصحاب الألقاب الضخمة، أو ممن يتربعون

في دست الوظائف الكبرى في خدمة الحكومة لقدم نفسه طائعًا مختارًا جذلاً مرتاحًا

لخدمة الجامعة لا كأستاذ - فمعاذ الله أن أكون مغرورًا بنفسي أو مغرورًا بها إلى حد

أن تتطلع إلى ما لا تستحق - ولكن كخادم مخلص، أو بعبارة أخرى كوطني يقدم

نفسه، وما ملكت يمينه فداء للوطن المحبوب.

...

...

... القاهرة في 30 يناير سنة 1909

...

...

...

...

... صالح علي

...

... بمصلحة الري بنظارة الأشغال العمومية بمصر

(المنار)

أحسن الكاتب في اقتراحه وبيانه لوجه الحاجة إليه وترشيح نفسه له، ولعله

لم يكن يعلم أن هنا لجنة تؤلف كتابًا حافلاً في تاريخ الآداب العربية، وسيظهر

الكتاب بعد زمن قريب، إن شاء الله تعالى.

_________

(1)

التقرير لصاحب الإمضاء في آخره، وقد نشرناه تعزيزًا لأصل اقتراحه؛ ولما فيه من أسماء كتب الإفرنج عنا وفي لغتنا.

(2)

هذا التعبير خطأ فإن معناه ما صح لأحد، وليس من شأن أحد أن يفكر في ذلك.

ص: 144

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(نهج البلاغة)

هذا الكتاب أشهر من نارعلى علم؛ فهو غني عن التعريف به والتنويه

بفائدته، في تقويم النفس بالحكمة والتقوى، وتقويم اللسان بالبلاغة والفصاحة، وقد

كان كنزًا مخفيًّا في بلادنا السورية والمصرية؛ بل كان أهل السنة محرومين من

فائدته، وكادت الشيعة تفضلهم في البلاغة بمدارسته، حتى شرحه الأستاذ الإمام -

رحمه الله تعالى - فانتشر بذلك واشتهر، حتى طبع بشرحه عدة مرات في سورية

ومصر، وكانت الطبعة الاولى أصح تلك الطبعات، ويتفاوت ما بعدها في كثرة

الغلط وقلته.

وقد طبع في العام الماضي في مطبعة الحلبي الشهيرة مع شرح وجيز للشيخ

محمد حسن نائل المرصفي مدرس البيان بمدرسة (الفرير) الكلية، فأما الشارح

فأديب، ولكل مجتهد نصيب. وأما الأصل فيمتاز في هذه الطبعة بالشكل الكامل

وهي مزية، يعرف قيمتها من علم أنه يقل في أكثر قراء العربية من يحسن قراءة

مثل هذا الكتاب قراءة صحيحة، إذا لم يكن مضبوطًا، وناهيك بشدة حاجة طلاب

العلوم الذين يستعينون به على ملكة البلاغة مثل هذا الضبط، ولهذا يرجى أن ينتفع

بهذه الطبعة ما لا ينتفع به في غيرها.

* * *

(نهج البردة ووضح النهج)

نظم أحمد شوقي بك (شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية) قصيدة عارض بها

بردة البوصيري الشهيرة، وجعلها تذكارًا لحج الأمير الحاج عباس حلمي الثاني إلى

بيت الله الحرام في عام 1327، وقد عني شيخ الجامع الأزهر (الشيخ سليم

البشري) بشرح القصيدة؛ عناية بنشر مديح الممدوح الأعظم صلى الله عليه وآله

وسلم؛ وعناية بما جعلت تذكارًا له من حج الأمير المعظم، على حين ترك ملوك

المسلمين وأمراؤهم هذا الركن الديني المحتم، ثم عناية بالناظم نابغة الشعراء في

مصر، ولك أن تقول نابغتهم في هذا العصر، وقد طبعت القصيدة مع شرحها في

كتاب وضع له فاتحة في الشعر وضروبه محمد بك المويلحي نابغة الكتاب في هذا

القطر، فتم بذلك التناسب ومراعاة النظير بالجمع بين كلام أشهر العلماء والشعراء

والكُتاب، وإنها مزية قلما تجتمع في كتاب، وهاك نموذجًا من دراري القصيدة:

أخوك عيسى دعا ميتًا فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم

والجهل موت فإن أوتيت معجزة

فابعث من الجهل أو فابعث من الرجم

قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا

لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم

جهل وتضليل أحلام وسفسطة

فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم

لما أتى لك عفوًا كل ذي حسب

تكفل السيف بالجهال والعمم [1]

والشر إن تلقه بالخير ضقت به

ذرعًا وإن تلقه بالشر ينحسم [2]

سل المسيحية السمحاء كم شربت

بالصاب من شهوات الظالم الغلم [3]

طريدة الشرك يؤذيها ويوسعها

في كل حين قتالاً ساطع الحدم [4]

ولولا حماة لها هبوا لنصرتها

بالسيف ما انتفعت بالرفق والرحم [5]

إلى أن قال:

علمتهم كل شيء يجهلون به

حتى القتال وما فيه من الذمم

دعوتهم لجهاد فيه سؤددهم

والحرب أس نظام الكون والأمم

لولاه لم نر للدولات في زمن

ما طال من عمد أو قرّ من دعم

تلك الشواهد تترى كل آونة

في الأعصر الغر لا في الأعصر الدهم

بالأمس مالت عروش واعتلت سرور

لولا القنابل لم تسلم ولم تصم

أشياع عيسى أعدوا كل قاصمة

ولم نعد سوى حالات منقصم

هذا ما قاله في مسألة عصرية أي: من المسائل التي يكثر البحث فيها في هذا

العصر، وكنت أود لو كانت القصيدة كلهاعلى هذا النسق، ولكن أكثرها على

الطريقة القديمة في المدح، وقال في وصف الشريعة ما أجاد فيه وأفاد:

شريعة لك فجرت العقول بها

عن زاخر بصنوف العلم ملتطم

يلوح حول سنا التوحيد جوهرها

كالحلي للسيف أو كالوشي للعلم

سمحاء حامت عليها أنفس ونهى

ومن يجد سلسلاً من حكمة يحم

نور السبيل يساس العالمون بها

تكفلت بشباب الدهر والهرم

يجري الزمان وأحكام الزمان على

حكم لها نافذ في الخلق مرتسم

لما اعتلت دولة الإسلام واتسعت

مشت ممالكه في نورها التمم

وعلمت أمة بالقفر نازلة

رعي القياصر بين الشاء والنعم

كم شيد المصلحون العاملون بها

في الشرق والغرب ملكًا باذخ العظم

للعلم والعدل والتمدين ما عزموا

من الأمور وما شهدوا من الحزم

سرعان ما فتحوا الدنيا لملتهم

وأنهلوا الناس من سلسالها الشبم [6]

ساروا عليها هداة الناس فهي بهم

إلى الفلاح طريق واضح العظم

لا يهدم الدهر ركناً شاد عدلهم

وحائط البغي إن تلمسه ينهدم

نالوا السعادة في الدارين واجتمعوا

على عميم من الرضوان مقتسم

دع عنك روما وآثينا وما حوتا

كل اليواقيت في بغداد والتوم [7]

وخل كسرى وإيوانًا يدلّ به

هوى على أثر النيران والأيم [8]

واترك رعمسيس إن الملك مظهره

في نهضة العدل لا في نهضة الهرم

دار الشرائع روما كلما ذكرت

دار السلام لها ألقت يد السلم

ما ضارعتها بيانًا عند ملتأم

ولا حكتها قضاء عند مختصم

ولا احتوت في طراز من قياصرها

على رشيد ومأمون ومعتصم

من الذين إذا سارت كتابئهم

تصرفوا بحدود الأرض والتخم

ويجلسون إلى علم ومعرفة

فلا يدانون في عقل ولا فهم

يطأطئ العلماء الهام إن نسبوا

من هيبة العلم لا من هيبة الحكم

ويمطرون فما بالأرض من محل

ولا بمن بات فوق الأرض من عدم

خلائف الله جلوا عن موازنة

فلا تقيسنّ أملاك الورى بهم

من في البرية كالفاروق معدلة

وكابن عبد العزيز الخاشع الحشم

وكالإمام إذا ما فض مزدحمًا

بمدمع في مآقي القوم مزدحم [9]

الزاخر العذب في علم وفي أدب

والناصر الندب في حرب وفي سلم

هذا نموذج من أكرم درر القصيدة وأضوأ دررايها. وأما الشرح فأسلوبه أدبي

لا علمي أزهري، ولكل مقام مقال، وهاك نموذجًا من أفضل ما فيه وأنفعه، قال

الأستاذ في شرح بيت: (أشياع عيسى أعدوا كل قاصمة) ما نصه: عمد الشاعر

في هذا البيت إلى المقارنة بين أهل الديانة المسيحية وأهل الديانة الإسلامية: فذكر

أن المتشيعين اليوم إلى الدين المسيحي (دين الهدو والسلام) هم أهل القوة الحربية

الدائبون على إعداد المهلكات الصاعقات في الحروب، حتى كأنهم ولم يبق لهم في

شغل يشغلهم إلا استخراج الذهب من بطون الأرض وإنفاقه على مصانع الحديد

والفولاذ؛ لطبع آلات الحرب في بطون الأرض وعرض البحر، وقد أفتنوا في

أسباب الهلاك والتدمير، ولم يكفهم أن يدمدموا على الناس ويأخذوهم بالبلاء عن

أيمانهم وعن شمائلهم، ومن خلفهم ومن تحت أرجلهم، حتى قامواعلى تسخير

الرياح ليرموهم من فوق رؤوسهم بكل دهياء صيلم، على حين أن أهل الديانة

الإسلامية الذين يتهمهم الظالمون بحب الفتح والجهاد، ويشغون سمعتهم بحب الطعن

والجلاد، والولوغ في دماء العباد، هم اليوم أهل السكينة والسلام، وهيهات أن

يدانوا المسيحية في المباراة بحب الفتوح والحروب، أو يشاكلوهم في ادخار آلات

الحرب واستنباط معدات الكفاح.

وقال في شرح بيت (واترك رعمسيس إن الملك مظهره) : يقول: ما كان

لقدماء المصريين أن يفاخروا بمدينتهم التي أسمى مظاهرها هو هذا البنيان السامق،

على حين أمسى أكبر الأدلة على ظلمهم وجبروتهم، وأي مدنية هذه التي تزين

لرجل واحد أن يسوق من رعيته مئة ألف رجل أو يزيدون، فيحملهم الأثقال،

ويسخرهم في مشاق الأعمال، حتى إذا ما دقت أعناقهم، واختلفت أضلاعهم،

وفتت سواعدهم، التقط غيرهم من أمته التي أوشكت أن تفنيها ثلاثون سنة على هذه

الحال بلا أجر ولا جزاء؛ كل ذلك ليبني قبرًا لنفسه يطاول كيوان، وتبلى دونه

الأزمان.

ليس هذا بمظهر التمدن، إنما مظهره العدل الذي تصلح به أحوال الرعية،

وتستقيم به أمروهم، فتنهض بهم الدولة ويعلو شأن الأمة، والعدل أساس الملك.

* * *

(لباب الخيار في سيرة المختار)

مختصر وجيز في السيرة النبوية للشيخ مصطفي الغلاييني صاحب مجلة

النبراس ومعلم المكتب السلطاني ببيروت، سبق لنا تقريظ الطبعة الأولى منه، وقد

أعيد طبعه في العام الماضي بعد أن زيد في فوائده، وقد ختمه بطائفة من حكم

الأحاديث النبوية مرتبةعلى حروف المعجم لتحفظ، وشرحها في ذيول الصفحات،

وكنا وددنا لو أشار إلى مخرجيها أيضًا. وصفحات الكتاب 136، وثمنه قرشان

صحيحان، فنحث الجمهورعلى قراءته، ولا سيما للنساء في البيوت، والأولاد في

المدارس الابتدائية.

* * *

(الدورس العربية)

(وهي سلسلة كتب في الصرف والنحو وفنون البلاغة والإنشاء وقرض

الشعر والأدبيات واللغة، تأليف الشيخ مصطفي الغلاييني) أيضًا. وقد رتبه على

الطريقة الحديثة السهلة في التعليم، فقسمه إلى دروس صغيرة، لكل درس منها

أمثلة وتمرين وأسئلة، وطبع جزء منه طبعًا جميلاً، وقد قرأنا في جرائد بيروت؛

أن نظارة المعارف في الآستانة قررت تدريس هذا الكتاب في مدارسها رسميًّا،

فنهنئ صديقنا المؤلف بذلك.

* * *

(الجاذبية وتعليلها)

خلق الشيخ جميل صدقي أفندي الزهاوي الأديب البغدادي المشهور مستعدًّا

للفلسفة والعلوم الكونية، ميالاً إليها، فقرأ من كتبها المترجمة بالعربية والتركية ما

شاء الله أن يقرأ، استفاد من مجلة المقتطف ما شاء الله أن يستفيد، ولو تلقى هذه

العلوم في أوربة وعاش مع أهلها العاملين، لكان من المكتشفين والمخترعين، وقد

أهدانا كتابًا له سماه (الجاذبية وتعليلها) يؤيد رأينا هذا في استعداده، فقد خالف فيه

إجماع علماء العصر في الجاذبية العامة، وبحث فيه في المادة وقواها بحث المستقل

الفهم، فذهب إلى أن علة وقوع الأجسام على الأرض مثلاً؛ هو قوة الدفع من

جوانب السماء لا قوة الجذب من مركز الأرض كما يثبتون، وقد طبع الكتاب ببغداد،

ويباع بمطبعة الآداب فيها وثمنه ثلاثة قروش.

* * *

(ديوان السيد حسن القاياتي)

صدر الجزء الأول من هذا الديوان، وقد ذكر ناظمه في مقدمته أنه ليس

معجبًا بنفسه وشعره كما يعجب الشبان، ولكنه سمع الناس (يستحبون أن يعرض

المرء ببنات فكره، وهواجس صدره، ثم يتسمع فينظر أيسمع استحسانًا وشكرًا أو

استهجانًا ونكراً، فإن كانت الأولى أقدم ثم أقدم، وإن كانت الثانية أحجم ثم أحجم)

ونحن نقول: إن من كان هذا غرضه لا ينبغي له أن يحجم عن شيء يستهجن منه؛

لأنه وهو يقدر الانتقاد قدره، ويرى أن يكمل نفسه به، لا يلبث أن يتقي ما ينتقد،

حتى يبلغ الغاية من استحسان الناس لما يجيء منه بعد، ولا سيما إذا لم يغره

الاستحسان، ولو وجعل المحسن والمسيء ممن لا يصانعون سواء، بعد هذا قرأت

أبياتًا متفرقه من الديوان، فصادفت رشاقة في الأسلوب، وروحًا مؤثرة في الكلام،

فعسى أن تكون سائر أجزاء الديوان أرقى في معراج الكمال.

* * *

(شعراء العصر)

شرع أحد محبي الأدب والأدباء محمد صبري افندي من نابتة مصر المهذبة

في جمع مختارات شعراء هذا العصر في ديوان واحد يصدره جزءًا بعد جزء،

ويجمع إلى مختار كل شاعر منهم ترجمة وجيزة له ويطبع معها صورته ليجمع

للقارئ بين صورة النفس وصورة الجسم، وقد صدر الجزء الأول وفيه مختارات

من شعر البارودي وشوقي وحافظ ونسيم وبطرس كرامة وحفني ناصف وخليل

مطران وعائشة اليتمورية والأخرس وعبد الله فكري والبكري ومصطفى نجيب

ومصطفى صادق الرافعي والمنفلوطي وعبد الحميد المصري وفؤاد الخطيب وولي

الدين يكن. وفيه صور أكثر هؤلاء الشعراء المشهورين فعسى أن يروج هذا الجزء،

فيبتعث همة جامعه إلى تمام الكتاب، وثمن النسخة منه ستة قروش

صحيحة.

* * *

(ديوان نفحات الربيع)

صدر الجزء الأول من هذا الديوان لناظمه مرسي أفندي شاكر الطنطاوي وقد

أهداه إلى محمد أمين بك واصف مدير القليوبية، ووضع صورة المهدى إليه في

أوله، ويليها مقدمة طويلة في الشعر والشعراء، وهو يفضل غيره من الدواوين

بكونه ديوان معان أدبية اجتماعية، لا ديوان مدائح ومراثي شخصية، ولو كثر

الشعراء المجيدون عندنا في هذه المعاني لكان الشعراء أفعل في تربية الأمة من

أصحاب الجرائد أو مثلهم في تأثيرهم.

* * *

(الإحصاء السنوي العام للقطر المصري سنة 1910)

أهدتنا إدارة عموم الإحصاء في نظارة المالية كتابها الثاني في الإحصاء العام

عن السنة الشمسية الماضية، وهو مفصل إلى 17 فصلاً في المسائل الآتية:

(1)

تربة مصر ومناخها (2) الأرصاد الجوية (3) تعداد السكان (4)

الصحة العمومية (5) المدارس (6) القضاء (7) السجون (8) سكك حديد

الحكومة (9) تلغرافات الحكومة (10) البوسطة (11) الملاحة والتجارة

(12)

نتيجة استثمار قنال السويس (13) التجارة مع البلدان الأجنبية (14)

الزراعة (15) مالية الحكومة (16) الدين العمومي (17) العملة والموازين

والمكاييل والمقاييس، فنشكر لهذه الإدارة عنايتها، ونحث الأمة على الاستفادة من

هذا الكتاب، فإن الإحصاء الرسمي أصدق أصول التاريخ، وينبوع علمي الاجتماع

والعمران، وصفحات الكتاب 348 من القطع الكبير العريض، وثمن النسخة غير

المجلدة منه 20 والمجلدة 25 قرشًا.

_________

(1)

العمم بالتحريك: العامة.

(2)

سمي الجزاء شرًا باعتبار صورته وحده، وفسره الشارح بالبأس والقوة، وجعله من المشاكلة.

(3)

يريد بالسمحاء مؤنث الأسمح، وأما الوصف فسمح وسمحة كضخم وضخمة والعلم ككتف الهائج.

(4)

بالتحريك: شدة احتراق النار وحميها.

(5)

الرحم بضمتين: الرقة والمغفرة والتعطف قاله الشارح.

(6)

السلسال بالفتح في بيت سابق: الماء العذب والشبم البارد.

(7)

التوم جمع تومة وهي: الحبة من الفضة تعمل على شكل الدرة.

(8)

الأيم جمع أيام الدخان (ككتاب وكتب) .

(9)

الإمام أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه.

ص: 148

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(البعث والحياة الأخرى)

((تأييد القرآن بالعلم))

كان الذين ألفوا كتب الكلام على طريق فلسفة اليونان النظرية، يرون أن

الدليل على البعث لا يكون إلا سمعيًّا؛ إذ لا يمكن عندهم أن يستدل عليه العقل بأدلة

علمية، ولم يفهم هؤلاء قوله تعالى:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29)

وقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 104)

وغيرها من الآيات، وقد قرأنا في المقتطف الأخير تحت عنوان (يعيدكم مرة

أخرى) ما نصه:

ألف المستر كندي كتابًا عن الفيلسوف نتشه الألماني قال فيه: إن نتشه

ذهب إلى ما ذهب إليه غوستاف لوبون وهين وفلاسفة اليونان من قبلهم، وهو أن

القوى الطبيعية تتوالى وتعود إلى ما كانت عليه، فالعالم الذي يتم عمله تنحل

عناصره، ثم تعود تتركب وتتولد فيه مخلوقات مثل المخلوقات التي كانت فيه قبلاً؛

ولذلك لا يبعد أن يكون الإنسان قد وجد على هذه البسيطة قبل الآن وانقرض منها،

وأن النوع الموجود الآن سوف ينقرض ثم يعود مرة أخرى، وعناصر الشخص

الواحد تعود فتتجمع بعد قرون كثيرة، كما اجتمعت قبلاً ويتكرر ذلك إلى ما شاء الله

ا. هـ.

أما قوله: بوجود إنسان قبل هذا الدور، فقد قال به بعض المسلمين في تفسير

{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) أي ناسًا يخلفون من قبلهم، وأما

كون النشأة الأخرى تفنى بعد إتمام دورها الطويل ثم تعود ويتكرر ذلك أبدًا، فيقول

به بعض الصوفية

* * *

(الحريق في الآستانة، والإدارة فيها)

ما أدهشني شيء في مدة إقامتي بدار السلطنة إلا كثرة الحريق، وتقصير

الحكومة في تنظيم مصلحة المطافئ، فلا تكاد تمضي ليلة لا يروع الناس فيها

بنعاب الصائحين: (يا نغين وار، يا نغين وار) أي يوجد حريق، ويذكرون مكانه

ليعلم من كان له فيه دار أو لأحد أقاربه، فيبادر إليها لإخراج من فيها بما يقدرون

على حمله من نفائسهم وكرائم أموالهم، فإنه قلما وقع الحريق في مكان وسلم، بل

تأكله النار وتأكل كثيرًا مما يجاوره قبل أن يأتي الهادمون لهدم ما حوله، فالطريقة

المثلى هنالك لمقاومة الحريق هي هدم البيوت المجاورة للمكان الذي شبت فيه

النار، وقد صار لهم ضرب من المهارة في الهدم لطول المزاولة والإدمان. وأما

إطفاء النيران فما لهم فيه يدان، وإنما ترى عند حدوث الحريق زعنفة من الأحداث،

يعدون سراعًا حاسرين عن سوقهم، يحملون على أكتافهم أدوات، فيغيرون

وينجدون، ولا يسعفون ولا ينجدون، ولا أدري كنه ما يعملون.

يدعي أهل الآستانة أن العرب وغيرهم من العناصر العثمانية لا يقدرون على

الإدارة، كما يقدرون عليه هم ومن يتعلم عندهم من أهل عنصرهم، وأنهم هم

القادرون على ذلك دون غيرهم من العثمانيين، ويا ليت هذا كان صحيحًا، إذًا

لعمرت ديارنا لأنهم هم الذين يديرون حكومتها ولم تخرب ديارهم، بل تكون أرقى

عمرانًا. ولكن ليس في المملكة عمران يمكن أن ينسب إلى حسن إدارتهم، وهم

يقولون اليوم: إن كل ما حل بالمملكة من الخراب أو التقصير في العمران فسببه

شكل الحكومة السابق وهو الاستبداد وقد استبدلنا به شكلاً آخر، وهو ما يعبر عنه

بالدستور.

آمنا بتغيير شكل الحكومة بأخذه من الفرد وإعطائة لجماعة، ولكننا ما غيرنا

الأشخاص بتربية ولا تعليم، ولذلك لم تظهر ثمرة تغيير الشكل بالعمل، ولا في

الضروريات التي لا تتوقف على تخريج نشء جديد في التربية الدستورية والتعليم

الدستوري كإطفاء الحريق.

احترق قصر (جراغان) في العام الماضي، وهو أجمل قصور السلاطين

وأبدعها شكلاً ونقشًا وزخرفًا، بلغت نفقاته على السلطان عبد العزيز ملايين من

الليرات، احترق بعد أن سعى أحمد رضا بك ففاز بجعل مجلس الأمة فيه،

وخصصت الحكومة عشرات الألوف من الليرات؛ لأثاثه ورياشه وجعله صالحًا

لاجتماع المبعوثين والأعيان فيه، ومع هذا كله لم يستعدوا لإطفاء الحريق إذا وقع

فيه، فلما وقع التهمته النار كله، ولم يهتد أحد من خدمه ولا من عسكر الإطفاء

لإطفائها.

كان العقلاء يظنون أن حريق هذا القصر (السراي) البديع الذي أحرق

القلوب، سيكون هو المربي الأكبر لحكومة العاصمة في هذا الأمر، وسيحملها على

العناية بمصلحة الإطفاء عناية تقي جميع بيوت المدينة من تدمير الحريق، وامتداده

عند وقوعه لا معاهد الحكومة فقط، وقد رأينا الحكومة عقب هذه الحادثة تشتري

آلات الإطفاء الحديثة وأدواتها وتجربها، وحضرت تجربة منها في الرحبة الشمالية

من الباب العالي بمشهد الوزراء وغيرهم، بنوا هنالك بيتًا صغيرًا من الخشب،

وأعدوا المطافئ وأوقدوا فيه النار، وأمطروا عليه الماء فلم تغن التجربة، بل أكلت

النار البيت كله.

ثم صرنا أينما جلنا في الباب العالي وغيره من معاهد الحكومة، نرى مطافئ

موضوعة؛ لتستعمل في أي موضع وقع فيه الحريق قبل أن تمتد إلى غيره،

ولكنهم لم يعلموا أحدًا كيفية استعمالها فيما يظهر، فإن العام لم يكد يمر على حريق

قصر جراغان حتى وقع الحريق في قلب الباب العالي حيث مجلس الشورى ونظارة

الداخلية، وظلت النار تأكل فيه أيامًا لم يبق من الباب العالي إلا قليل من طرفيه،

وفي أحدهما مكان الصدر الأعظم وفي الآخر نظارة الخارجية، فكانت العبرة في

ظهور عجز الحكومة عن الإصلاح، وضعفها في الإدارة أقوى في هذا الحريق منها

في الحريق الذي سبقه، وكنا نظن أن اتقاء أسباب الحريق سيمنع وقوعه في معاهد

الحكومة بعد هذه العبرة ولكننا قرأنا في الجرائد قبل صدور هذا الجزء؛ أن الحريق

قد وقع في نظارة النافعة وأكلت النار بعض الغرف فيها.

أول ما يخطر في بال كل معتبر بهذه الحوادث؛ أن هؤلاء الحكام لا يرجى

منهم إحسان الإدارة في شيء، ما داموا عاجزين عن منع الحريق أن يدمر كل يوم

في عاصمتهم؛ لأن من عجز عن منع استمرار الخراب في داره كان عن تعمير

الدور البعيدة أعجز.

وأما أهل العبرة والبصيرة من علماء الأخلاق وطبائع العمران، فإن أفكارهم

تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك كاستبانة سبب العجز عن أمر سهل كهذا، يقول

بعض الناس: إن الشعب التركي شعب حربي، ليس له ملكة في الإدارة والعمران،

وإنما ملكته الموروثة هي الحرب فقط، وقد يقال: إن إطفاء الحريق قد صار في

هذا العصر من فنون العسكرية، فما بال القوم لا يتقنون هذا الفن منها! !

ومما تذهب إليه أفكار هؤلاء المستبصرين؛ أن رجال حكومتنا ليسوا مستقلين

أو مجتهدين فيما يأخذونه عن أوربا من نظام الإدارة والقضاء وغير ذلك، وإنما هم

مقلدون للأوربيين تقليدًا، وإنما يأتي الإصلاح من المستقل دون المقلد الذي يخطئ

في الفهم أكثر مما يصيب، ويخطئ في التطبيق أكثر مما يخطئ في الفهم، وقد

أشرنا إلى هذا المعنى في مقدمة مقال (المسلمون والقبط) في هذا الجزء، فليرجع

إليه من أحب التوسع في هذه العبرة، وهي الغرض الذي نرمي إليه في هذه النبذة.

وجملة القول: إننا لا نبشر أنفسنا بصلاح حال حكومتنا بالفعل إلا بعد أن

تتقن هذه المصلحة اليسيرة المضطرة هي إليها في عاصمتها؛ وهي مصلحة

المطافئ، فتكون في الآستانة متقنة كما نراها في مصر، وعسى أن يكون ذلك

قريبًا.

* * *

(الفتنة في اليمن)

اشتدت الفتنة في اليمن وطال عليها العهد، وقد أرسلت الدولة إلى اليمن

بالخميس العرمرم، وجعلت عزت باشا رئيس أركان الحرب في نظارة الحربية هو

القائد العام للجيش هنالك؛ لأنه قد سبق له الحرب في اليمن، وكان الإمام قد أسره

ثم أنقذه فيضي باشا، وقد اجتمع هذا القائد في جدة بأمير مكة المكرمة الشريف

حسين بأمر من الآستانة، واشتهر أنه اتفق معه على طريقة التعاون على إخضاع

اليمانيين للدولة، وذلك بأن يزحف الأمير بجيش من العرب وكذا العسكر المنظم

الذي في الحجاز كما قيل على عسير؛ لمحاربة الإدريسي وإخضاعه ليتمكن القائد

من توجيه جيشه الزاحف كله إلى محاربة الإمام يحيى، عسى أن ينتهي أمر الفتنة

في وقت قريب، وهذا هو الرأي بعد أن صارت الحرب ضربة لازب في نظر

الدولة.

كان قد أشيع أن بين الأمير والإدريسي عداء، وأن الأمير سيحاربه بعد

عودته من نجد في العام الماضي، ويظن بعض الناس أن هذا هو السبب في

استعانة الدولة بالشريف على الإدريسي؛ لأنها ترى أنه لا يدخر وسعًا في التنكيل

به متى قدر، كما يظنون أن سبب إرسالها عزت باشا إلى محاربة الإمام هو أنه أشد

من غيره كراهة له. ويرد عن هؤلاء الظانين ظن السوء بأن سبب اختيار عزت

باشا هو معرفته بأرض اليمن واختباره البلاد بالفعل، وسبب الاستعانة بالشريف هو

أن يكفيها إرسال العسكر الكثير وإنفاق المال الكثير، وهي تعلم كما علم كل الناس

الذين علموا ما كان منه في نجد أنه يفضل السلم على الحرب، والحلم والعفو على

الانتقام، والخير للدولة إنما هو في حل هذه العقدة حلاً مرضيًا لا دخن فيه، ولا

تحذر عقباه ومغبته، ونحن نرى أن هذا الأمر ممكن لمن أراده بصدق وإخلاص،

كما أنه كان ممكنًا بغير دماء تسفك، ولا قناطير من المال تبذل. ولكن هكذا كان،

والواقع ينسخ الإمكان، ويتمنى كل مسلم لو تنتهي هذه المسألة عاجلاً بسلام،

ويكفي الله المؤمنين القتال، والرجاء في حكمة الأمير كبير، والله أكبر، وله الأمر

من قبل ومن بعد.

* * *

(اليهود في المملكة العثمانية)

خبرنا الآستانة بإقامتنا فيها سنة كاملة، فرأينا أن نفوذ اليهود في جمعية

الاتحاد والترقي عظيم، وأن ناظر المالية إسرائيلي النسب، وأنه جعل كاتب سره

وكثيرًا من موظفي نظارته من اليهود، فعلمنا أن سيكون لليهود شأن أي شأن في هذه

المملكة، وآمالهم في القدس وفلسطين معروفة، ومطامعهم المالية في المكان يعظم

نفوذهم فيه غير مجهولة، وقد أشرنا إلى ما يخشى من مغبة ذلك في أجزاء من

السنة الماضية، ثم جاءت أنباء مجلس الأمة العثمانية في هذه الأيام مصدقة لما قلناه

ومثبتة ما توقعناه، فقد خطب بعض النواب المستقلين والمعارضين للحكومة خطبًا،

بينوا فيها خطر جمعية اليهود الصهيونية على المملكة العثمانية، وخطبًا أنكروا فيها

على ناظر المالية بيعه أحسن موقع عسكري في الآستانة لشركة أجنبية بثمن دون

ثمن المثل بسمسرة بعض اليهود، وهم يرون أنه يمكن بيع ذلك المكان بأضعاف

ذلك الثمن، وقد دافع الصدر الأعظم في المسألة الأولى عن الحكومة وعن اليهود،

ودافع جاويد بك عن نفسه في الثانية، ونحن لا نتعرض للمحاكمة والترجيح بين

المجلس والحكومة وحزبها، وإنما ننبه الناس للتأمل والاعتبار.

* * *

(المؤتمران المصريان القبطي والإسلامي)

يرى القراء مقالة في هذا الجزء عنوانها (المسلمون والقبط) ، سيتلوها

مقالات أخرى في موضوعها، وقد كان تأثير المؤتمر القبطي الذي اجتمع في

أسيوط أن أيقظ مسلمي مصر من نومهم الاجتماعي، ونبههم إلى ما كانوا غافلين

عنه، وفتح لهم بابًا لحفظ مصالحهم ودرء الضرر عنهم كان مغلقًا في وجوههم من

قبل؛ لأن القبط كانوا أوسع حرية منهم، وأكثر انتفاعًا بالحرية مطلقًا بإجماعهم

على تأييد الاحتلال، وكونهم نصارى وقليلي العدد لا يخشى المحتلون جانبهم،

ولذلك لم تمنعهم الحكومة من مؤتمرهم، ولم يكن يخطر لها ولا لهم ببال أن يقوم

المسلمون بعقد مؤتمر آخر على أنه نتيجة طبيعية لذلك المؤتمر، فلما أرادوا ذلك لم

يكن من الممكن أن تمنعهم الحكومة، وقد اختاروا رياض باشا رئيسًا له، وهو الثقة

الأمين المعروف عند الوطنيين والإفرنج بالاعتدال والإخلاص.

من العقل والحكمة أن يغتنم القائمون بأمر هذا المؤتمر الفرصة؛ لخدمة

المسلمين فيما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالشؤون الاقتصادية والأدبية، وأن

يكون كالمجلس الملي للقبط في البلاد مع المسلمين، بإحصاء المستخدمين منهم في

الحكومة وفي مصالح المسلمين ومزارعهم وسائر أعمالهم، ويظهر للمصريين

والأوربيين أن القبط رابحون على المسلمين، وأنهم إذا نالوا ما يطلبون لا يبقى

للمسلمين حظ في حكومة مصر، وأن ذلك يكون سيئ العاقبة، ولا سيما بعد جهرهم

بإيذاء المسلمين، وبعد هذا البيان يدعون القبط إلى الوفاق المعقول المبني على سنن

الاجتماع، فإن رضوا فبها ونعمت وإلا أعرضوا عنهم، وقالوا: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ

أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ} (الشورى: 15) .

ينبغي أن لا يشتغل هذا المؤتمر بالسياسة لا ظاهرًا ولا باطنًا، لا قولاً ولا

عملاً، ينبغي أن تكون اللجان التي تنتخب المندوبين له دائمة، وأن يكون أهم

أعمالها الدائمة إحصاء ديون المسلمين وأطيانهم المرهونة، وبيان تصرفاتهم المالية؛

لينظر المؤتمر آنًا بعد آن في طرق إنقاذهم من ضرر الربا وسوء التصرف

والإسراف الذي يكاد يذهب بثروتهم، ويجعلهم عالة على عدد قليل من الأغنياء

وأصحاب المصارف والشركات المالية، وفي ذلك من الخطر على البلاد ما فيه،

يجب أن يكون من عمله الدائم مساعدة الجمعيات الخيرية على عملها في التعليم

وإعانة المعوزين، وتعميم النقابات الزراعية في البلاد.

إن الأحزاب السياسية قد شغلت المسلمين عن الترقي الحقيقي بالعلم والتربية

الملية والمال، فاغتنمت القبط فرصة اشتغالهم بنطح صخرة الاحتلال ووجدوا في

التربية القبطية، وتوفير الثروة القبطية، إلى أن طمعوا بما أجمعوه في مؤتمرهم

هذا، فليشتغل هذا المؤتمر بهذين الأمرين ولا يعارضه أهل السياسة، فإن عمله

ينفعهم ولا يضرهم.

_________

ص: 155

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

فتحنا هذا الباب لإجابة المشتركين خاصة؛ إذ لا يسع الناس عامة، ونشترط

على السائل أن يبيّن اسمه ولقبه وبلده وعمله (وظيفته) ، وله بعد ذلك أن يرمز

إلى اسمه بالحروف إن شاء، وإننا نذْكر الأسئلة بالتدريج غالبًا، وربّما قدّمنا

متأخرًا لسببٍ؛ كحاجة الناس إلى بيان موضوعه، وربّما أجبنا غير مشترك لمثل

هذا، ولمن مضى على سؤاله شهران أو ثلاثة أن يذكّر به مرةً واحدةً، فإن لم

نذْكره كان لنا عذر صحيح لإغفاله.

(أسئلة من المحلة الكبرى)

(س12 15) من صاحب الإمضاء:

حضرة العالم العلامة المفضال السيد رشيد رضا

السلام عليكم ورحمة الله وبعد، فأرجو من فضيلتكم الإجابة عما يأتي، ولكم

منا الشكر ومن الله أعظم الأجر.

(س1) ما حقيقة الماسونية، ولم أنصارها يخفونها عن الناس، ومعلوم أن

الحق لا يخفى، فإن كان لِلَمِّ شعث أفراد متباينة عقائدهم الدينية والجنسية والوطنية

فهذا من المستحيل طبعًا، كما لا يخفى ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى

عَنكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120) وإن كان الغرض

(التساوي) كما يزعمون بين أفراد البشر في جميع أرجاء المعمورة، فهو أشد

استحالة من الأول.

إذ إن الدين هو الذي يؤلف بين الأفراد فقط، فإن كان هذا دينًا فلن يتحمل

القلب دينين الماسونية والنصرانية، وهي والإسلام مثلاً، أو هي مع اليهودية..

إلخ فيتعين أن يكون الداخل فيها مجردًا من غيرها، وعلى ذلك فكل دين غير

الإسلام باطل، قال تعالى:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل

عمران: 85) وإن كانت جارية على أحكام الإسلام، فلا معنى إذًا للتفريع

والتسمية بهذا الاسم.

(س2) على من اللوم؛ أعلى الحكومة التي بيدها الحل والربط أم على

الأمة التي لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا؟ وما هي التربية الصحيحة التي تعيد للدين

مجده وللوطن عزه؟ التربية في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية والإرساليات

التي تذهب إلى أوربا وتعود من غير دين بالمرة؟ أم التربية على مبادئ الدين،

وكيف يكون ذلك؟ ومتى يستطيع المصلحون وهل يمكن.

(س3) ما هي البلاد التي يعظم فيها دين الإسلام، ويقام فيها بالعمل وأهلها

أشد الناس شكيمة على أعدائه.

(س4) ماذا يصنع رجل أضناه حب العلم وما بلغ عمره الخامسة والعشرين،

وما ترك بابًا إلا طرقه ولا سبيلاً إلا سلكه إليه، ولم يجد من يساعده، وكلما ظن

في أحد عونًا تقاصرت همة المطلوب، ورجع الطالب بخُفَّيْ حُنَيْن.

...

...

...

... أفيدوني أثابكم الله

...

...

...

... عبد الظاهر محمد

...

...

...

... مدرس بمدارس الجمعية

...

...

...

... الخيرية الإسلامية

(الماسونية)

(ج1) الماسونية جمعية سياسية، وجدت في أوربا؛ لإزالة سلطة

المستبدين من رؤساء الدين والدنيا (كالبابوات والملوك) ولذلك كانت سرية، فإن

أهلها العاملين الساعين إلى مقاصدها كانوا على خطر من سلطة الأقوياء الذين تقاوم

الجمعية استبدادهم، وتعمل لسلب السلطة منهم وجعلها في يد الشعب، بحيث يكون

في يده التشريع والمراقبة على من ينصبه من الحكام للتنفيذ، فلهذه الجمعية الأثر

العظيم في الانقلابات السياسية التي حصلت في أوربة، ومنها الثورة الفرنسية

الكبرى من قبل، والانقلاب العثماني والبرتغالي الأخيرين من بعد، وقد كان

المؤسسون لها والعاملون فيها في أوربة من النصارى واليهود، واليهود هم

زعماؤها وأصحاب القدح المعلى فيها؛ لأن الظلم الذي كانوا يسامونه والاضطهاد

الذي يذوقونه كانا أشد مما ابتلي به ضعفاء النصارى من أقويائهم، وكذلك كان

اليهود أكثر الناس انتفاعًا من الانقلابات التي سعت إليها الماسونية في أوربة،

وسيكونون كذلك في البلاد العثمانية إذا بقيت سلطة الماسونية على حالها في جمعية

الاتحاد والترقي، وبقيت أزمة الدولة في يد هذه الجمعية، وهم يسعون مثل هذا

السعي في الروسية، ولكن الحكومة الروسية واقفة لليهود بالمرصاد، ولا يزالون

يتجرعون في بلادها زقوم الاضطهاد.

وأما الماسونية في بلاد الشرق كمصر وسورية وغيرهما من البلاد، فقد يصح

ما يقوله الكثيرون من أهلها أنها لا تعمل للسياسة ولا للدين وأنها أدبية اجتماعية،

وقد يصح من وجه آخر أن لعملها علاقة بالسياسة والدين، لكل قول وجه يصححه

فلا تناقض بينهما، هي لا تطعن في دين من الأديان ولا تبحث في ترجيح دين على

دين، ولا تدعو الداخلين فيها إلى ترك دينهم ولا إلى الإلحاد، ولا تعمل الآن في

مصر لتغيير الحكومة الخديوية، ولا في سورية لتغيير الحكومة العثمانية أو

مقاومتها، فهذا معنى كونها ليست مناصبة للدين ولا لسياسة البلاد.

وأما علاقة عملها بالدين والسياسة فمعروفة مما ذكرناه من مقصدها الذي

أنشئت لأجله، فإذا لم تشتغل بالمقصد مباشرة فهي تشتغل بالتمهيد له؛ كجمع كلمة

أهل النفوذ في كل بلد، وتكثير سوادهم وتقوية عصبيتهم وإضعاف رابطتهم الدينية

السياسية، والانتقال بهم في الإقناع من درجة إلى درجة، حتى يتم الاستعداد بهم

إلى تغيير شكل الحكومة وإزالة السلطة الدينية والشخصية، الذي هو مقصد الأخير

ولو بالثورة وقوة السلاح.

فالماسونية سياسية في الأصل، وتبقى سياسية في كل مملكة فيها سلطة

شخصية أو سلطة دينية إلى أن تزول صبغة الدين من الحكومة واستبداد الملوك

والأمراء، فحينئذ تكون الجمعية أدبية اجتماعية يجتمع أعضاؤها في المحافل؛

لإلقاء الخطب والمحاضرات والتعارف بالكبراء من الغرباء.

أما اتفاق المختلفين في الدين على هذا المقصد، فهو لا يكون عادة إلا

بالتدريج والاقتناع بأن المصلحة محصورة فيه، ومن طرقه الجرائد التي ينشر فيها

المرة بعد المرة بالأساليب المختلفة أن محل الدين المساجد والكنائس دون

الحكومات والمصالح الدنيوية، ومنها رابطة الوطنية وهي أن يكون أهل الوطن

سواء في الحكومة ومصالحها وفي جميع المصالح والمرافق، ولأجل هذا ترى

رجال الدين المسيحي كالجزويت يحاربون هذه الجمعية. وأما رجال الدين الإسلامي

من الفقهاء والمتصوفة فقلما يعرفون شيئًا من أمور العالم، فإذا علم السائل هذا

وعرف الواقع تبين له أن ما أورده من الآيات في غير محله.

***

(الحكومة والأمة)

(ج2) الحكومة ملومة على ما تقصر فيه مما يمكنها أن تعمله من الإصلاح،

والأمة ملومة كذلك، وقد يعذر كل منهما بالجهل، إذا عد الجهل عذرًا، وإنما

كانت الأمة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا؛ لجهلها بقوتها وكيفية الانتفاع بها، وقد

تجهل حكومتها ذلك مثلها، أو تعرفه وتراه مخالفًا لمصلحتها، فتحب أن تبقى الأمة

على جهلها، وإنما ترتقي الحكومات والأمم بالزعماء الذين يؤثرون العمل للمصلحة

العامة على كل شيء، وباستعداد الأمة للاستفادة منهم والعمل بما يرشدونها إليه،

والاستعداد إنما يكون بمجموع حوادث الزمان ووقائعه، وقد يتصدى للزعامة غير

أهلها فيزيد الأمة وهنًا على وهن، إذا آثرته بجهلها على الأهل، وأصحاب النفوذ

الباطل يناهضون كل من يرونه أهلاً للزعامة الحقيقية والنهوض بالأمة؛ لئلا

يضعف نفوذهم أو يشاركهم فيه، وقد وجد في مسلمي مصر زعيم مستوف لشروط

الزعامة التي ترتقي بمثلها الأمم، فلم يؤهلهم استعدادهم لاتباعه لينهض بهم، ووجد

في القبط زعيم، فاجتمعت عليه كلمتهم واستفادوا منه، فازدادوا ارتقاء.

***

(التربية الصحيحة والتعليم والإصلاح)

(ج3) سألتم عن التربية التي تجمع بين مجد الدين وعز الوطن، أهي

التربية التي في المدارس المصرية وتربية من يرسلون إلى أوربة؟ أم التربية

الدينية؟ ولا شك أنكم تريدون أن التربية الدينية هي التي تفيد تلك الفائدة، وأنكم

تعلمون أن المدارس المصرية من أميرية وأهلية ليس فيها تربية دينية ألبتة.

وسألتم كيف السبيل إلى التربية، ومتى تكون؟ وهل هي ممكنة؟ والجواب:

أنها ممكنة لا مستحيلة، وينبغي أن تكون مسعى الجمعيات الخيرية الدينية، ولا

ندري متي يكون ذلك، وها نحن أولاء قد أسسنا جمعية دينية خيرية؛ لأجل التربية

الدينية وتخريج المعلمين والمرشدين الذين يقومون بذلك على وجهه إن أمدنا أغنياؤنا

بالمال. ولكننا نريد أن نجعل إصلاحنا خاصًّا هذا بالدين، وعمران الدنيا من طريق

الأمة لا من طريق الحكومة، أعني أننا لا نريد بعملنا إصلاح حكومة من الحكومات

ولا تربية الموظفين لها، وحسبنا أن نربي مرشدين يعلمون العامة عقيدتهم وعبادتهم

وآدابهم الدينية، وينفرونهم من المعاصي التي تذهب بثروتهم وصحتهم، فتغتال

دينهم ودنياهم؛ كالسكر والزنا والقمار والحسد والتباغض بين أهل وطنهم، وما

أشبه ذلك من المعاصي الضارة، ودعاة يقيمون الحجة على حقية الإسلام، ويدفعون

شبهات الطاعنين فيه، ويزيدون عدد المهتدين به. وأما الحكومة بأشكالها ومذاهبها

وسياستها فإنا عنها مبعدون، ولها أحزاب من دوننا هم لها عاملون.

***

(أي البلاد تقيم الإسلام وتشتد على أعدائه)

(ج4) جميع البلاد التي يغلب فيها الإسلام تعظم فيها شعائره، وما يعد فيها

من شعائره، وإن لم يكن منها كالموالد والاحتفالات المبتدعة والقبور المشرفة،

ويعمل جمهور أهل الحضارة منها بأكثر ما يعرفون أنه لا بد منه من أعماله،

ويتركون أكثر الكبائر من محرماته، وقد ترك كثير منهم بعض أركانه وأقامها

آخرون؛ كالزكاة، فإن الذين يؤدونها في جزير العرب وبلاد فارس والتتار

وبخارى وتركستان هم الأكثرون، والذين يؤدونها في مصر هم الأقلون، أعني من

الذين تجب عليهم.

وربما كان أهل اليمن ونجد أشد المسلمين استمساكًا بالدين وشدة على من

يعاديهم، ولكن عمال الدولة الفاسقين قد نشروا الفسق في المدن الكبيرة التي يقيمون

فيها كصنعاء والحديدة، وأما الأشداء من المسلمين على من يعاديهم في دينهم فهم

الذين تغلب عليهم شدة البداوة، ولم يسر إليهم ترف الحضارة الغربية وأفكارهم؛

كأهل الغرب وجزيرة العرب والفرس والأفغان، ولكن أكثرهم لا يلتزم في شدته

أحكام الدين؛ لأنهم لا يعرفونها، ولا يعرفون كيف يحفظون شرف دينهم ولا دنياهم

بها على النهج الذي سار عليه الإفرنج من العقل والحزم والحكمة والنظام، حتى إن

الأجانب يسلطون بعضهم على بعض وهم لا يشعرون، فتراهم يوقدون نار الحرب

فيفتك بعضهم ببعض باسم الدين؛ لمخالفة عادة أو خرافة تنسب إلى الدين زورًا

وبهتانًا، وربما كانوا مدفوعين إلى ذلك من أعدائهم وأعداء دينهم؛ ليمكنوا له بذلك

من أرضهم وديارهم وأموالهم رقابهم.

وجملة القول: إنني لا أعرف قطرًا ولا بلدًا في الأرض يقام فيه الإسلام كما

أمر الله تعالى في كتابه، وعلى الوجه الذي مضت به سنة رسوله صلى الله عليه

وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين، ولا على ما كان عليه المسلمون في عصر الأمويين

والعباسيين والأيوبيين، فإن الفتن التي حصلت في القرون الأولى لم تفسد دين الأمة

ولا بأسها، بل كانت تدور حول السلطة العليا أي حفظها في أهل بيت معين، لا

تتعدى ذلك إلا قليلاً.

***

(ما يصنع عاشق العلم لا يجد المساعد)

(ج5) لا ندري أي علم يعشق هذا المتيم المضنى فنرشده إلى ما ينبغي له،

فإن من العلوم ما يمكن تحصيله في كل مكان، ومنها ما لا يمكن تحصيله إلا في معاهده

الخاصة كالعلوم والفنون التي يتوقف تحصيلها على الأعمال والتجارب بالآلات،

وقلما يصدق أحد في عشق العلم وتقوى عزيمته في طلبه، ولا يهتدي السبيل إليه،

ومن الناس من يسمي التنمي والتشهي عشقًا وعزمًا وهو غالط في ذلك، قال الشيخ

محيي الدين بن العربي في أول فصل من فتوحاته عقده لبيان ما على المريد الذي لا

يجد المرشد:

إذا لم تلق أستاذا

فكن في نعت من لاذا

وقطع نفسه والليـ

ـل أفلاذًا فأفلاذًا

فتأتيه معارفه

زرافات وأفذاذًا

يريد أنه ينبغي له أن يطلب الحق بالجد والاجتهاد وسهر الليالي.

وقل من جد في أمر يحاوله

واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر

ولو راجع المرء تاريخ النابغين من الأولين والآخرين، لوجد أكثرهم من

الفقراء والمساكين الذين لم يعتمدوا إلا على جدهم واجتهادهم دون المدارس والأساتذة

ويظهر أن العاشق في السؤال، ليس كذلك بدليل طروقه أبواب من كان يرجوا

مساعدتهم، ويعتمد على أموالهم.

نعم.. إن علوم المدارس الرسمية التي غايتها نيل شهادة تجيز لحاملها أن

يجلس على كراسي الحكومة، لا تكاد تنال في هذا العصر إلا بالمال، وطالب هذه

العلوم هو المضنى بحب الوظائف لا حب العلم، فإن المضنى بحب العلم أحد

رجلين: رجل يطلب العلم إرضاء لشهوة عقله، ومحاولة إشباع نهمة نفسه، ورجل

يحب أن يستعين به على إصلاح حال الناس، وكلا الرجلين يسهل عليه أن يجد ما

يطلبه بجده واجتهاده حيث كان، سواء وجد أم لم يجد المال، ومن يطلب العلم بهذا

القصد يحصل في الزمن القصير ما لا يحصله غيره في الزمن الطويل، ويكون ما

يحصله أنفع مما يحصله غيره؛ لأنه لا يعنى إلا بما ينفع، ومن ليس له مثل هذا

القصد يضيع زمنه بكل ما يلقى إليه، لا يفرق بين نافع وضار، ولا حق وباطل.

***

(أسئلة من (لنجه) في خليج فارس)

(س 16 19) من (أحد طلاب العلم بلنجه محمد بن عبد الرحمن بن

يوسف سلطان العلماء) .

جاءتنا الأسئلة الآتية في كتاب مطول، وكان لنا أن لا نجيب عنها؛ لأنها

جاءت على غير شرطنا في قبول الأسئلة، وهي أن تكتب في ورقة على حدتها

حتى لا نتكلف استخراجها من تضاعيف كلام آخر ونسخها، ولكننا نلخصها ونجيب

عنها عناية بمرسلها وبها، وقال السائل - زاده الله علمًا وفهمًا -: إن هذه الأسئلة

رفعت إلى والده وسيجيب عنها (ولعله فعل) وهي:

إلى حضرة من سما سماء المعارف، وأحاط بمقاصد الدين ومطالب العوارف،

قد أبديتم في المحفل الشريف (يريد موضع درس الأستاذ المستفتي أو مجلسه)

حسن سيرة المنار؛ وأنه يحيي السنة ويقمع البدعة، فلا يخفى على حضرتكم أنه

يأمر بعدم توقيف الذهن على ما ذكره المفسرون.

وعليه فلو ادعى مدع أن العدل بين الزوجتين غير واجب لوجوه:

(الأول) إخبار الله تعالى بأن العدل غير مستطاع، وأكد ذلك بالنفي بلن،

وهي وإن لم تفد التأبيد، فلا تنكر إفادتها التأكيد.

(الثاني) تقيد المنهي عنه بجعلها كالمعلقة أي: فلا بأس بما دون هذه الحالة.

(الثالث) جعله تعالى الأزواج قوامين، ولا يليق بالقوام أن يكون مذللاً مقادًا

بعنان من هو قوام عليها، والأحاديث ما فيها (من مال إلى إحدى امرأتيه) فالمراد

الميل المصير لها كالمعلقة. وما فيها (من لم يعدل) فهو بمعنى مال، فهل إذا ادعى

ذلك أحد يؤجر على ذلك أم ينكر؟ فإن قلتم يؤجر، فهو وإن قلتم ينكر عليه فما

وجه ذلك، مع أن المنار قد فسر آية التيمم بوجه لا يوافقه أحد، وأول أحاديث في

ذلك أوضح وأظهر من الأحاديث الدالة على وجوب العدل.

(سؤال آخر) كيف يؤمر بالمعروف وينهى عنه المنكر، مع قولكم إن كل

كائن بالتقدير، ولا تقولون كما تقول المعتزلة بالخلق، ولا كما تقول المجبرة، فهل

هذا إلا تناقض.

فيا سيدي إمام العصر ومقتدى المسلمين مولانا السيد محمد رشيد رضا صاحب

مجلة المنار، المرجو من ألطافكم أن لا تحقروا هذه الديار، ولا تنظروا إليها إلا

نظر الوالد إلى ولده، فإن أهل هذه الديار إلى الآن، كانوا على قدم الجد في إقامة

شعائر الدين. لكن منذ سنين قد حدث فيهم بعض المتفرنجين، فإذا هم على شفا

جرف هار لولا عناية الله ثم إرشاد العلماء الجامعين بين المعقول والمنقول، أجيبوا

جعلكم الله مجدد الملة. ا. هـ يتعلق بالاستفتاء من الكتاب.

(المنار) ههنا مسائل:

(1)

العدل بين الزوجتين.

(2)

تفسير المنار لآية اليتيم.

(3)

مسألة التزام أقوال المفسرين الميتين في فهم القرآن أو عدمه.

(4)

الأمر بالمعروف والقدر.

(العدل بين النساء)

الذي يؤخذ من مجموع الروايات في تفسير السلف لهذه الآية أن اللام في

العدل ليست للجنس بل للعهد، فالمراد بها عدل خاص لا مطلق العدل، فإن بعضهم

فسره بالعدل في الحب، وهو الذي يدل عليه التفريع بقوله:{فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ} (النساء: 129) وحديث: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا

أملك) رواه ابن أبي شيبة وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن المنذر من حديث

عائشة وإسناده صحيح، وفيه وردت الأحاديث التي أشار إليها السائل، وفسره

بعضهم بالوقاع، وهو وإن كان فيه من الاختيار ما ليس في الميل الذي هو سببه،

فالعدل فيه محال، وإذا كانت الآية دالة على أننا لا نكلف هذا العدل الخاص؛ لأنه

غير مستطاع ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فلا ينفي ذلك أن نكلف العدل المستطاع

في المبيت والفقه وحسن المعاملة في الحديث والإقبال ولو تكلفنا، ولا وجه لحمل

الآية على إثبات كون مطلق العدل غير مستطاع؛ لأن الآية لا يمكن أن تكون

مخالفة للواقع المعروف بالضرورة.

فالوجه الأول: من الوجوه التي ذكرها السائل مسلم، ولكنه يفيد أن العدل في

الميل غير واجب؛ لأنه غير مستطاع لا مطلق العدل، ولولا التفريع لكان الأظهر

أن يقال: إن العدل الذي لا يستطاع هو العدل التام الكامل الذي يشمل الحب وما

يترتب عليه؛ مما يعلم بالضرورة أنه لا يدخل في الاختيار مهما حرص المرء عليه

ولا ينفي هذا ولا ذاك أن يكون العدل المستطاع واجبًا، وقد تقدم معنى العدل في

التفسير من عهد قريب، وكونه من جعل الغرارتين على ظهر البعير متساويتين في

الوزن، وهذا غير ممكن على حقيقته في الأخلاق والأمور المعنوية؛ ولذلك قيل:

إن العدل التام الكامل هو صراط الحق الذي وصف بأنه أدق من الشعرة وأحد من

السيف. وهذا ما كان يحرص عليه المؤمنون طلاب الكمال كما تدل الآية.

وأما الوجه الثاني: فهو لا يدل على كونه مطلق العدل غير واجب كما هو

فرض السائل، وإنما يدل على أن بعض العدل في الميل مستطاع وواجب؛ لأن

الميل قسمان: ميل القلب وما يترتب عليه من ميل الجوارح بالالتفات والإقبال

والمؤانسة، فمن مال إلى إحدى زوجتيه كل الميل، فجعل الأخرى بذلك محرومة

من مقاصد الزوجية كلها، وهي: السكون والمودة والرحمة، كان آثمًا لأنه جعلها

كالمعلقة التي ليست متزوجة ولا أيمًا، ومن مال بعض الميل وهو ميل القلب فقط

الذي لا سلطان لاختياره عليه فهو غير آثم.

وأما الوجه الثالث: فليس بشيء، فإن العدل فيمن يقوم المرء بأمر الرياسة

عليهم، ليس ذلاً بل هو العز الحقيقي كالحاكم العادل، يكون عزيزًا بعدله ظاهرًا

وباطنًا.

هذا وإن العدل الذي يدخل في اختيار الإنسان واجب، حتى في معاملة

الأعداء كما هو منصوص في آيات كثيرة، فكيف يتعلق الاجتهاد بتفسير الآية،

فيما يخالف النصوص القاطعة المعلومة من الدين بالضرورة؟ .

فظهر بهذا أن من يستدل بالآية على عدم وجوب العدل بين الزوجتين مطلقًا

ينكر عليه؛ لأنه فسرها بما لا تدل عليه، وبما يخالف النصوص القطعية الكثيرة

المعلومة من الدين بالضرورة، وسيأتي تفسير الآية مفصلاً في موضعه.

* * *

(تفسير المنار لآية التيمم)

التنظير بين هذه المسألة وبين ما نقله المنار من تفسير الأستاذ الإمام لآية

التيمم، وإيضاحه له بالدلائل غير وجيه، فإن ذلك التفسير ليس مخالفًا لنص آيات

أخرى، وإنما هو موافق لما ورد في رخصة الفطر في رمضان، ولا مخالفًا لنص

حديث قطعي، ولم يضطر فيه إلى تأويل أحاديث تدل على خلاف ما اختاره في فهم

الآية كما قيل، بل خرجها على الأصول المعروفة على أنه إذا تعارض القرآن

والحديث ولم يظهر وجه للجمع، فالواجب ترجيح القرآن ورد الحديث إليه ولو

بالتأويل، ولا يرجح على القرآن شيء قط، ولا يعدل به عن ظاهره؛ لأجل اتباع

أحد من المفسرين أو غير المفسرين.

* * *

(التزام أقوال المفسرين الميتين والاستقلال دونهم)

المفسرون طبقات؛ منهم الصحابة والتابعون ومن بعدهم، ولم نر أحدًا منهم

التزم فهم أحد معين منهم، فمجاهد يروي التفسير عن ابن عباس، وينفرد هو

بأقوال يخالف فيها ابن عباس، وابن جرير يروي عن الصحابة والتابعين بأسانيده،

وينفرد هو بأقوال لم يقل بها أحد ممن صحت عنده الرواية عنهم، ويجزم أهل

السنة بأنه لا عصمة لأحد من أولئك المفسرين في فهمه، ولا حجة في قوله، ولا

عصمة للجمع منهم أيضًا. ومسألة إجماع المجتهدين مسألة أخرى، وفيها من

المباحث ما فيها، وحسب السائل منها ما تقدم في تفسير الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: 59)

إلخ.

وجملة القول: إنه لا يوجد مفسر إلا وقد انفرد بأقوال لم يقل بها غيره، ولولا

ذلك لم يكن مفسرًا ولا ممن يفهم التفسير بالاستقلال، والقرآن بحر لم يحط أحد بما

فيه من الدرر والجوهر، ولكل غائص نصيب (إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في

القرآن) ومن كان مقلدًا لا يعنيه ما يقوله المستقلون سواء وافقوا غيرهم أو خالفوه،

ومن كان مستقلاً يستفيد من بحثهم بصيرة ولا يقلدهم فيه، وإنما يعمل بما يظهر له أنه

الحق، فوجود المستقلين في فهم القرآن والسنة لا يضر أحدًا قط، ولكن فقدهم ضار؛

لأنهم حملة الحجة والبرهان، والمقلد لا حجة له وقصارى علمه أن ينقل حجة غيره،

فإذا طرأت شبهة على الدين، لا يجد لها جوابًا منقولاً عمن يقلدهم، بقي حائرًا ويكون

الدين حينئذ عرضة للزوال أو الزلزال إذا حار به أهل الشبهات الجديدة.

(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن آمن بالقدر)

بينا في المنار غير مرة مسألة القدر بما تدل عليه جملة آيات القرآن الواردة

فيها، وأنها ليست كما يقوله الفلاسفة والمتفلسفون من المتكلين، بل هي عبارة عن

إثبات النظام والحكمة في خلق الله تعالى، يجعل كل شيء بمقدار معين لا يعدوه،

فالمسببات تكون دائمًا بقدر أسبابها، ولا يكون شيء من الأشياء أُنفًا كما تزعم

القدرية المبني مذهبهم على قاعدة (الأمر أُنُف) أي إن الله تعالى يستأنف خلق كل

شيء يخلقه استئنافًا، كما يفعل الحاكم المستبد كل شيء، عندما يسنح له ويخطر

في باله استحسانه من غير بناء على نظام معين ولا التزام لمقادير مقررة من قبل،

وقد حدثت بدعتهم في العصر الأول، واتفق سلف الأمة ثم خلفها على ضلالهم في

هذه العقيدة، وأجمعوا أن كل شيء بقدر كما هو نص القرآن الحكيم، ومن شاء

التفصيل في بيان هذه المسألة فليرجع إلى الفتوى الثانية عشرة من فتاوى المجلد

الحادي عشر من المنار (ص 189، 200) .

أما فائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع جريان الأمور بمقاديرها

بحسب سنن الكون في ربط الأسباب بالمسببات، فهي لا تتجلى كمال التجلي إلا

لمن يعرف سنن الله تعالى في ارتباط الأعمال بأسبابها، وقد بينا ذلك في التفسير

وغير التفسير من أبواب المنار مرارًا كثيرة، ونشير إلى ذلك هنا بكلمة وجيزة.

جرت سنة الله تعالى بأن العمل الاختياري يصدر من الإنسان عند جزم إرادته به

، وأن جزم إرادته به لا يكون إلا بالعلم بأن فيه منفعة له أو دفع مضرة عنه في العاجل

أو الآجل، سواء كان العلم بذلك وجدانيًّا ضروريًّا أو كسبيًّا بالنظر في الأدلة. والأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر قد يفيد المأمور والمنهيّ علمًا يبعث إرادته إلى العمل به

فيكون نفعا مفيدًا، ولهذا كان واجبًا، وقد ثبتت فائدته بالتجربة فالمراء فيه مراء باطل

، ولا يعارضه الإيمان بالقدر بل يؤيده ويعد دليلًا عليه.

***

(البطالة يوم الجمعة)

(س20) من أحمد حمدي أفندي النجار الدمشقي بأم درمان (السودان) ،

سيدي الأستاذ العلامة الفاضل السيد محمد رشيد رضا دام فضله.

اجتمع منذ شهرين فريق من تجار هذه البلدة مؤلف من اليهود والنصارى

والمسلمين، وقرروا فيما بينهم بأن يكون لكل ملة يوم راحة من العمل بالثلاثة الأيام

المعروفة، وهي الجمعة للإسلام والسبت لليهود والأحد للنصارى؛ لمجاراة إخوانهم

النصارى بالخرطوم جارتهم، جعلوا غرامة على من يخالف ذلك بواسطة الحكومة،

ومن ذلك الوقت أصبح عموم اليهود والنصارى يبطلون الاشتغال باليومين

المذكورين، ونفر قليل من المسلمين باليوم الثالث، ورفض باقي المسلمين البطالة

بحجة أنه محرم أو مكروه؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} (الجمعة: 10)

إلخ، وأنه وردت بذلك أحاديث كثيرة بالبخاري وغيره من كتب

السنة، تحرم تفضيل أو تعظيم هذا اليوم على غيره، وحصلت بذلك مجادلات بينهم

كثيرة، وراجع بعضهم بعض العلماء هنا فأفتوهم بكراهة عدم الشغل بذلك اليوم

وتفضيله، وما زال بعضهم يعتقد وجوب تعظيم هذا اليوم والبطالة به، وأخيرًا

أجمع الكثيرون باستفتاء فضيلتكم بهذا الأمر فأفتونا بمعني الآية الكريمة، وبما ورد

بكتب السنة وبخلاصة ما ينبغي العمل به، فلا زلتم ملجأ لحل المعضلات

وضياء لهذه الأمة، وأطال الله بقاكم.

(ج) بُلِيَ المسلمون بالخلاف والجهل بآداب دينهم وبمنافعهم الدنيوية

ومصالحهم الاجتماعية، وقد رأيتم ما كتبناه في الموضوع في مقالات (المسلمون

والقبط) وفيه الإشارة إلى الأحاديث الصحيحة في فضيلة يوم الجمعة، وكونه عيدًا

للمسلمين كالسبت والأحد عند أهل الكتاب، ودعوى بعضهم وجود أحاديث تحرم

تفضيل يوم الجمعة على غيره باطلة وغريبة جدًّا، والأمر بالانتشار في الآية

للإباحة لا للوجوب، فهي كقوله تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (المائدة: 2)

ولم يقل أحد من العلماء بوجوب الصيد بعد انتهاء الإحرام، بل المراد إباحته بعد أن

كان محرمًا في الحرم، وكذلك الانتشار بعد صلاة الجمعة، فإن الأمر بعد النهي

يراد به رفع النهي السابق، والذي ينبغي للمسلمين أن يجعلوا هذا اليوم عيد

الأسبوع كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، وفضله على غيره وأن يجعلوه

للاستحمام والصلاة والعبادة وصلة الرحم وزيارة الأصدقاء، وإن كان البيع فيه لا

يحرم إلا في الوقت المخصوص، على أن البيع لا يحرم في يوم العيدين السنويين

عيد الفطر وعيد النحر مطلقًا، فمن احتاج أو اضطر إلى عقد بيع أو غيره في أيام

العيد أو الجمعة غير وقت صلاتها، وعقده يكون صحيحًا ولا يأثم المتعاقدان، وهذا

لا يمنع أن يجعل الجمهور هذه الأيام أعيادًا سنوية وأسبوعية، فالإسلام شرع لنا

كل ما فيه الخير لنا من غير تضييق علينا.

_________

ص: 178

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جماعة الدعوة والإرشاد

(2)

رئيس الشرف للجماعة صاحب الدولة

الأمير محمد علي باشا شقيق الجناب العالي الخديوي

لما علم صاحب الدولة الأمير محمد علي باشا شقيق سمو الأمير المعظم

بتأسيس هذه الجماعة سر سرورًا عظيمًا، لما حلاه الله تعالى به من الغيرة على

الدين، والعلم بشدة حاجة الإسلام إليه؛ لخبرته الواسعة بأحوال المسلمين،

واشتغاله بالمشروعات الإسلامية كالاكتتاب لتجديد بناء جامع عمرو بن العاص الذي

هو أول مسجد للإسلام في هذا القطر، صلى فيه كثير من الصحابة رضوان الله

عليهم، وما اطلع عليه من ذلك في سياحاته في الشرق الأدنى والأقصى، ولذلك

تفضل بكتاب يظهر فيه ارتياحه للعمل وتبرعه له بمئة جنيه مصري.

وقد قرر أعضاء مجلس إدارة الجماعة بإجماع الآراء اختيار دولته رئيس

شرف للجماعة، والتشرف بزيارته في قصره؛ لعرض هذا القرار عليه وشكره

على عنايته وفضله، وأنفذوا ذلك في ضحوة يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر، فقابلهم

الأمير - حياه الله تعالى - بما عهد فيه من الطلاقة والحفاوة، وقبل رياسة الشرف

للجماعة بالشكر والعناية، ونثر عليهم من درر الفوائد التي اقتبسها من رحلته في

اليابان والصين، ما زادهم بصيرة في عملهم العظيم، فخرجوا مودعين من دولته

أجمل وداع، وهم ما بين مثن وداع.

إنه ليسر كل عاقل مخلص في هذه البلاد وكل محب لها ولخير أهلها أن

يشارك الأمراء فيها سائر طبقات الأمة في الأعمال النافعة والمشروعات العامة؛

كالجمعيات الخيرية والعلمية والدينية وإنشاء المدارس؛ لأن هذا التعاون أرجى

للنجاح وأقرب إلى الحكم الذاتي طريقًا، وقد سرنا أن كان صاحب الدولة الأمير

حسين كامل باشا عم الجناب الخديوي رئيسًا للجمعية الخيرية الإسلامية، والأمير

أحمد فؤاد باشا رئيسًا للجماعة المصرية، فلا بدع أن نزداد سرورًا أن صار الأمير

محمد علي باشا رئيسًا للجامعة الدعوة والإرشاد، وندعو الله أن يوفقه دائمًا إلى

خدمة العلم والدين، وترقية شؤون المسلمين.

***

عضو الشرف الأول للجماعة

(الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم)

زار مصر في هذا الربيع الوجيه السري، الغني السخي، الكريم ابن الكريم،

الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم، وآل إبراهيم هؤلاء أكبر تجار العرب وأجودهم ومحل تجارتهم في بمباي ثغر الهند العظيم.

كان الشيخ قاسم علم بمشروع الدعوة والإرشاد وهو في الهند، فلما جاء

القاهرة كان همه الأول فيها لقاء كاتب هذه السطور؛ لأجل مساعدة المشروع،

فزرته في فندق شبرد فكان جل حديثنا في ذلك، وكاشفني برغبته في المساعدة،

وقال لي: إن آمالنا في خدمة الإسلام معلقة بكم، فعليكم العمل وعلينا المساعدة

بالمال، وسألني إلى أين انتهيتم في المشروع؟ قلت: لا يزال في طور التكوين،

وقد وضعنا له النظام الأساسي، فكان كالنظام الذي وضعناه لجمعية العلم والإرشاد

في الآستانة، وزدنا فيه ما يتعلق بالدعوة إلى الإسلام، وألفنا له مجلس إدارة من

خيار المصريين، وقد أقروا هذا النظام بعد مراجعة ومناقشة وتحوير كما هي العادة،

ولا يمكن أن نقبل التبرعات إلا بعد إصدار النظام الأساسي، وسيكون ذلك في يوم

المولد النبوي الشريف.

ولما رد لي الشيخ الزيارة في إدارة المنار، راجعني في مسألة تبرعه

واشتراكه فيه، فسألته عن مقدار ما يحب أن يجود به، فاقترح أن يقول ذلك لي

سرًّا حتى إنه لم يصرح به أمام كاتب سره المرافق له في سياحته وهو عبد الله

أفندي البسام، وبيت البسام يلي بيت إبراهيم في تجار العرب الكرام.

بحثت معه في سبب إخفاء ما يجود به وعدم الإذن في ذكر اسمه، فعلمت أنه

الإخلاص وابتغاء المزيد من الثواب، فأقنعته بالدلائل بأن إظهار اسمه لا ينافي

الإخلاص، وأنه قد يكون نافعًا من حيث يكون قدوة في الخير، وفرقت له بين

الصدقة على الفقير والصدقة في المصالح العامة، فسكت ولم يظهر ارتياحًا، ثم

حضر الاجتماع الذي عقده للدعوة إلى التبرع؛ لإنشاء مسجد للمسلمين في لندره

عاصمة إنكلتره وهنالك دعت الحال لخطبة وجيزة في إظهار الصدقات وإخفائها

ألقيتها هنالك وسيأتي ذكرها في باب الأخبار من هذا الجزء. فازداد الشيخ قاسم

اقتناعًا، وبعد ذلك كاشفت إخواني أعضاء مجلس جماعة الدعوة والإرشاد باشتراكه

وبتبرعه.

***

(مقدار ما تبرع واشترك به الشيخ قاسم)

2000 جنيه إنكليزي تبرع ناجز

0100 جنيه إنكليزي اشتراك سنوي

بلغت إخواني أعضاء مجلس إدارة جماعة الدعوة والإرشاد ما تبرع واشترك

به هذا المحسن العظيم، وكان له به فضيلة السبق والمسارعة إلى هذا الخير،

فأجمعنا على عقد جلسة خاصة للمذاكرة في الشكر له، وأجمعنا في تلك الجلسة على

تسمية (عضو الشرف الأول لجماعة الدعوة والإرشاد) ، وعلى أن يكون باسمه

مكافأة سنوية توزع على تلاميذ (دار الدعوة والإرشاد) وعلى أن نبلغه ذلك في

كتاب شكر نحمله إليه بأنفسنا، وأننا نذكر ذلك الكتاب بنصه:

(كتاب جماعة الدعوة والإرشاد إلى الشيخ قاسم إبراهيم)

(بسم الله الرحمن الرحيم)

الحمد لله الذي قدر فهدى، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، وجعل إنفاق

المال في سبيله، أول آيات صدق الإيمان به، فقال عز وجل: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ

الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) والصلاة والسلام على إمام المصلحين،

وخاتم النبيين والمرسلين، سيدنا محمد النبي العربي الذي أرسله الله رحمة للعالمين،

وأتم به النعمة وأكمل الدين، وعلى آله وأصحابه الذين نشروا دعوته، وأقاموا

سنته، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

من جماعة الدعوة والإرشاد بمصر، إلى السابق إلى الخيرات بإذن الله،

المسارع إلى المغفرة ورضوان من الله، المساعد على إحياء الدعوة إلى الله،

السخي الكريم، المحسن العظيم، الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم التاجر العربي

في بمباي من الهند، ونزيل مصر الآن، زاده الله نعمة وتوفيقًا.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

وبعد، فقد بلغ الجماعة وكيلها السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار ما وفقكم

الله تعالى له من التبرع لها بألفي جنيه ناجزة، والاشتراك فيها بمئة جنيه مسانهة،

فاجتمع مجلس إدارتها اجتماعًا خاصًا للمذاكرة في كيفية الشكر لكم لأن النبي صلى

الله عليه وسلم قال: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) .

وقرر باتفاق الآراء تسميتكم (عضو الشرف الأول) في هذه الجماعة، وأن

يجعل باسمكم مكافأة سنوية لطلاب مدرستها الكلية (دار الدعوة والإرشاد) لتكون

ذكرى دائمة؛ لسبقكم إلى المشاركة في تأسيس هذا العمل الذي يراد به خدمة العالم

الإنساني، بنشر الدين الإسلامي، دين الفطرة والمدنية، الجامع بين أسباب

السعادتين الدنيوية والأخروية، وقرر تبليغكم ذلك في كتاب شكر يوقع عليه أعضاء

المجلس، ويحملونه إليكم بأنفسهم، وها هو ذا فتقبلوه محمودين مشكورين، ولا

زلتم موفقين لما ينفع الناس ويرضي الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله.

وكتب في القاهرة لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وثلاث

مئة وألف من هجرة الداعي إلى طريق الحق.

***

عناية مولانا الأمير أيّده الله تعالى بالشيخ قاسم آل إبراهيم

بلغ مولانا العزيز أيده الله تعالى أن هذا السري العربي، الكريم الغيور على

الملة والدولة، قد زار مصر في هذه الأيام سائحًا، وأنه هو الذي أعطى وجمع

المال الكثير لسكة الحجاز الحديدية وللأسطول العثماني، وأنه قد تبرع الآن لجماعة

الدعوة والإرشاد بمبلغ كبير واشترك فيها، فارتاح سموه لذلك وسر به، وأجدر

بسموه أن يرتاح لخدمة دينه القويم ونجاح المشروعات العلمية الخيرية في البلاد

العثمانية وفي قطره السعيد، ومن أجدر من سموه بمعرفة قيمة كبار الرجال العاملين،

وكرام الأجواد المحسنين؟ وقد أظهر الارتياح للقاء ضيف مصر الكريم، وعين

الوقت لذلك فتشرف الشيخ قاسم بمقابلة سموه مقابلة خاصة في قصر القبة، وكان

بصحبته كاتب هذه السطور، فمكثنا زهاء ثلثي ساعة في حضرته، لقي فيها ضيف

مصر الكريم من حفاوة عزيزها العظيم وإقباله وعطفه، ما ملأ قلبه غبطة وسرورًا،

وقد كرر له الأمير عبارات الشكر البليغة المؤثرة، ورغب إليه أن يبلغ سموه كل

ما يريد من مساعدة، حتى قرأت في وجه الشيخ آيات تأثير كلام الأمير وتواضعه،

وسأله عما رآه من آثار مصر، فعلم أنه لم ير القناطر الخيرية، فقال: إنني سآمر

بإعداد باخرة من بواخر النيل الخديوية لكم، تركبونها إلى القناطر للنزهة ورؤية

هذا العمل المصري العظيم الذي هو ركن من أركان ترقي الزراعة والثروة في هذه

البلاد (وسموه حقيق بأن يفخر بهذه القناطر التي هي من أفضل ما عمل جده

الأعلى؛ من أسباب عمران هذه القطر) ثم انصرف الشيخ من حضرة الأمير وهو

يردد الدعاء والثناء.

***

(الحفاوة بالشيخ قاسم آل إبراهيم)

كان يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر موعد زيارة أعضاء مجلس (جماعة الدعوة

والإرشاد) للشيخ قاسم، وموعد النزهة النيلية في الباخرة الخديوية، اجتمع إخواننا

الأعضاء في إدارة المنار بعد الظهر، وكان كتاب الشكر الذي نشرنا نصه آنفًا قد

كتب بخط جميل فوقعوه بأيديهم، وتخلف منهم محمد لبيب بك البتنوني فقط؛ لأنه

كن منحرف الصحة. ثم قصدنا فندق شبرد، فلقينا الشيخ ينتظرنا في بهو الحجرات

التي يقيم فيها من الفندق، فقدمت له أخانا الرئيس محمود بك سالم وهو عرفه بسائر

الأعضاء، وتلا أحدنا كتاب الشكر وأعطاه للرئيس، وقدمه الرئيس للشيخ، ثم

ذكرنا للشيخ قاسم أن هذا الوقت هو موعد النزهة النيلية التي أكرمه بها الأمير،

وأنه أذن للشيخ أحمد زناتي أن يبلغ إخوانه أعضاء جماعة الدعوة والإرشاد أن

يكونوا معه في هذه النزهة، فأجاب شاكرًا.

ركبنا السيارات الكهربائية (الأتموبيلات) من أمام الفندق إلى ساحل روض

الفرج، حيث كانت السفينة الخديوية راسية، فركبنا فيها باسم الله مجراها ومرساها،

ولما توسطت المسافة بين روض الفرج والقناطر، نصبت مائدة الشاي وما يتبعه

من اللبن وأنواع الحلوى والفطير والمثلوجات، فأصاب كل من الضيف الكريم

والجماعة ما شاء منها.

وأرست السفينة أصيل ذلك النهار الجميل عند حديقة منتزه القناطر، فخرجنا

وطفنا بالضيف الكريم القناطر كلها، ودخلنا الدار التي فيها مثل ونماذج أعمال

الري في القطر المصري، ثم عدنا إلى السفينة عند الغروب، فعادت بنا إلى ساحل

البلد.

وقد رغب الشيخ قاسم إلى الشيخ أحمد زناتي عند وداعه أن يبلغ الأمير شكره

ودعاءه على هذه العناية به، ونحن أولى بالشكر والدعاء، فنسأل الله تعالى أن يديم

التوفيق لأميرنا، وأن يحسن جزاء هذا المحسن إلى جماعتنا.

***

الرابطتان الإسلامية والوطنية

(وجماعة الدعوة والإرشاد)

أتى على المسلمين حين من الدهر وهم أعلى أهل الأرض حياة، وأشدهم قوة

ومنعة، وأكثرهم خيرًا ونائلاً، وأوسعهم كرمًا وفضلاً، ثم قضت سنن السكون أن

يكون من بعد تلك القوة ضعف، كاد يكون موتًا زؤامًا، وقد دبت فيهم الآن حياة

جديدة، تتنازع رابطة الإسلام فيها روابط أخرى كالجنسية الوطنية واللغوية.

من آيات هذه الحياة الجديدة تبرع الشيخ قاسم إبراهيم بألفي جنيه لجماعة

الدعوة والإرشاد، استكبر هذا السخاء كبراء المسلمين بمصر وغير مصر

واستكثروه، استكبروا أن يعطي مسلم مالاً كثيرًا لخدمة دينه في بلد غير بلده،

ووطن غير وطنه، لا يرجو به رتبة ولا وسامًا، ولا الزلفى من الملوك والأمراء،

ولا الجاه والشهرة عند الدهماء، وقد طال عليهم العهد، ولم يسمعوا بمثل هذا

العطاء.

لو تأمل مسلمو هذه البلاد فيما بين أيديهم لرأوا من مدارس جمعيات الإفرنج

الدينية ومستشفياتهم وجرائدهم ما ينفق عليه مئات الألوف من الجنيهات في كل عام؛

من تبرع الأسخياء الغيورين على دينهم، المجتهدين في نشره وتحويل الناس كلهم

إليه وإدخالهم فيه، وهم يقرؤون في الصحف تبرعهم بالملايين لإحياء العلم والدين،

فكيف يستكبرون أن يكون في المسلمين من له غيرة على دينه كغيرتهم، وحرص

على نشره كحرصهم، أو ما يقرب منه؟

ولو نظر المسلمون إلى ما وراءهم لرأوا من آثار سلفهم وأوقافهم في أيام

حياتهم الأولى ما يستصغر دونه كل كبير، ويعد ما يستكثرونه اليوم غير كثير،

فإن معظم بلاد المسلمين وأرضهم قد وقفت على الخير، ولكن ضاعت وقفيات أكثرها

فعادت ملكًا، وما حفظ منها ليس بقليل، ولكن ما سلم من تلك الأوقاف من

اغتصاب الأهالي ضبطته الحكومات. ولو أن مجلس العثمانية أحصى الأوقاف،

وأعاد إليها ما أكلته الحكومة منها وما تصرف به عبد الحميد وأعوانه، وفصلها من

الحكومة وجعلها بأيدي الأمة بنظام يكفل وضع ريعها في مواضعه، وصرفه على

المنافع العامة؛ كالتعليم والتربية وإصلاح شؤون الأمة لأغنى مسلمي المملكة

العثمانية عن تبرعات المعاصرين الذين غلب على أكثرهم البخل إلا على شهواتهم.

الشيخ قاسم إبراهيم رجل مسلم، أمته هي الأمة الإسلامية أينما وجدت وحيثما

حلت، ولم يترب على بدعة الوطنية المفرقة التي يعد بها المسلم من أهل بلد دخيلاً

بين المسلمين في بلد أخرى، ليس له عليهم حق الإخاء ولا المساواة، لم يترب

على هذه البدعة التي فتن بها بعض المسلمين في هذه البلاد، ولهذا جاد لجماعة

الدعوة والإرشاد مما جاد به، ووعد بأن يجمع لها أكثر من ذلك، فأين منه ذلك

الرجل المفتون بنزعه الوطنية التي رجحت بها كفة القبط في مصر على كفة

المسلمين؛ إذ قال: كيف نبذل المال لجمعية تربي الدعاة والمرشدين لأجل إحياء

الإسلام ونشره في غير مصر! !

إن سرى هذا الشعور الوطني إلى جمهور المسلمين، فأنذرهم بطشة الله تعالى

الانحلال والزوال، ونسأل الله تعالى أن يقي المسلمين شر هذا الشعور المتدفق على

مثال هذا المغرور، وشر دعاة هذه الوطنية الخاطئة الكاذبة التي كانت من أكبر

المصائب على المسلمين، على أنها لم ترض غيرهم من الوطنيين.

إن سم هذه الوطنية لم يدخل بنية مسلمي جزيرة العرب، ولا مسلمي الهند؛

لذلك نرجو أن يتبرع كثير من أغنياء تلك البلاد لجماعة الدعوة والإرشاد، كما

يتبرع الإنكليز والأمريكان والفرنسيس لجمعياتهم الدينية في الشرق الأدنى والشرق

الأقصى، ولا يضر هذا العمل بخل المفتونين بالوطنية عليه، ولا تنفيرهم عنه.

هذا، وإننا نرجو من سخاء مسلمي مصر ما لا نرجو مثله من غيرهم، فهذا

العمل عملهم، لهم من شرفه وثوابه ما ليس لغيرهم، وهم من أوسع المسلمين ثروة

وأبسطهم يدًا، والرابطة الإسلامية عند السواد الأعظم منهم أقوى من الرابطة

الوطنية، ولا قيمة لأولئك الأفذاذ الشذاذ الذين يرون الوطنية والدين ضدان،

ويرون أنه يجب أن تنسخ الوطنية آية الدين وتحل محله في ارتباط أفراد الأمة

بعضهم ببعض، حتى لا يبقى له تأثير إلا في المعابد.

هؤلاء الغلاة في الوطنية، لا يزالون قليلي العدد عندنا وأكثرهم لا يتجرأ على

إبداء رأيه كله، بل يدهن للناس حتى يوهمهم أحيانًا أنه يغار على الدين ويؤيده،

وأن وطنيته نافعة للمسلمين أو خاصة بهم، وأنه لا يريد بها إلا خدمتهم، وأنه

يخادع الإفرنج وغيرهم بذلك، حتى لا ينسبوه إلى التعصب الديني.

الإسلام والنفاق هما الضدان اللذان لا يجتمعان، فنحن لا نخادع ولا ندهن ولا

نقول بهذه الوطنية الخاطئة الكاذبة التي تحل عرى الإسلام وتقطع أخوته العامة،

وتحل محلها أخوة وطنية بين المسلمين وغيرهم. ولكنها أخوة نفاق وخداع يمقتها

الدين، ويكون الغبن والخسار فيها على المسلمين، كما نشاهد في البلاد من ارتباط

المسلمين بالقبط، وقد شرحنا القول فيه بمقالات خاصة.

حاربت القبط الحزب الوطني ما لم تحارب غيره من الأحزاب، واتهمته

بالتعصب الديني بما لم تتهم بمثله سائر المسلمين، فعلم من ذلك أن دعوة الوطنية

بمصر قد أضعفت الأخوة الإسلامية، ولم تستبدل بها أخوة وطنية حقيقية.

وقد جنت هذه الوطنية الخاطئة الكاذبة على الدين نفسه، لم تقف جنايتها عند

حد رابطته الجنسية وأخوته العامة. ذلك بأن الفضيلة والكمال والمزايا التي يتفاضل

بها أهلها، ويكونون من الزعماء والرؤساء ليست من فضائل الدين، ولا مما يعده

الدين كمالاً، فيجوز في عرفها أن يكون الزعيم الذي يقود الأمة، وتبذل له أموالها،

وتطلب منه حياتها فاسقًا عن أمر ربه، يخاصر في حله وترحاله الأخدان من

المومسات الإفرنجيات، ويألف في كل مكان ينزل فيه المواخير ويهجر المساجد.

حدثني بعض المصريين الذين التقوا ببعض زعماء الوطنية في الآستانة منذ

سنتين؛ أن هذا الزعيم المليم كان يقول: إنه مل النساء الإفرنجيات، وإنه يريد أن

يتمتع بالتركيات، ولا يدري كيف يصل إلى الفاسقات منهن، نعم.. ليس كل الذين

يلهجون بالوطنية ويرفعون كلمتها مثل هذا الزعيم، ولكن الأمة التي يشرف فيها

مثله، تكون أخلاقها وآدابها وعقائدها على شفا جرف هار، فإذا انهار بها، وقعت

في الخزي والعار، ولها في الآخرة عذاب النار.

غلاة الوطنية يمقتون الإصلاح الإسلامي وأهله؛ لأنهم يرون أن المسلمين إذا

صلح شأنهم بدينهم لا يمكن أن يسود فيهم عباد الشهوات، ولذلك كانوا للأستاذ الإمام

رحمه الله بالمرصاد، حتى إنهم حرضوا اليهود عليه عند تفسيره للآيات التي

وبخهم الله تعالى بها في كتابه، فلا عجب إذا وجد فيهم من يقاوم مشروع الدعوة

الإرشاد، وينفر الناس عنه بضروب من الكذب والإفك والزور والبهتان والعضيهة

والغيبة والنميمة والمحل والسعاية، وأن يجعلوه - وهو أجل ما يخدم به الإسلام -

آفة على الإسلام، فإنهم يعبرون بالإسلام عن وطنيتهم وشهواتهم وحظوظهم

وأهوائهم.

يا أهل الوطنية، لا تغلو في دينكم، ولا تقولوا على دعاة الدين غير الحق،

اتركوا لنا خدمة ديننا نترك لكم ما أنتم عليه، إن إسلامنا الصحيح يعطي غير

المسلمين في بلاد الإسلام من الحقوق ما لا تعطيه وطنيتكم التي جنت على الإسلام

وعلى الوطن. ألم تروا أن غير المسلمين لم يعارضوا المشروعات الإسلامية ولا

أهلها، ولكنكم كنتم أنتم المعارضين. فإن أبيتم إلا الطعن والمعارضة، فاعلموا أن

وطنيتكم الباطلة لا بقاء لها إذا عارضها إسلامنا الحق، فإنما بقاء الباطل في نوم

الحق عنه، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

لا أقول هذا بلسان جماعة الدعوة والإرشاد ولا بالوكالة عنهم، وإنما أقول

قولي هذا باسم الإسلام، فكل من يقاوم الإسلام يقاومه أهل الاستمساك به والغيرة

عليه.

جماعة الدعوة الإرشاد بمعزل عن السياسة وأحزابها، تطلب التعاون من كل

حزب، وتقبل المساعدة من كل أحد، وأبوابها مفتوحة لكل مسلم، وأبغض الأعمال

إليها وشر السيئات في نظرها الخصام والتعادي والتخاذل والتخاصم؛ لأنها جماعة

توحيد واعتصام، لا حزب تفريق وخصام، وقد وسعتها الحرية التي وسعت

الجمعيات المسيحية والإسرائيلية، ووسعت كثيرًا من الخيرات والشرور في هذه

البلاد، فلماذا ثقلت على قلوب أولئك المرجفين، وطفقوا ينفرون عنها حتى باسم

الدين؟

لماذا لا ينفر ذلك المرجف المسلمين عن الصحف الدينية التي تطعن في دينهم

وتشككهم فيه، وكثير منهم مشتركون فيها، ولماذا لا يرد عليها، ولا يرجف

بالجمعيات التي تنشرها؟ ؟

وجملة القول: إن المسلمين يتنازعهم في البلاد التي دب إليها التفرنج

عاملان من عوامل الارتقاء: عامل الإسلام الجامع لكل أسباب الارتقاء، وعامل

الجنسيات الجديدة التي أحدثها التفرنج، ورأينا أن المسلمين لا يرتقون ولا يرتقي

سائر أهل وطنهم إلا باتباعهم هم هدى الإسلام نفسه، وكم أقمنا على ذلك

من البراهين، ونحن مستعدون لإثبات ذلك في كل حين.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 191

الكاتب: محمد رشيد رضا

المسلمون والقبط

(النبذة الثانية)

عجبنا من الحركة القبطية الأخيرة وحق لنا العجب، وأن نبحث عن العلة

والسبب، شرذمة قليلة في أمّة كبيرة تأكل من ثمراتها زهاء ثلاثين من المئة، وهي

زهاء خمسة أو ستة في المئة، ثم تتصاعد زفراتها، وتتعالى نبآتها وهيعاتها: قد

ظلمنا المسلمون في وطننا، وهضموا حقوقنا لأجل ديننا، وتستنجد جرائد أوربة

وقسوسها ليلزموا الدولة الإنكليزية أن تنصر الفئة القليلة لأنها مسيحية، على الفئة

الكثيرة الإسلامية، أليس خطبها من أهم ما يبحث عنه، ويبين وجه الصواب فيه؟

ليعلم لماذا لم ترض بما كانت تأكله من حقوق غيرها بالهدوء والسلام، حتى اختارت

هذا اللدد في الخصام.

***

(بطرس باشا غالي)

بلى.. كان لهذه الفئة زعيم عظيم يأخذ بحجزها، ويمسكها إذا هبت رياح

الطيش فهمت أن تطير بها، ويحل جميع مشاكلها، ويقودها بالحكمة إلى أمانيها

ومقاصدها، مراعيًا سنن الاجتماع التي أشرنا إليها في صدر النبذة الأولى من هذا

المقال، فلما اخترم ذلك الزعيم العظيم، لم يكن له خلف في عقله وحكمته، ورويته

وحنكته، فتصدى للزعامة مثل جندي إبراهيم وشنودة وأخنوخ فانوس ممن لا

بضاعة لهم إلا شقشقة اللسان، والقدرة على إثارة الأضغان، وكانت العاصفة بفقد

الزعيم شديدة فطارت بالقوم، ولم تقع بهم على ما يستقرون عليه إلى اليوم.

ذلك الزعيم هو بطرس باشا غالي الذي كان صخرة القبط التي ترتد عنها

قرون الوغول واهية، وتبنى عليها كنيسة مصالحهم فتكون ثابتة راسخة، وكان

أكبر ما أعده من آيات ترقيتهم، معرفتهم قيمة زعيمهم وخضوعهم لزعامته،

وإعلاؤهم لكلمته.

بلغ من دهاء هذا الزعيم القبطي أن جمع بين الضدين، ووضع نفسه موضع

الثقة من السلطتين، فكان - والأمير والعميد راضيان عنه - يقدم ما يشاء غير هياب

ولا وجِل، فإذا أراد أمضى، وإذا قال فعل.

كانت سهام متحمسي الوطنية من المسلمين تسدد إلى المسلمين من نظار

الحكومة وكبار رجالها دونه، على علمهم بعصبيته لطائفته وتقديمه إياهم على

المسلمين، منذ كان وكيلاً لنظارة الحقانية إلى أن صار رئيسًا للنظار.

وهو الذي أمضى وفاق السودان بعد أن امتنع عنه مصطفى باشا فهمي، وقال:

إنه حق الدولة العلية دوننا، وهو الذي رأس محكمة دنشواي؛ لأنه كان نائبًا عن

ناظر الحقانية، ولم يحدث في مصر منذ كان الاحتلال إلى اليوم ما آلم المسلمين

وهيج قلوبهم مثل هذين الأمرين، ولم تكتب أقلامهم أشد مما كتبته فيهما.

وكان من عجائب سيرة بطرس باشا أنه سلم من أسنة أقلامهم، وأسلات

ألسنتهم، فبقي عرضه وافرًا لم يكلم، وشرفه مصونًا لم يثلم، على حين وزراء

المسلمين وكبراؤهم يفرى أديمهم، وتؤكل بالغيبة والغميزة لحومهم.

يحفظ المسلمون على بطرس باشا أمورًا كثيرة في الاهتمام بطائفته وتقديمها،

وقد سألت مرة صديقًا لي من كبراء الإنكليز الذين كانوا موظفين في الحكومة

المصرية؛ أيتعصب بطرس باشا للقبط ويؤثرهم على المسلمين كما يقال؟ قال:

نعم.. قلت: أيفعل ذلك غيره من النظار المسلمين والرؤساء فيقدمون المسلم على

غيره، قال: لا.. ولكن أيهم أحسن؟ ؟

لما كانت واقعة المحاكم الشرعية، وأرادت الحكومة أن تجعل في المحكمة

الشرعية العليا عضوين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية، هاج المسلمون

في مصر، وحملوا على الحكومة حملة منكرة في الجرائد، واجتمع علماء الأزهر

أول مرة للإنكار على الحكومة، وكان من المتحمسين المشهرين بالحكومة من يتهم

الأستاذ الإمام بالرضى بالمشروع وتأييد الحكومة فيه، فسألته عن ذلك، فعلمت منه

أنه سعى في مقاومته سرًّا جهد طاقته؛ لأنه يضر ولا يفيد المطلوب، وقال: إن

الواضع الحقيقي له هو بطرس باشا لا ناظر الحقانية الذي يلعنه الناس، ومن

مقاصد بطرس باشا فيه التمهيد لإلغاء المحاكم الشرعية، وجعل الحكم في الأمور

الشخصية من خصائص المحاكم الأهلية؛ لأن طلبة الحقوق يتعلمون الفقه الإسلامي،

فهو يريد أن يتعود المسلمون بالتدريج حكم لابسي الطرابيش في القضايا الشرعية،

حتى لا يبقى للمسلمين في الحكومة المصرية شيء من المشخصات الملية. قاوم

الشيخ الباشا في ذلك بمثل سيعه إليه، وكان كل منهما صاحبًا للآخر عارفًا لقيمته.

على ذلك كله، كان بطرس باشا آمنًا في سربه، عزيزًا في قومه، محترمًا

من المسلمين، يزوره حتى كبار علمائهم ورجال الدين فيهم، ولم يعلم أحد ما خبأه

له القدر، حتى حمي الأمر وقضي الأجل.

بينا فيما سبق أن الإفرنج يعنون بفرنجة غيرهم ليجذبوهم إليهم، وأن

الضعيف يقلد القوي فيما يسهل التقليد فيه أولاً ثم في غيره، وأن نغمة الوطنية في

مصر هي من هذا الباب، وأن المتحمسين فيها صاروا لا يفرقون بين الوطنيين

لأجل الدين، حتى كان منهم من يرضى أن يكون أمير البلاد قبطيًّا، وكان من

هؤلاء الوطنيين المتفرنجين شاب عصبي المزاج اسمه إبراهيم الورداني، تعلم في

أوربة، فكان من حظه في التفرنج قراءة أخبار الفوضويين الذين يجعلون أنفسهم

فدية لوطنهم، ولما صار بطرس باشا رئيسًا للنظار، وكان أهم ما حدث في

وزارته مشروع تجديد امتياز قنال السويس، وقامت الجرائد الوطنية تشرح ضرر

المشروع وغبن مصر فيه، وفائدة الشركة منه، اندفع إبراهيم الورداني بما اقتبسه

من تعاليم أوربة وتربيتها لا الأزهر الذي ربما كان لم يدخله قط، ورصد خروج

بطرس باشا من نظارته، وأطلق عليه الرصاص جهرًا فأصابه، ولم يلبث أن

قضى نحبه، ولم يفر الجاني ولا أنكر بل صرح بأنه تعمد قتله؛ لأنه اعتقد أنه

جان على وطنه بوفاق السودان ومحكمة دنشواي المخصوصة من قبل، وأنه يريد

أن يجني عليه الآن بمشروع قنال السويس.

فعل الورداني فعلته، فحكم عليه بالإعدام فأعدم شنقًا، كبر الخطب على القبط

وحق لهم ذلك. ولكن المسلمين لم يقصروا في مشاركتهم في كل شيء من تشنيع

الجناية، وتشييع الجنازة، وتأبين الفقيد ورثائه، بما لم يرثوا ولم يؤبنوا بمثله

وزيرًا مسلمًا من قبله، اشترك في ذلك أمراؤهم وعلماؤهم، وكتابهم وشعرائهم، دع

رجال الحكومة من جميع الطبقات؛ فقد كان الفقيد رئيسًا لهم.

كل ذلك لم يرضِ القبط، بل أرادوا أن يأخذوا مسلمي القطر كافة بذنب

الورداني، فطفقوا يكتبون ويستكتبون بعض المتعصبين من المشاركين لهم في الدين

باتهام المسلمين بالتعصب الديني، وجعل الجناية اعتداء من الدين الاسلامي على

الدين المسيحي وأهله؛ لاعتقادهم أن هذا هو محل الضعف من المسلمين، وموضع

التأثير في تهيج الإنكليز وسائر الاوربيين عليهم؛ لاتفاق الجميع على أن لا يتركوا

للمسلمين شيئًا من المقومات ولا من المشخصات الملية، لما بيناه في فاتحة النبذة

الأولى من الأسباب الاجتماعية.

قابل المسلمون كل هذا العدوان بالحلم، فاستضعفهم القبط وأسرفوا في الطعن

والقدح في جرائدهم، وأوفدوا إلى إنكلترة من ينوب عنهم في إقناع الجرائد

الإنكليزية والنواب الإنكليز ورجال الدين والحكومة في لوندرة؛ بأن القبط مظلومون

مغبونون في مصر لأجل دينهم ووالوا ذلك، وأدمنوه سنة كاملة، احتفلوا في

خاتمتها بذكرى فقيدهم العظيم، وكان يظن أن المسلمين لا يشاركونهم في هذا

الاحتفال بعد تلك الغارة الشعواء في جريدتي الوطن ومصر على الكتب العربية

والآداب العربية والديانة العربية (الاسلامية) ، ولكن المسلمين كذبوا الظن، فهرع

علماؤهم وكبراؤهم الى مدفن الفقيد وكنيسة طائفته، وأبنوه بالنثر والنظم وأطروه

أشد الإطراء، فكان من اللائق المعقول أن تقف القبط عند هذا الحد من الظفر،

وتواتي طلاب الصلح من المسلمين الذين اعتذروا عما كتبه القبط من سوء القول؛

بأنه رأي أفراد منهم لا يؤخذونهم بشذوذهم فيه.

***

(المؤتمر القبطي وتأثيره)

لو كان للقبط زعيم عاقل كذلك الزعيم الذي فقدوه، لما سمح لهم بذلك التقحم

الذي تقحموه، ولو كان لهم زعيم له نصف عقله وحكمته، لأوقفهم عند الحد الذي

انتهى به الحول بعد مصرعه، عملاً بتحديد لبيد لمدة الحزن والرثاء ولكنهم بعد

انتهاء الحول، وبعد تلك المجاملة من المسلمين في الاحتفال التي عدها المتزاحمون

على الزعامه فيهم ضعفًا ومهانة، انبروا إلى تصديق أقوال جرائدهم بالعمل، فألفوا

مؤتمرًا قبطيًّا عامًّا في أسيوط التي سماها بعضهم (عاصمة القبط) ؛ لإثبات الغبن

الذي أصابهم وبيان المطالب القبطية التي يريدون بها مساواة المسلمين، وأولها: أن

تسمح الحكومة للموظفين منهم بترك العمل يوم الأحد، وتسمح للتلاميذ منهم في

مدارسها بترك الدراسة فيه أيضًا؛ لأن دينهم يحرم عليهم العمل فيه، وقد تقدمت

الإشارة إلى غير ذلك من مطالبهم التي يسمونها حقوقًا لهم، وليس من غرضنا شرح

ذلك وبيان حقه من باطله بالتفصيل، وإنما مرادنا بيان هذه المسألة الاجتماعية

بالإجمال.

توالى الوخز والطعن على جسم الشعب الإسلامي مدة سنه كاملة، فلم يكد

يشعر به ولا استيقظ من منامه، فلما سمع صيحة المؤتمر القبطي الشديدة المؤلفة

من أصوات الألوف من الشاكين، هب من نومه مذعورًا، فرأى أن الجسم الصغير

الذي كان يعده عضوًا منه قد انفصل وصار حيًّا بنفسه، ممتازًا بمقومات

ومشخصات خاصه به، سماها (قبطية) ، وسمى ما بقي للجسم الكبير من

المقاومات والمشخصات (إسلامية) ، وهو يريد أن ينتزعها كلها منه، ويجعله تابعًا

له عملاً بقاعدة {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} (البقرة: 249) فعز عليه

ذلك، واستعد للدفاع عن نفسه.

نعم.. رأى المسلمون أن البلاد بلادهم، والحكومة حكومتهم، والشريعة

شريعتهم، وأن غيرهم لم يكن له في مصر وجود حتى يكون له حقوق يؤبه لها؛

لأن هؤلاء الأغيار كالنقطة السوداء في الثور الأبيض أو النقطة البيضاء في الثور

الأسود. ولكنهم بتساهلهم وإهمالهم قد شاركوا هؤلاء الأغيار في حكومتهم وفي

جميع مصالحهم العامة والخاصة، حتى صارت إدارة أملاكهم وعقاراتهم وأوقافهم

الأهلية كلها بأيدي أولئك الأغيار.

ثم أرادهم أولئك الأغيار على أن لا يذكروا اسم الإسلام والإسلامية في أمور

الحكومة ولا غيرها من المصالح العامة؛ لأن ذلك ينافي المدنية العصرية، فرضوا،

وصاروا يترنمون باسم الوطنية والمصرية، ويقولون: نحن مصريون قبل كل

شيء، ويعدون المسلم غير المصري دخيلاً بينهم.

بل رأوا أنهم قد انجذبوا إلى القبطية، وصاروا يفخرون في جرائدهم وخطبهم

وأشعارهم بفرعون الذي لعنه الله تعالى على لسان موسى وعيسى ومحمد صلوات

الله عليهم أجميعن، وأخبر تعالى أنه استخف قومه فأطاعوه، واستعبدهم واستذلهم،

وكان من أغرب ما وقع في هذا الباب أن شاعرًا مسلمًا نظم قصيدة في عيد السنة

الهجرية، وأنشدها في احتفال عظيم، فافتخر فيها بأنه هو وقومه من آل فرعون،

ولم يفتخر بالنسبة إلى صاحب الهجرة الشريفة، ولا بآله وأصحابه الذين يفتخر بهم

الوجود صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، فكيف تجمعون أيها

المفتخرون بآل فرعون بين هذا الفخر وبين قول ربكم فيكم: {النَّارُ يُعْرَضُونَ

عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِياًّ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} (غافر:

46) .

بل رأى هؤلاء الذين استيقظوا من المسلمين أن مقومات حياتهم المعنوية التي

هم بها أمة؛ قد تزلزل بعضها وزال بعض، فصارت السلطة التشريعية في بلادهم

بأيدي الأغيار والنفوذ الأدبي في أيديهم، حتى إن مجموع جرائدهم أكبر تأثيرًا في

الأمور العامة من جرائد المسلمين، وكذلك النفوذ السياسي والمالي، فثروة المسلمين

كل يوم في نقصان كما يعلم كل يوم من إعلانات الحجز وبيع الأملاك المرهونة،

رأوا هذا وأمثاله مما لا يحل لإحصائه هنا، فعلموا أن الذي أطمع هذه الشرذمة من

القبط فيهم ليس بالشيء اليسير، وإنما هو انحلال جميع روابطهم، وزلزال أو

زوال جميع مقوماتهم ومشخصاتهم، حتى إنه لم يعد أحد منهم يجسر على أن يقول

حكومة إسلامية أو مصلحة إسلامية، وتذكر العالمون بسنن الاجتماع ما ذكرناه من

القواعد في فاتحة النبذة الماضية، فعلموا أنهم صاروا عرضة للعدم والانقراض، أو

الاندغام في القبط، كما اندغم القبط فيهم من قبل، بل رأوا أن القبط قد غلوا

وأسرفوا في الطمع فيهم، حتى لم يرضوا بما كانوا سائرين إليه من الفناء فيهم باسم

مصريين، وأبوا إلا أن يكون لهم كل شيء بلقب قبط، والأمم تهتم في طور

الضعف بالألقاب والأسماء ما لا تهتم بالمعاني، فقد يمرق المسلم أو النصراني من

دينه بالفعل، ويبقى محافظًا على الاسم، لذلك حكمنا بأن القبط قد غلوا وأسرفوا في

حركتهم الأخيرة، وأنهم لو صبروا لنالوا في غفلة المسلمين وتخاذلهم كل ما يؤملون،

وإن سبب ذلك هو فقد الزعيم وإعواز خلف له، فهذه الحركة لا يعقل أن تكون

مؤدية إلى المطلوب إلا إذا كانت مبنية على وعد قاطع من السلطة الإنكليزية الفعالة،

وهو ما يظنه بعض الناس، وإن قال فيهم العميد وقالوا فيه ما يدل على خلاف

ذلك، وأما مساعدة قسوس الانكليز والأمريكان، فليست كافية إذا استيقظ المسلمون،

وعارضوا بالحكمة والعقل.

***

(مطالب القبط كلها دينية)

يقول بعض المموهين: إن هذه الحركة القبطية ليست دينية، بل هي طائفية

جنسية، يختلبون المسلمين بهذا، والمسلمون يردون عليهم من كلامهم (من فمك

أدينك) فإنهم يقولون: إن السواد الأعظم من المصريين قبط، فما الذي تمتاز به هذه

الخمسة أو الستة من المئة على الباقي وأكثره من القبط، كما يقولون؟ هل هنالك غير

الدين؟ ألم يصرحوا بأنه هو علة حرمانهم مما يطلبون؟ ألم يحرضوا قسوس إنكلترة

وجرائدها، ويطلبوا نجدتها باسم الدين؟ ألم يكن أول مطالبهم ترك أعمال الحكومة في

يوم الأحد عملاً بالدين؟ إلا أنه من سوء الحظ أو حسنه أن كان القبط ليس لهم لغة،

وإذاً لحاربوا المسلمين بلغتهم، وكانوا بحزمهم ومساعدة الإفرنج وغيرهم هم

الغالبين، ولم يكن لأحد عذر في كلمة إسلام أو مسلمين.

إذا كانت القبطية جنسية للقبط المسيحين خاصة، فأجدر بالإسلام أن يكون

جنسية للمسلمين عامة، فإن المسيحية قد فصلت الحكومة من الدين كما يقولون،

وأمرت أن يعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله، والإسلام ذو شريعة وسياسة، فما

بال الذين يأمرهم دينهم بالخضوع لكل حاكم وإن كان وثنيًّا كقيصر الروم في زمن

المسيح عليه السلام، قد أصيبوا بهذا الشره في السياسة، فلا يتبعون حاكم مصر

المسلم في بطالة يوم الجمعة دون يوم الأحد وما بال المسلمين قد أجابوا دعوة غيرهم،

فرضي حاكمهم ومحكومهم بأمور كثيرة مخالفة للشريعة في حكومتهم؟

إذا كان القبط لا يشتغلون يوم الأحد في حكومة الحاج عباس حلمي المسلم،

فيلتركوها ويستغنوا عنها تنسكًا وتعبدًا، وإلا فالمسلمون أجدر منهم بطلب جعل كل

شيء في هذه الحكومة موافقًا لدينهم؛ لأن الحاكم العام منهم؛ ولأن أكثر الأحكام تقع

عليهم؛ لأنهم أكثر من تسعين في المئة من الأمة، فلهم أن يقولوا: إننا لا نخضع

لحكم يحرم علينا وجداننا الخضوع له، ولماذا ينكر الأغيار عليهم ذلك ويسمونه

تعصبًا، وإنما أولئك الأغيار هم المتعصبون الذين يفتاتون على أمة مسلمة حاكمها

العام مسلم، ولا يسمحون لها أن توفق بين دينها وحكومتها.

يقول بعضهم: إن هذه حكومتنا وحكومة آبائنا وأجدادنا، ويقول بعض آخر:

إن لنا حق مساواة المسلمين فيها، والصواب أن الحكومة ليست حكومتهم وأنه لا

حق لهم فيها ألبته ولا لغيرهم، ولماذا؟ إن هذه البلاد عثمانية سيدها الحقيقي

سلطان المسلمين وخليفتهم، وقد فوض أمر إدارتها إلى محمد علي باشا وذريته على

قاعدة مخصوصة، اعترفت بها دول أوربا الكبرى، وهي كما قال اللورد كرومر لم

تكن محل خلاف ولا نزاع قط، وقد كان يكتب على أوراق الحكومة (الحكومة

المصرية) ، وأخيرًا صار يطبع عليها بالعربية (الحكومة الخديوية) نسبة إلى

شخص الخديوي، وبالانكليزية حروف معناها (في خدمة سموه) ، فهذه الحكومة

إذًا شخصية تابعة لشخص الخديوي، ليس لأحد من رعيته عليه حق فيها،

والمسلمون هم الذين قاموا يطلبون منه أن يمنح البلاد الدستور الذي يجعل للأمة حق

الشركة معه في حكم البلاد، والقبط لم تطلب ذلك، فكل ما ناله القبط من الوظائف

الكثيرة هي فضل وإحسان من أمير مصر المسلم المتساهل ولم يكن مؤديًا لحقوق

واجبة عليه فيه.

وأما المسلمون، فإذا لم يكن لهم حقوق عليه بحسب شكل الحكومة الشخصي

الذي أقرته الدولة الكبرى، فيمكن أن يقال: إن لهم أن يطالبوه بحقوق يوجبها عليه

دينه، فيكون الرجاء في إجابتها منوطًا باعتقاده ووجدانه.

هذا هو الحق الذي يزهق به كل باطل، وسنبين في النبذه الثالثة ما ينبغي أن

يكون عليه الأمر في مصر من السلام والتساهل، والاتفاق بين جميع المقيمين فيها.

***

(النبذة الثالثة)

(الإسلام دين وجنسية)

الإسلام دين وجنسية اجتماعية وسياسية للمسلمين، هذا هو الواقع، وإن

كرهه أقوام يودون أن يكون دينًا فقط لا رابطة بين أهله في الأمور السياسية ولا

الاجتماعية؛ لما لأولئك من المصلحة في ذلك؛ وجنسيته واسعة تشمل المنافقين

الذين يظهرون الإسلام ويسرون الكفر والإلحاد، وتتسع لكل من يرضى بحكمه

الذي هو رابطته السياسية، فجيز استخدامهم في أكثر مصالح حكومته، وقد ارتقى

فيها غير المسلمين إلى منصب الوزارة في دوله العزيزة القوية التي لم يكن في

الأرض من يقف في وجه قوتها كأبي إسحق الصابئ في الدولة العباسية، فمثل

شريعته في ذلك كمثل قوانين دولة النمسة مثلاً، كل منهما جنسية سياسة يخضع لها

شعوب مختلفون في اللغات والمذاهب والأديان، ولكن بينهما فروقًا أهمها أن الفئة

الغالبة في الجنسية الإسلامية السياسية، وهي التي تدين بالإسلام تعتقد أن أصول

شريعتها وبعض فروعها منزلة من عند الله، وبعضها الآخر من اجتهاد الناس.

لا يضر من يشارك المسلمين في الخضوع لشريعتهم أن كانوا يدينون الله بهذا

الخضوع وهو لا يدين لله به، فإن حقوقه على المسلمين المكفولة بها تكون حينئذ

مضمونة بقوة الحكومة في الظاهر وقوة الاعتقاد في النفس، وحقوقهم عليه لا تكون

مضمونة إلا في الظاهر فقط، فالمسلم المتدين لا يأكل حق غيره وإن أمن عقاب

الحكومة، وغير المسلم قد يأكل حق المسلم المحكوم به إذا أمن العقاب؛ لأن وجدانه

لا يعارضه في ذلك، إذا اعتقد أن الحكم لا يجب الخضوع له.

وتمتاز هذه الشريعة على جميع الشرائع والقوانين بأنها تخير من لا يدينون

بها بين التحاكم إلى أهلها إن رضوا بذلك وبين التحاكم إلى أهل دينهم، فهي

باحترامها الحرية لا تكره أحدًا على عقيدتها وأعمالها الدينية، ولا على أحكامها

الشخصية ولا المدنية.

***

(حال المسلمين مع أوربة)

غلب على المسلمين الجهل بحقيقة الإسلام من حيث هو دين، ومن حيث هو

جنسية، حتى رضوا بحكم الجاهلين والمارقين منهم، فارتخت روابطهم كلها،

فسهل على ساسة أوربة الافتيات عليهم، والنفث اللطيف في بقايا العقد التي تربط

بعضهم ببعض، وتنكيث قوى حبلهم من غير جلبة ولا ضوضاء كجلبة المؤتمر

القطي والجرائد القبطية.

ذلك بأنها فتحت أقفال قلوبهم وأفكارههم، وزينت لهم آدابًا غير آدابهم،

وشرائع غير شريعتهم، وجنسيات غير جنسيتهم، وسلطت بعضهم على بعض؛

ليجذبه إلى ذلك من حيث لا يشعر المسلط ولا المسلط عليه. فهذه التعاليم التي تبثها

فيهم تستل من نفوسهم كل شيء إسلامي برفق ولذة، كما تستل الراح عقل شاربها،

ولو سلكت مسلك جرائد القبط وخطباء القبط في التوسل إلى ذلك لما زادت المسلمين

إلا استمساكًا واعتصامًا بكل ما تريد أن يتركوه.

اللوم إغراء، والمنازعة مدعاة المشاحة، والتعصب مثار التعصب، فكيف

تصورت القبط أن تنال بهذه الجلبة على ضعفها، ما تعلم أوربة أنها تعجز أن تناله

بمثل ذلك على قوتها؟ ؟

أما علموا أن من استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه، إلا أنني أعتقد

أنهم كانوا على مقربة من كل ما يطلبون، وإن هذه الجلبة ما زادتهم إلا بعدًا عنه،

ولهذا قلت: إنهم لو صبروا واتبعوا منهاج الحكمة وسنن الاجتماع (كما كان يفعل

زعيمهم ونابغتهم) لنالوا من المسلمين بالمسلمين كل ما أرادوا ولكن أبوا إلا أن

يذكروا المسلمين بغبنهم، ويدعوهم إلى الاجتماع والتشاور في أمرهم، بتأليف

مؤتمر يتبينون فيه من هم، وما هي نسبتهم إلى غيرهم، وما كانوا لولا هذه

الحركة القبطية ليقدموا على ذلك.

قال بعض كتاب فرنسة: إن قطرًا إسلاميًّا قد انفصل برمته من مكة وهو

تونس، يعني أن جنسيته الإسلامية قد زالت، لا أن أكثر مسلمي تونس قد خرجوا

من الإسلام، وتركوا الحج إلى البيت الحرام. وأنا أقول: إن الجنسية الإسلامية

بمصر أضعف منها في تونس، وقد بث دعاة الوطنية رأي الجنسية المصرية في

طلاب جميع المدارس المصرية من أميرية وأهلية وأجنبية، وهم الذين سيتولون

جميع الأعمال العامة والوظائف، فكان المنتظر أن تمحو نابتة المسلمين بأيديها ما

بقي في ذلك من صبغة الإسلام، حتى لا يبقى إلا اسم مصري ومصرية: الشارع

المصري، القانون المصري، الحكومة المصرية، المصلحة المصرية

إلخ.

ولكن القبط أبوا إلا أن يقولوا (قبطي وقبطية) ولم يحسبوا حسابًا لمقابلة المسلمين

لهم على ذلك بقول: إسلامي وإسلامية.

أليس من المعقول أن يقول المسلم المصري: إننا قد تركنا جنسيتنا الإسلامية،

ونحن أكثر من أحد عشر مليونًا؛ لأجل الاتحاد بنصف مليون من القبط لم نستفد

ولن نستفد بالاتحاد شيئًا لم يكن لنا، بل خسرنا وسنخسر كثيرًا مما كان لنا وحدنا،

فكيف رضي المغبون الخاسر، ولم يرض الرابح الظافر؟ أليس من الذل والهوان

أن نرضى بالانتقال من إسلامية إلى (مصرية) ؛ ليكون ذلك مدرجة إلى الانتقال

من (مصرية) إلى (قبطية) ، وإذا كانت هذه الجنسية المصرية التي انتحلناها

تبعدنا عن سائر إخواننا المسلمين وهم يعدون بمئات الملايين، ولا تقربنا من

جيراننا القبط وهم نصف مليون، فكيف تكون جنسية جديدة لنا ولم يتجدد لنا بها

شيء؟ صرنا نعد المسلم الشامي والحجازي دخيلاً فينا، لا نسمح أن يدخل حكومتنا،

أو يشاركنا في مصالحنا لأجل أن يكون القبطي أخًا لنا، له ما لنا وعليه ما علينا،

فأبعدنا ذاك ولم نستطع أن نقرب هذا، فمن نحن إذًا وما هي جنسيتنا؟

كان الأمير محمد إبراهيم قد عني باللغة العربية من دون سائر هذه الأسرة

الخديوية، فدخل عليه بعض أقاربه الأمراء، فرآه ينظر في بعض الكتب العربية

فلامه على ذلك وسأله عن سبب هذه العناية، فأجابه: هل نحن إفرنج وهل يعدنا

الإفرنج منهم؟ قال اللائم: لا.. قال: هل يعدنا الترك منهم؟ قال: لا.. قال:

فهل الأفضل لنا أن لا يكون لنا جنس؟ كلا.. إننا قد صرنا عربًا مصريين،

فالواجب علينا أن نعرف لغة أبناء جنسنا.

هذه هي الحكمة التي نطق بها الأمير محمد إبراهيم فحج بها لائمه. أفلا يسع

القبط ما وسع الأسرة المالكية، فيكونوا عربًا مصريين؟ ويتركوا كلمة قبط في كل

ما يتعلق بالحكومة والمصالح الدنيوية، ويجعلوها خاصة بمجلسهم الملي وشؤونهم

الدينية فيكونوا هم المفلحين، فإن القبطية تصلح أن تكون جنسية دينية لهم إن أحبوا

أن لا يمتزجوا بغيرهم من النصارى المتمصرين، ولكنها لا تصلح جنسية سياسية

دينية معًا ولا سياسية فقط؛ إذ لا يمكن أن يرضى المسلمون أن يعودوا في مصر

قبطًا، ولا في بلاد الأعاجم وثنيين ومجوسًا وبوذيين، فإذا كانوا يطلبون المساواة

حقيقة لا تمويهًا، فليتركوا العصبية القبطية والجنسية القبطية والمطالب القبطية،

فإن كل شيء ينالونه بهذه النسبة وهذا اللقب يدفع المسلمين إلى الرجوع إلى

الجنسية الإسلامية، ويخشى حينئذ أن يخسروا بحق بعض ما ربحوه بغير حق.

لا يغرنكم أن المتعلمين منكم عددهم النسبي أكثر من عدد المسلمين كما

تزعمون، فالعبرة في المقاومة للكثرة الحقيقية لا للكثرة النسبية، والمتعلمون من

المسلمين أكثر من المتعلمين منكم على كل حال، لا يغرنكم أن ثروتكم النسبية

أوسع من ثروة المسلمين كما تقولون، لا لأجل ما قلته في عدد المتعلمين بل لأن

المسلمين إذا تعصبوا عليكم لا تستطيعون أن تزرعوا أرضكم إلا إذا جعلتم أكثر

غلتها لهم؛ لأنكم لا تجدون الزراعين والعاملين فيها إلا منهم، فإذا علمتوهم

التعصب والتكافل، فإنهم يستطيعون أن يفقروكم بالاغتصاب الذي بدأ التفرنج ينفخ

روحه في مصر.

إذا كنتم لا تدركون مغبة هذه الحركة التي قمتم بها، فكيف خفي هذا الأمر

الطبيعي عن أصحاب الجرائد السورية والإفرنجية، وهم أعلم منكم بطبيعة

الاجتماع وأخلاق الأمم، فلم ينهوكم عن هذه الثورة القبطية التي تهدم ما بنوه في

السنين الطوال من محاربة التعصب والانقسام الديني والطائفي في هذه البلاد،

فبفضل جهادهم وطبيعة التفرنج الذي ينصرونه، قد صار كل ما للمسلمين في هذه

البلاد متحركًا بحركة الاستمرار لا بالحركة الطبيعية الحقيقية التي لا يفضلون بها

القبط، بل القبط تفضلهم فيها.

نعم.. كان المسلمون يتحركون بحركة الاستمرار في كل ما هو إسلامي

فأحدثت القبط لهم حركة طبيعية جديدة. ولكن الباعث عليها من الخارج لا من

النفس؛ لذلك ينتظر أن تكون قوة الدفع فيها ضعيفة، وأن لا يطول عليها الأمد،

حتى تعود إلى حركة استمرارية لا قوة فيها ولا تأثير لها إلا إذا تجدد المحرك الدافع،

فمن مصلحة غير المسلمين أن يمنعوا تجدده لينالوا كل ما يؤملون بهدوء وسلام،

وإن كلمة واحدة من لجنة مؤتمر القبط التنفيذية تحل الإشكال، وهي (قررنا أن لا

نطلب من الحكومة شيئًا للقبط، بل ندعها تختار الأكفاء لأعمالها برأيها واجتهادها،

وأن لا يذكر لفظ قبط ولا مسيحيين في المصالح الدنيوية) .

إنني أعتقد أن هذا الحل خير للقبط ولجميع المسيحيين في هذا القطر؛ لأنهم

يكونون هم الرابحين فيه، وأن الأربح للمسلمين أن يحافظوا على جنسيتهم

الإسلامية، ولكنهم يرضون بإيثار غيرهم عليهم بمساواته بهم في بعض المصالح،

ورجحانه عليهم في بعض المرافق، إذا هو ترك لهم بعض الخصائص التي صارت

أعضاء أثرية أو كادت، ولا يضره تركها لهم، وهو يعلم أنها ستزول بالتدريج.

يظن كثير من القبط وغيرهم أن المسلمين لا يستطيعون أن يتحركوا حركة

إسلامية؛ خوفًا من أوربة المسيحية أن تسمح حينئذ للإنكليز بضم مصر إلى

مستعمراتهم، والتعجيل بمحو هذه الصبغة الإسلامية الحائلة التي أوشكت تزول من

نفسها، وأن يتركوا سنة التدريج في إزالتها، وقد يصدق هذا الظن إذا هاج

المسلمون على المسيحيين، فاعتدوا على أموالهم وأو أنفسهم، وهذا ما لا يكون من

مسلمي مصر، فإن كانت القبط تحرك النعرة الإسلامية؛ لظنها أن المسلمين بين

أمرين لا ثالث لهما: إما السكوت فتنال القبط بجبنهم العلو عليهم، وإما الثورة

فتقضي إنكلترة القضاء الأخير على حكمهم، فلتعلم القبط أن هنالك أمرًا ثالثًا أعدل

وأقرب؛ وهو أن يتعصب المسلمون لجنسيتهم الإسلامية كما يتعصب القبط سواء،

بلا ثورة ولا اعتداء، وكيف يكون ذلك؟

يحصون المستخدمين من القبط في دوائرهم ومزارعهم، فيخرجونهم منها

ويستبدلون بهم أبناء جنسهم ودينهم، يقدم رجال الحكومة منهم المسلم على القبطي

بمثل الطريقة التي امتلأت بها مصلحة سكة الحديد ومصلحة البريد وغيرهما بالقبط،

يؤلفون الجمعيات الاقتصادية والاجتماعية لمباراة القبط ومسابقتهم في الزراعة

وغيرها من طرق الكسب، وحمل الفعلة والعمال من المسلمين على الاغتصاب عند

الحاجة، يفعلون هذا وأمثاله من غير ذكر للقبط ولا لغيرهم من المسيحيين إلا بخير،

فماذا تفعل إنكلترة المسيحية وأوربة المسيحية بهم في مثل هذه الحال، وما هي

من المحال، ألا يكون هذا ربحًا للمسلمين وخسارًا على القبط من غير خطر ولا

سوء عاقبة؟ بلى.. فالخير للقبط وغيرهم أن يعلموا بما ارتأيته، ولو خرج

زعيمهم النابغة من قبره الآن لما أشار عليهم بغيره، اللهم إلا أن يكونوا مدفوعين

من الإنكليز إلى ما عملوا، آخذين منهم ميثاقًا غليظًا على إجابتهم إلى ما طلبوا،

وهذا لا يعقل أن يصدر من الحكومة الإنجليزية، وإنما يقال: إن بعض القسيسين

والسياسين وعدوهم لينفذن لهم ذلك، فإن ظهر له أثر عملي اضطر المسلمون أن

يعتصموا برابطتهم الإسلامية؛ لئلا يصيروا بعد سنين قليلة أجراء وفعلة، ليس لهم

في البلاد التي كانت لهم وحدهم شأن، لا في الحكم ولا في غير الحكم.

ها أنا ذا؛ قد حللت المسألة تحليلاً، وفصلتها بسنن الاجتماع البشري تفصيلاً،

واضطررت أن أكرر بعض المعاني؛ لأجل أن تستقر في الأذهان، والنتيجة

الطبيعية محصورة في أحد أمرين كما علم من كلامنا آنفًا: إما استمرار القبط على

مطالبهم القبطية، ورجوع المسلمون إلى جنسيتهم الإسلامية، ومقاومة القبط

بالوسائل الاجتماعية والأدبية. وإما رجوع القبط عن هذه النزعة الدينية وسكوتهم

منذ اليوم عن مطالبهم، وحينئذ يبقى المسلمون على ما كانوا عليه من التساهل

والدعوة إلى الوطنية والجنسية المصرية التي يفضلون بها القبطي على المسلم غير

المصري وإن تمصر، والأمر الثاني: هو الذي يفضله الإفرنج وجميع المسيحيين

واليهود في هذه البلاد؛ لأنه غرس أيديهم وغرضهم من جهادهم، ومثلهم في ذلك

جميع المتفرنجين من المسلمين، وسنبين في النبذة الرابعة مسألة يوم العطلة

بالدلائل والبراهين.

***

(النبذة الرابعة)

(العيد الأسبوعي في الملل الثلاث)

لكل أمة من الأمم الثلاث -الإسلامية واليهودية والنصرانية- يوم في الأسبوع،

تجتمع فيه للعبادة وصلة الرحم وزيارة الأصدقاء ما لا تجتمع في غيره، فهو عيد

ملي لها في كل أسبوع، وشعار من شعائرها الدينية والاجتماعية التي يمتاز به

بعضها عن بعض، فلا تترك الأمة منها شيئًا من خصائص يومها للأخرى إلا إذا

رضيت أن تكون منها مكان التابع من المتبوع والمقتدي من الإمام، وينقص بما

تتركه من مقوماتها ومشخصاتها الملية بقدر ما تتركه، فيضعف ارتباطها

واعتصامها الذي به كانت أمة واحدة، ومتى سهل على الأمة ترك ما به كانت أمة،

فاحكم عليها بالفناء والزوال، ولا سيما إذا كانت بجوار أمة قوية تتعمد سلب

استقلالها، وتتوخى تسخيرها لمنافعها أو جعلها غذاء لها.

للمسلمين يوم الجمعة ثبتت خصوصيته بنص كتابهم القرآن وسنة نبيهم عليه

الصلاة والسلام وعمل سلفهم الصالح، ولليهود يوم السبت بنص كتابهم التوراة

وعمل سلفهم من عهد موسى صلى الله عليه وسلم، وللنصارى يوم الأحد برأي

بعض رؤساء الكنيسة لا بنص من المسيح عليه الصلاة والسلام ولا من حواريه في

الإنجيل، ولا في الرسائل التي يطلق على مجموعها العهد الجديد، وإن العهد

الجديد مبني على أساس العهد العتيق الذي هو مجموع كتب اليهود من الأسفار

المنسوبة إلى سيدنا موسى، والكتب المنسوبة إلى أشهر أنبياء بني إسرائيل عليهم

السلام، وفي الإنجيل أن المسيح عليه السلام قال: ما جئت لأنقض الناموس وإنما

جئت لأتمم، والناموس هو شريعة موسى، ولكن النصارى نقضوه بالتأويل لجمل

قالها بولس في رسالته لأهل غلاطية ورسالته لأهل رومية.

قال بعض علماء البروتستانت: إن الناموس يطلق على شريعة موسى الأدبية

والطقسية والسياسية، أما الشريعة الأدبية فمختصرها الوصايا التي أنزلها الله على

موسى في لوحين من حجر، وأما الناموس الطقسي أو ناموس الشعائر الدينية،

فكان دستورًا لعباده العامة والخاصة، وبه تعرف كيفية الذبائح والصيام والتطهير

والصلاة والأعياد، ويتدرج إلى الناموس السياسي الذي أفرز شعب الاسرائليين من

جميع الشعوب المجاورة، ولما كان ناموس الشعائر هذا يشير إلى المسيح؛ فلذلك

ألغي عند إتيانه. اهـ المراد بحروفه. والعبرة فيه أن الوصية في التوراة بحفظ

يوم السبت من الشريعة الأدبية المقارنة لتوحيد الله تعالى وعدم الشرك به، وللنهي

عن القتل والزنا والسرقة، فهي لم تنسخ بمجيء المسيح. وكيف تنسخ به هذه

الوصية وهي ركن من أركان الدين وقواعده الاساسية، ونطق العهد العتيق بتقديس

يوم السبت في الكلام عن مبدإ الخلق والتكوين.

جاء في الفصل الثاني من سفر التكوين (2 وفرغ الله في اليوم السابع من

عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل 3 وبارك الله

اليوم السابع وقدسه؛ لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقًا) ثم أكد

على لسان موسى تأكيدًا، وشدد في حفظه وتقديسه وترك العمل فيه تشديدًا.

جاء في سفر الخروج (16: 23 فقال لهم (موسى) هذا ما قال الرب: غدًا

عطلة سبت مقدس للرب. اخبزوا ما تخبزون واطبخوا ما تطبخون، وكل ما فضل

ضعوه عندكم ليحفظ إلى الغد - إلى أن قال - لا يخرج أحد من مكانه في اليوم

السابع 30 فاستراح الشعب في اليوم السابع) .

(وفيه من الوصايا) (20: 8 اذكر يوم السبت لتقديسه 9 ستة أيام تعمل

وتصنع جميع عملك. وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك. لا تصنع عملاً ما

أنت وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي دخل أبوابك 11 لأن في ستة أيام

صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع لذلك

بارك الرب يوم السبت وقدسه) ونحوه في 23: 12 و34: 21 منه.

وفي تثنية الاشتراع من الوصايا أيضًا (5، 12) احفظ يوم السبت لتقدسه،

كما أوصاك الرب إلهك 13 ستة أيام تشتغل وتعمل جميع أعمالك 14 وأما اليوم

السابع فسبت للرب إلهك، لا تعمل فيه عملاً ما أنت وابنك وبنتك وعبدك وأمتك

وثورك وحمارك وكل بهائمك ونزيلك الذي في أبوابك؛ لكي يستريح عبدك وأمتك

مثلك.

وفي الفصل الرابع من أرميا تأكيد عظيم الوصية بيوم السبت، ووعد لهم

بالجزاء على ذلك في الدنيا بدخول ملوك ورؤساء مدينة أورشليم وتسكن إلى الأبد،

وتجلب إليها الذبائح والمحرقات واللبان، ثم قال في آخر الفصل: (27 ولكن إذا

لم تسمعوا لي لتقدسوا يوم السبت؛ لكيلا تحملوا حملاً ولا تدخلوا في أبواب أورشليم

يوم السبت، فإني أشعل نارًا في أبوابها فتأكل قصور أورشليم ولا تطفئ) ا. هـ

وأرميا بقوله حكاية عن الرب.

وأما الوعيد في الأسفار المنسوبة إلى موسى على مخالفة هذه الوصية فشديدة

جدًا، ففي الفصل الحادي والثلاثين من سفر الخروج ما نصه: (12 وكلم الرب

موسى قائلاً: وأنت تكلم بني إسرائيل قائلاً 13 سبوتي تحفظونها؛ لأنه علامة بيني

وبينكم في أجيالكم لتعلموا أني أنا الرب الذي يقدسكم 14 فتحفظون السبت؛ لأنه

مقدس لكم، من دنسه يقتل قتلاً، إن كل من صنع فيه عملاً، تقطع تلك النفس من

بين شعبها 15 ستة أيام يصنع عمل، وأما اليوم السابع فيه سبت عطلة مقدس للرب،

كل من صنع عملاً في يوم السبت يقتل قتلا 16 فيحفظ بنو إسرائيل السبت؛

ليصنعوا السبت في أجيالهم عهدًا أبديًّا 17 هو بيني وبين بني إسرائيل علامة إلى

الأبد؛ لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض، وفي اليوم السابع استراح

وتنفس) ا. هـ.

وفي أول الفصل الخامس والثلاثين منه (1 وجمع موسى كل جماعة بني

إسرائيل وقال لهم هذه الكلمات التي أمر الرب أن تصنع 2 ستة أيام عمل يعمل،

وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدس للرب، كل من يعمل فيه عملاً

يقتل 3 لا تشعلوا نارًا في جميع مساكنكم يوم السبت) .

وفي الفصل الخامس عشر من سفر العدد؛ أنه وجد رجل في البرية يحتطب

(35 فقال الرب لموسى قتلاً يقتل الرجل، يرجمه بحجارة كل الجماعة خارج

المحلة) فرجموه.

هذه هي النصوص التي عليها مدار تقديس يوم السبت في العهد القديم، وكان

عليها المسيح والمؤمنون به، كما يؤخذ من العهد الجديد، ففي قصة الصلب أن

المؤمنين والمؤمنات لم يخرجوا لأجل سيدهم الذي تركوه مساء الجمعة مصلوبًا

حسب رواية الأناجيل الأربعة، ولكن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة

ذهبن صباح الأحد للبحث عنه.

إن المسيح عليه السلام جاء مصلحًا في اليهود، مزحزحًا لهم عما كانوا عليه

من الجمود، ولذلك أباح الأعمال الضرورية والخيرية في يوم السبت فقط، ولم

يأمر بتقديس يوم الأحد ولا غيره، في أول الفصل الثاني عشر من إنجيل متى؛ إن

التلاميذ لما جاعوا وأكلوا السنبل يوم السبت، قال الفريسيون للمسيح: إن تلاميذك

يفعلون ما لا يحل فعله في السبت 3 فقال: أما قرأتم ما فعله داود حين جاع هو

والذين معه 4 كيف دخل بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لم يحل أكله له ولا للذين

معه، بل للكهنة فقط

إلخ ما ذكره، وفيه ذكر مثل يفهم منه أن الضروريات

كانت تحل عندهم وهو (أي إنسان منكم يكون له خروف واحد، فإن سقط هذا في

السبت في حفرة، أفما يمسكه ويقيمه

) ثم قال: إذاً يحل فعل الخير في السبوت.

والقصة مذكورة في آخر الفصل الثاني من إنجيل مرقص أيضًا، وفيها أن

داود أكل وأطعم الذين كانوا معه، وأن المسيح قال: (السبت إنما جعل لأجل

الإنسان لا الإنسان جعل لأجل السبت) وتتمتها في أول الفصل الثالث منه وفي أول

الفصل السادس من إنجيل لوقا بنحو ما تقدم، وفي الفصل الثالث عشر منه؛ أنه أبرأ

في السبت امرأة كان فيها روح ضعف، فأنكر ذلك عليه رئيس المجمع

فأجابه المسيح (15 وقال: يا مرائي ألا يحل كل واحد منكم في السبت ثوره أو

حماره من المذود ويمضي به ويسقيه 16 وهذه وهي ابنة إبراهيم قد ربطها الشيطان

ثماني عشرة سنة، أما كان ينبغي أن تحل من هذا الرباط في يوم السبت) .

وفي الفصل الخامس من إنجيل يوحنا أنه شفي مريضًا وأمره بالذهاب، فحمل

سريره وذهب، فأنكرت اليهود عليه، ولما علموا أنه هو الذي أبرأه عزموا على

قتله؛ عملاً بحكم التوراة، قال يوحنا: (18 فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون

أكثر أن يقتلوه؛ لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضًا: إن الله أبوه معادلاً نفسه

بالله) .

فقد صرح يوحنا بأنه نقض يوم السبت، ولكن في عمل الخير، فالذي يتبع

المسيح حقيقة يترك عمل الدنيا يوم السبت إلا ما كان ضروريًا، ويجعل كل عمله

برًّا وخيرًا، وأما استحلال كل عمل يوم السبت وتحريم العمل يوم الأحد فهو من

تقاليد الكنيسة؛ لأجل مخالفة اليهود في شعائرهم وتقاليدهم، ويعللون ذلك بأن يوم

الأحد قد صارت له مزية، ليست ليوم السبت بقيام المسيح فيه، وسماه بولس

وغيره يوم الرب، ويمكن أن يجابوا بأن هذه المزية لا تقتضي تحريم العمل فيه،

ولم لا تقولون: إن ليوم الجمعة مزية بوقوع الصلب فيه على حسب اعتقادكم، وبه

كان فداء البشر وخلاصهم واحتمال اللعنة عنهم، فهو أجدر بأن يترك العمل فيه.

روت الجرائد أن القس أخنوخ فانوس خطيب الحركة القبطية أثبت في

المؤتمر القبطي؛ أن من يعمل يوم الأحد عملاً يقتل، وكأنه ذكر ما قلناه آنفًا عن

العهد العتيق في تقديس يوم السبت وحوله إلى يوم الأحد، والنصوص لا تقبل

التحول، فإن لفظ السبت قد تكرر مراراً وتكرر ذكر علته، وهي علة لا توجد في

غير السبت، وقد جعلها العهد العتيق عهدًا أبديًا بين الرب وبين عباده المخاطبين

بها، والأبدي لا ينسخ ولا ينقض، ولنا في هذا المقام مسائل:

(1)

أن العقوبة المترتبة على ترك تقديس يوم السبت وهي القتل والرجم

هي من الناموس الطقسي أو السياسي، وقد قلتم: إن هذا قد نسخ بظهور المسيح.

(2)

إذا كان هذا العقاب لم ينسخ، وإنما نسخ يوم السبت بيوم الأحد،

فصار له حكمه، فلماذا لا نرى حكومة من الحكومات المسيحية تقتل من يعمل يوم

الأحد رجمًا بالحجارة كما فعل موسى، هل تركت جميع الحكومات المسيحية هذا

الحكم، وتريد أن تقيمه أنت يا أخنوخ في مصر.

(3)

إن القتل جزاء دنيوي، فإذا تركه الحكام في الدنيا، فهل يكونون

تاركين لنصوص دينهم فاسقين منه أم لا.

(4)

إذا ترك هذا العقاب في الدنيا، فهل له بدل في الآخرة أو يوم الدين

(أو الدينوية كما تعبرون) أم لا، فإذا لم يكن له بدل، فلماذا يهول به أخنوخ أفندي

في خطبته.

(5)

إذا كان العمل في يوم الأحد جريمة، يستحق صاحبها القتل بالرجم

كالزاني عند اليهود، وقد نسخت النصرانية رجم الزاني ولم تنسخ رجم العمل في

يوم الأحد؛ لأنه أقبح عندها، فهل جهل ذلك بطارقة القبط وغيرهم من رؤساء

الديانة النصرانية أم علموه؟ وإذا كانوا علموه، فلماذا تركوا النهي عن هذه

المعصية الكبرى، وسمحوا لأبناء دينهم بالعمل في الحكومة المصرية وبغير ذلك

من الأعمال.

(6)

إذا كان جميع حكام النصارى في ممالكهم، وجميع رؤساء الدين

المسيحي في مصر وما يشابهها من البلاد، قد تركوا هذه النصيحة الدينية عن علم

أو غير علم كما يفهم من كلام الخطيب المفوه أخنوخ أفندي، فلماذا ترك هو ذلك

أيضًا، وقد خصه الله بهذا العلم وهذه الغيرة على الدين، فلم يظهر علمه ونصحه

إلا في هذه الأيام؟ ؟

إن مجال القول في هذا الباب واسع ولا فائدة في التطويل فيه، والأمر الذي

لا مراء فيه هو الواقع؛ وهو أن لكل ملة من الملل الثلاث يومًا، وأن المسلمين

واليهود من النصوص الدينية على يومهم في كتبهما ما ليس للنصارى مثله، ولا

يتحول أحد عن يومه إلا في بعض الأمور التي يضطر فيها إلى اتباع من هو أقوى

منه، وقد اتبع النصارى المسلمين في الحكومات الإسلامية؛ كحكومة مصر في

ترك العمل يوم الجمعة، كما اتبع المسلمون حكومات النصارى في ترك عمل

الحكومة يوم الأحد في مثل روسية. وقد أحست القبط بأن الاحتلال أخرج حكومة

مصر عن كونها حكومة إسلامية، بل جعلها مسيحية أو كاد؛ ولذلك طلبوا أن يترك

فيها العمل يوم الأحد.

ليس سعي هذه الطائفة الحية المعتصمة بمقوماتها الملية إلى هذا من مبتكرات

مؤتمرها الجديد، بل هو سعي قد صار قديمًا، وكادوا بإلحاحهم فيه على المحتلين،

يذهبون بحلمهم، ويرفعون درجة الحرارة في دمهم البارد إلى درجة الغليان.

استأذن بعض وجهائهم مرة على مستر دنلوب وكان كاتب السر لنظارة

المعارف، فظن دنلوب أن له شغلاً يتعلق بالمعارف، فلما أذن له، طفق يتكلم عن

وجوب ترك الحكومة العمل في يوم الأحد دون الجمعة، ويحثه على السعي لذلك

حتى غضب، وقال له: بأي حق أم بأية صفة غير نظارة الحكومة الأساسي، قم

فاخرج من هنا.

إن ما عجز عنه هذا الوجيه الغيور، كاد يظفر به ذلك النابغة المشهور، فقد

كان أقنع مستر سكوت المستشار القضائي ولورد كرومر بالابتداء بذلك في نظارة

الحقانية، وأمر المستشار بترك العمل في المحاكم يوم الأحد، فترك أيامًا ثم عاد

الأمر كما كان بسعي الأستاذ الإمام وإقناعه اللورد ومستر سكوت بسوء مغبة هذا

التغيير، كما كان دأبه في أمثال هذه الأمور.

وفي العام الماضي كثر خوض الجرائد الأوربية المصرية وبعض جرائد

المسيحيين العربية في هذا المسألة، وتحدثت بوجوب تقرير الحكومة المصرية للعيد

الأسبوعي وجعله إجباريًّا للحكومة والأمة، وكانت تحوم حول يوم الأحد لترجحه

على غيره، فتدندن وتجمجم تارة وتبين تارة أخرى، وكانت جريدة الأخبار الغراء

تختار صفوة أقوال تلك الجرائد في ذلك، وهي هي الجريدة التي تنصر ببراعتها

دينًا على دين، وحزبًا على حزب، وطائفة على طائفة وأمة أو دولة على أخرى،

من غير أن يكتب صاحبها كلمة واحدة بإمضائه، أو يصرح بأن ذلك من مذهبه

وآرائه، وإنما ينال ما يريد بعناوينه ومختاراته (كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود) .

إنني أرفع صوتي مشيدًا بالثناء على جريدة الأخبار وجرائد القبط والإفرنج

وسائر جرائد النصارى التي تؤيد ترجيح يوم الأحد على يوم الجمعة وترجيح كل ما

ينسب إلى ملتهم على غيره، أثني على أصحاب هذه الجرائد وكتابها بالارتقاء الملي،

والجهاد الأدبي الذي يجعلون به ملتهم قدوة الملل، وقومهم سادة الأقوام، وأي

ارتقاء أعلى من ارتقاء العدد القليل، يطلب فينال ما لم يكن له من العدد الكثير،

وإذا شعر خصمه بأنه قد هوجم لإزالة مقوماته ومشخصاته القومية، ونسخ شعائره

وتقاليده الملية، وأراد الدفاع عن نفسه، والمحافظة على دينه وجنسه، جعل

متعصبًا مذمومًا بمدافعته ومهاجمته، متساهلاً محمودًا في مهاجمته.

كان الغالب على المسلمين أن لا يشعروا بما يناله غيرهم منهم؛ لأن ذلك

يجري بالهدوء ولطافة النسمات، وهيمنة العاشقين في الخلوات، والنائم المستغرق

لا توقظه إلا الصيحات والصاخات. ألم تر أن المسيحيين الغيورين قد أقنعوا كثيرًا

من تجار المسلمين بترك العمل في يوم الأحد والاشتغال في يوم الجمعة؟ وهل

يستطيع جميع المسلمين أن يقنعوا مسيحيًّا واحدًا بترك العمل في يوم الجمعة

والاشتغال في يوم الأحد لا لا ولماذا؟ أليس لأن المسيحيين أعرف من المسلمين

بقيمة المحافظة على الشعائر والمقومات الملية، وأقدر في ميدان المجاهدة

الاجتماعية والأدبية، بلى وليكونن الظفر لهم في كل ما يريدون إلا أن يقتدي

بهم في ذلك المسلمون فحينئذ تكون العزة في كل مكان للكاثر.

يظن بعض الجاهلين منا أن أمر عمل الحكومة في يوم الجمعة سهل، وأنه لا

ينافي الدين في شيء، إذا أمكن للمسلم أن يؤدي فرض الجمعة، لذلك أختم هذه

النبذة ببعض ما ورد في الجمعة.

(1)

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ

فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9)

فأوجب الله تعالى السعي إلى الصلاة، وترك البيع في وقتها. ومثل البيع غيره من

الكسب والأعمال التي تحول دون هذه الفريضة، وإن كانت من أعمال البر، وورد

في الأحاديث من التغليظ على ترك الجمعة ما لم يرد في عبادة أخرى؛ ومنه: (إن

من تركها ثلاث مرات طبع الله على قلبه) ، وفي رواية: (فقد نبذ الإسلام وراء

ظهره) .

(2)

ورد في غسل الجمعة أحاديث متعددة صحيحة وحسنة، من أشدها

تأكيدًا حديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) رواه مالك وأحمد والبخاري

ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وحديث غسل يوم الجمعة واجب

كوجوب غسل الجنابة؛ رواه الرافعي عن أبي سعيد الخدري بسند صحيح.

(3)

التبكير إلى المسجد، قال صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم

الجمعة غسل الجنابة) أي غسلاً تامًا مثل غسل الجنابة لأجل الجمعة (ثم راح) أي

إلى المسجد (في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنه) أي كأنما تصدق عليه بجمل أو

ناقة. (ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة. ومن راح في الساعة

الثالثة، فكأنما قرب كبشًا. ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة. ومن

راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة. فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة

يستمعون الذكر) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وفي فضيلة البكور أحاديث وآثار

كثيرة.

ولا يتيسر الغسل والتبكير إلى المسجد مع الاشتغال في دواوين الحكومة فلا

شك أنها عائق عن هذه الأعمال الدينية المؤكدة.

(4)

يوم الجمعة عيد ملي لنا في مقابلة يومي السبت والأحد لأهل الكتاب

ففي حديث الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نحن

الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم

فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع؛ اليهود غدًا والنصارى بعد غد)

وفي معناه أحاديث أخرى، وفي بعضها التصريح بتسمية عيدًا. وفي مسند الشافعي

وغيره أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (هذه الجمعة فضلت بها أنت

وأمتك، فالناس لكم فيها تبع؛ اليهود والنصارى) ، وفي رواية لابن أبي شيبة أن

جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (تكون عيدًا لك ولقومك من بعدك ويكون

اليهود والنصارى تبعًا لك) ، فهل يرضى مسلم جعله الله ورسوله متبوعًا في

الجمعة أن يتركها ويكون تابعًا لغيره في يوم عيده الديني؟ وهذا أمر مشهور عند

المسلمين، حتى قال الشاعر:

عيد وعيد وعيد صرن متجمعة

وجه الحبيب ويوم العيد والجمعة

ولولا خشية السآمة على القارئين لأطلت في هذه المسألة، وقد ظهر بهذه

الإشارات الوجيزة أن يوم الجمعة عيدنا الملي، فلا نعدل به غيره ولا نستبدل به

سواه، وإلا كنا تاركين لشعائرنا، جانين على ديننا وجامعتنا، وأما علة تمييزه؛ فقد

ورد من بيانها في الأحاديث الصحيحة أن الله تعالى خلق فيه آدم، وفيه تقوم الساعة،

أي ينبغي لنا أن نشكر الله في هذا اليوم على خلقه إيانا، ونستعد فيه ليوم لقائه.

إن أهل كل ملة من الملل الثلاث، يحافظون على يوم عيدهم الأسبوعي

جهدهم، يقول بعض الناس: إن من مصلحة الأمة أو البلاد أن يتفق أهلها على يوم،

يتركون فيه الكسب والعمل في الحكومة والمصالح؛ لأجل اتحاد الأمة وتقوية

الروابط الاجتماعية بينها، نقول: نعم.. وإن البلاد المصرية مؤلفة من المسلمين

وهم الأكثر، ومن النصارى واليهود وفيها بعض الوثنيين والبابية، والجميع لا

يزيدون على ثمانية في المئة، فهل من العدل ترجيح يوم الأحد عشر مليونًا أم

ترجيح يوم من أيام الملل التي يتألف منها بقية المصريين، وهم لا يكادون يعدون

مليونًا واحدًا.

الأمر ظاهر، والصواب واضح. ولكن بعض الفئات القليلة حسب أن الفئة

الكبيرة قد مات شعورها الملي، وتقطعت روابطها الاجتماعية، فصار يسهل أن

تكون تابعة لا متبوعة، وقد يقوم الدليل على صحة هذا القول من أفعال الكثيرين

الذين قطعوا الروابط القديمة؛ ليستبدلوا بها الرابطة الوطنية، فهدموا بناءهم القديم

ولم يقدروا على إقامة هذا البناء الجديد (الوطنية) إلا في مخيلات بعض الشبان،

السواد الأعظم من الأمة المصرية لم يفهموا حقيقة هذه الوطنية إلى اليوم، فالتعجيل

بالقضاء على شعائرها الملية، بمثل هذه الصيحة القبطية، مما يزيد استمساكها بها

كما تقدم.

هذا ما أحببت بيانه في هذه المسألة، وسأبحث في النبذة الخامسة من هذا

المقال في مسألة التعليم الديني. إن شاء الله تعالى.

***

(النبذة الخامسة)

(التعليم الديني في مدارس الحكومة)

لجميع الحكومات المدنية مدارس، ولا نعرف حكومة منها تعلم في مدارسها

دينين فأكثر أو أديان رعيتها، ولا مذهبين فأكثر من مذاهب الدين الواحد فيها.

في البلاد الروسية أكثر من عشرين مليونًا من المسلمين، وفيها كثير من

اليهود، ولا يلقن في مدارس حكومتها إلا المذهب الأرثوذكسي من مذاهب

النصرانية؛ لأنه مذهب الحاكم العام وأكثر الأهالي، بل الحكومة الروسية تضيق

على المسلمين في مدارسهم الدينية، فلا تسمح لهم أن يعلموا فيها كما يحبون

ويعتقدون، وقد رأينا بعض العلماء الذين نفتهم من بلادهم وأخرجتهم من ديارهم

وأقوامهم، ولا ذنب لهم إلا التعليم الذي يرقي التلاميذ المسلمين.

وفي الجزائر البريطانية كثير من الكاثوليك، ولا تسمح الحكومة لهم بأن

يلقنوا مذهبهم في مدارسها، بل المذهب الذي يدرس فيها هو مذهب البرتستانت الذي

عليه ملك الإنكليز وأكثر الشعب الإنكليزي، فهل تسمح هذه الحكومة الحرة بأن

يدرس في مدارسها دين اليهود من رعاياها، وهي لا تسمح بتدريس مذهب

الكاثوليك من مذاهب دينها؟ ولا نشرح ما يشترط على ملك الإنكليز أن يقوله عند

تتويجه من الطعن في الكاثوليكية والبراءة منها، ولا منع الحكومة الإنكليزية

الكاثوليك من إظهار بعض شعائر مذهبهم في عيد الفصح أو غيره، وقس على

ذلك سائر دول أوربة.

وفي البلاد العثمانية من الأديان والمذاهب، ما لا يوجد في غيرها، ولكن دين

الدولة الرسمي هو الإسلام ومذهبها هو الحنفي، فهي لا تسمح أن يدرس في

مدارسها غير المذهب الحنفي من المذاهب الإسلامية دع الأديان الأخرى، ولم يكن

الحنفية هم أكثر مسلمي البلاد العثمانية، وإنما كثرتهم في البلاد العربية الدولة

نفسها.

كانت البلاد المصرية ولا تزال بلاد عثمانية، لم تتنازع إنكلترة ولا غيرها

من الدول في ذلك. وإنما فوضت الدولة أمر إدارتها إلى محمد علي الكبير وذريته

بشروط منصوصة في الفرمانات التي يولي بها السلطان العثماني كل خديوي من

هذه الذرية، وكان مذهب محمد علي وذريته هو المذهب الحنفي، فلما صار

للحكومة المصرية مدارس رسمية كسائر الحكومات المنظمة، جعلت تعليم الدين

فيها خاصًّا بالمذهب الحنفي على قلة الحنفية في هذا القطر، فإن أكثر أهله شافعية

ويليهم في العدد المالكية والحنفية العدد الأقل، ولولا الحكومة وحصرها الوظائف الدينية في الحنفية، لكان وجود الحنفي في هذا القطر أندر من وجود الشافعي أو المالكي أو الحنبلي في بلاد الترك، إلا من يرحلون إلى الأزهر لتلقي

العلوم الإسلامية فيه ثم يعودون إلى بلادهم.

من المعقول أن يرجح دين الحاكم العام ومذهبه على غيره، فيكون هو الذي

يدرس في مدارس حكومته دون سواه، ومن المعقول أيضًا أن يرجح مذهب السواد

الأعظم من الأمة على مذهب الحاكم العام، وأن يترك هو مذهبه إلى مذهب

الجمهور، وإذا اتفق أن استولى حاكم على شعب مخالف له في الدين، فمن المعقول

أن يترك للشعب حريته الدينية ولا يصادره فيها، ولا يعقل أن يرضى الشعب

بإتباع دين الحاكم المتغلب باختياره، كما يرضى باتباع مذهبه إذا كان موافقًا له في

أصل الدين، إلا إذا كان الخلاف في المذهب قويًّا، يتناول ما يعد من الأصول

كمذاهب النصرانية وبعض المذاهب الإسلامية.

وأما الذي لا يوزن بميزان العقل، ولا يقاس بمقياس المصلحة، ولم ينص في

شرع ولا قانون، ولم يقل به فيلسوف ولا مجنون، ولم تفعله حكومة من حكومات

الأرض، فهو ما يطالب به مؤتمر القبط الحكومة المصرية. حكومة شكلها إسلامي،

حاكمها العام مسلم، تعترف الدول كلها أنها تحت سيادة خليفة المسلمين رعيتها

أكثر من تسعة أشعارهم من المسلمين، والباقون لهم عدة أديان ومذاهب. تطالب

هذه الحكومة بأن يدرس في مدارسها دين غير دين الحاكم العام، والسواد الأعظم

من أهل البلاد! !

إذا كان هذا من الحق والعدل والمساواة كما تدعي القبط، فالواجب على

الحكومة الخديوية أن تدرس في مدارسها كل دين ومذهب، يتبعه فريق من أهل

بلادهم كاليهودية بمذهبيها الكبيرين والنصرانية بمذاهبها الثلاث. والإسلامية

بمذاهبها في الأصول والفروع: مذهب السنة ومذهب الشيعة ومذهب الإباضية،

والمذاهب الأربعة في الفروع، وإلا فما هي مزية القبط على اليهودية؟ وأي مذهب

من مذاهبهم يرجح على الآخر، إذا لم تدرس المذاهب كلها؟ .

تقول القبط: إن لنا من الحقوق في هذه الحكومة ما ليس لغيرنا؛ لأننا سكان

البلاد الأصليين، ويجيبهم المسلمون على هذا بأربعة أجوبة:

(1)

إننا لا نسلم أنكم سكان البلاد الأصليين، وسلالة الفراعنة المستكبرين،

وقد صرح المسلمون بهذا، وأيدوه بأقوال مؤرخي الإفرنج.

(2)

إذا سلمنا أنكم من سلالة قدماء المصريين، فإن لنا أن نتبع فيكم سنة

أرقى الحكومات المسيحية علمًا وعدلاً وحرية في سكان بلادها الأصليين، وهي

حكومة الولايات المتحدة، فهل ترضون أن تكون حقوقكم في هذه البلاد كحقوق

هنود أمريكة في حكومتها الآن، وهم أهلها الأصلاء بغير خلاف؟

(3)

إنكم تقولون: إن أكثر مسلمي هذه البلاد منكم وأقلهم من العرب

والترك والشركس، فلا مزية لكم في هذا النسب الشريف على جمهور المصريين

المسلمين، ولهم المزية عليكم بكثرتهم، وكون الحاكم العام من أهل دينهم، وذلك

سبب للترجيح متبع في الحكومات المسيحية الراقية.

(4)

إن طول زمن الإقامة في بلد لا يقتضي التفضيل في الحقوق، وقصره

لا يقتضي الحرمان من شيء منها، متى كان القوم الذين طالت مدتهم أو قصرت

من أهل البلاد المقيمين فيها خاضعين لشريعتها وقوانينها، نعم.. إن الحكومات قد

حددت في هذا العصر الزمن الذي يكون فيه الغريب عنها وطنيًا داخلاً في جنسيتها

السياسية. وقد بالغت مصر في ذلك مالم تبالغ الحكومات الراقية، فجعلت المدة

التي يصير فيها الغريب مصريًا خمس عشرة سنة. فهذه الحكومة الإسلامية تجعل

لأدنى أجير قبطي من الحقوق في بلادها ما لا تجعله لأعظم أمير من شرفاء

المسلمين يقيم فيها خاضعًا لحكومتها، قبل أن تتم له تلك المدة (15سنة) فيها،

ومن نال هذه الجنسية بشرطها كان له من الحقوق مثل ما لغيره من المصريين، سواء

كانوا من آل فرعون الذي لعنه الله، أم كانوا من قوم موسى الذي كلمه الله.

كان بنو إسرائيل دخلاء في مصر وفضلهم الله تعالى في كتبه على آل فرعون

، ثم فضل الله تعالى العرب واصطفاهم بإرسال رسوله منهم، مثلما اصطفى إخوتهم

بني إسرائيل من قبلهم بإرسال رسوله منهم، كما أشار إلى ذلك في سفر تثنية

الاشتراع، فكيف تطالب حكومة مصر التي تدين الله تعالى بتفضيل الشعب

الإسرائيلي والشعب العربي في النسب على الشعب الفرعوني؛ أن تميز الشعب

المفضول في كتب الله على الشعب الفاضل بل الشعبين الفاضلين، على أن الأنساب

في دين هذه الحكومة وشرعها، لا تقتضي التفضيل في الحقوق على

قدر الفضل في النسب.

فعلم مما بيناه أن النسب الفرعوني الذي تدل به القبط غير مسلم لهم، وإذا

سلم جدلاً فهو لا يقتضي تفضيلهم على اليهود، بل اليهود أشرف منهم نسبًا؛ لأنهم

ينتسبون إلى أنبياء الله تعالى، والقبط تنتسب إلى الفراعنة الوثنيين أعداء الله تعالى،

وإذا لم يكن لهم صفة تقتضي تميزهم على غيرهم من المصريين، فقد هدم الأساس

الذي بنوا عليه طلب تعليم دينهم في مدارس الحكومة. نعم.. إن القبط لا يدينون

دين الفراعنة، بل دينًا يرجحه الإسلام على ذلك الدين، ولكن دينهم ودين اليهود

سواء في نظر الإسلام، ولما كان تعليم كل الأديان والمذاهب المعروفة في مصر

متعذرًا في مدارس حكومتها، كان من العدل والمصلحة المتبعين في الحكومات

الراقية أن لا يدرس في مدارس هذه الحكومة إلا دين الحاكم العام الذي هو دين

أكثر الشعب، ولا بأس بما جرت عليه من ترجيح مذهب الحاكم على مذهبي

جمهور الشعب، وإذا فتح باب التعدد، فإن أصحاب المذاهب الإسلامية كلها

يطلبون تدريس مذاهبهم لأولادهم في مدارس الحكومة.

حدثني الثقة أن ناظرة من ناظرات المدرسة السنية الإنكليزيات، كتبت تقريرًا

لنظارة المعارف على عهد فخري باشا، قالت فيه ما حاصله: إن الغرض من تعليم

البنات وتربيتهن على الفضيلة والتقوى لا ينال إلا بالدين، فيجب أن يكون الدين

هو الأساس الذي يقوم عليه بناء تعليم البنات وتربيتهن في هذه المدرسة، والفائدة

تتم بأي دين من الأديان الثلاثة الموجودة في هذه البلاد. ولا يجوز أن يكون في

مدرسة واحدة أكثر من دين واحد؛ لأن ذلك مفسد للتربية، فيجب أن يكون الدين

الإسلامي إجباريًا عامًا في هذه المدرسة - ومثلها غيرها أو غيرها مثلها - لأنه دين

الحكومة وأكثر الأهالي.

أهمل هذا التقرير في النظارة، وكان جزاء الناظرة الفيلسوفة التي كتبته:

إخراجها من المدرسة، وإعادتها إلى بلاد الإنكليز التي تسع فلسفتها العالية وأفكارها

السامية، بخل مستر دنلوب بها على هذه البلاد، واستبدل بها ناظرة أخرى لا

تصل إلى حل سيور حذائها، ثم بدلت الأخرى. ولكن لم تر المدرسة بعد تلك ولا

قبلها مثلها؛ لأنها كانت من أرقى نساء الإنكليز أخلاقًا وأدبًا وأفكارًا.

لو أجبرت الحكومة الخديوية أولاد القبط الذين يدخلون مدارسها على تلقي

دروس الدين الإسلامي والعمل بها، لكان لها قدوة في الإفرنج الذين تقلدهم في أكثر

أعمالها، ولا أعني بالإجبار إكراه التلاميذ بقوة على ذلك، وإنما أعني أن يكون ذلك

شرطًا لا يقبل في المدارس إلا من يلتزمه، ولكن هذه الحكومة لم تفعل ذلك لا في

عهد الاحتلال ولا قبله، لا لأن أمها الدولة العثمانية لم تفعله، بل لأنه لم يعهد في

الإسلام الذي يرمى أهله بالتعصب، وإنما عهد عند المسيحيين الذين يفخرون علينا

بالتسامح والتساهل.

في هذه البلاد معاهد للتعليم تديرها الحكومة، وينفق عليها من أوقاف

المسلمين المحبوسة على تعليم أولادهم خاصة، والحكومة تقبل في هذه المعاهد

أولاد القبط فتعلمهم على نفقة المسلمين، مخالفة في ذلك شرط الواقف لأجلهم. فهل

تسمح القبط بإنفاق قرش واحد من أوقافها على تعليم مسلم؟

إن أمر المسلمين في تسامحهم مع القبط، وترجيحهم لهم على أنفسهم لغريب،

لم يعهد له نظير في الأرض، وقف الخديوي الأسبق إسماعيل باشا واحدًا

وعشرين ألف فدان على تعليم أولاد المسلمين، وهي الأرض التي تسمى (تفتيش

الوادي) ، ووقف جده من قبله ثلاثة آلاف فدان على تعليم أولاد القبط، فكان

عطاؤه للقبط أكثر؛ لأنهم لا يبلغون ثمن المسلمين، فاستأثرت القبط بما وقف عليها

وشاركت المسلمين فيما وقف عليهم، ثم ترفع جرائدها عقيرتها مستغيثة بأوربة

المسيحية من ظلم المسلمين لهم في التعليم، ويصدقها مؤتمرها على ذلك.

من هذا القبيل؛ مساعدة أوقاف المسلمين للجامعة المصرية بخمسة آلاف جنيه

في كل سنة، وهي مفتحة الأبواب للقبط وغيرهم، وطلبتها من غير المسلمين لا

يقل عددهم عن المسلمين.

بلغ من طمع القبط في المسلمين أن طلبوا تعليم أولادهم في بعض مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية على نفقة الجمعية، فلم يقبل ناظر المدرسة، فشكوه إلى

رئيس الجمعية قائلين: إن لهم الحق في التعليم في هذه المدارس؛ لأنهم مصريون قبل

كل شيء! ! وقد جعل أعضاء مجلس إدارة الجمعية هذه الشكوى محل النظر، ومال

بعضهم إلى إجابة الطلب، لولا أن قامت الحجة عليهم؛ بأن قانون الجمعية الأساسي

قد صرح بأن الغرض من هذه الجمعية إعانة فقراء المسلمين وتربية أولادهم لا فقراء

المصريين.

اشتهرت مصر بأنها بلاد العجائب وحق لها أن تشتهر بذلك، فمسلموها يقفون

أرضهم حتى على أديار القبط، وينفقون من ريع أوقافهم الخاصة بهم على تعليم

القبط، وحكومتهم تسمح للقبط بأن يعلموا دينهم في مدارسها، وهو مالا نظير له في

الحكومات الأوربية التي تقتدي بها، والقبط تشكو من ظلمهم وتستغيث بأوربة منهم،

وتُدل عليهم بنسبها، وتدعي أنها صاحبة البلاد، وأنها أجدر بحكمها، وتسخر من

المسلمين وتدعي أنها أكبر منهم كفاءة، وأن ما أخذته من الوظائف في الحكومة وفي

المصالح والمزارع، حتى أوقاف المسلمين الخاصة بهم، فقد أخذته بحق، وهي

أولى به وأحق، وما بقي في أيدي المسلمين وهو أقل هذه الوظائف والأعمال،

فليس لهم فيه حق، بل هم هاضمون به حقوق سلائل الفراعنة وأصحاب البلاد

الأصلاء، فيجب أن يرد إليهم أو أن يأخذوا الآن نصيبًا منه.

قد علمنا بالقياس المطرد المنعكس؛ أن القبط لا يأخذون شيئًا إلا ويطلبون ما

بعده، فلا يجاب طلب إلا ويعقبه طلب، ولا ينتهي أرب إلا إلى أرب، ولا يقنع

هذه الفئة القليلة العدد، الكثيرة النشاط، الكبيرة الطمع، إلا أن يكون الحلم والنفوذ

في هذه البلاد خالصًا لها من دون المسلمين. وهذا شأن الشعوب التي تحيا وتنم مع

الشعب التي تموت وتفنى: الحي يتغذى دائمًا بما يتصل به من الأغذية، والمشرف

على الموت تنحل عناصره وتتفرق، فتكون غذاء للأحياء الأخرى، والحياة قسمان:

حياة مادية وحياة معنوية، وسنة الله تعالى في نظامها واحدة.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 201

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(الرحلة الحجازية)

(لولي النعم الحاج عباس حلمي باشا الثاني خديوِ مصر)

في سنة 1327 حج إلى بيت الله الحرام عزيز مصر عباس حلمي الثاني،

وقد أخذ في صحبته طائفة من العلماء والأدباء والكتاب، منهم صديقنا محمد لبيب

بك البتنوني الشهير صاحب (الرحلات) المشهورة، فكتب في ذلك (الرحلة

الحجازية) وأودعها من الفوائد، ووصف الآثار والمشاهد، وتاريخ الأماكن

والمعاهد، ونظام القوافل والمسالك، وأحكام وحكم المناسك، ما لا تجده مجموعًا

في كتاب، ورتب ذلك في الرحلة أجمل ترتيب، وفصل الكلام فيه أحسن تفصيل،

وجعل فيها من رسوم المعاهد المقدسة ما زادها حسنًا وجمالاً، وزاد ما فيها من

الوصف والبيان إيضاحًا، ففيها بعد رسم الأمير الذي وضع قبل الديباجة رسم ميناء

جدة، فرسم صلاة الجمعة في الحرم المكي ترى الألوف فيه مستديرين حول الكعبة

المشرفة، ثم رسم جبانة المعلى، وباب الصفا من أبواب الحرم، ورسم آخر للكعبة

والحرم في وقت الصلاة وغير وقت الصلاة، ورسم قافلة الحجاج بين منى وعرفة،

والحجاج بخيامهم في عرفة، ورسم جبل عرفات ومنظر رمي الجمار، ومسجد

الخيف بمنى، وموكب الخديوي ذاهبًا لزيارة الشريف، ورسمه بين حاشيته من

رجال الملكية والعسكرية، ومنظر المدينة المنورة، وباب السلام بالحرم النبوي من

داخل الصحن، والقبة النبوية وباب الرحمة فيه، وغير ذلك من الرسوم الشمسية،

وفيها رسوم غير شمسية وعدة خرائط للبلاد المقدسة وغيرها؛ كخريطة العالم

الإسلامي، وخريطة مكة، والحرم المكي، وعرفات ومنى والطرق إلى الحرمين،

ومساكن المدينة، ومنظر المدينة المنورة نفسها.

ومن مباحث الكتاب المهمة بحث كسوة الكعبة، والمحمل، واحترام الأحجار

وتقديسها في الأمم، والحج عند الأمم المختلفة، ومنع الأجانب من دخول الحرمين،

ومشاعر الحج قبل الإسلام، وأصل لباس الإحرام، وماضي المدينة وحاضرها،

والكلام على المحاجر الصحية، وسكة الحديد الحجازية، والآثار القديمة بالشام،

ومدينة بطره. وجملة القول أن هذه الرحلة جديرة بأن تكون ذكرى وتاريخاً لحج

أمير مدني كعزيز مصر، التي هي في مقدمة البلاد الإسلامية مدنية وارتقاء، وقد

طبعت طبعًا نظيفًا يليق بها.

ويجدر بنا ههنا أن نقول كلمة في حج الأمير، فقد سبق لنا أن أنكرنا في المنار

على ملوك المسلمين وأمرائهم ترك فريضة الحج إلى بيت الله الحرام. والظاهر من

حالهم أنهم قد تركوا هذا الركن من أركان الإسلام عمدًا، وأنهم وطنوا أنفسهم على

تركه لا أنهم ينوون أداءه، ويتساهلون فيه بالتراخي حتى يدركهم الموت، وإلا لاتفق

لبعضهم أداؤه. وأكثرهم يعرفون أن ترك الحج عمدًا فسق واستحلاله كفر.

وإن للسياسة السوءى تأثيرًا في ذلك. وقد كان من مزايا أمير مصر عباس حلمي

الثاني تشوقه إلى الحج، وكان استأذن عبد الحميد في أيام سلطنته بذلك فلم يأذن له،

ولم يكن من المستطاع أن يحج بدون إذنه، فلما زالت دولة عبد الحميد، وصارت

الدولة دستورية لا يمكنها منعه من الحج، بادرإلى أداء هذه الفريضة.

كان نبأ حج أمير مصر في عاصمة الدولة عظيمًا، حتى إنه كان مما يخطر

على بال المطلع على ما هنالك أن الحكومة لو وجدت سبيلاً لمنعه منه لسلكتها،

والظاهر أنه لم يحفل بالأمارات ولا بالإشارات التي علم منها كراهتها لذلك، وكان

حجه حديث الآستانة وموضع بحث وتعريض في جرائدها حتى الهزلية المصورة

منها، وقد سمعت هنالك حديث الوزراء وغيرهم في ذلك، وسألني الكثيرون عن

رأيي فيه، بعضهم صرح بالسؤال واكتفى بعضهم بالتلويح والتعريض، وقال لي

الصدر حسين حلمي باشا يقولون لي كلامًا كثيرًا عن حج الخديوِ، وأنا لا أصدق

أن له مقصدًا سياسيًّا. فذكرت له وكذا لناظر الداخلية وغيرهما أنني أعتقد أنه

ليس له غرض سياسي، وأعلم أنه كان ينوي الحج منذ سنين، وأنه استأذن

السلطان عبد الحميد في ذلك فلم يأذن له، وأنني قد ذكرت هذا في المنار وفي تفسير

القرآن قبل الدستور، وسألني غير واحد هنالك هل الخديو متدين حقيقة يحج تدينًا؟

فأجبت بأن المعروف المشهور أنه يصلي ويصوم ولا يشرب الخمر قط، وهل

الحج إلا فريضة كالصلاة والصيام؟

صفحات الرحلة 266، وثمن النسخة خمسة وعشرون قرشًا ما عدا أجرة

البريد.

(كتاب التوحيد)

يشتغل صديقنا الشيخ حسين والي المدرس في الأزهر ومدرسة القضاء

الشرعي بتأليف كتاب في علم الكلام سماه (كتاب التوحيد) ، وقد تم الجزء الأول

منه وطبع على ورق جيد، افتتح مقدمة الكتاب ببضع آيات من أول سورة التغابن

جامعة لأصول العقائد وهي: الإيمان بالله والوحي إلى الرسل واليوم الآخر، ثم قال:

أما بعد فهذا (كتاب التوحيد) الذي رأيت أن أكتبه لتلاميذي الكبار في مدرسة

القضاء الشرعي، أخذت في تأليفه درسًا درسًا، فكان كتابًا منجمًا، وسلكت فيه

سبيل المؤمنين، وهي سبيل ِالجمهور من أهل السنة. ولكني نظرت إلي خصمهم

من ستر رقيق، واطلعت على حجج الفريقين، ووزنتها بميزان النصفة والعدل،

فثقلت موازين قوم وخفت موازين آخرين، وكنت على أريكة الحكم مع اليقظة

والاستقلال، وذلك أشرف المناصب. وما كنت بدعًا في هذا الأمر، فقد سبقني إليه

مثل القاضي البيضاوي فنزعت منزعه. ولكن على قدر حاجة التوحيد ومساغه،

وذلك رأي مدرسة القضاء الشرعي؛ لأنها لم تجد خيرًا من ذلك في الحالة الراهنة،

بيد أنه شعب الطرق كثيرًا وما شعبتها، ولما سار فيها أخذته الحيرة أحيانًا وما

أخذتني، وهاب من يصدون عن السبيل وما هبت؛ لأني أعددت لذلك عدتي،

والعدة في هذا الزمان أكمل منها في الزمان الماضي، وتلك سنة الله في الأشياء،

فإن الأشياء تتقدم إلى الصلاح والكمال بتقادم الزمان، والحازم من ركب لكل حال

سيساءها، ولبس لكل حرب لبوسها.

إن كل طائفة من (كتاب التوحيد) تشرح صدرك، وتترك في نفسك أثرًا

صالحًا، لا يعقبه مرض في القلب، ولا غشاوة على البصر، وتؤذنك بأن الذي

خلق الأول خلق الآخر، وأن العقول جنس واحد، وأن الهالك فيما مضى لم يشهد

الزمن الذي بعده، وأن الحي الآن قد شهد الزمنين، فهو أوسع علمًا، وأسد رأيًا.

قد خلت من قبلنا أمم، وأصبحنا في جيل غير جيل، وعدوّ غير العدوّ،

فاتركونا أيها الجهلاء نقاتل عدونا بمثل سلاحه، وإلا فادعوا آبائكم الأولين.

{إِن تَدْعُوَهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ

بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14) .

هذا كتاب الله يقيم الشهادة إلى يوم القيامة، فينصفني في قوله، ويؤيد حجتي،

وعما قليل يفاجئ نوره الأبصار، ويقرع وعظه الأسماع، ويسكن يقينه الأفئدة ،

ثم تكون له السيطرة التامة، فيرجع الناس إليه في العلم وغيره.

{وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81)

ا. هـ.

هذا ما بين به المصنف غرضه من الكتاب وطريقته التي يسلكها، وحبذا

الطريقة وحبذا البيان، وخير منه الوفاء به، ولما نقرأ الكتاب. ولكننا نشير إلى

ملخص فهرسه.

جاء بعد تلك الفاتحة بفصول وجيزة في (أطوار التوحيد) يعنى تاريخ العقائد،

ثم بفصول في (مبادي التوحيد) يعنى مبادي هذا العلم كموضوعه ومسائله

واستمداده، ثم بفصول في (النظر) ، والمسائل العامة عند المتكلمين، فتكلم عن

الممكن والوجود، والعدم والحال، والوجوب والامتناع، والإمكان والقدم،

والحدوث والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول، والدور والتسلسل والماهية. هذه

أمهات مسائل الجزء الأول الذي صدر من هذا الكتاب، وهو مرتب ترتيبًا حسنًا،

ومطبوع على ورق جيد، وصفحاته365 من قطع رسالة التوحيد، وثمن النسخة

منه خمسة عشر قرشًا.

(كلمة التوحيد)

عقيدة للشيخ حسين والي صاحب كتاب التوحيد، ألفها لتلاميذ السنة الأولى

من القسم الأول من طلاب مدرسة القضاء الشرعي، كما ألف ذلك الكتاب المطول

لتلاميذ القسم الثاني. وقد بدأ هذه العقيدة بكلام وجيز في تاريخ التوحيد وأمهات

العقائد وكتبها وعقائد العوام، والحديث المتواتر فيها، وأحكام العقل الثلاثة، وأهل

السنة والمعتزلة والدور والتسلسل، ثم تكلم في الصفات وتعلقها، والنبوة والإمامة،

وذكر الإسراء والمعراج والرؤيا، ثم السمعيات والكلام في هذه العقيدة على

الطريقة المعروفة في كتب المتأخرين من السنوسي ومن بعده، ولكن الترتيب أحسن

والعبارة أجلى.

***

(تمرين الإملاء، في الخلق والأدب واللغة والإنشاء)

للشيخ حسين والي كتاب اسمه الإملاء في علم الرسم سبق لنا تقريظه، وقد

قرر تدريس ذلك الكتاب في الأزهر وفي مدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم

وكلية غردون. ولكن ينقص ذلك الكتاب كثرة الشواهد والأمثلة التي يتمرن بها

الطلاب جريًا على الطريقة الحديثة في التعليم، لهذا وضع مؤلفه كتابًا خاصًّا لذلك؛

إنجازًا لما وعد في آخر كتاب الإملاء، ولم يجعل تمرينه كلمات مفردة ولا جملاً

منثورة مختصرة، بل جاء بنبذ في الأخلاق والآداب من مختار الشعر، فجمع فيه

بين الفائدتين، وقد طبع على ورق جيد وصفحاته 304.

(مذاهب الإعراب وفلاسفة الإسلام في الجن)

توجهت همة صديقنا الشيخ جمال الدين القاسمي عالم الشام المشهور إلى جمع

ما تفرق في الأسفار العربية الكثيرة من الأقوال في الجن، فجمعها من عشرات من

المصنفات، ورتبها ترتيبًا حسنًا، فذكر آراء علماء اللغة، ونقولهم في مواضع

الجن ومراتبها، والغول والهاتف والاستهواء والعزيف والصرع والطاعون، وما

نسب إلى الجن من الأعمال، ثم ذكر أقوال المتقدمين والمتأخرين من الفلاسفة

والمتكلمين في الجن، وختم الكلام في تمثل الأرواح، وكون الجن من الأرواح،

وما جاء من علماء الإفرنج في ذلك مترجمًا من معجم لاروس الفرنسي ودائرة

المعارف البريطانية، وفي مسألة التعزيم ودعوى سكنى الجن في الخرائب وغير

ذلك. وقد نشر ذلك كله في مجلة المقتبس، ثم طبعه على حدته وهو مفيد في بابه

لا يستغني عنه من يريد تمحيص هذا المبحث، وفي هذه الرسالة من الفكاهة

والأدب وغرائب الروايات عن الجن ما يلذ لكل قارئ، فهي رسالة قد جمعت بين

اللذة والفائدة.

_________

ص: 226

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(مسجد في لوندره)

لوندره عاصمة دولة إنكلترة أكبر مدينة في الأرض، وأكثرها ساكنًا، وهى

لا تخلو من عدد كبير من المسلمين؛ ما بين مقيم وزائر، ومتعلم ومتظلم ومتجر،

فإن زهاء نصف مسلمي الأرض تحت سلطان هذه الدولة ونفوذها، منهم في الهند

وحدها تسعون مليونًا من النفوس بحسب إحصاء هذه السنة.

اجتماع المسلمين وتعارفهم في تلك العاصمة له فوائد كبيرة، ولا يتيسر لهم

ذلك في مدينة سكانها ستة ملايين أو يزيدون، إلا إذا كان لهم معهد معروف

يؤمونه من كل جهة، ولهذا رأى بعض المفكرين أنه ينبغي للمسلمين أن يبنوا لهم

مسجدًا هنالك، ويبنوا بجانبه ناديًا للاجتماع والخطابة، ويجعلوا فيه مكتبة للمطالعة.

سبق أذكياء المسلمين إلى هذا الرأي من ليس منهم، وأنفذه لمنفعته لا لمنفعتهم

وأراد غيره أن يعمل مثل عمله في باريس، فقد ذكرنا في ص479 من مجلد المنار

الثامن (سنة1323) أن الخواجة ليون لامبير كان رغب إلينا أن نقنع الأستاذ الإمام

رحمه الله تعالى بأن يجعل (مشروع بناء مسجد بباريس) تحت رياسته، وكان

الأستاذ مريضًا فلم نحدثه بذلك، وبعد وفاته بلغنا أنه التمس من شيخ الأزهر أن

يجعل هذا المشروع تحت رياسته، فقبل ولم نعلم ماذا كان بعد ذلك.

ذكرنا هذا الخبر في ذلك المكان أي منذ ست سنين، وعقبنا عليه بأننا نرجو

أن لا يكون مسجد باريس كمسجد لوندره الذي حدثنا الأستاذ الإمام عنه بما يأتي،

قال رحمه الله تعالى:

خطر لرجل يهودي كان مستخدمًا في الهند أن يجمع من المسلمين مالاً، يبني

به مسجدًا في لوندره، فجمع خمسين ألف جنيه، ثم جاء لوندره فبنى مسجدًا في

خارجها على مسافة ساعة في السكة الحديدية، وهو مكان لا يصل إليه أحد من

المسلمين في لوندره، فهو مغلق دائمًا لا يصلي فيه أحد، وقد اشترى الرجل أرضًا

لنفسه عند الجامع، وبنى فيها بيتًا لنزهته، فإذا علم أن بعض أمراء المسلمين أو

أغنياءهم زار لوندره، يبحث عنه ويدعوه إلى داره وإلى رؤية المسجد، ولما زار

نجل أمير الأفغان عبد الرحمن خان لندره في عهد والده، أجاب دعوة هذا اليهودي

إلى داره ومسجده، وبعد الطعام أعطاه خمس مئة جنيه، ولا يخالنَّ أحد أن الأمير

كان مبسوط الكف لكل أحد يتصل به أو يخدمه، فقد كان خالد أفندي أستاذ اللغة

التركية في مدرسة كمبردج (مهندارا) للأمير في لوندره لزم خدمته، وأعد له كل

وسائل الراحة، وهو لم ينعم عليه إلا بجنيه واحد لم يقبله. ا. هـ

ما نقلناه عن الأستاذ الإمام وقد عقبنا عليه في المنار بالتنبيه إلى افتتان

المسلمين بالأجانب، حتى في أمور دينهم، فهم يبذلون لهم من أموالهم حتى باسم

الدين ما لا يبذلونه لمن يخدم الدين منهم.

خليل خالد بك الذي ذكره الأستاذ في هذا السياق؛ هو الذي بذل وقته مع

جماعة من المسلمين رئيسها القاضي مير علي الهندي العالم المشهور، للسعي في

إنشاء مسجد في لوندره نفسها، يكون مثابة للمسلمين فيها، وقد بدأ الدعوة إلى

التبرع له في العام الماضي بالآستانة، فلم يتبرع له فيها إلى الآن إلا بنحو أربعة

مئة ليرة، وقد جاء مصر في هذه الأيام لأجل جمع الإعانات منها، فعني به بعض

أهل النجدة وألفوا له لجنة تحت رياسة رياض باشا الذي هو عدة مصر وعتادها في

أعمال الخير والمصالح العامة، وقد أعد خليل بك خالد خطبة تركية للدعوة إلى

المشروع، ترجمت بالعربية، ودعت اللجنة جمهور الوجهاء والفضلاء إلى

الاجتماع في قبة الغوري ضحوة الجمعة؛ لسماع الخطبة باللغتين فاجتمعوا، وبعد

أن قرأ بعض الحفاظ آيات من القرآن الكريم فيها ذكر عمارة المساجد، ألقى خليل

خالد بك خطبته، وتلاه الشيخ عبد الوهاب النجار فتلا ترجمتها، ثم رفيق بك أحد

أعضاء اللجنة بخطاب وجيز، تكلم فيه عن أول مسجد أسس في الإسلام، وهو

مسجد قباء، وعن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون، ثم دعي أحمد زكي بك

الكاتب الأول لأسرار مجلس النظار، فألقى خطابًا ذكر فيه ما كان من عناية

المسلمين في العصور الأولى ببناء المسجد أينما وجدوا، حتى في بلاد الأجانب،

وذكر من الشواهد على هذا المسجد الذي بناه بعض الصحابة في غلطة من الآستانة،

وحث الناس على التبرع للمشروع، وقال: إنه هو يتبرع بعشرة جنيهات على

قدر حاله، واعتذر عن إظهار ذلك مع نهي الدين عن إظهار الصدقات.

***

(إظهار الصدقات وإخفاؤها)

بعد أن أتم أحمد ذكي بك خطابه المفيد، قام كاتب هذه السطور فألقى خطابًا

وجيزًا في الاستدراك على ما قاله الخطيب في مسألة إظهار الصدقات وبيان الحق

في ذلك؛ لأجل الحث على التبرع للمسجد، قلت بعد الثناء على الخطيب ما مثاله.

لم يكن يخطر في بالي أن أقوم خطيبًا في هذا الجمع، ولكن ما قاله الخطيب

في الصدقات يحتاج إلى استدراك وإيضاح لا بد منهما؛ لئلا يظن بعض الناس أن

الدين الإسلامي يحرم الصدقات الجهرية أو يكرهها، فيقبضون أيديهم أن تجود في

مثل هذه المحافل على ما تدعى إليه من البر.

قال الله تعالى: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ

فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 271) فمدح إبداء الصدقات وإظهارها مطلقًا، وفضل

إخفاءها فيما يعطى للفقراء منها بما يدل على أن مقابله جائز، بل محمود أيضًا.

إخفاء الصدقة على الفقراء خير من إظهارها؛ لما في الإظهار من كسر قلوب

الفقراء المتجملين، وما في الإخفاء من الستر عليهم والتكريم لهم. وأما وضع

الصدقة في المصالح العامة، فليس فيه هذا المعنى وإبداؤها قد يكون حينئذ خيرًا من

إخفائها؛ لما فيه من حسن القدوة والترغيب في التعاون على الخير، وما زالت

القدوة الصالحة مصدر البركات وسببًا في كثرة الأعمال الصالحات، وقد أمرنا الله

تعالى أن ندعوه بأن يجعلنا أئمة في الخيرات، بمثل قوله:{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) .

إن من يطلب المال ليضعه في مصلحة عامة، يسره أن يجاب جهرًا، كما

يسر كريم النفس أن يجاب إلى ما يطلبه لنفسه سرًّا، والإخلاص موضعه القلب،

ولا ينافيه أن يحب المؤمن ظهور فضله بالحق، وإنما المذموم في كتاب الله أن

يحب المرء أن يحمد بغير حق، قال تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا

وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العَذَابِ} (آل عمران:

188) والإسلام دين الفطرة، فليس فيه ما يمنع المسلم أن يظهر كل ما يميل إليه

استعداده من الحق والخير، ولا سيما إذا تعدى نفعه، وكان فيه قدوة لغيره.. إلخ.

بعد هذا افتتح رياض باشا الاكتتاب بمئة جنيه، وتبرع الشيخ قاسم آل إبراهيم

نزيل مصر بمئة جنيه، وتبرع غيرهما من الأغنياء بما دون ذلك من الآحاد

والعشرات إلى الخمسين، وكان مجموع التبرعات في تلك الجلسة زهاء ست مئة

جنيه، وستبلغ الألوف في وقت قريب إن شاء الله تعالى.

* * *

(قانون الأزهر في مجلس الشورى، والاحتفال بالمتناقشين فيه)

سبق لنا ذكر قانون الأزهر الجديد، وقد نظر فيه مجلس الشورى، ونفخ

بعض مواده وأقر أكثرها، وقد كان من رأي محمود باشا سليمان رئيس حزب الأمة،

وعلي شعراوي باشا وفتح الله بك بركات وأحمد بك حبيب؛ أن لا يكون حق

تعيين شيخ الأزهر للخديوي، واقترحوا أن يكون بالانتخاب وألا يعزل، وكذلك

أنكروا أن ينعقد مجلس الأزهر الأعلى برياسة الخديوي عند الاقتضاء، وكانت

المناقشة في المادتين الناطقتين بهذين الحكمين شديدة في المجلس، وكان أشد

المعارضين لهؤلاء في رأيهم محمد باشا الشواربي وكيل مجلس الشورى.

رأى حزب الأمة هذه المناقشة فرصة لتأسيس حزب شعبي في المجلس،

يسميه الحزب الديمقراطي أو الحزب الحر، يكون أبطاله هم الذين اقترحوا أن

ينتخب كبار علماء الأزهر الشيخ له، فلا يكون للأمير تعيين من شاء ولا عزل

الشيخ الذي يختاره العلماء، وأن يكون شيخ الأزهر هو رئيس المجلس الأعلى دائمًا

فأطلقوا على الأعضاء الخمسة اسم الحزب الديمقراطي الحر، ودعوا كثيرًا من

الوجهاء إلى حفلة شاي في فندق (كونتيننتال) إكرامًا لهم، حضرها زهاء مئتي نسمة،

وألقيت فيها الخطب في المعنى المقصود.

عبرت الجرائد عن هؤلاء بحزب الأقلية، وقد قابلهم حزب الأكثرية باحتفال

آخر، كان الداعي إليه حسن باشا زايد باسمه ونيابته عن جمهور من سراة القطر

المصري، أقيم هذا الاحتفال في فندق (سفواي) وأجاب الدعوة إليه قاضي مصر

وشيخ الأزهر وكبار علمائه، وزهاء مئة وخمسين رجلاً من وجهاء القطر ورجال

الصحافة الوطنيين والأجانب، وكنت ممن دعي من الصحافيين وإن لم أبد رأيًا،

ولم أكتب كلمة في موضوع الخلاف. ونصبت للمدعوين موائد الطعام وبعد الفراغ

من العشاء، قام في القوم الشيخ حسن السرهويتي من علماء المنوفية، فشكر

الحاضرين بالنيابة عن حسن باشا زايد، ثم خطب في المعنى المقصود سيف النصر

باشا وحسين بك هلال وموسيو كولرا محرر القسم الفرنسي من جريدة الأيجبت،

ومستر منسفيلد محرر القسم الإنكليزي فيها، ثم الشيخ علي يوسف مدير المؤيد

وموسى باشا غالب.

هؤلاء هم الخطباء الذين كانوا مندوبين للخطابة، ثم اقترح الشيخ علي يوسف

على فارس أفندي نمر أحد أصحاب المقطم أن يقول شيئًا، فتكلم بعد الشكر لحسن

باشا زايد كلامًا وجيزًا في الاتفاق بين أهل القطر، وقال: إنه لا يحق له أن

يتعرض لمسائل الأحزاب، وأنه يوافق موسيو كولرا على رأيه الذي أبداه، وهو

استحسان ما جاهر به الفريقان من المختلفين في الرأي في قانون الأزهر، وهو

جعل مقام الجناب الخديوي فوق الأحزاب.

ثم اقترح عليّ الشيخ علي يوسف أن أتكلم بعد أن سألني؛ هل يوجد عندي

مانع من الكلام؟ فقلت: لا.. وهذا ما وعيته من خطابي:

أيها العلماء الأعلام. أيها السراة والفضلاء الكرام:

إنني بعد حمد الله تعالى، والصلاة والسلام على رسوله، أقول كلمة في حالنا

العامة الآن، تعلمون أننا الآن في دور انقلاب ودور انتقال من حال إلى حال، وفي

هذا الطور تكون الأمم على خطر، إذا هي طفرت إلى التقدم طفورًا، ولم تسر

على سنن الكون بالتدريج، فإن ضرر التحول السريع ولو من حال إلى أعلى منها،

ضرره أكبر من نفعه، والخوف منه أقوى من الرجاء فيه.

في هذا الطور يكثر المقلدون الذين يميلون إلى اقتباس ما عند الشعوب القوية

من خير وشر وحسن وقبيح. وفيه تكثر الاقتراحات التي يمكن تنفيذها والتي لا

يمكن تنفيذها، فكل ما نسمعه بمصر من طلب تغيير القديم طبيعي لا بد منه. يطلبون

الدستور ولهم أن يطلبوه، ولكن الوصول إلى المطلوب إنما يكون بالسير على سنن

الكون التدريجية، كذلك ميل الكثيرين إلى المحافظة على القديم طبيعي، ولا بد منه

في هذا الطور، سواء كان ذلك لتفضيل القديم على الجديد، أو للعلم بعدم إمكان

الجديد أو بعدم مجيء وقته لعدم استعداد الأمة له.

لا ترتقي الأمم إلا بطلب استبدال ما هو أدنى من قديمها بالذي هو خير منه،

ولو مقتبسًا من غيرها، ولا تبقى الأمم إلا بالمحافظة على قديمها، والتريث في

التحول عن الضار منه، حتى لا يكون طفرة تُخشى عاقبتها. وإن هذه البلاد سائرة

على طريق التحول بالتدريج، والخطر عليها عظيم من العجلة والطفور، ولكنه لا

يقع إن شاء الله تعالى.

أمامنا مثال ظاهر على هذا وهو الجامع الأزهر. كان هذا المعهد العلمي العظيم

إلى عهد قريب كأنه بمعزل عن سائر طبقات الأمة، يجري أهله فيه على ما تعودوا

من طرق التعليم بغير نظام مدوّن ولا قانون متّبع، ولم يكن أحد يعرف طريقتهم

وحالهم إلا من جاور فيه معهم. وقد وضع له في هذا العصر عدة قوانين، كان كل

منها مناسباً للوقت الذي وضع فيه، كما تقتض سنة التدريج في التحول، حتى

وصلنا إلى الحالة التي نحن فيها اليوم.

ها أنتم أولاء، ترون أمامكم في هذا الفندق المدني العصري أكابر علماء

الأزهر الأعلام، يحضرون احتفالاً جمع بين الكثيرين من طبقات الأمة المختلفين

في الدين والجنس وبعض الأفراد من الأجانب، وقد عقد هذا الاحتفال لأجل الأزهر

فإنه احتفال بالذين أقروا قانون الأزهر الجديد الذي هو أوسع وأعلى من قوانينه

السابقة.

أليست هذه خطوة واسعة في التحول عن القديم إلى الجديد، تكاد تكون وثبة

غير تدريجية؟ أليس وجود هؤلاء العلماء الأعلام بينكم، وهم الذين يعد أمثالهم في

كل الأمم أقوى المحافظين على القديم؛ آية من آيات الاستعداد لما يسمونه

الديموقراطية في لغة أهل السياسية؟

لا أقول: إن قانون الأزهر الجديد الذي تحتفلون بتقرير مجلس الشورى له

هو منتهى الكمال المطلوب لهذا الجامع ولكنه إذا تيسر تنفيذه يكون من الارتقاء

التدريجي المطلوب بل أخشى أن يكون فوق التدريجي.

قلت: إنه يخشى على الأمة في طور الانتقال من التحول السريع، ولكنها إذا

تركت إلى سنن الكون ونواميسه في الترجيح بين طلاب الجديد والمحافظين على

القديم، فإنها تسلك طريق التدريج الذي لا خطر فيه، وإنما يكون التحول الفجائي

بالقوة القاهرة التي يلجأ إليها طلاب الجديد في بعض الأمم، وهذه القوة غير

موجودة في مصر، فلا خطر على هذه البلاد من طلب ما لا حاجة إليه، ولا من

طلب الشيء قبل أوانه، فعلينا إذًا أن نحترم حرية رأي غيرنا، كما نحب أن يحترم

رأينا ولكننا نجتهد في تنفيذ ما نراه نحن هو الأصلح.

هذه كلمتي الأولى في هذا المقام، ولي كلمة أخرى في هذا الاحتفال،

والاحتفال الذي قبله. قال الأستاذ الشيخ علي يوسف في خطبته: إنه بدأ بالشكر

للذين احتفلوا بالعدد القليل من أعضاء مجلس الشورى؛ لأنه كان سبب الاحتفال

بالجمهور الكثير من أعضائه، وقال: إن المجلس حصل فيه وكذا في الجمعية

العمومية خلافات كثيرة؛ في مسائل أهم من المواد التي اختلفوا فيها أخيرًا من

قانون الأزهر، وأدل على الشجاعة الأدبية، ولم يكن أحد يحتفل بالمخالفين لرغبة

الحكومة ولا بالموافقين.

وأنا أشاركه في الشكر لهؤلاء وأولئك المحتفلين، وأعده من آيات ارتقاء هذه

البلاد وأعمالها النافعة، إننا لم نكن نبالي من قبل بالأمور العامة، والآن صرنا

نبالي بها، إن اجتماع العدد الكثير من طبقات الأمة في محفل واحد لأجل المصلحة

العامة، يرى بعضهم وجوه بعض، ويسمع بعضهم حديث بعض هذا الاجتماع

يقوي في نفوسهم حب المصلحة العامة والاهتمام بها والحديث فيها، ويسري ذلك

منهم إلى غيرهم، فيكون وسيلة إلى انتشاره في الأمة كلها، وذلك من أسباب

الارتقاء السريع الذي لا خطر فيه.

حق لي بعد هذا البيان أن أشكر لحسن باشا زايد وإخوانه العناية بهذا الاحتفال

النافع، سمعت أنه قيل: إن حسن باشا زايد لم يتعلم في الأزهر ولا في غيره من

المدارس العالية أو غير العالية، فيعرف صواب الرأي في قانون الأزهر، فيحتفل

لأجله عن بصيرة، وأنا أقول: إن الأمم لا ترقى بالمتعلمين في المدارس وحدهم.

إن عماد ارتقاء الأمم هم أصحاب المواهب الفطرية والاستعداد العالي الذي يزجي

هممهم للقيام بالمصالح العامة. حسن باشا زايد لم يتعلم في المدارس، ولكنه

باستعداده الطبيعي ومواهبه الفطرية يدير ثروة واسعة، وينفق منها على المصالح

العامة: كالجامعة المصرية ومؤتمر تحسين العميان وغير ذلك.

لو تعلم حسن باشا زايد في المدارس العالية ونال شهادتها وألقابها وهو عاطل

من هذه الحلية الفطرية، لكان لنا منه واحد من المتعلمين الكثيرين الذين لا حظ

لأمتهم منهم غير شقشقة اللسان وتنميق الكلام، ولكن حسن باشا زايد يعلم الآن بماله

كثيرًا من النابتة، فهو إذًا ليس فردًا متعلمًا ولكنه أمة معلمة.

التعليم يحتاج إلى المال، وإنما يكون ارتقاء الأمة بالأغنياء الذين يبذلون

أموالهم لترقية الأمة ورفعة شأنها، لا بالذين يدعون خدمتها بالقول فقط، أولئك

الباذلون المحسنون هم زعماء الأمة ومربوها، فنسأل الله أن يكثر فينا من أمثالهم.

***

(عقد قران صاحب المنار)

في يوم الجمعة سادس عشر ربيع الأول الأنور، احتفل في ددّه من أعمال

الكورة الشمالية بجبل لبنان؛ بالعقد لصاحب المنار على الأميرة أمينة كريمة

المرحوم الأمير (هدى) درويش الأيوبي، والأمراء الأيوبية؛ كانوا حكام هذا القسم

الشمالي من كورة لبنان، وهم ينتسبون إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي. وكان

وكيلي في العقد شقيقي السيد حسن، ووكيل الفتاة شقيقها الأمير أحمد هدى، وتولى

صيغة العقد الأستاذ السيد الشيخ عبد الفتاح الزغبي الجيلاني نقيب الأشراف في

طرابلس الشام، وحضر الاحتفال كبار العلماء والوجهاء والسادة من طرابلس

والقلمون والكورة، وكان الاحتفال أرقى ما عهد من نوعه. وقد نصبت فيه موائد

الطعام للمئين من المدعوين، وأديرت كؤوس المرطبات على جماهير الحاضرين،

وتوفرت فيه أسباب السرور، فلم يشب صفوها كدرعلى كثرة الشبان الذين يحملون

السلاح من أهل القريتين وغيرهما، وقد طير البرق خبره إلى مصر في حينه،

فنشر في الجرائد الكبرى كالمؤيد والمقطم والأهرام، فنسأل الله التوفيق في هذا

الطور الجديد في الحياة.

***

(الوطنية والإسلام)

نشرت جريدة (العلم) لسان حال الحزب الوطني بمصر في (ع 279 الذي

صدر في 11 ربيع الآخر) ترجمة كلام لمجلة (العالم الإسلامي) الفرنسية التي

تصدر بباريس، ذكر صاحبه الحركة الوطنية المصرية وعزاها إلى مصطفى كامل

باشا وخطأها بمثل قوله: وإنما كنا نعتقد فقط بأن ارتباط الإسلام بالنهضات الوطنية،

يكون سببًا لتشتيته وانقسامه على نفسه، فيفقد القوة التي اكتسبها إياه (؟) مدنيته

العمرانية، ونحن نهنئ مصر الإسلامية المولعة بالتقدم والرقي العقلي والاجتماعي،

وننتظر لها مستقبلاً سياسيًّا باهرًا، بحيث تسترد مركزها الإسلامي، وذلك بناء

على انتشار الحركة الإسلامية لا الحركة الوطنية المقيدة في دائرة من الدوائر.

(وإننا مع عدم إنكار الخدمات العظمى التي قام بها الحزب الوطني للأمة

المصرية، نخاف أن يسير بها في مأزق ضيق؛ لأنه لم يتبع الطريق الذي نراه

صالحًا) ا. هـ المراد بنص ترجمة جريدة العلم الركيكة.

وقد عقبت جريدة العلم على ذلك بهذه الجملة (يريد الكاتب أن يقول: بأن

الحزب الوطني أخطأ في عدم جعل الدين قاعدة لحركته، والجامعة الإسلامية وسيلة

لتحقيق مقاصده، وهذا هو مبدأ المجلة (أي مجلة العالم الإسلامي) التي نعرب

عنها مقال اليوم، كما أشرنا إلى ذلك سلفًا وهو ما لا نوافق عليه) .

(المنار)

إن صاحب مجلة العالم الإسلامي لم يذكر الجامعة الإسلامية، وإنما يعني أن

مصر لا ترتقي إلا بارتقاء المسلمين الذين هم السواد الأعظم بحركة إصلاح إسلامية

لا بدعوة وطنية، والحزب الوطني على خلاف ذلك؛ فإنه يفضل الحركة الوطنية

على الإسلامية.

ويقال: إن بعض أصحاب النفوذ في الحزب الوطني، سيظهرون الميل إلى

الاتحاد بالقبط وعدم مؤاخذتهم على ما كان منهم ولا غرو، فالوطنية الصحيحة التي

لا شائبة للدين فيها؛ تقتضي أن لا يمتاز وطني على وطني بسبب دينه، فإذا

قصرت القبط في حقوق الوطنية بتفضيل القبطي على غيره، فذلك لا يقتضي أن

يعاملهم زعماء الوطنية من المسلمين بعملهم؛ لأن الزعيم قدوة في الإيثار، ويجب

على القبط أن لا يعودوا بعد إلى مثل ما كانوا عليه من التحامل على الحزب الوطني

فإنه كان في هذه الأيام أقرب إليهم من سائر الأحزاب، ولم يرفع صوته الجهوري

المعروف في الدعوة إلى المؤتمر الإسلامي، بل جارى سائر الأحزاب بقدر

الضرورة.

***

(رأي مجلة الشرق والغرب، في جماعة الدعوة والإرشاد)

لدعاة النصرانية عدة صحف في مصر منها مجلة الشرق والغرب لقسوس

الإنكليز، ويكنون بالشرق عن الإسلام وبالغرب عن النصرانية، وقد بلغني أن

رأس مال هذه المجلة الصغيرة ستة آلاف جنيه، وهي من تبرعات الإنكليز

الحريصين على نشر دينهم ومذهبهم في هذه البلاد، فهل يعتبر بذلك المسلمون.

هذه المجلة أقرب إلى الأدب من أخواتها، وقد أرسلنا إليها النظام الأساسي

لجماعة الدعوة والإرشاد، فكتب أصحابها عنه خيرًا مما كتبه بعض المسلمين الذين

يدعون السبق في خدمة دينهم، كتبوا ما معناه أن الدين الحي لا بد له من الدعوة،

وأنه لا يسوءهم أن يدعو المسلمون إلى دنيهم، وأنه أعجبهم من نظام الجماعة عدم

الاشتغال بالسياسة، وههنا أدخلت المجلة شيئًا من التعريض الذي يغري الأوربيين

بمقاومتنا، فقالت: إنهم لا يستطيعون أن يفهموا أن شيئًا من الإسلام يخلو من

السياسة؛ لأن الإسلام مزج بينهما.

ونحن نجيب عن هذه التهمة التعريضية بجواب بديهي، ونرجو من إنصاف

أهل هذه المجلة نشره بالعربية والإنكليزية، كما نشروا الشبهة وهو:

إننا نعترف بأن السياسة في الإسلام قرينة الدين؛ بمعنى أن الإسلام جاء

بأحكام دينية وأحكام دنيوية سياسية ومدنية، ولكنه فرق بين الأحكام الدينية المحضة

وغيرها، ومن أحكامه أن المعاملات الدنيوية تكون عبادة دينية بإخلاص صاحبها

وتحريه الحق والعدل والمصلحة، كما يكون عاصيًا بضد ذلك، فحكام المسلمين

مأمورون بمراعاة أحكام الدين فيها، فإذا فعلوا يكونون أقرب إلى الحق والعدل،

ويجب عليهم حفظ الإسلام والدعوة إليه، فالسياسة إذًا تستلزم الدين في الإسلام.

وأما القسم الديني المحض من الإسلام، فلا يحتاج فيه إلى الساسة، بل لا

يكون إتقانه والإخلاص فيه إلا بتركها، فالذي يشتغل بالعقائد الإسلامية وإقامة

الدلائل عليها ورفع الشبهات عنها، وبآداب الإسلام وأخلاقه وعباداته علمًا وعملاً

وتعليمًا ودعوة إليها ودفاعًا عنها، لا ينبغي أن يشتغل بالسياسة ولا لأجل السياسة

بل الواجب عليه شرعًا أن يعمل ذلك لوجه الله وابتغاء مرضاته بالتقوى والهداية،

فإذا قصد مع ذلك التقرب من الحكام أو إرضاءهم، كان مرائيًا مذمومًا، وإذا عمل

لأجل السياسة فقط، كان عمله معصية لا طاعة، وكان مستحقًّا للعقاب عليه دون

الثواب، وقد أطلق في الكتاب والسنة اسم الشرك على مثل هذا الرياء.

فجماعة الدعوة والإرشاد تريد أن تخدم الإسلام، من حيث هو دين جاء لهداية

الناس وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا؛ بالتقوى والفضيلة والخير والبر،

وسعادتهم في الآخرة بالنجاة من عذاب الله والدخول في دار كرامته ورضوانه، ولا

تريد مطلقًا أن تشتغل بالقسم السياسي ولا القضائي منه، فلا تقصد أن تعد طلاب

مدرستها للقضاء الشرعي ولا للأعمال السياسية، وإنما تريد أن تعدهم لإرشاد عامة

المسلمين إلى حقيقة دينهم ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام من غير تعرض

لحكوماتهم ألبتة، أليس هذا مما يسهل على كل أحد أن يفهمه؟ كان الصالحون من

سلف الأمة والصوفية أبعد خلق الله عن الساسية وأهلها، حتى إنهم كانوا يفرون من

الحكام، ويكرهون لقاءهم إلا لحاجة دينية؛ كالحث على الخير والأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر، فهل يضيق فكر الأوربيين الواسع عن التصديق باتباع جماعة

من المسلمين لسلفهم الصالح في الدين الخالص من شوائب السياسة وأهواء الحكام،

مع وجود ذلك في جميع الأمم والأقوام؟

***

(المؤتمر المصري)

اقترحنا على المؤتمر المصري أن يكون له خمس لجان دائمة في المركز العام

بالقاهرة: لجنة للإدارة، ولجنة للتعليم والتربية، ولجنة للوعظ والإرشاد وإصلاح

حال العامة في دينها ودنياها، ولجنة مالية اقتصادية لحفظ الثروة وتنميتها، ولجنة

خيرية لإعانة المنكوبين والمعوزين، وبينا كيفية تأليف هذه اللجان وعلمها،

وسننشر ذلك في الجزء الآتي.

_________

ص: 231

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

فتحنا هذا الباب لإجابة أسئلة المشتركين خاصة؛ إذ لا يسع الناس عامة،

ونشترط على السائل أن يبيّن اسمه ولقبه وبلده وعمله (وظيفته) ، وله بعد ذلك أن

يرمز إلى اسمه بالحروف إن شاء، وإننا نذْكر الأسئلة بالتدريج غالبًا، وربّما

قدّمنا متأخرًا لسببٍ؛ كحاجة الناس إلى بيان موضوعه، وربّما أجبنا غير مشترك

لمثل هذا، ولمن مضى على سؤاله شهران أو ثلاثة أن يذكّر به مرةً واحدةً، فإن

لم نذْكره كان لنا عذر صحيح لإغفاله.

(سؤال عن فتوى)

(س21) من السيد عبد الله بن عبد الرحمن العطاس بسنغافوره

أرسل السائل إلينا السؤال الآتي مع جواب السيد عثمان بن عقيل عليه،

وكتب عليه ما يأتي:

هذا جواب عن ذلك السؤال، هل المجيب مصيب في تأصيله ما ذكر في

السؤال بما ذكر في الجواب أم مخطئ، وعن الأحاديث المذكورة فيه، هل هي

صحيحة مروية عن سيد السادة أم لا. وعما هو الحق في هذه المسألة، أفيدونا به

على صفحات المنار إحقاقًا للحق وإزهاقًا للباطل، فالله يديمكم ويرعاكم ويحفظكم.

وهذا نص السؤال والجواب المسئول عنه.

(هذا السؤال صدر من جماعة من المسلمين)

(من بندر سنغافوره)

ما قولكم فيما يعمله الناس في ليلة النصف من شعبان من قراءة سورة يس

المعظمة ثلاث مرات بنية مخصوصة، والدعاء المعروف بعد كل مرة هل هو

سنة وله أصل من الكتاب أو السنة أم لا؛ فإن بعض الناس يقول: إنه بدعة ليس

له أصل من الكتاب ولا من السنة، بينوا لنا حكم هذا العمل، وما هي البدعة

وأقسامها بيانًا شافيًا أثابكم الله، آمين.

(الجواب)

نسأل الله تعالى التوفيق للصواب، اعلموا وفقني الله وإياكم لمرضاته، أن هذا

العمل الذي ذكرتم له أصل من السنة، وقد عمل به الخاص والعام من العلماء

والصلحاء وعامة المسلمين في الأمصار والأعصار من غير إنكار، ممن يعتبر قوله

أما أصله فقد قال العلامة الشيخ علي بن محمد الخازن في تفسيره لباب التأويل في

معاني التنزيل في قوله تعالى: {فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان: 3) إلى قوله تعالى:

{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) وروى البغوي بسنده أن النبي صلى

الله عليه وسلم قال: تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان. وعن ابن عباس رضي الله

عنهما أن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة

القدر. انتهى. وقال العلامة السيد علي بن عبد البر الونائي في رسالته المتعلقة

بفضائل ليلة النصف من شعبان، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم قال: يكتب الآجال من شعبان إلى شعبان. اهـ. وقال

العلامة الشيخ سليمان الجمل في حاشيته على تفسير الجلالين، وعن ابن عباس

رضى الله عنهما أن الله يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها

في ليلة القدر. اهـ.

وأما قول أكثر المفسرين: إن قوله تعالى: {فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان:

3) هي ليلة القدر، وقال الشيخ الجمل في حاشيته ما معناه: إن المراد منه ظهور

تلك الأمور التي قدرها المولى عز وجل في قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) أي ظهورها للملائكة في ليلة القدر، وليس المراد أن تلك الأمور لا

تحدث إلا في تلك الليلة، فقد جاءت الأخبار الصحيحة بأن الله تعالى قدر تلك

الأمور في ليلة النصف من شعبان وسلمها للملائكة في ليلة القدر، انتهى.

ثم قال: وهذا يصلح أن يكون جمعًا بين القولين، وقال أيضًا: وإذا تقاربت

الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى انتهى. وقال السيد علي

الونائي في رسالته المذكورة: وعن عثمان ابن العاص أن النبي صلى الله عليه

وسلم قال: إذا كان ليلة النصف من شعبان نادى منادٍ هل من مستغفر فأغفر له هل

من سائل فأعطيه، فلا يسأل أحد إلا أعطاه إلا زانية أو مشركة وفي رواية: ما لم يكن عشارًا أو ساحراً أو صاحب كوبة أو عطربة وفي رواية عن

عائشة رضي الله عنها: إن الله يطّلع على عباده في ليلة النصف من شعبان، فيغفر

للمستغفرين، ويؤخر أهل الحقد بحقدهم، ثم أورد أحاديث كثيرة في فضل ليلة نصف

شعبان إلى أن قال: ومما ينبغي ليلة النصف من شعبان أن يقرأ الإنسان بين

صلاتي المغرب والعشاء سورة يس بتمامها ثلاث مرات: الأولى بنية طول العمر

له ولمن يحبه، الثانية بنية التوسعة في الرزق مع البركة في العام، الثالثة بنية أن

يكتبه الله من السعداء، ويأتي بالدعاء المشهور وهو: اللهم يا ذا المن

إلى آخره.

انتهى.

وأما تعريف البدعة وأقسامها فهي تعتريها الأحكام الخمسة منها واجبه، وهي

كل ما يتوقف فعل شيء من الواجبات الشرعية به فهو واجب أيضًا؛ للقاعدة

المقررة، ومنها مندوبه كبناء الرباطات والمدارس ونحوها، ومنها مباحة كالتوسع

في لذيذ المأكل، ومنها مكروهة كزخرفة المساجد، ومنها محرمة ومكفرة كبدعة

الرافضة والوهابية، وعليها قول الإمام الشافعي رضي الله عنه: ما أحدث وخالف

كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا فهو البدعة الضالة، انتهى. فيما ذكر من الأحاديث

ونصوص هؤلاء الأئمة يعلم أن قراءة يس في هذا السؤال له أصل وأي أصل، وأن

القائل بأنها بدعة؛ لعله متمسك بالعلم الجديد، أو أنه من قسم الخامس من المبتدعة؛

لأنهم يضعفون الحديث الصحيح إذا خالف هواهم، ويصححون الحديث الموضوع إذا

وافق هواهم، فمن أراد الاطلاع على هذا فعليه برسالتنا الآتية -إن شاء الله تعالى-

المسماة بإعانة المرشدين على اجتناب البدع في الدين، وإلى هنا انتهى الجواب.

(المنار) اعلم يا أخي قبل الجواب عن هذه الفتوى أن مصيبة الدين بالتقليد

الذي ذمه علماء السلف كافة وأهل البصيرة من الخلف، ليست هي عبارة عما

أجازه بعض المؤلفين من رجوع الجاهل إلى الإمام المجتهد، فيما لا يعلم حكمه من

أمر دينه وأخذه بفتواه، وإن لم يذكر له دليلها من الكتاب والسنة، وإنما مصيبة

التقليد السوءى؛ هي أنها صرفت المسلمين عن الكتاب والسنة، وعن كتب الأئمة

المجتهدين في الفقه وغيره، وعن الثقات الأثبات السابقين إلى تحقيق كل علم،

صرفتهم عن هؤلاء إلى أناس من الجاهلين المقلدين لأمثالهم، المتهجمين على

الفتوى والتأليف والاجتهاد بغير علم، وإنما يأخذ الناس بأقوالهم لثقتهم بهم وثقة

العامي قريبة المنال، فإننا نرى في كل بلاد أناسًا من أدعياء العلم تثق بهم العامة؛

لأنها تراهم أمثل من تعرفهم في ظاهر الصلاح أو قراءة الكتب، وهي لا تميز بين

الكتب التي يعتمد عليها والتي لا يعتمد عليها، ونعرف أن كثيرًا من هؤلاء الموثوق

بهم دجالون من أهل التلبيس، ومنهم من قرأوا قليلاً من مبادئ العلم، وولعوا بكتب

من لا ثقة بدينهم ولا بعلمهم، ودرسوا وأفتوا بها، وهم لا يميزون بين ما فيها من

حق وباطل، وصحيح وسقيم، وإنما تعجبهم هذه الكتب المحشوة بالأحاديث

الموضوعة والخرافات والبدع؛ لسهولتها وعدم توقف فهمها على معرفة

الاصطلاحات العلمية، كاصطلاحات علماء الحديث والأصول في نقد الحديث وما

يحتج به منه، وما لا يحتج به.

نعرف في بلادنا كثيرًا من الشيوخ الذين وثقت بهم العامة، حتى في المدن

التي فيها كثير من العلماء الذين يعتد بعلمهم ونقلهم، وأنهم ليكونون أكثر في البلاد

التي تقل فيها العلماء وفي القرى، ومما يؤكد هذه الثقة حسن السمت ومظهر

الصلاح والانتساب إلى بيوت العلم والشرف، فهؤلاء هم مثار الجهل والبدع في

هذه الأمة، ولا سيما في هذه القرون الأخيرة، وقد ذكر بعض أخبارهم ابن الجوزي

وغيره من العلماء.

يدعي هؤلاء أنهم علماء مقلدون للأئمة، ولا يعرفون من كلام الأئمة شيئًا،

ولا يقفون عند حدود ما أفتى به المشهورين من الفقهاء المنتسبين إلى أولئك الأئمة

رضي الله عنهم، وهم مع هذا يحاربون متبعي الأئمة بحق إذا دعوهم إلى الحق

بدلائل الكتاب والسنة، بل يحاربون الكتاب والسنة باسم أولئك الأئمة، قائلين:

إن فهمهم لهما أصح من فهم فلان الذي يدعوكم إليهما الآن، سلمنا أن فهمهم أصح،

فليأتنا هؤلاء الجاهلون بنصوصهم في تفسيرها، وليحاربونا بها، إنهم إنما يجيئون

بكلام أمثالهم من العوام الذي تجرءوا على التأليف ويلصقونها بالأئمة، والأئمة برآء

منها، وماذا تفعل بثقة الجاهلين بهم، وقد انسد في وجههم باب التمييز بين الحق

والباطل.

من هؤلاء الشيوخ في بلاد جاوه الشيخ عثمان بن عبد الله بن عقيل، شيخ له

سمت ونسب واطلاع على كثير من الكتب التي لا يعتد بها ولا تصلح للفتوى منها.

يقول هذا الشيخ الوقور: إنه شافعي المذهب، وإن عمدته من كتب فقهاء

الشافعية المتأخرين كتب ابن حجر الهيتمي، (أفلح الأعرابي إن صدق) ابن حجر

يقول في فتاواه الحديثية: إن الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب

ليس مؤلفه من أهل الحديث لا يحل. ومن فعله عذر عليه التعذير الشديد، وذكر

أن أكثر الخطباء كذلك، وأنه يجب على الحكام أن يمنعوهم من ذلك (راجع ص32

من هذه الفتاوى المطبوعة بمصر) فلماذا لم يأخذ الشيخ عثمان بهذه الفتوى؛ فهو

يسئل عن مسألة هل لها أصل في الكتاب والسنة، فيورد أحاديث من رسالة الونائي

ويقرها وهي لا تصح، وليست نصًّا في المسألة، ثم ينقل رأي هذا الرجل ويقره،

ويجعل ذلك فتوى بأن للمسألة أصلاً في الكتاب والسنة، وهذا الونائي ليس إمامًا

مجتهدًا ولا محدثًا حافظًا يعتد بنقله، وما نقله ليس نصًّا فيما ارتآه، فكيف جاز

للشيخ عثمان بن عقيل أن يفتي برأيه، لعل هذا الونائي مثل ابن عقيل هذا،

وستكون فتاوى السيد عثمان ورسائله مما يفتي به مثله من بعده، وتعارض بها

نصوص الكتاب والسنة بناء على ادعائه الانتساب إلى الإمام الشافعي، وإن لم

يعرف قوله ولم يفت به، هذه مقدمة لم نر بدًّا من بيانها.

***

(أقوال المحدثين والثقات في عبادات ليلة النصف من شعبان)

روي في الموضوعات والواهيات والضعاف التي لا يحتج بها أحاديث في

كثير من العبادات منها؛ صلاة ليلة الرغائب من رجب وليلة نصف شعبان، ولكن

هذا الشعار الإسلامي المبتدع المعروف الآن لم يرد فيه شيء من ذلك، ولكنه

عمل به في الجملة منذ القرون الأولى، ولهذا اغتر بصلاة رجب وشعبان بعض

الفقهاء والصوفية كأبي طالب المكي وأبي حامد الغزالي على جلالة قدرهما،

وسبب ذلك قلة بضاعتهما في نقد الحديث، وقد بين خطأهما المحدثون والفقهاء

كالإمام النووي الذي هو عمدة الشافعية، وأطال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث

الإحياء في بيان ذلك، وقد نقل كلامه شارحه السيد مرتضى الزبيدي ثم قال:

وقال التقي السبكي في تقييد التراجيح: صلاة ليلة النصف من شعبان وصلاة الرغائب

بدعة مذمومة. اهـ.

وقال النووي: هاتان الصلاتان بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان، ولا تغتر

بذكرهما في القوت والإحياء، وليس لأحد أن يستدل على شرعيتهما بقوله صلى الله

عليه وسلم: الصلاة خير موضوع، فإن ذلك يختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه

من الوجوه، وقد صح النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة. اهـ.

ثم قال الزبيدي: وقد توارث الخلف عن السلف في إحياء هذه الليلة بصلاة

ست ركعات بعد صلاة المغرب كل ركعتين بتسليمة، يقرأ في الركعة منها

بالفاتحة مرة والإخلاص ست مرات، وبعد الفراغ من كل ركعتين يقرأ سورة يس

مرة، ثم يدعو بالدعاء المشهور بدعاء ليلة النصف، ويسأل الله تعالى البركة في

العمر، ثم في الثانية البركة في الرزق، ثم في الثالثة حسن الخاتمة. وذكروا أن

من صلى بهذه الكيفية أعطي ما طلب، وهذه الصلاة مشهورة في كتب المتأخرين

من السادة الصوفية، ولم أر لها ولا لدعائها مستندًا صحيحًا في السنة إلا أنه من

عمل المشايخ، وقد قال أصحابنا: إنه يكره الاجتماع على إحياء ليلة من هذه الليالي

المذكورة في المساجد وغيرها، وقال النجم الغيطي في صفة إحياء ليلة النصف من

شعبان بجماعة: إنه قد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز منهم عطاء وابن

أبي مليكة وفقهاء المدينة وأصحاب مالك، وقالوا: ذلك كله بدعة، ولم يثبت في

قيامها جماعة شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وممن قال

ذلك من أعيان التابعين خالد بن معدان وعثمان بن عامر ووافقهم إسحق بن راهويه،

والثاني كراهة الاجتماع في المساجد للصلاة، وإليه ذهب الأوزاعي فقيه الشام

ومفتيهم. اهـ.

(المنار) الخلاف الذي ذكره في قيام ليلة النصف من شعبان بما ذكر قد

صرح بكراهة أصحابهم له أي الحنفية، والكراهة إذا أطلقت عندهم تنصرف إلى

التحريم، ونقل مثل ذلك عن الشافعية والمالكية، فالنجم الغيطي من فقهاء الشافعية،

وقد رأيت قبله قول السبكي والنووي الشافعيين في صلاتها، وأما الحنابلة فهم أشد

من غيرهم نبذًا لما لم يثبت في السنة، ومن استحبها من علماء الشام كانوا

مجتهدين، وليس لهم أتباع الآن، ومذاهبهم ليست مدونة، ونص الفقهاء على أنه لا

يفتى بها.

وقد بيّن المحدثون في كتب الموضوعات كل ما ورد في صلاة شعبان وقيامها

وهو مما لا يعمل به ولو في الفضائل، قال في الفوائد المجموعة بعد إيراد شيء

منها واغترار بعض الفقهاء كالغزالي وبعض المفسرين بها ما نصه: (وقد رويت

صلاة هذه الليلة - أعني ليلة النصف من شعبان - على أنحاء مختلفة كلها باطلة

موضوعة، ولا ينافي هذا رواية الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها

لذهابه صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، ونزول الرب ليلة النصف إلى سماء الدنيا،

وأنه يغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب) فإن الكلام إنما هو في هذه الصلاة

الموضوعة في هذه الليلة، على أن حديث عائشة رضي الله عنها هذا فيه ضعف

وانقطاع، كما أن حديث علي الذي تقدم ذكره في قيام ليلها، لا ينافي كون هذه

الصلاة موضوعة على ما فيه من الضعف حيثما ذكرناه. اهـ.

أما (حديث)(تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان) فقد رواه ابن جرير

والبيهقي عن عثمان بن محمد بن المغيرة وهو ابن الأخنس بن شريق الثقفي قال:

في الميزان حدث عن محمود القزاز مجهول، وقال ابن المديني روى عن سعيد بن

المسيب مناكير.

وأما قول ابن عباس المذكور، فإن صح عنه لا يفيد في الباب شيئًا، وقد نقل

عن الجمل أن هذا المعنى ثبت في الأحاديث الصحيحة، وليس قوله بشيء، فهذه

كتب الصحاح في أيدينا ليس فيها ذلك، والجمل ليس بمحدث بل يغتر بما يرى في

كتب التفسير التي لا تميز بين صحيح وسقيم، وقد قال المحدثون: إن بعض

المفسرين والفقهاء اغتروا بما ورد في هذه الليلة، على أنه إن صح لا يفيد في تأييد

فتواه، وقد صرح ابن العربي بأنه لا يصح مما ورد في هذه الليلة شيء، وهو ما

قاله الزبيدي في شرح الإحياء.

وأما حديث: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان) فقد ذكروه بألفاظ مختلفة،

وهو حديث عليّ الذي قال في الفوائد المجموعة بضعفه، وقد رواه ابن ماجه من

أصحاب السنن عن ابن أبي سبرة وهو ضعيف كما صرح محشي هذه السنن نقلاً

عن الزوائد، بل نقل عن الإمام أحمد وابن معين أنه كان يضع الحديث، وروى

ابن ماجه حديث عائشة أيضًا، وقد علمت أنهم صرحوا بضعفه وانقطاع سنده عن

الترمذي. وهو أمثل ما ورد في هذه المسألة، وروى ابن ماجه أيضًا حديث: (إن

الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)

وهو عن الوليد بن مسلم المدلس عن عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف. ورواه غيره

أيضًا.

ويعارض هذه الروايات في خصوصية ليلة النصف من شعبان أحاديث

الصحيحين في نزول الرب كل ليلة إلى سماء الدنيا وقوله: هل من مستغفر هل من

تائب، وحديث مسلم في عرض الأعمال كل اثنين وخميس، والمغفرة لغير

المشركين والمتشاحنين.

وجملة القول أن الشعائر التي تقام في ليلة النصف من شعبان ليس لها أصل

صحيح في الكتاب ولا في السنة، وأن الروايات التي ذكرها ابن عقيل غير

صحيحة، وهو لجهلة بالحديث لم يرجع فيها إلى كتب المحدثين، بل نقلها عمن لا

يعتد بهم، ثم أنها لا تدل على مشروعية ما سئل عنه وهو قراءة يس والدعاء

بالصفة التي ذكرها، وإن هذه العبادات في تلك الليلة وليلة الرغائب قد حدثت في

القرون الأولى فقبلها كثير من العباد والمتصوفة، وأنكرها المحدثون والفقهاء؛

لعدم ثبوت أصلها ولأن الله تعالى قد أكمل الدين، فمن زاد فيه كمن نقص منه؛

كلاهما مبتدع.

وقد أنكر عثمان بن عقيل على الذين يصححون أو يضعفون الأحاديث بالهوى

وهو منهم، فإنه يتكلم في الأحاديث بغير علم، ولو كان من أهل العلم بها لما اعتمد

في نقلها على الونائي والجمل وترك البخاري ومسلمًا وأصحاب السنن الأربعة

وأضرابهم، كما ينكر على الذين يفتون بالدلائل من الكتاب والسنة بعلم،

ويفتي بها بغير علم، ولو كان في بلاد لها حكومة إسلامية لمنع من الفتوى وعوقب

عليها، ولكن جاهه وقوته في الاستناد على حكومة غير إسلامية في بلاد ليس فيها

علماء ومحققون.

وأما ما ذكره في مسألة البدعة، فلا يصح على إطلاقه، وقد ثبت في الحديث

الصحيح أن كل بدعة ضلالة، ولذلك صرح بعضهم بأن البدعة الشرعية لا تكون

إلا ضلالة، وأما البدعة اللغوية فهي التي تعتريها الأحكام الخمسة، فكل ما لا دليل

عليه في الكتاب والسنة من أمر الدين كالعبادات والشعائر الدينية فهو بدعة سيئة

وضلالة محققة، وعليها تحمل الكلية في الحديث، وما في معناه من الأحاديث

الكثيرة، وأما ما سوى الأمور الدينية المحضة؛ وإن كانت نافعة في الدين؛ كالعلوم

والفنون المسهلة لفهمه والتفقه فيه - فهي التي تعتريها الأحكام الخمسة فيحكم فيها

بحسب ما فيها من النفع أو الضرر أو عدمها.

مثال ذلك: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يتم الجهاد في هذا

الزمان إلا بالعلوم والفنون العسكرية التي لم تكن في العصر الأول، ولا دليل

عليها بخصوصها فهي واجبة حتمًا، وإن كانت من العلم الجديد الذي يجهله فيعاديه

الشيخ عثمان بن عقيل، فقد قال في آخر فتواه: (فيما ذكر من الأحاديث ونصوص

هؤلاء الأئمة، يعلم أن قراءة يس في هذا السؤال له أصل وأي أصل، وأن القائل

بأنها بدعة لعله متمسك بالعلم الجديد أو أنه من قسيم الخامس - كذا - من

المبتدعة)

إلخ، وأنت ترى أن الأحاديث التي ذكرها ليس فيها ذكر لقراءة يس،

فهل يكتب مثل هذا من يعقل ما يكتب، وإذا كان يفتي بالشيء ويعزوه إلى أحاديث الرسول - صلى تعالى عليه وسلم - ولا ذكر له ولا إشارة فيما أورده منها على كونه مما لا يحتج بمثله، فهل يلتفت إلى قوله: لعل القائل بأنها بدعة متمسك بالعلم

الجديد

إلخ، ثم ما هو العلم الجديد الذي يعاديه ويعرض بأهله، وماذا عرف هو من العلم القديم، ومن قال: إن الونائي من الأئمة الذين يؤخذ بأقوالهم، وتجعل

آراؤهم أحاديث نبوية! !

(تتمة لا بد منها) إن الذين يقرءون سورة يس في ليلة النصف من شعبان

يذكرون قبل قراءتها كل مرة حديث (يس لما قرئت له) وقد قال الحافظ السخاوي:

إن هذا الحديث لا أصل له، كما في كتاب (تمييز الطيب من الخبيث) وكتاب

(اللؤلؤ المرصوع) فهل يدلنا الشيخ عثمان على أحد من أصحاب العلم القديم قال إن

هذا الحديث صحيح، وإلا فلماذا لا ينكر على الجماهير كذبهم على النبي صلى الله

عليه وسلم، وقد ورد فيه من الوعيد ما ورد؟

***

(استقبال القبلة عينها أو جهتها، والفتوى بالقول المرجوح)

(س 22 و 23) من صاحب الإمضاء في مكة المكرمة.

أفيدونا يا مولانا وسيدنا بيانًا شافيًا:

في قول الإمام الغزالي في إحيائه وقول الأذرعي باعتماد الاكتفاء في استقبال

القبلة في الصلاة بجهتها في البعد؛ مستدلاًّ بالكتاب والسنة وفعل الصحابة والقياس،

هل يجوز للشخص أن يعمل ويبني المسجد عملاً به أو لا؟ فإن قلتم بالجواز، فما

قولكم في قولهم: لا يجوز الإفتاء إلا بالقول الراجح؟ وإن قلتم لا يجوز لذلك، ويفهم

منه أنه لا يجوز الإفتاء بالقول المرجوح، كما لا يخفى على المشمرين في تحصيل

العلم وعدم جواز الإفتاء به، هل هو على الإطلاق أو مقيد بما إذا لم يختره جماعة

ممن يعتمد في كلامه ونقله، وقد أخبرني من به ثقة بأن هذا القول قد اختاره جماعة

من الفقهاء، وما ذكره الفقهاء من أنه يجوز العمل بالقول الضعيف ما لم يشتد ضعفه

وأنه لا يجوز الاستدلال بالحديث الضعيف، إذا لم يكن فيه مقوى من طرق متعددة

تؤيد ذلك التقييد، وفي فوائد المكية يجوز القضاء والإفتاء بالقول المرجوح لحاجة

أو مصلحة عامة، وفيها أيضًا أن الأصح من كلام المتأخرين كالشيخ ابن حجر

وغيره أنه يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب من المذاهب المدونة، ولو بمجرد

التشهي، سواء انتقل دوامًا أو في بعض الحادثة، وإن أفتى أو حكم أو عمل بخلافه

ما لم يلزم منه التلفيق ا. هـ.

فعند الإمام مالك وأحمد وأتباعهما رضي الله عنهم أنهم لا يبطلون الصلاة عند

استقبال الجهة، وكذا هو قول عندنا معاشر الشافعية فقد قال: الغزالي والأذرعي

-رحمهما الله تعالى- بجواز ذلك، كما يؤخذ من شرح البهجة بزيادة، وصرح به

في التنبيه. اهـ، وفي الأصول قاعدة معتبرة؛ وهي أن المعلول يدور مع علته،

وعلته هنا وجود المشقة من حيث الأبعد عن بيت الله العظيم، مع أن القاعدة: المشقة

تجلب التيسير، والأمر إذا ضاق اتسع، فإن كان المصلي يشترط في استقبال عين

القبلة، وكذلك المسجد يشترط مبناه أن يسامتها بجميع مركوزه، وهما في مسافة البعد

كأرض الجاوي والهندي وغيرهما من سائر المملكة، فما تقول؟ فإن قلتم: يشترط

على كل واحد منهما أن يحتاط مع بيت الإبرة المعروف ليعلم عينها، فماذا يستحق

الذي أفتى من الجم الغفير باعتماد الاكتفاء بالجهة؛ لأنه فهم منها أنه صادق بمحاذاة

عين القبلة أولاً، كما يؤخذ من الغاية التي ذكرها العلامة البيجرمي على فتح

الوهاب ا. هـ.

فمنوا بالإعانة، فلكم الفضل الظاهر والشكر الباهر، ودام فضلكم، وعلا

قدركم، ولا زلتم مأجورين بجاه جدكم الأمين؛ سيدي.

...

...

...

...

السائل

...

...

...

... أحمد جاوي

(ج) قد اضطرب كلام أصحابنا الشافعية في مسألة القبلة، وما كان ينبغي

لهم ذلك، فالحق واضح فيها، وكلام الشافعي نفسه صريح جدًّا.

من كان في الحرم يرى الكعبة يستقبلها قطعًا، ولا تصح صلاته إذا خرج عن

محاذاتها، ومن كان بعيدًا عنها لا يراها، فإنه يستقبل الجهة التي هي فيها ويتعرفها

بالاجتهاد، فمن علم أن الكعبة في هذه الجهة لم يكن له أن يتحول عنها، فإن كان

عنده من وسائل الاجتهاد ما يعلم به أن البيت يحاذي خطًّا معينًا لم يكن له أن يتعداه،

وإلا جاز له التيامن والتياسر في الجهة كما يؤخذ من حديث الصحيحين: (شرّقوا أو

غرّبوا) وما يؤيده. والعمدة أن يعتقد أنه متوجه تلقاء البيت بما عنده من أسباب

الاجتهاد، لا يكلف غير هذا؛ لأن غير هذا لا يستطاع ولا يدخل في الوسع.

فسّر الشافعي في رسالته شطر المسجد الحرام بتلقائه، ثم قال ما نصه: فالعلم

يحيط أن من توجه تلقاء المسجد الحرام ممن نأت داره عنه على صواب بالاجتهاد،

فللتوجه إلى البيت بالدلائل عليه؛ لأن الذي كلف العباد التوجه إليه وهو لا يدري

أصاب بتوجهه قصد المسجد الحرام أو أخطأ، وقد يرى دلائل يعرفها فيتوجه بقدر

ما يعرف، ويعرف غيره دلائل فيتوجه بقدر ما يعرف وإن اختلف توجههما. اهـ.

وتلقاء الشيء: تجاهه ونحوه كما ذكر في مادة (وجه) من لسان العرب.

والتجاه: الجهة التي تستقبلها بوجهك، ومنه قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام:

{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} (القصص: 22) أي سار في الجهة الموصلة إليها

ونحا نحوها.

وقال كما رواه عنه المزني في مختصره ما نصه: (ولا يجوز لأحد صلاة

فريضة ولا نافلة ولا سجود قرآن ولا جنازة إلا متوجهًا إلى البيت الحرام، ما كان

يقدر على رؤيته إلا في حالتين، وذكر صلاة النافلة على الراحلة، وصلاة شدة

الخوف رجالاً أو ركبانًا، ثم قال: فلا يصلي في غير الحالتين إلا إلى البيت إن

كان معاينًا فبالصواب، وإن كان مغيبًا فبالاجتهاد بالدلائل على صواب جهة

القبلة) . اهـ. وكلامه في كتاب الأم على طوله، لا يخرج عن هذا المعنى

الذي اختصره المزني عنه، وقد صرح فيه بلفظ الجهة تصريحاً.

وذكر الشيرازي في التنبيه قولين في البعيد، لم يرجح واحدًا منهما على

الآخر، فقال: (والفرض في القبلة إصابة العين، فمن قرب منها لزمه ذلك بيقين،

ومن بعد منها لزمه الظن في أحد القولين، وفي القول الآخر لمن بعد

الجهة) . اهـ.

أقول: لم أر في كلام الشافعي قولين في المسألة، وعندي أن ما صرّحوا فيه

عنه بلفظ الجهة، وما لم يصرحوا فيه به واحد، والمراد أن يعرف سمت الكعبة

بالاجتهاد، فمتى عرفها واستقبلها كان معتقدًا أنه متوجه تلقاء الكعبة في الجملة،

وأنه مول وجهه شطرها؛ لأن الذي يعرف جمهور المكلفين بالاجتهاد في حالة البعد

هو الجهة، وكلما بعد الإنسان عن الشيء الذي يستقبله، تتفرج المسافة التي بينه

وبينه وتتسع.

ولو كان في المسألة قولان مختلفان لكان الفرق بينهما في العمل أن من علم أن

الكعبة في جهة الشمال، كان له على القول الثاني أن يتوجه في صلاته إلى القطب

الشمالي، وأن ينحرف عنه يمينًا أو يساراً، وإن علم بالدلائل أنه لو خرج خط

مستقيم منه إلى الكعبة لأصابها في حال استقباله، ولو خرج من حيث توجه منحرفًا

عنه لم يصبها. وهذا هو الذي يترتب على عبارة التنبيه دون عبارة مختصر

المزني. ولذلك اضطربت أقوال المتأخرين من الشافعية والحكم واضح كما قلنا،

فإن جماهير المكلفين لا يعرفون في حالة البعد بالاجتهاد إلا الجهة التي فيها الكعبة،

وذلك كاف عند الشافعي، ولا يفهم من كلامه غيره، وهو لا ينافي أن الواجب على

من كان عنده علم خاص بتحديد نقطة معينة من الجهة أن يعمل بعلمه، ولا يجوز له

التيامن والتياسر، إذا اعتقد أنه يخرج به عن محاذاة الكعبة، وهذا التفصيل يؤخذ

من تصريح الشافعي بأن على كل مجتهد في القبلة أن يتوجه بقدر ما يعرف، ولا

حرج في هذا ولا مشقة على أحد.

فعلم من هذا أن المعتمد أن للشافعي قولاً واحدًا في المسألة، وهو ظاهر

الكتاب والسنة ومقتضى القياس، والذي عليه عمل الناس، وتلك الفلسفة التي

اضطرب فيها المتأخرون إنما أخذها بعضهم من عبارة بعض، ولا يحتاج من

يقول بالجهة في موافقة الشافعي - رحمه الله تعالى - إلى الإفتاء بالقول المرجوح.

فالعمل الذي يوافق مذهب الشافعي هو أن يجتهد المصلي في تعرف جهة

الكعبة بالشمس والكواكب والرياح والجبال ويعمل باجتهاده، ومن كان على علم

بتقويم البلدان (الجغرافية) ، وكان معه بيت الإبرة، فإن علمه بسمت القبلة يكون

أقوى مما يصل إليه المجتهد بالعلامات التي ذكروها، فيجب عليه بقدر ما يعرف،

ويعتمد في بناء المسجد علم أوسع أهل البلد علمًا بذلك.

وأما الفتوى بالقول المرجوح، فقد قيل ما قيل مما عرفه السائل، والحق أن

العالم المجتهد لا يكون له في المسألة الواحدة قولان مختلفان: أحدهما راجح والآخر

مرجوح، وهو يجيز العمل بهما، ولكنه قد يقول القول فيظهر له خطؤه، فيرجع

عنه بقول آخر، فلا يبقى الأول قولاً له، وقد يتردد في المسألة فلا يكون له فيها

قول، وإن نقل عنه قولان مختلفان كان أحدهما مرجوعًا عنه أو مكذوبًا، فإن وجد

المرجح وإلا تساقطا. فمن سئل عن قول عالم مجتهد في مسألة، وجب عليه أن

يرجع إلى كتبه، وينظر قوله فيها ويجيب به، فإن لم يجد كتبه بحث عن ذلك في

كتب أقدم أصحابه، وتحرى وميز بين ما يعزونه إليه تصريحًا، وما يطلقون القول

فيه أو يذكرونه ترجيحًا أو استنباطًا، فإذا لم يظهر له نقل عنه يطمئن قلبه له

فعليه أن يمسك عن الفتوى معزوة إليه، وكتب الفقهاء المنتسبين إلى المذاهب

مملوءة بالأقوال التي لم ينقل عن أئمة تلك المذاهب فيها شيء.

قال ابن القيم: قد اختلطت أقوال الأئمة وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم

واختياراتهم، فليس كل ما في كتبهم (أي الفقهاء المنتسبين إلى الأئمة) منصوصًا

عن الأئمة، بل كثير منها يخالف نصوصهم، وكثير منهم لا نص لهم فيه، وكثير

منه تخرج على فتاويهم، وكثير منه أفتوا به بلفظه أو بمعناه فلا يحل أن يقول: هذا

قول فلان ومذهبه إلا أن يعلم يقينًا أنه قوله ومذهبه. اهـ.

وبناء على هذا تضاربت أقوال أهل المذهب الواحد واختلفت، واحتيج إلى

الترجيح بينها، فالراجح والمرجوح إنما هما من كلام أولئك المنتسبين الذين لم

يعرفوا قول الإمام قطعًا، ومن كان من أهل الترجيح أفتى بالراجح عنده، وليس

لغيره أن يفتي. وقد بينا في الفتوى السابقة أن الناس صاروا يفتون بأقوال الجاهلين

الذين يتجرءون على التأليف؛ لما وقع فيه المسلمون من الفوضي في العلم والدين

بترك الأدلة، ويجعلون أقوال هؤلاء من المذهب، ويقدمونها على ما يعرف من

نصوص الكتاب والسنة، بإلصاقها بالأئمة، لا دعاء أولئك الجاهلين أتباعهم وما هم

لهم بمتبعين.

وما أفتى به الغزالي وأمثاله مخالفًا للمعروف من مذهب الشافعي، فإنما أفتوا

بما ظهر لهم بالدليل أنه الحق لا بمذهب الشافعي، وقد كان بعضهم يلصق مثل هذه

الفتاوى بالشافعي، لا على معنى أنها قوله وفتواه، بل عملاً ببعض أصوله كقولهم:

قد صح الحديث بهذا، وهو يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقولهم: إن في

هذا سعة، وهو يقول: إذا ضاق الأمر اتسع، والحق أن الاتباع الحقيقي للشافعي

وغيره من الأئمة رضي الله عنهم إنما هو تقديم الكتاب والسنة على أقوالهم وأقوال

جميع الناس، وقد عمل بهذا كثير من المنتسبين إلى الشافعي وغيره، كما بيناه

مرارًا في مواضع من المنار، وإنما صار الناس يلتزمون تقليد الفقيه الواحد في كل

ما يعزى إليه بعد القرون الثلاثة التي هي خير القرون بشهادة الصادق المصدوق

صلى الله عليه وسلم، وما نسب كبراء الفقهاء المتقدمين إلى الأئمة إلا لجريهم على

أصولهم وطريقتهم في استنباط الأحكام دون اتباع أقوالهم في الفروع، ذكر هذا

المعنى ابن الصلاح وأقره عليه النووي بقوله: هذا موافق لما أمرهم به الشافعي ثم

المزني في أول مختصره وغيره بقوله (أي المزني) : (مع إعلامية نهيه عن

تقليده وتقليد غيره) أي نهي الشافعي عن تقليده فيما ينقله من علمه في ذلك

المختصر.

وجملة القول: أن من سئل عن حكم الله ورسوله في مسألة بينها من كتاب الله

وسنة رسوله إن علم، ومن سئل عن رأيه واعتقاده فيها بينه بدليله إن استبان له،

ومن سئل عن قول إمام بينه من كتبه أو نقل صريح عنه يعتد به إن علمه، فإن

أفتى بالدليل على أصله صرح بذلك، وإلا أمسك عن الفتوى، وقال: لا أدري والله

أعلم.

***

(قول شيئًا لله والاستمداد من الأولياء)

(س24 - 26) من مكة المكرمة

من المعترف بالتقصير عبد القادر ملا قندر البخاري إلى رفيع مقام أستاذه

الأجل العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامية حفظه رب البرية.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فقد كلفني بعض الإخوان

المخلصين في صاحب المنار؛ أن أرفع وأقدم لرفيع مقامكم السؤال الآتي؛ راجيًا

إجابة سؤاله على صفحات المنار وفي أقرب عدد يصدر منه، أثابكم الله جزيل

الثواب ورفع أعلامكم المنيرة.

هذا هو السؤال:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد، فما قولكم أيها العلماء الكرام في هذه الأبيات.

شيئًا لله يا عبد القادر

محيي الدين في القلب حاضر

جيلاني بالله بادر

المدد يا عبد القادر

أيكفر قارئها أم لا؟ وهل يلزمه تجديد النكاح أم لا؟ وهل يجوز الاستمداد من

الأولياء الكرام بعد الممات، كما يجوز الاستمداد في الحياة؟ وهل يسمع الأولياء

نداءً أم لا؟ بينوا لنا الأحكام بالتفصيل، ولكم عند الله أجر جزيل، والسلام عليكم

ورحمة الله وبركاته.

(قول: شيئًا لله)

(ج) صرح بعض الفقهاء بتكفير من يقول مثل هذا القول؛ لأنه دعاء لغير

الله تعالى و (الدعاء هو العبادة) ، كما رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في

الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه مرفوعًا، ومن

ذلك قول بعض فقهاء الحنفية في سرد المكفرات من منظومة له (ومن قال شيء

لله بعض يكفر) .

ومن الفقهاء من لا يطلق القول في تكفير صاحب هذا القول، بل يفضل فيه

باحثًا عن قصد القائل واعتقاده، فإذا كان يعتقد أن عبد القادر الذي يدعوه (ومثله

كل من يدعى من دون الله ولو نبيًّا أو ملكًا) قادر على إجابة دعائه؛ لأن له سلطة

وراء الأسباب العادية والسنن الإلهية التي تجري عليها أعمال الناس، أو يعتقد أن

له (أي للمدعو من دون الله) تأثيرًا في الإدارة الإلهية؛ بأن يريد الله تعالى بدعائه

والتوسل به ما لم يكن يريده قبل ذلك، إذا كان يعتقد أحد هذين الأمرين يظهرالقول

بردته والحكم بشركه؛ لأنه بالأول جعل من دعاه شريكًا لله تعالى في التصرف

المطلق والامتياز على سائر المخلوقين بالخروج عن سنة الله تعالى في ارتباط

الأسباب بالمسببات، وبالثاني جعل البارئ سبحانه وتعالى محلاًّ لتأثير

الحوادث.

القول الأول شديد جدًّا ولكنه هو الأحوط للناس، حتى لا يقولوا مثل هذه

الأقوال التي صرح بعض العلماء بكفر صاحبها. والثاني هو الأحوط للمفتي لئلا

يخرج من الملة من هو من أهلها بقول تلقفه من غير أن يعلم أنه يعتقد ما ينافي

التوحيد.

والذي أراه هو أنه ينبغي العالم المستفتى في مثل هذا أو الذي يأمر بالمعروف

وينهى عن المنكر أن يبين للمستفتي أو لمن يعلم أنه يقول هذه الأقوال حقيقة التوحيد

ومعنى العبادة وحقيقة الشرك الجلي والشرك الخفي؛ ليحكم وجدانه واعتقاده في مثل

هذا القول الذي يدل على ضرب من الشرك بنوع ما من أنواع الدلالة قد يكون هو

الباعث على القول، وقد يجري اللسان بالكلمة مع عدم تصور ما تدل عليه مطابقة أو

التزامًا.

إذا فهم من ينطق بتلك الأسجاع حقيقة التوحيد والعبادة وحقيقة الشرك، وكان

يعلم من نفسه أنه لم يقصد بها معنى من معاني الشرك الجلي، ولا ما ينافي التوحيد

أو يدخل في معنى العبادة، فيكفيه أن يتوب عن القول الذي اختلف فيه، ولا يجدد

عقد نكاحه، وإن ظهر له أن قوله من الدعاء الحقيقي الذي هو العبادة، كما في

الحديث الصحيح أو مع العبادة كما في رواية أخرى ضعيفة السند، وأنه تسرب إليه

الشرك، فعليه أن يتوب ويجدد إسلامه على مذهب الشافعية القائلين بأن المرتد إذا

تاب قبل انقضاء عدة امرأته عادت إلى عصمته بغير عقد، وإذا تاب بعد انقضائها

احتاج إلى عقد جديد، عمل بذلك.

(الاستمداد من الصالحين)

مسألة الاستمداد من الصالحين في الحياة وبعد الممات مشتبهة، لا يتجلى

الحق فيها إلا بيان حقيقة الاستمداد، وقد يأتي فيها التفصيل الذي ذكرناه في المسألة

الأولى.

الاستمداد: طلب المدد، وهو ما يمد الشيء أي يزيد في مادته الحسية أو

المعنوية، فمن طلب من مخلوق مددًا جسمًا؛ كالزيادة في ماله ورزقه، والنماء في

زرعه بغير الأسباب التي جعلها الله شرعًا بين خلقه، فقد طلب ما لا يطلب إلا من

الله تعالى، وهذا ينافي التوحيد؛ لأنه عبادة لغير الله تعالى.

ومن طلب من المخلوق مددًا معنويًّا فهو على نوعين: نوع يعد شركًا كطلب

الزيادة في العمر، فإن هذا مما لا يطلب إلا من الله تعالى، فمن طلبه من غيره فقد

أشركه معه، ونوع لا يعد شركًا؛ لأنه داخل في دائرة الأسباب، وهو ما يطلبه

المتصوفون من أهل العلم بزيارة الصالحين وقربهم أو ذكر مناقبهم وسيرتهم،

وتصور أحوالهم من الزيادة في حب الخير والصلاح والتقوى، ويعبرون عن هذه

الزيادة التي يجدونها في نفوسهم بالبركة والمدد، ولكنهم لا يدعونهم من دون الله،

ولا يفعلون ما لم يفعله السلف.

وإنما كان هذا ممّا لا بأس فيه لأهل، ولا حرج في طلبه بلسان الاستعداد

وتوجه القلب - إن شاء الله تعالى - لأنه منتظم في سلك الأسباب، فإن الإنسان

يتأثر بأحوال غيره إذا رآها أو تصورها أو سمعها، فإن كانت تلك الأحوال حسنة

صالحة ازداد رغبة في الصلاح، وإن كانت بالضد زاد ميله إلى مثلها، فالذين

يعاشرون الظلمة المستبدين أو الفساق المستولغين تقوى في نفوسهم داعية الظلم أو

الفسق والانغماس في الشهوات، وتصور وقائعهم وقراءة أخبارهم لا تخلو من مثل

تأثير معاشرتهم، ولا سيما إذا كانت أخبارهم مكتوبة بمداد الثناء والتعظيم في قسم

الظالمين، والاستحسان وتمثيل الغبطة ورغد العيش في قسم الفاسقين.

كل هذا مجرب معروف، وإنك لتجلس إلى الحزين الكئيب، فيسري إلى

نفسك شيء من امتعاضه وكآبته، وتجلس إلى المغبوط المسرور فتجد في نفسك

أثرًا من السرور وانشراح الصدر، وتعاشر أهل الجد والنشاط فينالك نصيب من

نشاطهم وتعاشر أهل الخمول والكسل فيصيبك سهم من خمولهم.

وقد رأينا أثر الخير والصلاح في أنفسنا من بركة بعض مشايخنا، كما رأيناه

ولله الحمد في أنفس تلامذتنا. كنا إذا نمنا عند شيخنا الناسك أبي المحاسن القاوقجي

-رحمه الله تعالى- نزداد رغبة في العبادة من صيام وقيام؛ إذ نرى ذلك الشيخ الكبير

في السن والقدر يصوم الأيام الفاضلة، ويقوم طائفة من الليل لا يجيء الثلث الأخير

منه إلا ونستيقظ، ونحن رقود في حجرة بجانب حجرته على صوت تكبيره

وقراءته وبكائه، وأما شيخنا الأستاذ الإمام فكان إذا قام من الليل، لايسمع له صوت

ولا يشعر له بحركة، وكنا نرى أثر مجالسه الخاصة في زيادة الإيمان بالله عز وجل،

والثقة به جل ثناؤه، والغيرة على الدين، وعلو الهمة في الخير.

_________

ص: 250

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أمير الألاي صادق بك

وجمعية الاتحاد والترقي

يتساءل الناس في هذه الأيام من هو صادق بك، وما هي مكانته، وما شأنه

في هذا الإصلاح الذي حصل في حزب الاتحاد والترقي في مجلس المبعوثين.

في هذه الأيام عرف في مصر وفي كثير من البلاد اسم صادق بك، والناس

واقفون في الحكم له أو عليه، وأصحاب الجرائد قد أمسكوا عن التعريف به، سواء

منهم المتشيع للاتحاديين والمتتبع لعوراتهم والمعتدل في كلامه عنهم، وقد ذكرت

على مسمع غير واحد من محرريها شيئًا من فضل الرجل الذي يعرفه كل الخواص

في الآستانة، فكتب بعضهم جملة صالحة، ولكني أرى الناس لا يزالون يتساءلون

فأحببت أن أكتب في المنار كلمة أخرى في التعريف بهذا الرجل الذي يقل مثله في

الرجال.

اشتهر أن الانقلاب العثماني كان بتدبير جمعية الاتحاد والترقي في سلانيك

ومناستر، وعرف الخاص والعام أن الانقلاب كان من عمل الجيش، بهذا علا مقام

كل ضابط عثماني، ورفع اسم نيازي بك وأنور بك على كل اسم، ولكن خفي اسم

صادق بك وهو أجدر بالظهور، وصار كل من ينسب إلى جمعية الاتحاد والترقي

يفخر ويسمو بأنه رب الدستور وحاميه، فتزاحم على أبوابها طلاب الشهرة ورواد

المنفعة وعباد القوة. وانفض من حولها الكثيرون من العاملين المخلصين، وانبرى

لمعارضة حزبها في مجلس الأمة حزبان، كان خيار رجالهما من الاتحاديين، ومن

بقي في حزبها أزواج ثلاثة:

(1)

بعض الزعماء (كالبكوات رحمي وطلعت وجاويد) ومن استعذب

مشربهم وأذعن للسري والجهري من أحكام جمعيتهم؛ لأنه يرى فيها رأيهم، وهم

الأقلون.

(2)

طلاب المنافع، واتباع كل ناعق.

(3)

المستقلون المخلصون الذين يرون أن بقاءهم في الجمعية خير من

خروجهم منها وأرجى لتقويم عوجها.

ورد في الحديث الشريف: (إن لكل شيء شرة [1] ولكل شرة فترة، فإن

صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه) رواه

الترمذي بسند صحيح.

وقد جرت سنة الله أن الشيء إذا كان في شرة إقباله يقبل الجمهور كل مدح فيه

وإن كان ظاهر البطلان، ويرد كل انتقاد عليه وإن كان كالشمس في رابعة النهار،

وكان يظن أن شرة إقبال الاتحاديين يطول زمنها، فكذب الظن بسوء تصرف الزعماء

وقلة كفاءتهم وبمجافاة بعض مقاصدهم لمصلحة المملكة وتقاليدها، ولما تقتضيه

طبيعة العصر في سياسة الشعوب المختلفة في الملل واللغات، ولاستعجالهم في حب

الظهور والاستئثار بجميع الأمور، فما سددوا وما قاربوا وقد أشير إليهم

بالأصابع، فلم يلبثوا أن سقطوا، وصدقت عليهم الحكمة النبوية في هذا

الحديث الشريف.

رفعت الأمم اسم (الاتحاد والترقي) بعمل صادق بك الخفي وإخلاصه العظيم،

فتدفق الثناء على الاتحاديين في أنهار صحف الشرق والغرب، حتى صار بحرًا

زاخرًا، طفت فوقه أسماء كثيرة فرآها الناس سابحة في الثناء، منها ما له قيمة

كالفلك ومنها ما هو كالغثاء، ورسب في قاعه اسم صادق بك كما يرسب الدر في

أعماق البحار، فلم تهتف باسمه الجرائد، ولم ينوه به في تلك الخطب والأغاني

والقصائد، كما نوه باسم نيازي وأنور اللذين كانا سيفين من سيوفه تحركهما يده العاملة

وتصرفهما أوامره النافذة، ألا إن صادق بك هو (قومندان) الانقلاب العثماني وموجد

الدستور.

واسأل عن ذلك كتاب (خاطرات نيازي) فهو يخبرك اليقين، {وَلَا يُنَبِّئُكَ

مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14) فصادق بك أجدر رجال الدستور بالظهور وأحقهم

بالثناء، وكلهم يعرف له هذا الفضل، ولكنه هو الذي أحب الخمول وترفع عن

الثناء والمكافأة على عمله من الجمعية أو الحكومة، فهو الزعيم الذي لم يأخذ مالاً

ولا وسامًا، حتى إن شوكت باشا رغب إليه أن يقبل يوم عيد الدستور من السنة

الماضية وسامًا مرصعًا، تقرر إنعام السلطان به عليه فلم يقبل، زرت صاحبًا لي

من الاتحاديين قبل ذلك العيد بيوم واحد، فقال لي: لو جئت قبل ربع ساعة لوجدت

صادقًا هنا، وقد أخبرني بكذا وكذا. وذكر مسألة الوسام ومسائل أخرى.

إنني لما جئت الآستانة في عام 1327 كان صادق بك لا يزال عميد الجمعية

المسئول (أي رئيسها ويسمونه المرخص العام؛ لأن من نظامها أنه ليس لها رئيس،

ويشبه الخلاف أن يكون لفظيًّا) ولما عرضت مشروع الدعوة والإرشاد (أو العلم

والإرشاد كما سميناه هناك) على الصدر الأعظم، قال لي: هذا مشروع نافع لا بد

منه، ولا يتم هنا شيء إلا إذا رضيت به جمعية الاتحاد والترقي، وسأكلم صادق

بك في المشروع ثم أخبرك هل يمكن تنفيذه أم لا، ودعا حاجبه وقال له: اذهب

غدًا إلى صادق بك، وقل له: إنني أحب أن أراه، ثم أخبرني الصدر أن صادقًا

اقترح تأليف لجنتين للبحث معي في المشروع: إحداهما علمية دينية والأخرى

سياسية إدارية. وبرأيه تألف اللجنتان وبعد البحث الطويل أقرتا المشروع، فقال

لي الصدر الأعظم: إن المشروع قد تم نهائيًّا، فألف الجمعية وتعال أخصص لك

المال اللازم للتفنيذ، وقد علم قراء المنار من قبل أن وزارة هذا الصدر (وهو

حسين حلمي باشا) قد استقالت قبل أن يتم لنا تأليف الجمعية، وأزيدهم الآن ما هو

المقصود هنا؛ وهو أن صادق بك ترك العمل في الجمعية، ولماذا؟

كان من رأي صادق بك بعد أن استقر أمر الدستور وتألف مجلس الأمة؛ أن

تترك الجمعية للحكومة الحرية في عملها، وتكتفي بالمراقبة عليها، فلا تتعرض

لشيء إلا إذا رأت الدستور مهددًا بالزوال، وقد اتفق مع محمود شوكت باشا على

منع الضباط من الاشتغال بالسياسة، ولما كان لا مندوحة له عن الاستمرار في

خدمة الجمعية، عول على الاستقالة من الجيش، وبعد هذا الاتفاق خطب محمود

شوكت باشا خطبتيه الشهيرتين في الفيلق الأول بالآستانة والفيلق الثاني بأدرنة،

وصرح في الخطبة الثانية بقوله: إن أخانا صادق بك لما كان يريد البقاء في جمعية

الاتحاد والترقي فسيقدم لي استقالته.

كان الذين تواطئوا على الاستقلال بزعامة الجمعية والسيطرة على الحكومة،

قد استمالوا إليهم قبل هذا الاتفاق كثيرًا من الضباط بضروب من الاستمالة، فصار

لهم عصبية منهم. ولما صار طلعت بك ناظر الداخلية كان أقدر من غيره على هذه

الاستمالة، فأدخل في الوظائف الإدارية كثيرًا من الضباط، وقد كنت مدعوًّا عنده

في بعض الليالي، فجاء اثنان منهم ونحن سامرون معه في الليل، فكان الواحد منهم

يجلس في مكانه ويعبث بمكتبه ويبحث في أوراقه، ورأينا أن حديثه معنا قد تلجلج،

وأن من حسن الذوق أن ننصرف ليخلو لهما وجهه، وندع الحديث إلى وقت آخر،

فاستأذنا وانصرفنا.

كان ارتباط زعماء الجمعية بالضباط واشتغال الضباط بالسياسة من أعظم

الأخطار التي تهدد الدولة، وقد انتقدته الجرائد الأوربية بأشد مما انتقدت غيره من

أعمال الجمعية بعد ظهور الخلل فيها، وانتقده الجم الغفير من الضباط كما سمعت

بأذني من بعض أركان الحرب منهم وعنهم، حتى كان يخشى أن يقع الشقاق في

الجيش نفسه بالتنازع بين أنصارها والساخطين عليها من الضباط، وقد وافق

صادق بك محمود شوكت باشا على تلافي هذا الأمر، ولم يقدرعلى تنفيذه بالفعل.

كتب صادق بك استقالته من الجيش، وكتب مذكرة للجمعية المركزية اشترط

فيها لبقائه عاملاً في الجمعية باسم المرخص أو المدير المسئول شروطًا منها أن

يترك طلعت بك نظارة الداخلية، وجاويد بك نظارة المالية، وأحمد رضا بك

رئاسة المجلس؛ لأنه لا يعني على رأيه أن يكون زعماء الجمعية من رؤساء

الحكومة؛ لما لهم من القوة التي تمكنهم من الاستبداد، فكبر ذلك على هؤلاء

الزعماء بعد أن مكنوا لأنفسهم في الأرض، ورأوا أنهم صاروا في هذه الدولة هم

الأئمة الوارثين، وكان قد ظهر من رياستهم تنفير جميع العناصر العثمانية من

إخوانهم الترك. وتقدم اليهود في نظارة المالية على غيرهم، وإعلاء كلمة الماسونية،

والإسراف في نشرها، وتقديم المقدمين فيها على غيرهم في جميع المناصب

والأعمال، وجعل مقام الخلافة كالمجرد من كل سلطة ونفوذ.

كبرت شروط صادق بك على أولئك الزعماء، فكانوا منها في أمر مريج لأن

ترك السلطة والدولة بعد التمكن منها لا تسمح به النفس، ومخالفة صادق بك ليست

بالأمر السهل، فرأوا بعد الروية والتفكير أن يجتهد في إقناعه بالتنازل عن بعض

تلك الشروط؛ وأهمها عندهم ترك السلطة وحرية الحكومة بعدم سيطرة الجمعية

عليها، وقد بلغني يومئذ ممن أثق به من الاتحادين أن طلعت بك قصد دار صادق

بك غير مرة في الليل، ولم يأذن له صادق بلقائه، ولما رأى أنه لا يسهل عليهم

إجابته إلى ما طلب وأنهم خائفون منه أن يحاول تنفيذ مطالبه بالقوة، وعلم - كما

قيل لي يومئذ - أنهم يراجعون من استمالوه من الضباط لتأييدهم، أمنهم من اعتماده

على السيف في ذلك؛ لأن هذا هو الذي ينكره ويخشاه، فكيف يكون هو البادئ به،

وآذنهم بأنه يترك لهم جمعيتهم ويسترد استقالته من الجيش وكذلك فعل، وكان هذا

آيات إخلاصه الكثيرة.

ترك لهم هذا الصادق كلا من الجمعية والحكومة، فبعد أن قلبوا وزارة حسين

حلمي باشا؛ لأنه لم يستطع الصبر على أن يكون آلة معدنية في يدي طلعت وجاويد،

جاءوا بحقي بك فجعلوه صدرًا والناس مختلفون فيه، فظهر بعد الاختبار أنه

أصبر الناس على ما لم يطق قبوله كامل باشا، ولا الاستمرار عليه حسين حلمي

باشا، وتفاقمت الخطوب من سياسة طلعت وجاويد حتى ضج مجلس الأمة بالشكوى،

وبلغت أصوات المعارضين عنان السماء بعد أن أزعجت سكان الأرض، حتى

اضطر طلعت بك إلى الاستقالة من نظارة الداخلية، فصوبت سهام المعارضة بعده

إلى جاويد بك خاصة وإلى رجال الوزارة عامة، وإلى جاهد بك صاحب جريدة

(طنين) الذي هو المحامي عن جمعية الاتحاد والترقي بقلمه المسموم الذي سماه

بعض أدباء الآستانة من الترك (سفيه القوم) .

إنني أقمت في الآستانة سنة كاملة، وقفت فيها على غوامض سياستها

ومخبآت صناديق أسرارها، ووردت في ذلك موارد قلما تتيسر كلها لأحد، فقد

عاشرت كثيرين من العلماء والوجهاء والأدباء والضباط والمبعوثين والأعيان

ورجال الحكومة وغيرهم، ومنهم من لهم صلة بالأسرة السلطانية، ومنهم الاتحادي

وغير الاتحادي، وقد استفدت من مجموعهم الجزم بعدة مسائل أذكر منها ما يفيد في

هذا المقام:

(1)

إن مولانا السلطان متبرم من القوم وغير راض من الحال العامة،

وينتظر أن تغيرها الحوادث إلى أحسن مما هي عليه، ولا أزيد على هذا في هذه

المسألة.

(2)

إن بعض زعماء جمعية الاتحاد والترقي يريدون أن تبقى الدولة في

أيديهم، يديرونها كما يقررون فيما بينهم بزمامي حزبهم في مجلس الأمة ورجالهم

في وزارات الباب العالي وسائر المصالح، ويؤيدهم في ذلك طائفة من ضباط

الجيش.

(3)

يجب على كل وزير أو رئيس عمل منهم أن ينفذ كل ما تقرره اللجنة

العليا للجمعية في الحكومة.

(4)

يديرون نظام حزبهم في المجلس بطريقة تجعله آلة في أيدي من فيه

من زعماء الجمعية؛ كطلعت بك ورحمي بك وجاويد بك وخليل بك، ومن يليهم في

النفوذ؛ كمجاهد بك وإسماعيل حقي بك، فإذا اتفق هؤلاء مع لجنة سلانيك على

أمر جمعوا حزبهم للمذاكرة فيه، وهو متفق عليه بين الزعماء ومن يقنعون به قبل

الاجتماع ممن يسهل إقناعهم، ومن نظام حزبهم أنه إذا أقر الثلثان من حاضري

الجلسة فيه أمرًا، وجب على الباقين اتباعهم بغير مناقشة، فكان إذا حضر الجلسة

ستون وهم نصف أعضاء الحزب، واتفق أربعون منهم على المسألة تبعهم الباقي

هم 120، فينفذ في المجلس على أنه رأي أكثر أعضائه، وإنما هو رأي الأقلين

من حزب واحد من أحزابه.

(5)

إن هؤلاء الزعماء كلهم من شيعة الماسون، يجتهدون في نشرها

وجعل رجال الحكومة من أعضائها، كما ينشرونها في ضباط الجيش، وقد يكون

هذا تمهيدًا للفصل بين السياسة والدين، وتجريد السلطان من صفة الخلافة

الإسلامية.

(6)

إن من لوازم تشيعهم للماسونية قوة نفوذ اليهود فيهم وفي الدولة؛

وذلك يفضي على فوز الجمعية الصهيونية في استعمار بلاد فلسطين الذي يراد به

إعادة ملك إسرائيل إلى وطنهم الأول، وإلى ابتلاع أصحاب الملايين من اليهود

لكثير من خيرات البلاد.

(7)

من أهم مقاصد هؤلاء الزعماء، جعل السيادة والسلطة في المملكة

العثمانية للشعب التركي، والتوسل بقوة الدولة إلى إضعاف اللغة العربية وإماتتها

في المملكة، وتتريك العرب مع إبقائهم ضعفاء بالجهل والضغط وذبذبة اللسان،

ومنع الألبانيين والأكراد من تدوين لغتهم وجعلها لغة علمية. وهذا من المقاصد

السرية التي لا يعترفون بها على استعجالهم بتنفيذه بالعمل وبكتابة جريدة طنين.

ومن آثار هذه السياسة هذه الحرب الطحون في اليمن والبلاد الألبانية، وقد

كان من أسهل الأمور تنفيذ الإصلاح المعقول في هذين القطرين في ظل السلام

والأمان.

قد وقفنا في الآستانة على كل هذا، ورأينا أهل الرأي والغيرة من سكان

هذه العاصمة يتوقعون الفتن ويخافون العواقب من سياسة هذا الرهط من زعماء

الاتحاديين، ولم أحب أن أشرح تلك الأمور وأبين ما فيها من الخطر؛ بل سعيت

إلى الإصلاح هنالك ما استطعت، فلم يغن نصحي لهم شيئًا، ولما عدت إلى مصر

أشرت بلطف إلى ما يخشى من خطر اليهود والماسونية في هذه المملكة الإسلامية،

وتركت الشرح والتفصيل والتشنيع والتقريع؛ لأنني لم أر ذلك من الحكمة.

كان صادق بك كل هذه المدة بالمرصاد، يراقب الحوادث من بعد لا يحرك

فيها قلمًا ولا لسانًا، ولا يجرد لها سيفًا، حتى إذا ما رأى قوة المعارضين

للاتحاديين ووزارتهم من أحزاب المجلس قد عظمت، ورأى أن أهل الاستقلال

والإنصاف من حزب الاتحاد نفسه متبرمون من الحكومة من تأييد أولئك الزعماء لها

ومن سياستهم الماسونية ولوازمها، حتى إذا ما رأى ذلك خانه الصبر، وعز عليه

أن يدع الدستور الذي أخذه بقوة يمينه والجمعية التي شرفها بعمله وإخلاصه آلة في

يد هؤلاء الرهط الذين لم يحسنوا التصرف ولم يقيموا الميزان، فمد يده إلى

المستقلين المنصفين من حزب الاتحاد، وبذل لهم مظاهرته فيما يقيمون به عوج

أولئك الأفراد، ويحولون بينهم وبين الاستبداد، ويصلحون ما حدث في الأمة

والدولة من الفساد، فاشتدت عزائمهم، وصاحوا في وجوه أولئك الزعماء تلك

الصيحة المزعجة، واقترحوا عليهم تلك الاقتراحات المنصفة، فارتفعت أصوات

التأييد والتفنيد، فكانت أصوات طلاب الإصلاح أجهر، وعددهم أكثر، فأظهر

الزعماء الرضا واجمين، وذلت أعناقهم لها خاضعين، ثم ولوا إلى أنصارهم

مدبرين، ورجعوا إلى ضباطهم مستنصرين، فإذا ليث الغاب قد انكشف عنه

الحجاب، ففزع حقي باشا إلى مولانا السلطان، وقال: إنه لا يكون في العاصمة

صدران، فإما قبول استقالتي وإما دفع صادق بك بالتي، وإخراجه من المدينة

ريثما تعود إليها السكينة، فأوحى إلى محمود شوكت باشا أن يخرج صادقًا ففعل وما

كاد، ونبأنا البرق أن صادقًا أبى أولاً ثم أجاب.

كان أول ما طرق مسامعنا في هذه الحادثة قول البرقيات العامة: إن الأمير ألاي

صادق بك (وذكرها بعضهم صدِّيق) أبى أن يطيع الأمر بالخروج فاستكبرت الأمر،

واستعظمت الخطب، ورأيت الناس حولي غير مبالين، فقلت: إن هذا هو البلاء

المبين، ولابد أن ننتظر تفسيره إلى حين، فإن الدولة لم يظهر فيها بعد الانقلاب إلا

رجلان عسكريان: أحدهما صادق بك موجد الدستور، وثانيهما حامي بيضته وهو

محمود شوكت باشا فاتح إستانبول، ولكل منهما مكانة في الجيش عظيمة، فإذا

تصادما وقع الخلل في الجيش وذهبت الثقة بالدولة، ولا يعلم العاقبة إلا الله تعالى،

وإني لا أصدق أن صادقًا الضابط المخلص الكامل يعصي أمر رئيسه، وأحمد الله

أن صدق ظني، ولم تلبث البرقيات أن شهدت بصحة قولي، ثم جاءت صحف

الآستانة ورسائلها بالتفصيل، وعلى الله قصد السبيل.

(مطالب المصلحين في حزب الاتحاد)

جاءت مطالب المصلحين مصدقة لجميع ما كنا علمناه في الآستانة من حقيقة

ما عليه زعماء الاتحاد، ومن تأثير سياستهم، وقد حدثنا به خواص أصحابنا،

وأشرنا إلى المهم منه في المنار، وهاك مطالبهم العشرة التي قرروها وأعلنوها:

1 -

أن لا يسعى المبعوثون إلى الامتيازات والمنافع لأنفسهم ولا لغيرهم.

2 -

أن لا يقبل المبعوثون وظائف الحكومة وأعمالها.

3 -

أن يكون قبول أحد المبعوثين نظارة من النظارات بقرار الثلثين من

فرقة الأكثرية، ويكون إعطاء الرأي بالطريقة السرية.

4 -

أن يعتني بتنفيذ القوانين وبالمراقبة على النظار.

5 -

أن يعتني بمسألة اتحاد العناصر (كما كان) وأن يبذل الجهد في سبيل

ترقي الزراعة والصناعة والتجارة والمعارف على نسبة الاحتياج.

6 -

أن يحافظ على الآداب والأخلاق العمومية الدينية مع الاقتباس من

المدنية الأوربية.

7 -

أن يحافظ على عادات السلف ضمن دائرة القانون الأساسي.

8 -

أن يعجل بقانون نصب وعزل عمال الحكومة الموظفين.

9 -

أن يعدل في القانون الأساسي بعض المواد المتعلقة بحقوق الخلافة

والسلطنة.

10 -

أن تقاوم مقاصد الجمعيات المؤسسة على السّر.

كل مطلب من هذه المطالب حجة على الاتحاديين الذين كانوا يصفون جمعيتهم

بالجمعية المقدسة، وعلتهم سياسة أولئك الرهط من الزعماء، دع أخذ الامتيازات

والسمسرة لطلابها، ودع التوسل بالمبعوثية إلى المناصب وهو ما يعيبون به غيرهم

بالتهمة، ودع عدم تنفيذهم القوانين والحكومة في أيديهم، وحمايتهم للنظار

ونصرهم على كل حال، ودع عدم وضعهم قانونًا للعزل والنصب؛ ليكون الأمر

كله تابعًا لمشيئة الأفراد، ودع تنفيرهم عناصر الدولة كلها من الحكومة ومن

العنصر التركي الذي لا ذنب له سواهم، وتأمل مسألة المحافظة على الآداب

والأخلاق الدينية وعادات السلف، فإن اقتراحها يدل على أنه يراد بها درء مفاسد

هي أشد خطرًا على الأمة ولا سيما على العنصر التركي من جميع تلك المفاسد

السياسية والإدارية، فإنما الأمة بمقوماتها ومشخصاتها من العقائد والشعائر والآداب

والأخلاق، وقد كانت كلها عرضة للفساد، بجعل الصلاة في مدارس الحكومة ولا

سيما الحربية أمرًا اختياريًّا، ومن إباحة تهتك النساء، بل الأمر أعظم من ذلك فقد

سمعت بأذني بعض الزعماء يجادل معممًا من رفاقه الاتحاديين فيما ترتقي به الأمة،

فالمعمم يقول: إننا نرتقي بالمحافظة على آدابنا وأخلاقنا وشعائرنا، وسائر مقومات

حضارتنا الإسلامية، وباقتباس الفنون والصناعات من أوربة، والزعيم يقول:

بل يجب أن نمشي وراء فرنسة في كل خطوة، ونتبع سننها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع

في الأمور المادية والمعنوية جميعًا، وأن نعصر رجال الدين عصرًا.. إلخ.

ثم تأمل مسألة الخلافة الإسلامية والجمعيات السرية، وتذكر مقاصد الماسون

في الحكومات ومقاصد الصهيونيين في فلسطين، وقل رب احكم بالحق وأنت أحكم

الحاكمين.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الشرة، بكسر الشين وتشديد الراء: الحدة والنشاط، وهي ضد الفترة.

ص: 265

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المسلمون والقبط

(النبذة السادسة)

(إنما نطلب حفظ حقوقنا لا إضاعة حق للقبط)

إذا كنت أكتب لأجل ِإيذاء القبط أو التحريض على إيذائهم، أو لأجل محض

مدافعتهم، ومنعهم مما لا أراه حقًّا لهم، فلا حملت بناني قلمًا، ولا حفظت كما

أمرني الرسول صلى الله عليه وسلم ذمة ورحمًا، بل أشهد الله أنني لا أكتب إلا

لأجل الخير والمصلحة دون الإيذاء والمفسدة، ولفوائد إيجابية لا لأغراض سلبية،

وإذا كان المؤتمر المصري يجتمع ليأتمر بتخطئة القبط في مطالبها فقط، فلا خير

في هذا المؤتمر، وأجله أن يكون عمله سلبيًّا فقط.

إنني منذ خبرت حال مصر، رأيت أن للقبط روابط ملية. دون الرابطة

العامة المصرية بها يتعاونون ويتناصرون، وعليها يجتمعون ويتحدون، ولها

يتعلمون ويتربون، وإليها يرجعون. فهم بها أمة كما يقولون. وليسوا عضوًا من

جسم الأمة المصرية، إذا اشتكى عضو من سائر الأعضاء تألموا له بل هم جسم

تام مستقل بمقوماته ومشخصاته القومية. وإنما يتصل بما يجاوره؛ ليتغذى منه

ويمد حياته لا ليمده ويغذيه.

هذا ما رأيت عليه القبط، فأكبرته وحمدتهم عليه.

ورأيت المسلمين على غير ذلك، رأيتهم يتخاذلون ويتفرقون، ويمتص

غيرهم مادة حياتهم ولا يشعرون، تتعادى أحزابهم ويصفون أكثر النابغين فيهم

بخيانة الأمة والوطن. وهو وصف لا ينطبق على أحد منهم، وإنما علتهم الضعف

وأقتل سببيه تخاذل أمتهم، ليس لهم تربية ملية تجمعهم، ولا وحدة في التعليم

تضمهم، وثروتهم عرضة للزوال بإسرافهم، لا يشعر بعضهم بمصاب بعض،

وليس لمجموعهم شرايين ولا أوردة يكون به جسمًا واحدًا يمد بعض أعضائه

بعضًا بالغذاء ودفع الأذى.

هذا ما رأيت عليه المسلمين، وفيهم من النابغين ما ليس في القبط. ليس

عندهم قضاة كقضاتنا، ولا محامون كمحامينا، ولا إداريون كإدارينا، ولا أطباء

كأطبائنا، ولا كتاب ككتابنا، ولا شعراء كشعرائنا. أعني أن النابغين فينا أكثر

وأرقى من النابغين فيهم. ولكنهم أرقى منا في الحياة الملية، والمقومات القومية،

التي يكون بها أفراد الشعب كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسم الواحد إذا اشتكى

له عضو تداعى له سائر البدن بالحمى والسهر، كما وردت الأحاديث في وصف

المؤمنين، وقد فقد المسلمون قوة هذه الصفات التي جعلها الله سر دينهم وآية إيمانهم

فلم يغن عنهم النابغون شيئًا.

هذا التفاوت بين شعبين يشارك أحدهما الآخر في جميع مرافق الحياة تحذر

عواقبه، ولا تؤمن مغبته، أحدهما قوي بالاتحاد والتكافل، والآخر قوي بالكثرة

ضعيف بالتخاذل دأب المتحدين الطمع في سلب مرافق المتخاذلين، وبذلك ساد

بعض الشعوب على بعض، وكثيرًا ما كانت الفئة القليلة هي التي تسود الفئة

الكثيرة، والطامع قد يوغل في حقوق الغافل بغير رفق، والعنف في الإيغال قد

يفضي إلى العنف في الدفاع، فيكون من ذلك ما لا خير فيه للبلاد، فأحببت منذ

سنين أن أنبه المسلمين على ما تصان به حقوقهم، مع حفظ المودة بينهم وبين من

يعيش معهم، فكتبت في ذلك كثيرًا. ولكن المسلمين كانوا في شغل عن ذلك، فيقل

فيهم من قرأ ما كتبت، ويقل فيمن قرأ من فهم، ويقل فيمن فهم من اعتبر، ويقل

فيمن اعتبر من حدث غيره بما أصاب من العبرة. وهكذا شأن الغافلين المغرورين

ينتبهون بالحوادث لا بالأحاديث.

إنني مؤمن، والمؤمن لا ييأس من روح الله، ولا يقنط من رحمة ربه، ولو

يئست من حياة المسلمين، لما رأيت شيئًا من الخطر على البلاد في استمرار غفلتهم

إلى أن تصير وظائف الحكومة وثروة البلاد في غير أيديهم، سواء أوغلت القبط

في ذلك برفق أو بعنف، فإن الأمراض التي تموت بها الأمم تكون كداء السكتة،

يذهب بحياة المرء وهو لا يشعر بأنه يموت. ولكنني أعتقد أن في مسلمي مصر

حياة ضعيفة، لم تصل إلى درجة التكافل والتضامن، وأن الخير في تقويتها بالدعوة

إلى حفظ المصالح، لا بالدعوة على دفاع المهاجم، وأن هذا لا يكون إلا قبل أن

يغلبوا على مصالحهم، ويروا أنفسهم مسخرين لمن كانوا دونهم، يومئذ يخشى أن

لا يروا في أيديهم إلا سلاح الكثرة، فيستعملونه للضرورة فيما يضر البلاد من

الاعتصابات والفتن، فتلافي ما يخشى في المستقبل مذ الآن هو الذي يحملنا على

هذا البيان.

ما رأيت استحسانًا عامًّا لشيء نشر في الجرائد بعد رد الأستاذ الإمام على

هانونو كاستحسان ما كتبته في هذه الأيام من المقابلة بين المسلمين والقبط. يذكر

لي لك كل من أراه. وكتب إليّ وإلى المؤيد غير واحد يشكرون لي ذلك ويطلبون

المزيد منه، أذكر هذا تمهيدًا لقول بعض هؤلاء الحامدين الشاكرين: لماذا لم تنبهنا

من غفلتنا بمثل هذه المقالات قبل اليوم؟

ولهؤلاء أقول: إنني قد فعلت، وقلما قررت حقيقة في هذه الأيام إلا وقد بينتها من قبل

في المنار أو في بعض الجرائد اليومية، ولكن المسلمين كانوا في غمرة ساهين، لا

يعنون بما يكتب ولا يحلفون به إلا ما يكون عند الحوادث المؤلمة، والصيحات

المزعجة، ثم لا يلبثون أن ينسوا ويعودوا إلى سابق لهوهم وسهوهم، حيث خشيت أن

نكون كما قال شاعرنا من قبل في مثله الذي يشبهنا فيه بالغنم الراعية، تظل غافلة

متمادية في رعيها، حتى إذا ما سمعت نبأة صائح ترتاع وترتفع رؤوسها تاركة

الارتعاء، فإذا سكت الصائح عادت إلى سابق شأنها، أعني بهذا القول ابن

دريد في مقصورته:

نحن ولا كفران لله كما

قد قيل في السارب أخلى فارتمى

إذا أحس نبأة ريع وإن

تطامنت عنه تمادى ولها

صاحت القبط منذ ثلاث سنين مثل صيحتهم في هذه السنة، فكتبت مقالة في

المنار عنوانها (المسلمون والقبط) كان لها باعتدال الرأي والأدب في العبارة أحسن

الوقع، فنقلها بعض أصحاب الجرائد اليومية، ولخصها بعض آخر، فلم تلبث

القبط أن سكتت صيحتها، وسكنت في الظاهر دون الباطن ثورتها، فنسي

المسلمون ما كان، حتى تجددت الصيحة في هذا العام، بأقوى وأدوم مما كان في

سابق الأعوم.

افتتحت تلك المقالة بهذه الجملة:

(سبق لنا قول في هاتين الطائفتين بمصر بينا فيه أن المسلمين من حيث هم

أفراد أرقى من القبط في كل علم، وأن القبط من حيث الاجتماع والتعاضد الملي

أرقى من المسلمين، فلهم مجلس ملي وجمعيات وجرائد دينية تبحث دائمًا في

مصالحهم العامة من حيث هم قبط، وهم يتعاونون ويتحدون في المصالح. وهذا ما

حمدتهم وأحمدهم عليه، وأتمنى لو يوفق المسلمون لمثله، وإن كنت أعلم أنه لو

أنشأ المسلمون جمعية للرابطة الإسلامية كجمعية الرابطة المسيحية، لما وجدوا في

القبط مثل أحمد بك زكي يقوم فيها خطيبًا، ويجعل عنوان خطابته (مصريون قبل

كل شيء) بل يخشى أن يقوموا كما تقوم أوربة، ويقول الجميع: إن المسلمين

في مصر يحيون التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية، ويدعون إلى ارتباط

بعضهم ببعض؛ لمقاومة النصارى في مصر بل في جميع الأرض) .

ثم بينت نسبة القبط إلى المسلمين في العدد وفي أعمال الحكومة، وأنهم أكثر

فيها من المسلمين، وهم يدعون على ذلك أنهم مظلومون مهضومون، ويطلبون

لأنفسهم سائر أعمال الحكومة التي في أيدي المسلمين، وأنهم يسمون أنفسهم أهل

البلاد، ويُدلون ويفخرون على المسلمين بالانتساب إلى آل فرعون ذي الأوتاد،

الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، ويجهرون بأن المسلم فيها أجنبي محتل،

وأتاوي معتد، وينكرون أن يكون للمسلمين فيها حق من حيث هم مسلمون فاتحون،

على ادعائهم الحقوق فيها من حيث هم قبط مسيحيون، وبينت فيها مواثبتهم

للمسلمين من أضعف جانب يرونه فيهم، وهو تهييج الإنكليز وسائر الأوربيين

عليهم بتهمة التعصب الإسلامي، وكون هذه المواثبة قد تفضي إلى ندم المسلمين

على ما قاموا به من دعوة الوطنية، واعتقاد أنها كانت خسارًا عليهم وربحًا وفوزًا

للقبط، وأنهم إذا خسروا مودة المسلمين، فلا يمكن أن يجدوا عوضًا خيرًا منها؛

فإنهم لا يقدرون على استغلال أرضهم بعد ذلك.

وبينت هنالك أن القبط لا يمتازون على غيرهم من نصارى المصريين

ويهودهم، وإنما ميزهم المسلمون عناية بهم، وبحثت في دين الحكومة الرسمي،

وذكرت مساعدة بعض رجال الدين من الإنكليز لهم، وأن المساواة التي يطلبونها

هي امتياز على المسلمين من وجه آخر.

نصحت للقبط في تلك المقالة نصيحة لو عقلوها وعملوا بها ما وقعوا في

السيئة التي ندموا الآن أن اجترحوها، وقد سبني في هذه الأيام كتابهم في جرائهم

ولو عقلوا قولي لاستبدلوا الثناء بالهجاء، فقد بينت لهم الآن كما بينت لهم من قبل؛

أن المسلمين يغلب عليهم النسيان والتواكل، وأنه لا شيء يحول دون سلب القبط

منهم كل ما في أيديهم إلا هذه الجعجعة بالقبطية والمسيحية التي تدفعهم بالرغم

منهم لمقابلتها بالجنسية الإسلامية، وهذا نص نصيحتي لهم منذ ثلاث سنين:

فالرأي عندي للقبط أن لا يغتروا بترجيع بعض الجرائد الإفرنجية لأصواتهم

في الشكوى من المسلمين والقول بتعصبهم، ولا من سرور بعض الإنكليزية إن كان

ما قيل حقًّا فإنهم مهما أصابوا من تعضيد في مشاقة المسلمين، فهو لا يكون خلفًا

صالحًا لمودتهم فيما أرى. فأنصح لهم أن يتوبوا مما فعلوا، ويعتذروا عنه،

ويعودوا إلى سابق شأنهم، أو إلى خير منه إن استطاعوا. والمسلمون تغلب عليهم

سلامة القلب، فلا يلبثون أن يغفروا لهم، وينسوا ما كان منهم، ففي حديث أبي

هريرة عند أبي داود والترمذي: (المؤمن غر كريم) أي ليس بذي نكر ولا مكر ولا

خدّاع.

ولولا أنني أحب الوفاق، لما نصحت لهم بهذا. فإنني أعلم أن هذه المشاقّة لا

تزيد المسلمين إلا قوة في رابطتهم الإسلامية التي أدعو إليها، وحفظًا لحقوقهم التي

أغار عليها، ولكنني أفضل أن يكون تنبيهي لهم بغير هذا:

(أحب أن يعتصموا بحبل الله جميعًا ولا يتفرقوا، وأن يكونوا مع ذلك على

وفاق ووئام مع من يعيش معهم، وأنصح للمسلمين أن لا يكتبوا شيئًا في الرد على

القبط، ولو لم يكتبوا في الماضي ما كتبوا لكان خيرًا لهم وأحسن؛ إطفاء لتلك الفتنة

وخذلانًا لموقظيها. ولكن لا بأس ببيان عدد الموظفين منهم في كل مديرية، وذكر

الوقائع في تعصب بعضهم لبعض، وتعاونهم الملي المحض من باب بيان الحقيقة

والاعتبار بها، بشرط أن يتحرى الصحيح، ولا تمزج الرواية بشيء من التأنيب

والتجريح، فضلاً عن الهجر والتقبيح) .

لم تعمل القبط بهذه النصيحة؛ لاعتقادها أن المسلمين قد قضي عليهم، وأنهم

أمسوا مشلولين لا حراك بهم، وزادها غرورًا أن رأت المسلمين نسوا تلك الغارة

الشعواء، ولم يأخذوا حذرهم من مثلها، ولا سمعوا نصيحتي بإحصاء الموظفين؛

لبيان أن القبط غابنون غير مغبونين، فها هم أولاء قد استدركوا في هذه المرة ما

فاتهم في الغابرة، فكانت كرة القبط كرة خاسرة.

إنني على تنبيهي للمسلمين، وحرصي على حفظ مصالحهم ومرافقهم،

ورغبتي في ترقيتهم، أجري على ما تعودت من المحافظة على مودة كل من يعيش

معهم، ويشاركهم في أوطانهم، ولهذا قلت: إنني أحب نصحهم بغير هذه الوسيلة؛

ولذلك أشرت عند الحركة الأولى إلى ما يسكنها، وقد سكنت وأبت القبط إلا أن

تعود إلى تحريكها، وثبت لنا أن المسلمين لا ينتبهون إلا بمثل هذه الصيحات

المنكرة في وجوههم.

نبهت قبل هذا على النسبة بين المسلمين والقبط في مصر، وبينهم وبين

غيرهم في الأقطار الأخرى بمقالات اجتماعية شخصت الحال تشخيصًا، وذكرت

بما يجب تذكيرًا. وأنَّى للغافل الذكرى؟ كتبت في الجزء الأول من مجلد المنار

الثامن الذي صدر في المحرم سنة 1323 (مارس سنة 1905) مقالاً عنوانه

(حياة الأمم وموتها) ، عرفت فيه حياة الأمة بأنها أثر روح يسري في أفرادها،

فيشعرهم بأن مكان كل واحد منهم من مجموع الأمة مكان أحد أعضائه من جسده،

فهو يلاحظ في كل عمل منفعة نفسه ومنفعة أمته معًا، كما أن عمل كل عضو في

البدن يكن سبب حفظ حياته من حيث هو سبب لحفظ حياة البدن كله، وقارنت بين

حياة الأفراد وحياة الأمم، وبين حياة الأجسام وحياة النفوس، وضربت المثل لأمة

تموت بالوارث المسرف، ولأمة تحيا بالتاجر المقتصد، ذلك ينقص ماله الكثير كل

يوم، وهذا يزداد ماله القليل كل يوم. وأول ما يخطر في بال المصري في هذا

المقام ورثة شريف باشا وأجراؤهم وخدمهم من القبط، أولئك أضاعوا ثروتهم

الواسعة فصاروا فقراء، وهؤلاء امتصوا تلك الثروة فصاروا أغنياء.

قلت في تلك المقالة: (معرفة شؤون الأمم والشعوب أخفى على الأكثرين من

معرفة حال الأفراد والبيوت، فكم من جاهل يفضل أمة على أخرى؛ لأنها أصح

دينًا وأعدل شريعة، أو لأنها أشرف أرومة، وأعرق في المجد جرثومة، أو لأن

تراثها من سلفها أكثر، ومزاياها الجنسية أشهر، أو لأنها أكثر عددًا ومددًا، وأعز

عشيرة ونفرًا، وإذا صح أن يكون هذا كله أو بعضه للأمة التي تموت زمنًا من

الأزمان. فإنه لا يبقى إلا ريثما تتصل بها أمة حية، فترى هذه تمتص جميع مزايا

تلك ومقوماتها الحيوية، وتلك تتحمل آفات هذه وعللها البشرية، حتى تكون

إحداهما في عليين، والأخرى في أسفل سافلين.

(يسهل على القارئ في الشرق القريب أن ينظر فيما بين يديه من الشعوب

التي تضمها جنسية سياسية أو لغوية، وتفصل بينها روابط نسبية أو ملية، فإنه

يرى شعبين يمتاز أحدهما بكثرة العدد وكثرة المال وقوة الحكم وقوة العلم، ثم يجد

نفسه تفضل قليل المزايا منهما على كثيرها؛ لأنه يرى الشعب الكثير المزايا يتمزق

ويتفرق، فتذهب مزاياه بذهاب الأعوام. والشعب القليل المزايا ينمو ويسمو

ويجتمع ويتألف فيعتز ويشرف بإقبال الأيام، يرى الشعب الكبير يتخاذل فيتضاءل،

والشعب الصغير يتلاءم ويتعاظم، وما ذلك إلا أن في أحدهما نسمة حياة تدفع عنه

الأعراض الضارة بالشعوب فيقوى ويزكو، وتغذيه كل يوم بغذاء جديد فينمو

ويسمو، وليس في الآخر شيء من هذه الحياة، فهو كجسم العاشق يذوب ويضمحل

ويحقر ويذل) .

ثم بعد مقارنة أخرى بين شعبين يحيى الكبير منهما ويموت الصغير، فندت

رأي من يجعل للصغر والكبر دخلاً في الحياة والاتحاد بما نصه:

(لا يغرنك ما ترى من آيات الحياة في أمة تقطعت روابطها، وانفصمت

عروة الثقة بين أفرادها، وبغض إليها النظام، وفقدت التلاحم والالتئام، وإن كان

ما نراه أخلاقًا كريمة، ومعارف صحيحة، وثروة واسعة، وسلطة نافذة، مع العلم

بأن هذه الأشياء كلها هي آثار الحياة توجد بوجودها وتذهب لذهابها، فقد يكون

ذلك من بقايا إرث قديم، يعبث به الفساد الحديث، إلا أن ترى العلم والأخلاق

تقرب البعيد، وتجمع الشتيت، وتزيد في الثقة بين الناس، وتدعو إلى التعاون

على البر والإحسان، وترى الثروة تجمع مع ملاحظة مصلحة الأمة، وينفق جزء

منها على المنافع العامة)

إلخ.

وقد كتبت في تلك السنة (1323) مقالة أخرى عنوانها (المسلمون والقبط

أو آية الموت وآية الحياة) كان سببها ما كتبه المؤيد وكتبته جريدة الوطن في مسألة

(التعليم الديني والحكومة) وما طلبه القبط من مساواتهم بالمسلمين، فيما يشترط

في إعفاء حفاظ القرآن من خدمة العسكرية. وذكرت في هامشها أنني (طالما

عزمت على كتابة مقالات في المقابلة بين مسلمي مصر وقبطها وبين المسلمين

والنصارى عامة ثم أرجأتها) ، وسبب الإرجاء؛ انتظار الفرص التي تنبه الأذهان

إلى ما يكتب والنفوس إلى العبرة به.

وجملة القول أننا نرى أن القبط يطلبون ما ليس بحق شرعي لهم، وإنما

يطلبونه بقوة الاتحاد الملي وضعف المسلمين وتخاذلهم، ونرى المسلمين تضيع

حقوقهم الشرعية وهم غافلون. ونرى أن القبط قد أيقظوا المسلمين ونبهوهم قبل

الوصول إلى حد اليأس الذي تخشى عاقبته.

ونرى أن بيان حق كل ذي حق ومكان كل من الآخر؛ هو الذي يمكن أن يبنى

عليه الصلح الثابت، والوفاق الدائم، وسنبين في النبذة التالية مكان كل من هذه

الحكومة، وهل هي حكومة إسلامية أم لا؟

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 273

الكاتب: محمد رشيد رضا

النبذة السابعة

هل الحكومة المصرية إسلامية أم لا؟

إنني بحثت وأبحث في مقالي هذا عن الحقيقة الكائنة لا عن الرغيبة التي أحب

أن تكون، والعاقل هو الذي يحب جلاء الحقائق، وبيان الواقع الكائن، ويستفيد

منه عبرة، ويزداد بصيرة، فيسلك إلى مقاصده في طريق النور لا طريق الظلمة.

ولو تدبرت القبط هذا لكافأتني جرائدها بالحمد والشكر، لا بما جاءت به من السب

والهجر.

من هذه الحقائق التي أبينها في هذه النبذة وقد أشرت إليها من قبل أن

المسلمين يعدون أنفسهم أمة جنسيتها الإسلام، وأنه يجب أن يكون لهم حكومة

إسلامية، وأن جنسيتهم هذه واسعة عادلة لا تفرق في العدل بين المسلم وغيره،

وذات سماحة وحرية، لا تمنع أهلها أن يشاركوا غيرهم فيها وفي جميع مرافق

الحياة، كما ولوا القبط في القديم والحديث إلى هذا اليوم أكثر أعمالهم في الحكومة،

وكذا في عقارهم وأرضهم وأوقافهم.

بالغوا في التسامح وأسرفوا في الجود والسماحة في أيام قوتهم، وقنعوا من

السلطة باسم السيادة وكونهم هم المعطين وغيرهم هو المعطى، حتى إذا ما حل بهم

الضعف صار ما أعطوه للأجانب حقوقًا وامتيازات يستعملون بها عليهم، ويزيدون

فيها بقوتهم ما شاءوا، ويفسرونها كما أرادوا. وقد كان هذا بتكافل الدول القوية

واتحادها بالتدريج، فأذاقوا المسلمين مرارة تفريطهم لقمة بعد لقمة، وجرعة في إثر

جرعة، فتجرعوه كارهين مكرهين، كما بذلوه من قبل راضين مرضيين.

وأرادت القبط أن تقيس نفسًا على الدول الكبرى، فتسمي ما سمح لها به

المسلمون حقوقًا واجبة، وتزيد فيها ما تشاء، فأنشأت تطلب لنفسها الزيادة فيما

سمته حقوقًا وإزالة ما بقي للمسلمين من امتياز إسلامي بمشاركتها لهم فيه. وقد كان

هذا مما يسيغه المسلمون المساكين جرعة بعد جرعة، كما أساغوا تلك الامتيازات

مع الاعتراف لهم بأن الحكومة حكومتهم. ولكن أبت جرائد القبط ومؤتمر القبط إلا

أن تنازع المسلمين اسم السلطة كما نازعتهم معناها. وأنها لإحدى الكبر التي لم يئنْ

للمسلمين في مصر أن يسيغوها مختارين.

مضت سنة الله في أهل السيادة الذين يضيعون سيادتهم بسوء تصرفهم أن

يكون آخر ما يهتمون به الأسماء والألقاب والرسوم والشارات الظاهرة، كما هو

معروف في تاريخ الشرق والغرب.

دع ذكر ملوك الطوائف وأمراء المسلمين من الأندلس إلى فارس والهند،

واعتبر بحال أمراء جبل لبنان من مسلمي الشيعة، تجدهم في آخر عهدهم بعد أن

ملكت النصارى حتى من خدمهم وإجرائهم معظم ما كان لهم، كانوا يقنعون من

الامتياز باللقب ولبس الأحذية الحمر التي كانت خاصة بهم من دون الفلاحين، حتى

كان الشيخ منهم يكون له الحقل أو الكرم الواحد من الأرض والعقار، فيهدي إليه

الفلاح النصراني حذاء أحمر (جزمة) ويظهر له أنه جيء به، فلم يرد أن يلبسه

تأدبًا معه فيهبه الشيخ إياه، وربما كان آخر ما يملكه.

أصابت القبط موضع التأثير من قلوب المسلمين بقولها: إن حكومة مصر

ليست إسلامية (أو حركت الوتر الحساس من نفوسهم كما تقول الإفرنج) وقد جعل

هذه الدعوى خطيبهم في مؤتمر أسيوط قضية مسلمة، فحمد الله وحمد نية

المصريين أن كان الذين يقولون منهم: إن هذا البلد إسلامي لا يتجاوزون عدد

الأصابع، وهذا ألطف ما قالوه في هذا الباب؛ لأنهم قالوه بعد العلم بأن المسلمين

تألموا من مؤتمرهم وعزموا على إنشاء مؤتمر إسلامي.

نعم إن المسلمين مفتونون بالحكومة في كل مكان، وهذا هو الواقع وإن أضر

بهم في هذا الزمان، فإنه صرفهم عن ترقية أنفسهم، والاعتماد على

استعدادهم ومواهبهم، ألم تروا أن المسلمين بمصر قد أهملوا أمر الأمة، وتركوها

للمرابين والمقامرين والقوادين والخمارين يغتالون ثروتها، ويجنون على دينها

وعرضها وصحتها، وجعل أصحاب الجرائد وغيرهم من المتصدين والمتصدرين

للأمور العامة يجاهدون الحكومة والاحتلال المسيطر عليها، وقد ترك للأمة حريتها

تعمل ما تشاء فلم تعمل شيئًا يذكر، ولماذا؟ لأن الزعماء شغلوها بفتنة السلطة عن

نفسها، حتى إنهم كانوا يعدون من يجب أن يكون همّ الأمة الأكبر في ترقية نفسها

بالتعليم والتربية والثروة خائنًا للأمة خادمًا للاحتلال؛ لأن الواجب عندهم

قبل كل شيء هو إزالة الاحتلال ثم إصلاح الأمة بالحكومة المستقلة.

مقاومة الاحتلال بالسهل الممكن وهو الكلام طبيعي لا اعتراض عليه،

والانتقاد على الحكومة - والحرية واسعة - طبيعي لا بد منه، وإنما المنتقد هو جعل

المسلمين همهم كله في ذلك، وإهمالهم أمر تربية الأمة وتكوينها، وقد سلم من هذا

الانتقاد القبط، فكوّنوا أنفسهم حتى صاروا على قلتهم يقولون (الأمة القبطية) بحق،

وإنما أخطأوا أخيرًا بما نازعوا المسلمين في شكل الحكومة وتصريحهم بأنها غير

إسلامية.

الحق الواقع أن جمهور المسلمين يرون أن حكومة مصر إسلامية وشعورهم

في هذا رقيق جدًّا، يجرحه القول اللطيف؛ ولهذا كان لورد كرومر وهو ذلك

الشجاع الجبار، يتحامى أن يلمس أي شيء له علاقة بالدين، وهذه هي سنة

السياسة عند الفحول المقرمين من أهلها، وعليها جرى الكثيرون في إبقاء بعض أمراء

المسلمين في البلاد التي ملك الإفرنج أمرها كله؛ كسلاطين جزائر جاوه

وباي تونس وبعض النواب في الهند؛ لتتوهم العامة أن حكامها من أبناء دينها.

هذا هو شعور الجماهير، وإني لأعرف من المسلمين من يرى أن الخير

للمسلمين أن تعلن هذه الحكومة رسميًّا أنها غير إسلامية، وأن تترك للمسلمين جميع

شؤونهم الملية يديرونها بأنفسهم كما تركت مثل ذلك للقبط وغيرهم؛ كالمحاكم

الشرعية والأوقاف والمعاهد الدينية كلها.

يرى هؤلاء أن هذا الإعلان إذا حصل، يذهب بغرور المسلمين بهذه الحكومة

التي لا حظّ لهم من عنايتها، ويبد لهم من بعد اتكالهم استقلالاً واعتمادًا على عملهم،

ومن بعد كسلهم نشاطًا وإقدامًا على ترقية أنفسهم، حتى إذا ما ارتقوا وتكونوا

بتوحيد التربية الملية والتعليم الحر، فصاروا أمة واحدة تكون حكومتهم تابعة للرأي

العام المستقل في الأمة؛ لأن هذه هي عاقبة جميع الأمم المرتقية.

تقول القبط: إن هذه الحكومة مصرية لا إسلامية وحاكمها العام حاكم مدني لا

حاكم ديني، وقد يحتج من يرى هذا بأنها تشرع ما لم يشرعه الإسلام من القوانين،

وتبيح ما لم يبحه من الفسق. وقد يرد عليهم الجمهور بأن خطأ الحكومة في هذه

المسائل كخطأ الأفراد، فكما يخالف أفراد المسلمين هداية دينهم فيزنون ويسكرون،

تخالف حكومتهم هذه الهداية فلا تمنع الزنا والسكر، وحكم الفقه أن المعصية لا

تخرج صاحبها من الإسلام إلا إذا جحد تحريمها، وكان مجمعًا عليه معلومًا من

الدين بالضرورة. وكما تكون الأمة يكون أولياء أمورها لأنهم منها. وقد عرض

لهذه الحكومة من سلطة الأجانب ما جعلها غير مختارة ولا مستقلة في كل شيء

إسلامي، لكن السلطة الأجنبية لم تمح منها كل ما هو إسلامي.

إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تستولي على مال من يموت من

المسلمين عن غير وارث، ولا تستولي على مال من لا وارث له من القبط وغيرهم

من النصارى واليهود؟

إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تتولى هي القضاء الشرعي

الإسلامي في الأحكام الشخصية، وتدع مثل ذلك لغير المسلمين يحكمون فيه بما

يعتقدون؟ إن القاضي الأكبر الذي يتولى السلطة الشرعية العليا من قبل خليفة

المسلمين، يحكم بين الناس بمذهب الخليفة والأمير وكذلك سائر القضاة. ولا يحكم

أحد منهم بين المتخاصمين بأحكام المذهب الذي يتقلدونه، بل جعلوا قضاء مصر

حنفيًّا محضًا كالقضاء في بلاد الترك الحنفية، وأهل مصر شافعية ومالكية إلا

القليل.

إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا لا تترك للمسلمين أوقافهم كما

تركت للقبط وغيرهم أوقافهم، فإذا كان الخديوي كما تقول القبط حاكمًا مدنيًا فقط،

ونسبة المسلمين والقبط إليه من حيث هو حاكم واحدة، فهل يرضون بكل ما يتفرع

على هذا الأصل، ويجعلون له الحق أن يعطي من أوقاف القبط للمنافع المشتركة

(كالجامعة المصرية) كما يعطي من أوقاف المسلمين.

إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تضع هي القوانين للمعاهد الدينية

التعليمية كالأزهر وغيره من جوامع العلم الديني، وتولي هي المشايخ عليه ومشايخ

المذاهب، وترفع بعضه في الرتب العلمية الدينية على بعض. ولماذا تولي أئمة

الصلاة وخطباء الجمعة، ولا ترى لها مثل هذا الحق في معاهد الديانة النصرانية

من الأديار والكنائس وقسوسها ورهبانها وسائر رجال دينها، وإنما تكتفي ببعض

الرسوم الدالة على أن هذه الديانة من الديانات التي أقرتها الحكومة في بلادها، ولها

عليها حق الحماية وحفظ الحرية الدينية. وليس لكل أهل دين هذا الحق في كل

حكومة، فالبابية ليس لهم حقوق دينية في بلاد الدولة العثمانية كالنصارى مثلاً.

إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تترك العمل في الأعياد الدينية

الإسلامية، وتحتفل بها احتفالاً رسميًّا كما تحتفل بالمولد النبوي الشريف دون أعياد

القبط وغيرهم، ودون مولد سيدنا عيسى عليه السلام، ومثل ذلك الاحتفال بمحمل

الحج وكسوة الكعبة المعظمة.

لست أعني بهذه الأمثلة والشواهد أنها كلها من الفرائض أو السنن في أصل

الإٍسلام، أو من الأحكام التي فرضها الدين على الحكام، فالصحابة والتابعون

والأئمة المجتهدون لم يحتفلوا بذكرى المولد ولا المعراج، كما تحتفل الحكومات

الإسلامية الآن، وإنما أعني أن هذه الخصائص من آثار كون الحكومة إسلامية.

تريد القبط أن تمحو هذه الخصائص، ومن وسائلها على ذلك طلب ترك

العمل في يوم الأحد، وطلب جعل أموال الحكومة المصرية شرعًا بينهم وبين

المسلمين، لا يتفق شيء منها في مصلحة إسلامية إلا ويتفق مثله في مصلحة قبطية،

وهذا أصل عام، يتفرع منه إذا قبل محو جميع خصائص المسلمين في هذه

الحكومة. وتحتج القبط على حقيقة هذا الطلب بأن هذه الحكومة مصرية لا إسلامية،

فهذا هو الأصل عندها، فإذا قبلته الحكومة ترتب عليها ما طلبوا أو أكثر مما

طلبوا من الفروع.

وإذا محصنا المسألة وبينا حقيقتها ترى أن المطلوب هو إخراج هذه الحكومة

عن كونها إسلامية بإزالة كل اختصاص للمسلمين فيها، ولكن أبوا أن يعترفوا بهذا

الأصل ويطلبوا هدمه، ورجحوا أن يهدم بهدم ما بني عليه. وهذا من الدهاء والحكمة

؛ لأن طلب إبطال الفروع أخف على النفوس من طلب إبطال الأصول، فإنه من قبيل

الدعوى بالدليل، ولأن من اعترف بالأصل لزمه الاعتراف بالفروع. فما جروا عليه

هو الأقوى والأنفع لهم، وهو أشد على المسلمين في باطنه وحقيقته، وأخف في

ظاهره وصورته.

إن الدولة العثمانية أمّ الحكومة المصرية واقفة أمام مثل هذه المسألة في بلادها،

فقد قام النصارى بعد الدستور يطالبون بنحو ما تطالب به القبط. ولكنهم لا

يزالون يخفون أكثر مما يظهرون، وليس موضوع كلامي إبداء رأيي أو ميلي في

تخطئة هذا أو ذاك ولا تصويبه، وإنما رأيت الأمر غمة على المسلمين والنصارى

كافة، وما رأيت أحدًا يتجرأ على بيان الواقع فأحببت أن أبينه كما هو لا كما يجب

أن يكون.

الواقع أن الحكومة العثمانية حكومة إسلامية قبل الدستور وبعده، وأن الحكومة

المصرية مثلها وتابعة لها في كونها إسلامية، وإنما تختلف في شيء واحد وهو أنها

مستقلة في إدارتها الداخلية بعهد (فرمان) من السلاطين. وأن الاحتلال الأجنبي

مسيطر عليها.

وقد صرّح القانون الأساسي للدولة بأن دينها الرسمي هو الإسلام، وأن

سلطانها هو خليفة المسلمين. والدين في حكومتها أظهر منه في الحكومة المصرية

التي هي تحت سيادتها. فإن شيخ الإسلام هنالك هو العضو الأول في مجلس

النظار وباب المشيخة الإسلامية من أكبر نظارتها. وإذا تناقش مجلس الأمة من

المبعوثين أو الأعيان في مسألة، وقال أحد منهم: إنها مخالفة للدين؛ لا يستطيع أحد

أن يقول: لا ضرر في ذلك، بل يدفعون ذلك بعدم التسليم له، فلو كان جميع

المبعوثين من المسلمين عالمين بالشرع الإسلامي، وأرادوا أن يطبقوا جميع

القوانين على أحكامها لفعلوا بلا معارض.

هذا هو الواقع هنا وهناك، وهو يثقل على القبط وسائر النصارى، وإن كان

إنجيلهم يأمرهم أن يخضعوا لكل حاكم، وأن يعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله،

ويفخرون بأن دينهم فصل بذلك بين الدين والحكومة، ولكنه لا يثقل على اليهود

الجامع كتابهم بين الدين والحكومة، بل يكتفي هؤلاء من الحكومة بأن تمنحهم

الحرية في دينهم وكسبهم، وقد وجدوا من هذه الحرية في بلاد المسلمين أيام قوتهم

وأيام ضعفهم ما لم يجدوه في بلاد أخرى في الحالتين.

النصارى أحرص الناس على السلطة والحكم، وللتربية الإفرنجية في نفوسهم

تأثير عظيم في ذلك، فهم لا يرضون من الحكومتين العثمانية والمصرية تمام الرضى

إلا بالانسلاخ التام من الإسلامية، ولكن هذا الانسلاخ مما لا يستطاع إلا بالتدريج

البطيء في الزمن الطويل، فإن الأشخاص والأقوام والحكومات تتكون كطبقات

الأرض بفعل الزمن الطويل، وما كان كذلك لا يمكن تغييره دفعة واحدة كما قلنا،

ولهذا بينت من قبل أن القبط قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، ومنعهم

بغضهم للعرب أن يهتدوا فيه بحكمة شاعرهم التي سيرها مثلاً وهي:

قد يدرك المتأني بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزلل

قلت: هذا لأن ما يطلبونه هم وإخوانهم من سلخ الحكومتين من الإسلامية لا

يمكن أن يحصل إلا بالتدريج وبموافقة المسلمين لهم عليه. وقد وجد من المسلمين

الجغرافيين (أي الذين يعدون من المسلمين في إحصاء الجغرافية، وإن لم يعرفوا

ما هو الإسلام) من يرون هذا الرأي، ويسعون هذا السعي بالدعوة إلى حل

الرابطة الإسلامية، والاستعاضة عنها بالرابطة الوطنية أو الجنسية.

وقد صار لأصحاب هذا الرأي أحزاب وزعماء يقودون المسلمين إلى حيث

يجهلون، وترك رجال الدين زعامة الأمة وقيادتها لهم، وهم يعلمون أن منهم الملحد

ومنهم الفاسق الذي يشرب الخمر ويزني ويلوط، ومنهم الذي يحل الربا، وأمثال

هؤلاء الزعماء أحرص على سلخ الحكومة من الدين من النصارى؛ لأنه يتعذر عليهم

أن يجمعوا بين شهواتهم وأهوائهم والزعامة في قومهم وبين الحكومة الإسلامية.

لو صبرت القبط والنصارى في البلاد العثمانية لكفاهم هؤلاء المسلمون

الجغرافيون الأمر، كما بينته من قبل، ألم يروا أنه لا يوجد مشروع إسلامي إلا

ويكونون هم المقاومين له؛ لأنهم يخشون قوة الدين على زعامتهم ووطنيتهم، وإن

كان من قوم لا عناية لهم بالزعامة، ولا يحبون أن يقربوا من نار السياسة، ولكنهم

إذ لم يصبروا، يخشى أن يجيء الأمر على ضد ما طلبوا.

يحسن أن يقنعوا الآن بما لهم في الحكومتين من الحرية الواسعة، وجواز

مشاركة المسلمين في أكثر أعمال الحكومة، أو كل ما لا يختص بالدين منها،

والقبط أجدر بهذه القناعة من غيرهم؛ لأن أكثر أعمال الحكومة الخديوية في أيديهم

وليتدبروا حال الحكومات الأوربية العريقة في الحكومة النيابية، كيف لا تزال على

ندرة المخالفين لشعوبها في دينها تفضل مذهب الجمهور والحكومة على غيره،

حتى إن فرنسا وهي الجمهورية التي صرحت بأنه لا دين لحكومتها، لا يمكن أن

تجعل من اليهود المالكين على أزمة القوة المالية فيها قوادًا للجيش ولا للأساطيل ولا

رؤساء للجمهورية، دع معامتلها لمسلمي الجزائر وتونس.

إن لتصريح القبط وغيرهم بهذه المسألة عواقب تتوقع؛ ولا سيما إذا أجيبوا

إليها:

(منها) تنبيه غيرة المسلمين الغافلين إلى وجوب إقامة حكومتهم لشريعتهم،

ولا يمكن للحكومة العاقلة أن تخالف رغبة الجمهور العظيم من رعيتها إلى رغبة

النزر اليسير ولو فيما ترغب هي فيه.

(ومنها) تصدي الدولة العلية للمداخلة في الأمر باسم الخلافة والسيادة، إذا

أجابت الحكومة بعض المطالب تفريعًا على الأصل الذي تقرره القبط، وهو أنها

غير إسلامية.

وقد سمعنا هذه الأيام صوت مجلس المبعوثين في الآستانة يبحث عن

القاضي الأكبر والقضاء في مصر، ويطالب بالمحافظة على الشرع فيها، وعهد

إلى شيخ الإسلام بالبحث عن ذلك وإيضاح ما يقف عليه للمجلس، وما نظن أن

الحكومة الإنكليزية تحب فتح هذا الباب في هذا الوقت.

(ومنها) أن المسلمين في جميع الأقطار يعدون مصر باب الحرمين

الشريفين ومعهد علوم الدين، فإذا علموا أن حكومتها خرجت عن كونها إسلامية،

يألمون بالطبع، وتتفرج مسافة الخلف بينهم وبين النصارى، وذلك لا يرضى به

محب للإنسانية.

(ومنها) أن الإنكليز يحسبون لسخط رعاياهم المسلمين في الهند وغيرها

حسابًا إذا هم وافقوا القبط على ذلك جهرًا، والمسلمون أشد أهل الهند إخلاصًا لهم

في هذا الوقت.

(ومنها) أن هذا يذهب بكل أمل المسلمين في هذه الحكومة، فيكون علة

لرجوع المسلمين إلى استعدادهم الذاتي واعتمادهم على أنفسهم، وحينئذ يخشى أن

تخسر القبط منهم أكثر مما تربح من الحكومة، وأن يعود الأمر إلى نصابه بقوة

الاتحاد التي فقدها المسلمون باتكالهم على حكومتهم.

(ومنها) أن القبط ترجح على المسلمين رجحانًا ظاهرًا، يخشى أن يترتب

عليه مع تعصب بعضهم لبعض فتن كثيرة، وهذا مما لا ترضى به حكومة في

الدنيا ولا يعقل أن يرضى به الإنكليز.

وصفوة القول أن فتح باب هذه المسألة كان من الخطأ الذي يضر القبط دون

المسلمين، فإنه أيقظ هؤلاء، فإذا استمروا على يقظتهم كان فيه الخير العظيم لهم،

وإذا عادوا إلى غفلتهم كان ضرره على القبط تأخير مطالبهم، وبعدما كان قريبًا

منها عنهم.

نعم.. إن القبط يستفيدون من هذه الحركة اكتناه استعداد المسلمين، فإذا فاز

المؤتمر المصري اضطروا إلى معاملة المسلمين معاملة جديدة، ورضوا أن يكونوا

منهم مكان الأخ الصغير من الأخ الكبير الذي يكون رئيس العشيرة أو بما دون ذلك،

وإذا خاب المؤتمر بسعي المفرقين من المسلمين، علموا أن السيادة في هذه

البلاد ستكون لهم ولو بعد حين.

وسيكون المؤتمر المصري موضع النبذة الثامنة من مقالنا هذا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 279

الكاتب: محمد رشيد رضا

النبذة الثامنة

المؤتمر المصري

إن بركات هذا المؤتمر قد سبقت وجوده فإن القبط لما علموا بالعزم عليه

اضطروا إلى سلوك سبيل الأدب في التعبير، وتنكب السبيل التي سار عليها كتابهم

في الجرائد، وهي سبيل الغميزة والتعيير، ولكنهم لم يرجعوا عن مقصد من

مقاصدهم، وأهمها إنكار كون حكومة مصر إسلامية، وادعاء أنهم أعلى كفاءة من

المسلمين، وأنهم أخذوا معظم وظائف الحكومة بحق الكفاءة، ويطلبون ما يطلبون

من سائرها بحق الكفاءة.

غرهم اتحادهم وتخاذل المسلمين، وطعن بعض أفرادهم وأحزابهم ببعض ولا

سيما بالنابغين منهم في الحكومة، فادعوا ما هو بديهي البطلان في مسألة الكفاءة

الشخصية، وما يكاد يكون حقًّا ظاهرًا في كفاءة العصبية الملية لولا أن انبرى

أولئك الأكفاء الفضلاء إلى تأليف هذا المؤتمر الإسلامي المصري، وكل ما هو

مصري فهو إسلامي إذا عرف المسلمون أنفسهم، وتعاونوا على القيام بمصالح

قطرهم؛ لأن غيرهم قليل، فيكون بالضرورة مدغمًا فيهم، وليس له وجود مدني

خاص بدونهم، ولكن وجودهم المدني وقد اجتمعوا وتعاونوا لا يتوقف على وجود

غيرهم.

لولا غرور القبط باتحادهم، وتخاذل المسلمين وتفرقهم لما طلبوا الرياسة

الإدارية بدعوى الكفاءة. وكيف تعرف كفاءة المرء في أمر ليس له فيه عمل، ولم

تسبق له فيه تجربة، ومن ذا الذي يشهد لهم بهذه الكفاءة وشهادة المرء لنفسه باطلة

ولم يشهد بها المسلمون ولا المحتلون وهم أبناء دينهم، فإذا كانوا يعتدون بشهادة

أولياء الأمور فليتركوا الأمر إليهم، وإلا فليأتوا بشهدائهم إن كانوا صادقين.

أما أنا فأقول: إن هذا المؤتمر هو الذي يشهد لهم أو عليهم. ولا أعني

بشهادته ما يأتي به خطباؤه من البينات والحجج فقط، وإنما أعني شهادة الحال دون

شهادة المقال، فإن لسان المقال قد يكذب وقد يختلب لب السامع بالشعريات المتخيلة،

فيبرزها في صور الحقائق المقررة، كما فعل خطباء القبط في مؤتمرهم. وأما

لسان الحال فهو الصدوق الذي لا يعرف الكذب، والمحق الذي لا يأتيه الباطل

فنجاح المؤتمر المصري بالثبات والنظام والعدل والإنصاف والاتحاد والتعاون هو

الذي يشهد للمسلمين على القبط، وشهادته لا تكون بذلك إلا حقًّا؛ لأن تلك الصفات

هي روح الحق.

أبطأ مسلمو مصر في هذا المؤتمر، كما أبطأ إخوانهم مسلمو الهند في مثله

من قبل، سبق وثنيو الهند مسلميها في عقد المؤتمر السنوي والجمعية الملية،

والمسلمون هنالك أقل من الوثنيين عددًا، وسبق قبط مصر مسلميها في إنشاء

المجلس الملي وفي عقد مؤتمر قبطي، والمسلمون في مصر هم الأكثرون عددًا،

فما هو سبب ذلك، ههنا وهنالك.

كان المسلمون هم أصحاب العزة والسلطان الغالب في الهند كمصر، فعاش

الفريقان الزمن الطويل بعد دخول الأجانب في بلادهم، مغرورين بسابق عزهم

وسلطانهم، ولم يشعروا بحاجتهم إلى حياة اجتماعية جديدة في هذا العصر الجديد

كما شعر الهندوس هناك والقبط هنا لعدم غرورهما، وإنما استيقظ مسلمو الهند قبل

مسلمي مصر؛ لأن الغرور بالحكومة الإسلامية قد زال من نفوسهم من قبل، وإن

أبقت لهم إنكلترة بعض النواب الأمراء كالتماثيل الأثرية أو المومياء في متاحف

العاديّات، وبقي مسلمو مصر مغرورين متكلين على حكومتهم مشغولين بسلطة

الاحتلال المسيطرة عليها، حتى زلزلت القبط هذا الغرور باتحادها وتكافلها، وفغر

أفواهها لابتلاع الحكومة كلها، كما أيقظ مسلمي الهند اتحاد الهندوس وتكافلهم

وتقدمهم عليهم بعد أن كانوا دونهم، فليس لقلة المسلمين النسبية في الهند ولا لكثرتهم

في مصر دخل في هذه المسألة الاجتماعية، وإنما هي فتنة السياسة والغرور بشكل

الحكومة، قد أذهلا الأمة عن نفسها، وصرفاها عن استعمال مواهبها، حتى كادت

تفقد نفسها ومواهبها.

إن الأمم الأوربية التي يجب أن تعتبر بحالها هي التي أصلحت حكوماتها،

ولم تكن حكوماتها هي التي أصلحتها، فإذا ارتقت الأمة ترتقي الحكومة بالضرورة،

وقد قال السيد الأفغاني الحكيم: العاقل لا يُظلم ولا سيما إذا كان أمة.

يجب على زعماء الأمم أن يوجهوها إلى قواها الذاتية، وثروتها الطبيعية،

وأن ينموا هذه القوى والثروة، حتى تكون مصدر سعادة الأمة، وأن يحولوا دون

افتتان العامة بالسياسة، والاشتغال بأمر الحكومة، فإن ذلك يشغلها عما تحسنه

وتقدر عليه بما لا تحسنه ولا قبل لها به، وقد ورد في الحديث الشريف: (اعملوا

فكل ميسر لما خلق له) رواه الشيخان في صحيحيهما.

يعني أنه ينبغي للإنسان أن يعمل ويشتغل بما يميل إليه استعداده، فإنه هو

الذي يرجى أن يتقنه، ومن حكمة الله في اختلاف الاستعداد أن يتقن مجموع

البشر جميع الأعمال، فمسألة الحكومة والسياسة فتنة عظيمة في كل الشعوب ولا

سيما في دور الانقلاب الاجتماعي والانقلاب السياسي.

إن للأمة حقوقًا على العلماء والكتاب والأغنياء الذين يهتمون بالأمور العامة

ويتصدون لها. منها خدمة مصلحتها الدينية والأدبية، ومنها خدمة مصلحتها

الاجتماعية، ومنها خدمة مصلحتها الاقتصادية، فإذا حصروا عملهم في السياسة أو

جعلوه كله باسم السياسة أضاعوا عليها هذه المصالح والمنافع التي لا قوام لها ولا

بقاء إلا بها، ولا سيما في مثل هذه البلاد التي ليس لها من أمر سياسة نفسها إلا

الكلام بقدر ما تسمح به حرية الحكومة. وإني أعتقد أن الأمة لا ترتقي إذا كان همها

كلها موجهًا إلى شيء واحد، وناهيكم إذا كان ذلك الشيء هو السياسة التي لا يشتغل

بها في كل الأمم إلا القليلون، ولا يحسنها ممن يشتغل بها إلا الأقلون.

أمرنا الكتاب العزيز أن نسير في الأرض ونعتبر بأحوال الأمم، فإذا نحن

بلونا أخبار الشعوب الغربية وسبرنا غور ترقيهم، نرى أنهم ما وصلوا إلى ما

وصلوا إليه من العزة والثروة إلا باهتمام النابغين منهم بترقية الأمة، والاستعانة

على ذلك بالجمعيات والشركات وتوزيع الأعمال بحيث يشتغل بكل نوع منها

طائفة لا تشتغل بغيرها حتى تحسنها.

إذا اختبرنا حالهم في التربية وخدمة الدين نظن أنه لا هم لهم من الحياة غير

دينهم، ذلك بأن لهم جمعيات دينية كثيرة قد تبرعوا لها بالأموال، ووقفوا لها

الأوقاف حتى صارت تملك الملايين من الجنيهات، وقد عمت التربية الدينية عندهم

ثم فاض طوفانها على جميع شعوب الأرض، فأنشأوا فيها المدارس والملاجئ

والمستشفيات، وطفقوا يبثون فيها دينهم وينشرون كتبهم مترجمة بجميع اللغات،

وإن الفقراء منهم ليساعدون هذه الجمعيات على قدر حالهم، حتى إن منهم من يحرم

نفسه من شرب الشاي أو من سكره أو من اللحم شهرًا أو شهورًا أو سنة، ويجعل

ما كان ينفقه في ذلك للجمعيات الدينية، كما يعلم ذلك من كتبهم وجرائدهم.

أذكر مثالاً صغيرًا من ذلك وقع في هذه البلاد: كتب قسيس إنكليزي يقيم في

شبين الكوم في جريدة دينية؛ أنه يريد أن يطوف القرى في الأرياف للتبشير

بالإنجيل، وأنه يحتاج إلى دراجة (بيسكلت) لذلك ولا يملكها. فما لبث أن أمطرت

عليه بلاده الدراجات الجيدة، حتى صار بيته مخزنًا لها لا يكاد يسعها، وتبع هذا

من الدراهم والهدايا ما لا حاجة بنا إلى عده.

وإذا دققنا النظر في أعمالهم المالية نظن أنه لا هم لهم من الدنيا إلا المال

والاحتيال على جمعه، وتصريف أمور العالم كله به، وناهيكم بمصنوعاتهم التي

يعيش العالم كله بها، ولا تكاد تقع عين أحد منا إلا عليها.

وإذا بحثنا في العلوم والفنون كل منها على حدته، فإنه يسبق على أذهاننا عند

الوقوف على عنايتهم بكل علم وحده أنهم لم يشتغلوا بغيره، ولا يحفلون إلا ببلوغ

الغاية منه، حتى إنهم جعلوا لكل فرع من فروع العلم الواحد جمعيات خاصة لأجل

إتقانه.

فإذا أردنا الاعتبار بحالهم مع الاستضاءة بنور العقل، فعلينا أن ننظر في

حاجات أمتنا ومصالحها العامة، ونختص بكل منها طائفة تشتغل بها دون غيرها؛

لأن إتقان العمل الذي هو سلم الترقي لا يكون إلا بذلك.

عندنا جمعيات خيرية وتعليمية ودينية ونقابات مالية وزراعية وشركات

تجارية وصناعية، وتألفت عندنا مجالس المديريات لأجل تعميم التعليم، وهذه

المصالح كلها لا تزال ضعيفة ونفعها محصورًا في دائرة ضيقة، فهي الآن

كالأعضاء المتفرقة يجب اتصالها؛ ليكون عمل كل منها متممًا لعمل الآخر، أو

كالشرايين المنفصلة يجب اتصالها بالقلب لتستمد منه وتمده، أو كالأسلاك البرقية

التي يصل كل منها بين بلدين أو أكثر من المملكة، ولا تتصل بالمركز العام الذي

يصل بعضها ببعض، وما دامت مصالحنا متفرقة على هذا النحو لا نكون أمة

متحدة، فيجب أن يكون لجميع مصالح الأمة العامة سمط واحد تنتظم فيه حباتها

ويزاد عليها، حتى تكون عقدًا كاملاً، يجب أن تتصل هذه الأعضاء العاملة فتكون

جسمًا واحدًا، يعمل كل عضو منها عمله الخاص به؛ لأجل منفعة سائر الأعضاء.

فالسمط الذي نحتاج إليه لتكوين عقدنا الاجتماعي، بل الدماغ أو القلب الذي

نحتاج إليه ليمد جميع أعضاء الأمة بالحياة هو هذا المؤتمر.

ما سرني شيء في مصر كما سرني تأليف هذا المؤتمر، وإنما يتم السرور-

إن شاء الله تعالى - بنجاحه ودوامه، وإني أقترح عليه ما يغلب على ظني أن

غيري يقترحه، والحق يزيد قيمته ويعلو شرفه بكثرة طلابه، ولكن لا ينقص شرفه

بقلتهم، فإن الحق كالجوهر الخالص، شرفه ذاتي له، وإنما يعلو ويغلو بمعرفة

الناس لهذا الشرف وتنافسهم فيه أي: بأمر عارض غير ذاتي.

كفاني قانون المؤتمر أمر اقتراح سلبي لابد منه، ولا يرجى بقاء المؤتمر

ونفعه إلا به، وهو عدم الاشتغال بالسياسة؛ فالسياسة ما دخلت في شيء إلا أفسدته

كما قال الأستاذ الإمام، فيجب أن تترك لنفسها ويفوض أمرها على أحزابها، وأن

يشتغل المؤتمر بما دونها من مصالح الأمة فيجمع متفرقها، ويكمل ناقصها، ويوحد

وجهتها؛ ليكون عمل الكل موجهًا إلى غاية واحدة.

للمؤتمر عمل عارض مؤقت وأعمال دائمة مقصودة لذاتها، فالعمل العارض

الموقت هو تمحيص مطالب المؤتمر القبطي، وبيان حقه من باطله.

يقول الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) الآية. ولا أحسن من بيان الوقائع وإثبات الحق بالإحصاء

الصحيح، وبذلك يثبت المؤتمر أنهم طلبوا من أعمال الحكومة ما لو أعطوه

لأضحت الحكومة قبطية خالصة، ويسهل على المؤتمر أن يثبت ما يعترف به

بعض القبط من تعصب رؤسائهم لهم في جميع المصالح، وتقديمهم على المسلمين،

ومن كان هذا شأنهم فإسناد الوظائف الرئيسية إليهم يخشى أن يفضي إلى ما لا تحمد

عقباه من التعصب والغلو في الخلاف، حيث تكون الحكومة كلها في أيديهم.

وليس فيما قاله القبط في مؤتمرهم وما يكررونه كثيرًا في جرائدهم أمر ذو

بال إلا تصريحهم بأن هذه البلاد ليست إسلامية وحكومتها ليست حكومة إسلامية.

إن القبط على احتراسهم في مؤتمرهم وتحاميهم الألفاظ التي تكبر المؤاخذة

عليها، صرحوا بأنه لا يقول: إن هذه البلاد إسلامية، للمسلمين فيها ما ليس

لغيرهم إلا أفراد لا يجاوزون عدد الأصابع، صرح بذلك خطيبهم توفيق بك دوس

المحامي، ولجريدتيهم كلام كثير في ذلك، أوضح مما قاله خطيب مؤتمرهم. وعلى

هذا بنوا وجوب تعليم الدين المسيحي في مدارس الحكومة وبطالة يوم الأحد.

فيجب على المؤتمر أن يبين ما يترتب على هذه الدعوى، وهو أنه إذا كانت

الحكومة الخديوية تعترف من نفسها أنها غير إسلامية أو يكرهها المحتلون على ذلك

فإن المسلمين لا يرضون أن تكون محاكمهم الشرعية تابعة لها، ولا أوقافهم

ومدارسهم الدينية تحت إدارتها، ولا وضع تركات من يموت منهم عن غير وارث

في خزينتها، بل يطلبون حينئذ أن يستقلوا بجميع أمورهم الدينية كالقبط وغيرهم.

فأما الحكومة فلا تعترف بهذا، وأما المحتلون فلا يتحملون تبعته.

لا أحب أن أطيل في المسألة القبطية أصولها وفروعها، وإنما كتبت ما كتبته

من قبل لتنبيه المسلمين إلى ما هم في أشد الحاجة إليه، وهو أن يعرفوا أنفسهم ممن

معهم، ويعرفوا ما لهم وما عليهم، وأنا واثق بأنه يسهل على المؤتمر المصري أن

يبين للمنصفين من شعوب المدنية وغيرهم أن القبط غابنون لا مغبونون، وأن

المسلمين مغلوبون بتساهلهم لا غالبون، وأن الخير للقبط أن يقنعوا بما هم فيه من

النعم، وأن لا يطلبوا شيئًا باسم القبط، ولا ينازعوا في صبغة الحكومة الإسلامية،

وأن يعودوا عما تجرءوا عليه من تهمة المسلمين بالتعصب الديني عليهم لنصرانيتهم

ومن تحريض أوربة عليهم، وعن اللهجة البذيئة التي سنتها لهم جرائدهم.

كل هذا مما يسهل على المؤتمر بالبراهين، ولكن القبط لا تذعن له إلا إذا

رأت من المسلمين الحزم، ومجاراتها في توثيق الرابطة الملية والتعاون الديني على

الترقي. فإذا هم عرفوا حدهم واعترفوا بحق غيرهم، فإني أحب للمسلمين أن

يستوصوا بهم خيرًا، ويعطوهم أكثر مما يستحقون، كما كانوا من قبل يفعلون،

ولا أحب للمسلمين أن يرجعوا بصفقة المغبون الذي لا هو محمود ولا هو مأجور.

***

(أعمال المؤتمر الدائمة)

أما أعمال المؤتمر الدائمة فكثيرة، لا يمكن شرحها في هذا المقال، وإنما

نشير فيما نقترحه في خاتمته إلى أصولها وقواعدها.

وأما فائدته فأكبرها عندي ما أشرت إليه آنفًا؛ من توحيد المصالح والأعمال

العامة التي تقوم بها الأمة دون الحكومة ومساعدتها عليها وتوجيهها إلى المقصد

الصحيح الذي ترتقي به الأمة في معارج الكمال المادي والمعنوي، ويدور ذلك كله

على أربعة أقطاب

(1)

التربية الملية والتعليم.

(2)

إرشاد العوام إلى تحسين معيشتهم في آدابهم وأعمالهم وصحتهم

ومعاملتهم لمن يعيش معهم من موافق ومخالف.

(3)

حفظ ثروة الأمة وتنميتها بالوسائل الحديثة، والتوقي من الغوائل التي

تغتالها.

(4)

مواساة العاجزين والبائسين وإعانة المنكوبين والغارمين.

سيشرح خطباء المؤتمر هذه المقاصد كلها أو بعضها، ويبينون وجه الحاجة

على ما يتكلمون فيه، وما ينبغي أن يقرره المؤتمر ويقوم به، وإنما يقرر المؤتمر

المطالب العامة بالإجمال. وأما التفصيل الذي يترتب عليه التنفيذ، فيتوقف على

تأليف لجان تختص كل لجنة بعمل من الأعمال، ويكون روح الأعمال كلها تكوين

الأمة وتوحيد وجهتها في حياتها الاجتماعية.

فإذا بحثنا في مقصد التربية والتعليم، نرى أن تربية أبنائنا وبناتنا مفرقة

لأجزاء أمتنا، ممزقة لأعضائها، حائلة دون أن نكون أمة متحدة، لا مكونة للأمة.

أي أن التربية والتعليم اللذين نتنافس فيهما، ونبذل النفيس لأجلهما، ونظن أن

فيهما عزتنا وارتقاءنا، هما حائلان دون كل ما نطلبه من وحدة الأمة وارتقائها.

***

المدارس والتربية والتعليم

ما هو المقصد العام من المدارس، ومن يدير هذه المدارس ويحقق لنا ما

نقصد منها، وهل الذين تخرجوا في هذه المدارس متحدون في أفكارهم ومقاصدهم،

متوجهون إلى توحيد الأمة وجعلها مثلهم.

لا بقاء للأمة إلا بالمحافظة على عقائدها وآدابها وشعائرها الدينية وأخلاقها

وعاداتها ولغتها، وهي مقوماتها ومشخصاتها التي تكونت بها بالوارثة وفعل القرون

كما تتكون المعادن في الأرض، فإذا طرأ على هذه المقومات والمشخصات بفعل

الزمن ما يعيبها ويشوهها، ويجعل الاستفادة منها قليلة، كان الواجب على المربين

والمعلمين أن يزيلوا تلك العيوب كما يزال الصدأ عن الحديد، لا أن يزيلوا الجوهر

نفسه ويضعوا مكانه جوهرًا آخر.

قال صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس معادن فخيارهم في الجاهلية

خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) رواه الشيخان. والأمم معادن كالأفراد، وعمل

المربين فيها كعمل الصنّاع في المعادن، وبعملهم تظهر مزاياها ومنافعها، فمهرة

الصناع يصقلون الحديد الأسود؛ حتى يكون أبيض لامعًا كالمرآة، حتى تفضله

بلونه على الفضة المهملة في المكان الرطب، يتغير لونها ويزول بهاؤها.

كذلك الأمم تظهر محاسنها ومنافعها في زمن دون زمن بالتربية والعلم،

وجوهرها هو جوهرها، لا يتغير في نفسه إلا بزواله وفنائه أو إدخاله في جوهر

آخر، كما يمزج قليل من المائع في غيره، فيغيب عن العين ويزول ذلك الوجود

الخاص به. فقد كان كل من الشعبين الإنكليزي والفرنسي جاهلاً لا مزية في عالم

المدنية ثم تعلما وارتقيا، وبقي كل منهما ممتازًا بمقوماته ومشخصاته، فمنها في

الأول الرصانة والثبات والبطء في التحول عن الشيء ولو قبيحًا، وفي الثاني

الذكاء والخفة وسرعة التحول، ولكل من الخلقين المتضادين منافع ومضار، ولكن

المنافع هي التي تغلب على طور الحياة والارتقاء، والمضار هي التي تغلب في

طور الضعف والانحطاط.

غرضنا من هذا المثل أننا محتاجون إلى تربية تزيل الصدأ الذي طرأ على

جوهر أمتنا حتى يظهر جوهرها نقيًّا ويسهل الانتفاع به، وإلى تعليم نعرف به

طرق استعمال مواهبنا الفطرية وخيرات بلادنا فيما يرقينا ويرفع شأننا، ولكن أمر

تربيتنا وتعليمنا ليس في أيدينا، فلا رأي لسراتنا ولا لأهل العلم والبصيرة منا في

أكثره.

نلقي بناتنا في مدارس الراهبات ومدارس الأمريكان، فهل يتعلمن فيها آداب

ديننا وأحكامه، ويتربين على عبادته وأخلاقه؟ ألا إننا نعلم أنهن لا يتعلمنها ولكن

يتعلمن ما ينفر منها، ويبعد عنها، فيخرجن لا نصرانيات على آداب النصرانية،

ولا مسلمات على الآداب والفضائل الإسلامية، وهل يرجى صلاح بيوت هذا شأن

رباتها؟ أم يرجى أن تكون الأمة المكونة من هذه البيوت أمة متحدة مرتقية؟

عندنا مدارس أهلية ابتدائية للبنات، فهل نجد فيها من الفضيلة وآداب الإسلام

وعباداته ما نفقده في مدارس الإفرنج؟ لا لا.

إن أمثل المدارس مدارس الحكومة ولا غناء فيها، فجميع مدارس البنات في

هذا القطر غير صالحة للتربية التي نحن في أشد الحاجة إليها، ولا يرجى أن توجد

المدارس الصالحة، ونحن في هذه الفوضى بالمصادفة، ولكننا إذا خرجنا بهذا

المؤتمر من هذه الفوضى، فإننا نجد ما نرجو كما نحب؛ لأنه يكون برأي الأمة

وتدبيرها.

إن جميع المدارس المصرية من إفرنجية وأهلية وأميرية غير صالحة للتربية

الملية التي ترتقي بها الأمة بتزكية جوهرها الفطري وحفظ مقوماتها الملية، كل هذه

المدارس تجذب المتعلمين والمتعلمات فيها إلى التفرنج، فتفتنهم بلغة غير لغتهم،

وآداب غير آدابهم، وعادات غير عاداتهم، كما تخفض مقام ملتهم وقومهم في

أنفسهم، وتعلي فيها مقام أقوام آخرين، كلها آلات محللة بل سيوف مقطعة لمقومات

الأمة ومشخصاتها، لا همّ للمتخرجين والمتخرجات فيها إلا أن يجدوا مالاً يبذلونه

للأجانب ثمنًا لما عندهم من الملذات والزينة، بل يبذلون القناطير منه في القمار

والمضاربات، وما لا لذة فيه إلا الهوس والخبل وفنون الجنون.

فعلى المؤتمر أن يتدارك هذا الفساد قبل أن يعم، ويتعذر تداركه بفشوه في كل

الطبقات والإجماع على استحسانه.

تلك إشارة على وجه الحاجة إلى المؤتمر في أحد تلك المقاصد العامة

والأقطاب التي تدور عليها مقاصد الأمة، فقس عليه سائرها.

وجملة القول أن المرجو من المؤتمر أن يكون سلك النظام للأعمال الحرة

التي تقوم بها الأمة من الجمعيات والنقابات والشركات، يوحد وجهتها ويساعد كلاًّ

منها بقدر الطاقة.

ليس المراد من ذلك أن تكون الجمعيات جمعية واحدة، ولا الشركات شركة

واحدة، ولا النقابات كذلك، ولا أن تتغير قوانينها ونظاماتها، ولا أن يكون المؤتمر

مسيطرًا عليها، فإن ذلك ينافي توزيع الأعمال، ومباراة العاملين، ولا ترتقي الأمم

إلا بهذا التوزيع الذي هو وسيلة الإتقان.

وإنما المراد أن هذه المصالح كأعضاء البدن: العينان تبصران، والأذنان

تسمعان، واليدان تعملان، والرجلان تسعيان، وكذلك الأعضاء الباطنة كالمعدة

والكبد تعمل أعمالها، كل هذه الأعمال الاختيارية وغير الاختيارية تجري على

نظام واحد غايته حفظ البدن كله، والقلب يمدها كلها بالدم الذي يعينها على أعمالها،

وبالنظام المقدر، والقدر المعين، والنظام قوام الوجود، ومعيار الأعمال، ووسيلة

الكمال.

_________

ص: 287

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اقتراح صاحب المنار على المؤتمر المصري

بسم الله الرحمن الرحيم

] وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ [[1]

أحيي رجال هذا المؤتمر الكرام الذين هم موضع الرجاء في ترقية أهل هذا

القطر السعيد وإعلاء شأنه، وأكاشفهم بما عندي من الرأي، وإن كنت أظن أن

غيري سبقني إليه كله أو بعضه.

إن هذا المؤتمر هو الذي يمثل حياة مسلمي مصر الاجتماعية ودرجة ارتقائهم

وما يرجى لهم من المزيد، وقد سبقهم إلى مثله مسلمو الهند. وإنما نجاحه بثباته

ودوامه، ولا يثبت ويدوم إلا بما تقرر من جعله بمعزل عن السياسة، وحصر

أعماله في ترقية الأمة بالتربية والتعليم والكسب والاقتصاد والتكافل والتضامن في

المصالح والمرافق. وأما تمحيص مطالب القبط وبيان ما هو الحق في هذه المسألة،

فهو أهون أعمال المؤتمر العارضة.

فأقترح على المؤتمر أن يكون له خمس لجان دائمة، تعمل وتسعى لتحقيق

مقصده العالي:

(الأولى اللجنة الإدارية)

يناط بهذه اللجنة كل ما يتعلق بالنظام والإدارة العامة، ويكون أعضاؤها

مختارين من جميع الأحزاب والطبقات.

* * *

(الثانية لجنة التربية والتعليم)

يناط بهذه اللجنة النظر في التربية الدينية العملية والتعليم في جميع المدارس

الأهلية التي للجمعيات والأفراد، وما كان وسيكون لمجالس المديريات لتوحيد

نظامها وموادها وتوسيع دائرتها، فإنه لا شيء يضر البلاد ويفرق كلمة الأمة

كاختلاف التربية والتعليم، ويتألف أعضاء هذه اللجنة من أعضاء تلك الجمعيات

والمجالس ومن نظار المدارس الشخصية. والجمعيات التعليمية عندنا هي الجمعية

الخيرية الإسلامية، وجمعية العروة الوثقى، وجمعية المساعي المشكورة.

وأقترح أن يكون من أعمال المؤتمر التي تنظر فيها هذه اللجنة أولاًّ ثم تحوله

إلى اللجنة الإدارية، مساعدة الجمعية الخيرية الإسلامية على إنشاء مدرسة كلية

إسلامية للبنات، يتربى فيها البنات على عبادات الإسلام وآدابه وأخلاقه، ويعلم

فيها تدبير المنزل، وكل ما تحتاج إليه ربات البيوت بالعمل، وما يعلي أفكارهن

ونفوسهن من العلوم، فإن البيوت لا تصلح إلا بالتقوى والفضيلة والنظام والعلم

والأدب التي تتحلى بها النساء، ويفضن منها على أولادهن.

* * *

(الثالثة لجنة الوعظ والإرشاد)

تناط بهذه اللجنة العناية بأمر العامة في القطر كله بتعيين وعاظ في كل جهة،

يطوفون البلاد والقرى، يعلمون الناس أمر دينهم، وما لا بد منه من أمر دنياهم؛

كالمحافظة على الصحة والألفة والمودة بينهم وبين من يعيشون معهم على اختلاف

مللهم ونحلهم؛ وكالحذر من المرابين والغاشين والمقامرين والدجالين الذين يأكلون

أموالهم بالباطل، وينفرونهم من البدع والخرافات والعادات الضارة في الاحتفالات

والأفراح والأحزان وغيرها، ومن المعاصي الفاشية في الأرياف كالاعتداء على

الأموال والأعراض والنفس والثمرات والزروع وغير ذلك؛ كشرب المسكر

والحشيش، ويكون أعضاء هذه اللجنة من الأزهريين، ومتخرجي دار العلوم،

وجماعة الدعوة والإرشاد.

* * *

(الرابعة اللجنة المالية الاقتصادية)

يناط بهذه اللجنة النظر في ديون الأهالي، وبيان طرق الإرشاد والمساعدة

على وفائها بقدر الإمكان، وفي حفظ الثروة مما يغتالها بجهل أربابها وسفاهتهم؛

كالربا الفاحش الذي أهلك الفلاحين، وفي ترقية الزراعة والتجارة والصناعة في

البلاد. ويكون أعضاء هذه اللجنة من رجال النقابات الزراعية والشركات المالية

على اختلاف موضوعها، ومن كبار المزارعين والتجار. وأظن أن الكثيرين من

أعضاء المؤتمر يبينون هذه المسألة بالإيضاح الذي ليس وراءه غاية يصل إليها مثلي

* * *

(الخامسة اللجنة الخيرية)

يناط بهذه اللجنة النظر في أحوال العجزة والبائسين المستحقين للإعانة على

ضروريات المعيشة، أو على الكسب، أو التربية والتعليم. وتتألف هذه اللجنة من

بعض أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية، وجمعية الملاجئ العباسية، وجمعية

الإسعاف، وجمعية رعاية الأطفال، ومن غيرهم من أهل الفضيلة والفطنة.

ويكون من أهم أعمالها جمع ما يمكن من مال الزكاة وصدقات التطوع وجلود

الأضاحي وغير ذلك؛ وصرفها في مصارفها الشرعية بلا محاباة.

وإني أعرف من الناس من يحار في البحث عن المستحقين للزكاة الشرعية، فإن

أكثر المستجدين الذين يتكففون الناس في الطرق لا يوثق باستحقاقهم؛ لاتخاذهم

الشحاذة حرفة وكسبًا، فإذا وجدت في المؤتمر لجنة من أهل العدالة والتقوى والعلم

يضعون الزكاة في مصارفها الشرعية، فأهلها يسرون بدفع زكاتهم إليها وتوكيلهم

بصرفها للمستحقين لها. وبقيام المؤتمر بهذه وظهور فائدته للناس بسعيه - يقيم هذا

الركن الإسلامي الذي هدم في هذه البلاد، حتى لم يبق منه إلا أثر دارس، وهو ما

امتاز به الإسلام على جميع الأديان.

أقترح على المؤتمر تأليف هذه اللجان ووضع النظام لأعمالها، وأن يكون هو

الصلة بين الجمعيات والنقابات والشركات والمجالس التي تخدم البلاد، فيمدها

بالرأي والمال، ويستمد منها ما يساعده على توحيد المصلحة وتوجيهها إلى المقصد

من ترقي الأمة المادي والمعنوي مع محافظة كل منها على الاستقلال في العمل،

فتكون كأعضاء الجسم، كل عضو يعمل عمله لمصلحة البدن كله.

ويكون المؤتمر كالقلب الذي يمد كل عضو بالدم النقي الذي يقوى به على

عمله.

وأقترح أن يكون للمؤتمر مركز عام في القاهرة، تجتمع فيه اللجان في

الأوقات التي يعينها النظام في أثناء السنة، وتضع كل لجنة منها تقريرًا ينظر

فيه المؤتمر في وقت انعقاده كل سنة، وينفذ ما يمكن تنفيذه إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الطلاق: 6.

ص: 295

الكاتب: محمد توفيق صدقي

‌كيف خلق الإنسان [*]

بينا في بعض مقالات نشرت في الصحف اليومية أن مذهب داروين؛ وإن

كان من أحسن المذاهب العلمية الآن لتفسير المسائل الطبيعية، إلا أنه لم يبلغ درجة

اليقين، فهو لا يزال ظنيًّا لا قطعيًّا، ويجب على أتباعه أن يعرفوا عنه هذه الحقيقة،

وقد أوردنا عليه فيما نشر بعض احتمالات تقوض أهم أركانه، وتدك أكبر أسس

بنيانه، حتى إن كبيرًا من أعظم أنصاره في الشرق لم يقدر على الرد علينا. وقد

سألني بعض الإخوان قائلاً: إذا كنت تشك في صحة مذهب داروين، فكيف تفسر

لنا علميًّا خلق الإنسان أولاً من طين؟ فأردت أن أجيبه في هذه المقالة على هذا

السؤال. وقد رأيت أن أبدأ بسرد تلك الاحتمالات التي أوردتها على هذا المذهب،

ثم أتبعها بالجواب، فأقول:

أما الاحتمالات فهي:

(1)

إذا قلنا: إن بعض الأعضاء الأثرية في نوع ما من الأنواع كان

مستعملاً في هذا النوع بعينه من قديم الأزمان، ولاختلاف الظروف والأحوال التي

أدت إلى إهمال هذا الاستعمال فيما مضى من الأجيال، ضمرت هذه الأعضاء

وصارت آثارًا للدلالة على أصولها في نفس هذا النوع لا على أنها كانت أعضاء

في نوع غيره، فبماذا يا أنصار هذا المذهب تثبتون تغير الأنواع وانتقالها من نوع

إلى آخر؟ ؟

مثال ذلك عضلات الأذن الظاهرة للإنسان والجسم الصنوبري

(Body Pineal) الذي في مخه، وتقولون عنه: إنه كان عينًا ثالثة في

الحيوانات التي ارتقى عنها الإنسان. فلماذا لا نقول: إن هذه العضلات وتلك

العين الثالثة كانت للإنسان نفسه في أول الأول، خلقت ابتداءً معه لمنفعة لها إذ ذاك،

ولتغير الظروف والأحوال فيما بعد أهمل استعمالها لتلك الأسباب التي تزعمونها،

فضمرت حتى صارت آثارًا دلت على ما كان له في قديم الزمان لا على أنه انتقل من

نوع إلى نوع؟ ومثل ذلك يقال في سائر الحيوانات التي توجد فيها مثل

هذه الأعضاء الضامرة؛ أي أن كثيرًا من الحيوانات كانت لها هذه العين الثالثة ثم

زالت أو ضمرت؛ لعدم الاحتياج إليها وإهمال استعمالها، وكذلك تجدها في

الحيوان المسمى بالإفرنجية هاتريا (Hatteria) ؛ وهو نوع مخصوص من

الأورال (جمع ورل)(Lizards) كانت له هذه العين فأهمل استعمالها، فضمرت

فيه وبقيت إلى الآن مغطاة بالجلد، وبمثل هذا التعليل يمكننا أن نعلل ضمور

الحوض والطرفين السفليين في الحيات؛ أي أن بعض هذه الأعضاء الأثرية

المشاهدة الآن في أنواع الحيوانات كانت في قديم الزمان أعضاء نامية في نفس هذه

الأنواع لا في أنواع غيرها، كانت موجودة قبلها، أما باقي الأعضاء الأخرى

الأثرية فيمكن تعليلها بعلل أخرى كما سيأتي:

(2)

إذا سلمنا أن بعض الأنواع ارتقى عن البعض الآخر، واستدللنا على

ذلك بمثل الأسنان التي تظهر في الفك الأعلى لأجنة الحيتان والحيوانات المجترة،

ثم تذهب وتزول قبل أن تولد، وقلنا: إن ذلك دليل على ارتقائها من نوع غير

نوعها، فبماذا نثبت ارتقاء جميع الأنواع بعضها من بعض؟ مع أن مثل هذا

البرهان لا يوجد إلا في بعض الأنواع دون البعض الآخر؛ أي أننا إذا سلمنا أن

الأنواع كانت أقل مما هي عليه الآن بقليل، فلا يمكننا أن نسلم أنها جميعًا كانت

قليلة جدًّا (أي نحو أربعة أو خمسة مثلاً) كما ذهب إليه داروين أو واحدًا فقط كما

ذهب إليه غيره ممن اتبعه، فإذا سلمنا أن الحمار والحصان من أصل واحد، فلا

نسلم أن الكلب والإنسان كذلك.

ومثال ذلك في اللغات: أننا إذا قلنا: إن بعض الكلمات في بعض اللغات مشتق

من اللغات الأخرى؛ لوجود تشابه في حروفها ومخارجها، فلا يمكننا أن نقول: إن

كل كلمة في أي لغة مشتقة من كلمة أخرى في لغة أخرى قبلها، بل إن كثيرًا من

الكلمات قد وضع في اللغات وضعًا وخلق خلقًا، ولم يكن له سابق في لغة قبله، فكيف

إذًا نثبت أن الإنسان - أو غيره من بعض الأنواع الأخرى - لم يخلق نوعًا مستقلاًّ

عن غيره من الأنواع، وأي برهان صحيح نقيمه على ذلك سوى الظنون والأوهام،

مع ملاحظة أن مثل البرهان السابق (أي ظهور الأسنان بعض أجنة الحيوانات ثم

زوالها) إن صح في بعض الأنواع فلا يصح في نوع الإنسان، ولا في

أكثر الأنواع الأخرى. وإلا فما هي الأعضاء الأثرية التي تثبت ذلك فيه؟ ؟

(3)

لنا أن نقول: إن سنة الله في الخلق هي أن يخلق أجنة الحيوانات

المتماثلة على طريقة واحدة، ثم ينوعها بحسب أنواعها المختلفة؛ أي أن أجنة

بعض الحيوانات المختلفة في نوعها تكون في مبدأ الأمر متشابهة كل الشبه، ثم

تتنوع شيئًا فشيئًا، حتى يختلف بعضها عن بعض، فكما أن جنين الذكر والأنثى

هو في الأصل واحد، ومنه يشتق الذكر والأنثى، فكذلك أجنة كثير من الحيوانات

هي في الأصل واحدة؛ لأنها خلقت في مبدأ الخلق من شيء واحد كما سيأتي

بيانه، ثم اشتقت منها الحيوانات المختلفة. وكما أنه لا يصح أن يقال: إن الذكر

كان أنثى وارتقى لوجود آثار الأنثى فيه، وبالعكس كذلك لا يصح أن يقال: إن

الإنسان كان حيوانًا آخر وارتقى؛ لوجود آثار من الحيوانات الأخرى فيه؛ كالزائدة

الدودية التي هي عبارة عن أعور طويل في الحيوانات الأخرى ذوات الثدي،

وكالأقواس الخيشومية (arches Branchial) في جنين الإنسان التي تقابل

خياشيم الأسماك، فإن هذه الأشياء الأثرية وجدت في الإنسان، كما وجدت آثار الأنثى

في الذكر، وبالعكس لأن الجنين لكل من هذه الحيوانات المختلفة كان أصله واحدًا في

شكله ومادته وخواصه، ثم تنوع فوجدت آثار بعض الحيوانات في البعض الآخر؛

لتشابه أجنتها في مبدأ الأمر ولتكونها على طريقة واحدة ومن مادة واحدة. ومثل ذلك

أيضًا الجلد والعضل والعصب والعظم، فإنها خلقت جميعها من خلايا (بروتوبلاسمية)

واحدة في أصلها وشكلها، ثم تنوعت أثناء نشوئها، وحافظت خلاياها على خواص

الخلايا (البرتوبلاسمية) الأولى وصفاتها بدرجات متفاوتة، بحيث صار بعض هذه

الخواص في بعض هذه الخلايا أصليًّا، وفي البعض الآخر أثريًّا مثل خاصية

الانقباض التي توجد في الخلايا العضلية ظاهرة واضحة وفي غيرها طفيفة غير

خافية، وإن كانت في الخلايا الأصلية متساوية.

ويلحق بهذا الوجه وجه رابع وهو أن تقول:

(4)

إن بعض هذه الآثار يمكن تعليله بأنه من بقايا التكون التدريجي؛ أي

مما يتخلف عنه، وذلك أننا أثناء تكون الجنين نشاهد بعض أشياء توجد ثم تزول أو

تبقى آثارها، ولا فائدة منها بحسب علمنا، ولا يمكن تعليلها بما يعللون به

الأعضاء الأثرية الأخرى. مثال ذلك:

(1)

غشاء الحدقة (membrane Pupillary) فإنه يظهر في الجنين

طامسًا العين ثم يزول قبل أن يولد ببعض شهور، ولا يمكن أن يقال: إنه كان

مستعملاً في حيوانات سابقة، وإلا لكانت عمياء وضاعت فائدة أعينها بوجوده.

(2)

غشاء البكارة؛ فإنه بقية من بقايا التكون التدريجي، وهو منتهى ما

يقولونه عنه. وكذلك.

(3)

الحاجز المهبلي الذي يوجد في بعض النساء، وهو ينشأ من اتحاد

إحدى أنبوبتي ملر (Ducts Mullerian) بالأخرى.

(4)

جفون العينين؛ فإنها تتكون ثم تلتحم ثم تتفتح في الجنين، ولا يعلم

أحد حكمة هذه التقلبات، فكذلك يمكن أن يقال: إن ظهور الشعر في جميع جسم

الجنين الإنساني مثلاً ثم ضموره من أغلبه بالتدريج، هو من هذا القبيل؛ أي أنه لا

يدل على أن الإنسان كان أولاً حيوانًا ذا شعر طويل كغيره من الحيوانات، ولما

ارتقى ضمر شعره.

وما يقوله أنصار داروين في تعليل هذه المسائل الأربعة المذكورة هنا، نقوله

نحن في تعليل وجود الأعضاء المتخلفة عن التكون التدريجي، وهذا أيضًا وجه

آخر في تعليل مثل الزائدة الدودية في الإنسان. وإن اعترفوا بالعجز عن تعليل

بعض هذه المسائل، وأقروا بجهلهم حكم كثير من أعضاء الجسم: كالثيموس

(Thymus) والجسم السباتي (Carotid) والجسم العصعصي (Coccygeal

Body) وغيره، اعترفنا نحن أيضًا بجهلنا حكمة بعض الأعضاء الأثرية، وحينئذ

فلا فرق بين مذهبنا ومذهبهم سوى أنهم أكثر جرأة منا على التهجم على دعوى معرفة

أسرار الكون والاغترار بما عرفوه، وإن كان كل يوم يظهر أنهم فيما يزعمون كاذبون

عاجزون.

وأما كيفية خلق الإنسان؛ فالجواب القطعي عنها لا يعلمه إلا الله. وأما الظني

فيمكننا أن نقول: لا يخفى أن أجنة الحيوانات بعضها يتكون في الرحم والبعض

الآخر خارج الرحم؛ كالتي تتكون في التجويف البطني في الإنسان وغيره، وفي

بيض الطيور وفي مياه البحار: كالقنافذ (hedgehogs or Seaturchins) وغير

ذلك. والذي يظهر فيها كلها أن اللازم للتكوين هو حيوان منوي غالبًا [1] وبويضة

ووسط مغذ، سواء كان ذلك الوسط جدر الرحم، أو غشاء البريتون، أو زلال

البيض، أو مياه البحار، أو غير ذلك.

وعليه فيحتمل أن الله تعالى خلق أولاً حيوانات منوية وبويضات من مادة

واحدة [2] وهما خلايا حيوانية كما خلق الأميبا (Amoeba) وغيرها من الحيوانات

ذات الخلية الواحدة، ولاختلاف الوسط والظروف صارت هذه الحيوانات

المنوية والبويضات مختلفة متنوعة، فمن بعضها خلق الإنسان الأول (آدم وحواء)

ومن البعض الآخر خلقت الحيوانات الأخرى.

وذلك بأن تلقحت البويضة بالحيوان المنوي، ثم التصقت ببعض المواد

البروتوبلاسمية الأولى التي كانت توجد في البحار وعلى شواطئها، ومن هذه المادة

البروتوبلاسمية صارت البويضة تمتص غذاءها كما تمتصه أحيانًا من البريتون في

الحمل خارج الرحم، وصارت تنمو وتكبر الآن في بطون الأمهات، ولما تم نموها

انفجرت وخرج منها الإنسان كما يخرج من الكيس الأمنيوسي. ولعل الله تعالى

ساق له إذ ذاك بعض الحيوانات الأخرى؛ كالدببة المشهورة بهذا الأمر فأرضعته،

أو كان يوجد مواد زلالية مغذية في البحار فصار يشرب منها، أو كان يمتص

عصيرًا يسيل من بعض أشجار قريبه كان عصيرها مغذيًا، أو كان يشرب ماء فيه

حيوانات دقيقة جدًّا فيتغذى بها. وما يقال فيه يقال في الحيوانات الأخرى الشبيهه

به التي يجوز أن يقال في كيفية تغذيتها الأولى أيضًا: إنها وجدت بعض نباتات

طرية هلامية مغذية. فازدردتها في مبدأ نشأتها، حتى كبرت وصار يمكنها أن

تأكل غيرها من النباتات أو الحيوانات الأخرى.

فإن قيل: وكيف يوجد ذكر واحد وأنثى واحدة، مع أنه يحتمل أن الحيوانات

المنوية والبويضات كانت كثيرة. قلت: ذلك هو عين ما يحصل الآن في الإنسان

وغيره، فمع وجود حيوانات منوية تعد بالملايين، وكذلك بويضات في كل جماع،

فلا يتكون منها غالبًا إلا ولد واحد.

وإن قيل: لم لم يخلق الآن حيوانات بهذه الطريقة من جديد، قلت: ولم لم

يتولد الآن من الجمادات أحياء جديدة؟ أليس ذلك لاختلاف حال الزمان وطبيعة

الأرض الآن عما كانت عليه في مبدأ الخليقة؟ أما إذا وجدت تلك الأحوال الأولى،

فلا يبعد أن يتكون فيها حيوانات جديدة، كما لا يبعد أن يتكون فيها أيضًا بطريق

التولد الذاتي خلايا بروتوبلاسمية جديدة.

أما مسألة التذكير والتأنيث، فما يقال فيها الآن يقال نحوه أو ما يقرب منه في

الخلايا البروتوبلاسمية الأولى التي صار بعضها حيوانات منوية ملقِّحة (بالكسر) ،

والبعض الآخر بويضات ملقَّحة (بالفتح) . والله تعالى أعلم بأسراره في خلقه.

_________

(*) للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي.

(1)

حاشية للكاتب - تكون المسيح بدون أب؛ أي بدون حيوان منوي له نظير في عالم الحيوانات الصغيرة ولا نعلمه الآن بالتحقيق في الحيوانات الكبيرة كما يزعم بعضهم ففي بعض الحيوانات الصغيرة يوجد ما يسمى بالتولد البكري (prathenogenesis) أي إن الأنثى بعد أن يلحقها الذكر مرة تلد عدة أجيال (generations) بدون احتياج للذكر فابنتها أو ابنة ابنتها تحبل وتلد بدون أن يمسها ذكر ومن ذلك قمل النبات. ومن المعلوم أن ما يحصل في بعض الحيوانات على سبيل القاعدة قد يحصل مثله على سبيل الشذوذ في الحيوانات الأخرى فالقاعدة في الأرانب مثلاً أن تلد كثيرًا وقد وجد في النساء من ولدت ستة أولاد ولا ينافي ذلك كون مريم وابنها آية للعالمين فإن في كل ما خلق الله آية للعالمين {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: 4) .

(2)

المنار: أي خلق ذلك في الطين اللازب من الحمأ المسنون.

ص: 303

الكاتب: ملك حفني ناصف

‌النسائيات [*]

(30)

حرية المرأة في الإسلام

يود بعض النساء المسلمات التشبه بالغربيات في زيهن وأنماط معيشتهن؛ ظنًّا

منهن أن الحرية إنما ألقت مراسيها عند الغربيات، وأنهن أي المسلمات محرومات

منها شرعًا. ولو تدبرن أمور دينهن، وبحثن في القوانين التي يتبعها الغرب،

لرأين أن نصيبهن من الحرية الحقيقية أوفر من نصيب الغربيات. ولا يخلبهن زي

الغربية وكثرة تجوالها في الشوارع والبلاد، فإنما حريتها هذه كمن يعطيك درهماً

ويأخذ منك دينارًا؛ لأن ركن الحرية الأقوى أن يكون الإنسان حرًّا في التصرف

بماله، حرًّا في معاشرة غيره. والإسلام يعطي هذه الحقوق للمرأة فضلاً عن أن

يبيح لها السفور والسفر، وإن كان مع الاشتراط.

كانت المرأة قبل ظهور الإسلام مزدرأة إلى الدرجة القصوى، ففي بلاد

العرب كانت تحسب كبعض أمتعة البيت، حتى أنها كانت تورث كما يورث العقار

والأنعام، وللوارث حق إبقائها لنفسه أو بيعها لمن يشاء، وكانوا يئدون بناتهم خشية

العار أو الفقر، وكان تعدد الزوجات فاشيًا فيهم بغير حد محدود، وكذلك كانت

الحال في بلاد الفرس وعند اليهود. هذا في الشرق، وأما في الغرب فلم تكن المرأة

بأسعد حظًّا، إذا كانت كمية مهملة عاطلة من التربية والتعلم معدودة كالبهيمة، حتى

إن مجامعهم المقدسة كانت تبحث في: هل للمرأة نفس كالرجل؟ وقام بينهم خلاف

شديد من أجل ذلك، وحتى لعب بعض مقامري الإنجليز بامرأته بعد أن خسر ماله.

انتهى بتصرف من كتاب الإسلام دين الفطرة لمؤلفه الأستاذ: عبد العزيز جاويش.

ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في:

(1)

كل التكاليف الشرعية إلا النادر، وذكر القرآن المرأة بجانب الرجل

في كثير من آياته.

(2)

في الحقوق المدنية؛ فللمرأة أن تبيع وتشتري، وتهب وتقف، وتعقد

ما شاءت من العقود بغير إذن أو سيطرة، مع أن قوانين الغرب لا تبيح للمرأة شيئًا

من ذلك، وتشترط أن يكون لرجل المرأة حق التصرف في أموالها بغير قيد ولا

سؤال. وقد ضايق هذا الأمر النساء هنالك، فهببن في بعض الممالك يطالبن بحقهن

فأعطينه ولكن اللاتي لم يطالبن لم يعطين شيئًا.

(3)

يتضح من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يبيح للمرأة

حرية الرأي، فقد بايعه المؤمنات مع المؤمنين مرارًا، وإهمالنا هذا الأمر ليس

بدليل على أن الإسلام يحرمه كما تحرمه قوانين الغرب. ولا يزال يرن في آذاننا

صدى ضوضاء المطالبات بحق الانتخاب ووقوف النواب في وجوههن وإرجاعهن

بخفي حنين، وقد لقين من السجن والضرب عذابًا أليمًا.

(4)

يبيح الإسلام للمرأة الراشدة أن تزوج نفسها بنفسها، وأن توكل من

شاءت في العقد.

(5)

يعطي المرأة حق الطلاق إذا اشترطته في العقد. أما إذا لم تشترطه

هي أو وليها فكأنها تنازلت عنه لبعلها.

(6)

ومن أعظم نعم الإسلام على الزوجين المتباغضين الطلاق. ولا حاجة

لبيان الشقاء المقيم إذا تعاشر الزوجان على غير ألفة، أو افترقا على غير إباحة

الزواج ثانية، أو أصيب أحدهما بما يكره الآخر معاشرته عليه؛ كالجنون أو

البرص أو غيره، ويرشد الدين الحنيف أن لا يستعمل الطلاق إلا في الضرورة

الشديدة، وقد حرمه بعض الأئمة إذا كان بلا سبب، قال ابن عابدين: (وأما

الطلاق فالأصل فيه الحظر أي الحرمة، والإباحة للحاجة إلى الخلاص فإذا كان بلا

سبب أصلاً لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص، بل يكون حمقًا وسفاهة رأي، ومجرد

كفران النعمة وإخلاص الإيذاء بها وبأهلها وأولادها؛ ولذا قالوا: إن سببه الحاجة

إلى الخلاص عند تباين الأخلاق، وعروض البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله

تعالى، فحيث تجرد عن الحاجة المبيحة له شرعًِا يبقى على أصله من الحظر؛

ولذا قال الله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} (النساء: 34) أي لا

تطلبوا الفراق) . اهـ. وقال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ

تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229) وقال أيضًا: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 19) وقال جل من قائل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ

وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35)) ولم يقل:

إن يريدا طلاقًا؛ لأن الأصل في الزواج دوام العشرة، ولكن إذا لم يفلح الزوجان أو

أحدهما في إدامة العشرة فلا مناص من الطلاق. قال النبي صلى الله عليه وسلم:

أبغض الحلال إلى الله الطلاق.

(7)

يوجب الإسلام تعلم العلم على كل مسلم ومسلمة، وقد كانت نساء

النبي رضي الله عنهن يفتين الرجال والنساء، ويلقين عليهن دروس الحكمة ومكارم

الأخلاق، ولم يهمل تعليم النساء قط إلا بعد سقوط دولة العرب، وترك الناس تعليم

الدين الحنيف، ألم يشتهر النساء أيام العباسيين والأمويين بالعلم والفضل؛ حتى

برعن في الفقه والأدب والغناء بما لم يبق بعده زيادة المستزيد. ولم يكن تعلم العلم

مقصورًا على النبيلات منهن وبنات الخلافة، بل شمل الجواري والعامة.

(8)

لو اتبع المسلمون دينهم كما يجب؛ لعلموا أن من فروض الكفاية أن

يكون من نسائهم لنسائهم من يكفي من المعلمات والطبيبات، حتى لا يحتجن لغير

النساء في أمس الأمور بهن كالتعليم والاستشفاء.

(9)

يبيح الإسلام للمرأة السفور عند أمن الفتنة. والظاهر أن هذا السفور

هو الغاية التي يسعى إليها أكثر النساء الشرقيات الآن، ويتخذن تقليد الغربيات في

اللبس والمأكل وشكل المعيشة وسيلة إليه، ويزعمن أن ليس لهن من الحرية ما

لأخواتهن الغربيات، مع أن الإسلام لم يجعل علينا في الدين من حرج، وقد كانت

النساء يخرجن سافرات إلى أن عم الجهل، فمنع بعض الخاصة نساءهم من

الخروج، فصارت عادة قلدهم فيها غيرهم، وقد تغالى فيه بعضهم حتى كانت

المرأة لا فرق بينها وبين السجين، قال أبو الطيب المتنبي في رثاء أخت سيف

الدولة بعد قوله:

صلاة الله خالقنا حنوط

على الوجه المكفن بالجمال

على المدفون قبل الترب صونًا

وقبل اللحد في كرم الخلال

وقال في أخت سيف الدولة الأخرى رثاء أيضًا:

وهل رأيت عيون الإنس تدركها

حتى حسدت عليها أعين الشهب

وعادة الحجاب ليست قاصرة على النساء فقط، فإن في صحراء أفريقية

الكبرى قبيلة اسمها قبيلة الملثمين، كل رجالها يضعون اللثام على وجوههم، ولا

تفعله نساؤهم.

(10)

لم يبق بعد ذلك عند الغربيات أمر يفضلن به نساءنا إلا تحريم تعدد

الزوجات عند المسيحيات منهن (لأنه مباح عند اليهود) . ومن المسلمين من يحرم

التزوج بأكثر من واحدة، ولا يبيح الطلاق إلا إذا حكم به قاض يفصل في الدعوى،

فسلام على الإسلام، وسلام على حريته الحقة، وسلام على متبعيه حق الاتباع.

...

...

...

...

(باحثة البادية)

_________

(*) مقالة جديدة للأديبة المعروفة بلقب باحثة بالبادية.

ص: 308

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مذكرة عن أعمال

المبشرين المسيحيين

في السودان

(أرسلها إلينا صديق عارف خبير عندما أسسنا جمعية الدعوة والإرشاد)

(1)

ليس للمبشرين عمل في الجهة البحرية من فاشوده إلا في الخرطوم.

أما قبلي فاشوده، فلهم فيه أربع نقط على النيل الأبيض، وهي: تنجه والكنيسة وبور

والمنجلة، كما أن لهم مركزًا في واو عاصمة مديرية بحر الغزال، ولا يؤذن

لهم الآن في التبشير في غير العاصمة من هذه المديرية.

(2)

إن الطريقة الوحيدة التي يعتمد عليها المبشرون في تنصير الأهالي

تنحصر في فتح المدارس التي يلقنون فيها أصول الدين المسيحي لأولاد الأهالي

الذين يدخلون تلك المدارس.

(3)

يعتمد المبشرون في حمل الأهالي على إرسال أولادهم إلى مدارسهم

على الإحسان إلى الآباء والتودد إليهم. ففي واو مثلاً يعطون لآباء التلامذة 3

أرطال ذرة يوميًّا، كما يعطونهم أيضًا بعض الأقمشة أو بعض الحلي المستعملة

عندهم، ومن طرق الإحسان التي يستعملونها لهذه الغاية التطبيب، فهم يداوون

كثيرين من مرضى الأهالي الذين يكونون عن مقربة من مركزهم.

(4)

يعلم المبشرون في مدارسهم أصول الدين المسيحي، والقراءة والكتابة

بلغة إفرنجية، ومبادئ العلوم الضرورية كالحساب، وعدا هذا فهم يقسمون التلاميذ

إلى جماعات يختص كل جماعة منهم بتعليم صنعة من الصناعات؛ كالتجارة

والحدادة والبناء.

فيبدءون عملهم بتشييد مسكن لهم وبجواره كنيسة ومدرسة، ثم يأخذون قطعة

أرض ويجرون فيها تجارب زراعية، والذين يعملون لهم فيها هم الأهالي

المجاورون لهم في مقابلة مكافأة تعطى لهم والتلامذة أنفسهم.

وقد يوجهون همتهم إلى تجارب في كل ما يظنونه يعود على الأهالي

والحكومة بالربح والرفاهية، فيربون النحل ويعملون له الخليات على الطرز

الأوربي، ويستخرجون منه الشمع إلى غير ذلك من التجارب على مقدار ما تسمح

به قوتهم المالية ومعارفهم العملية.

(5)

إن أشد القبائل استعدادًا للتدين بما تدعى إليه هي قبائل النيام نيام.

هذه القبائل ليس لها تقاليد دينية تصدهم عن اعتناق أي دين يدعون إليه، ويقابل

هؤلاء في سهولة انقيادهم (الدنكا) في شدة تمسكهم بعوائدهم، وهؤلاء الدنكا لهم بعض

معتقدات دينية أذكر أن اللورد كرومر فصل بعضها في أحد تقاريره.

* * *

(مساعدة الحكومة للمبشرين)

إذا صرفنا النظر عما يحصل من بعض أفراد الموظفين الإنكليز، ونظرنا

إلى أعمال الحكومة العمومية وإلى أعمال الأكثرين من رجالها، صح لنا أن نصف

الحكومة السودانية بالنزاهة في هذا الباب. بل إن الحكمة قد تفعل أحيانًا ما لا

يرضي المتعصبين من المسيحيين. ففي بحر الغزال وغيره من البلاد الوثنية

تحتفل الحكومة بالأعياد الإسلامية احتفالاً شائقًا تدعو إليه مشايخ القبائل ورجال

قبائلهم، كما أنها تبطل يوم الجمعة أشغالها، وفي رمضان لا تشتغل بعد الظهر،

ولعل هذا بعض ما دعا أحد زعماء المرسلين الأمريكان إلى لوم الإنكليز في خطبة

ألقاها في العام الماضي.

على أني قد شعرت في آخر الأمر بأن الحكومة تريد أن تظهر مجاملتها

لهؤلاء المبشرين، فقد ساعد أحد مديريها إحدى الإرساليات على إحضار أولاد

الأهالي إلى مدارسها بنفوذ الحكومة.

عرفت ذلك من مصدر يوثق به، ولكن لست أدري هل كان هذا العمل بناء

على رغبة المدير خاصة أم رغبة الحكومة الرئيسية؟ والحكومة تمنع الآن

المرسلين من التبشير في داخل بحر الغزال، ولكن سبب هذا المنع إداري محض.

فالحكومة تستعمل الأهالي في حمل بضائعها، وفي حمل عفش ضباطها

ومستخدميها، فهي تخشى من أقلام المبشرين إذا اطلعوا على هذه الحقيقة،

خصوصًا إذا شاهدوها بأعينهم.

(مقدار نجاح المبشرين في مهمتهم)

(7)

للآن لم ينجح المبشرون في عملهم، وعدم نجاحهم هذا قد يغر قصار

النظر من المسلمين فيجزمون بعدم نجاحهم في المستقبل، ولكن المرجح عندي أنه

إذا طال زمن إهمال المسلمين، فالمبشرون ناجحون في المستقبل. أتاحت لي

المصادفة مقابلة بعض أهالي أوغندا واستطلعت منهم حالة بلادهم، ففهمت منهم أن

البلاد صارت مسيحية أو كادت؛ وذلك للمجهودات التي يبذلها المبشرون، حتى لقد

نشروا كتبهم المقدسة كلها هناك مترجمة بلغة الأوغنديين، ومكتوبة بحروف

إنكليزية؛ يعني أن القارئ يقرأ كتابة انكليزية، ولكنه ينطق بكلمات أوغندية.

لست أجهل أن هناك بعض عبارات تستوجب وجود الصعوبات في سبيل

هؤلاء المبشرين في السودان المصري مثل: وجود العساكر السودانية المسلمين بين

هؤلاء الوثنيين، وأن هذه الأصقاع هي مجال واسع لتجار السودان وغيرهم من

المسلمين، ولكن المتأمل في طريقة هؤلاء المبشرين في تنصير الأهالي، لا يسعه

مع علمه بكل هذا إلا الحكم بترجيح نجاحهم، وإلا فما هي قوة هؤلاء الأطفال الذين

يلقى بهم بين أيدي هؤلاء المبشرين، الذين يلقنونهم أصول الدين المسيحي كأنها

حقائق لا نزاع فيها؟ أليس الأجدر بالمتأمل أن يحكم بأن هؤلاء الأطفال يصيرون

رجالاً مسيحيين كالمسيحيين المولودين من أبوين مسيحيين؛ لأن ما يتلقاه هؤلاء

الأطفال من أصول الدين المسيحي لا يجد له مزاحمًا ولا معارضًا في نفوسهم

فيزعزعه، كما أنه ليس هناك رجال دين آخر يبثون أصول دينهم في نفوسهم كي

تغالب ما ألقي إليهم.

_________

ص: 311

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(سمير الليالي)

جمع أمين أفندي صوفي السكري من أدباء طرابلس الشام مسائل وفوائد كثيرة

من الكتب والصحف التي طالعها، فكانت كتابًا كبيرًا يدخل في بضعة أجزاء. وقد

طبع الجزء الأول منه في 1327 على نفقة الشيخ عبد الله الرفاعي الكتبي في

طرابلس وهي الطبعة الثانية له. وهذا الجزء زهاء مئتي صفحة، أكثرها في

جغرافية المملكة العثمانية، وأقلها في جغرافية الممالك الأوربية، فيجد قارئه كلامًا

مفصلاً في وصف الولايات العثمانية لا يجده في غيره من الكتب العربية المتداولة،

وليت المؤلف وقد أضاف إلى هذه الطبعة فوائد كثيرة لو صحح ما فيه من الإحصاء

بمراجعة الإحصاءات الأخيرة، فهو يذكر أن مسلمي مصر تسعة ملايين؛ أخذًا من

إحصاء سنة 1897 م وهم في إحصاء 1907 زهاء 11 مليونًا، وذكر أن نفوس

السودان المصري 11 مليونًا، ولعله يعد من السودان المصري جميع ما انفصل منه

حتى زيلع ومصوع، كما هو مقتضى سياسة الدولة العلية، ثم إنه لم يلتفت إلى

ما حل به من الأوبئة والحروب. وإنني لم أراجع من الكتاب إلا إحصاء المسلمين،

فنبهت إليه وإلى سببه؛ لئلا يكون منفرًا عن الكتاب صادًّا عن فوائده، وأهمها

وصف الولايات العثمانية. والكتاب يطلب من المكتبة الرفاعية بطرابلس الشام.

* * *

(كتاب النصائح الكافية والردود عليه والانتصار له)

يتذكر القراء أنه ذكر في المنار كتاب (النصائح الكافية لمن يتولى معاوية)

للسيد محمد بن عقيل المقيم في سنغافورة، الذي أحدث عند طبعه وانتشاره ضجة

عظيمة، فأعجب به جماهير العلويين في الأقطار المختلفة، وأنكره آخرون وعدوه

ميلاً عن السنة إلى التشيع، ورد عليه بعض وانتصر له بعض.

أما السيد محمد بن عقيل فهو رجل سني من حزب المصلحين حسن النية وقد

كان كتب إليّ بعزمه على تأليف كتاب، يجمع فيه ما ورد في كتب المحدثين

والمؤرخين من جرح معاوية بن أبي سفيان، وتخطئته في خروجه على أمير

المؤمنين علي كرم الله وجهه، وما تبع ذلك من الفتن والسيئات، وكان الذي وجه

عزمه إلى ذلك خلاف وقع في مسألة جواز لعن معاوية وعدم جوازه، واستفتيت

يومئذ في الواقعة وأفتيت بعدم اللعن، فكتب إليّ هذا الصديق أنه مخالف لي في هذه

الفتوى، وأنه سيبين حجته في هذا الكتاب الذي توجه إلى تأليفه، فكتبت إليه يومئذ

بأنه لا ضير في مخالفته إياي، ولكنني أرى أن يترك وضع هذا الكتاب لما يترتب

عليه، إذا وضع بهذا السبب وبعد هذا الخلاف من القيل والقال، واتباع الهوى في

التفرق والخلاف، فلم يقتنع بصحة رأيي، وقد ظهر له صدقه بعد ذلك، ولكنه لا

يزال يرى أن نفع الكتاب أرجح من ضرر ما كان من الخلاف.

* * *

(الرقية الشافية)

كان أول من غلا في التشنيع على كتاب (النصائح الكافية) رجل من

العلويين اسمه السيد حسن بن شهاب، يظهر لي أنه كان يحسد السيد محمد بن عقيل

على ما آتاه الله من المكانة العلمية الأدبية في قومهم (الحضارمة) ، وغير قومهم

في مهاجرهم (سنغافورة) وغيرها، فأراد وقد سنحت له الفرصة أن يرفع من قدر

نفسه، ويضع من قدر محسوده، فألف رسالة سماها (الرقية الشافية من نفثات

سموم النصائح الكافية) وصار يكتب إلى من يعرف من علماء الأقطار يستنجدهم

بحماسة وشدة؛ للرد على هذا الكتاب، وقد كتب إليّ بإمضائه وغير إمضائه في

ذلك.

كان من رأيي - وأنا شديد الحرص على التأليف بين المسلمين، شديد النفور من

الخلاف والتفرق - أن لا أقرأ كتاب (النصائح الكافية) حتى لا أحكم له ولا عليه،

فلم أنجد ابن شهاب وحزبه فيما استنجدوني فيه، فاتخذوني عدوًّا لأجل ذلك، وما زال

أهل الأهواء يحدثون العداوة بين المسلمين؛ بمعاداة من لا يتبع أهواءهم ولا يعدل

آراءهم.

وقد رد على كتاب الرقية الشيخ أبو بكر بن شهاب المدرس بمدرسة دار

العلوم بحيدر آباد الدكن، وهو أشهر علماء الحضارمة في هذا العصر بكتاب سماه

(وجوب الحمية عن مضار الرقية) قرأت عدة مباحث منه، فظهر لي تهافت حسن

بن شهاب وضعفه، وأن الجهل وحده لا يهبط بصاحبه إلى مثل تلك الشتائم

والدعاوى والتمويهات لولا مساعدة الحسد واتباع الهوى، وأين السيد حسن بن

شهاب من السيد محمد بن عقيل.

وأين الثريا وأين الثرى

وأين معاوية من علي

* * *

(نقد النصائح الكافية)

يظهر لك الفرق بين من يكتب ما يمليه عليه الهوى، ومن يكتب ما يمليه

عليه العلم والهدى، إذا قابلت بين ما كتبه السيد حسن بن شهاب وما كتبه الشيخ

جمال الدين القاسمي الدمشقي، فقد كتب رسالة سماها (نقد النصائح الكافية) ، انتقد

بها النصائح معتصمًا بحبوة الأدب، متحليًا بحلية الثناء على المؤلف والاعتراف

بفضله، وكان الإمام مالك رحمه الله تعالى، يقول: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد

عليه إلا صاحب هذا القبر. ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

قسم القاسمي نقده إلى مقدمة و 14 مبحثًا وخاتمة، أكثرها في مسائل علمية؛

في أصول الفقه، وأصول الحديث والمناظرة والأحكام التي تتعلق بموضوع الكتاب؛

ككون التفسيق والتضليل لا يكون إلا بمجمع عليه، وكون أخوة الإيمان لا ترتفع

بالمعاصي، ومنها ما يتعلق بمعاوية خاصة؛ ككون الوقيعة فيه تستلزم رفض

مرويه ومروي من من أقام معه من الصحب (وهذا غير مسلم على إطلاقه) ،

وكونه بلغ رتبة الاجتهاد (وما كل مجتهد يعمل دائمًا بما أداه اجتهاده إلى كونه هو

الحق، وإلا لزم أن يكون كل مجتهد معصومًا من المعصية عامدًا عالمًا) .

ومن مباحثه أن من عدل المؤلف إذا ذكر لأحد ما عليه أن يشفعه بماله. أي

والعكس، ولا نزاع في هذا إذا أريد بالمؤلف المؤرخ والمحدث الذي يحكم بالجرح

والتعديل، ويريد أن يبين حال من يترجمه لمن يقرأ كتابه. وقد يكون لبعض

المؤلفين غرض من ذكر ما للمرء فقط أو ما عليه فقط؛ كتحقيق مسألة معينة أو

العبرة ببعض الخطآت والخطيئات، أو التأسي ببعض المناقب والحسنات، وقد

جمع صديقنا الناقد أحسن ما قيل في معاوية من الحقائق ومن الشعريات، ولم يذكر

في مقابلتها ما عليه، وما نكب به الإسلام والمسلمون على يديه، فإن كان غرضه

من هذا البحث أن ابن عقيل قد قصر؛ إذ ترك أحد الشقين، فهذا مشترك الإلزام؛

لأنه هو قد قصر أيضًا بترك الشق الآخر، والصواب أن كل واحد منهما قد ذكر ما

يرمي إلى غرضه.

وجملة القول أن كل واحد من الكاتبين في هذه المسألة وغيرها يؤخذ من

كلامه ويترك، ويقبل منه ويرفض، وليس من غرضنا تحرير المسألة بما يصل

إليه اجتهادنا، وإنما نود لو يكون كل ناقد كالقاسمي في أدبه وإخلاصه وتحريه ما

يرى أنه الأنفع للناس، فما فرق كلمة المسلمين إلا أهل الجدل والمراء بالهوى.

_________

ص: 313

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جماعة الدعوة والإرشاد

طلع الصباح وبرح الخفاء، وعلم الخاص والعام أن جماعة الدعوة والإرشاد

ليس لها مقصد سياسي؛ لأن الجمعيات السياسية لا تكون جهرية عمومية، يقبل

فيها كل من أراد أن يدخل فيها بحسب قانونها. وهذه هي الحجة التي دحضت كل

شبهة حتى من نفوس الأحداث، وعوام الناس الذين هم أتباع كل ناعق، لا يفرقون

بين معقول وغير معقول.

قد يصدق الواحد من هؤلاء أنه يمكن إنشاء مدرسة لإنشاء دولة، وهو ما لا

يصدقه العاقل المفكر الذي يميز بين الممكن والمحال من الأمور العادية، فإذ قيل له:

إن هذه المدرسة ليست لشخص معين ولا لأفراد معينين، وإنما هي لجماعة مكونة من

كل من يدفع ثلاثة جنيهات في السنة؛ لمقصد الجمعية العلني المجرد من السياسة،

وهؤلاء هم أصحاب الرأي في هذه الجماعة، فلهم أن يعزلوا جميع أعضاء مجلس

الإدارة ويولوا غيرهم، فهل تصدق أو تعقل أن يسمح أصحاب المقصد السياسي

الخطير بدخول كل من شاء في عملهم، وجعله من أصحاب الرأي والنفوذ فيه، وأن

يكون له إخراجهم من مجلس إدارته وتوسيد أمر الإدارة إلى من شاءوا؟ لقال من يقال

له هذا القول: إن هذا لا يصدق ولا يعقل، فمن يتوهم بعد ظهور نظام جماعة الدعوة

والإرشاد أن لمن أسسوه غرضًا سياسيًّا فهو منسلخ من العقل، قد استهواه شيطان

الوهم، ولا قيمة لتوهم مثله ولا لقوله، ولا لرضاه ولا لسخطه، ومن أظهر آيات

الجهل والانحطاط أن يوجد في المخلوقين بصورة البشر من يصدق الطعن في مثل هذا

العمل، حتى يحتاج إلى الدفاع عنه.

وليس يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

***

(الاشتراك في جماعة الدعوة والإرشاد)

علم كل من قرأ النظام السياسي لهذه الجماعة أن من اشترك فيها بثلاثة

جنيهات فأكثر في السنة ودفعها، يكون من أعضاء الهيئة العامة فيها الذين لهم حق

الانتخاب والمراقبة على أعضاء مجلس الإدارة. ونزيدهم علمًا بأن قيمة الاشتراك

يجوز أن تدفع أقساطًا كما يشاء المشترك. ومن يشترك بأقل من ثلاثة جنيهات في

السنة، يعد عضوًا من أعضاء الجمعية المعاونين، ولا يكون له حقوق أعضاء

الهيئة العامة.

وكل من دفع للجماعة شيئًا من المال على سبيل التبرع أو على سبيل

الاشتراك، يعطى وصلاً مطبوعًا مختومًا بخاتم الجماعة وخاتم رئيسها أو وكيلها

(وقسائم الوصول المستعملة الآن مختومة بخاتم الوكيل) ويزاد على ذلك توقيع

المتسلم الذي يقبض النقود، وتوجد الآن دفاتر قسائم للتبرعات وللاشتراكات بيد

الوكيل (صاحب هذه المجلة) وسائر الدفاتر بيد أمين الصندوق محمود بك أنيس،

وقد أذن مجلس الإدارة لكل منهما بالقبض. ومتى تألفت اللجان تعطى قسائم

أخرى، ويعلن ذلك في الجرائد.

***

(جمعية الرابطة الإسلامية)

كانت شبهة الشيخ عبد العزيز جاويش إذ طعن في مشروع الدعوة والإرشاد

في بدء السعي؛ لتكوينه أنه عمل سري لا يعرف أعضاؤه ولا قانونه. وقد راجت

هذه الشبهة في سوق من لا يميزون بين الشبهة والحجة، ولا بين البرهان

والسفسطة، إلى أن ظهر قانون الجماعة، وعرف أعضاؤها. ثم علمنا أن للشيخ

عبد العزيز جاويش جمعية اسمها جمعية الرابطة الإسلامية، ينشر دعوتها في

تلاميذ المدارس المصرية، وتجبى نقودها منهم في كل شهر، ولا يعرف لها قانون،

ولا أعضاء، ولا أمين صندوق، فما هو مقصدها وأين تذهب الأموال التي

تجبى لها؟ وكيف يكلف أولئك التلاميذ بذل أموالهم، وهم لا يعلمون أين تذهب تلك

الأموال ولا على أي شيء تنفق؟ ومن أعطى منهم ما فرض عليه في كل شهر لا

يعطى وصولاً موقعًا باسم أحد ولا يختمه، وإنما يعطى ورقة صغيرة كبطاقة الثوب

عليها خاتم الجمعية، فإذا كان هذا المال يجبى لغرض صحيح شرعي، فلماذا

يستخفي مؤسس الجمعية به (إن كان هنالك جمعية) ؟ ولماذا جعل موردها خاصًّا

بالولدان الذين يسهل أن يقادوا إلى حيث لا يعلمون، دون الرجال الذين يبحثون

ويحاسبون؟ ولماذا يجعل نفسه غير مسؤول عما يأخذه من المال بعدم إمضاء

الأوراق والبطائق على الأقل؟ فعسى أن تكشف للجمهور هذه الغوامض.

* * *

(الماسون في جمعية الاتحاد ومجلة دين ومعيشت)

ذكر في الجزء الأول من هذه السنة أن زعماء جمعية الاتحاد والترقي

المشهورين من الماسون، وأن الماسونية قد راجت بسعيهم، وأنهم أسسوا لها شرقًا

عثمانيًّا رئيسه طلعت بك الذي كان ناظر الداخلية، وهو الآن رئيس فرقة الاتحاد

والترقي في مجلس المبعوثين، وتمنينا لو يكون تصرف طلعت بك في الماسونية

أحسن من تصرفه السيء في نظارة الداخلية، وأشرنا عن بعد إلى ما في رواج

الماسونية في رجال هذه الدولة الإسلامية من الخطر، ولم نشأ أن نشرح ذلك؛ لئلا

يلصق الناس عمل طلعت بك وأوليائه من زعماء جمعيته بالدولة العلية بسوء فهم أو

سوء نية؛ لما لهم من النفوذ في الحكومة الحاضرة.

وقد ترجمت مجلة (دين ومعيشت) الروسية ما كتبناه، وزادت عليه بسوء

النية أو سوء الفهم - الله أعلم - أن أركان الدولة والقائمين بأعمالها (جميعًا من

الخفير إلى السلطان) ماسونيون، وجعلت الماسونية في رجال الدولة مفضية إلى

هدم الدولة الإسلامية وتأسيس دولة ماسونية، وأظهرت الريب في خبرنا، وتكهنت

في استنباط الباعث عليه، وذكرت احتمال أن يكون غليان الدم العربي والعصبية

الجاهلية، ثم ذكرت ما يرد هذه التهمة التي لا موجب لذكرها مع حسن النية بقولها:

(إنها مخالفة لمسلكه وخطته وهو الجامعة الإسلامية) ثم قالت ما ترجمته:

فإن كان في أعضاء الاتحاد والترقي وعلى الأخص طلعت بك حمية إسلامية،

فليردوا وليكذبوا أقوال المنار، وإن سكتوا يكون المنار صادقًا بالطبع.

(المنار)

إننا نبادل مجلة دين ومعيشت، وإن كنا لا نقرأها ولا نعرف لغتها؛ لما في

المبادلة بين أرباب الصحف من الفوائد والصلة المعنوية باستمداد بعضهم من بعض،

كما نبادل الجرائد الهندية لأجل ذلك.

وقد ذكر لنا بعض أصحابنا وتلاميذنا الروسيين بعض تهافت هذه المجلة في

المسائل الدينية، والرد على المنار في بعضها، وأن غايتها تعويق إخواننا مسلمي

التتار عن الترقي المدني والديني، ولم نكن نرى أن هذه المجلة مما يعنى بالرد

عليها؛ لأن وجود مثلها في هذا العصر مما تقتضيه طبيعة الاجتماع، وصدها

المسلمين عن الترقي، ومحاولتها إبقاءهم على الجمود، وحبسهم في مضيق أوهام

بعض المؤلفين في القرون المتوسطة والأخيرة المظلمة، لا يخلو من فائدة؛ لأن من

طباع البشر أن ينقسموا في كل أمر عام يدخلون فيه إلى ثلاثة أقسام: قسم يغلو في

طلب الانسلاخ من القديم والإيغال في الجديد؛ وهم أهل الإفراط. وقسم يغلو في

مقاومة كل جديد والمحافظة على كل قديم؛ وهم أهل التفريط. وقسم يسددون

ويقاربون، فيهدون إلى ترك الضار من القديم واقتباس النافع من الجديد بالتدريج؛

وهم الأمة الوسط. ومجلة دين ومعيشت لسان حال أهل التفريط في مسلمي روسية،

وفائدتها مقاومة أهل الإفراط؛ ليكون كل منهما ممهدًا لأهل العدل والاعتدال فيما

يدعون إليه من الأمر الوسط الذي هو خير الأمور.

كنا نظن أن أصحاب هذه المجلة يكتبون ما يكتبون من خطأ وصواب بحسن

النية، ولكن لم يظهر لنا شيء من حسن النية في خوضهم بذكر مسألة العصبية

الجاهلية، وهم يعلمون أنهم لا يقدرون أن يجمعوا من كل ما عرفوه من الكتب

والصحف في إنكار هذه العصبية والتشنيع على أهلها مقدار ما يوجد في مجلد

واحد من مجلدات المنار الأربعة عشر، ولا في إيهامهم قراء مجلتهم أننا قلنا: إن

رجال الدولة كلهم من الماسون من السلطان إلى الخفير (سبحانك هذا بهتان عظيم)

وإنما عزونا ذلك إلى بعض زعماء الجمعية، ونعني بهم طلعت بك ورحمي بك

وناظم بك وجاويد بك وجاهد بك وأضرابهم.

ما أجهل أصحاب هذه المجلة بأحوال الآستانة وتلك الجمعية؛ إذ اقترحوا على

طلعت بك تكذيب المنار، قد يسهل على طلعت بك أن يكذب الصحف فيما هي

صادقة فيه من الأمور التي لا يعرفها كل أحد في العاصمة، كما كذب وقوع الشقاق

في حزب الاتحاد والترقي أخيرًا، ثم عرف عالم المدنية كله أن ذلك حق لا ريب

فيه، ولكن لا يسهل عليه أن يكذب خبر المنار في مسألة الماسونية؛ لأنه أشهر من

نار على علم؛ ولأن طلعت لا يرى رأي أصحاب تلك المجلة في وجوب البراءة

من الماسونية.

قالوا: إذا لم يكذب طلعت بك أو جمعيته المنار في هذا الخبر، تعين أن

يكون صادقًا، فها هم أولاء لم يكذبوه، بل قد صدقه طلاب الإصلاح منهم

المقاومون لأولئك الزعماء، فقرروا إبطال المحافل الماسونية من العاصمة، فما

يقول أصحاب (دين ومعيشت) بعد هذا؟ ألا فليعلم أصحاب هذه المجلة أن

صاحب المنار مسلم، قد ربى نفسه على الصدق، حتى كان في أيام طلب العلم

يقول لأشد إخوانه صحبة له: إذا حفظت علي كذبة واحدة في جد أو هزل، فلك

حكمك في {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} (النساء: 9) ولا يكونوا ممن قيل

فيه:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدق ما يعتاده من توهم

* * *

(دار السلطنة)

يحسب الناس للفتن الداخلية في دار السلطنة حسابًا، ويظنون أن زعماء

جمعية الاتحاد والترقي الذين غُلبوا على زعامتهم بفوز المصلحين بمطالبهم العشرة،

لا بد أن يجمعوا كيدهم، ويكروا على المخالفين لهم كرة شديدة بدعوة حماية

الدستور مما يسمونه الارتجاع. أما نحن، فنرجو أن تكون هذه العاصمة آمن ما

كانت من الفتن الداخلية، وأبعد عن المخاوف الاستبدادية والارتجاعية، ذلك بأن

زعماء جمعية الاتحاد والترقي المغلوبين على زعامتهم ومقاصدهم، أولو ذكاء وفهم،

واستفادوا بمصارعة الحوادث وتكرار التجارب خبرة وعبرة، فلا بد أن يكونوا قد

عرفوا خطأهم كله أو بعضه، وأقله أن يكونوا قد اعتقدوا أن دولة عريقة في

الإسلام وارثة لمقام الخلافة الإسلامية، لا يمكن أن تدور رحاها على قطب

الماسونية، وأن العناصر العثمانية لا يمكن إدغامها في العنصر التركي. وإنما

الممكن هو ائتلافها معه بإقامة الدستور، فإن لم يكونوا قد علموا هذين الأمرين،

فهم يعلمون أن إخوانهم الذين قاموا بأمر الإصلاح في حزب الجمعية وأنصارهم

والموافقين لرأيهم من الضباط وغيرهم، لا يمكن اتهامهم بمقاومة الدستور، إذا

وكل الأمر إلى جاهد بك، فهو لا يخجل من اتهام صادق بك أبي الدستور ومثل

طاهر بك المبعوث بالارتجاع، وقد علم القراء أن صادق بك أبو الدستور،

وليعلموا أيضًا أن طاهر بك هذا هو صاحب العدد الأول (برنجى نومرو) في

جمعية الاتحاد والترقي، ولكن رحمي بك ذا الروية والأدب العالي، والدكتور ناظم

بك ذا الدهاء والتدبير الدقيق، وطلعت بك وجاويد بك صاحبي الذكاء والفطنة؛

هؤلاء الرؤساء العاملون لا يقدمون على ما يقدم عليه مثل جاهد بك ولا نظن فيهم

أنهم يرضون بتعريض الدولة للخطر؛ لأجل استعادة زعامتهم والإصرار على

مقاصدهم، فالعاصمة في أمان، والدستور على أحسن ما كان إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 316

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقدمة مقالات المسلمون والقبط

اقترح علينا أن نطبع مقالات (المسلمون والقبط) في كتاب على حدتها؛

ليسهل تعميم الذكرى بها، ففعلنا وجعلنا لها هذه المقدمة.

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا

آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46) .

الإسلام دين الرحمة والعدل، والعلم والعقل. فأما حكومته الإسلامية المحضة

كحكومة الخلفاء الراشدين، ومن كان أقرب إلى سيرتهم كعمر بن عبد العزيز

وصلاح الدين، فهي حكومة لم ير البشر لها مثالاً بأعينهم، ولا في تواريخ من قبلهم

في الجمع بين الرحمة والعدل وحرية الدين والعلم والعمل لمن فتح المسلمون

بلادهم.

وأما حكومات من دون أولئك الكملة من المسلمين التي نشكو نحن من بعض

ملوكها ونصفهم بالظلم، فقد كان ظلمهم وشرهم فيها دون ما عرف من ظلم غيرهم

من فاتحي الملل الأخرى، ولهذا انقرضت جميع الملل والأديان من البلاد التي غلب

النصارى أهلها كأوربة، وبقيت الملل والمذاهب في الممالك التي فتحها المسلمون

إلى هذا الزمن الذي تغيرت فيه طبيعة العمران، وصار من المتعذر على الأقوياء

إكراه أهل الدين على ترك دينهم بالقوة القاهرة، أو إبادتهم كما عامل مسيحيو

أوربة الوثنيين في عامة البلاد والمسلمين في الأندلس وفرنسة.

كان المسلمون في كل أيام قوتهم وسلطانهم، ينوطون الكثير من أعمال

حكومتهم بغيرهم من أهل البلاد التي فتحوها، مع السماح لهم بأن يتحاكموا إلى

رؤسائهم في جميع القضايا التي لا يحبون أن يتحاكموا فيها إلى المسلمين، فكان لهم

حكومة خاصة بهم في البلاد الإسلامية وحكومة مشتركة بينهم وبين المسلمين. كل

هذا من فضل الإسلام وتسامحه، ولا يزال يعترف بذلك المخالفون لنا: بعضهم

يعترف به عملاً باستقلال فكره واحترام اعتقاده [1] ، وبعضهم لإقامة الحجة علينا

في بعض الأوقات كما وقع من بعض القبط في هذه الأيام.

وكان المسلمون يبذلون المعاملة الحسنى لمن يدخل بلادهم من المخالفين،

ويعبرون عنهم بالمعاهدين والمستأمنين، ويعبرون عن الداخلين في حكمهم بأهل

الذمة؛ أي الذين حفظت حقوقهم بذمة الإسلام، والوصايا النبوية بالجميع كثيرة

مشهورة.

لولا الدين الإسلامي لما عرفت العرب الفاتحة تلك الرحمة والعدل والتسامح

التي هي زينة التاريخ، فللدين الإسلامي الفضل في ذلك، ولم تكن تلك القسوة من

الأوربيين (ولا سيما في أسبانية التي جعلها المسلمون جنة أوربة) خالية من حجة

دينية لرؤساء الدين، فإنهم كانوا يرجعون إلى التوراة التي هي أصل المسيحية في

مثل هذه الأحكام دون ظواهر بعض نصوص الإنجيل في الرحمة.

جاء في الفصل العشرين من سفر تثنية الاشتراع (10 حين تقرب من مدينة

لكي تحاربها استدعها إلى الصلح 11 فإن أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك، فكل

الشعب الذي فيها يكون للتسخير ويستعبد لك 12 وإذا لم تسالمك بل عملت معك

حربًا فحاصرها 13 وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد

السيف 14 وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغتنمها

لنفسك، وتأكل غنمية أعدائك التي أعطاك الرب إلهك 15 هكذا تفعل بجميع المدن

البعيدة عنك جدًّا، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم 16 وأما مدن هؤلاء الشعوب

التي يعطيك الرب إلهك نصيبك، فلا تستبق منها نسمة ما) .

ههنا تأمرهم التوراة بإبادة جميع الأحياء المغلوبة حتى النساء والأطفال والبهائم، وفي الفصل 33 من سفر العدد الأمر بطرد سكان الأرض التي يقدرون عليها، حتى

لا يبقى منهم أحد. كأن هؤلاء هم الذين يعجزون عن إبادتهم بالسيف. كل ما سمح به

المسلمون ومنحوه لغيرهم في أيام قوتهم فضلاً وإحسانًا صار في أيام ضعفهم حقوقًا

وامتيازات للأقوياء من الأجانب، يميزون به أنفسهم على المسلمين في ديارهم،

ويؤيدونه بالقوة ولا يعدونه فضلاً للمسلمين، ولا تسامحًا من الإسلام.

هذا شأنهم فيما بقي للمسلمين من البلاد، وأما ما أخذوه من المسلمين فصار

ملكًا لهم أو جعلوه تحت حمايتهم، فلم يبقوا لهم شيئًا فيه من النفوذ ولا المشاركة في

السلطة ولا الحرية. ولكنهم أبقوا في بعض البلاد أشباحًا، حفظوا لها لقبها الأول،

وجعلوها رقية لنفوس العامة الجاهلة، حتى لا يشعروا بأنهم فقدوا ملكهم كما تشعر

الخاصة التي تسهل مراقبتها والسيطرة عليها، وليس لأمير منهم ولا سلطان ولا

نواب أن يستقل بالأمر في شيء ما.

ومنهم من لا يسمح له أن ينظر في ورقة ترسل إليه ولو من أقاربه إلا بعد

أن يقرأها الرقيب الأجنبي السائد على بلاده أو الحامي لها، ولا أن يجتمع بأحد

قريب ولا غريب إلا بحضرة الرقيب، وناهيك بتصرفهم في الأموال والأوقاف

والمساجد في بعض تلك البلاد.

ليس هذا بعجيب ولا غريب، فإن للقوة أن تتحكم في الضعف كما تشاء.

ولكن العجيب الغريب هو ما جرى عليه قبط مصر في هذه السنين الأخيرة، وما

وصلوا إليه في هذا العام من استضعاف المسلمين أشد من استضعاف الدول الكبرى

لهم.

أحسن المسلمون معاملة القبط من عهد الفتح إلى هذا اليوم إحسانًا لم يروا

هم ولا غيرهم مثله من فاتح قط، حتى إنهم على شكواهم من المسلمين في هذه

الأيام يقولون بألسنتهم ويكتبون بأيديهم: أن عمال الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، قد

جعلوا كل أعمال الحكومة في أيديهم، وأنهم كانوا كذلك في عهد محمد علي باشا

ومن بعده، وأن أكثرها لا يزال في أيديهم، ثم أنهم الآن يدعون أنهم مهضومو

الحقوق؛ لأنهم محرومون من بعض الوظائف العالية التي هم أحق بها وأهلها، وأن

المسلمين ممتازون عليهم بها وبأمور أخرى؛ كتعليم الدين الإسلامي في المدارس،

وترك الحكومة العمل يوم الجمعة، وإنفاقها على المحاكم الشريعة. فيطلبون أن لا

يكون للمسلمين مزية ما في الحكومة الخديوية؛ لأنها في رأيهم ليست حكومة

إسلامية، وإنما هي حكومة مصرية فهم أحق بها؛ لأنهم أعرق في الجنسية

المصرية من سائر المصريين، فما هو في أيديهم منها يجب أن يبقى لهم؛ لأنهم

أخذوه بحق. وما بقي في أيدي المسلمين يجب أن يشاركوهم فيه؛ لأنهم احتكروه

بغير حق. وهذا الذي بقي في أيدي المسلمين من الوظائف هو منصب المديرية

ومأمورية المركز.

سمحت لهم الحكومة بتعليم دينهم في مدارسها، وهو ما لم تعمله حكومة في

أوربة ولا غيرها، فإذا جعلت يوم عيدهم الأسبوعي الديني (الأحد) شعارًا لها في

ترك العمل، وجعلت منهم مديرين ومأموري مراكز؛ عملاً بهذه الحجة التي يدلون

بها وهي أنها ليست إسلامية، فإنه يخشى أن يترتب على ذلك ما تخشى مغبته

وتسوء عاقبته من تعرض السلطان للدخول في ذلك باسم الخلافة، ومن مطالبة

المسلمين للحكومة برفع سيطرتها عن محاكمهم الشرعية، وأوقافهم ومعاهدهم

الدينية. ومن تهيج مسلمي الهند على الحكومة الإنكليزية إذا اعتقدوا أنها هي التي

أزالت الصبغة الدينية من حكومة مصر التي هي سياج البلاد المقدسة ومدخلها؛

ولذلك استنكر رجال الاحتلال مطالب القبط مع عطفهم الديني عليهم، كما استنكرتها

الحكومة.

أما مسلمو مصر وهم السواد الأعظم من أهلها، فكانوا غافلين عن سعي القبط

وتعصبهم غير مبالين به؛ لأنهم مغرورون بكثرتهم، وإن كانت كثرة تشبه القلة أو

تضعف عنها؛ لتخاذلهم وانحلال الرابطة التي توحد بينهم. وهذا هو الذي أطمع

القبط، فظنوا أنهم ينالون كل ما يطلبون من جعل السيادة في هذه الحكومة خالصة

لهم من دون المسلمين. ولا أضرب لهم المثل الذي ضربه لهم بعض الناس (لا

تطعم العبد الكراع فيطمع في الذراع) بل أقول: هذا شأن الأقوياء بالاتحاد مع

الضعفاء بالتفرق والانقسام.

رأت القبط أن تهاجم المسلمين من أضعف جانب فيهم، وهو رميهم بالتعصب

الديني وبغض القبط وسائر المسيحيين، وظلمهم وهضم حقوقهم، واتباع خلفهم في

ذلك إثر سلفهم.

جردوا هذا السلاح في وجوه المسلمين، فذعروا وصبروا على ما لم يتعودوا

من إهانة القبط لهم جهرًا بما ينشر في الجرائد، فقالت القبط: إنهم ماتوا فلا خوف

من مدافعتهم، فلتظهر وحدتنا في مطالبنا وقد فعلوا.

ألف المؤتمر القبطي فحضره 1150 مندوبًا عن القبط، يحملون 10500

توكيلاً عن إخوانهم في القطر المصري كله، وافتتح المؤتمر مطران أسيوط التي

سماها بعضهم عاصمة القبط، فأحدث هذا المؤتمر دويًّا في مصر أيقظ المسلمين

ودعاهم إلى تأليف مؤتمر مصري حقيقي؛ للنظر في الحال الاجتماعية العامة،

وتمحيص مطالب القبط وتحسين أمور المسلمين أو المصريين.

ما كان يخطر في بال القبط أن المسلمين يتجرءون على عقد مؤتمر لهم، ولا

أن الحكومة تسمح لهم به إذا شاءوه، فصرحوا بأن الحكومة هي التي أوحت إليهم

بعقده، وأرادوا أن يخيفوا الحكومة بمثل ما أخافوا به الأمة، فأنشأوا يطعنون في

الوزارة ويرمونها بالتعصب الديني وتحريض المسلمين عليهم، ويرجفون بأن

(المسيحية تتعذب) ؛ ليحرضوا كل من في مصر من النصارى على المسلمين،

وحاولوا أن يحملوا نصارى السوريين على عقد مؤتمر لهم فخابوا؛ لأن القبط

يعجزون عن العبث بالسوريين واستخدامهم لأهوائهم.

وأما دسائسهم في إنكلترة فقد ظهرت لكل أحد، ولكن لم تغن عنهم شيئًا؛

لأنها مبنية على التهم الباطلة التي كذبتها سيرة المسلمين الهادئة الساكنة.

لقد سرتني هذه الحركة القبطية؛ لأنها وسيلة لاختبار حياة المسلمين،

وسيكون المؤتمر المصري هو الذي يظهر هذه الحياة ودرجتها، فإذا نجح المؤتمر

وانجلى عن حياة في المسلمين، فلا يسوءني أن تنال القبط ما يقول بعض المعتدلين:

إنه هو الحق الوحيد من مطالبها؛ وهو جواز أن يكونوا رؤساء إدارة كما صار

رؤساء للمحاكم ولغيرها من المصالح. وإذا خاب الأمل (لا سمح الله) في هذا

المؤتمر فلا أسف على شيء آخر يفوت.

كتب الناس في المسألة؛ لأنها أهم ما يكتب فيه بمصر الآن، فألقيت دلوي

بين الدلاء وكتبت مقالاً طويلاً في فصول متعددة نشرتها في المؤيد والمنار. قصدت

بها مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن كما أمر الله عز وجل، ولا أحسن من بيان

سنة الاجتماع في هذه المسائل والتمييز بين حقها وباطلها؛ ليزداد الباحثون بصيرة

في بحثهم، وتنبيه المسلمين إلى الاجتماع والتعاون على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم

ولا يضر سواهم، ولأجل أن تكون مقدمة لبيان رأيي فيما يجب أن يقوم به المؤتمر

من الخدمة العامة لهذه البلاد.

بلغ هذا المقال من التأثير في نفوس المسلمين فوق ما كنت أظن، واقترح

علي كثير من الكبراء والدهماء أن أطبعه في رسالة على حدته فأجبت، وها هو ذا

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

(1)

راجع كتاب الإسلام والنصرانية، وخطبة موسيو رينيه ميليه في مؤتمر أفريقية الشمالية بباريس في (ص 818) من مجلد المنار الحادي عشر.

ص: 295

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

(السموات السبع وكون الاختلاف رحمة)

(س27، 28) من م. ب. ع. في الأزهر

حضرة العلامة الناصر للكتاب والسنة، سيدي الأستاذ محمد رشيد رضا

صاحب المنار الأغر، نفعني الله والمسلمين بوجوده.

بعد إهداء واجبات التحية والاحترام، أرجو منكم الجواب عن الأسئلة الآتية

في المنار؛ تعميمًا للنفع، ولكم الفضل والشكر وهي:

(1)

ما معنى سبع سموات طباقًا في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ

سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} (الملك: 3) وما قولكم في قول أهل الجغرافيا: إن السموات

ليست بأجرام، وإنما هي أهوية، وفسروا السماء بمعناها اللغوي وهو: (كل ما

علاك فهو سماء) ، فهل هذا القول ينافي تلك الآية وآية {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ

فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) أم لا؟ وقولهم: إن

الأمطار تتكون من ماء البحار. وهل يجوز لهم ولمن تبعهم اعتقاد ذلك كله اعتمادًا

على علمهم وخبرتهم؟ أفيدوني بما هو الحق، وإن سبق لكم البحث عن هذه

المسألة في المنار؛ لأنها منشأ لتكفير من يتجرأ به معتقدًا ذلك.

(2)

ما مراد قوله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمتي رحمة عن ابن عباس

مرفوعًا بلفظ: اختلاف أصحابي لكم رحمة، فهل لي أن أقول: إن في اختلاف أمته

صلى الله عليه وسلم رحمة إنما هو اختلافها قبل مجيء البينة أو لعدم وجودها

أصلاً، وإن وجدت كان اختلافها ضررًا لا رحمة، وكذا يجوز الاختلاف بين

المسلمين قبل مجيء البينة، وإن اختلفوا بعد مجيئها وتبينها كانوا آثمين تاركين

لهداية القرآن لقوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ

البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) هذا، واقبلوا فائق

سلامي واحترامي.

(المنار) أما الجواب عن السؤال الأول، فقد سبق بيانه في المنار، ونقول

فيه ما يفتح به الآن: السماء في اللغة ما كان في جهة العلو، وأطلق في القرآن

على السقف، وعلى السحاب والمطر، وعلى مجموع ما نرى فوقنا من الكواكب

في فلكها وبروجها، وسماها بناء، وقال: بناها، وبنيناها، والمعنى: ترتيب

أجزائها وتسويتها كما يبنى الجيش والكلام، قال في الأساس: وكل شيء صنعته

فقد بنيته.

وأشار أن منها القربى التي نمتع أبصارنا بزينتها، ومنها البعدى التي لا نراها.

وهو يذكر السماء بلفظ المفرد غالبًا بالمعنى الذي ذكرناه آنفًا، وهو مجموع ما نراه في

الأفق فوقنا. وذكرها بلفظ الجمع وخصه بسبع في عدة آيات، فالمراد بالجمع هذه

السبع، وعبر عنها بالطباق كما في آية سورة الملك المذكورة في السؤال، وبالطرائق،

فقال في أوائل سورة المؤمنين: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} (المؤمنون:

17) وسمى هذه الطرائق حبكًا على التشبيه، فقال في أوائل سورة الذاريات:

{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ} (الذاريات: 7) وهي الطرائق المعهودة في الرمل، فالسبع

الشداد والطباق والطرائق والحبك تنبئ عن شيء واحد معروف عند العرب الذين

نزل القرآن بلسانهم، وقد سمى هذه السبع سموات؛ لأن كل واحدة منها تعلو

المخاطبين، ويصعدون إليها نظرهم من فوق، ووصف بها السماء المفردة في آية

سورة المؤمنين؛ لأن جهة العلو أو الخليقة التي في جهة العلو تشتمل عليها، كما قال

{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ} (البروج: 1) وقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} (الطارق: 11) والبروج منازل الكواكب، وهي بهذا المعنى أمور اعتبارية كالحبك

والطرائق، والرجع: المطر وهو جسم مادي، يختلف التعبير باختلاف الاعتبار.

ذهب بعض الغافلين الذين يظنون أن الله تعالى خاطب الناس بما لا يفهمون،

وأقام عليهم الحجة العقلية بما لا يعقلون، إلى أن السماء والسموات من عالم الغيب

كالجنة والنار، فلا تعرف حقيقتها وإنما يجب الإيمان بها إذعانًا لخبر الوحي، ولو

كان الأمر كذلك لما ذكرت في الآيات التي يقيم الله بها حجته على عباده؛ ليعلموا

أنه الخالق المتفرد بالخلق والإبداع، والعلم المحيط، والحكمة البالغة، والقدرة

والمشيئة، كما استدل على ذلك بالأرض وما فيها، فقرن السماء بالأرض وبالإبل

والجبال وغير ذلك من عوالم الأرض.

السماء اسم جنس يطلق على جهة العلو وعلى كل ما فيها، والقرائن هي التي

تعين المراد، فإذا سمع العربي قوله تعالى في سورة الحج: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن

يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ

كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (الحج: 15) فهم أن السماء هو سقف البيت؛ لأنه هو الذي يمد

السبب أي الحبل إليه، ويعلق ويربط به من يراد شنقه ثم يقطع.

وإذا سمع قوله تعالى في سورة نوح: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً} (هود:

52) فهم أن المراد بالسماء المطر، وهذا الاستعمال كثير في كلامهم:

إذا نزل السماء بأرض قوم

وإذا سمع قوله في سورة إبراهيم يصف الشجرة: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي

السَّمَاءِ} (إبراهيم: 24) فهم أن السماء جهة العلو. وإذا سمع قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ

السَّمَاءِ مَاءً} (البقرة: 22) فهم أن السماء هي السحاب. لا لأن الله تعالى وضح

ذلك بقوله في وصف تكوين السحاب: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا

فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (الروم:

48) أي فترى المطر يخرج من أثناء هذا السحاب بتحلله منه، بل لأن ذلك هو الذي

يفهمه أهل اللغة من علم منهم بهذه الآية ومن لم يعلم.

ومن قال من الجاحدين كما حكى الله عنهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ} (الأنفال: 32){فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ} (الشعراء: 187) لم

يكونوا يعنون بالسماء عالمًا غيبيًّا لا يعرف إلا بالوحي، وإنما كانوا يعنون بالسماء

الجوّ الذي فوقهم.

ذكرت السماء في أكثر من مئة موضع في القرآن بهذه المعاني، ولم يشتبه

أحد من العرب في فهم شيء منها لا مؤمنهم ولا كافرهم. ولم يفهموا من السموات

السبع والطرائق والحبك والطباق إلا الكواكب السبع السيارة ومداراتها في أفلاكها

التي تشبه طرق الرمل؛ يسلكها السفر في الموامي والبوادي، وخصها بالذكر لكثرة

رصدهم لها واهتدائهم بمشارقها ومغاربها في أسفارهم، هذا ما كانوا يعرفونه، وما

يتبادر إلى أفهامهم من إطلاق القول، ولو أريد به عالم غيبي لا يرى ولا يعرف إلا

من الوحي؛ لما ذكر في سياق الاستدلال كما تقدم، ولما قال في سورة الرعد:

{خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (لقمان: 10) ، وما في معناها؛ كقوله

في سورة ق: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) ، بل كان يذكر ذلك في سياق الإيمان بالغيب والكلام عن

الآخرة.

وكانوا يسمون السبعة السيارة: الدرايء بالهمز، وقالوا: كوكب دريء بالهمز

فيقال بغير همز. وقيل غير المهموز نسبة إلى الدر، يشبهونه باللؤلؤ في حسنه

وصفائه وفيه نزاع. والدريء بالهمز هو الذي يدرأ من المشرق إلى المغرب، وهو

مضيه ومده. ويسمونها الشهب. وأما الخنس الكنس فالمشهور أنها ما عدا الشمس

والقمر من الدراري؛ لأنها هي تخنس أي تنقبض، وتكنس وتختفي كاختفاء الظبي في

الكناس عند طلوع الشمس. وهي: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد، وقد

اكتشف علماء الفلك في هذا العصر سيارات أخرى بما استحدثوا من مرايا المراصد

المقربة للبعيد. وقال بعض الغافلين: لماذا ذكر الله تعالى تلك السيارات

السبع فقط، وهو يعلم أنه خلق غيرها؟ وقد علمت حكمة ذلك مما تقدم؛ وهي إقامة

الحجة على الناس بما يعرفون دون ما كانوا يجهلون، فإن المجهول لا تقوم به

الحجة، وقد يكون لقوم فتنة وفي الحديث: (ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه

عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) ذكره مسلم في مقدمة صحيحه.

***

(حديث اختلاف أمتي رحمة)

قال الحافظ السخاوي: زعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له لكن ذكره

الخطابي في غريب الحديث مستطردًا، وأشعر بأن له أصلاً عنده. ونقل تلميذه

الديبع عن السيوطي أن نصر المقدسي ذكره في الحجة، والبيهقي في الرسالة

الأشعرية بغير سند، وأن الحليمي والقاضي حسينًا وإمام الحرمين ذكروه في كتبهم.

وقال ابن حجر الهيتمي في الدرر المنتثرة: حديث اختلاف أمتي رحمة.

الشيخ نصر المقدسي في كتاب الحجة مرفوعًا، والبيهقي في المدخل عن القاسم بن

محمد (من) قوله، وعن عمر بن عبد العزيز قال: ما سرني لو أن أصحاب

محمد لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة (قلت) : هذا يدل على أن

المراد اختلافهم في الأحكام، وقيل: المراد اختلافهم في الحرف والصنائع (كذا)

ذكره جماعة. وفي مسند الفردوس من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس

مرفوعًا: (اختلاف أصحابي رحمة لكم) قال ابن سعد في طبقاته: حدثنا قيصر بن

عقبة، حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد، قال: كان اختلاف أصحاب

محمد رحمة للناس، انتهى.

(المنار) ما عزاه السخاوي إلى كثير من الأئمة هو الصواب، وكثيرًا ما

نرى المتأخرين يضعفون ويجبنون أمام ما يجدونه في كتب بعض المتقدمين، مما لا

يعرف له أصل فيهابون أن يردوه عملاً بالأصول والقواعد المتفق عليها في رد كل

حديث لا يعرف له سند يوثق به. وهذا البيهقي يقول: إن القاسم بن محمد ذكره من

قوله، فما يدرينا أن بعض الناس سمعه منه، فظن أنه يرويه حديثًا فرواه عنه، فكان

هذا سبب ذكره في الكتب التي ذكروا أصحابها.

وأما رواية الديلمي في مسند الفردوس عن جويبر عن الضحاك فلا تصح،

قال ابن معين في جويبر: هذا ليس بشيء. وقال الجوزجاني: لا يشتغل به، وقال

النسائي والدارقطني وغيرهما: متروك الحديث. وشيخه الضحاك هو ابن مزاحم

البلخي المفسر، فقد اختلفوا في حديثه، ولكنهم صرحوا بأنه لم يلق ابن عباس ولا

أخذ عنه، فيكون الحديث منقطعًا.

وأما ما عزي إلى عمر بن عبد العزيز فهو لا حجة فيه صح عنه أو لم يصح،

على أن الظاهر أنه يرد اختلافهم فيما لا بد من الخلاف فيه؛ لكونه طبيعيًّا وهو

الخلاف في المشارب والعمل بالدين من الأخذ بالعزائم والرخص، فلو كانوا كلهم

متشددين مبالغين في الزهد والنسك كأبي ذر، وفي العبادة وكبح الحظوظ والشهوات

كعثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو، لوقعت هذه الأمة في الغلو والحرج الذي

وقع فيه بعض الأحبار والرهبان من أهل الكتاب من قبل، ولو كانوا كلهم كمعاوية

وعمرو بن العاص في حب النعيم والزينة والرياسة، لكان ذلك فتنة لمن بعدهم في

الدنيا، يسرعون بها إلى ترك الدين، أو يجعلونه ماديًّا محضًا؛ لأن القدوة أشد

تأثيرًا في نفوس البشر من التعاليم القوية.

استكبر بعض العلماء أن يجعل الاختلاف في الدين أو في الإمارة والسلطان

رحمة، وقد ثبت بالشرع والعقل والتجربة أنه نقمة لا تزيد عليها نقمة؛ ولذلك قالوا

إن المراد بالحديث - أي على فرض صحته - الاختلاف في الحرف والصناعات،

ولهم أن يستكبروا ذلك، فإن القرآن ما شدد في شيء كما شدد في الشرك وفي

الاختلاف والتفرق، والآيات في هذا كثيرة تقدم تفسير بعضها وسرد الكثير منها في

التفسير وغير التفسير من المنار، فليراجعه السائل في تفسير آية {تِلْكَ الرُّسُلُ} (البقرة: 253) من أول الجزء الثالث، وتفسير {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ

تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 105) من الجزء الرابع، ومظانه من المنار.

كان أهون الاختلاف اختلاف الصحابة وغيرهم من السلف في فهم الأحكام،

مع عذر كل منهم لمخالفه، بحيث لم يكونوا شيعًا تتفرق في الدين، وتتعصب كل

شيعة منها لبعض المختلفين، فإن مثل هذا الاختلاف طبيعي في البشر لا يمكن

إنفاؤه كما بيناه في التفسير، وهو من أولئك الأخيار لم يكن نقمة ولا ضارًّا، ولا

يظهر أيضًا كونه رحمة يمن الشارع بها على الناس، ولكن لما جاء دور التقليد

والتشيع والتعصب للمذاهب حلت النقمة، وتفرقت الكلمة، وذهبت الريح والشوكة

إلى أن وصلنا إلى هذه الدرجة من الضعف: ذهب ملكنا، وصارت المملكة

الكبيرة من ممالكنا تقع في قبضة الأجانب، فلا يبالي بهم سائر المسلمين، فأين

الوحدة والأخوة والتواد والتراحم وتمثيل مجموعهم بالجسد الواحد؟ ؟ كل ذلك قد

زال، وكان مبدأ زواله ذلك الاختلاف.

***

(أسئلة من أعرابي بالشرقية)

(س29 - 31) من صاحب الإمضاء في مركز (أبو كبير) بالشرقية

حضرة الأستاذ الكبير السيد رشيد رضا المحترم.

نرجو من حضرتكم الإجابة على المسائل الآتية بواسطة منار الإسلام المنير

ولكم الفضل، وهي:

1 -

إذا أصيب رجل بالجنون وكان متزوجًا، فبأي عدة تعتد زوجته.

2 -

أصحيح ما يقال: من أن لكل ولي متوفى ملك (كذا) ، ينوب عنه

لقضاء الحاجات التي يطلبونها الناس من الله بواسطة الولي، كما يقولون علماء

الأرياف بذلك.

3 -

من ابتدع الصاري الذي يذكرون الله حوله أهل الطرق؟ وهل يجوز

لهم الذكر برقص وتثنّ وتواجد وزعيق، وترجمة يسمونها بلسان الحال.

ودمتم محفوظين.

...

...

...

...

أنور محمد قريط

...

...

...

من قبيلة أولاد علي بناحية فراشه

الجواب

(زوجة المجنون)

إذا جن الرجل تبقى امرأته على عصمته، ولكن يثبت لكل من الزوجين حق

الفسخ إذا جن الآخر. والعدة تتعلق بمعنى في المرأة لا في الزواج، إلا أنها في

الوفاة يجب عليها أن تحد على زوجها، فجعل أجل العدة والحداد واحدًا؛ إكبارًا

لحقوق الزوج والوفاء له. فإذا فسخ نكاح المجنون اعتدت امرأته عدة المطلقة.

***

(دعوى أن لكل ولي ميت ملكًا يقضي الحاجات عنه)

من أصول التوحيد أن يدعى الله تعالى وحده في قضاء الحاجات، وأن يعتقد

أنه هو الذي يقضيها وحده بلا واسطة معين ولا مساعد، وأن له تعالى سننًا في

ربط الأسباب بالمسببات، وقد هدى الله الناس على أن يعرفوا هذه الأسباب

بحواسهم وعقولهم، فأعرفهم بها أكثرهم انتفاعًا بنعم الله تعالى في هذا العالم، ومن

أصول العقائد أن الملائكة من عالم الغيب، وأن الله تعالى لا يظهر على غيبه أحدًا

إلا من ارتضاه من رسله، فيخبرهم بما شاء من نبأ الغيب؛ لهداية عباده كالملائكة

والجنة والنار، ولا يجوز لمؤمن أن يفتات على الله ورسوله في الخبر عن عالم

الغيب، فيقول: إنه يوجد ملك يعمل كذا وملك يعمل كذا؛ لأن هذا من أقبح

الكذب على الله عز وجل. ونحن لم نجد في كتاب الله ولا في الأحاديث الصحيحة

عن رسوله صلى الله عليه وسلم ما يثبت وجود ذلك الملك الذي يقولون: إنه يقضي

حاجات الناس التي يسألونها بواسطة الوالي، على أن هذا السؤال غير مشروع كما

أشرنا إلى ذلك {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ

بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا

تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) .

(ابتداع الصاري الذي يذكرون عنده)

لا نعرف من ابتدع نصب هذا العمود أو السارية ليجتمع الناس عندها في

احتفالات هذه الموالد، ولا أعرف مثل هذا إلا في هذه البلاد، ولا أدري أيوجد فيما

لا أعرفه من بلاد المسلمين الأخرى أم لا.

(الذكر بالرقص والتثني والتواجد والصياح)

الذكر بهذه الكيفية مبتدع في الملة، وفيه عدة منكرات بينها كثير من العلماء،

وقد عذر بعضهم من يغلبه حالة من الأفراد، فيصدر منه بعض هذه المنكرات بغير

اختيار. ولكنهم لم يعذروا من يتعمدون الاجتماع لذلك، ويأتونه مختارين تعبدًا به

كما هو المعهود لهؤلاء المقلدة المعروفين في هذا الزمان. وقد فصلت هذه المسألة

تفصيلاً في كتابي (الحكمة الشرعية) وذكرت فيها أقوال المؤلفين المنتسبين إلى

المذاهب المختلفة، ولم يقل أحد من العلماء بأن ذلك من الدين، ولا أنه قربة يتقرب

بها إلى رب العالمين، وإنما أباحه بعض المتساهلين، ومن الفتاوى التي ذكرتها

هنالك ما في تنقيح الحامدية لابن عابدين المشهور، قال بعد نقولٍ عن عدة من

العلماء في تلك الأمور كلها (منها قول مصلح الدين اللاري بإباحة الرقص بشرط

عدم التكسر والتثني) ما نصه: والحق الذي هو أحق أن يتبع، وأحرى أن يدان له

ويستمع أن ذلك كله من سيئات البدع، حيث لم ينقل فعله عن السلف الصالحين،

ولم يقل بحله أحد من الأئمة المجتهدين، رضي الله عنهم أجمعين، قال الأستاذ

السهروردي في عوارف المعارف وناهيك به من كتاب، وقد تكلم على السماع في

خمسة أبواب منه بما هو حق التحقيق ولب اللباب؛ وإن أنصف المنصف وتفكر

في اجتماع أهل الزمان، وقعود المغني بدفه، والمتشبب بشبابته، وتصور في

نفسه هل وقع في مثل هذا الجلوس والهيئة بحضرة رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - وأصحابه، وهل استحضروا قوالاً وقعدوا مجتمعين لاستماعه، لا شك بأن

ينكر ذلك من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنه،

ولو كان في ذلك فضيلة تطلب ما أهملوها، فمن يشير بأنه فضيلة تطلب، ويجتمع

لها لم يحظ بذوق معرفة أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه

والتابعين، ويستروح إلى استحسان بعض المتأخرين، وكثير يغلط الناس بهذا كلما

احتجّ عليهم بالسلف الماضين، يحتج بالمتأخرين، فكان السلف أقرب إلى عهد

رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديهم أشبه بهدي النبي - صلى الله عليه

وسلم - اهـ وهو الصواب الذي نقول به (راجع ص 926 من المجلد الأول طبعة

ثانية) .

_________

ص: 340

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العالم الإسلامي

والاستعمار الأوربي

(1)

الدول الأوربية التي ورثت ملك المسلمين الواسع في المشرق والمغرب

أربع: إنكلترا وهولندا وروسيا وفرنسا. كل دولة منهن سائدة على أكثر مما

تسود عليه الدولة العثمانية من المسلمين. فمسلموا الهند من رعية الإنكليز قد بلغوا

في الإحصاء الأخير تسعين مليونًا، وهم زهاء ثلث أهل الهند، وكان لهم السيادة

على جماهير الوثنيين، وهؤلاء الإنكليز يسودون الملايين الكثيرة من المسلمين

وغيرهم بأسماء مختلفة، فلهم مستعمرة الكاب وبلاد الترنسفال وفيهما كثير من

المسلمين، وقد جعلوا لهذه مجلسًا نيابيًّا، ومثلها أسترالية وزيلاندة فسيادتهم عليها

ليست كسيادتهم على مملكة زنجبار الإسلامية.

وناهيك بحكمهم للسودان بعنوان الشركة مع الحكومة المصرية، وتصرفهم في

مصر نفسها بسيطرة الاحتلال، وتصريحهم بأن القول الفصل في كل شيء فيها إنما

هو لحكومة ملك الإنكليز، وقد تتجلى الحقيقة الواحدة في مظاهر مختلفة، وتتشكل في

صور متعددة، فيكون لكل مظهر في صورة أحكام خاصة به عند الحكماء، وإن

اشتركت كلها في مقومات الحقيقة الجنسية أو النوعية دون مشخصاتها، فالإنكليز

أقدر أمم الأرض على الاستعمار وأبرعهم في السيادة على الأمم؛ لأنهم يراعون

الحقائق في أجناسها وفصولها المقومة، وفي مشخصاتها المختلفة، ويسايرون

الطبيعة في سنتها، ويحكمون العقل أكثر مما يحكمون القوة فيها، ولذلك سادوا على

أمم وشعوب وقبائل كثيرة تعد بمئات الملايين، واستفادوا من ثروتها وخيراتها

ما لم يستفده غيرهم من المستعمرين، ولم يمنعوا بالقوة أحدًا ممن سادوا عليهم أن

يرتقوا في العلوم والأعمال، ولا هم يتعمدون ترقيتهم فيها إلا بمقدار ما يفيدهم هم من

توسيع دائرة الثروة، وقد يحولون بينهم وبين ما فوق ذلك من الترقي من

حيث لا يشعرون.

يليهم في هذه البراعة الهولانديون، فدولتهم على صغرها تتصرف في أكثر

من ثلاثين مليونًا من المسلمين تسخرهم لمنافعها، وتستعملهم في تلك الجزائر

الخصبة (جزائر جاوه) كما تستعمل الأنعام، وهم أجهل من رعايا الإنكليز

وأضعف عقولاً ونفوسًا، وليس لهم من الاستعداد الموروث ولا من سابقة العلم

والمدنية والسلطان مثل ما للهنود والمصريين؛ ولذلك لا تحس منهم بحركة، ولا

تسمع لهم ركزًا، ومن عجائب خمولهم وضعف استعدادهم أن الذين يرحلون منهم

لطلب العلم يقيمون السنين الطوال بمكة أو مصر، ثم يعود من يعود منهم إلى بلاده

وهو لا يعرف من أمر العالم الإسلامي ولا من أحوال هذا العصر شيئًا قط؛ لأنهم

يحبسون أنفسهم على أفراد من متفقهة الشافعية، يتعبدون ببعض كتب متأخري

الشافعية كابن حجر الهيتمي والرملي، فإن تجاوزوها فإلى كتب الشيخ زكريا

الأنصاري والنووي.

لو جردت من هذه الكتب ما يعمل به الذين يتعلمون أحكام المذهب من

الجاويين وغيرهم من مسائل العبادات، وما يقرب منها من الأحكام الشخصية

لأمكنك جمعه في مائة ورقة، يمكن تعلمها في شهر أو شهرين أو ثلاثة، ولتكن

مئتي ورقة، وليكن تعلمها في سنة، فما بالهم يقضون السنين الطوال في مدارسة

أحكام المعاملات؛ كالبيوع والشركات وأحكام الجنايات والجهاد والرقيق، وغير

ذلك مما لا يعمل ولا يحكم به أحد في بلادهم، ويمر العمر ولا يحتاجون إلى معرفة

شيء منه؟ ! ولا يعرفون شيئًا في هذا الزمن من علم القرآن، وسنن الله تعالى في

الأمم؛ كأسباب قوتها وضعفها وعزها وذلها وسيادتها على غيرها وسيادة غيرها

عليها؟ ؟ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (يوسف: 109)[1] بلى قد ساروا، ولكن لم ينظروا ولم يتفكروا ولم يعتبروا كما

أمروا، فهم لا يعلمون من أمر عاقبة الذين من قبلهم شيئًا، لا يستقرون ولا

يختبرون شيئًا من أحوال الأمم بأنفسهم، ولا يقرءون التاريخ وعلم تقويم البلدان

(الجغرافية) ، ولا علم الاجتماع وحقوق الدول والأمم، بل تراهم يقيمون السنين في

مصر ولا يقرءون جرائدها، ولا يعرفون طرق الإدارة وشؤون العمران فيها،

والقرآن يحثهم على السير في الأرض؛ لينظروا ويتفكروا ويعتبروا لا ليتدارسوا

كتب ابن حجر والرملي فقط {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا

أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) .

كانت هولندة قانعة؛ وهي دولة صغيرة في أقاصي الشمال باستعمار هؤلاء

الملايين في الجزائر الاستوائية من الجنوب، وتسخيرهم في استغلال أرضهم لها،

وتركهم في شؤونهم الروحية والاجتماعية، لا توقظهم من نومهم ولا تدع أحدًا

يوقظهم، ثم إنها تصدت في هذه السنين الأخيرة إلى تسخير أرواحهم وقلوبهم لها؛

لتأمن في المستقبل استيقاظهم على يد غيرها، فوجهت عنايتها إلى تنصيرهم

وتعليمهم لغتها، أي إلى استبدال مقوماتهم الملية بغيرها.

كان يروعها ما تجده من شدة تمسكهم في دينهم، وتعريضهم أنفسهم للهلاك في

سبيل الحج إلى بيت الله الحرام، فظنت كما يظن بعض المغرورين من المسلمين

أن تنصير المقلدين عسير؛ لأن المقلد لا يصغى للبرهان، ولكن الهولنديين يعلمون

ما يجهله هؤلاء المغرورون من طباع البشر وأخلاقهم، ومنها أن الميل إلى

الاستدلال طبيعي فيهم، فإذا منعوا باسم الدين من البحث في البرهان والدليل على

أصول دينهم وفروعه، فإنهم لا يمتنعون من التفكر فيما يلقى إليهم من الدلائل على

بطلان هذا الدين الذي لا يعرفون حقيقته، وإن هذه الدلائل تروج عند الجاهلين؛

وإن كانت مقدماتها تؤلف تارة من الجدل والسفسطة وتارة من المقدمات اليقينية على

بطلان بعض التقاليد التي يسمونها إسلامًا، وما هي من الإسلام في شيء.

سلك الهولنديون لتنصير المسلمين طريقًا لم يسبقهم إليه أحد فيما نعلم وقد

نجحت التجربة التي جربوها في ديفو، وهي بلدة بين بتاوي وبوكر، نفوسها

زهاء أربعة آلاف، بثوا فيها الدعاة (المبشرين) ومنعوا مسلمي العرب وغيرهم

من المستنيرين أن يدخلوها ألبتة، وقد جمع أولئك المبشرون جميع ما يعرفون من

سيئات مسلمي تلك البلاد وخرافاتهم وضلالاتهم التي راجت بينهم باسم الدين،

وسعي شيوخ الطريق الدجالين، وبينوا لأهلها فسادها، وكون الدين الذي جاء بها

لا بد أن يكون باطلاً مثلها، ومسخوا لهم بعض أحكام الإسلام ومسائله بتأويلها

وصرفها عن حقيقتها، وأيدوا ذلك كله بسوء حال المسلمين، وكونهم أحط من

النصارى علمًا وعملاً وآدابًا وثروة وسيادة، وأوهموهم أنه لا علة لذلك غير الدين،

فتنصر جميع أهل تلك البلدة وبغض إليهم المبشرون المسلمين، حتى إن المسلم

إذا دخلها لا يجد له فيها مأوى، ولا يسقيه أحد فنجان قهوة، ولا جرعة ماء، بل لا

يجد من يقابله ولا من يكلمه. فهل بعث المسيح ليوقع العداوة والبغضاء بين الناس

إلى هذا الحد، أم دين السياسة الأوربية عليها الملام شيء ودين المسيح عليه السلام

شيء آخر؟

سر هولندة نجاح هذه التجربة، فبثت دعاة النصرانية في تلك الجزائر يدعون

الأعرق منها في الجهل فالأعرق، والأبعد عن حقيقة الإسلام فالأبعد، وإذا دامت

الحال على هذا المنوال، فستكون جاوه كما قال ذلك السائح العاقل أندلسًا ثانية، ولا

عجب فمسلمو جاوه أجهل المسلمين بالإسلام وأشدهم خمولاً، وقد استيقظ أناس من

المسلمين في كل قطر إسلامي كبير، وأنشأوا يوقظون غيرهم، ولا يزال مسلمو

جاوه نائمين يغطون، وقد ابتلوا بأناس من العرب يدعون العلم وما هم من أهله،

يبغضون إليهم العلم الصحيح الذي يعرفهم أنفسهم ومكانتهم من حكومتهم ومن سائر

الناس، ويحرمون عليهم إنشاء المدارس العلمية على الطرق العصرية المعروفة في

مصر، وأن يتعلموا غير تلاوة ألفاظ القرآن للتبرك وبعض أحكام الفقه، وما يتعلم

ذلك إلا قليل منهم.

إذا حرم هؤلاء الدجالون على المسلمين أن يعلموا أنفسهم ما يقوم به أمر

دنياهم، ويحفظ به أمر دينهم في مدارس نظامية، فهل يحرمون على حكومة

هولندة أن تنشئ لهم مدارس تعلمهم فيها لغتها، وما نرى فيه مصلحتها من علوم

الدنيا، وعلى دعاة النصرانية أن ينشئوا لهم مدارس أخرى ينصرونهم فيها؟ كلا،

إن قد شرعت الحكومة الهولندية في ضبط ما كان لرؤساء تلك الجزائر الذين يلقبون

بالسلاطين (! !) من الأرض والغابات والمرافق؛ لتتولى هي استغلال ما كانوا

يستغلونه، وجباية ما كانوا يجبونه، وتجعل رزقهم محصورًا فيما تجود به عليهم

من خزينتها كل شهر أو سنة، وتقول: إنها ستنفق ربع ذلك على المدارس التي

تنشئها لتعليم الأهالي، وقد وضعت قانونًا جديدًا لهذه المعاملة؛ وهي تحمل أولئك

السلاطين المساكين على إقراره وإمضائه، فمن لم يرض منهم بترك ما كان له من

امتياز وسلطة صورية، وأن يكون كعمال الحكومات الذين يعطون عند عجزهم

راتب التقاعد (المعاش) ، عزلوه من سلطنته، ونصبوا مكانه شبحًا آدميًّا آخر

وسموه سلطانًا، وهي خير للرعية من أولئك السلاطين الذين لا يمنعهم عن الظلم

إلا العجز.

(روسية) مسلمو روسية أكثر من مسلمي البلاد العثمانية، ويناهزون عدد

مسلمي جاوه، وأكثرهم من التتار والترك والجركس والقرغيز والفرس، وبعضهم

يعد في القانون روسيًّا محضًا والبعض الآخر من المستعمرات، ومنهم الجاهلون

الغافلون الذين لا يعرفون من أمر العالم شيئًا قط، بل يعيشون كالأوابد والسوائم إلا

أنهم أشداء شجعان لا ضعفاء كالجاوبين، ومنهم المغرورون بما عندهم من بقايا

العلوم الإسلامية؛ كالفقه الذي يرون أنهم أغنياء به عن كل ما في العالم من العلوم

الدينية والدنيوية، ومنهم الذين دبت فيهم روح الحياة الملية، وتوجهت نفوسهم إلى

الارتقاء الاجتماعي وأكثر هؤلاء من التتار، وحكومتهم واقفة لهم بالمرصاد، فلا

يرضيها أن يرتقوا بدينهم ولغتهم، ولا هي تستطيع أن تنصرهم ولا أن تبدل لغتهم،

بل عجز دعاة النصرانية في روسية عن تنصير أعرق مسلمي بلادها في الجهل،

وأبعدهم عن العلم؛ لأن حظ عامة مسلمي تلك البلاد من عقائد الإسلام وأخلاقه

وآدابه أكبر من حظ أكثر المسلمين في أكثر الأقطار، فهم أرقى من الروسيين روحًا،

وأزكى نفسًا، وأعلى أدبًا، وأكثر في الجملة كسبًا، وجذب الأعلى إلى الأدنى

عسير.

إذا دبت في الأمة روح الحياة، فلا يزيدها الضغط والاضطهاد إلا حياة وقوة؛

لأنه يلم شعثها، ويجمع متفرقها، ويزيل ما بينها من الأضغان والأحقاد والتنازع

والخلاف، ويجعلها إلبًا واحدًا على من ينازعها أسباب ترقيها ومادة حياتها،

فالمصلحة لروسية أن تدعهم يعملون لأنفسهم ما شاءوا، وأن تظهر لهم الرغبة في

ترقيهم بشرط اجتناب السياسة والتحيز إلى دولة أخرى، ومن مصلحتهم مواتاتها على

ذلك واتقاء فتن السياسة ظاهرًا وباطنًا، وحصر سعيهم في دائرة العلوم النافعة من

دينية ودنيوية، والأعمال التي ترقي الثروة مع التربية الإسلامية (راجع

مقالة ألمانية والعالم الإسلامي في هذا الجزء) .

(فرنسة) سكان المستعمرات الفرنسية أربعون مليونًا أو يزيدون، أكثرهم

من المسلمين، وقد أخطأت فرنسة في طريقة إدارتها وسياستها في الجزائر، وظهر

لها أنها قد أخطأت ولما يظهر لها الصواب، وقد كتب ساستها وعلماؤها مما لا

نحصي له عددًا من المصنفات والمقالات في الإسلام والمسلمين، والجزائر

والجزائريين، وذكروا آراء كثيرة فيما يراه كل كاتب أمثل الطرق لحكم المسلمين،

وما أفاد ذلك شيئًا.

بذل الفرنسيون جهدهم في تنصير الجزائريين فلم يفلحوا، وحاولوا أن

يبدلوهم بلغة العرب لغة فرنسة، فلم ينجحوا، أخذت الحكومة أوقافهم ومكنت

اليهود من أملاكهم فصبروا، جربت أخذهم بالسيئات؛ لتفسد بأسهم وتأمن عاقبة

استعبادهم، ولم تجرب أخذهم بالحسنات ليبلغوا رشدهم، وتربح شكرهم وودهم،

ولعلها لولا طمع يهود الجزائر في مسلميها، ومساعدة يهود باريس لهم، وناهيك

بنفوذهم فيها؛ لوجد هناك من الأحرار من ألجأ حكومتها إلى جعل الجزائر زينة

بلاد المغرب في العمران، ومثابتها في العلم والعرفان، وإذًا لكان ما تبغيه الآن من

استعمار ما بقي في أيدي المسلمين في تلك الأوطان أقرب منالاً وأحسن حالاً.

كان أكبر خطئها الاستعماري في الجزائر إزالة صورة الحكم الإسلامي منها

بإزالة معناه، وجعل الحكومة فرنسية محضة مع العلم بأن صفة الحاكمية هي أشد

الصفات تمكنًا في نفوس المسلمين، فنزعها منهم يحدث في نفوسهم جرحًا لا يندمل،

ثم اقتدت بإنكلترة بعض الاقتداء في استعمار تونس، فسمت نفسها حامية لها لا

حاكمة فيها، وأبقت لها أميرها (الباي) ، ولكنها لم تجعل له ولا لرجال حكومته

من الأمر شيئًا قط لا صورة ولا حقيقة، وكان إبقاؤه أحد الأسباب التي جعلت

نصيبها من النجاح في تونس أوفر، وميزان السكون إلى حكمها أرجح، حتى زعم

بعض رجالها أنهم قطعوا رابطتها الإسلامية التي تربطها بمكة على أن تونس ما

زالت كما كانت أوسع من الجزائر علمًا بالإسلام، فالعلوم الإسلامية ليست هي التي

تبعد المسلمين عن الأوربيين، ولكن الأوربيين هم الذين يبعدون المسلمين عن

أنفسهم، وليس الاتفاق بينهم بالمحال، وإنما هو من الممكنات التي يعرف طريقها

أهل الرأي والبصيرة من المسلمين.

وتريد فرنسة أن تتبع خطوات إنكلترة استعمار مملكة مراكش، فقد كادت لها

كيدها، وعبثت كما تشاء بقبائلها وسلطانها، ففاض طوفان الفتن، واندفع السيل

الآتي يقذف جلمودًا بجلمود، حتى حاصرت القبائل مدينة فاس والسلطان عبد

الحفيظ فيها، وتسنى لفرنسة أن تسوق جيشها إليها لإنقاذ الأوربيين وحماية السلطان

من الثائرين، كما فعلت إنكلترة بمصر، فدخلت عاصمة المملكة الحسنية (ولم

تمنعها كرامات مولاي إدريس من دخولها، كما كان يقول المغاربة. كما أن

كرامات شاه نقشبند لم تمنع روسية من دخول بخارى، كما كان يقول أهلها) ووكل

السلطان الفقيه النحوي الأصولي المحدث إلى القائد الفرنسي حمايته وحماية عرشه

من أهل بلاده الثائرين، كما فعل قبله الخديوِ توفيق باشا، وقضى الله أمرًا كان

مفعولاً.

حذرنا مملكة المغرب الأقصى من هذه العاقبة في السنة الأولى من سني المنار،

وجزمنا بأنها إذ دامت على تلك الحال من الجهل والفساد فإنها لا بد أن تقع في يد

أوربة، وبينا لها طريق النجاة التي تحفظ استقلالها، وأعدنا الذكرى وكررناها بعد

ذلك، وكان المنار يرسل إلى السلطان وكبار رجاله ولكنهم قوم لا يعقلون، وقد

أبسل السلطان الذي يسمونه جاهلاً، ولم يعتبر السلطان الذي يسمونه عالمًا، بل

أبسل المملكة بأسرها، وتلك عاقبة الجهل والغرور، ولله عاقبة الأمور.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

في سورة يوسف والمؤمن ومحمد.

ص: 347

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقرير اللجنة التحضيرية للمؤتمر المصري

المنعقد في القاهرة في 29 أبريل سنة 1911

أيها السادة:

تحييكم لجنة المؤتمر المصري تحية الإخوان المتضامنين، وتشكركم على

أنكم لبيتم نداءها لعقد هذا المؤتمر، واجتمعتم من أطراف البلاد المصرية؛ لخدمة

المصلحة العمومية والنظر في التوفيق بين العناصر المؤلفة للوحدة المصرية التي

كاد يتصدع بناؤها، من جراء مؤتمر الأقباط.

إن الأقباط قد اشتغلوا فيما يشبه الخفاء بتحضير ما سموه جمعيتهم العمومية،

حتى لم يكن بين خبر انعقادها وبين انعقادها بالفعل إلا أيام. ولا شك في أن العمل

على هذه الطريقة مريب، حتى إذا كان الغرض من جمع الجمعية العمومية؛ النظر

في المقاصد القبطية الصرفة التي تتعلق بأحوالهم الشخصية، فكيف به وقد ظهر في

الجمعية العمومية.

إن الأقباط يستقلون ما في أيديهم من السلطة التي مظهرها الوظائف،

ويستكثرون ما في أيدي المسلمين منها، يستظهرون بما سموه كفاءتهم الذاتية،

ويشكون من عدم تقرير أولي الأمر لهذه الكفاءة، يتناسون التقاليد القومية ويطلبون

عطلة يوم الأحد بجانب عطلة يوم الجمعة، يعتبرون أن بين مصلحة

المسلم وبين مصلحة القبطي منافاة، ويريدون أن يحصلوا على امتياز خاص،

يجعل لهم في الهيئات النيابية في بلدنا أعضاء من الأقباط، يدافعون عن مصلحة

الأقلية، كأن الأكثرية والأقلية في الأمم مترتبة على العقائد الدينية، لا على

المذاهب السياسية، يرسلون مبعوثيهم إلى الأمة الإنجليزية؛ لبث شكاوى لا

تشف إلا عن تعصب المسلمين على المسيحيين في مصر.

ذلك كان شكل حركتهم، وتلك كانت مطالبهم، ولا شك في أن الشكل الذي

أخذته هذه الحركة القبطية مريب في ذاته، مفض إلى الظن بأن الأقباط عولوا على

أن يكونوا وحدهم أمة مستقلة، وتذرعوا بهذه المطالب، حتى يصلوا بمعونة إنكلترا

المسيحية إلى أن يكون لهم في مصر؛ وهم الأقلية الضعيفة حق السيادة على

الأكثرية الإسلامية العظمى، ومن البديهي أن عملاً هكذا لا بد أن يؤثر في نفوس

المسلمين أسوأ تأثير، وينتج نتائجه الطبيعية؛ وهي استحكام البغضاء بين الأقلية

الصغيرة وبين الأكثرية الكبيرة، وذلك ليس من مصلحة الأقلية نفسها ولا من

مصلحة الجامعة القومية.

لهذا الاعتبار وإشفاقًا عن الوطن من أن يكون مرسحًا لمظاهر العداوات الدينية

قامت هذه اللجنة بدعوة المؤتمر المصري العام؛ ليبحث في عمل الأقباط وتقديره،

وليزن مطالبهم بميزان العدل، وليبين النافع منها والضار، والممكن وغير الممكن،

ويقرر لهم ما يراه حقًّا من غير أن يحوجهم إلى السعي بإخوانهم وشكايتهم إلى

غيرهم، فإن المصريين أولى بإنصاف المصريين.

إلى ذلك دعت اللجنة بانعقاد المؤتمر أولاً وبالذات، ولكنه لما أن مؤتمرًا

عظيمًا كهذا يجب أن يأتي بأكمل ما يمكن أن يأتي به من الفائدة، رأت اللجنة أن

يتناول المؤتمر البحث أيضًا في المسائل الاجتماعية والاقتصادية، وكل ما له علاقة

بسعادة الأمة ما عدا المسائل السياسية داخلية كانت أو خارجية؛ لأن الظروف التي

فيها مصر الآن من الجهة السياسية لا تسمح بدخول هذا المؤتمر في السياسة من

غير أن يضحي تضحية تامة كل الأغراض التي اجتمع لأجلها، وأن اللجنة لا تشك

في أن كل مؤتمِر من المؤتمِرين، قد حضر إلى هذا المؤتمر عالمًا يقينًا بأن جميع

التقارير التي لها علاقة بالسياسة عن قرب قد أهملت؛ لخروجها عن برنامج

المؤتمر، كما أنها لا تسمح بأي وجه ما لأي مقترح أن يبدي اقتراحًا خارجًا عن

البرنامج المنشور.

* * *

(الأكثرية والأقلية)

لا شيء أضر على البلاد من نتائج ذلك الخطأ الذي يتسرب إلى عقول بعض

المصريين على العموم وكثير من الأقباط على الخصوص. ذلك الخطأ الفاضح هو

تقسيم الأمة المصرية باعتبارها نظامًا سياسيًّا إلى عنصرين دينيين: أكثرية

إسلامية، وأقلية قبطية؛ لأن مثل هذا التقسيم يستتبع تقسم الوحدة السياسية

إلى أجزاء دينية أي تقسيم الشيء إلى أقسام تخالفه في الجوهر. الأمة باعتبارها

كائنًا سياسيًّا ونظامًا سياسيًّا إنما تتألف من عناصر سياسية، كذلك فأيما مذهب

من المذاهب السياسية اعتنقه أفراد أكثر عددًا وأثرًا كان أكثرية وكان الآخر أقلية،

وعلى هذا يمكن فهم الأكثرية والأقليات في كل أمة، وليس للدين في ذلك دخل

غير أن لكل أمة دينًا رسميًّا، وذلك ضروري بل مشخص من مشخصاتها، ودين

كل أمة هو دين حكومتها أو دين الأكثرية فيها، على ذلك يكون من السهل فيهم انقسام

الأمة باعتبار المذاهب السياسية إلى أكثرية وأقليات كلها غير ثابتة، بل متغيرة

بتغير المذاهب السياسية وانتشارها قلة أو كثرة، ولكن من غير المفهوم بالمرة أن

يكون في الأمة أكثر من دين رسمي واحد، وعليه فلا معنى للاعتراف بأقليات

دينية تعمل في السياسة بهذه الصفة، أو تكسب حقوقًا عامة أكثر من أن

يخلى بينها ويبن القيام بواجباتها الدينية عملاً بحرية الاعتقاد.

دين الأمة المصرية هو الإسلام وحده؛ لأنه دين الحكومة ودين الأكثرية في

آن واحد. ذلك أمر بعيد بطبعه عن المناقشات في المصالح الدنيوية العامة التي

تكون بين الأكثرية وبين الأقليات السياسية. ولا شك في أن العمل في السياسة

بالنسبة للأفراد وبالنسبة للمجاميع لا يصح أن تكون قاعدته المنفعة. ويسرنا أن

الأحزاب السياسية في مصر قد سارت على هذا النحو، ولم تلحظ في هيئة تأليفها

ولا في برنامج أعمالها اختلاف المعتقدات الدينية.

بعد ذلك، كيف يمكن الاعتراف بأن أقلية دينية تباشر بهذه الصفة الأعمال

العمومية، ويكون لها مطالب خاصة كأنما هي أقلية سياسية. لا يمكن الاعتراف

بذلك إلا إذا أمكن أن يكون للأمة دينان في آن واحد، وأن يكون أساس الأعمال في

المصالح العامة هو الدين. ذلك غير ميسور التحقق ولا مسلم به في النظر. فمن

الخطأ أن يكون من الأشياء المسلم بها اعتبار أن الأمة السياسية تتألف من عناصر

دينية.

الحقوق والمرافق في مصر، إنما هي على الشيوع بين جميع المصريين على

السواء، لا امتياز لأحد منهم على أحد بسبب كونه مسلمًا أو مسيحيًّا أو يهوديًّا،

ومن الظلم الصارخ أن يقع هذا الامتياز لفرد من الأفراد أو لمجموع من المجاميع؛

بسبب أنه على دين المصريين (الإسلام) أو على دين غيرهم. حسب العالم ما

كان من جراء الانقسامات الدينية، فلا نأتي في القرن العشرين لنجعل الاعتقادات

الدينية أساسًا للامتيازات بين الأفراد في الحقوق الوطنية.

لا نغفل أن نصرح هنا بأن الأحوال في مصر كانت متمشية على هذه القاعدة

من زمن غير قريب، ولكن الحكومة وبعض الصحف قد تركت الناس تفهم أن حفظ

بعض المراكز للأقباط في مجلس الشورى إنما هو للدفاع عن الأقلية، فكان من

نتائج ذلك أن اعتقد بعض الناس هنا أن الأقباط بصفتهم أقلية مسيحية يصح أن

يكونوا بهذه الصفة أقلية سياسية لها مصالح قد تنافي مصالح الأكثرية. وكان هذا

هو الأساس الذي بنى عليه كثير من الأقباط شكاواهم ومدعياتهم. تجسم هذا الفهم

في العقول، واختلط بشيء غير قليل من الطمع في أن يجعل الأقباط لأنفسهم

مركزًا خاصًّا، وتضامنًا خاصًّا، وأندية خصوصية، وجرائد سياسية خاصة للدفاع

عن مصالحهم السياسية، وسمتهم جرائدهم الأخيرة بالأمة القبطية. وقد دل كل ذلك

على أن الخطأ الذي وقعت فيه الحكومة بادئ الأمر قد غذى أطماعهم وقوى شهوتهم

في أن يؤلفوا بصفتهم مسيحيين جامعة قبطية، تندرج في أطماعها من سلم إلى سلم،

حتى تحوز بين يديها السلطة في مصر؛ اعتمادًا على هذا الاحتلال المسيحي،

وعلى أن المصريين أخوف ما يكون من أن يرموا بالتعصب الديني. ولقد ظهرت

هذه المقاصد بارزة في صحفهم بادئ الأمر ثم في مؤتمرهم الأخير.

ولكن علاقتهم بالمبشرين من الأمريكان ورجال الكنائس الإنكليزية والجرائد

الإنكليزية قد خدعتهم كثيرًا؛ إذ جعلتهم يظنون أن في طاقة الاحتلال أن يجعل

مصر مرسحًا للعداوات الدينية، وأن يجعل للأقليات الدينية امتيازات خصوصية

بوصف أنها أقليات دينية، وإلا فإن أولي الرأي من الأقباط كانوا يكرهون إلى عهد

قريب أن يطالبوا بحق من الحقوق السياسية بصفتهم أقباطًا، بل كانوا في مقدمة

الذين يقولون: إنهم مصريون قبل كل شيء، ولا شك في أن المصري قبل كل

شيء لا يطالب بحق إلا بوصف كونه مصريًّا فقط، والمجموع المصري لا يطالب

بحق إلا بوصف أنه مجموع مصري فقط، دون أن يصف نفسه بالمسيحية أو

بالإسلامية.

على أن وصف الأقباط مجموعهم بالأقلية القبطية أو بالجمعية العمومية للأقباط

ومطالبتهم بحقوق أو شكواهم من عدم تنفيذ القوانين بهذا الوصف، واستنادهم على

إخوانهم في الدين من الأمريكان والإنكليز، وبعثهم المبعوثين في إنكلترا؛ لبث

شكواهم.

كل ذلك لا يدل إلا على أنهم يرمون المسلمين بالتعصب الديني. ذلك صريح جدًّا

على الرغم من تلطف خطبائهم في العبارات إلى حد أكثر من التلطف، بل تصريحهم

في مؤتمرهم بأنهم عائشون مع المسلمين على غاية الوفاق، وليس من البعيد أن

التوفيق بين تصريحاتهم في المؤتمر من محاسنة المسلمين لهم (وهذا الواقع) وبين

الأشكال التي اتخذوها لأعمالهم، والوسائل التي اختاروها لإنجاح مقاصدهم، ينتج

في عمومه أنهم وضعوا المسلمين في جانب، وأخذوا يساومون الإدارة الإنكليزية في

مصر على الوظائف التي في يد المسلمين، وهم يظنون أن المسلمين يكفيهم في كل

هذه المساومة أن لا يرموا بالتعصب الديني؛ أو أن يشهد لهم بأنهم حسنوا

السلوك مع إخوانهم الأقباط.

كل ذلك إنما كانت نتيجة اعتبار أن الأقلية الدينية يصح اعتبارها أقلية سياسية

ويصح لها بذلك أن تقوى فتحوز السلطة ومظاهرها باسم الدين، فيجب علينا أن

نصرح بأننا لا نعرف أقلية دينية بين مصالحها وبين مصالح المصريين منافاة، أو

أن مصالحها في حاجة لرعاية خاصة واستثناء في القوانين العامة المطبقة في مصر

على جميع المصريين على السواء. وليس لمجموع ديني أن يكون له من المطالب

السياسية بهذا الوصف إلا فيما يتعلق بالأمور الدينية، وما يتبعها كتنظيم

البطركخانات الملية

إلخ. وإلا فكل مطلب سياسي من مجموع ديني لا تكون

نتيجته إلا التفريق بين المصريين في المعاملة.

ومع اعتبار أن الشكل الذي تمت عليه مطالب الأقباط ليس مقبولاً؛ لما فيه

من جعل الدين أساسًا للتفريق في المعاملة، فإن اللجنة تقدم للمؤتمر نتيجة بحثها في

تلك المطالب.

(1)

(مطالب الأقباط)

1-

عطلة يوم الأحد:

كما أن لكل حكومة دينًا رسميًّا واحدًا، كذلك لها يوم عطلة واحد في الأسبوع،

سواء كان الدين يوجب عطلة ذلك اليوم أو لا يوجبها، وليس لنا أن نبحث في

نصوص الأصول الدينية في هذا الموضوع، بل الذي نراه بين ظهرانينا؛ أن

الإنكليز والفرنساويين والطليان وغيرهم من الموظفين في الحكومة المصرية،

يشتغلون يوم الأحد ويبطلون يوم الجمعة، ولم نسمع إلى اليوم أنهم تركوا دينهم ولا

أنهم طلبوا إلى الحكومة - وهم قادرون عليه - إعفاءهم من العمل يوم الأحد،

ولقد أعفت الحكومة الموظفين المسيحيين من التبكير إلى مصالحهم يوم الأحد، حتى

تؤدى الصلاة، ولا شك في أن المسيحيين الموظفين فيها من المذاهب المختلفة قد

رأوا هذه الرخصة كافية للتوفيق بين قيامهم بأمر الدين وبين واجبهم الرسمي، ولم

يطلبوا عليه المزيد، وكذلك كان الأقباط إلى هذا الشهر الفائت عند انعقاد جمعيتهم

العمومية لا يرون عطلة يوم الأحد، وأقرب الفروض إلى فهم هذه النظرية هو

تعطيل يومين في الأسبوع يوم الجمعة للمسلمين ويوم الأحد للمسيحيين، ولقد ترك

اليهود من غير يوم مع تحرجهم في السبت أشد من تحرج المسيحيين في العمل يوم

الأحد، فإذا قسمت الأيام بين العناصر الدينية وجبت عطلة الأعمال ثلاثة أيام في

الأسبوع! !

اصطلحت الحكومات الإسلامية على جعل يوم الجمعة هو يوم البطالة الرسمي

فأصبحت عطلة ذلك اليوم عادة للحكومات الإسلامية، وواحدًا من تقاليدها القديمة

التي تمتاز بها عن غيرها، فهي بذلك لا يجوز لها أن تعطل غير يوم الجمعة من

أيام الأسبوع، إذا أمكن أن يعطل النظر في مصالح الناس يومين اثنين غير أيام

الأعياد القومية. ذلك، ولأن عطلة يوم الجمعة جزء من السيادة، جرت حكومة

لبنان وهي حكومة مسيحية واليها مسيحي وأكثرية الشعب فيها مسيحية على أن

تعطل يوم الجمعة؛ حفظًا لتقاليد الدولة العلية ذات السيادة عليها.

على أنه من الضروري البحث فيما إذا كان الأقباط غير الموظفين وغير

تلامذة المدارس يشتغلون يوم الأحد أم هم يعتقون أن من يشتغل فيه يقتل؟ الواقع

أن الأقباط في مزارعهم يشتغلون كل الأيام من غير فرق، كما أن المسلمين

يشتغلون في مزارعهم كل أيام الأسبوع من غير تفريق بين الجمعة وغيرها إلا وقت

صلاة الجمعة، فما هي الحاجة لهذه البدعة الجديدة وهي إبطال مصالح الحكومة

ومدارسها يوم الأحد أيضًا.

الظاهر أن الدافع إلى ذلك هو الطمع في انتهاز فرصة الاحتلال المسيحي؛

لإبطال التقاليد الإسلامية والاستهانة بالأكثرية، وتقسيم الشعائر القومية نصفين

متساويين بين أقلية صغيرة بعض أفرادها على دين الإنكليز وبين الأكثرية الكبرى

الإسلامية، تعطل الحكومة أعمالها يومين، كما يجب عليها جريًا على هذا المبدأ

الاحتفال رسميًّا بأعياد الجماعتين على السواء، مع عدم ملاحظة طابع الحكومة

ووصفها الإسلامي، ومع عدم اعتبار أن هناك أكثرية دينها يجب أن يكون الدين

الرسمي لا غيره، وتقاليدها هي التقاليد الرسمية لا غيرها، أمر لم يكن له مثيل في

حكومة من حكومات العالم ولا في إنكلترا نفسها التي ليس لحكومتها إلا دين رسمي

واحد.

لا يظهر أن لهذا الطلب دافعًا غير الطمع في إخضاع الأكثرية إلى أحكام

الأقلية الدينية؛ لأن الطلب مجرد عن المنفعة العملية؛ إذ لو فرض أن الحكومة

تعطل يوم الأحد - وذلك لن يكون بالضرورة - فما الذي يكره الأقباط الفلاحين على

عدم كسر الأحد، وهم يكسرونه مختارين، فأما أصحاب المحلات التجارية القليلون

الذين يقفلون محلاتهم يوم الأحد، فذلك لأن ارتباطهم بالبنوك والحركة التجارية

العامة تقضي بذلك كما يقفل المسلمون أنفسهم، وإذا كان الأفراد الأقباط يشتغلون

مختارين يوم الأحد، فأي نتيجة عملية ينالها المؤتمرون في جمعيتهم

العمومية منذ ذلك المطلب؟

وعهدنا في أولي الرأي من الأقباط أن يدركوا إدراكًا صحيحًا مقدار الخطأ

الذي ارتكبه جماعة المؤتمرين منهم؛ بتقرير مثل هذا القرار الذي مع كونه غير

ميسور الإجابة مطلقًا لا يخلو من الضرر؛ لما فيه من دواعي التفريق بين أفراد

الأمة الواحدة، ولما يستتبعه من سوء الظن بالأقباط، بل يسرنا أن لا يفكر

المسلمون كثيرًا في العوامل الباعثة على مثل هذا الطلب، وأن يقابلوه بغاية

التسامح، ونطلب إلى هذا المؤتمر أن يقرر بعدم إمكانه وعدم فائدته، وبأنه مضر

بالجامعة القومية، فيجب إغفاله والتجاوز عنه.

2-

قاعدة التوظيف في الحكومة:

ليس في قوانين التوظيف في الحكومة المصرية شرط يمنع المصري الكفء

من الوصول إلى أرقى المناصب مهما كان دينه، ولكن الاستقراء يدلنا على أن

بعض الوظائف الإدارية كوظيفة مدير إقليم لم يشغلها إلى الآن غير مسلم، مع أن

الوظائف الأرقى منها؛ كوظيفة قاضي الاستئناف أو وكيل نظارة من النظارات،

أو مركز ناظر، أو رئيس نظار، شغلها ويشغلها الأقباط. ولا طريق لتفسير هذا

التضاد إلا أن تكون الحكومة في تطبيق قانون التوظيف تلحظ الكفاءة من جميع

الوجوه الممكنة، ومن تلك الوجوه الاعتبار الذاتي لحاكم الأقاليم؛ لأن هؤلاء الحكام

الإداريين يلزمهم كثيرًا في تصريف الأمور نفوذهم الذاتي أكثر من قوة القانون،

فمن المسائل الكثيرة التي يجب عليهم القيام بها بمقتضى وظائفهم حمل الأهالي على

المشروعات المفيدة؛ كالمجالس البلدية المختلطة، وكترقية التعليم بوسائل الاكتتاب،

والإصلاح بين العائلات وبين العربان، وعلى العموم فإن تنفيذ الأوامر الإدارية

تسهله كثيرًا اعتبار الحاكم الذاتي، متى أضيف إليها سلطة وظيفته.

ومن المسلم أن الرجل لا يتم له هذا السلطان على محكوميه في حكومة

كالحكومة المصرية، إلا إذا اعتقد الناس فيه عدم التحيز لطائفة دون طائفة وأقرب

الناس إلى ذلك من الحكام هم المسلمون؛ لا لأنهم مسلمون بل لأن التعصب والتحيز

لا يكون من شعار أفراد الأكثرية الدينية، ولكن الحوادث العامة تدل على أن من

دأب الأقلية الدينية - إذا أحبت أن لا تفي في الأكثرية - أن تجتهد في إثبات ذاتيتها

بصفتها مجموعًا خاصًّا مستقلًّا، ولا تفتأ تعطي كل يوم مثلاً جديدًا على تضامنها،

ولقد يؤدي الإفراط في التضامن إلى الوقوع فيما لا يتفق مع نزاهة الحاكم، ذلك

أمر يكاد يكون عامًّا في جميع الأقليات الدينية، وإن كان لدينا من الأمثلة على

نزاهة بعض كبار الموظفين من الأقباط، وعدم تحيزهم وقيامهم بالواجب العام خير

قيام، إلا أن تطبيق الحكومة في قانون التوظيف في الوظائف الإدارية العالية يدل

على أنها تخشى من جراء الإفراط في التضامن بين أفراد الأقلية

ومن الأسف أن الأقباط بقراراتهم الأخيرة في الجمعية العمومية، قد صدقوا

نظر الحكومة فيهم، وأعطوها برهانًا قاطعًا على أنهم يشتغلون بوصف أنهم أقباط

قبل كل شيء، مع أن حاكم الإقليم يجب أن يكون مصريًّا قبل كل شيء.

أجل، إن مما يستحق الأسف أن يظهر الأقباط في مصر بهذا المظهر الذي

تأباه عليهم وطنيتهم، فقد جمعوا جمعيتهم العمومية؛ ليقصروا عملهم فيها على ما

يتعلق بهم وحدهم من الشؤون العامة، ثم صرح بعض خطبائهم بوجود فتور في

العلاقات بين المسلمين وبين الأقباط. ثم طلبوا أن يكون لهم امتياز خاص في

الهيئات النيابية المصرية، بأن يجعل للمسلمين دائرة انتخاب خاصة، وللأقباط

دائرة انتخاب خاصة، ثم يحاسبون على ما يدفعونه من ضريبة الخمسة في المائة

المخصصة للتعليم، يقررون كل هذه الفروق، في حين أنهم يقررون فيما يتعلق

بالوظائف بفناء طائفتهم القبطية في الأمة المصرية، إذ يقولون: إنهم لا يطلبون

وظيفة مدير ولا وزير، بل يطلبون أن لا يكون تنفيذ القانون مانعًا لأي مصري من

الدخول في أية وظيفة ثبتت كفاءته لها.

وبالتوفيق بين جميع نقط التفريق بين العنصرين التي ذكرها الأقباط في

جمعيتهم العمومية، وبين تقريرهم قاعدة الكفاءة بمعناها الأخص لوظائف الإدارة.

يبين أن تقرير الكفاءة ليس غرضًا من أغراضهم الجدية. ولكنهم يرمون إلى

غرض آخر؛ هو التذرع إلى الاختصاص بالسلطة في جميع فروع الحكومة.

نعم.. ليكون الأقباط منتخبين نتيجة منطقية في مطالبهم، يجب أن

يقولوا: إنهم أمة صغيرة مع الأمة الكبيرة، تقاسمها في أيام العطلة، وتقاسمها في

الخمسة في المئة من الضريبة، وتقاسمها في النواب عن البلاد للدفاع عن الأقلية،

وتقاسمها في الوظائف أيضًا، غير أنهم قد رأوا أن نصيبهم من الوظائف أظهر من

أن يستر كالمقاصد الأخرى، فرأوا أن يتذرعوا في هذا الطلب بأنهم مصريون قبل

كل شيء، ولكن في بقية الأغراض الأخرى هم أقباط قبل كل شيء.

إن لم يكن الأمر كذلك، وكان الأقباط حقيقة يريدون أن يكونوا مصريين قبل

كل شيء، يقررون الوظائف بالكفاءة والنيابة بالكفاءة، ويعتبرون أن لا مسلم ولا

قبطي كما اعتبر المسلمون ذلك، فانتخبوا نوابًا من الأقباط في مجالس المديريات

وفي الجمعية العمومية، كما سيجيء بيانه، فلماذا يريدون اختصاص الأقباط

- وليسوا أقلية سياسية - بدائرة انتخاب خاصة، يجمعونهم من أطراف البلاد؛

لينتخبوا كأنما لهم مذاهب سياسية تخالف مذاهب المسلمين.

لا جواب على ذلك إلا أنهم ظنوا خطأ؛ أن الاحتلال الإنكليزي يستطيع أن

يرضي الأقلية، فيذهب بتقاليد البلاد، ويمحو مظاهر المساواة والعدل في أرجائها.

أو أن هذا الاضطراب الذي قاموا به يروق في عين الإنكليز، وهو ظن أبلغ في

الخطأ من سابقه.

ولئن كانوا بتقرير الكفاءة يستقلون ما في أيديهم من الوظائف، فإنه إذا كانت

نسبة الموظفين منهم في المعارف إلى المسلمين 6 في المائة، فإن نسبتهم للمسلمين

في نظارة الداخلية 59.61 في المائة، وليست نسبة مرتباتهم لمرتبات المسلمين قليلة

في هذه النظارة؛ لأن نسبتهم في المرتبات هي 40.28 في المائة، مع أن نسبتهم

العددية للمسلمين لا تتجاوز 6.43 في المائة، وبالنسبة للثروة لا تتجاوز 10 في

المائة، كذلك نسبتهم في نظارة الحقانية 15 في المائة في عدد الوظائف و 14.5 في

المائة في المرتبات، كذلك في نظارة المالية نسبتهم إلى المسلمين 46 في المائة

غير الصيارف الذين عددهم 1877، مع أن عدد المسلمين منهم لا يتجاوز الخمسين.

كما يظهر من الإحصاء التفصيلي المرفق بهذا التقرير.

كل من يقرأ هذه النسبة بين عدد الأقباط في مصر وبين الموظفين منهم، لا

يرى مناصًا من الميل إلى فكره القائلين بأن الرئيس القبطي متى حل في مركز

الرئاسة تطرف في تطبيق معنى التضامن بينه وبين أبناء دينه، فكانت النتيجة

أن المصالح التي يكثر فيها الرؤساء الأقباط؛ كالباشكاتب، والمراقبين في المالية،

ورؤساء الحركة والبضائع في السكة الحديد لا تكاد تقبل توظيف المسلمين بها،

ولا شك في أن هذه الملاحظة يجب أن تكون درسًا للحكومة تستفيد منه كلما همت

بتعين رئيس قبطي في المصالح.

ولقد كانت هذه الحال غير مجهولة عند المسلمين، ولكنهم كانوا يرون

التصريح بها داعيًا إلى التفريق بين عنصري الأمة، وموطئًا لاتهامهم بالتعصب

بوجه ما. ولكن الأقباط قد رفعوا أصواتهم عالية بأنهم مظلومون فيما يتعلق

بالتوظيف، محرومون من بعض السلطة في الحكومة طالبين الوظائف الرئيسة في

الإدارة. فلم يبق بعد ذلك معنى لعدم إظهار الحالة السيئة التي سارت عليها المصالح

الأميرية إلى الآن.

مهما كان من الاعتبارات التي تقف في طريق القبطي؛ ليكون حاكمًا لإقليم،

سواء كان ذلك من حيث أن في أيدي الأقباط من الوظائف الرئيسية الأخرى ما يزيد

عن الكفاية، أو من حيث أنه لا توجد مديرية من المديريات ولا مركز من المراكز

فيه للأقباط أكثرية أو أقلية كبرى، كما يبين من الإحصاء المرفق بهذا التقرير. أو

من حيث كون المدير أو المأمور عليه بمقتضى وظيفته واجبات يومية لها مساس

عن قرب بالأمور الدينية. فإن ما سميناه بالإفراط في التضامن بين الرئيس القبطي

وأبناء دينه، قد يكون هو أكبر الموانع في الرضى بجعل القبطي مديرًا أو مأمورًا

خصوصًا بعد اليوم الذي ظهر فيه أولو الرأي منهم بالعمل لاختصاص الأقباط

الأقلين بالسلطة دون المسلمين الأكثرين. فإن أول المطلوب في أمر الحاكم أن لا

يكره المحكومون سلطته عليهم. وقد كان الأهالي بعيدين بعض الشيء عن فكرة

التمييز على طريقة ظاهرة معينة بين الموظف القبطي وبين الموظف المسلم.

ولكنهم الآن قد شعروا تمامًا بأن تسامحهم قلب عليهم تعصبًا، وانتخابهم للنواب

الأقباط دون المسلمين في بعض المراكز لم ينل في نظر الأقباط أي اعتبار من

الاعتبارات.

وأنه ليسر اللجنة أن يجيء اليوم الذي فيه يعم الاقتناع بأن الرئيس القطبي

كالرئيس المسلم، يسوي بين الناس في عدله وتصرفاته؛ ليكون مصريًّا قبل كل

شيء.

على هذه الاعتبارات تطلب اللجنة إلى المؤتمر أن يقرر بالرضى عن الطريقة

المتبعة في تطبيق الكفاءة بالنسبة لحكام الأقاليم وإلفات نظر الحكومة إلى ما هو واقع

في بعض المصالح لتضع لذلك حدًّا يمنع من العبث بالمصالح العامة.

3 -

وضع نظام لمجالس المديريات يكفل للأقباط تمتعهم بالتعليم الأهلي:

أباح القانون لمجالس المديريات ضرب الضرائب على الأطيان، بحيث لا

تتجاوز الخمسة في المائة من الضريبة الحالية، وهذه الضريبة تصرف إما على

المشروعات العمومية أو مدارس ابتدائية أو صناعية وزراعية. وهذا لا يعارض

الأقباط فيه، وإنما معارضتهم واردة على ما ينفق على الكتاتيب الأولية ومدراس

معلمي الكتاتيب. ولا ندري وجه هذا الاعتراض، وهم يعترفون أنه لا مانع في

قانون مجالس المديريات يمنع من قبول التلاميذ الأقباط في الكتاتيب، إلا أن يكون

الاعتراض بأن هذه الكتاتيب لا تعلم الدين المسيحي.

إن الجزء الأعظم من الكتاتيب التي تديرها مجالس المديريات إلى الآن

والكتاتيب التي تعينها نظارة المعارف، إنما هي كتاتيب بناها المسلمون، وأجروا

عليها الأوقاف تعبدًا؛ ليتعلم فيها صبيان القرى القراءة والكتابة والقرآن وطرفًا من

الحاسب. وليس في البلاد قانون يمنع صبيان الأقباط من التعلم فيها. وأما مدارس

معلمي الكتاتيب، فإنها تضم جماعة من الفقهاء، يتعلمون شيئًا من أصول التربية،

وأطرافًا من مقدمات العلوم ليكونوا بعد ذلك معلمين للقرآن وغيره في تلك الكتاتيب،

فالقبطي لا يجيد تعلم القرآن ليعلمه لأبناء المسلمين؛ لذلك صار من غير الموافق

أن يكون في هذه المدارس أقباط، ولا غبن في ذلك عليهم؛ لأن العرفاء الأقباط

يتعلمون في الأديرة وما شاكلها؛ ليعلموا الدين في الكتاتيب القبطية.

فإن كان الغرض جعل الدين المسيحي والدين الإسلامي يعلمان في مكاتب

القرى، فذلك غير مستطاع ولا مأمون النتيجة؛ لأن أصول التعليم في تلك الكتاتيب

لا تزال إلى الآن دينية بحتة. لذلك لا يصح الاستشهاد بتخصيص حصة آخر النهار

في المدارس الأميرية لتعليم الدين الإسلامي أو الدين المسيحي؛ لأن هذه المدارس

ليس طابعها في التعليم كطابع الكتاتيب الدينية التي معظم ما فيها من التعليم هو

تعليم القرآن، كما أن الاستشهاد بعمل مديرية القليوبية غير صحيح، لأنها لم تعلم

الدين المسيحي في الكتاتيب الإسلامية بل في المدارس الابتدائية جريًا على نظام

نظارة المعارف.

وأما الكتاتيب فإنها إسلامية إلا في ثلاث قرى وجد فيها عدد من الأقباط يسمح

بإنشاء كتاب مسيحي في كل منها. فأنشئ في كل قرية منها كتاب مسيحي صرف.

وتلك هي أفضل طريقة للتعليم الأولي.

وعلى هذا فالشكوى من نظام مجالس المديريات فيما يتعلق بالتعليم أقرب

إلى أن تأخذ صورة التجني من أن تأخذ صورة الشكوى الجدية. والدليل على ذلك

أعمال مجالس المديريات إلى الآن.

وإن اللجنة في هذا المقام لا يسعها إلا أن تظهر عدم الرضى عن الخطة التي

اختطها بعض مجالس المديريات؛ لتعليم الدين المسيحي في الكتاتيب الإسلامية؛

لأن ذلك خلط في الأنماط التعليمية لا يكون من ورائها إلا نتيجة سيئة؛ وهي إيجاد

متسع للمناقشات الدينية في هذه الأوساط التي لا يزال يغلب عليها الجهل. ولكن

يسرنا أن هذه الطريقة لم تكن عامة في المديريات جميعها، وربما تظهر التجربة

فساد الرأي، ويرجع مجلس المديرية عنه إلى المذهب العام الذي اتخذه معظم

المديريات؛ وهو جعل كتاتيب خاصة بالمسلمين وأخرى بالأقباط.

(مديرية القليوبية) عدد سكانها 433546 منهم 8703 أقباطًا، ومجموع

ضريبة الخمسة في المائة هو مبلغ 13868 جنيهًا، يدفع الأقباط منها 689 جنيهًا،

وحظهم في التعليم أضعاف ما يستحقون بنسبة ما يدفعون من الضريبة، فإن مجلس

المديرية عنده مدرستان ابتدائيتان في بنها: إحداهما للبنين وبها 182 تلميذًا منهم

47أقباطًا وميزانيتها السنوية 900 جنيهًا، والثانية للبنات وبها 115 تلميذة منهن

35 قبطية وميزانيتها السنوية 500 جنيه، وتعليم الدين في هاتين المدرستين في

الحصة الأخيرة من النهار، متى جاءت تلقى كل فريق التعليم الديني في غرفة

خاصة. وسيكون للأقباط ذلك الحظ أيضًا في الثلاث المدارس الابتدائية المقرر

إنشاؤها في مراكز المديرية، فإذا كان متوسط ما يصرف على المدرسة الواحدة

800 جنيه في السنة، وكان الأقباط على نسبة الثلث في كل مدرسة كما هو الآن

في المدرستين الموجودتين، كان مقدار ما يصرف على الأقباط في ميزانية مجلس

مديرية القليوبية هو ألف جنيه سنويًّا.

أما الكتاتيب: فإن المجلس قد قرر بشأنها أن تبقى كما كانت مفتوحة الأبواب

للمسلمين وغيرهم في جميع القرى. ومما يستحق الذكر أن المجلس ضم إليه كتابين

قبطيين ليديرهما، وقرر إنشاء كتاب قبطي صرف في إحدى القرى، وتبلغ نفقات

إنشائه 300 جنيه، وتبلغ نفقات الثلاثة الكتاتيب 210 جنيهات سنويًّا، فهل يمكن

أن يقول الأقباط: إنهم مظلومون في ضريبة الخمسة في المائة في هذه المديرية؟

(مديرية الشرقية) لم يبتدئ مجلس هذه المديرية فعلاً في أمر التعليم، بل

كل أعماله تجهيزية، ولم يظهر له طريقة اتبعها في ذلك يمكن لأحد أن يأخذ عليه

أو يشكو منها.

(مديرية الدقهلية) قرر مجلسها أن القرى التي يقل فيها عدد الأقباط، يقبل

أبناؤهم في الكتاتيب الموجودة بها. وأما في التي يحتمل عددهم فيها إنشاء كتَّاب

قبطي فالمجلس مستعد لإنشائه، وقد قرر هذا المجلس منح مدرسة قبطية للبنات

إعانة سنوية وصرفها لها فعلاً من سنة 1910، وقرر المجلس أيضًا إنشاء كتاب؛

لتعليم أبناء الأقباط في صهرجت الكبرى، وسينفذ القرار في هذا العام. أما في

غير التعليم الأولي فالأقباط والمسلمون سواء.

(مديرية الغربية) لم يشرع المجلس حتى الآن في اتخاذ طريقة للتعليم،

ولكن المجلس عندما يقرر الإعانات في المعاهد الأهلية، لا بد أن يعامل كتاتيب

الأقباط وكتاتيب المسلمين على السواء.

(مديرية المنوفية) لم تنته المدارس والكتاتيب التي قرر المجلس إنشاءها،

وطلبات إعانة المدارس القبطية تحت نظر المجلس.

(مديرية البحيرة) كذلك في هذه المديرية تصرف الإعانات لجميع الكتاتيب

على السواء. وأما المدارس الابتدائية فمفتوحة للأقباط والمسلمين بحسب بروجرام

نظارة المعارف. ويوجد الآن في مدرسة شبراخيت 26 تلميذًا قبطيًّا منهم 5 مجانًا.

ومجموع تلامذة المدرسة 208، وكذلك في مدرسة المحمودية 12 قبطيًّا منهم اثنان

مجانًا، وعدد جميع التلاميذ 205، ويلاحظ هنا أن نسبة الأقباط للمسلمين في هذه

المديرية هي 1 وثلاثة أعشار في المائة.

(مديرية الجيزة) قرر المجلس أن دروس القرآن بعد الظهر. وأما قبل

الظهر فللتعليم العام في الكتاتيب للمسلمين وغير المسلمين، وقد قرر هذا المجلس

في 27 يوليو سنة 910 أنه إنما بلغ عدد الأقباط في الكتاتيب 36 تلميذًا، يعين لهم

المجلس معلمًا يلقنهم الدين المسيحي في الوقت الذي يتلقى فيها المسلمون دروس

القرآن.

(مديرية بني سويف) المعاهد التابعة للمجلس هي مدرسة بني سويف

الصناعية وتلامذتها من المسلمين والأقباط، وتقرر إنشاء مدرستين ابتدائيتين

أخريين سيكون الحال فيهما كذلك، وقد تقدمت طلبات إعانة من الجمعية الخيرية

القبطية، والمدرسة الإنجليزية، والمدرسة الطليانية، والمجلس ينظر في تقديم

الإعانة إليها جميعًا.

(مديرية الفيوم) في مدرسة الصنائع وفي مدرسة البنات الأمر سائر على ما

هو عليه في غيرها. وأما التعليم الأولي فقد قرر المجلس إنشاء كتاتيب للأقباط،

يعلم فيها الدين المسيحي في القرى التي يسمح عددهم فيها بذلك، وقرر أيضًا أنه

متى كان عدد التلامذة الأقباط في الكتاتيب الإسلامية يسمح بوجود معلم للديانة

المسيحية، يعين المجلس لهم معلمًا دينيًّا.

(مديرية المنيا) في هذه المديرية وضعت اللجنة العلمية المبادئ التي تتبع

في الكتاتيب، وكان من أعضائها عضوان مسيحيان من قبل مطران المنيا وهذه

القواعد هي:

1 -

إن مواد التعليم في الكتاتيب واحدة، وأن يعلم في الكتاتيب المسيحية

الكتب الدينية التي اقترحها العضوان المسيحيان ويخصص لها الحصص المخصصة

في الكتاتيب الإسلامية؛ لتعليم الديانة والقرآن، وللكتاتيب المسيحية الحق في

تغيير تلك الكتب بشرط تصديق اللجنة العلمية وبلغ هذا القرار لسيادة مطران

المنيا ومطران بني سويف.

2 -

أن تكون الكتاتيب مفتوحة الأبواب لجميع التلامذة بصرف النظر

عن اختلاف دينهم.

(مديرية أسيوط) قرر مجلس هذه المديرية إدارة 79 كُتَّابًا منها 9 كتاتيب

للأقباط، يتولى المجلس الصرف عليها جميعها بلا استثناء، ويكون التعليم فيها

جميعًا مجانًا. وأما الثلاث مدارس الابتدائية فهي مفتوحة الأبواب للجميع، وفي

هذه المدارس الثلاث 20 في المائة من الأقباط، والأقباط فيها يعلمون دينهم

كالمسلمين على السواء.

أما المعاهد العلمية فقد خصص لها المجلس إعانة 2000 جنيه في السنة، تأخذ

المعاهد القبطية منها حظها.

(مديرية جرجا) يدر المجلس أربع مدارس ابتدائية للصبيان، وفيها 410

تلميذًا منهم 188 أقباطًا، فيكون نسبتهم للمسلمين هما 24 وثلاثة أرباع في المائة،

مع أن نسبة ما يدفعه الأقباط من الضرائب في المديرية هي 20 في المائة، وهذه

المدارس قد بنيت على نفقة المسلمين خاصة، وقد أنشأ المجلس مدرسة للبنات فيها

70 تلميذة منهن 14 قبطية، وقد تنازل المسلمون للمجلس عن 29 كتابًا، ولم

يتنازل له الأقباط عن شيء، وقد أدارها المجلس وفتح أبوابها للمسلمين والأقباط

على السواء، فيها الآن عدد غير قليل من الأقباط، وقد أوجد المجلس دروسًا

خصوصية في مراكز المديرية؛ لإرشاد معلمي الكتاتيب، وتلقي هذه الدروس مباح

للمعلمين المسلمين والمعلمين الأقباط على السواء. أما فيما يتعلق بتعليم الدين، فقد

اتبع فيه المجلس طريقة نظارة المعارف في مدارسها. وأما في الكتاتيب فما ينشئه

المجلس منها للأقباط خاصة يعلم فيها الدين المسيحي.

(مديرية قنا) اتبع مجلس هذه المديرية في غير التعليم الأولي الطريقة

المتبعة في المديريات الأخرى. أما في التعليم الأولي فالكتاتيب مفتوحة لأبناء

الأقباط، وفي القرى التي يكثر فيها عددهم قرر المجلس إنشاء كتاتيب خاصة بهم،

وتقرر فعلاً بناء أربعة كتاتيب مسيحية في جهات مختلفة: وبروجرامها هو

بروجرام الكتاتيب الإسلامية، مع إبدال دروس القرآن بدروس الديانة المسيحية،

حسبما يقرره رؤساء الديانة.

(مديرية أسوان) لم ينشئ المجلس كتاتيب إلى الآن في هذه المديرية لا

للمسلمين ولا للأقباط، وفي غير التعليم الأولي الأمر على ما هو عليه في

المديريات الأخرى.

هذا هو بالإجمال طرف من الواقع في مجالس المديريات نعرضه على

المؤتمر؛ ليرى ما إذا كان هناك محل للشكوى من تصرف هذه المجالس، وهل

هناك حاجة لوضع نظام جديد يكفل تعليم أبناء الأقباط أكثر من النظام الذي اتخذته

هذه المجالس؛ وهي لم تكد تخطو خطوة صحيحة بعد في سبيل التعليم لجدتها.

ومن الضروري أن نلفت النظر في هذا المقام على حالة التعليم في نظارة

المعارف بالنسبة للأقباط، وإن لم تكن موضعًا للشكوى، ولكنها كان من شأنها أن

تجعل إخواننا الأقباط راضين بحالهم من غير أن يتعرضوا على الإلحاح في قسمة

ضريبة الخمسة في المائة بين المسلمين وبين الأقباط، تلك الضريبة التي ظهر أن

ليس لهم حق في الشكوى من طريقة توزيعها، والتي إن لم يأخذوا أكثر من حقهم

فيها فلن يغبنوا قياسًا على حالهم في المرافق المصرية الأخرى، ولو انتظروا إلى

أن تملك مجالس المديريات خطة سيرها النهائي لكانوا أحسنوا صنعًا.

يوجد في المدارس الابتدائية لنظارة المعارف 6639 تلميذًا من المسلمين

يقابلهم 1348 من الأقباط، فتكون نسبة الأقباط للمسلمين في التعليم الابتدائي 17

في المائة، وفي المدارس الابتدائية للبنات 493 مسلمة معهن أربع قبطيات فقط،

فتكون النسبة 2.9 في المائة. وأما المدارس الثانوية فعدد تلامذتها 1628

والأقباط 541، فيكون نسبة الأقباط إلى المسلمين في هذا النوع 24.6 في المائة،

وأما في المدارس الخصوصية؛ كمدرسة الزراعة، ومدرسة الفنون والصنائع،

ومدرسة الصناعة بالمنصورة.. إلخ، فإن نسبة عدد الأقباط للمسلمين هي 2.62

في المائة. أما في المدارس العالية فإن متوسط نسبة الأقباط إلى المسلمين في هذا

النوع من التعليم هو 29.2 في المائة. على ذلك يكون متوسط نسبة التلامذة

الأقباط إلى المسلمين في نظارة المعارف 17.26 في المائة، فأين تلك الحقوق

المهضومة للأقلية، حتى يمكنها التصدي للدفاع عنها بالطرق المختلفة.

نزيد على ذلك أن من ميزانية نظارة المعارف مبلغ 30000 مسمى إيراد

المكاتب الأهلية، وهذا الإيراد هو ربع أوقاف إسلامية أهمها اثنان: أحدهما: وقفه

المرحوم إسماعيل باشا الخديوِ الأسبق وقدره 21918 فدانًا؛ ليصرف ريعه على

ما تحتاجه المكاتب الأهلية. والثاني: وقفه المرحوم توفيق باشا الخديوِ السابق

وهو أملاك في القاهرة؛ نصف للمكاتب والنصف للمساجد، وهذان الوقفان

إسلاميان يجب صرفهما كشرط الواقفين على المكاتب الإسلامية. ولكن هذا الربع

يصرف الآن على عشرين مدرسة تابعة لنظارة المعارف، سميت مدارس المكاتب

الأهلية وعدد تلامذتها 4505 منهم 3551 مسلمًا و867 قبطيًّا و87 من ديانات

أخرى، فيكون التلامذة الأقباط ينتفعون من الوقف الإسلامي الصرف بربع ريعه

تقريبًا، ولم يقل المسلمون في ذلك شيئًا.

زد على ذلك أن كتاتيب أوقاف المسلمين يصرف عليها من ديوان الأوقاف

سنويًّا 16500 جنيه، وفيها من الأقباط عدد غير قليل، وكذلك الكتاتيب التي

تعينها الحكومة يصرف عليها من ميزانية الحكومة 23000 جنيه في السنة وفيها

3239 تلميذًا من الأقباط.

يبين من هذا الإحصاء المختصر أن حال الأقباط في التعليم سواء كان أوليًّا أو

غير أولي، هي حالة يغبطون عليها. فلا يغلو الذي يقول: إن هذا المطلب أشبه

بالتجني منه بالشكوى الصحيحة.

كان العدل أحق أن يتبع؛ لأنه خير واسطة للرضى بين العناصر المؤلفة

للأمة، ولقد يكون التسامح من أنفع وسائط التوفيق بشرط أن يعترف بأنه تسامح،

وأن لا يشعر بأنه غفلة أو استكانة؛ لأنه في هذه الحالة يكون عظيم الضرر على

المصلحة وعلى أخلاق العنصرين جميعًا.

العدل يقضي بأنه إذا حق للأقلية الدينية أن تطلب أن يصرف على أبنائها في

الكتاتيب بنسبة ما تدفعه من ضريبة الخمسة في المائة، مع أن مجالس المديريات لم

تملك بعد ميزان خطتها التعليمية، فقد حق للأكثرية أن تطلب تعليم أبنائها من

نظارة المعارف العمومية على نسبة ما يخص الأكثرية من الميزانية العمومية.

العدل يقضي بأن نسبة التلامذة الأقباط في المدارس الأميرية لا يجوز أن

تزيد على نسبة ما يدفعه الأقباط من الأموال الأميرية.

قد تلاقي هذه الفكرة بادئ بدء غضاضة على النفوس؛ لأنها تنتج حرمان

شخص يريد التعلم من أن يتعلم بحجة أنه قبطي، ولكن الذي يقدر الأشياء تقديرًا

صحيحًا لا يلبث أن يقتنع بأن هذه القاعدة بعيدة عن الانتقاد سليمة من الجور.

نعم.. هي فكرة بعيدة عن الانتقاد؛ لأن أبناء المسلمين يريدون أن يتعلموا

كما يريد أبناء الأقباط أن يتعلموا، ولا يمكن إيجاد توفيق عادل بين الإرادتين إلا

قبول الطرفين كل على نسبة ما يدفعه لخزينة المعارف من النقود؛ وإلا فإن الأقباط

يدفعون من الأموال الأميرية على نسبة العشر مما تدفعه الأكثرية، فيكون كل ما

زاد عن 10 في المائة من التلاميذ الأقباط يتعلم مجانًا على مصاريف الأكثرية في

حين أن أبناءهم أنفسهم محرومون من التعليم الذي يسعون إليه.

حقيقة كان ينبغي للأكثرية من باب إكثار عدد المتعلمين، أيًّا كان أن يتعلم

أبناء الأقلية في مدارس الحكومة مجانًا على مصاريفها؛ كان ينبغي ذلك لو أن

المدارس تقبل عددًا غير محدود، فأما وتلامذة التعليم الابتدائي وتلامذة التعليم

الثانوي بل تلامذة التعليم العالي كلهم يقفون على أبواب المدارس، وفي أيديهم

المصاريف المدرسية فترتج أمامهم أبوابها؛ لأن المدرسة قد استوفت العدد المقرر لها،

بل العدد الذي تسعه بالفعل ولا تسع غيره، أما والحال كذلك فتكون الأكثرية

محقة فيما إذا طلبت أن لا يزيد عدد التلامذة الأقباط في مدارس الحكومة عن العشر.

ذلك هو العدل، ومؤتمر أسيوط يقول: إن العدل أحسن الطرائق لحسن

التفاهم واستدامة المودة بين العنصرين.

فإذا كان العدل داعيًا للتوفيق، فإن التسامح أدعى إليه. وقد ثبت جليًّا أن

الأقباط يأخذون بتسامح المسلمين من ضريبة الخمسة في المائة أكثر من حقوقهم؛

لذلك يكون الطلب المتعلق بتلك الضريبة باطلاً ولا محل له.

4-

وضع نظام يكفل تمثيل كل عنصر مصري في المجالس النيابية:

حتى هذا المطلب فإنه على جماله، قد كسي هو أيضًا ثوبًا من التعرض شوه

جماله وحوله عن مركزه العالي، وطبعه بطابع بقية المطالب الأخرى. يتلخص

هذا المطلب في أن الأقلية الدينية غير ممثلة تمثيلاً كافيًا في الهيئات النيابية؛ لأن

أفرادها أشتات في المراكز والمديريات المختلفة، فيراد تعديل قانون الانتخاب بكيفية

تمكن الأقباط من أن يمثلوا في الهيئات النيابية في مصر.

والواقع أن قانون الانتخاب على صورته الحالية لا يستطيع أن يمثل جميع

أجزاء الأمة في المجالس النيابية، ونعني بأجزاء الأمة أجزاءها السياسية لا الدينية،

فإن من الأقباط في كل حزب من الأحزاب المصرية التي يمثل كل منها خطة

خاصة - وإن كانت تلك الخطة كثيرة التقارب بعضها من بعض - إلا أن بينها مع

ذلك من الفوارق ما يجعلها متغايرة نوعًا ما، فإذا كان المراد تقليد قانون الانتخاب

البلجيكي وجب أن لا تكون الأقليات المختلفة أقليات دينية، بل أقليات سياسية كما

هو الحاصل في تلك البلاد.

يقولون في ذلك قولاً يدل بظاهره على التودد للمسلمين والتقرب منهم، ولكنه

يشف دائمًا على شبه إنذار بأنه إن لم توافق الأكثرية على منح الأقلية الدينية

نظامًا يكفل لها تمثيلها في المجالس النيابية، كان الإخاء المصري لفظًا لا معنى له،

والمساواة معنى معطلاً من كل نتيجة عملية.

على أن الذي يريد الإخاء الحقيقي والمساواة الكاملة بحسب الإمكان، لا ينبغي

له أن يدعو إلى بناء كيان سياسي للأقلية الدينية، بل يجب عليه أن يمحو الفروق

الدينية بالمرة من الاعتبارات السياسية، ويدعو المسلمين لانتخاب الكفء ولو قبطيًّا،

والأقباط لانتخاب الكفء ولو مسلمًا، وأن يمزج المصالح المشتركة بين المسلمين

وبين الأقباط، حتى لا يشعر أحدهم في الأعمال العامة بمخالفة جاره إياه في دينه،

ولا يحاول جمع الأقباط في صعيد واحد؛ لتكون لهم دائرة انتخاب بعينها؛ لأن هذا

يدل دلالة واضحة على أن الأقباط لا يستريحون ولا يصدقون بالإخاء والمساواة إلا

إذا مكنوا من انتخاب أقباط مثلهم، وذلك بالضرورة قسمة والقسمة تنافي الوحدة.

وذلك تفريق للعناصر الدينية المختلفة وتعليم لها على أن تجمد على اعتبار الاعتقاد

الديني فارقًا قوميًّا يرجح على المصلحة العامة، ذلك تنبيه إلى أن المسلم من شأنه

أن لا يدافع عن مصلحة القبطي، والقبطي من شأنه أن لا يدافع عن مصلحة المسلم،

إن سلوك مثل هذا الطريق لا يتفق مطلقًا مع ما يقولون به من المساواة، وما

ينادون به من أن الأقباط مصريون قبل كل شيء.

لو أن طائفة المتعلمين في البلد أو بعض بطون هذه الطائفة المتعلمة؛

كالمحامين أو المهندسين أو الأطباء أو المعلمين

إلخ. أو أن حزبًا من الأحزاب

السياسية ذا مبادئ معروفة وخطة مرسومة؛ قام فأظهر أن مبادئه ليست ممثلة في

الهيئات النيابية، وطلب تعديل قانون الانتخاب لكان ذلك واضحًا مفهومًا. ولكن

أقلية دينية تقول بالمساواة، وتظهر بالسعي في محو الفروق بين أفراد الأمة

تجيء في الوقت عينه تصرح بأن لها حقوقًا تنافي حقوق الأمة، وأنها لا بد لها من

أن تعتبر نفسها أقلية سياسية؛ كالأقليات السياسية البلجيكية؛ لتجعل انتخاباتها في

معزل عن انتخابات المسلمين؛ لأنها لا تأمن المسلمين على مصالحها في الهيئات

النيابية، وما أجدر الذي يطلب هذا الطلب إلا بأن يقول: نحن الأقباط أقلية دينية،

كلنا على مذهب واحد في السياسة يخالف مذهب الأمة المتعصبة علينا، فحفظ

وجودنا السياسي يقتضي أن تكون لنا دوائر انتخاب خاصة.

والذي يقول ذلك، يجب عليه أن يعترف بأنه يرمي إلى أن تصير أقليته يومًا

من الأيام أكثرية تحوز في يدها السلطة على البلاد. وذلك هو الأمل الذي تعيش به

كل أقلية من الأقليات السياسية. ولكن لا يستطيع الأقباط بوصف أنهم أقلية دينية

أن يصبحوا أكثرية سياسية، ما داموا يمزجون الدين بالسياسة، وما دام برنامجهم

أنهم أقباط قبل كل شيء.

إذن يجب علينا أن نصرح بأن هذا المطلب خطأ في أصله، ولكن مسئولية

الخطأ واقعة على الحكومة كما بينا سابقًا؛ لأنها تركت الناس يفهمون أنها تحفظ

للأقلية الدينية مراكز سياسية للدفاع عن مصالحها، فأما لو كانت تنتخب ما تراه هي

كفؤًا لأي كرسي يخلو في مجلس شورى القوانين، من غير نظر إلى أقلية دينية،

فمرة يصيب الانتخاب قبطيًّا ومرة يصيب مسلمًا، وحينًا يكون في المجلس خمسة

من الأقباط أو ستة، وأحيانًا لا يكون ولا واحد. لو كانت الحكومة جرت على هذا

المبدأ في مجلس الشورى؛ لما وقع الأقباط في هذا الخطأ العظيم، ولما ظنوا أن

أقليتهم الدينية يمكن أن تعتبر أقلية سياسية، ولكن ذلك كان.

ومع هذا كله، فهل يمكن للأقباط أن يشكوا من معاملة المسلمين إياهم في

الانتخابات العمومية؟

انتخب أحد الأقباط في مركز قليوب، ونال الانتخاب ضد أكبر أعيانها

المسلمين، وهو الوكيل الدائم لمجلس شورى القوانين، وما انتخبه إلا المسلمون.

انتخب كذلك بمركز السنطة أحد الأقباط، وكل منتخبيه من المسلمين.

انتخب أحد الأقباط نائبًا عن مركز الصف، وعدد مندوبي الانتخاب في هذا

المركز أربعون مندوبًا ليس منهم أقباط إلا أربعة.

انتخب أحد الأقباط نائبًا عن مركز بني مزار وعدد مندوبيه 50، وليس منهم

أقباط إلا خمسة.

انتخب أحد الأقباط نائبًا عن مركز الفشن وعدد مندوبيه 36، وليس منهم

أقباط إلا أربعة.

انتخب أحد الأقباط نائبًا عن مركز ديروط، وعدد مندوبيه 58 منهم خمسة

أقباط فقط.

انتخب أحد الأقباط نائبًا عن مركز أبو تيج، وعدد مندوبيه 37 منهم ستة أقباط

فقط، كذلك انتخب قبطي نائبًا في الجمعية العمومية عن مديرية الجيزة، وليس لها

إلا نائبان فقط أحدهما مسلم والآخر قبطي، مع أن عدد مندوبي الانتخاب في

المديرية 173 ليس فيهم إلا قبطيان.

كذلك انتخبت مديرية المنيا عنها نائبين للجمعية العمومية: أحدهما مسلم

والثاني قبطي، مع أن مجموع مندوبي الانتخاب في المديرية هو 273 منهم 24

قبطيًّا فقط.

أمام هذه الإحصائية، يجب أن يدرك إخواننا الأقباط - ونخص منهم الشبان-

أن علاقات المودة والثقة، لا يمكن أن تجد مظهرًا أوضح من هذا المظهر لإقناع

كل منصف أن المسلمين لا يقيمون وزنًا لاختلاف العقائد الدينية فيما يتعلق

بالانتخاب، فأية مصلحة من مصالحهم قد ضحيت أكثر مما تضحى مصالح

المسلمين بالطريقة الحاضرة للانتخاب؟

على أن المسلمين في الهيئات النيابية الكبرى ليسوا ممثلين تمثيلاً يفوق

تمثيل الأقباط. فإن الجمعية العمومية فيها 76 عضوًا منهم خمسة أقباط، أي بنسبة

سبعة في المائة، وكذلك مجلس شورى القوانين عدد أعضائه ثلاثون منهم ثلاثة

أقباط، أي أن نسبتهم للمسلمين تساوي 10 في المائة، على أن نسبتهم لمجموع عدد

السكان لا تتجاوز 6.43 في المائة.

كذلك في المديريات التي يرشح الأقباط فيها أنفسهم للانتخاب، فإنهم ممثلون

فيها تمثيلاً فوق نسبتم العددية، فمديرية الجيزة يمثل أقباطها في الجمعية العمومية

على نسبة 50 في المائة، وفي مجلس المديرية يمثل الأقباط على نسبة 10 في

المائة، مع أن نسبتهم في تلك المديرية 2 وثلاثة أخماس في المائة من سكان

المديرية.

كذلك مديرية المنيا أقباطها ممثلون في الجمعية العمومية على نسبة 50

في المائة؛ لأن أحد مندوبيها قبطي. وهم ممثلون في مجلس المديرية على نسبة

16 وستة أعشار في المائة، ونسبتهم إلى المسلمين في هذه المديرية هي كذلك 16

وتسعة أعشار، كذلك في مديرية أسيوط في مجلس مديريتها عضوان من الأقباط،

أي نسبتهم في المجلس ناقصة نوعًا عن نسبتهم العامة لعدد السكان؛ لأن المرشحين

فيها من الأقباط على ما يظهر أقل حظًّا من إخوانهم في المديريات الأخرى،

ويلاحظ على كل حال أن منتخبي هؤلاء هم من المسلمين.

على أي جهة قلب هذا المطلب لا يمكن فهم معناه إلا على أنه مظهر

للروح العامة المنتشرة في مطالب الأقباط، وهي أن مؤتمريهم يرمون إلى حيازة

السلطة في أيديهم؛ ليرجحوا كفة الأقلية الدينية على كفة الأكثرية في حكم البلاد.

لذلك وجريًا على قاعدة أن الأقلية الدينية لا يصح أن يكون لها بهذا الوصف

امتيازات سياسية خاصة، تطلب اللجنة إلى المؤتمر أن يقرر بعدم صلاحية هذا

المطلب على الحالة التي هو عليها؛ اتقاء لنتائجه المضرة بالوحدة القومية، وبأن

الحالة الراهنة قاضية بتعديل قانون الانتخاب بطريقة تتفق مع مقتضيات الحالة

الاجتماعية الحاضرة.

(له بقية)

_________

ص: 353

الكاتب: محمد رشيد رضا

مختارات

‌آراء أديسون

في مستقبل البشر

السعيد بالصناعة

لكبراء الرجال في قياس الآتي على ما قبله، وفي سير الاجتماع البشري

والعلوم والفنون والأعمال، وقد يصور أحدهم المستقبل في صور خيالية، يقول:

إن حصولها من المحالات العادية، ثم يقع ما تصوره في زمن بعد زمنه. نقول

هذا تمهيدًا لنشر ما نقلته إحدى الجرائد الأمريكية من آراء أديسون؛ صاحب

الاختراعات الكهربائية الشهيرة في مستقبل البشر، نقلناه عن جريدة مرآة الغرب

العربية التي تصدر في نيويورك قالت ما نصه:

نشرت مجلة كوسوبوليتان أفكارًا منسوبة إلى أديسون أمير رجال الاختراع،

والأجدر بأن ندعوها نبوات لتقدم خيرات العلم والصناعة قال ما معربه:

إن الاختراع لا يزال حتى اليوم في دور الطفولية، وسينمو مع الأيام فيبلغ درجة

الرجولية فالكمال، ورجوليته غير بعيدة، فسيرى بنو القرن الآتي الآلات المعدنية

مثل الدماغ الصحيح دقة وسرعة وتباريه إدراكًا.

ولسوف ينظر الناس أن كل الأصناف المراد نسجها وصنعها توضع أصولها

في أحد جانبي الآلة، فتخرج من الجانب الآخر تامة النسج والصنع، وذلك

كأصناف الأقمشة والأزرار والخيوط والورق، فإنها تصبح بدلات تامة خارجة في

صناديق من ورق معدة للاستعمال.

وهكذا قل عن الكتب، فإنها ستغادر الآلة مجلدة تجليدًا متقنًا. والقطع الخشبية

توضع في الطرف الواحد قطعًا متفرقة، فتظهر من الطرف الآخر رياشًا

ومفروشات؛ كالكراسي والمقاعد والمناضد وهلم جرا.

ومن نبوات أديسون؛ أن الإكثار من معدات القتال سينتهي: إما إلى ثورة

عمومية أو إلى سلام شامل، وقد يحدث قبل صحة هذه النبوة حرب واحدة أو أكثر.

إن كل حكومة لا تبالي بمراعاة السنة الطبيعية القادمة تسقط بأيدي شعبها

الذي تحكمه. ويعني أديسون بتلك المراعاة اعتبار مجلس الهاغ السلمي محكمة

الكون العليا.

ونظر أديسون أيضًا إلى المستقبل نظرة سياسية وصناعية، فقال معتقدًا أن

نزاعًا صناعيًّا هائلاً سيظهر للوجود، فيهدد كثيرين من ملوك الأرض وعظمائها،

ويقلق مراكزهم وهو الآن بارز في أوربا، وسيمر بعد عشر سنوات مقابل

(صندي هوك) فمدخل ميناء نيويورك؛ ليحل في هذه البلاد.

وسوف لا يعود من أثر للفاقة بعد انقضاء مائة سنة منذ الآن، حتى لا يعود

من الممكن تحديد رخص المصنوعات بين ضرورية وكمالية لشعوب الأرض.

وإن طوفًا صناعيًّا غامرًا لمحمول على قوادم الأيام القادمة، فلينتظره الناس

وينعموا به، وهو على فخامة جوهره رخيص القيمة زهيدها.

أنى للإنسان أن يتصور استمرار الظفر ودوام سلطانه؟ إن الفاقة إنما رافقت

الشعوب التي كانت تستخدم أيديها في كل أعمالها، وحيثما يكن العمل قاصرًا على

الأيدي تكن المشاق والمتاعب والأعواز موفورة، أما وقد ابتدأ الإنسان باستخدام

دماغه فالفقر يتلاشى ويبيد.

إن الشيء الذي عرفنا كيفية التمسك بأطرافه اليوم هو ما يجب أن نعرف كل دقائقه

غدًا، وإن نحن الآن إلا موالون للدرس تعلمًا وتمكنًا من استخدام قوى الطبيعة.

وعندما نتمكن من معرفة كل تلك الدقائق، يصبح لنا المقدرة على تغيير شكل الوجود.

والانقلابات العظيمة والفخمة عن قريب تقرع الأبواب. وهي التي لا نستطيع الآن

تخيلها إلا في الأحلام. سيفجر المخترعون على العالمين ينابيع الثروة والإسعاد،

ولكن على الشعوب يتوقف حفظ الحكومات ومقامها ضنًّا بالإثراء والهناء

العموميين.

ومن معتقدات أديسون أن سيصبح للرجل العامل في المستقبل القريب إرادة

غير اعتيادية بحيث يشير إلى حكومة إنكلترا آمرًا بالهدوء، فتصدع بإشارته،

ويطلب إليها أن تقوم بخدمته فلا تتردد بالأمر، وقد بنى أديسون هذه الاعتقادات

تصورًا بأن قد يطرأ على قوانين الدول وجدران كيانها بعض التشقق والتغيير،

فلا تعود تقوى على التشامخ لدى رجل العمل، بل يصبح للأخير سلطة على

تقويض أركان أية حكومة يأنس منها امتناعًا عن خدمته العملية.

ويعتقد أديسون أن المدنية الحالية يجب تحويرها أيضًا وتصليح قواعدها؛

لأنها ليست أهلاً لتواجه بها الأمم أيام الإثراء المقبلة، وينتظر أيضًا أن سيبدأ

بتمثيل هذه الرواية مع حكومات الشعوب في أثناء الخمسين سنة الآتية.اهـ

بحروفه.

_________

ص: 373

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بيان أمير الألاي صادق بك

في الدستور والجيش

والسياسة العثمانية

والماسونية والاتحاد والترقي

نشرنا في الجزء الماضي مقالاً؛ ذكرنا فيه بعض ما علمناه في الآستانة عن

هذا الرجل العظيم، فنقله المقطم إلا قليلاً منه والمؤيد برمته، وعدته بعض الجرائد

الإفرنجية من أحسن ما كتب في بابه، ثم جاءتنا جرائد الآستانة بمقال لصادق بك

نفسه، يدل على صدق قولنا ورأينا فيه وفي أحوال الدولة، ونشرت ترجمته في

بعض الجرائد المصرية، فرأينا أن ننقله عن المؤيد بتنقيح لفظي قليل، وهو هذا:

ألجأتني الضرورات إلى ترك السكوت الذي حاولت أن ألتزمه حتى الآن.

أنا جندي؛ ولذلك أربأ بقلمي عن زخرف القول والتفنن في إبداء الرأي،

والذي دفعني إلى كتابة هذا البيان الصادق؛ رغبتي بقطع الأقاويل المبنية على

إشاعات مؤسفة تتعلق بشخصي مباشرة، وليس بينها وبين الحقيقة صلة أو شبه

صلة.

لا أبحث هنا في مكانتي من انقلاب 10 تموز (23 يوليو) وحسبي أن

أقول: إن العثمانية لا تحيا إلا بالدستور، ولا ترتقي ارتقاء صحيحًا إلا بالاتحاد،

وإن اليوم الذي يعلن فيه إفلاس الدستور هو الذي تقبر فيه العثمانية، وإن العامل

الأدبي الذي دفعني قبل الدستور إلى الدستور؛ هو العامل الذي يدفعني اليوم إلى

حبه لغير ما غرض ولا فائدة، وإن قوام العثمانية الناهضة منوط بفكرة الاتحاد

والترقي السامية، وبالجمعية التي تمثل هذه الفكرة تمثيلاً أدبيًّا. ومن الواجب على

العناصر التي أضعف الاستبداد حياتها أن تتمسك أكثر من غيرها بهذا النظام،

وتنزله منها بمنزلة الروح. ومن الواجب على الجمعية أن ترتقي في دائرة

النواميس الطبيعية؛ بأن تكون جمعية العثمانيين من غير تفريق بين أجناسهم

وأديانهم، وما دام في أندية الجمعية وفي لجانها المركزية رجال رسميون، فالجمعية

تكون بمنزلة حكومة ثانية، وفي ذلك ما فيه من الضرر وقطع الأمل من المستقبل.

يجب على الجيش العثماني أن يكون في معزل عن المناقشات الشخصية

ومنافساتها، وما يتولد عن ذلك من المذاهب السياسية. وأن يكون للجيش مكان

فوق الأحزاب، يمثل الصلة الجامعة بين العثمانيين؛ ليكون محترمًا من الجميع،

وبتعبير آخر يجب أن لا يكون الجيش مرتبطًا بحياة وسياسة أشخاص معينين، بل

بحياة الدستور الأساسية وهكذا يجب دائمًا أن يكون.

إن فكرة الاتحاد والترقي هي روح الجيش، كما هي روح السلطنة،

والضامن لتحقيق هذه الفكرة السامية هو الجيش العثماني الذي هو أشد جيوش

الأرض ميلاً إلى الديمقراطية (أو قال: تمثيلاً للديمقراطية أي حكم الأمة لنفسها) .

الجيش مظاهر لجميع العوامل الفكرية التي لها مساس بفكرة الاتحاد والترقي

مظاهرة مطلقة لا شرط لها ولا قيد. كذلك أنا أعتقد بصفتي واحدًا من هذا الجيش

وبصفتي فردًا تهمه عثمانيته.

لم يكن الانقلاب العثماني نتيجة لجهاد دهاة كبار يمثلون الحياة الفكرية في

السلطنة، كما هي الحال في غاريباري وكافور وأمثالهما. وإنما كان انقلابنا ثمرة

قوة كبيرة، تجمعت من قوى رجال صغار، اجتهدوا في أحداث هذا الانقلاب.

وكان عهدنا بهؤلاء المجددين الصغار أن يبلغوا أمانيهم بسرعة وسهولة، إذا هم لم

ينقصوا من قوتهم.

يزعم نفر منها؛ أنهم يمثلون قوة الانقلاب بأشخاصهم. ولكن ما أشبه هذا

بحال بولونيا في وقت احتضارها. ومتى ظهرت قوة الأشخاص في مجموع

الحكومة، ظهرت معها عوارض الفوضى في السلطة. وما التبدلات الأخيرة [1] التي

كانت نتيجة فعلية لأقوال طلعت بك في مأدبة (بكقوز) إلا أساس الإصلاح المطلوب.

ولما كان كاتب هذه السطور من الضباط الذين شغلتهم واجبات الدستور

بشؤون السياسة، كنت أنظر بعين الاهتمام إلى الجيش، وضرر هذه الصلة التي يمت بها إلى الجمعية منذ زمن طويل.

ظهرت العثمانية اليوم بمظهر أمة عسكرية قبل كل شيء؛ ولذلك كانت مسألة

الجيش في العثمانية المؤلفة من عناصر مختلفة هي المسألة الحيوية. وسيكون اتحاد

العناصر أول ثمرة لفكرة الاتحاد والترقي. على أن هذه الثمرة لا يمكن أن تلائمها

جامعة الشخصيات في وقت من الأوقات؛ لأن الأشخاص معرضون للانتقاد

والمؤاخذة بحسب نتائج أعمالهم، مهما كانوا من ذوي النية الصالحة، وهم أيضًا

مهددون بالسقوط السياسي جزاء خطئهم في التدبير وفي الإدارة. ونتيجة ذلك أن

الجيش إذا كان آلة في يد رجال السياسة أو اعتقد الناس أنه تلك الآلة، لا يلبث أن

تنفصم عروته الجامعة، ويصبح في جهة الأغراض والتحزبات. (وأقول أيضًا من

قبيل الاستطراد: إن دور التحزب الذي يمثله ضابط واحد، لا يقل ضرره عن

دور التحزب الذي يمثله الجيش كله) .

وإن قيام بعض الضباط بوظيفة مندوب عن الجمعية، أو بأي وظيفة أخرى

بدون أن يستقيل من الجندية مخل بأخلاق الجيش ومفسد لنظامه.

حب الوطن والغيرة القومية هما مصدر شجاعة الجيش المرابط على الحدود؛

للدفاع عن البلاد والمقيم في البلاد للمحافظة على الدستور. ومن هذه الوجهة لا

يجوز أبدًا أن يكون للجيش العثماني صلة باللجان الماسونية أو غيرها.

قد تكون الماسونية نافعة للإنسانية، ولكن ذلك لا يمنع وجوب بقائها في دائرتها

الخاصة، وليست مقاومتي للماسونية أكثر من الاجتهاد في منعها من الانتشار في

صفوف الجند، وأنا أحترم كل عامل من العوامل النافعة للإنسانية. ولكن يجب أن لا

يكون لهذه العوامل علاقة بالسياسة. وقد علمتنا التجارب أن أجمل محافل الإنسانية

عنوانًا، كانت تجيء نتائج أعمالها معكوسة متى لعبت بها أصبع السياسة، وأن

الغرباء ملوثي الأيدي الذي يتربصون بنا الفرص، لا يتأخرون ساعة عن الاستفادة

من مواضع الضعف فينا. وخلاص القول: إننا أدركنا الآن كيف يصعب

على أناس مثلنا يؤلفون جامعتهم من جديد؛ أن يحلوا مشاكلهم المنزلية، ويعيدوا

مياه الصفاء إلى مجاريها.

على أنه ليس من الصواب في شيء أن نجاري العامة في أفكارها، من أجل

خطة فلسفية ننتصر لها. وأن الذي يفسح المجال للتعصب ويجعل للعامة سلطة

الحكم، هو الذي يحفر لهذه السلطنة قبرها، ومن الواجب على كل ذي رأي سليم

أن يجتنب طرق الأبواب التي تروج فيها سلطة العامة، فبينا يكون المختلفون

منهمكين في اختلافاتهم يتقدم المترقبون للفرص؛ ليستفيدوا من تلك الحال

المساعدة لهم بطبيعتها، وعندئذ تضيع الغاية وينقلب القصد.

إن في مسألتنا الأخيرة وما حام حولها من الأراجيف والسيئات عبرة للمعتبر.

وما كان أسهل حل للمسألة بالسكون لولا وجود تلك الأراجيف. ومن دواعي

السرور أن جماعات الحزب ائتلفت بسرعة، وأصبح ائتلافها خطوة في سبل

الارتقاء. وأن كل تفرد وسلطة يظهران في بلادنا عن علم أو غير علم لا يأتيان

بنتيجة غير القوة الشخصية. وإذا رأى الجيش أن رجال الانقلاب قد ضحوا أنانيتهم

واتقوا التفرد والسلطة، وكانوا حول مبدئهم إخوانًا، فهو لا يتردد في القيام

بواجباته المادية والأدبية نحو وطنه وما ذلك بالأمر العزيز.

أنا كتبت (مذكرات) في أسباب استقالتي من وظيفة (مرخص مسؤول)

لجمعية الاتحاد والترقي، وعن حالة الجمعية الآن وقبل الآن، وسأنشر ذلك متى

حان حين نشره. والذي أحاوله الآن الاحتجاج على الذين اتهموني بدون إنصاف

بأني رجعي، ورموني بغير ذلك من التهم، وبينما أنا أكتب هذه النشرة؛ راجيًا

فيها منهم باسم سلامة الوطن أن يكفوا عن هذه السفاسف، كنت أحمل بين جنبي

نفس جندي صمم على طلب التقاعد من وظيفته (الإحالة على المعاش) وأملي

بكل إخواني الضباط الذين لهم صلة فعلية بانقلاب 10 تموز (23 يوليو)

وامتزجت حياتهم العسكرية بحياتهم السياسية، والذين يشتركون بأعمال غير

أعمالهم العسكرية أن يستقيلوا من الجندية، وينصرفوا بعد ذلك للسياسة بالشروط

المشروعة، أو أن يتركوا كل علاقة بالأعمال السياسية، ويتفرغوا لواجباتهم

الجندية تمام التفرغ. وفي رأيي أنه قد حل وقت انتباه أصحاب المقامات العالية؛

لتنفيذ هذا القسم من مواد القانون.

...

...

...

...

الأميرآلاي

...

...

...

...

صادق

(المنار) حاصل ما كتبه صادق بك:

(1)

أن الانقلاب الذي نقل الدولة إلى الحكم النيابي الدستوري قد كان من

عمله وعمل من كان معه من صغار الضباط؛ وأثر فكرة سارية في جماعة من

دهماء الناس، ولم يكن بتدبير بعض الزعماء والكبراء كغاريبالدي الإيطالي.

(2)

أن إيهام الناس أن الانقلاب قد أحدثه بعض الزعماء المعينين، فيجب

أن يكونوا هم كفلاء الدستور وأصحاب السلطة هو خطأ وخطر على الدولة.

(3)

أن فكرة الاتحاد والترقي (أي المعنى الذي يفهم من هاتين الكلمتين)

يجب أن تبث في جميع الأمة؛ لأنها عنوان لكل ما نحتاج إليه في حياتنا الجديدة،

وهو أن تتفق الشعوب والأقوام في المملكة العثمانية، وتتحد على القيام بما ترتقي

كلها به من العلوم والأعمال. ومن الخطأ الضار أن يجعل عنوان الاتحاد والترقي

اسمًا لحزب أو جماعة من الأمة يكون منهم كبار الحكام، ويكون لهم أندية خاصة

يعرفون بها ويمتازون على غيرهم.

(4)

يجب أن لا يكون للماسونية عمل في سياسة الدولة العمومية، وأن لا

يدخل فيها ضباط الجيش، ولا تنشر فيه.

(5)

يجب أن يكون الجيش بمعزل عن السياسة والتحيز إلى فئة معينة من

رجال الأمة؛ لأن كل فئة يجوز أن تخطئ، وأن يسقطها خطؤها ويخفض مكانتها،

وحينئذ يتطرق هذا السقوط إلى الجيش الذي يمثل شرف جميع الأمة، وأن وظيفة

الجيش هي حفظ الحدود من العدو الخارج وحفظ الدستور في الداخل وهي أشرف

الوظائف، فيجب أن لا يتعداها إلى غيرها، وأن يكون دائمًا هو أكمل المظاهر

لفكرة الاتحاد والترقي. وأن يكون مظهرًا للحقيقة التي تجمع كلمة عناصر الأمة

وترقيها بعدم تفرقه أو تحيزه إلى فريق من المتفرقين، بل يكون فوق الأحزاب

والفرق كلها ليكون محترمًا منها كلها، وقد وضح هذا المعنى وأصاب في قوله: إن

تحيز واحد من الضباط إلى فئة سياسية ضار كتحزب الجيش كله.

(6)

أنه يجب على الضباط الذين كان لهم عمل في الانقلاب، وعلى

غيرهم من الذين يشتركون بأعمال غير أعمالهم العسكرية أن يستقيلوا من الجندية

أو يتركوا السياسة ويطلقوها ألبتة، كما فعل هو بعزمه على طلب التقاعد حين

اضطر إلى الاشتغال بالسياسة، وكتب هذا البيان.

(7)

أنه قد حان الوقت في رأيه لتنفيذ مواد القانون المتعلقة بهذه المسألة،

فعلى أصحاب المقامات العالية في السلطة أن ينفذوه. يعني أن تنفيذه في أول العهد

بالانقلاب وهو عسكري محض كان متعذرًا، أما وقد ثبت مجلس الأمة وتكونت

الحكومة الجديدة، فلم يبق لترك تنفيذه عذر.

وروح المقال أن بعض الأفراد جعلوا أنفسهم زعماء لجمعية الاتحاد والترقي،

واحتكروا لأنفسهم حماية الدستور وتنفيذه، زاعمين أنهم هم الذين أحدثوا الانقلاب،

وجعلوا الجمعية عصبية لبعض الأمة على سائرها، ومزجوها بالماسونية وبنوها

على قواعدها، وأن بعض ضباط الجيش يؤيدونهم وينصرونهم في سياستهم

الماسونية، وأن في هذا خطرًا على السلطنة.

هذا، وإن أغرب أعمال احتكارهم أن يتهم من لم يكن له عمل ولا رأي في

الانقلاب مثل صادق بك قطب رحى الانقلاب بأنه رجعي؛ لأنه غار على الدستور

وعلى السلطنة، وأراد أن يعارض مثل ذلك المتهم في بيع المصلحة العامة بمنفعته

الخاصة، ويمنع رهطه من الاستبداد والتفرد بالسلطة، وهذا عين ما كنا بيناه من

قبل {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 375

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شيء من مناقب صادق بك

منقول من خواطر نيازي

نشرت جريدة (إقدام) التركية في الآستانة بعد مقالة صادق بك نبذة من كتاب

(خواطر نيازي) في صفة صادق بك وعمله في الانقلاب. نذكر ملخصها وهي

من حديث كان بينه وبين أحد الأعضاء، وكان نيازي قبل ذلك ينفذ الأوامر التي

ترد إليه من صادق بك ولا يعرف مصدرها، حتى عرفه في ذلك اليوم وتشرف

بتقبيل يده ولحيته، قال:

إن (صادق بك) وحيد بين الوحيدين، وهو صاحب السيف والقلم، وهو

الكاتب لأهم البيانات والأوامر والمصور لأهم التدابير (في أمر الانقلاب)

إن الأعضاء المبجلين في هيئة الإدارة الذين عاشرتهم مدة طويلة، يجتهدون بالآراء

الصائبة الصادرة من آثار كرامات البك المومأ إليه.

إن هذا الرجل المحترم شخصه جدًّا عند الهيئة المركزية في مناستر، قد سخر الأفكار

العامة بكمال درايته وبأخلاقه، وكان يجذب الميول وأنواع الشعور العمومية دائمًا إلى

نقطة واحدة، ويسوقها إلى إخلاص لا يطالب بمكافأة. أما حبيب بك وفخري بك

وضيا بك والمصور إبراهيم شاكر أفندي فلم يتأخروا عن الامتثال (لصادق بك)

المتواضع، الذي كان في زمن الاضطراب تمثالاً مجسمًا للشجاعة، وكان كالأسد

المتهيج. هؤلاء الأربعة كانوا يضعون تواقيعهم على مقررات مهمة هي جرأة بين

الجرآت. وإذا بدا لهم أقل إحجام في سبل الإنفاذ بادروا إلى المخاطرة في ذلك

بأنفسهم.

يوم قدوم شمسي باشا استولى على جميعنا اضطراب خشية؛ لأنا أمعنا النظر

في مقدار جهل الباشا واستبداده وظلمه وتمرده، ولا سيما كونه محاطًا بجماعة من

الألبانيين في زي الجنود لا يعرفون شيئًا ويفدون الباشا بأرواحهم. وبقينا في

وجل من احتمال ظهور حرب داخلية، فأعملنا الفكر في ألف تدبير لمحو وجوده،

ورأينا في إنفاذه ألف عائق. فأصر (صادق بك) وضيا بك وحبيب بك على

وجوب إزالة هذا الوجود السام في أثناء تأدية وظيفته. ولكي لا نضيع الفرصة

بالمناقشة والمذاكرة عرضوا أنفسهم وفي دقيقة الاضطراب، وضع كل منهم يدًا

على القرآن العظيم الشأن ويدًا على مسدسه، وأحكموا الميثاق بهذه الدرجة من الجد.

(ثم ذكر كيفية تنفيذ ذلك بيد ملازم فدائي وقال) :

هؤلاء يا عزيزي هم الذين يقومون بوظائفهم في هيئة إدارتنا وهم مشغولون

جدًّا. فلا يجدون وقتًا للأكل ولا للنوم. ولقد ظلوا كغرباء عن هذا السرور العام

والفرح الملي؛ لأن الوظيفة أهم وأقدس، ولهذا لا يراهم أحد ولا يمكنون أحدًا من

رؤيتهم، ولكنكم ما دمتم ترغبون كثيرًا، هلموا أذهب بكم إلى الدائرة التي يشتغلون

فيها اليوم بإيفاء وظائفهم في منزل (صادق بك) .

أشكركم فلنبادر سريعًا.

وأخذنا نمشي ونتحادث، فأطال البحث في تمكن (صادق بك) من العلوم

الدينية والفلسفية والفنون العسكرية والأدبيات، وأطنب في وصف دهائه وعشقه

للحق والحقيقة وهيامه بها وبمكارم أخلاقه، وثبات طباعه واتساع قدرته، وفرط

توكله وشدة شجاعته وكمال تواضعه.

(وقص عليّ كيف خدم أعضاء الجمعية في حال وهنها لما انتسب إليهم

أهل بيته، وما أظهرته من الإخلاص بنته العذراء وزوجته المحترمة وجعل يعد

عليّ أمثالاً كثيرة من هذا الإخلاص حتى وصلنا إلى المكان المقصود قبل أن يتم

كلامه، وطرقنا الباب فأدخلونا إلى حضرة الهيئة المحترمة في الغرفة المظلمة التي

يجتمعون فيها، فقبلت يد المشار إليه ولحيته) . اهـ المراد منه.

_________

ص: 380

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بيان هادي باشا الفاروقي

في وظيفة الجيش

ومسألة تداخله في السياسة

جاء في جريدة الحضارة الشهيرة التي تصدر في الآستانة بالعربية ما نصه:

على أثر الاختلاف الذي ظهر أخيرًا في حزب الاتحاد والترقي، لقي محرر

جريدة رومللي القائد الباسل هادي باشا الفاروقي مفتش الفيلق الثاني في الرومللي،

وسأله عن مداخلة الضباط، وعلى الخصوص ضباط الفيلق الأول في هذه

الاختلافات فقال: إنه لم يكن له علم قطعي بذلك، ثم صرح بما يأتي:

إن وظيفة الجيش والأشخاص الذين يتألف منهم؛ هي أن يكونوا دومًا

متأهبين للمدافعة عن الوطن، وأن يواصلوا السعي بكل عزم وغيرة إلى الكمال؛

ولأجل أن يصل الجيش إلى هذه الغاية المقدسة لا بد أن يكون كتلة واحدة مهيبة،

ولذا تكون مداخلة بعض الضباط بشؤون السياسة مضرة جدًّا؛ إذ إنها تولد الحرص

والاختلاف، وتخل برابطة الجيش وتضر بوحدته. وأنا من جهتي أقبح هذه الأفعال.

وإذا كان يوجد ثمة من يتداخلون هذه المداخلات، فهم لا شك خونة جهلاء؛ لأنهم

يكونون بذلك حطوا من مقام الجيش الذي هو أرفع وأعلى من اختلافات الأحزاب

ومبارزات السياسة.

إن وظيفة الجيش العليا هي الذود عن الوطن والمحافظة على الدستور

(المشروطية) عند الاقتضاء لا غير. وإذا ظهر خلل في إحدى شعبات الإدارة،

فأمرها يكون موكولاً إلى غيره. وإني أقول مكررًا: إن إدخال فكر السياسة في

الجيش أمر لا يعبر عنه إلا بالجهل والخيانة والجناية، ورغمًا من الواقع فإني موقن

بأن الجيش العثماني عار عن هذه الشائبة، وأنه إذا كان يوجد ثمة شيء من هذا

القبيل فالمرجع الإيجابي يتوسل لإزالتها.

(وقال المحرر: إن هذا الشهم المقدام العالم العامل بوظيفته العسكرية، كان

يتكلم هذا الكلام والشرر يتطاير من عينيه، كأنه واقف أمام عدو هائل) .

_________

ص: 381

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ألمانيا والعالم الإسلامي

(مترجم عن جريدة الوقت التي تصدر في أرينبورغ من روسيا)

إن العلاقة الودية التي وطدت بين ألمانيا والعالم الإسلامي قد أقامت الجرائد

الروسية وأقعدتها، وأوقعتها في الشبهات الكثيرة، حتى إن سوء الظن جعل جريدة

(نوفيه فريميه) تحسب له ألف حساب، واضطرت أن تبث ما في ضميرها؛

وهو الخوف من أن ألمانيا الآن قد أوشكت أن تضع قدميها على تركستان الشرقية

المحدودة بحكومات الصين وروسيا وإنكلترا، وإذا حصل هذا فكأنها قد وضعت

قدميها في وسط حبل ممتد من مسلمي الصين إلى الحكومة التركية الإسلامية الحرة،

وتقول: إن مذهب كونفوشيوس المشهور في الصين سينقرض، ويقوم مقامه

الإسلام، فتصير حكومة الصين حكومة إسلامية، ثم لا تلبث إلا قليلاً حتى تعلن

حربًا عوانًا مسلحة بالتعصب الإسلامي، فتترك العالم المتمدن في حيرة كبيرة

ودهشة شديدة. وهي تستنبط هذه الأحكام الغيبية من أقوال مكاتب جريدة (التيمس)

في بكين عاصمة الصين. الدكتور موريسون الذي ساح في آسيا الوسطى كلها. وله

اطلاع تام على أحوال مملكة الصين. يقول هذا الدكتور: إن دين الإسلام أخذ

ينتشر في الصين بسرعة غريبة، وإن اتفاق المسلمين واتحادهم فيها قوي جدًّا.

ويورد على ذلك أدلة واضحة عنده، فهو يقول: إن القاطنين في الصين من

تركستان في ولايات غانسو، وصي، وجو، ووان، ويون، وإلانان، كلهم

مسلمون. ويقول في كلامه المؤكد عن شجاعتهم وبسالتهم: إننا لا ننسى أبدًا

يعقوب خان الذي كان في تركستان، وجعلها في سنة 1886 حكومة مستقلة تمامًا،

فأقامت بذلك حكومة الصين وأقعدتها، ثم جعلتها في حالة لم ترض بها حكومة

الصين، ولم ينشرح لها صدرها، ثم إن حادثة قبيلة (بانتاي) المشهورة بالشجاعة

التي استولت في ذلك الوقت على القسم الغربي من ولاية (يون ونان) ، وجعلت

مدينة (إلافسو) مقرًّا للملك ليست مما ينسى؛ بل مما يبقى ذكره مركوزًا في

الأذهان على ممر الدهور والأعوام.

ثم يقول: نعم.. نحن إذا نظرنا إلى حالة المسلمين الحاضرة في تلك البقعة

نجدها الآن في هدوء وسكون تام. ولكن إذا لاحظنا العلاقات والارتباطات التي

حصلت الآن بينهم وبين مسلمي تركية نجدها تتزيد وتتقوى يومًا فيومًا. وهم الآن

قد تنبهوا كثيرًا عن ذي قبل، فكثير منهم يقصد بلاد المدينة لأجل التعلم فيها أو

للسياحة فقط، فيأتي منها لأبناء جنسه بمعلومات جمة، ويبث فيهم روح المدنية

والترقي، وهو يؤيد قوله هذا بأقوال العلماء الكبار من الروسيين (فافاسييلف)(و)

(آ. أيوانف) الذين لهم اطلاع كثير على مملكة الصين: وإنهم أيضًا يتشاءمون

كما يتشاءم.

فبناء على رأي ذلك الدكتور موريسون؛ إن ألمانيا قد علمت بتلك الأحوال،

ولم يشعر بها أحد قبلها، وعزمت على أن تضع قدميها على كاشغر أي على

تركستان الصيني، ومن يضع قدميه هناك يمد الحبل منه إلى الطرفين: طرف

تركية من جهة وطرف الصين من الجهة الأخرى.

ومما يوقع تلك الجرائد الروسية في أشد الشبهات، ويضطرها إلى اختلاق ما

يسعهم أن يختلقوه هو ما كان قبل الآن من جعل تبعة الدولة العلية في الصين

تحت حماية سفير فرنسا، وإقامة سفير ألمانيا مقامه في هذا الحين، يدل على ذلك

أن قونصل ألمانيا نشر من مدة قريبة جدًّا إعلانًا قال فيه: بناء على القرار الذي

حصل بين تركية وألمانيا، يجب على كل من يقيم في الصين وهو من تبعة الدولة

العلية أن يكون تحت حماية سفير ألمانيا، وفي ولاية (كاشغر) أصدر أمرًا

بإحصاء عدد تبعة الدولية العلية التي كانت تقيم في ولاية كاشغر، وتسجيل أسمائهم

ومحل إقامتهم فيها.

فجريدة (نوفيه فريميه) تستنتج من ذلك النتائج الآتية تقول: إن ثقة

الأتراك بالنمساويين أقوى من ثقتهم بالفرنساويين، واعتبارهم لهم أيضًا أشد من

اعتبارهم للفرنساويين، فالنمساويون هنا أحرزوا قصب السبق في إستامبول، ولهم

القدح المعلى في الشرق الأدنى والأقصى أيضًا. ثم تشرع في تعداد الفوائد التي

تحصل للنمسويين من جراء دخول تبعة الدولة العلية في الصين تحت حماية سفير

ألمانيا. وفي ظنها أن النمسويين يستفيدون:

أولاً - أنهم يطلعون على أحوال المسلمين هناك في الصين والهند ومسلمي

روسية في آسيا الوسطى.

وثانيًا - أن حكومة ألمانيا تنتهز فرصة حصول المشاجرات والمنازعات التي

تصدر أحيانًا بين حكام وعمال الصين وبين تبعة الدولية العلية؛ لتتداخل في أعمال

حكومة الصين.

وثالثًا - أنها تجذب قلوب مسلمي الصين إلى نفسها.

ورابعًا - أنها توسع تجارتها في الصين الغربي وفي تركستان بواسطة أغنياء

المسلمين الذين يتجرون فيهما.

وخامسًا - أن نفوذ ألمانيا يقوى بذلك في إستامبول أكثر من ذي قبل.

ثم إن هذه الجريدة تنتقم في عدد آخر من ألمانيا وعالم الإسلام جميعًا فقد

رسم فيها الرسم الذي أصفه بما يأتي: صورة الأرض فيها كتاب مكتوب عليه

(الإسلام) وعلى ذلك الكتاب رجل محدودب في زي المسلم له أربع قوائم

كالدواب، وعلى ظهره صورة رجل نمسوي الشكل راكب عليه، إحدى قدميه في

طرف الكتاب والأخرى في طرفه الآخر، وفي فمه (مشتوك) يدخن به. وتحت

ذلك الرسم مكتوب كذا: (ليس الآن في الدنيا شرقان يسميان الأقصى والأدنى،

فالآن قرب الشرق الأقصى والأدنى واتصلا فصارا واحدًا أي شرقًا أدنى فقط) .

فهذه الجريدة تمثل بذلك ألمانيا قد سخرت عالم الإسلام أجمع، وجعلته مطية

لها إلى مقاصدها، والمسلمون قد اغتروا بمخادعتها لهم.

ثم إن اجتماع جمهور عظيم في الآستانة منذ زمن غير بعيد، واحتجاجهم على

روسية في شأن إيران، وعلى إظهار محبتهم لعاهل آلمانيا، وعلى الرجاء في

حمياته لعالم الإسلام قد هيج خواطر جرائد روسية وإنكلترا تهييجًا شديدًا حتى

أقامها وأقعدها. وقد تورمت منه جريدة (روسكي أصلوفا) وقالت: (إن المسلمين

الآن يريدون أن يعرفوا عاهل ألمانيا خليفة لهم) واستهزأت بالمسلمين بعباراتها

السخيفة الممزوجة بالمغالطات الدينية كقولها: (هل يجوز للمسلمين أن يجعلوا لهم

سلطانًا بروتستاني المذهب، وهل يسمح لهم دينهم بذلك؟)

كأن أصحاب هذه الجرائد يظنون أن عالم الإسلام الذي يبلغ عدده ثلاث مائة

مليون نسمة، ليس لهم عقل كعقولهم يميز به صديقه من عدوه الألد، ولا لهم فكر

يتفكرون به فيما يستفيدون منه، ليسوا كما تظنون يا أصحاب هذه الجرائد! بل من

بينهم من يعرفون ما يضرهم وما ينفعهم، وليسوا محرومين من قوة الإدراك التي

يميزون بها الجيد من الرديء والخبيث من الطيب، فإذا نظر عالم الإسلام إلى

روسية بصورة غير صديق له فهذا ليس من المسلمين، بل من الجرائد المشوقات

والمحاولات لتضليل الحكومة الروسية ولإثارة خواطر المسلمين وغيرهم من الملل

غير ملة الروس، مثل جريدة روسكي أصلوقا ونوفي فريميه، اللتين من شأنهما أن

تدوسا النعم التي أمامهما تحت أقدامها، وأن تحاولا صيد ما هو في الهواء. اهـ.

(المنار) بعد أن جاءتنا جريدة (وقت) بهذه المقالة انقطعت عنا، وبلغنا

أن الحكومة الروسية قد أقفلتها هي ومجلة (شورا) ، وهما خير صحف مسلمي

التتار في روسية، وقد علمنا أن ما ذكر في الجرائد من شدة ضغط الحكومة

الروسية على مسلمي التتار في بلادهم من إقفال جرائد ومدارس؛ فسببه سياسة

الآستانة، فإن بعض المفتونين فيها بالأماني الجنسية يلغطون بإظهار الطمع في

اتحاد الترك العثمانيين بتتار روسية وأهل تركستان عامة وجعلهم دولة واحدة قوية،

وقد نصحنا لهم في مقالات (العرب والترك) التي نشرناها في جرائد الآستانة أيام

كنا فيها أن ينزعوا هذه الأمنية من مخيلاتهم، ويحرموا ذكرها على ألسنتهم

وأقلامهم؛ لأن إظهارها يضر بالدولة وبأولئك المسلمين بما يحمل روسية على العود

إلى سياسة الخشونة مع الدولة، وعلى الحذر من مسلمي بلادها والضغط عليهم،

وأين قوة الدولة من قوة روسية والصين الحاكمتين على أكثر من ثلث البشر.

لروسية العذر في الحذر والاتهام بتلافي هذا الأمر، وكيف ترضى أن يطمع

الترك في بلادها، وهي هي التي لم يمنعها من أخذ القسطنطينية إلا أوربة. وقد

زاد حذرها ما هدرت به شقاشق المتهور عبيد الله مبعوث آيدين في الانتصار لدولة

فارس عليها بالاستعانة بعاهل الألمان، وما كان يخشى من مساعدة ألمانية والنمسة

للترك على نفوذهم المعنوي إلى تركستان؛ ليتخذوه وسيلة لترويج تجارتهم

وسياستهم، فأمثال هؤلاء الجاهلين بالسياسة من رجال الآستانة، يجنون بغرورهم

على دولتهم وبلادهم، وعلى إخوانهم المسلمين من غير بلادهم، وما يدرينا أن تلك

الشقاشق كانت من أسباب في اتفاق روسية وألمانية في سياستهما المشرقية؛ بما

كان في اجتماع القيصرين في بوتسدام وهو اتفاق علينا وعلى إخواننا الفرس.

وإنني أنصح لمسلمي روسية أن يتقوا فتنة السياسة ولا ينخدعوا لبعض

الأغرار في الآستانة، ويجتهدوا في ترقية أنفسهم مع تأمين حكومتهم في الظاهر

والباطن من التحيز إلى حكومة أخرى، فإن تحيزهم يضرهم ويضر من يتحيزون

إليه، ودولتنا عاجزة عن حفظ بلادها وإدارتها، وعن إرسال قاض شرعي إلى

مسلمي جزيرة كريد التابعة لها باعتراف الدول (ولكن بالقول دون الفعل) فكيف

تستطيع أن تمد نفوذها إلى بلاد دولة أقوى منها؟

ولو جعل مسلمو التتار وجهتهم العلمية مصر دون الآستانة لكان خيرًا لهم،

فقد أخبرني غير واحد منهم في الآستانة أنهم هنالك في موضع الريبة عند سفارة

حكومتهم، وأن جواسيس السفارة منهم منبثون بينهم، فهذا هو سبب ضغط دولتهم

عليهم، فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديدًا.

أما ألمانيا فلا نعرف لها إلا حسنة عملية واحدة في مساعدة دولتنا؛ وهي

تعليم جيشها وتنظيمه، وقد سأل بعض المفتونين من رجالنا بفرنسة أن تسمح

لضباطنا أن يتمرنوا في جيشها فأبت. ولو أخلصت دولة أوربية قوية لدولتنا

وللإسلام، وعرفت كيف تستفيد منا، وتفيدنا بالإخلاص لبذت أوربة ودول

الأرض كلها.

_________

ص: 382

الكاتب: محمد رشيد رضا

شعر أعراب الحجار في هذا العصر

لما عزم الشريف أمير مكة المكرمة على تجهيز جيش من العرب إلى اليمن؛

لمساعدة الدولة على السيد الإدريسي في عسير، أرسل هذه الأنشودة يستفز بها

قومه، وقيل: إن بضعة أبيات من أولها من كلامه وباقيها من كلام الشريف زيد بن

فواز أمير الطائف.

كيف البصر يال حسن [1] وآل بركات

نزالة المشرق ومن في تهامه

نسمع طواريكم [2] تسوّن خيرات [3]

ومن لا مشأ يغشاه منا ملامه

وإن حامن المقدود كم جاوكم فات

والعمر له في اللوح خط العلامه

ننصا [4] معادينا على كيف ما جات

والموت دون العز ما به ندامه

من هو تمنى دارنا بالدبارات [5]

جينا وما هي له ولا للكرامه

ما دون من ينصا [6] بلدنا تعلات

ولا نستمع من قال شور الرخامه [7]

حِنّا [8] عمدناهم بخيل وسلات

والذل ما سر الظبي والنعامه

مرسا كداده [9] دونه الموت حومات

ما يخرجه منا يكون القيامه

أحيا لنا الله عزنا بعدما مات

أحياه أبو فيصل لنا بالقرامه [10]

ما عادا به مقعاد فيّه وقيلات

وأنتم لكم عادات يهل [11] الشهامه

قلته بعد ما شفت فيكم عدالات

واللي يحسّب يدّرق فالجهامه [12]

ترى مقابلكم معادي وشمّات

يبقى عليكم دورت النهزامه [13]

لا تكربون [14] من الحكايا والأصوات

مغزا تهامه كسب ولاّ سلامه

مع شيخكم فالمقديه والخطيات

حظه جلا عنكم وعنا الغمامه

حِنّا على الدين الحنيفي بالآثبات

مراقبين الشرع بالاستقامه

للخارجين عن الطريقه علامات

تنبيه شيطان الفتن من منامه

وعقول جهال العرب راحت أشتات

فرّق شرايط دينهم من كلامه

دخل عليهم بالزخارف وحيلات

يقول أجدد دينكم عن عدامه

حاشا وكلا ديننا بالحقيقات

مازاعه أضغاث الكرا من حلامه

جانا من القرآن تفصيل آيات

نعرف بها حِلَّهُ ونعرف حرامه

الدين منا منبعه بالرسالات

نحن مقاديمه ونحن خطامه

من هو تمنا عندنا للإمارات

ياكم قصرنا رايم عن مرامه [15]

***

وهذه قصيدة عقيل لما قدموا مكة المكرمة وتلقاهم الأمير؛ ليغزوا معه إلى

اليمن، فتقدم شاعرهم ليحمسهم ويحمس الأمير ويجاوب الإدريسي، وقال:

يا الله إنك تعز الدين والصادقين

والمماري بدينه وإننا ناصله

ربعنا للحرايب كلهم مشتهين

مع الذي يحب العز والطايله

سيدي عزنا من عزكم كل حين

نحمد الله بعز الدين ومواصله

سيدي ذكر راعي اليمن [16] لا يبين

أشهر السيف وتأتيك العرب صايله

ناض برق من القبله وبه سعين

هل وبله على صبيا وأنا أخايله

العبادل أهل الطولات في كل حين

يا مزاعم فحول قريش ذي عايله

بمشيئة الله نزوره إن كان هم منكرين

ناصل الذي بدع بدعه وهي مايله

كل ساحر تبطل سحره الذي يبين

ناصل الذي يقول الملح ما ياكله

يا الله إنك تعز أشرافنا الناصحين

هم أهل الحكم والعليأ هل الطايله

جوك الأشراف في ظل سيدنا حسين

والسعد مشتهر في بيرقه شايله

سار والنصر يتليه والله عوين

نسألك يا رفيع السماء تأصله

_________

(1)

أي يا آل حسن.

(2)

أخباركم الطارئة.

(3)

استخارات في المشي مع الأمير، وكان يمكن أن يقال (تسوى استخارات) كما يقال (مشى) بدل (مشأ) .

(4)

أي نقصد.

(5)

أي التدابير والحيل.

(6)

أي يقصد.

(7)

أي الدنية.

(8)

أي نحن.

(9)

أي قتادة جد الأشراف ولعل الكاتب هو الذي حرف؛ فهم ينطقون بالقاف مرققة كالكاف المفخمة أو الجيم المصرية.

(10)

أي الشهامة والقتوة.

(11)

أي يا أهل.

(12)

أي الضباب والظلام.

(13)

لعلها: (دورة الانهزامه) .

(14)

أي تشدون.

(15)

أي كم رددنا قاصد عن قصده.

(16)

راعي اليمن: سائسها وصاحبها.

ص: 387

الكاتب: محمد رشيد رضا

الأخبار والآراء

(المؤتمر المصري)

في 30 من ربيع الآخر 29 أبريل انعقد المؤتمر المصري تحت رياسة شيخ

وزراء مصر وعظمائها مصطفى رياض باشا في المكان الأفيح المعروف

(بلونابارك) من مصر الجديدة، وهو ملعب كبير يسع بضعة آلاف رجل، وقد

زين بالأعلام، وأقيم للرئيس وكبار أعضاء اللجنة التحضيرية فيه محراب

واسع، وجعلت المجالس فيه أقسامًا مرتبة؛ منها مكان لوجهاء العاصمة، ومكان

لأصحاب الصحف، وأمكنة أخرى لأصناف الأعضاء وفود المديريات، يعرف كل

قسم منها بلوح مكتوب عليه ما يدل الداخل على مكانه. وقد افتتح الرئيس المؤتمر

بالخطاب الآتي:

أيها السادة، دعوناكم وكلكم من أهل المكانة وأصحاب المنافع وذوي الآراء

والكتاب والمفكرين، وكلكم ممن تهمهم مصالح البلاد العليا، وكلكم من يغار على

رقيها وتوثيق روابط جامعتها؛ لتتشاوروا في بعض المسائل العمومية الشاغلة

للرأي العام في الحالة الحاضرة.

من بين هذه المسائل مسألة ما كنا نود لها وجودًا؛ وهي ما يسمونه بمطالب

الأقباط؛ لأن حالة البلاد لا تسمح بتقسيم المصالح بين أبنائها تبعًا لانقساماتهم الدينية

ستعرض عليكم موضوعات أخرى أدبية واقتصادية؛ لتقرروا فيها الوسائط

التي تساعد على رقي حالة التعليم، ونمو الثروة العمومية.

أبنائي الأعزاء:

إني وإن كنت لا أشك في أنكم ستحكمون في مداولتكم ورغباتكم رح العدل،

والميل إلى تأييد الروابط الوطنية بينكم وبين سائر إخواننا وأبنائنا من أبناء الديانات

الأخرى، ولكن ذلك لا يمنعني من أن أوصيكم بأن تراعوا في مباحثكم وطلباتكم

فوق روح العدل والإنصاف روح التسامح والانعطاف الذي عرفت به ديانتنا

السمحاء، والله أسأل أن يكلل أعمالنا بالنجاح والسلام.

وقد صفق الحاضرون وهتفوا بالدعاء لدولة الرئيس عند حضوره وفي خاتمة

خطابه.

وبعد أن أتم الرئيس خطابه، قام أحمد لطفي بك السيد مدير (الجريدة)

وشرع يتلو تقرير اللجنة التحضيرية (وهو الواضع الأول له) ، وساعده على

تلاوته صديقاه أحمد بك عبد اللطيف وعبد العزيز بك فهمي المحاميان. وهؤلاء

الثلاثة كانوا مع بعض إخوانهم من حزب الأمة هم الواضعين لنظام هذا المؤتمر

والقائمين بأهم أعماله، وقد أتم المؤتمر اجتماعاته بحسب برنامجه الذي تراه بعد

وكان النظام حسنًا والكلام معتدلاً.

نشرنا في هذا الجزء طائفة من تقرير اللجنة التحضيرية الذي صادف إعجاب

الجماهير من الناس، وسننشر باقيه في الجزء الآتي، ويرى القراء أن معظم ما فيه

من المسائل جاءت موافقة لمقالاتنا (المسلمون والقبط) وكذلك الخطب المعتدلة

الأخرى التي كانت كالشرح لهذا التقرير. ولا حاجة إلى نشرها كلها في المنار، بل

نكتفي بنشر برنامج المؤتمر المبين لها وما أقره من مطالبها، وربما نختار شيئًا

منها بعد.

* * *

(بروجرام أعمال المؤتمر المصري الأول)

يوم السبت 30 ربيع الثاني سنة 1329الموافق 29 إبريل سنة 1911

(الجلسة الأولى)

من الساعة 10 أفرنكي صباحًا إلى الظهر:

(1)

افتتاح المؤتمر بخطبة دولة الرئيس.

(2)

تلاوة تقرير لجنة المؤتمر.

(الجلسة الثانية)

من الساعة 5 مساء إلى الساعة 8 ونصف:

(3)

في أن عناصر الجنس المصري كلها من أصل واحد - سعادة الدكتور

أباتا باشا.

(4)

عطلة يوم الأحد - الأستاذ محمود بك أبو النصر.

(5)

العوامل الاجتماعية للحركة القبطية - الأستاذ محمد حافظ رمضان.

(6)

تمحيص مطالب الأقباط وإزالة موجبات الشقاق - صالح بك حمدي حماد.

(7)

نظرة عامة حول مؤتمر الأقباط - إبراهيم بك غزالي عضو مجلس

مديرية أسيوط.

(يوم الأحد أول جمادى الأولى الموافق 30 أبريل)

(الجلسة الثالثة)

من الساعة 4 ونصف إلى الساعة 8 ونصف مساء:

(8)

الأقلية الدينية والمجالس النيابية - الأستاذ أحمد عبد اللطيف.

(9)

الكفاءة في التوظف - الأستاذ إبراهيم بك الهلباوي.

(10)

وسائل ترقية المرأة المسلمة المصرية - باحثة بالبادية.

(11)

التعليم العام الأستاذ - محمد بك أبو شادي.

(يوم الإثنين 2 جمادى الأولى الموافق 1 مايو)

(الجلسة الرابعة)

من الساعة 4 ونصف إلى الساعة 8 ونصف مساءً:

(12)

التعليم العام وحظ المسلمين والأقباط فيما تنفقه الأمة عليه - سعادة الشيخ

علي يوسف.

(13)

التعليم العلمي النافع للصناعة والزراعة والتجارة - علي بك الشمسي.

(14)

الصناع في مصر إبراهيم بك رمزي.

(15)

حماية وترويج المصنوعات الوطنية الأستاذ جبرائيل كحيل بك.

(16)

ضرورة ترك بدع المآثم والمقابر الأستاذ محمد بك يوسف.

(17)

إصلاح القضاء عبد الستار أفندي الباسل.

(18)

الوسائل المؤدية للتوفيق بين العناصر المختلفة في مصر أحمد بك

لطفي المحامي.

(يوم الثلاثاء 3 جمادى الأولى الموافق 3 مايو)

(الجلسة الخامسة)

من الساعة 4 ونصف إلى الساعة 8 ونصف مساءً:

(19)

ضرورة مراعاة أحوال الزمان والمكان في تطبيق الأحكام الشرعية

الشيخ عبد العزيز جاويش.

(20)

حالة مصر الاقتصادية والمالية - يوسف بك نحاس.

(21)

التعاون المالي والنقابات الزراعية - الأستاذ عمر بك لطفي.

(22)

مستودعات التأمين الأستاذ - محمود بك أبو النصر.

(23)

الربا الفاحش وضرورة العقاب عليه - الأستاذ هاشم محمد مهنا.

(24)

أضرار الربا الفاحش - الأستاذ محمد بك علي.

(25)

حالتنا الاقتصادية الزراعية - أحمد أفندي الألفي.

(يوم الأربعاء 4 جمادى الأولى الموافق 3 مايو)

(الجلسة السادسة)

من الساعة 4 ونصف إلى الساعة 8 ونصف مساءً:

مناقشة الاقتراحات التي وردت في تقرير اللجنة، وفي المواضيع التي تليت

بالجلسات السابقة وغيرها مما ورد بالمواضيع والطلبات التي لم تصر

تلاوتها. اهـ.

(المنار) هذا هو النظام والبرنامج الذي سار عليه المؤتمر كما وضعته

اللجنة التحضيرية. ولقب الأستاذ قد أطلق على المحامين (وكلاء الدعاوى) وهو

اصطلاح وضعه مدير (الجريدة) ، وقلده فيه كثير من الكتاب، فصار معروفًا في

مصر، وإنما نبهت عليه؛ لئلا يظن قراء المنار في غير مصر أن هؤلاء الأساتذة

من علماء الأزهر وغير الأزهر من المعاهد الدينية، وهؤلاء لم يخطب أحد منهم

في هذا المؤتمر، ولم يره أحد من شيوخهم الكبار.

(الجلسة الأخيرة)

حضر دولة الرئيس الساعة الخامسة والدقيقة العشرين فقابله المؤتمرون

بالهتاف.

وبعد أن استراح قليلاً في السرادق الخاص بدولته وكبار القوم، أعلن افتتاح

الجلسة ثم وقف الأستاذ عبد العزيز فهمي، وتلا محاضر جلسات المؤتمر منذ

افتتاحه إلى اليوم. وذكر أن جميع التقارير حفظت مع أوراق المؤتمر. وطلب أحد

الحاضرين أن تحفظ هذه العبارة (وقد لوحظ أن الوقت يسمح بتلاوة خطبة الأستاذ

الشيخ عبد العزيز جاويش) فرد عليه الأستاذ أحمد عبد اللطيف بأن لجنة المؤتمر

كانت قد عينت ميعادًا لقبول الخطب، فلم يأت خطاب من الأستاذ الشيخ عبد العزيز

جاويش في الميعاد المعين؛ ولذلك لم يذكر في بروجرام المؤتمر، وهذا هو السبب

في قولنا: وقد لوحظ.. إلخ.

ثم وقف الأستاذ أحمد عبد اللطيف وأخذ يتلو اقتراحات المطروحة على

المؤتمر المصري فيما يتعلق بمطالب الأقباط، وهذه صورتها:

(الاقتراحات المطروحة على المؤتمر المصري الأول)

مطالب الأقباط:

(أ) هل يرى المؤتمر إمكان قسمة الحقوق السياسية في مصر بين طوائفها

الدينية المختلفة، أو أن المؤتمر يقرر أن الأمة المصرية هي في مجموعها كل لا

يقبل التجزئة في الحقوق السياسية، وأنه مع ما لكل طائفة دينية من الحرية التامة

في عقيدتها، فإن للحكومة المصرية دينًا رسميًّا واحدًا هو الإسلام.

(ب) هل يرى المؤتمر من حقوق أية طائفة دينية في مصر؛ أن تطلب

عطلة يوم الأحد أو غيره من الأيام؟ أو أن المؤتمر يرى الاقتصار على أن تكون

العطلة الرسمية هي يوم الجمعة.

(ج) ألا يرى المؤتمر أن تكون قاعدة التعيين في وظائف الحكومة هي

الكفاءة من جميع وجوهها: علمية وإدارية وأخلاقية معًا.

وألا يرى المؤتمر أن الأقباط تجاوزوا فيما نالوه من تلك الوظائف الحد

المقبول، وهل يرى وجوب إلفات نظر الحكومة إلى تحقيق أسباب امتلاء الكثير

من مصالحها بالموظفين الأقباط، مع وجود الأكفاء من المسلمين وغيرهم من

المصريين؟

وهل يجب السعي وراء الحكومة في إعادة اللجنة المستديمة بنظارة المعارف؛

لامتحان طالبي التوظف، حتى لا يقع مثل هذا الغبن في المستقبل.

(د) هل يرى المؤتمر تعديل قانون الانتخاب بما يجعل لكل طائفة دينية

مصرية دائرة انتخاب خاصة، أو أن حق الانتخاب يبقى كما هو شائعًا بين جميع

المصريين على السواء.

وهل يوافق المؤتمر على السعي لدى الحكومة في أن تجعل للكفاءة العلمية

حظًّا أوفر مما هو الآن في المجالس النيابية؟

(هـ) هل يوافق المؤتمر على إعطاء كل طائفة من طوائف الأمة

المصرية ما تجبيه منها مجالس المديريات من ضريبة الخمسة في المائة؛ لتنفقه كما

تشاء؟ وهل يرى المؤتمر أن الأقباط متمتعون من التعليم بجميع أنواعه بأكثر مما

ينفق مع نسبتهم العددية، ونسبة ما يؤدونه من الضرائب؟

(و) هل يرى المؤتمر أن للأقباط الحق في أن يطلبوا من الحكومة

بصفتهم طائفة دينية أن تنفق من خزينتها العمومية على مرافقهم الطائفية

الخاصة!

فوافق المؤتمرون على جميع تلك الاقتراحات بعد أن حصل جدال في بعضها

وخصوصًا الاقتراح الثالث، فان بعضهم طلب أن تراعى النسبة العددية في إسناد

الوظائف إلى الأكفاء، فرد عليه الأستاذ عبد العزيز فهمي قائلاً: إن تقسيم الوظائف

بناء على النسبة العددية مخالف للاقتراح الأول الذي وافق عليه المؤتمرون وهو

أن الأمة واحدة لا تقبل التجزئة، وأن اعتبار النسبة العددية يؤدي إلى المنازعات.

ثم حض الحاضرين على التزام الهدوء والسكينة، وقال: إن العالم ينظر إلينا الآن،

ثم تكلم أيضًا الأستاذ أحمد عبد اللطيف وقال: إنه لا يمكن في بلدنا ولا في أي بلد

آخر أن تقسم الوظائف بناء على النسبة العددية.

وقال سعادة الشيخ علي يوسف: إننا قررنا فيما تقدم أن الحكومة إسلامية، وأن دين

الإسلام هو دينها الرسمي، فإذا قسمنا الوظائف على النسبة العددية، نكون قد قسمنا

الحكومة إلى شطرين مبنيين على الدين، وهذا مخالف لمصلحة الأمة، على أنه

يرى أن المدير لا يمكنه أن يكون قبطيًّا؛ لعدم مقدرته على إدارة شؤون المديرية

التي يتولاها كما يجب من السلطة والنفوذ.

فبقي بعضهم يعترض، فقام الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش وقال: إن

الكفاءة الإدارية تستوجب الثقة، ولقد دلتنا التجارب على أن الأكثرية لا يمكنها أن

تثق بالأقلية، واستنتج من ذلك أن المدير يجب أن يكون مسلمًا؛ لتتم تلك الثقة

المطلوبة. واقترح أن يضاف إلى اقتراح المؤتمر هذه الكلمات (أن تكون الكفاءة

الإدارية كفيلة باستقامة الأحوال) ، وبعد مناقشة طويلة في هذا الشأن تقرر إبقاء

الاقتراح على حاله، ثم طلب الأستاذ أحمد عبد اللطيف إلى المؤتمرين أن يوافقوا

على جعل اللجنة التحضيرية لجنة تنفيذية.

ثم دارت المناقشة على الاقتراحات المعروضة على المؤتمر، فقبل ما قبل

ورفض ما رفض منها، كما هو مبين فيما يلي:

اقتراحات المؤتمرين وغيرهم

(1)

اللجنة التنفيذية

لا بد لتنفيذ قرارات هذا المؤتمر من لجنة دائمة تباشر هذا التنفيذ. ويعلم

حضرات المؤتمرين أن اللجنة التحضيرية قد انحلت حيث انتهى عملها، ولا يمكن

أن تصير لجنة تنفيذية دائمة إلا إذا أقرها المؤتمر على ذلك، فهل تقرونها لجنة

تنفيذية، يكون من جملة وظيفتها دعوة هذا المؤتمر للاجتماع عند الاقتضاء، وأن

تنتخب لها مجلس إدارة، وأن تضم إليها من تؤمل فيه المساعدة في مهمتها.

اقتراح مقدم من حضرات محمد بك حافظ رمضان وحسن بك عبد الرزاق

والشيخ محمد عمر الإنجباوي المحامي الشرعي بمصر. إبراهيم بك غزالي عضو

مجلس مديرية أسيوط. محمود بك أنيس بمصر. سليمان أفندي فهمي من موظفي

المالية سابقًا والآن بالسنطة. محمود أفندي حمدي المحامي بكفر الزيات. محمد

أفندي البدوي رئسي نقابة تشل الزراعية. إبراهيم أفندي فوزي بشارع محطة

مصر بالإسكندرية. محمد أفندي راغب بطنطا. محمد أفندي كامل بدرب القمح

بالسيدة بمصر. إبراهيم بك دويدار عمدة شبرامنت. حسين بك عابدين. لجنة

المؤتمر بمديرية المنوفية. سليمان أفندي فهمي سليمان المحامي. علي عبد السلام

بالسويس.

لها بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 389

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اتفاق الدول

والمانع لها من قبول دولتنا فيه

ذكر المقطم في عدده الذي صدر في 18 من هذا الشهر (27 مايو) عظمة

الأمة الإنكليزية والأمة الأمريكية، وخبر اتفاقهما اتفاقًا يقرب من التحالف قال:

(وإن فرنسا واليابان قد تشاركانهما في هذا الاتفاق، ولا يبعد أن تشاركهما فيه

روسية أيضًا حليفة فرنسا، وإذا نزعت أسباب الخلاف الجوهرية من بين إنكلترة

وألمانيا سهل ضم التحالف الثلاثي إلى هذا الاتفاق، فيتفق نحو ست مائة مليون من

الذين في يدهم الثروة والسلطة) .

ثم بحث المقطم في حظ مصر والمملكة العثمانية من هذا الاتفاق، واستدل

بدخول اليابان فيه على أن اختلاف الدين لا يمنع الدولة العلية أن تحذو حذوها

(في نقض كل حاجز يمنعها من الاستفادة من الأوربيين والأمريكيين والنسج على

منوالهم) ، ولكن لم يذكر لنا المقطم من مزايا اليابان في هذا المقام إلا شيئًا واحدًا،

وقال:

الظاهر أن الصبغة الدينية في اليابان ضعيفة جدًّا؛ لأن كثيرين من رجالها

تنصروا، فلم يسمعوا كلمة لوم من أحد، وبعض الذين تنصروا صاروا وزراء

وقوادًا، ولم يطعن أحد في وطنيتهم، بل زادهم تنصرهم رفعة في عيون أهل

وطنهم، فهل تقابل الدولة العثمانية بالترحيب لو شاءت الانضمام إلى التحالف

الأوربي أو الاتفاق الأوربي، وهل يرضى بذلك حزب المعممين الذين لا يرضون

من سلطان العثمانيين أن يتنازل عن شيء من حقوقه الدينية كخليفة للمسلمين.

هذه مسألة من أهم المسائل، ويظهر لنا أن كثيرين من رجال الدولة العلية الذين

في يدهم الحل والعقد الآن يودون أن تزال كل الموانع التي تمنع العثمانيين من

الانضمام إلى الاتحاد الأوربي مهما كانت (أي ولو كانت حقوق الخليفة الدينية ورفع

شأن المتنصرين، وهم عاملون على إزالتها ولو ببطء) ، ثم ذكر أن ما يرضيهم لا

يرضي غيرهم، وأن هذا هو السبب الأكبر للخلاف بين زعماء جمعية الاتحاد

والترقي.

هذا هو رأي المقطم، ويظهر لنا أنه غالط فيه من وجوه، ونبين ما عندنا في

ذلك بالإيجاز في المسائل الآتية:

(1)

إن السبب الصحيح لقبول دول أوربة وأمريكة التحالف والاتفاق مع

اليابان؛ هو قوة اليابان الحربية التي كسرت بها أكبر دولة أوربية، لا ضعف

الدين ولا تعظيم شأن المتنصرين! فالصين أكثر تساهلاً من اليابان في الدين، ولا

نرى تلك الدول راغبة في محالفتها والاتفاق معها، بل هم طامعون في بلادها

يتربصون بها الدوائر، والعثمانيون أشد تساهلاً في الدين من اليونان، ولكن أوربة

ترجح كفة اليونان الذين يذبحون المسلمين في كريد بغير ذنب إلا دينهم وميلهم إلى

دولتهم، ولولا الدول الأوربية لما عجزت الدولة العلية عن تربية الكريديين بمثل ما

كبحت به إنكلترة ثورة الهند المشهورة.

(2)

إن هذه المنقبة التي ذكرها المقطم لليابان في معرض حث العثمانيين

على الاقتداء بهم، ليست من المناقب التي تحلت بهم الأمم الأوربية ولا سيما الذين

بدأ بذكرهم وذكر عظمتهم وهم الإنكليز، فهم من أشد الناس تمسكًا بدينهم وقوة فيه،

ويبذلون للدعاة إليه في كل سنة قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، وإذا أسلم

الرجل منهم لا يرتفع قدره فيهم، ولا يرقى إلى المناصب العالية وكراسي الوزارة،

بل كانوا يرجمون مسلمي ليفربول بالحجارة، وهو يعلم أنهم لا يساوون أهل الهند

بأنفسهم لا في الحقوق ولا في مراتب الشرف. وغيرهم من الأوربيين أشد منهم

في هذا الأمر الأخير، ولا سيما روسية. فلماذا يحثنا المقطم على الاقتداء في هذا

الباب باليابانيين دون الأوربيين، على أن تنصر المسلمين في المملكة العثمانية أندر

من الكبريت الأحمر، فليس له وقائع يحتج بها.

(3)

نحن نوافق المقطم على القول بأن الأوربيين يرضيهم أن يضعف

دين المسلمين ولا سيما العثمانيين، وأن يعظموا شأن من يتنصر ويرفعوا قدره

ويولوه الوزارة وقيادة الجيش، وسبب هذا شدة عناية الأوربيين ومثلهم الأمريكيون،

وبنشر دينهم وإضعاف الإسلام الذين يرونه أقوى الأديان التي تقدر على الثبات أمام

هجماته التي يريدون بها تنصير البشر كلهم، بدليل ما يبذلونه من الملايين في هذه

السبيل، ولأن لهم في بلاد المسلمين مطامع معروفة، ولكننا لا نوافق المقطم على

أن ضعف ديننا يكفي لإدخال دولتنا في الاتحاد الأوربي، وإنما يؤهلنا لذلك شيء

آخر وهو القوة، فالمصريون أشد تساهلاً في الدين من الأفغانيين؛ لأن المسلم إذا

تنصر في مصر لا يضطهد ولا يهان، وإذا تنصر في الأفغان يمزق، ويكون جزرًا

للنسور والعقبان، وقد تركت إنكلترة للأفغان بلادهم لقوتهم، واحتلت بلاد

المصريين لضعفهم.

(4)

ماذا يعرف المقطم من أمر أصحاب العمائم في البلاد العثمانية عامة

وفي الآستانة، حيث النفوذ السياسي خاصة، فيعرض بذكرهم في هذا المقام؟ هل

يضمن لنا الكاتب الفاضل قبول دول أوربة دخول دولتنا في اتحادهم، إذا ضمنا له

قبول أصحاب العمائم لذلك، أؤكد للرصيف الكريم أنهم يرضون ذلك ويتمنونه،

ويرون أن من حقوق الخليفة عقد مثل هذا الاتفاق إذا كانت المصلحة العامة تقتضيه

وهم لا يجهلون أنه من المصلحة العامة، ولعلهم أقرب إلى كل وفاق بين الدولة

وغيرها، وبين عناصر الأمة من أولئك الذين يظن المقطم فيهم أنهم دعاة الوفاق؛

لأنهم يتبجحون بذلك قولاً، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.

(5)

أشار المقطم إلى أن سبب الخلاف بين زعماء جمعية الاتحاد والترقي

هو الدين وما يقتضيه من حقوق الخليفة، وأن أصحاب العمائم هم الذين عارضوا

أولئك الزعماء الذين يريدون أن يزيلوا كل ما يحول دون اتحاد الدولة بأوربة، مهما

كان، وليس الأمر كذلك، فإن شيخ الإسلام وحزبه من أصحاب العمائم في المشيخة

الإسلامية وغيرها، كلهم من أنصار الذين يظن المقطم أنهم هم الذين يزيلون تلك

الموانع. وأما الحزب الآخر فزعماؤه من حملة الطرابيش لا من حملة العمائم،

وليس لهؤلاء في الدولة سياسة خاصة يتولون زعامتها، وليسوا كبعض الرهبنات

النصرانية إلبًا على المخالف؛ لأن الإسلام ليس فيه امتياز لبعض الأصناف على

بعض. وهذا الزي الذي عليه أكثر صنف العلماء، قد ابتدعه الحكام، ولم يكن في

الصدر الأول ولم يكن عامًّا في زمن من الأزمان.

(6)

إن المتدينين من أصحاب العمائم وغيرها يعتقدون وجوب العمل

بالشريعة في حقوق الخليفة وغيرها، وليس في الشريعة نصوص تمنع من عقد

العهود بين المسلمين وغيرهم، فقد عاهد النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في

الحديبية بشروط كان لهم فيها الرجحان، حتى كره ذلك الصحابة، ولم يقبلوه بعد

المراجعة فيه إلا بمحض الإذعان الذي هو شرط الإيمان، وليس في الشريعة أيضًا

نصوص تمنع من استعمال غير المسلمين في أعمال الحكومة، وقد استعمل

الصحابة الروم والقبط في دواوينهم، وكذا من بعدهم إلى يومنا هذا، ولم نر مثل

هذا التساهل من أوربة في منتهى مدنيتها، نعم.. لا يتساهلون هذا التساهل مع

المرتد جهرًا. وهؤلاء المتدينون ظاهرهم كباطنهم، فالاتفاق معهم أسهل وأثبت.

على أنه ليس لهم في المملكة جمعيات سياسية؛ لتنفيذ ما يعتقدون أنه الحق

والصواب، وقد خالفت الحكومة اعتقادهم في مسائل كثيرة، ولم يقاوموها بقول ولا

فعل.

أما غير المتدينين منا فهم منافقون، يحبون إضعاف الدين من حيث هو دين

لا من حيث هو سياسة؛ لتستقر زعامتهم وزعامة أمثالهم، لا لأجل مساواة أوربة

والاتحاد بها، وهم متفقون على إبقاء الدين آلة سياسية، وقد ظهر من خطبهم

وقوانينهم السرية ما يدل على ذلك. وهذا هو الذي ينفر أوربة منا ويبعدها عنا

دون اتباع الدين من حيث هو دين، ومن حيث هو شريعة ظاهرها كباطنها.

هذا ما أحببنا بيانه للمقطم الأغر، فلعله يترك التعريض بأصحاب العمائم في

مثل هذه المباحث، سواء في ذلك قلمه وأقلام أنصاره الذين عرض أحدهم بأصحاب

العمائم في مقام الدفاع عن الماسونية، ولم نعهد أن أصحاب العمائم قاوموا الماسونية،

ولا شهروا بها كما يفعل اليسوعيون وغيرهم من رجال النصرانية، فإن كانوا يقيسون

أولئك على هؤلاء فهذا قياس مع الفارق، يعرفه من محَّص المسائل ووقف على

الحقائق.

_________

ص: 395

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌احتلال فرنسة لمملكة المغرب الأقصى

بينا غير مرة ما ارتقى إليه فتح الأقوياء بالعلم والنظام والآلات الحربية لبلاد

الضعفاء بالجهل والخلل وفقد الآلات الحديثة، ذلك الفتح المبني على قواعد

الاقتصاد في المال والرجال ومبادلة المنافع، مع حفظ الموازنة بين الدول الكبرى،

فقد صارت الدول تقتسم الممالك فيما بينها بالاتفاق القولي، فتمكن كل منها الأخرى

من اتخاذ الوسائل للاستيلاء على حصتها بما يسمونه الاحتلال أو الحماية أو حفظ

النفوذ؛ وما أشبه ذلك من الأسماء اللطيفة التي يخف وقعها على القلوب، ويلوح

من ورائها خيال الأمل للمغلوب، فلا تتوجه قواه كلها للدفاع.

ما أبقى على كثير من الممالك الجاهلة المختلة إلا تنازع الأقوياء عليها، وهو

عرض لا يدوم، وها نحن نراها قد اتفقت بعد خلافها، وكان من أثر هذا الاتفاق

أن ظهرت الثورة في بلاد فارس، فاحتلت الجنود الروسية في منطقة نفوذها منها

وهي الجنوبية، وبدأت إنكلترة في التمهيد لاحتلال حصتها وهي المنطقة الشمالية.

وظهرت الثورة في المملكة المراكشية فاحتلتها الجنود الفرنسية في هذا الشهر،

كما أشرنا على ذلك في مقالة (العالم الإسلامي والاستعمار الأوربي) وهذا هو

أثر الاتفاق بين فرنسة وإنكلترة على اقتسام ما بقي من القسم الشمالي من أفريقية

سنة 1904م، وقد دخل في منطقة النفوذ الفرنسي في هذا الاتفاق ما بين حدود

طرابلس ومصر إلى السنغال وبحيرة شاد، ومنه مملكة برنو ومملكة ودّاي، وأكثر

من نصف الصحراء الكبرى بما فيها من الواحات، وقد شرعت في احتلال تلك

البلاد كلها. وأما مراكش فقد جعلوا لها معاهدة خاصة جعلوا لأسبانية نصيبًا من

النفوذ فيما يقرب من حدودها فيها، ونرى فرنسة قد احتلتها بجنودها.

تسقط الممالك الإسلامية مملكة بعد مملكة، فلا يروع ذلك أهل الممالك

الأخرى من المسلمين؛ لأن السواد الأعظم من المسلمين جاهل بالسياسة وأساليبها

والنافع والضار منها. وأما الذين يشتغلون بالسياسة منهم فأكثرهم قد انحلت

رابطتهم الإسلامية بتأثير التعليم الأوربي، واستبدلوا بها رابطة الجنس أو الوطن،

ومع هذا كله يتهمهم المتهمون بالجامعة الإسلامية: إما للتحريض عليهم وإما لزيادة

التنفير عن هذه الجامعة، حتى لا يبقى مسلم تحدثه نفسه بإمكانها أو استحسانها.

كنا نعرف أخبار الثورة في البلاد المغربية من المقطم والأهرام، وقلما نرى

حديثًا عنها في جريدة من جرائد المسلمين، وأما جرائد الآستانة والجرائد الفارسية

فلا قيمة لمراكش عندهن، وأن سقوط ثمرة من شجرة أهون عليهم من سقوطها،

وإذا ثبت بهذا أن ما يسمونه الجامعة الإسلامية لا مسمى له، فليتق الله هؤلاء

الفاتحون في هؤلاء الجاهلين المساكين الذين يستولون على بلادهم وليراعوا فيهم

حقوق الإنسانية.

قد سمعنا من فرنسة صوتًا جديدًا، سمعناها تعترف بخطئها في سياستها

الإسلامية، وتقترح إنشاء قلم مخابرات للوقوف على حقيقة أحوال المسلمين الذين

دخلوا والذين يراد إدخالهم في محيط سلطانها؛ لأجل أن تتمكن من رفع الظلم عنهم

وإقامة العدل والمدنية فيهم، فإن صح الخبر وسلكت مسلك إنكلترة في السودان

المصري، فإنها تجد كثيرًا من عقلاء المسلمين عونًا لها، ويخف على نفوسهم

احتلالها لمراكش.

وسنبين مرادنا بهذا في المقالة الثانية التي تشفع بها مقالة (العالم الإسلامي)

التي في هذا الجزء.

_________

ص: 398

الكاتب: محمد رشيد رضا

تبرع

(تبرع محسن باشتراك عشر نسخ من المنار)

جاءنا كتاب في البريد هذا نصه:

السلام عليكم ورحمة الله. وبعد، فقد خصصت مبلغ ستة جنيهات مصرية

للخير، ولما كان مناركم المجلة الدينية الوحيدة في العالم التي حاربت الباطل ثلاث

عشرة سنة بقوة عزيمة وثبات جأش، لم يعهدا إلا في أوديد (كذا) أمثال الشيخ

محمد عبده وجمال الدين الأفغاني رضي الله عنهما، فكانت في هذا الباب ركن

الحق الركين، وعماد الدين المتين، أردت تعميمًا لفائدتها وزيادة في نشرها؛ أن

أخصص بعض ذلك المبلغ أو كله لاشتراكات في هذا المجلة لمن لا يقدر على دفع

القيمة من أفراد المسلمين الذين تفيدهم هذه المجلة أكثر من سواهم، ولذا فسيردكم

المبلغ على عدة دفع، فإذا رأيتم جعله جميعه بدل اشتراكات في المجلة من أول

محرم هذه السنة - فعلتم، وإلا جعلتم بعضه كذلك والبعض الآخر ثمنًا لكتب

تختارونها من مكتبة المنار، ولما كنت ذا إيراد قليل، فسأرسل لكم كل شهر إن

شاء الله تعالى جانبًا من ذلك المبلغ حتى ينتهي، والآن أبادر بإرسال 200 قرش

فيكون الباقي لكم 400 قرش مصري، ولولا أن المدح يؤذيني كثيرًا، لأظهرت

اسمي والسلام على من اتبع الهدى.

لحضرتكم الخيار المطلق فيمن تهبونه اشتراك سنة في المجلة أو تهدونه كتابًا

أو أكثر مما تنتخبونه من كتب إدارة المنار، بما يعادل مبلغ الستة جنيهات

مصري.

(المنار) نشرنا خبر هذا التبرع في المؤيد تعجيلاً بشكر هذا المحسن،

وتنويهًا بإخلاص هذا المخلص، فجاءتنا الرسائل تترى من طلاب العلم وغيرهم

بطلب النسخ المتبرع بها، وقد رجحت الإدارة السابقين من المستحقين.

* * *

(تبرع محسن بثلاثين نسخة من جريدة الحضارة)

تبرع محسن غني بثلاثين نسخة من جريدة الحضارة الشهيرة التي تصدر في

الآستانة باللغة العربية مدة سنة كاملة من ابتداء المحرم الماضي. وهذه النسخ

توزع على من يشتركون في المنار من أول هذه السنة ويدفعون بدل الاشتراك سلفًا.

_________

ص: 400

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

(القدر وحديث خلق الإنسان شقيًّا وسعيدًا)

(س 32 و 33) من دمياط.

من مصطفى نور الدين حنطر إلى المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا.

سلام عليك أيها الرشيد المرشد، سلام عليك أيها القائم لله بالحجة على أهل عصرك،

سلام عليك أيها الوارث لرسول الله، محيي ما أماته الناس من سنته، المصلح لما

أفسدوه من شريعته، سلامه عليك وعلى أمثالك من عباد الله الصالحين المجددين

لهذه الأمة في هذا القرن ما اندرس من أمر دينها، سلام عليك ورحمة الله وبركاته.

أما بعد....

فإني أرجو إفادتي عن أمرين، فإنكم خير من يرجى للإفادة (الأول) إنكم قد

تكلمتم على القدر وعلى حقيقة معناه في مناركم المنير مرارًا وقد عاودتم الكلام عليه

في هذا المنار الأخير عند تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء: 71) ومما قلت في هذا الشأن قولك: (ثم إنك إذا ذكرتهم يسلون في

وجهك كلمة القدر ومثل الحديثين اللذين ذكرهما الرازي) أما أنا إذا ذكرتهم بهذا

المعنى الصحيح أعتقده قديمًا وقلت لهم: إن القدر عبارة عن أن المسببات تجيء على

قدر أسبابها لا تزيد عنها ولا تنقص، وإن أمور الكائنات جارية على نظام محكم

وناموس متقن وسنة حكيمة فإنهم يشهرون في وجهي حديثًا جاء في البخاري عن

عبد الله رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو

الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة،

ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا، ويؤمر

بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه

الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه

الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع،

فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة) .

هذا الحديث أيها الأستاذ مشكل من وجوه:

أولاً - أنه ينافي صريح القرآن، فإنه يفيد أن الأمور مكتوبة على وجه

التحتيم والجبر على أمر بعينه لا على معنى ارتباط الأسباب بالمسببات، ولا ريب

أن ذلك يخالف صريح القرآن، فإنه من أوله إلى آخره يحث على الأخذ بأسباب

السعادة والبعد عن أسباب الشقاوة، ويدل على أن للسعادة أسبابًا سواء كانت دنيوية

أو أخروية، وأن للشقاوة أسبابًا كذلك.

ثانيًا - أن تحتيم الشقاوة الذي يستفاد من لفظ الكتابة المذكورة في هذا الحديث،

يشبه أن يكون ظلمًا منه تعالى، والله منزه عن الظلم كما جاء في غير موضع من

القرآن.

ثالثًا - أن هذا الحديث مؤيد لعقيدة أهل الجبر التي ما كانت تعرف في

الصدر الأول، وإنما فشت في المسلمين بعد ذلك، وصارت من أقوى عوامل

ضعفهم وانحطاطهم.

رابعًا - أن هذا الحديث معارض بحديث (كل مولود يولد على الفطرة) ،

فهذا يفيد أن كل مولود يولد على الخير، وذاك يفيد أن البعض يولد شقيًّا والبعض

سعيدًا. وبالجملة فإن هذا الحديث قد أشكل عليّ أمره، ولم أجد حكيمًا يشفي ما في

صدري سوى حكمتكم الشافية، فأرجو أن تسعفوني بالدواء الناجح؛ لما سببه لي

هذا الحديث من الأمراض والشبهات.

الثاني: إني رأيت في مناركم الأغر التنويه بفضل الشيخ القاوقجي وأنه من

مشايخكم، ولكني وجدت له منظومة يتعبدون بتلاوتها أرباب طريقة القادرية بدمياط،

وهو يقول في أولها:

يا ربنا بالهيكل النوراني

قطب الوجود ومنجد العيان

غوث الورى وغياثه وملاذه

الباز عبد القادر الجيلاني

ويقول في آخرها:

أو أنشد القاوقجي يدعو راغبًا

يا ربنا بالهيكل النوراني

ولا يخفى أن قوله: (ومنجد العيان) وقوله: (غوث الورى وغياثه وملاذه)

ينافي التوحيد، بل هو من الشرك الجلي، فإن القرآن يقول: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ

بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} (الأنعام: 17) ويقول: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن

دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} (الزمر: 38) الآية،

ويقول: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} (الفتح: 11) ويقول: {قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ

أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} (الأحزاب: 17) ؛ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدًّا، بل

أكثر القرآن جاء لإثبات التوحيد ونفي الشرك. فقد حملتني الغيرة عليك وعلى

شيخك فأعلمتكم بذلك؛ لتمحو عن سيرة شيخكم ما يشينها وتثبتوا لها ما يزينها،

وإني كنت مصدقًا بنسبة هذه المنظومة إلى الشيخ القاوقجي رحمه الله، قبل أن أعلم

من حضرتكم التنويه بفضله وأنه شيخكم، فالأمل إفادتي بما هو الحق، والحقيقة

جعلكم الله ملجأ للسائلين وإمامًا للمتقين، وإن يكن عندكم مانع من إفادتي بجريدة

المنار، فأرجو الإفادة بكتاب مخصوص يكون عنوانه هكذا.

...

...

... (دمياط. مصطفى نور الدين حنطر)

الجواب

(القدر وحديث: إن أحدكم يجمع خلقه)

ليس في الكتابة الإلية لما يكون عليه الإنسان في مستقبل أمره شيء من معنى

الجبر والإكراه الذي تبادر إلى فهمكم، وإنما هي عبارة عن ضبط الأمر الذي يجري

بقدر ونظام، ومثاله من أعمال البشر (ولله المثل الأعلى) سير القطارات الحديدية

بنظامها المعروف، وسير البريد في البر والبحر يكتب لهذا وذاك نشرات يذكر فيها

الأيام والساعات والدقائق التي يسير فيها البريد والتي يصل فيها إلى بلد كذا وبلد كذا،

وليس في هذه الكتابة ما يجعل سير القطارات والمراكب وحركات عمالها خارجة عن

نظام الأسباب والمسببات في خواص النار والماء والبخار، ولا ما ينافي اختيار

العمال الذين يتولون الأعمال في هذه القطارات والمراكب، ونقل البريد منها في

أعمالهم.

إن الكتابة عبارة عن ضبط العلم بالشيء، والعلم نفسه لا يتعلق بالأشياء تعلق

إيجاد وتكوين، وإنما يتعلق بها تعلق انكشاف وإحاطة، فلا إجبار ولا تحتيم، وإنما

يكتب الشيء على ما يكون عليه، ونحن نعرف بالضرورة من أنفسنا؛ أن ما نحن

عليه هو أننا مختارون في أعمالنا الصالحة وغير الصالحة، وهي أسباب السعادة

والشقاوة. وكونها مكتوبة لا يمنع هذا، كما أن كتابة سير القطارات والمراكب من

أول الشهر مثلاً لا يقتضي أن يكون سيرها بغير الأسباب، بل هو بالأسباب، ومن

العلماء من ينظم هذه الكتابة في سلك التمثيل بكون علم الله بالأشياء ثابتًا لا

يتغير {لَاّ يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} (طه: 52) .

ومن الفرق بين كتابة الناس والكتابة الإلهية؛ أن الناس يعلمون بما أوتوا من

العلم بالأسباب؛ أن قوة البخار إذا كانت كذا، فإن القطار أو المركب يسير في

الساعة كذا ميلاً، وأن المسافة بين مصر والإسكندرية كذا ميلاً، وبين الإسكندرية

والآستانة كذا ميلاً، وأن السير يكون في ساعة كذا، فيكون الوصول في ساعة كذا،

ولكنهم لا يعلمون ما عساه يطرأ من الأسباب التي تحول دون ذلك، فيترتب عليها

الإخلال بهذا النظام، كما يقع ونشاهده ونسمع به؛ من تعطل آلة أو حدوث رياح

أو سيول تجرف بعض الخطوط الحديدية. والله سبحانه يعلم جميع ما يطرأ على

عبده مما يجري في سلسلة الأسباب الظاهرة للعبد، والأسباب الخفية عنه، ولا

يخفى على الله شيء.

والمسألة التي ذكرت في آخر الحديث من أدق العلم بالله وسنته؛ لأنها مخالفة

بحسب الظاهر لسنة الله تعالى في كون المرء يموت على ما عاش عليه؛ لأن

الأعمال تؤثر بالتكرار في النفس، فتطبعها على الحق والخير أو على ضدهما،

فكيف يمكن إذًا أن يعمل الإنسان بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا

ذراع فيعمل بعمل أهل النار، والعكس.

الجواب عن هذا لا يفهمه حق الفهم إلا خواص الغواص على دقائق المعاني،

ويمكن تقريبه إلى أذهان الجمهور بالمثال، فمثل الذي يعمل بعمل أهل الجنة حتى

يقرب بتزكية نفسه وتهذيبها منها، فيترك العمل لها، وينغمس في الباطل والشر

الذي هو عمل أهل النار؛ كمثل رجل ضعيف البنية مستعد للأمراض القاتلة،

جرى على قواعد حفظ الصحة في طعامه وشرابه وعمله ورياضته، حتى لم يبق

بينه وبين المتمتعين بكمال القوة والصحة إلا فرق قليل، فاغتر بنفسه وأسرف في

أمر صحته بالتعرض لمرض قاتل كالسل أو الهيضة أو الطاعون فهلك، ومثل الذي

يعمل بعمل أهل النار من اقتحام الباطل واقتراف أعمال الشر، حتى تكاد تحيط به

خطيئته وتصير الأباطيل والشرور ملكة حاكمة عليه، فيترك كل ذلك فجأة وينقلب

إلى ضده؛ كمثل رجل قوي البنية كامل الصحة غرته قوته، فأقبل على ما يفسد

الصحة كشرب المسكرات والإسراف في الشهوات، حتى إذا ساء هضمه وضعفت

قواه وكاد يكون حرضًا أو يكون من الهالكين، تنبه من غفلته وثاب إلى رشده،

فجرى على قوانين الصحة بغاية العناية والدقة، فنجا مما كاد يبسله ويهلكه.

كل من هذا وذاك مما يقع قليلاً، والأكثر أن من يطول عليه العهد في مزوالة الأعمال

النافعة أو الضارة لا يعود عنها، والأعمال البدنية كالأعمال الروحية وسنن الله تعالى

فيهما متشابهة.

فتبين بهذا أن الحديث لا يخالف ما في القرآن من إثبات الأسباب، واختيار

الإنسان ومطالبته بالعمل، ولا يثبت عقيدة الجبر، ولا يشير إلى اتصاف البارئ

تبارك وتعالى بالظلم؛ لأنه لا يفيد معنى التحتيم والجبر، بل كل ما يفيده هو أن

كل ما يعمله الإنسان ثابت في العلم الإلهي على ما يكون عليه في الواقع، والواقع

أن سعادة الإنسان أو شقاءه بعمله الاختياري، ولو علمت أنا أن الأمير يسافر في

يوم كذا من القاهرة في ساعة كذا، فيصل إلى الإسكندرية في وقت كذا، ثم يسافر

منها في ساعة كذا من يوم كذا إلى الآستانة، فيصل إليها يوم كذا إلى آخر ما يمكن

أن أقف عليه من حاشية الأمير مثلاً لو علمت هذا وكتبته في دفتر عندي أو في

المنار، فهل يقتضي ذلك أن يكون ذلك السفر بإجبار مني؛ لأنني علمت به، وأن

يكون الأمير غير مختار فيه؟ لا لا، فإن تعلق العلم والكتابة ليس تعلق إلزام ولا

إيجاد كما قدمنا، وإنما أعدناه لزيادة الإيضاح.

ثم إن الحديث لا يناقض حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) سواء كان

المراد بالفطرة الخير أو الاستعداد المطلق؛ لأنه إنما يدل على علم البارئ تعالى بما

يطرأ على الفطرة السليمة من التربية الحسنة والقدوة الصالحة، التي تسوقها إلى

الارتقاء في الحق والخير، فيكون صاحبها تام السعادة، أو من التربية السيئة وقدوة

الشر التي تفسدها وتجعل صاحبها شقيًّا. فإذا بنت شركة (كشركة واحة عين شمس)

عدة بيوت بناء حسنًا محكمًا مزينًا، وقالت: إنني شدت كل بيت من هذه البيوت

وأحكمت بناءه وزينته، وكانت تعلم أن الذين يقيمون فيها فريقان: فريق يزيدون

بيوتهم حسنًا وزينة، وفريق يصدعون بناءها ويشوهون زينتها، وقالت في مقام آخر:

إن هذه البيوت سيكون بعضها حسنًا جميلاً وبعضها مشوهًا قبيحًا، فهل يكون

القولان متناقضين؟ لا لا.

***

(الشيخ محمد القاوقجي)

كان الشيخ أبو المحاسن محمد القاوقجي الطرابلسي رجلاً منقطعًا للعبادة والعلم

وكان له عناية برواية الحديث واشتغال به وبالفقه والتصوف، وكان على الطريقة

الشاذلية. ولما شرعت في طلب العلم رويت عنه الأحاديث المسلسلة، وهي تدخل

في مصنف ليس بالصغير، وحضرت بعض دروسه في الحديث خاصة. وكنت

شديد الميل إلى التصوف الحقيقي؛ لكثرة مطالعتي في إحياء العلوم للغزالي قبل أن

أبدأ بطلب العلم، فطلبت منه أن أسلك هذه الطريقة على يده، فعاهدني وعهد إلي

بقليل من الذكر فلم أقبل، وقلت: بل أريد السلوك التام الذي قرأت عنه في الكتب

كسلوك الغزالي وأضرابه، فقال: يا ولدي لسنا من رجال هذا السلوك، وإنما

الطريق عندنا للتبرك والتشبه بالقوم.

وقد أجازني بكتاب دلائل الخيرات بالمناولة، وله فيها سند على المؤلف. هذا

كل ما أخذته عنه، ولم أقرأ أوراده ولا حفظت شيئًا منها، وكنت أنكر في نفسي

من دروسه في الحديث بعض الحكايات المأخوذة من كتب الصوفية، الذين لا

يزنون كل ما يوردونه بميزان الشرع كالشعراني. وأوراده كلها على المألوف من

متأخري أهل الطريق، وإنني لم أطلع عليها، ولكنني حضرت في صغري بعض

مجالس الذكر التي كان يعقدها، ولم أكن يومئذ أنكر في نفسي ما أسمعه منها لأنه

مألوف، ولما صرت مستقلاًّ بفهم ديني والحجة على عقيدتي لم يبق في ذهني عن

ذلك الرجل إلا تلك الأحاديث التي رويتها عنه، وذلك المثال الجميل الذي عهدته في

ذلك الشيخ القانت؛ عندما كنت أصلي معه أو أسمع صلاته في الليل، أو خطبته

التي ما عهدت الناس يبكون في خطبة سواها. ولا أدري أجميع ما ينسب إليه هو له،

وأنه بقي عليه إلى آخر حياته أم لا، وما أظن أن مثله يعتقد ما فهمتم من تلك

الأبيات، وربما كان يعني بها ما ذكرناه من فهم علماء الصوفية للمدد والتبرك في

ص 263 و 143.

***

(الدخول في الجمعيات السرية ورؤساؤها وأتباعها)

(س 34 - 37) من صاحب الإمضاء في دمشق الشام.

حضرة مدير مجلة (المنار) الإسلامية.

نرجوكم الإجابة على هذه الأسئلة الآتية، ولكم منا الشكر، ومن الله عظيم

الأجر.

هل يجوز لمؤمن أن يدخل جمعية سرية مختلطة من دون أن يقف على

(كذا) ؟

وهل ورد في النهي عن ذلك في شيء من الآيات والأحاديث؟

هل يجوز لمسلم أن يدخل على جمعية رئيسها من غير أبناء دينه؟

هل يباح لمسلم أن يلقب بفارس الهيكل، وما أشبه هذا اللقب المختص في

هذه الأزمان ببعض الجمعيات الغير المتدينة.

...

...

...

...

... المخلص

...

...

...

... ابن الأمير محمد سعيد

(ج) المؤمن حر، يجوز له أن يدخل في كل عمل مشروع، وكل جمعية

عملها مشروع، وإن كان بعض أعضائها أو رئيسها من غير المسلمين، فالعبرة

إنما هي بالعمل، هل هو جائز شرعًا أم لا؟ فإذا تألفت جمعية خيرية لإسعاف

الذين يصابون بالمصائب؛ كالجريح والحريق (كجمعية الإسعاف في مصر) ، أو

جمعية طبية خيرية كالجمعيات التي تتألف لمقاومة بعض الأمراض؛ كالرمد

الصديدي والسل الرئوي، أو لتحسين أحوال العجزة كالعميان، أو ترقية بعض

العلوم النافعة كالطب والزراعة، فيجوز للمسلم أن يدخل فيها مع غيره، ولا يضره

أن يكون رئيسها غير مسلم؛ إذ ربما كان غير المسلم أقدر على النفع فيها من

المسلم. فالجمعيات في هذا الزمان كالأحلاف التي كانت في الجاهلية؛ منها ما هو

على خير وما هو على شر. فأما ما كان من حلفهم على الفتن والغارات فهو الذي

قال فيه صلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام) رواه مسلم.

وأما حلفهم على التعاضد والتساعد ونصر المظلوم كحلف الفضول فهو الذي قال

فيه صلى الله عليه وسلم: (وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة)

وقال: (شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا لو دعيت إلى مثله في الإسلام

لأجبت) هكذا أورده ابن الأثير مختصرًا، وفي كتب السير (لقد شهدت) ويعني

حلف الفضول الذي عقدته قريش في تلك الدار بعد حرب الفجار، والمتحالفون فيه هم

بنو هاشم وبنو المطلب ابني عبد مناف وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة بن كلاب

وبنو تيم بن مرة، تحالفوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا في مكة مظلومًا من أهلها أو من

غيرهم إلا قاموا معه، حتى يردوا إليه مظلمته، وإنما سمي حلف الفضول

تشبيهًا بحلف كان قديمًا بمكة أيام جرهم؛ على التناصف والأخذ للضعيف من القوي

وللغريب من القاطن، قام به رجال من جرهم كلهم يسمى الفضل منهم؛ الفضل

بن الحارث والفضل بن وداعة والفضل بن فضالة. قاله ابن الأثير في النهاية.

وقيل: إنهم تحالفوا على أن يردوا الفضول على أهلها، ولا يقر ظالم على

مظلوم، فالمراد بالفضول ما يؤخذ ظلمًا أي فاضلاً عن الحق زائدًا عليه.

والذي لا يجوز للمسلم هو أن يدخل في جمعية، يتحالف مع أهلها ويتعاهد

على أمر مخالف للشرع؛ ومنه أن يطيعهم فيما يأمرونه به بقرار الجمعية كائنًا ما

كان أي: ولو مخالفًا للشرع كإعطاء الشيء إلى غير أهله، وقتل من لا يجوز قتله

شرعًا، كما هو شأن بعض الجمعيات السياسية السرية. ولا ينبغي له أن يدخل في

جمعية لا يعرف مقصدها؛ لأنه ربما كان مقصدًا محرمًا؛ ولأنه لا يليق بالعاقل أن

يلتزم القيام بما يجهل حقيقته وعاقبته، فإن دخل في جمعية على أنه ليس فيها شيء

مخالف للشرع الثابت، ثم ظهر له فيها ما يخالفه ولم يستطع إزالته، وجب عليه

أن يتركها ويتبرأ منها.

وأما لقب (فارس الهيكل) فلا يحظر على أحد أن يلقب به نفسه أو ولده، إلا

إذا ترتب على ذلك مفسدة أو محرم كغش أو إيهام باطل، وإلا فالألفاظ مباحة للناس

في الأسماء والألقاب لا يكره منها إلا ما يدل على معنى مكروه أو فيه دعوى

العظمة، كما ورد في الحديث الصحيح النهي عن التسمي بملك الأملاك وملك

الملوك.

***

(التقيد بمذهب معين والتلفيق)

(س 38) من صاحب الإمضاء في مديرية الشرقية.

في 17 - 5 - 1329.

حضرة العلامة الهمام السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار المنير.

بعد واجبات الاحترام. نرجوكم الإجابة على الفتوى الآتية وهي:

هل يجوز التقيد بمذهب أحد الأئمة في الصلاة، أم يجوز له أن يأخذ من كل

مذهب ما يوافقه، أعني إن كان مالكيًّا؛ ولصعوبة الغسل من الجنابة في مذهب

مالك يريد أن يغتسل على مذهب الشافعي، أيجوز له ذلك أم لا؟ نرجو سرعة

الجواب، أجزل الله لكم الأجر والثواب.

...

...

...

...

أنور محمد قريط

...

...

...

... من قبيلة أولاد علي بفراشة

(ج) جمهور القائلين بالتقليد يمنعون التلفيق في المسألة الواحدة، وهي أن

يقلد في كل فرع منا إمامًا، فيأتي بحقيقة لا يقول بها أحد منهم، كأن يراعي مذهب

الشافعي في الغسل ولا يراعيه عند الصلاة في ستر العورة وطهارة البدن والمكان.

ويجيزون أن يقلد في كل مسألة إمامًا، وقال بعضهم: إن التلفيق جائز بشرطه،

وإنه لازم لمذهب الحنفية، فإنه مؤلف من آراء عدة مجتهدين يخالف بعضهم بعضًا،

وقد حررنا ذلك في مقالات المصلح والمقلد، فراجعها في المجلدين الثالث والرابع

من المنار على أنها مطبوعة في كتاب على حدتها.

_________

ص: 424

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العالم الإسلامي

والاستعمار الأوربي

(2)

إن دول الاستعمار دول تجارة وكسب، فهم يفتحون الممالك لتمتيع شعوبهم

بخيراتها، وتمكينهم من ثروتها، ولا ينشرون من علومهم وفنونهم في الممالك التي

يفتحونها إلا المقدار الذي يسخرون به أهلها، ويستخدمونهم في استخراج تلك الثروة

لهم، ويقطعون به روابطهم الاجتماعية التي تربط بعضهم ببعض، ويزيلون

مقوماتهم ومشخصاتهم الملية التي يكونون بإحكامها أمة واحدة متحدة في الشعور

بمصلحتها العامة.

أهالي المستعمرات الأوربية يجعلون فريقين: فريق الفلاحين والفعلة الذين

يقومون بالأعمال الشاقة في استخراج الأقوات والنبات والمعادن من الأرض،

وفريق المالكين المترفين الذين ينفقون ما يفضل لهم عن سادتهم المستعمرين في ثمن

ما يجلب من أوربة من اللباس والأثاث والرياش وسائر أنواع الماعون والزينة

والخمور، وما بقي من ذلك يبذلونه لبغايا تلك البلاد أو بيوت القمار الأوربية.

هؤلاء المترفين الذين يجرفون معظم ثروة البلاد إلى أوربة هم الذين

يتعلمون لغات هذه الدول المستعمرة، ويأخذون من قشور علومهم وفنون عاداتهم ما

يشوه في أعينهم ويقبح في أنفسهم كل ما يربطهم بأمتهم من عقيدة وشعار وخلق

وعادة مهما كانت حسنة ونافعة، ويزين لهم ما يرون عليه سادتهم المستعمرين

وإن كان من الفواحش والمنكرات التي يشكو منها حكماؤهم وعقلاؤهم، ويكون أكثر

الأغنياء الذين لم يتعلموا هذه الأساليب المدنية الخادعة مقلدين لمن تعلموها

يحذونهم حذو النعل للنعل فيها.

للسياسة الاستعمارية لغة خادعة كلغة التجار؛ لأن الغرض منها هو عين

الغرض من التجارة (الكسب بالحق وبالباطل) ، يزيد التاجر سلعته بزخرف القول

المموه، ويوهم كل من يعرضها عليه أنه يختصه بالرعاية والإكرام، ويؤثر

مصلحته على مصلحة نفسه، ولا يريد أن يربح منه شيئًا أو إلا شيئًا تافهًا لا يوازي

بعض تعبه في جلب السلعة ونفقته على نقلها وحفظها، ومنهم الذين يزعمون أن

الأثمان محدودة، وأنهم يطرحون منها عشرين أو ثلاثين في المائة في أيام معدودة.

وأهل الاستعمار، يقولون في بعض الأطوار: إننا لا نبغي فتحًا، ولا نحاول

ملكًا، وإنما شغفتنا الإنسانية حبًّا، فحملتنا على بذل أموالنا، وإرهاق رجالنا؛

لأجل تعليمكم وتمدينكم لتكونوا مثلنا، هكذا كانوا يقولون لمثل السلطان عبد العزيز

صاحب مراكش من قبل.

ويقولون في طور آخر: إننا بما أوتينا من الرحمة والرأفة بالبشر، وحب

تعميم العدل بين الأمم، نريد أن نزيل استبداد هذا الحاكم، ونطهر الأرض من ظلم

هذا السلطان الغاشم؛ ليتفيأ الناس ظل العدل، ونبدلهم من بعد خوفهم نعيم الأمن،

كذا قالوا في السلطان عبد الحفيظ قبل أن يظهر لهم المواتاة التي كان عليها أخوه

عبد العزيز.

ويقولون في طور آخر: إن الرعية قد ثارت على حاكمها وتألبت على ملكها،

ونحن الكافلون لاستقلاله، المسئولون عن حفظ عرشه، فلا مندوحة لنا عن

نصره والمحافظة على ملكه، حتى إذا زال الخوف، واستقر الأمن، وانتظمت

الحكومة المحلية، وصارت قادرة على منع الفتن الداخلية رجعنا أدراجنا، لا

نريد من صاحب العرش الذي حفظناه أن يثل، والشوكة التي منعناها أن تخضد،

جزاء على عملنا، ولا شكرًا على خدمتنا؛ لأننا إنما نفعل ذلك لوجه الإنسانية؛

وحبًّا في تعميم المدنية، واستبدال الحرية بالعبودية، هذا ما قاله الإنكليز في احتلال

مصر بالأمس، وهذا ما يقوله الفرنسيس في احتلال فاس اليوم.

صدق حكيمنا ابن خلدون في قوله: (إن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب

في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده) نقول: ولكنه قلما يقتدي به في

معالي الأمور وأسباب القوة التي بها كان غالبًا؛ لأن المغلوبين يستحوذ عليهم

الخمول والكسل، ويصيرون عالة على الغالب في عامة شئونهم.

وقد يخدع الغرور بعض المتفرنجين المقلدين، فيتوهمون أنهم بتقليدهم

للإفرنج في أسلوب التعليم ودعوة الوطنية وشكل الحكومة، قد ساروا على

طريقهم إلى الاستقلال الذاتي والكمال المدني، وهيهات هيهات، لا تجد أكثرهم إلا

مخدوعين، وطريق المستقلين غير طريق المقلدين.

قال بعض كبراء الإفرنج في بيان درجات الفتح الاستعماري: إن أولها فتح

دعاة النصرانية (المبشرين) لبعض المدارس، ثم لبعض المستشفيات والملاجئ،

ثم وقوع الشك والزلزال في نفوس بعض المتعلمين فيما كانت عليه الأمة من العقائد

والمقومات الاجتماعية، ثم حدوث فكرة الرابطة الوطنية التي تنقسم بها الأمة إلى

شطرين: شطر المتفرنجين الذين يهدمون أركان مقوماتها القديمة؛ تقليدًا لأوربة،

وشطر المحافظين على القديم، ثم رواج تجارتنا برواج التقاليد والعادات الأوربية

التي يسهل التقليد فيها، ثم حدوث أو إحداث الاحتكاك الذي يتبعه الاعتداء على

بعض المبشرين أو غيرهم من الأوربيين أو النصارى الشرقيين، ثم المداخلة

السياسية فالعسكرية؛ لحماية مصالحنا وأموالنا أو قومنا وأهل ديننا، ومهما كان

الاسم الذي نسمي به سيطرتنا على البلاد بعد الاحتلال العسكري فالمعنى واحد،

وهو أننا نكون السادة، فنفعل ما نشاء ونحكم ما نريد.

ذلك قولهم بأفواههم يضاهئ لاحقهم به سابقهم، ولهم أقوال أخرى في الإسلام

والمسلمين والصليب والهلال، بلغة أصرح من لغة الاستعمار التجارية، وهم

يفهمون هذه اللغة؛ لأنهم هم الواضعون لها، وقد صار فينا من يفهمها، وهم الذين

شعروا بأنهم يبيتون منها بليلة السليم، ومفازة من ضل عن الطريق القويم، ولكن

أكثر الناس لا يفهمون الكنايات والمعميات الاستعمارية والخطابات السياسية الرسمية

إلا إذا فسرتها تلك الكلمات الصريحة المأثورة عن زعماء أوربة، كقول ذلك

الإنكليزي في الصليب والهلال، والفرنسي في كون الرأفة التي يجب أن يعامل بها

المسلمون هي السيف والنار، والألماني في كيفية إزالة سلطة الترك من البلقان من

غير حرب ولا قتال، على أن أكثر المسلمين لم يسمعوا تلك الأقوال، ومنهم أهل

المغرب الأقصى الذين هم أقرب المسلمين إلى أوربة بأرضهم، وأبعدهم عنها

لجهلهم.

إن الفتح الاستعماري الأوربي تجاري كما قلنا، ولكن السياسة ممزوجة فيه

بالدين، خلافًا لتمويهات المخادعين، ومن الأصول المتفق عليها بين الدول الكبرى

في أوروبة إزالة السلطة الإسلامية من الأرض، ولذلك اقتسموا جميع الممالك

الإسلامية في أفريقية، ولم يتعرضوا لمملكة الحبشة النصرانية، ويفتاتون على

الدولة العثمانية إذا أخمدت بالقوة ثورة المكدونيين والألبانيين المسيحيين، ويقرونها

على تنكيلها باليمانيين المسلمين، ولا أريد بما أكتب من هذا المقال الدفاع عن

الحكومات الإسلامية، فإنني أعلم أن أوربة لا تستولي على دولة إسلامية بمجرد

قوتها عليها، وإنما تلك الحكومات هي التي تمكنهم من مقاتلها، وتوطئ لهم المسالك

للاستيلاء عليها، فهم يخربون بيوتهم بأيديهم، فلا يجدي الدفاع عنهم، وإنما أريد

أن أطالب هؤلاء المستعمرين؛ بأن يراعوا حقوق الإنسانية في هؤلاء المساكين

الجاهلين، وأرى أن هذا من الممكنات، وأنه خير للفريقين فيما هو آت.

يوشك أن لا يوجد في المليون من أهل مملكة مراكش رجل واحد يفهم معنى

احتلال فرنسة لها أو لغة الاستعمار التي ينطق بها رجال السياسة عندما يتكلمون

في شأن هذا الاحتلال مع السلطان ورجاله، ولكن ما لا يفهم ولا يعقل في مراكش

قد يعد من البديهيات في مصر، ولا سيما عند أرباب الصحف وقرائها، فطالما

كتب هؤلاء وقرؤوا في الكتب والجرائد الأوربية، وترجموا عنها أقوال زعماء

السياسة في بيان مقاصدهم من البلاد التي يستعمرونها وبيان أعمالهم فيها، وهم

يعرفون حقائق كثيرة تدل على ذلك من مكاتبيهم في تلك المستعمرات، وممن

يلاقونه من أهلها في مصر ذاهبًا إلى الحجاز أو إلى أوربة أو عائدًا من سفره. ومع

هذا كله نسمع لسان الاستعمار الأوربي يمنّ علينا كل يوم بأنه لا غرض لأوربة من

بلادنا إلا ترقيتنا وتمديننا وتربيتنا وتعليمنا، حتى تصير مثلهم أهلاً لأن نحكم في

بلادنا ونستقل بأمرها؛ حبًّا بالإنسانية؛ وجريًا على ما تعودوه من الفضيلة والعدل

والحرية.

أنحت الجرائد الفرنسية التي تصدر بمصر على الجرائد الوطنية، ووبختها

وهددتها إن استنكرت احتلال فرنسة في المغرب الأقصى، وقالت: إن هذا اللوم

لفرنسا يعود بالضرر على القطر المصري! ! ومما قالته جريدة (النوفل) في هذا

الشهر في هذا السياق: (إن فرنسة أبدت في مستعمراتها الإسلامية من التسامح

وحسن الذوق، ما لا يجوز معه أن يوجه إليها هذا اللوم، على أنه ليس مبنيًّا على

أساس صحيح، وهو أمر يعرفه المصريون، كما يعرفون أن فرنسة صديقة لهم

صادقة لا تتخلى عنهم عند الشدائد) ! !

أما المصريون فيردون افتئات هذه الجريدة عليهم، ويقولون: إننا لا نعرف

شيئًا من هذا التسامح كما تدعين بل نعرف ضده، وإننا كنا مخدوعين بصداقة

فرنسة لنا إلى يوم حادثة (فاشودة) ، ولم يبق أحد بعدها يعتقد هذه الصداقة.

وقالت جريدة (لاريفورم) بعد استنكار اهتمام الجرائد المصرية بمسألة

المغرب الأقصى، وبيان الاختلاف بينها وبين مصر في الأحوال الاجتماعية ما

معناه: إنه يجب على أصحاب هذه الجرائد أن لا يندبوا حظ المغرب، ويرثوا له،

بل يجب أن يعدوا تداخل الأجانب في شؤونه نعمة وسعادة له لا نقمة ولا شقاء؛

لأنه يعدّ له مستقبلاً زاهرًا (إن فجر الاستقلال أخذ يبدو للمصريين، فعليهم أن

يواصلوا السعي لإدراكه، وهم يحطون من قدر أنفسهم، إذا أنزلوها منزلة المغاربة

الذين لم يعملوا حتى الآن إلا ما يجلب لهم الذل والهوان، وليدعوا فرنسة وشأنها،

فإنها ليست بحاجة إلى من يعلمها معنى العدل والحرية) ! !

نحن نعلم علم اليقين أنه ليس في تونس والجزائر من الحرية والتسامح عشر

معشار ما في الهند - إن صح أن يقال: إن فيهما حرية وتسامحًا - ونحن على ما

نعرف من فضل الإنكليز على جميع المستعمرين، نسمع آنا بعد آن ما نسمع من

تخوف ساستهم من يقظة أهل الهند ومطالبتهم بحقوقهم الاقتصادية، وآخره ما كتبته

جريدة التيمس في هذا الشهر عن علاقة أوربة بالشرق؛ فقد ذكرت أن هناك ثلاث

مسائل عظيمة تتسع وتكبر بالتدرج، وهي المسألة الهندية، والمسألة الصينية،

ومسألة الشرق الأدنى. ومما قالته في الأولى هذه الجملة الجديرة بالاعتبار:

(إن بريطانية العظمى لم تقرر خطتها السياسية في الهند، وستضطر إلى

ذلك عاجلاً، فلا زيارة الملك ولا غيرها من المجاملات يكفي لتحويل الحركة

الحاضرة في الهند عن محورها الحقيقي، والمسألة التي يتوقف عليها رضا الهند

بالحكم البريطاني، تندرج في طلب رسمي قدمه بعض كبراء الهند بشأن إطلاق

حرية الهند الاقتصادية والمالية، ولا يخفى أن إجابة هذا الطلب بأية صفة كانت

تخفض سلطة إنكلترة ولا سيما من الجهة المالية) فتأمل.

وأما مسألة الصين فهي تراها خطرًا على صناعة أوربة وتجارتها في

المستقبل؛ لأن هذه الأمة صناعية، وقد أنشأت تتقدم ببطء، وما كان كذلك يكون

راسخًا ثابتًا، ولا يمكن لأوربة أن تخضعها وإن اقتطعت بعض أطرافها وقتلت ألوفًا

من أهلها. وأما مسألة الشرق الأدنى فالخوف منها محصور في ضعف الدولة

العثمانية الذي يغري الدول بها، ويخشى أن يفضي إلى سفك الدماء، وذكرت تخبط

فارس في دستورها وعجز أفغانستان عن حفظ مركزها.

وقرأنا لها في العام الماضي مقالاً، تنبه فيه أوربة على التأمل في يقظة

الشرق وطلبه للترقي، وتحثها على قطع الطريق عليه من أوله قبل أن يصل إلى

الغاية أو يقاربها، فيخرج من ذلة العبودية لأوربة فيكون مساميًا أو مساويًا لها، فإذا

كان هذا رأي مستعمري الإنكليز وهم أمثل طريقة، وأقرب إلى مراعاة سنن

الطبيعة، فماذا عسى أن يكون رأي غيرهم.

ألا فليعلم أولئك المستعمرون أن أهل الرأي والبصيرة من المسلمين يعتقدون

أن أوربة تريد من استعمار بلادهم أن تتخذ مالها دولاً، وتتخذ أهلها عبيدًا وخولاً،

(لكنها لا تسميهم عبيدًا بل أحرارًا) وأن لا تبقي لهم في الأرض سلطانًا يحكم،

ولا شرعًا ينفذ، ولا ثروة يستقلون بالتصرف فيها، ولا تربية ملية يحيون بها.

وإن أرفقهم في ذلك الإنكليز، وأشدهم وأقساهم الفرنسيس والروس، وربما كان

الاستبداد اللين أدوم من الاستبداد القاسي الخشن، فإذا قدر مسلمو الهند اليوم على

إخراج الإنكليز من بلادهم لا يفعلون، وإذا قدر غيرهم على ذلك لا يتلبثون به

ساعة ولا يستأخرون.

ألا وليعملوا أننا لا نجهل أن أكبر قوتهم علينا، أننا عون لهم بظلمنا وجهلنا

على أنفسنا، وأنه لولا ذلك لم يكن لهم حجة على استعبادنا عند محبي العدل

والحرية من قومهم. وأن من عرف حقوقه قلما تضيع حقوقه، وأن القوة الآلية

المستبدة قليل عمالها، لا يدوم لها السلطان على الشعوب الكثيرة إذا اتفق أفرادها،

وأن المسلمين قد قاربوا سن الرشد الاجتماعي، وأن الخير للإنسانية أن يرشدوا

متعارفين مع إخوانهم فيها لا متناكرين، ومتقابلين لا متدابرين، ومتحابين لا

متشاقين، ومتفقين لا متشاكسين، والوسيلة إلى ذلك معروفة ميسورة لمن سبقونا

في هذا الرشد، وهي أن يخلصوا النية في مساعدتنا على الارتقاء الحقيقي، مع

محافظتنا على ديننا ولغتنا، ونحن نفصل لهم القول في ذلك إن كانوا فاعلين.

لو أراد المستعمرون ذلك من قبل لارتقى الشرق ارتقاء عظيمًا، ولكانت الهند

غير الهند الآن، وجاوه غير جاوه الآن، وكذلك تونس والجزائر، أعني أنها

كانت أرقى عمرانًا، وأوسع علمًا وعرفانًا، وإذًا لكانت منافع أوربة منها أعظم،

وكان قضاؤها بذلك على سائر الحكومات الفاسدة التي تنسب إلى الإسلام أسرع،

وفوق هذا وذاك أنه كان يكون ارتقاء الإنسانية في جملتها أوسع. ألم تروا إلى

مصر، كيف كان يعد السلطان عبد الحميد رؤيتها ذنبًا سياسيًّا بمنع منه العثمانيين

ما استطاع، ويعاقب عليه من اقترفه إذا كان من أهل العلم وأرباب الأقلام، وهل

كان سبب ذلك إلا أن من يرى ما في مصر من الحرية وحركة العمران يزداد

سخطًا على حكومته الاستبدادية المخربة.

لم تكن هذه الحرية في مصر لمحض رغبة الإنكليز في ترقية المصريين،

وإنما كان لها أسباب: (منها) ما سبق لمصر من الأخذ بأسباب العلوم والمدنية

الأوربية، حتى صاروا يدركون من حقوقهم ما لا يدركه أهل زنجبار الذين لم

تعاملهم الإنكليز كما تعامل المصريين؛ على عدم المعارض لها فيما تفعله في بلادهم،

(ومنها) ما كان عندهم من الحرية قبل الاحتلال، ومثل إنكلترة لا ترضى

كغيرها أن تجعل البلاد التي يكون لها نفوذ فيها دون ما كانت عليه في الحرية،

(ومنها) أن الإنكليز كانوا يستفيدون من تلك الحرية، ما لم يكونوا ليستفيدوه من

ضدها. (ومنها) أخلاق عميدهم السابق لورد كرومر. (ومنها) كثرة الأوربيين

في هذه البلاد وما لهم فيها من الامتيازات، ومعارضة بعض دولهم القوية للاحتلال

الإنكليزي إلى سنة 1904م، وعدم مواتاتهم له إلى اليوم في التضييق على

المطبوعات، الذي حمل عليه الحكومة المصرية أخيرًا. (ومنها) وهو يلي

امتيازات الأوربيين الصفة التي احتلوا بها البلاد، والحجج التي يحتجون بها على

إطالة الاحتلال، وما يعترفون به من شكلها الرسمي.

على هذا كله حصر الإنكليز التعليم بمصر في المضيق الذي يتعذر أن يتخرج

فيه الرجال المستقلون الأكفاء، كما جعلوا السيطرة على الحكومة مانعة أن يترقى

فيها المستعد للاستقلال، فيبلغ فيه مستوى الكمال، حتى إنه لا يكاد يوجد في مصر

من يتقن اللغة الإنكليزية كتابة وخطابة كما يوجد من يتقنون الفرنسية، منذ كانت

هذه اللغة عمدة المصريين في المعارف الأوربية.

لو شاء الإنكليز أن يرقوا التعليم والتربية لفعلوا، ولكن لورد كرومر قال في

أحد تقاريره: إن الغرض من مدارس الحكومة بمصر فرنجة المصريين أي: إزالة

مقوماتهم الملية التي كانوا عليها، وجعلهم مقلدين للإفرنج كتقليد الغراب للحجل في

المشي أنساه مشيته، ولم يتعلم مشية الحجل، ومن أراد شاهدًا على هذا، فليقرأ ما

كتبه اللورد في كتابه (مصر الحديثة) عن هؤلاء المصريين المتفرنجين وما ذمهم

به، وحينئذ يجزم بأن مراده بفرنجة المصريين ما قلناه آنفًا.

أما الشواهد الوجودية على هذا المعنى فهي أصدق شهادة وأقوى برهانًا،

تريك كيف يهدم هؤلاء المتفرنجون مقومات أمتهم ومشخصاتها بالتقاليد الأوربية،

وباسم الوطنية والمدنية، وكيف يجرفون ثروة بلادهم على أوربة، حتى إن بعض

النساء في أعلى البيوت المصرية لا يشترين ثيابهن وزينتهن وسائر حاجهن إلا من

أوربة مباشرة، وإن الواحدة منهن لتشتري في كل سنة بالألوف الكثيرة من

الجنيهات، ولو ابتاعت بعض ذلك من مصر لجاز أن يكون لبعض التجار الوطنيين

نصيب في ربحه.

الحر من الإنكليز يعلم ويعترف بأن الإنكليز لم يرقوا المصريين أنفسهم، وقد

قال بعض من كان يجلس إلى لورد كرومر من المصريين: إنك أيها اللورد قد

خدمت الحكومة المصرية وأصلحت ماليتها ورقيتها، ولكنك لم تعمل للمسلمين شيئًا

في ترقيتهم، وهم جاهلون لا يعرفون كيف يرقون أنفسهم. فقال اللورد: إن الذي

لا يرقي نفسه لا يرقيه غيره، وكان حسبهم أن لا نعارضهم في ترقية أنفسهم، ومع

هذا أقول: ليعملوا وليطلبوا مني المساعدة أساعدهم. فقال المصري: إنه لا يوجد

عندنا رجال هم أهل لمثل هذا العمل، فقال اللورد: بل عندكم رجلان هما الشيخ

محمد عبده ورياض باشا، فساعدوهما بالمال والحال يعملا لكم ما تشاءون.

لا لوم على الإنكليز في هذه الخطة ولا تثريب، وكيف يجوز أن نلوم

الأجنبي أنه لا يرقينا ولا يجتهد في رفعنا إلى مساواته، ونحن لا نرقي أنفسنا،

فإننا حتى هذا اليوم لم نشرع في العمل العظيم الذي ترتقي به الأمم؛ وهو التربية

الملية الاستقلالية التي يتخرج بها عظماء الرجال الذين ينهضون بالأمم، من الظلم

بل من الجنون أن نقصر في تربية أنفسنا، ونجعل تبعة هذا التقصير على الأجنبي

الذي نصيح كل يوم: أنه خصم لنا أو عدو مبين، ولو كان جميع الأوربيين في

مستعمراتهم كالإنجليز لا أقول في مصر، فيقال ليست مستعمرة رسمية لها، بل في

السودان لما كان لنا عليهم حجة في هذا المقام، وإن كانوا يستطيعون أن يعملوا لنا

ما لا نعمله لأنفسنا. ولكن غيرهم يمنعون العلم، ويقيدون الحرية، ويراقبون كل

من دخل مستعمراتهم، ويتبعونه الجواسيس ولا سيما إذا كان من العثمانيين.

تلك إشارة إلى سياسة الأوربيين وتفاوتهم فيها، وأما تعصبهم الديني ومحاولتهم

تحويل المسلمين عن دينهم فهم فيه سواء، كلهم مصداق لقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ

مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً} (البقرة: 109) وقوله:

{وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120) وليس

الإنكليز بأمثل من غيرهم في هذا الباب، فقد اجتهد دعاتهم في تنصير مسلمي الهند

وغيرهم فلم ينالوا إلا الخيبة، ولا يستقر نفوذهم في مكان إلا ويكون وراءهم دعاة

الدين، بل نرى بعض جرائدهم السياسية تنفث في مصر سموم التعصب الذميم

بعبارات تدل على الحقد والسخيمة والجهل الفاضح.

لهم في مصر جريدة اسمها (اجيبسيان غازيت) تطعن في القرآن، حتى في

أسلوبه وبلاغته، وقد قالت في هذه الأيام: إنه على لهجته السقيمة غير المنطقية،

قد أثر في العرب أكثر من تأثير توراة (وايكلف) في (الأنكلو ساكسون)

ولوثر في الألمانيين، ودانتي في الإيطاليين، وكل بصير يراقب المسلمين لا يسعه

إلا أن يندهش من تأثير هذا الكتاب في رجوع الإنسانية القهقرى! !

هذا ما يقوله من لا يفهم جملة من العربية على وجهها، ولكننا لا نظن أنه

يجهل التاريخ كما يجهل العربية، وإذا هو يعلم أنه لم يوجد كتاب في الأرض دفع

الإنسانية إلى الأمام ورفعها إلى الأوج كالقرآن، وأن المسلمين بلغوا به ما بلغوا

من السيادة، ولما تركوه إلى مصنفات الجاهلين (المقلدين) رجعوا القهقرى، وهو

وأمثاله يخافون أن يعودوا إلى هديه، فلذلك ينفرهم عنه وينسب تقهقرهم إليه.

أما مبلغ علم صاحب هذه الجريدة بالعربية؛ فإنك تجد مثالاً مضحكًا في تفسيره

لقول الشاعر:

لقد أسمعت لو ناديت حيًّا

ولكن لا حياة لمن تنادي

فإنه سخر من اللغة العربية واستشهد بهذا البيت، وحمل الحياة فيه على

الحياة الحسية الحيوانية، ولو فهم معناه لعلم أن القبطي الذي فسره له قد غشه،

ولقبع في كسر بيته خجلاً، إن كان حيًّا يتأثر من الخطأ الفاضح؛ لأنه يعلم حينئذ أنه

لو وجد لشكسبير مثل هذا البيت، لانتفخت أنوف الإنكليز؛ عجبًا به وفخرًا

أضعاف انتفاخها الآن.

ومما سخرت به هذه الجريدة الغالية في التعصب من الإسلام والمسلمين،

تمنيها لو سمي شارع كلوت بك (جنة المسلمين)، وقالت: إن هذه التسمية تحدث

عن المسلمين حماسًا دينيًّا في الأحياء المجاورة له! !

هذا الشارع لا تغيب فيه الحانات الملأى بالخمور الأوربية عن سالكه طرفة

عين، وهو وما يقاربه مثوى البغايا التي بلتنا بها المدنية الأوربية، وقد صار هذا

المتعصب يعد هذا الخزي الأوربي التي تتعمد به أوربة إفساد آدابنا وديننا وسلب

ثروتنا من سيئات الإسلام. فإذا كان هذا هو الأدب والتسامح الإنكليزي في الجرائد

السياسية، فما بالك بجرائدهم الدينية كجريدة (المسيحي) وغيرها! وهل يعتبر

بذلك المسلمون؟ !

قد زين لأمثال هذا المتعصب عقله الإنكليزي الذي يتيه به على جميع البشر؛

أن هذا السخف الذي يسخم به جريدته مما ينفر المسلمين عن القرآن، ويحول بينهم

وبين الاهتداء به، فتدوم لقومه السيادة عليهم، ونحن نرى بعقلنا الشرقي المذموم

عنده أن تأثيره يكون بضد ما أراد ما زين له عقله، نرى أن إيقاظ المسلمين بمثل

هذه الأصوات المنكرة أقرب إلى بعثهم من مرقدهم، وتنبيههم إلى ما يراد بهم،

وإرجاعهم إلى روح القرآن التي تحييهم كما أحيت من قبل سلفهم (ويا ليت كل ما

يكتب في ذلك يترجم بالعربية) ومزاج الحي يدفع عن نفسه الأذى، ويقتضي

المزاحمة والتنازع على الغذا، وتنازع الأعداء المتزاحمين، غير تنازع الإخوة

المتراحمين.

وحاصل ما نريده مما تقدم كله أن يطلبه عقلاء قومنا اليوم من مستعمري

أوربة؛ أن يعاملونا معاملة الإخوة، فيتركوا لنا ديننا وآدابنا ولغتنا وحرية العلم

والتربية وجميع شؤون الاجتماع، ويساعدونا على الارتقاء في الاقتصاد وجميع

شؤون الكسب والعمران، ويشاركونا في الربح مشاركة الأخ لأخيه.

إذا أجابت هذه الدعوة كل دولة من الدول القوية المستعمرة، أمنت كل واحدة

على مستعمراتها، وزادت في خيراتها وبركاتها، وإن فعلته واحدة منهن كان لها

العاقبة وحدها، حيث تكون من آسية أو أفريقية. وإن لم تفعله ولا واحدة منهن

احتقارًا للمسلمين بضعفهم، فيوشك أن يظهر من غيب الله ما ليس في الحسبان،

فهذه ألمانية تحسد دول الاستعمار؛ إذ تراهن متمتعات بما تقدر بقوتها وعلمها أن

تتمتع بمثله وتتربص بهن الدوائر، وهذه دولة اليابان تمد عينيها باحثة عن المسالك

التي تسير فيها نفوذها السياسي وراء مصنوعاتها وسلعها التجارية، فما يدرينا لعله

يظهر في المسلمين زعماء تثق بهم هاتان الدولتان أو إحداهما، ويكون من وراء

هذه الثقة تغيير ألوان هذه المستعمرات بما هو أقرب إلى الأخوة الإنسانية وارتقاء

العمران، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

_________

ص: 432

الكاتب: محمود سالم

‌عليكم باللغة العربية

سيدة اللغات

مقالة لمحمود بك سالم رئيس جماعة الدعوة والإرشاد

(نشرها بمجلة الطلبة المصريين)

{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ

المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195)(قرآن مبين)

أيها الطلبة الأنجاب، أبناء مصر التي شرفها الله فذكرها مرارًا في كتابه

الحكيم، عليكم بتعلم (اللغة العربية) لغة أجدادنا الأشراف الصالحين، الذين تركوا

أحسن ذكر بين الأمم، وما زال تأثير أعمالهم المفيدة يعم الأقطار بفتوحات الدين

الحنيف المستمرة، وانتشار الشريعة المطهرة التي أينما حلت وقوي سلطانها،

أحيت طيب المبادئ وسامي الأفكار.

اللغة العربية أقدم اللغات الحية. هي لغة إبراهيم الخليل وزوجته السيدة هاجر

المصرية وابنهما إسماعيل صادق الوعد، الذين أكرمهم الله ببناء البيت العتيق؛

ليكون مثابة للناس وأمنًا.

لا شك في أن علماء الآثار يعرفون لغات أخرى أقدم من العربية، ولكن كلها

ماتت ودفن ذكرها في القراطيس، وأغلبها اندثر وانمحى من صحيفة الكون إلى يوم

البعث حين يخرج أهلها من الأجداث كأنهم جراد منتشر. وجدت حديثًا أبنية شاهقة

أسستها أمم راقية في أساليب العمران محفورة كتابات غريبة على جدرانها الآئلة إلى

السقوط وسط الصحاري أو في أحضان الجبال. ولما قرئت أخيرًا تلك الكتابات

العجيبة علم أنها تقرب من زمن عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام، وأنها

بلغة عربية متينة تكاد ألفاظها وتراكيبها وقواعدها تكون كلها من مستعملات لغتنا

الفصحى الحالية. وهذا ما أدهش العلماء، حتى إنهم وصفوا لغة القرآن المجيد

باللغة التي ليس لها طفولة وشيخوخة؛ لأنها من يوم عرفت وهي كالغادة الحسناء

في حلل الشباب والعافية، كأنها من الأبكار العرب الأتراب لأصحاب اليمين.

ومما ننقله في هذا الموضوع، ما ذكره في شأن لسان العرب العلامة أرنست

رينان ذاك المستشرق الطائر الصيت، الذي فاقت شهرته الأقران في كتاب (تاريخ

اللغات السامية) حيث قال:

من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية، وتصل إلى درجة الكمال

وسط الصحاري عند أمة من الرحل. تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها

ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها. وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم

علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغيير يذكر، حتى إنه

لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة. لا نكاد نعلم من شأنها

إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى. ولا نعلم شبيهًا لهذه اللغة التي ظهرت

للباحثين كاملة من غير تدريج، وبقيت حافظة لكيانها خالصة من كل شائبة.

تجد اللغة الفرنسية لا يفهم كلام كتابها وشعرائها الذين ماتوا قبل ثلاث مائة

سنة إلا من مهر في حل الطلاسم. وكذلك اللغة الإنكليزية وباقي لغات أوربة التي

تتباهى الآن وتتيه فخرًا وإعجابًا. وكل تلك اللغات الحديثة في تغيير مستمر وتبديل

مستديم. فبون بعيد بين لغة (موليير) مثلاً ولغة (زولا) عند الفرنسيس. وبون

أبعد بين لغة (ملنن) ولغة (روسكن) عند الإنجليز.

أما أمة العرب التي كرمها الله ورفع شأنها باصطفاء عبده الأكرم من بين

أشراف أشرافها؛ ليكون خاتم النبيين، فقد جعلت لغتها آلة تحمل شريعتها التي

ستدوم ما دامت الأفلاك؛ إذ لا نبي بعده ولا دين بعد هذا الدين. فاكتسبت تلك اللغة

المشرفة بين لهجات البشر مركزًا لا يباريها فيه لسان، من وقت أن صارت منطق

الملائكة أنفسهم في السماء، وامتزجت بالكتاب المجيد امتزاج الروح بالجسد.

وقد أوتيت الأمة العربية أرقى هبات البلاغة، وأجمل صفات الفصاحة؛

لتتهيأ لقبول تلك المعجزة الباقية المستمرة ما دامت الصحف والكتب. تلك المعجزة

التي ظهرت على يد نبي أمي لا يعرف قراءة ولا كتابة، وكانت لأئمة البيان

والكلام حدًّا يقف أمامه العاقل باحترام، ويبهت أمامه المعاند بخذلان.

(وصفت العرب من قديم الزمان بالبيان والبلاغة، وقد استقصى العلماء

شعراءهم، فوجدوهم يربون على شعراء سائر الأمم الأخرى مجتمعة؛ لأن الشعر

سليقة عند العرب، حتى لتجد رعاة الإبل يقصدون القصائد ارتجالاً) .

لسان العرب له الاحترام الأكبر عند فحول علماء الأمم الأجنبية، فإنهم عرفوا

مكانته فوصفوه بأعلى الصفات، وبذلك ارتفع قدر الأمة العربية نفسها عند من يقدر

الأشياء حق قدرها.

قال القسيس الإنجليزي س. م. تزويمر وهو من كبار البروتستانت في كتابه

المشهور (جزيرة العرب. مهد الإسلام) .

(يوجد لسانان لهما النصيب الأوفر في ميدان الاستعمار المادي ومجال

الدعوة إلى الله وهما: الإنجليزي والعربي، وهما الآن في مسابقة وعناد لا نهاية

لهما؛ لفتح القارة السوداء مستودع النفوذ والمال، يريد أن يلتهم كل منهما الآخر،

وهما المعضدان للقوتين المتنافستين في طلب السيادة على العالم البشري. أعني

النصرانية والإسلام) .

وقال إنجليزي آخر وهو القسيس الشهير جورج بوست:

(لغة العرب تفوق كل لغة في الانتشار إذا نظرنا إلى اتساع الأقطار التي لها

فيها سلطان. وهي تفوق أيضًا كل لغة إذا نظرنا على التأثير في مستقبل الأعمال

البشرية، ولا نستثني من كل تلك اللغات إلا لغتنا الإنجليزية) .

وقال أحد علماء الإنجليز المتمكنين من علوم العرب، يصف لسانهم نقلاً عن

كتاب (تزويمر) المذكور آنفًا:

(إنه خالص من شوائب الدخيل، غني بنفسه عن غيره. وفيه مقدرة عجيبة

على إيضاح المعاني وإظهار الأفكار، ومفرداته لا تحصى ولا تعد، وقواعده

النحوية في غاية المتانة، وبالاختصار به يسهل عرض الموضوعات الدينية

والفلسفية والعلمية، بطريقة لا تفوقها لغة إلا الإنجليزية وبعض لغات أخرى قليلة

رقاها الدين النصراني في أوربا الوسطى) .

ولنستشهد بكلمة لأحد الفلاسفة الظرفاء، أراد مدح المعارف الدنيوية عند أهل

أوربا والصنائع اليدوية في الشرق الأقصى، فقال:

(استوى الكمال على ثلاثة أشياء: مخ الإفرنج، وأيدي أهل الصين،

ولسان العرب) .

حقًّا ليس للغة العرب مثيل في كمالها إذا قارناها بأخواتها، فإن قلنا: إن

(العبرية) لغة مقدسة عند أهل التوراة والإنجيل، فالعربية بالقرآن أقدس. وبجانب

فرد واحد يقرأ التوراة باحترام وتجلة، نجد مائة مسلم يتلون الكتاب المجيد حق

تلاوته باحترام أعظم وإجلال أظهر. وإن قلنا: إن (اللاتيني) لسان العبادة في

الكنائس الكاثوليكية، فلسان الإسلام أعم في مساجد المشرقين والمغربين بين أهل

التوحيد جميعًا، والصلاة به متواصلة تواصل ساعات الزمن. ألا ترى المؤذن

يدعو المؤمنين إلى صلاة الفجر في جزر الفيلبين في أقصى الشرق باللسان العربي

المبين، فتتبع تكبيراته تكبيرات المئات والألوف من أهلها، يتردد صداها من مئذنة

إلى مئذنة، ومن جبل إلى جبل، ومن واد إلى واد. فإذا قضيت صلاته في تلك

الجزر، تنقل الأذان منها إلى غيرها، تنقل الفجر في مطالعه فسمعته في الصين

وسيبيريا، ثم في الهند وفارس، ثم في مكة المكرمة والمدينة المنورة، والقدس

الشريف والقسطنطينية المحمية، ثم في مصر المحروسة بحماية الله، ثم في

تونس الخضراء. ثم في الجزائر والسودان، ثم في المغرب الأقصى، ثم يصل

هذا الصوت الرخيم إلى الأوقيانوس حتى شواطئ الأمريكان في أقصى الغرب،

فهكذا كلما طلع الفجر وبزغ النور قام الناس للصلاة والفلاح؛ لعبادة الخلاق العظيم

الذي يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا.

مع دوران الشمس تسمع أمواج الأذان كأمواج البحر المتلاطم، تطرد الموجة

الشرقية أختها الغربية لتوقظ العباد الصالحين من نومهم العميق، فلا تفوت لحظة

من الزمن إلا وفيها لله عبادة وللقرآن ترتيل.

فإن قيل: إن اليونانية القديمة ثم اللاتينية ثم الإنكليزية أو الألمانية وكانت

وما زالت آلات ومبادلة الأفكار بين الإفرنج، فإن لساننا العربي كذلك آلة كاملة

لمبادلة الأفكار والعلوم بين المسلمين في آسيا وأفريقيا وجهات أخرى كثيرة.

وإن قيل: إن لغة الفرنسيس لغة أهل السياسة في أوربا، أجبنا أن لغة العرب

رابطة أقوى منها في مثل هذه الشؤون الاجتماعية؛ لأن الأمم الإسلامية جمعاء

مرتبط بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا بواسطتها، فالعالم المسكوبي مثلاً يعرف بها

شؤون أهل رأس الرجا الصالح ثم يرشد أهل وطنه. والعالم البوسنوي يعرف بها

أحوال القطر المصري وينبه أبناء جنسه. والعالم الجاوي يتناول بذلك اللسان العام

الجامع معلوماته عن أحوال القسطنطينية والقوقاز وفارس، وهكذا تتبادل الأفكار

المفيدة.

لغة الكتاب العزيز تنشر في أنحاء المسكونة العلوم الأدبية والأخلاقية

والاجتماعية والسياسية والشرعية وغيرها. فهي الرابطة القوية والعروة الوثقى

التي لا انفصام لها. بها تتقارب الأجناس المختلفة وتتشابه الأضداد بالتدريج في

الأحكام والأخلاق والمبادئ، وبها تتساوى الناس في معرفة الشريعة الغراء، لا

فرق في ذلك بين السود والبيض، والصفر والحمر. فهي أقوى رابطة (بروح

القرآن وفي ظله) وتفوق متانة كل روابط الجنسية والوطنية وغيرها.

اللغة العربية لها الفضل على أكثر اللغات الجديدة في مشارق الأرض

ومغاربها، فلو أخرجت من قواميس الأسبانيول والبرتغيز وسكان أمريكا الجنوبية

والوسطى مثلاً جميع المفردات العربية، والحلى التي اكتسبتها رطانتهم من العرب،

لما عرفت تلك الأمم أن تبدي فكرًا ساميًا، ولتاهت في مجاهل العي والبكم،

ولعجزت الآن أن تتباهى بشعرائها وأدبائها.

وأين تكون لغة الفرنسيس أنفسهم لو جردناها من كل ما يزينها من مختلفات

فصحاء الحجاز.

فما بالك باللغات الإسلامية مثل الفارسية والتركية والهندوستانية والجاوية

والملايو، وغيرها من ألسنة السودان والتتار والبربر وإخوانهم. حقًّا لو أخرجنا

المفردات العربية التي في تلك اللغات - كما يطلب ذلك بعض المتفرنجين من كتابها-

لبقيت كهيكل الميت. عظامًا مفككة لا حياة فيها.

لغة العرب هي لغة المستقبل؛ لأن النبي العربي هو خاتم النبيين، فشريعته

باقية إلى يوم القيامة (كما قدمنا) ، والقرآن الكريم حامل تلك الشريعة المطهرة هو

السبب في بقاء اللغة العربية حية بين الشعوب؛ لأنهم لا يفهمون دينهم على وجهه

الصحيح من هذا الكتاب الكريم الأبها. فلذلك تموت جميع اللغات الأخرى أيًّا كانت

وتبقى لغة العرب في بهائها وجمالها. وقد أجاد أحد علماء الإفرنج المشهورين

بعلومهم الواسعة، إذ كتب قصة خيالية، فرض فيها سياحًا في أجواف الأرض

تحت قعر البحر العميق وجعل هؤلاء السياح يخترقون طبقات القرى الأرضية حتى

وصلوا إلى وسطها أو ما يقرب من ذلك ، ولما أرادوا الرجوع إلى وطنهم فكروا في

ترك أثر يحفظ ذكرهم إلى أبد الآبدين، إذا وصلت علماء الأجيال المستقبلة إلى

محط رحالهم، فاتفقوا فيما بينهم أن ينقشوا على الصخور كتابة باللغة (العربية) ،

هذا ولما سئل جول فرن كاتب هذه القصة، عن سبب اختياره تلك اللغة العربية،

قال: إنها لغة المستقبل ولا شك في أن يموت غيرها وتبقى هي حية حتى يرفع

القرآن نفسه، فتأمل أيها القارئ اللبيب، واعلم أن طعن الطاعنين في لغة أجدادك

الأماجد ثرثرة لا يعتد بها.

{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 9) .

اعتاد بعض المتفلسفين من أمد بعيد الطعن في لساننا العربي الفصيح؛

لأغراض في النفس، ومنشأ هذه الأغراض: إما تعصب ديني طائش السهم، وإما

الجشع الاستعماري الذي يعمي ويصم، فقامت في زمننا حرب عوان بين علماء

الإفرنج المستشرقين؛ سببها اختلافهم في الحكم عن لغتنا باستطاعتها أو عدم

استطاعتها التعبير عن الأفكار الدقيقة وتدوين العلوم المنعوتة بالحديثة، ففريق

نصرها وفريق خذلها. فأما الناصرون لها فقد مر عليكم شيء من أقوال بعضهم،

وأما الخاذلون فمنهم من رماها بالفقر المدقع في مادة التعبير، والعي المعجز عن

تأدية الغرض من اللغات، وهذا ظاهر بهتانه. ومنهم من اعترف لها بالغنى،

ولكن زعم أن غناها مفرط زاد عن الحد، وشبه أهلها برجل كثر ماله كثرة لا حد

لها، فعجز عن حصره وتدبيره وفاته الانتفاع به.

هذا بعض ما رميت به لغتنا، فيجب علينا معشر المصريين أن ننهض

بالعلوم القوية وبالفنون الأدبية، حتى لا يجرؤ عاقل بعد الآن إلى الحكم على لساننا

المبين إلا بعد أخذ رأينا، ولا يصح أن تعطى الفتاوى الطويلة العريضة من الأجانب

في أمور العربية، ونحن أحياء نرزق من غير أن يكون لنا صوت مسموع.

لا شك أن أول واجب علينا أن نعتني بلغتنا الجميلة، وأن نتفانى في حبها

وخدمتها كما فعل من سبقنا في العصور الماضية من أهل الفضل والإحسان الذين

تغلبوا على الشهوات، وصرفوا الأموال، وسهروا الليالي، وجابوا البلاد في التماس

حرف من حروفها جهلوه، فاستفادوا وأفادوا. وأنتم أيها الطلبة الأفاضل، سيكون

لكم شأن عظيم في القريب العاجل، فاستعدوا لذلك قبل أن تفوت الفرص.

لغتنا سلاحنا الماضي البتار في جهاد هذه الحياة، ودرع النجاة. فبها نحيي

علوم أجدادنا الواسعة الدائرة، ونظهر كنوزهم الثمينة المدفونة في مكاتب الصين

والهند والسودان، وفي أوربا خصوصًا أسبانيا والقسطنطينية، ولو لم نستخرج إلا

الألفاظ الاصطلاحية العديدة التي نسيت ونحن في حاجة إليها لكفانا. فإن العلوم لا

تفهم ولا تنشر إلا بالأسماء، وما دمنا نستعمل ألفاظًا أجنبية، فإننا لا نقدر على

تعليم عامة الأمة إلا بكل صعوبة، وإن تعلمنا نحن بعد الجهد الجهيد من كتب

الأجانب.

أسماء الحيوان والنبات والجماد موجود أغلبها في العربية والاصطلاحات

الطبية الفلكية والفلسفية، موجودة كذلك في كتبنا، ومن الجهل أن ندعي أنها لا

توجد، وكذلك مصطلحات باقي العلوم والفنون المدفونة في بطون السطور التي

تركها لنا آباؤنا الأولون. فلا ضرورة تلجئنا لِليّ الألسنة بمعجرفات مستهجنة كما

يفعل بعض المتفيهقين الثرثارين؛ في التعبير عن مصطلحات موجودة نظائرها في

كتبنا.

ولا مانع من تعريب الكلمات الأعجمية الدالة على المسميات المستحدثة أو

استعمالها على عجميتها عند الضرورة، كما أدخلت اصطلاحات عربية كثيرة في

قواميس الشعوب الإفرنجية وغيرها.

ومن يدعي من أهل العجمة أن سيدة اللغات فقيرة، فليفتح عينيه، فإنه يجد

في نفس رطانته ألفاظًا فنية متعددة أصلها عربي، وليرجع إلى الحق إن كان من

أهله {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج:

46)

***

{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا

بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً} (الفرقان: 53) لمصر مقام خطير بين الشعوب

الإسلامية؛ لمكانها من ملتقى الأبحر، ولترقيها العلمي العظيم من يوم أن أيقظ محمد

علي الكبير أذهان أهلها، وأنشأ بينهم المطابع التي كانت ينبوعًا صافيًا رويت

بفيضه جميع الأقطار. وأزهرها المنيف له الفضل على أغلب طلاب العلوم

الشرعية المنتشرين في أنحاء المسكونة فهذه (الجامعة الإسلامية) كالشمس الباهرة،

يستضيء بها عباد الله المخلصون.

وتأثير مصر يزداد يومًا فيومًا في القاطنين بالأراضي المطهرة، سواء أهل

مكة والمدينة أو البقاع التي بارك الله حولها، ومنها ينتقل ذكر مصر المحبوبة إلى

باقي أوطان المسلمين في المشارق والمغارب.

وظيفة مصر الأدبية ستزداد أهمية في المستقبل؛ لأنها وسط عالمين إسلاميين

كبيرين: هما العالم الأسيوي والعالم الأفريقي اللذان يريدان أن يتعانقا باشتياق عظيم

ويتحابا.

ولا يخفى أن مصرنا هي القنطرة التي تصل بين الحبيب وحبيبه، وأن لها

مزايا كبيرة في هذا الشأن عند أهل الذكر.

ومن جهة أخرى، فإن قطرنا المبارك سيتخذ كوصلة تربط العالم الإفرنجي ذا

المعارف المنعشة والفنون الجميلة بأمم عديدة، جمدت على ما وجدت عليها آباءها

من أسباب الفوضى والانحلال.

وها هي (الجامعة المصرية) أول خطوة في ذلك الطريق السلطاني الجديد.

فماذا نعمل في وظيفتنا هذه الجديدة، هل نوصل تلك المعارف والفنون

باستقلال رأي مكيفين لها حسب مبادئنا وأذواقنا الإسلامية، حتى نكون باب نعمة

على إخواننا من عرب وعجم أو نكون آلة صماء تعمل حسبما تحرك، ولا تعمل إلا

شرًّا، فنهيئهم لأن يصيروا فريسة سائغة وغنيمة باردة، ستؤدي وظيفتنا حسبما

تكون تربيتنا، فإن حسنت التربية حسنت النتيجة والعكس بالعكس، ولا تكون

التربية جيدة إلا إذا تأسست على مبادئ محمدية، ولا تكون المبادئ محمدية إلا إن

استخرجناها من الكتاب العزيز، وهذا لا يتأتى إلا إذا أحطنا باللغة العربية وعرفنا

أسرارها، وفقنا كل مخلوق في إظهار محاسنها وعجائبها لا أن يسبقنا علماء

الأجانب، مثل: أساتذة (كمبريدج) و (لايدن) و (برلين) وغيرها، ويتركونا

وراءهم تائهين في مجاهل الحواشي الثقيلة السقيمة، لاهين بما فيها من سفسطة

دقيقة عقيمة.

من يخدم اللغة العربية، فإنه يخدم الإسلام، وخدمة الإسلام تؤدي إلى ترقية

بني الإنسان كلهم أجمعين. فهل يحجم الطلبة المصريون عن جهاد علمي يكون لهم

بعده الفخر الأبدي، ولمصرهم العزيزة ولجماعة الموحدين الحظ الأوفر؟

برقي اللغة العربية يسود القرآن، وتنتشر علومه، وتزيد الشعوب العربية

ارتباطًا فتقوى وتترعرع، وفي آن واحد يقوى ويترعرع المجموع الإسلامي كله.

فلينظر الطلبة المصريون إلى علو مكانتهم في المستقبل وسط الأمم المختلفة.

تلك المكانة الخطيرة التي تشبه أن تكون (رقابة أدبية عالية) شرطها الأول خدمة

لسان النبي القرشي عليه أفضل الصلاة والسلام؛ لأجل فهم كتاب الله المجيد على

وجه يوصل إلى سعادة العالم بالعمل به. وليتدبروا كثيرًا معنى الآية الحكيمة.

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ

شَهِيداً} (البقرة: 143) .

...

...

...

القاهرة في 5 جمادى الآخرة

...

...

...

...

... محمود سالم

_________

ص: 441

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقرير اللجنة التحضيرية [*]

للمؤتمر المصري

(5 - جعل الخزينة العمومية مصدرًا للإنفاق على جميع المرافق المصرية)

هذا هو الحاصل بالفعل في جميع مصالح الحكومة، إن جميع المصريين

من مسلمين وأقباط تنفق على مرافقهم العامة على السواء من الخزينة المصرية.

ولا يجد المطلع على ميزانية الحكومة مصرفًا اختص به عنصر. فعسى أن يكون

المقصود بهذا الطلب هو المحاكم الشرعية التي ورد ذكرها في مناقشة الجمعية

العمومية للأقباط، ولكن هذه المحاكم مفتوحة الأبواب للمتقاضين من المسلمين ومن

الأقباط؛ ولتسجيل العقود وتقسيم المواريث

إلخ، لا فرق في ذلك بين المسلم

والقبطي، فهي بهذه الصفة من المرافق العامة.

على أنه لو كانت المحاكم الشرعية خاصة بالمسلمين دون غيرهم، فإنها لا

تكلف الخزينة العمومية نفقات أصلاً، بل إذا عجزت إيراداتها عن مصروفاتها سنة

زادت إيراداتها عن مصروفاتها سنة أخرى. ومتوسط الفرق بين الإيرادات

والمصروفات لمصلحة الخزينة العمومية في الخمس سنين الأخيرة هو مبلغ 4171

جنيهًا سنويًّا، يصرف هذا المبلغ في المرافق العامة بالضرورة بين المسلمين وبين

الأقباط، فلا معنى للشكوى من المحاكم الشرعية أو التعريض بذكرها في المؤتمر

القبطي، بوصف أنها يصرف عليها من الخزينة العمومية، وبوصف أنها خاصة

بالمسلمين.

وإنه ليحسن في هذا المقام أن نذكر مثلاً لما تصرفه الخزينة العمومية على

المرافق القبطية خاصة، لا لنحاسب على ذلك، ولكن ليرى الأقباط بالحس؛ أن

المناقشة في أمر المحاكم الشرعية لم يكن لها محل في جمعيتهم العمومية التي كثر

التصريح فيها؛ بأن مقاصدها محو الفروق الدينية والأخذ بأسباب الإخاء المصري.

إن مساجد المسلمين ومعابدهم - أثرية كانت أو غير أثرية - يصرف على

عمارتها وترميمها من خزينة ديوان الأوقاف الإسلامية خاصة. وأما كنائس الأقباط

ومعابدهم فإن الأثري منها يصرف على عمارته وترميمه من خزائن الحكومة بمقدار

الثلثين، ولا تتكلف الأوقاف القبطية إلا مقدار الثلث فقط، وحسب ذلك أن يكون

ميزة للأقباط على المسلمين.

وفوق ذلك، فإن أوقاف المسلمين تنفق على تعمير تلك الكنائس والأديرة؛

لأن العمال المكلفين بالقيام بهذه الأعمال إنما ينقذون رواتبهم من ديوان الأوقاف

الإسلامية.

وإننا لنشعر بأن إيراد هذه الأمثلة الجزئية، ليس متفقًا مع ما نحب تقريره من

التسامح ومساعدة إقامة الشعائر الدينية أيًّا كانت والاحتفاظ بالآثار، إلا أن الضرورة

ملجئة إلى التمثيل هذه الجزئيات؛ دفعًا لما عساه أن يتوهم من أن الخزينة المصرية

تحابي المرافق الإسلامية دون غيرها.

ولذلك ترى اللجنة أن هذا الطلب لا محل له.

(6 - النتيجة)

نقول: إن المصريين والمستوطنين في مصر من الجنسيات المختلفة، وعلى

العموم كل من يهتمون بالأحوال المصرية ويرجون التقدم لهذه الأمة، بل كثير من

الأقباط الذين تعلموا من التجارب، يرون أن المؤتمر القبطي لم يكن له محل من

الوجود، وأن مطالبهم التي أخذت شكل الإنذارات خالية عن الأسباب التي تبررها

في أعين الذين يعلقون أهمية في تأليف الأمم الناهضة؛ على تضييق دوائر الفروق

بين الأفراد، وتوسيع دائرة المشابهات بينهم، ويعتقدون حقيقة أن الدين لله وأن

مصر للمصريين.

أيها السادة:

هبوا معنا أن مواطنينا أخطأوا في تقدير الحالة الحاضرة، وما يجب أن

تضحيه الأفراد والمجاميع، أيًّا كان لونها في سبيل تعضيد الوحدة القوية، فإن

الطريقة الوحيدة لتصحيح هذا الخطأ هي إقناعهم به وإقناع الأمة بوجوب التجاوز

عنه.

إن الأمة يجب أن تبني علاقة أفرادها على التسامح من جهة وعلى التضامن

جهة أخرى، ولا يتوفر ذلك إلا إذا عاملت أبناءها جميعًا بما تقتضيه المحبة

والرحمة، وما يؤكد التآزر على تحصيل المنافع المشتركة. فلنطرح ظهريًّا كل ما

جاء في مؤتمر الأقباط من دواعي التفريق في الوحدة القومية، ولنوسع لإخواننا

صدورنا، ونستأصل من نفوس المصريين ذلك الضيق الذي لحقها من جراء ذلك

المؤتمر.

وإنه من الخطأ أن تتشبث العقول بتلك الفكرة التي أنتجها مؤتمر الأقباط،

وهي فكرة محاسبتهم لأخذ ما في أيديهم من المصالح العامة؛ لأن في ذلك مجاراة

لهم على التفريق، إنما ينبغي إصلاح ما طرأ من الفساد على الطرق المتبعة في

الانتفاع بالمرافق العامة. فإن المسلم والقبطي كلاهما ابن الأمة المصرية، وكلاهما

له الحق الكامل في خدمتها والاعتزاز بتلك الخدمة. وإنها لو رجعت إلى نفسها

لشعرت بأنها تحن إلى المسلم والقبطي على السواء.

ليست مصر قليلة الواجبات الوطنية، ولا هي يعوزها ميدان العمل لخيرها،

حتى تشغلها عناصرها بما لا فائدة فيه من التنازع على المراكز أو التخاصم على

شيء من الحقوق التافهة. بل على الضد من ذلك، إن لهذه الأمة الناهضة شؤونا

اجتماعية واقتصادية، لا تكفي في تحقيقها مجهوداتنا الحالية ولا أضعاف أضعافها.

فإن الرقي لا يجيء بالصدفة، ولكنه نتيجة متناسبة مع عمل العاملين.

حقيقة كان يكون من الضرر على جامعة الأمة أن تبين ظلامات الأقباط،

وتغمض الأكثرية جفونها على تلك الظلامات، مع القدرة على التذرع إلى كشفها أو

كشفها بالفعل. يكون من التهاون في حقوق الإنسانية، بل التهاون في حق الوطن،

بل التهاون في حق الذات؛ أن تترك الأكثرية أقلية مهما كان وصفها مهضومة في

حق من حقوقها؛ لأن مثل هذا التهاون أكبر العوامل على العبث بالتضامن الذي هو

أساس الوجود القومي.

أما وقد ظهر بالبرهان أن أفراد الأقباط متمتعون من الحقوق بأكثر مما يتمتع

به بقية الأفراد الآخرين من المصريين، فالواجب على الأقباط أن يرجعوا عن مزج

المعتقدات الدينية بالمصالح القومية، وأن لا يجعلوا من جامعتهم الدينية جامعة

سياسية خاصة، والواجب على المسلمين أن يعتبروا المطالب التي تشف عن هذا

الغرض كأنها لم تكن.

ويسر اللجنة أن تأمل بحق أنه إذا انعقد مثل هذا المؤتمر، يكون الأقباط إلى

جانب المسلمين عاملين فيه؛ للبحث فيما يرقي الأمة المصرية جميعها، حتى يحق

القول بأن الدين لله ومصر للمصريين.

(2)

(حالنا الاجتماعية)

حالنا من الجهة الاجتماعية، يصفها جميعنا بأنها أقل الحالات ملائمة لتمدننا

الحديث، فليس من الضروري الإطالة في شرحها، وضرب الأمثلة على مقدار

الضعف السائد من معظم الوجوه في تأليف جمعيتنا المدنية. كما أنه ليس من

الحكمة أن تثقل كواهلنا، ونحملها فوق طاقتها بالاقتراحات والمشروعات

الاجتماعية. فإن الخير كل الخير هو في أن نترك الآن ما لا نستطيع إلى ما

نستطيع، حتى نتفق في سيرنا مع قواعد التدريج الطبيعي، وقل أن يفشل الذي

يقلد الطبيعة في سيرها، ويقيس قواه بمقياس مضبوط قبل استخدامها في العمل،

وأنه لا ضرر على رقينا المنشود من هذا النمط؛ لأن المشروع الواحد الذي يتم هو

نفسه، يكون أكبر مساعد لإتمام غيره، فحسبنا من المقاصد الاجتماعية الآن أن

نهتم بالمدرسة.

إننا إذا أصلحنا المدرسة أصلحنا العائلة والأمة كلها، فالمدرسة هي الأساس

الذي يجب أن نبني عليه الآن، والمشروع الاجتماعي الذي يجب أن نلفت إليه

النظر قبل كل مشروع اجتماعي آخر.

إن نسبة القارئين والكاتبين في المصريين عمومًا قليلة أمام مطالبنا الكبيرة من

التحول الاجتماعي، بل نسبة تجعل بيننا وبين أن نعيش في زمننا الحاضر بونًا

بعيدًا.

أيها السادة:

نحن نعيش في هذا الزمن تحت سلطان العلم الذي وضع يده على كل شيء

في الوجود، وضع يده على الزراعة والصناعة والتجارة وهي مصادر رزقنا،

وضع يده على الأخلاق والروابط الاجتماعية وهي قوام جمعيتنا، وضع يده على

السياسة وتدبير الممالك وهي مناط سعادتنا وشقائنا، وضع يده على حركات نفوسنا

ووضع لكل شيء ضوابط لا مجاوزة لها. فإن لم يحسن التفاهم بيننا وبين هذا

السلطان القادر، يستحيل علينا أن نعيش في زمانه، ولا واسطة لهذا التفاهم إلا

المدرسة.

فليس تعليم الأمة زخرفًا تزدهي به، ولا زينة تباري بها زميلاتها، ولكن

تعليم الأمة ركن لحياتها، وشرك لازم لوقايتها من الفناء.

قد يجد الأميون الطيبون من المتعلمين ما لا يرضيهم في السلوك والأخلاق

الاجتماعية، فينسبون ذلك للعلم وبضعف إيمانهم بضرورة التعليم، إلا أنه لا ذنب

للعلم ولا للتعليم، ولكن الذنب على الجهل وطرائق التعليم، فكلما رأيتم اعوجاجًا

في المتعلمين، فأصلحوا المدرسة تصلح أبناؤكم وأحوالكم.

من ضعف الوطنية ومن الضرر بالنظام؛ أن يفرغ كل جهده في كسب

الحقوق، ولا يفكر في أداء الواجبات، كل يريد من الأمة أو من الحكومة أن تعطيه

حقه، ولا يريد أن يقوم نحو الجمعية بواجبه، ومن قصر النظر أن يظن المرء

بسهولة الحصول على حقه، إذا لم يكن الأفراد المتضامنون معه يؤدون واجباتهم،

فإذا استمرت هذه الشهوة الفاسدة شهوة التمتع بالحقوق دون النظر إلى الواجبات،

فكل إصلاح اجتماعي مستحيل، وعلى الأخص نشر التعليم وإصلاح المدرسة.

نحن نطلب إلى الحكومة أن تعلم، نطلب إليها ذلك؛ لأنها تصدت لأخذ

الأموال من الأمة للتعليم؛ ولأنها تسير في التعليم. ولكننا على كل حال نضيع

الوقت في الطلب، نظلمها إذا طلبنا منها أن تصلح المدرسة على أنماط التربية التي

تخرج الرجال. ذلك لأن الحكومة مهما كان نوعها وهيئة تأليفها، ليست

اختصاصية في التربية والتعليم، بل ليست التربية والتعليم في الحقيقة من شأنها؛

لأن التعليم يجب أن يكون حرًّا بعيدًا عن كل المؤثرات؛ ولأن المدرسة يجب أن

تكون أمة مصغرة مستقلة، يعلم فيها كل ما هو جار في الخارج أي: في الأمة

الكبيرة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالجهود الذاتية للأفراد والمجاميع الحرة غير الداخلة

في نظام الحكومة، لا سبيل إلى ذلك إلا بأن يريد كل مفكر وكل مثر أن يؤدي

واجباته العامة تلقاء كسبه لحقوقه، ومن الأسف أن علية المفكرين يقصرون عملهم

العام على السياسة، وعلية المثرين لا يقومون إلا قليلاً بواجبات الغني نحو قومه أو

نحو المدرسة.

تقول اللجنة ذلك، ويسرها أن نعترف أن هذه السنين الخيرة كانت ميدانًا

لتناظر المفكرين في التعليم، ومباراة الأغنياء في بر التعليم، فهي بذلك قوية الأمل

في أن يزيد إدراك العلماء والأغنياء لواجبهم نحو التعليم. ومتى أضيف إلى ذلك

الأمل في مجالس المديريات أمكن القول بأننا نبتدئ في سلوك خطة نحو التربية

والتعليم لا تلبث أن تجني الأمة ثمارها.

غير أن لنشر التعليم أصولاً مجربة. وأن لإصلاحه والاستفادة منه في تخريج

الرجال أنماطًا علمية، ولا يسع هذا المؤتمر أن يبحث في هذه التفاصيل. فتقتصر

اللجنة على أن تقترح على المؤتمر أن يطلب أو يشجع طلب عقد مؤتمر للتعليم

والتربية في الخريف القادم، يكون الغرض منه درس الحالة التعليمية في مصر

ووصف العلاج النافع لها، وإرشاد المجاميع التعليمية كمجالس المديريات وغيرها

من الجمعيات الأخرى إلى أقرب الطرق وآكدها في تعليم الأمة، وبماذا تبتدئ في

مشروعاتها التعليمية، وكيف يتم إصلاح المدرسة على مقتضيات الزمن

الحاضر.

(3)

(الحالة الاقتصادية)

إذا كانت حالتنا الاجتماعية داعية إلى الإصلاح، فإن حالتنا الاقتصادية إلى

الإصلاح أدعى لأنها عدم.

نعم أيها السادة بوصف كوننا مجموعًا ليس لنا مع الأسف وجود اقتصادي

إيجابي، بل وجودنا سلبي محض؛ لأننا نتأثر بالحركات الاقتصادية في مصر من

غير أن يكون لنا فيها أدنى تأثير.

نشتغل في تجارة القطن، وما وصفنا الحقيقي فيها إلا أننا عمال في البنوك

الأجنبية، تابعون في تصرفنا لا للحركة المالية العامة كما هو شأن كل تجاري

يشتغل لنفسه، ولكننا تابعون للذين يشتغلون لأنفسهم من الأجانب، ولذلك إذا سقط

منا تاجر أو أفلس - وذلك مع الأسف ليس بالقليل - تأثرت بإفلاسه التجارة

المصرية تأثرًا حقيقيًّا؛ خلافًا لما لو كان لنا في الحركة مركز مصري خاص، إذ

في هذه الحالة لا يكون لخسارة التجار تأثير مضر بثروة البلاد؛ لأن هذا التاجر يخسر

ما يكسبه الآخر، فما أجدر خسارته أو إفلاسه بأن تسمى تحولاً للمال من يد

مصرية إلى يد مصرية، والمال على كل حال باق في مصر.

نشتغل في الحركة المالية الصرفة أي: في أشغال البنوك، فما نصيبنا من

هذا الشغل إلا أننا مقترضون دائمًا لا مقرضون، ومدينون لا دائنون.

نقترض من البنوك لتوسيع ثروتنا، ونغلو من الأسف في حب ذلك التوسيع،

فنأخذ المال بالفوائد التي لا يسمع بها في العالم المتمدن، ونقسطها على أقساط

ندفعها من حاصلات الأرض، وحاصلات الأرض متغيرة بتغير السنين بين

الإخصاب والإجداب، فكثيرًا ما يقع أن ما تنتجه الأرض المرهونة للمزارع المدين

لا يفي إلا بقسط البنك. فيكون معنى ذلك أن المزارع يشتغل لغيره، وأن المصري

يشتغل لتنمية ثروة غير بلاده، فإذا وقفت حركة أعماله واستغرقت ديونه أملاكه

- وذلك أيضًا أصبح مع الأسف كثير الوقوع - تأثرت الحالة الاقتصادية المصرية

بمقدار أهمية أملاك ذلك المزارع المصري في تكوينها؛ لأن انتقال أمواله من يده،

إنما يكون دائمًا ليد غير مصرية، خلافًا لما إذا كان منا الدائن ومنا المدين، ومنا

المرتهن ومنا الراهن، فإن الحالة الاقتصادية للأمة لا تتأثر بخسارة أحدهما أو

انتقال ماله إلى يد الآخر؛ لأن المال يبقى مصريًّا على كل حال.

نشتغل في الصناعة شغلاً بطيئًا قليل الأهمية؛ لأنه ليس لنا رؤوس أموال

تشتغل شغلاً مفيدًا في السوق المالية؛ لذلك لا تخطو الصناعة في بلدنا خطوة إلى

الأمام، حقيقة أنها لا تشجع ولا تحمى من جانب الحكومة، ولكن ذلك ليس هو

وحده السبب الأكبر في عدم تقدمها، بل أكبر الأسباب في ذلك هو قلة وجود رؤوس

أموال مصرية في سوق المال تستعمل في المشروعات العامة.

نحن في بلدنا تتأثر حالنا المالية بكل أزمة مالية تقع في أي بلد من البلاد.

ولا نستطيع أن ندفع عنا أية أزمة خارجية مهما كانت؛ لأن سوقنا ليست لنا، بل

ليس لنا فيها أدنى نصيب.

نحن في بلدنا تتأثر حالنا الاقتصادية بأية إشاعة من الإشاعات مهما كان مبلغها من

الفساد. فإنه يكفي لقبض البنوك يدها عنا والقسوة في مقاضاتنا أن يشيع في الناس

خبر أية حركة سياسية، بل يكفي أن يخلق كاتب عنا رواية تدل على التعصب

الديني أو التحرش بالأجنبي حتى توصد البنوك أبوابها.

فنحن على هذه الحالة لا مأمن لنا من الوجهة المالية، لا من داخل البلاد ولا

من خارجها. وقد أخذنا درسًا مفيدًا من الأزمة المالية التي وقعت في سنة 1907.

إذن أين نحن من المستوى الاقتصادي الذي يتفق مع رغباتنا الأكيدة في التقدم

إلى الأمام.

مع الأسف أن الذي يجيب على هذا السؤال، يرى نفسه مكرهًا على

الاعتراف بأننا لسنا من الحال الاقتصادية على شيء أصلاً. وليست حركتنا

الاقتصادية إلا سلبية صرفة.

لا يفهم من ذلك أننا ننكر جميل رؤوس الأموال الأوربية التي دخلت مصر،

فحسنت كثيرًا من أحوال الأفراد، وصقعت الأملاك العقارية، ولكن الذي يفهم منه

أنه يجب أن يكون للمصري وجود اقتصادي عام أي: حركة فاعلة في السوق،

وليس له من ذلك شيء، يجب أن يكون لمصر وجود فاعل، ثم يجب أن يكون

لأموالها بوصف أنها أمة مزاحمة مالية مع بقية رؤوس الأموال ذات الجنسيات

المختلفة التي تتزاحم في السوق المصرية.

أيها السادة، لا يغلو الذي يقول: إن كل جهد لتقدمنا ضياع وقت، وكل رقي

نرجوه أمنية لا تتحقق، مادامت حالنا الاقتصادية على ما هي عليه.

إن مدنيتنا نتيجة مقدمتها الكفاءة الاجتماعية والاقتصادية، فما لم نحصل على

المقدمات، يستحيل علينا أن نبلغ النتيجة.

إنه يجب علينا أن نأخذ من فورنا بأسباب إصلاح حالنا الاقتصادية. ومن

المشكوك في نفعه أن نطرق مشروعات اقتصادية شتى، عساها تكون فوق طاقتنا

المالية، فنبقى في النقطة التي ابتدأنا منها. بل النافع هو أن نقصر جهدنا على

مشروعات يمكن تحقيقها، وتكون من أهم القواعد التي يبنى عليها صلاحنا

الاقتصادي.

لنبدأ من هذا اليوم؛ لأننا قد تأخرنا كثيرًا. وكل تأجيل في الابتداء في العمل

تأجيل للنتيجة. وليس تأجيل البدء في العمل قاصرًا على أن يفوتنا زمن بغير عمل،

ولكن مادامت التجربة دلت على أن الأعمال إنما تسير على قاعدة الربح المركب،

فإن تأجيل العمل لابد أن يسير على قاعدة الخسارة المركبة. ولو استطعنا أن

نقف في مركزنا الحالي لهان الأمر، ولكن لا سبيل إلى الوقوف: فإما التقدم وهو

البدء في العمل من اليوم، وإما التأجيل وهو التقهقر إلى الوراء ونتيجته الخراب.

وماذا نعمل من اليوم أيها السادة؟

نشرع في إنشاء بنك مصري؛

أيها السادة، لسنا والحمد لله فقراء في المال، فإن للمصريين في البنوك نقودًا

ودائع لا غلة لها، تفي من اليوم بأن تكون رأس مال لبنك مصري محترم. ولسنا

والحمد لله فقراء في الرجال الماليين، فإن كثيرًا من رجالنا قد جمعوا بأنفسهم

ثروات عظيمة من غير أن يكون عند أحدهم رأس مال إلا عمله أو قليل من الحطام

الموروث. ولسنا ضعفاء الثقة بعضنا في بعض، قد أثبتنا في السنين الأخيرة أن

لدينا مجاميع تقوم بالأعمال العامة، ومثل هذه المجاميع يستحيل أن يبنى لها أساس

إلا على الثقة. إن المال والرجال والثقة هي الأركان الثلاثة اللازمة لمشروع مالي

عظيم مثل هذا المشروع. فما الذي يعوقنا عن السير فيه؟ .

لا يقال: إن من العقبات الشديدة خوف مزاحمة البنوك الأجنبية؛ لأننا وإن

اعترفنا بأن البنك المصري سيزاحمها، ولكنه لا يعطل عمل واحد منها، ولا يؤثر

تأثيرًا كبيرًا على مقادير كسبه؛ لأن مصر لا تزال كالبلد البكر في الاستغلال، وأن

البنوك الموجودة فيها إلى الآن على كثرتها لا تفي بحاجاتها. فإن الأراضي

المصرية القابلة للزارعة لم تزرع كلها بعد. والفدان المزروع لم يأت إلى اليوم

بكل ما يستطيع أن يأتيه من الغلة، والأرض غير القابلة للزراعة لم يقنط أحد من

احتوائها على معادن مختلفة؛ كالرصاص والبترول ونحوهما. وبالجملة فالبلاد لا

تزال بكرًا من حيث الاستغلال وتحتاج في استغلالها إلى أموال طائلة، لا تفي بها

الأموال الأجنبية الموجودة في مصر الآن.

إنما تكون فائدة البنك المصري أن لا يتأثر بالإشاعات المكذوبة، فلا يقفل بابه

عن الناس، فتحذو حذوه البنوك الأخرى؛ لأنه بنك البلد وأعلم بما يجري فيه،

فائدته تشجيع المشروعات الاقتصادية المختلفة التي تعود عليه وعلى البلاد بالربح

العظيم، فائدته الرحمة بالفلاحين عند الحاجة يعطيهم بفوائد معتدلة ومناسبة،

وهو مع ذلك يربح ولا يخسر، فائدته أن يجعل لمصر صوتًا في سوقها المالية،

ويدافع عن مصالحها كما تدافع البنوك عن مصالح بلادها، فائدته هو ومشروع

النقابات الزراعية، ومشروع مستودعات التأمين، أن تتحقق في الوجود الكفاءة

المالية التي هي الأساس المتين للرقي المطلوب.

على ذلك تقترح اللجنة على المؤتمر أن يقرر وجوب إنشاء بنك مصري

برؤوس أموال مصرية.

_________

(*) تتمة لما نشر في الجزء السابق ص 353.

ص: 449

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المؤتمر المصري [*]

(ب) التربية والتعليم:

1 -

ضرورة عقد مؤتمر للتربية والتعليم في الخريف القادم؛ للبحث في

أنماط التعليم والتربية واختيار الأصلح منها للقطر المصري.

اقترحته لجنة المؤتمر وحضرتا عبد السلام أفندي ذهني المحامي ببني سويف،

ومحمد أفندي كامل صادق المصري، وأحمد بك لطفي المحامي الذي يقترح

أيضًا تخصيص مبلغ من مال هذا المؤتمر؛ للإنفاق على مؤتمر التربية والتعليم

المذكور، فهل أنتم موافقون على هذا الاقتراح مع إحالته على اللجنة التنفيذية للعمل

على تنفيذه؟

2 -

السعي لدى الحكومة لفصل المكاتب الأهلية ومدارس الأوقاف عن

نظارة المعارف، وجعلها إدارة قائمة بذاتها، تراعى فيها شروط الواقفين.

(اقترحه سعادة الشيخ علي يوسف) .

وجاء أيضًا مثل هذا الاقتراح من حضرة محمود بك أنيس وحامد محمد

الإسكندراني ومصطفى حسن من بني سويف.

3 -

إلفات نظر الحكومة إلى جعل تعليم الدين في مدارسها قاصرًا على

دينها الرسمي؛ منعًا للتنافر الذي أحدثته الطريقة الجديدة التي اتبعتها الحكومة من

سنة 908؛ واقتداءً بما تجري عليه الحكومات المتمدنة التي يعلم الدين في

مدارسها.

(اقترحه سعادة الشيخ علي يوسف أيضًا) .

فهل يوافق المؤتمرين على هذين الاقتراحين؟

4 -

إنشاء إدارة معارف أهلية، تضم شتات المدارس الأهلية، وتقوم

بالتعليم الوافي بحاجات القطر.

اقترحه محمد بك أبو شادي المحامي بمصر، وطلب السعي لدى الحكومة في

زيادة ميزانية المعارف العمومية. واقترحه أيضًا لفيف من طلبة المدارس الأهلية

والأجنبية بمصر عددهم 30 طالبًا. باحثة البادية. عمر أفندي صنوه بالإسكندرية.

أحمد بك رمزي المحامي الذي يطلب السعي لدى الحكومة لزيادة ميزانية التعليم.

أحمد محمد مليجي رئيس لجنة المؤتمر بمركز الصف.

5 -

السعي في جعل التعليم الابتدائي إجباريًّا مجانًا للذكور والإناث.

اقترحه حضرات أحمد بك رمزي المحامي. عبد السلام أفندي ذهني المحامي،

السيدة باحثة البادية وهي تطلبه على الخصوص لمدارس البنات. مرسي عبد

الرحمن البارودي بجرجا.

6 -

وجوب نشر التعليم العلمي من صناعي وزراعي في أنحاء القطر،

والاهتمام بالعلوم التي تفيد الصناعة والزراعة؛ كالكيمياء الصناعية والاقتصاد

الزراعي، والهندسة الميكانيكية والكهربائية وغير ذلك.

اقترحه حضرة علي بك الشمسي في خطابه الذي تلاه على المؤتمر.

وقد اقترح الاهتمام بالتعليم الصناعي والزراعي كل من حضرات حسن بك

يونس الذي يستلفت مجالس المديريات لذلك. سليمان أفندي فهمي سليمان المحامي

الذي يرى إنشاء مدارس زراعية في عواصم المديريات وكلية زراعية. علي بك

ثروت رئيس نقابة عمال الصنائع اليدوية، ويطلب تشجيع التعليم الصناعي. حسن

المسيري ببهتيم ويطلب مدرسة زراعية في كل مركز. حسين علي عيد بالفشن،

وهو يطلب الاهتمام بالمدارس الصناعية. سيدة باحثة بالبادية. عبد المعطي أفندي

أمين المغربي. مرسي عبد الرحمن البارودي بجرجا. علي عبد السلام بالسويس.

وهؤلاء الثلاثة الأخيرون طلباتهم هي المدارس الصناعية.

7 -

إنشاء مدارس للمساحة والتجارة ومسك الدفاتر؛ لتخريج أناس أكفاء

يشتغلون في البنوك وفي عمل الدوائر والصرافة.

اقترحه حضرات أحمد بك سامي مفتش ورق التمغة بالمالية سابقًا. نقابة

ناهية الزراعية. سليمان أفندي فهمي سليمان المحامي، وهو يطلب إنشاء مدرسة

تجارية عالية. حسين بك هلال عن لجنة ميت غمر وهو يطلب السعي لدى

الحكومة ولدى مجالس المديريات في الاهتمام بتوسيع التعليم التجاري وإنشاء

مدارس له. لجنة المؤتمر الفرعية بالقناطر الخيرية التي تقترح أيضًا إدخال مسك

الدفتر للسنتين الثالثة والرابعة من مدارس الحكومة الابتدائية. لجنة المؤتمر

الفرعية بمديرية المنوفية، وتطلب أن يسعى المؤتمر لدى ديوان الأوقاف لهذا

الغرض. أحمد بك رمزي المحامي.

8 -

إنشاء مدارس متجولة؛ لتعليم المزارعين والمزارعات الوسائط الحديثة؛

لتحسين الحالة القروية صحيًّا واقتصاديًّا، وهي المسماة بالمدارس الفنية الزراعية

المتجولة التي انتشرت في بلجيكا وكندا والولايات المتحدة بأمريكا وأفادت كثيرًا.

اقترحه حضرات عبد الحميد سعيد والدكتور محجوب ثابت ولفيف من

المصريين طلبة العلم بفرنسا وإنجلترا.

9 -

وضع كتب أخلاقية سهلة يفهمها العامة، وعمل لجنة لمراقبة الأخلاق

في معاهد التربية والتعليم الأهلية.

اقترحه سيد بك محمد. ولجنة المراقبة على الأخلاق اقترحها أيضًا عبد

السلام أفندي ذهني المحامي.

10 -

إيجاد مدارس ليلية لتعليم الشعب بالقرى.

اقترحه سعد الدين مصطفى رحاب من العسيرات.

11 -

الإكثار من معاهد الجنباز والرياضة البدنية.

اقترحه عبد السلام أفندي ذهني المحامي.

اقترحه سعادة حسن باشا مدكور.

12 -

توحيد برامج التربية والتعليم اقترحه حضرة أحمد بك لطفي المحامي،

فهل توافقون على إحالة جميع هذه الاقتراحات على اللجنة التنفيذية؛ لكي تنفذ منها

ما يمكن تنفيذه، ويكون لها أن تنتظر عمل مؤتمر التربية والتعليم والاستعانة بما

يراه موافقًا لهذه البلاد من الأنماط التعليمية.

السعي لدى الحكومة لتوسيع نطاق مدرسة الممرضات وتعليم الطب للنساء

أسوة بالرجال، وتعليم المرأة التفصيل والتطريز وخدمة المنزل وتربية الأطفال،

وإنشاء مدرسة لذلك.

اقترحته السيدة باحثة البادية.

قبلت هذه الاقتراحات كلها وعددها 12 بالإجماع.

(ج) المسائل الاجتماعية:

1-

الاهتمام بالوعظ والإرشاد؛ لترقية الحالة الأخلاقية.

اقترحه حضرات محمود حسن فرويز بأسيوط. الشيخ رشيد رضا. حسن بك

يونس الذي يطلب السعي لدى ديوان الأوقاف؛ لتعضيد مشروع الوعظ والإرشاد.

محمود بك أنيس، وهو يرى المساعدة على ذلك بجمع ضريبة اختيارية سنوية لا

تقل عن خمسين قرشًا على كل شخص، تصرف في هذا السبيل وغيره حامد محمد

المليجي الإسكندراني. عدد 160 شخصًا من الأزهريين. مرسي عبد الرحمن

البارودي. حسن المسيري. محمد أفندي كامل صادق الذي يرى أن الوعظ

والإرشاد يكون تحت مراقبة لجنة يعينها مؤتمر التربية والتعليم.

فهل المؤتمر يوافق على أن هذا الاقتراح مفيد وواجب تشجيعه أم لا؟

قُبِلَ

2 -

إعطاء الحرية للنساء لسماع الوعظ في المساجد وبالصلاة فيها؛

أسوة بالتركيات وبالمسيحيات واليهوديات، وجعل التعليم الديني إلزاميًّا في

مدراس البنات. وإيجاد أستاذ مسلم عاقل في كل مدرسة بنات؛ لإرشادهن لمكارم

الأخلاق الدينية ومحاسن العادات القومية.

اقترحته السيدة باحثة البادية.

فهل توافقون على هذا الاقتراح وتشجعون عليه وتحيلونه على اللجنة

التنفيذية؛ للسعي لدى الحكومة لإجراء ما يخصها من ذلك؟

رفض الشق الأول وقبل الثاني

3 -

محو البدع والعادات السيئة؛ كالأذكار القبيحة والإسراف في

المآتم والأفراح، وخروج النساء لتشيع الجنازات ومبيتهن في المقابر، والإسراف

الزائد في تشييد القبور والأحواش.

اقترح بعض ذلك حضرة محمد بك يوسف المحامي بمصر في تقريره الذي

تلاه في إحدى جلسات المؤتمر، وبعضها اقترحه حضرات محمد أفندي زكي

إبراهيم بالحنفي بمصر. خيري أفندي بشبين الكوم. عبد الحليم أفندي جميعي

بالإسكندرية. حسن بك يونس. باحثة البادية. فهل تعضدون رأي المقترحين؟

قُبِلَ

4 -

ضرورة إنشاء ملاجئ للفقراء من الأيتام والأرامل والعجزة.

اقترحه حامد محمد المليحي الإسكندراني.

فهل المؤتمر يستحسن هذه الفكرة ويشجع عليها، ويحض المحسنين والواقفين

على أن يجعلوا لها من مبراتهم نصيبًا.

قُبِلَ

السعي لدى الحكومة في استصدار قانون يحدد المهور.

اقترحه حضرتا عبد الحليم أفندي جميعي بالإسكندرية - حسين المسيري ببهتيم.

رُفِضَ

5 -

السعي لدى الحكومة لتشكيل لجنة من العلماء؛ لاستنباط أحكام شرعية

من كل المذاهب، تنطبق على أحوال الزمان والمكان، حتى يمتنع الحرج على

الناس من الأحكام المأخوذ بها الآن.

اقترحه حضرة الشيخ عبد العزيز شاويش في خطابه الذي ألقاه بإحدى جلسات

المؤتمر، فهل توافقون في إحالة هذا الاقتراح على اللجنة التنفيذية؛ لبحثه ولتتخذ

نحوه ما يلزم؟

أن يطلب من الحكومة مراقبة المبشرين في مصر، حتى لا يخرجوا عن

حدود واجباتهم الدينية اقترحه حضرة أحمد بك لطفي المحامي.

قُبِلَ.

8 -

السعي لدى الحكومة؛ لمنع تعدد الزوجات بلا ضرورة والطلاق بلا

موجب، اقترحه حضرة صادق أفندي عثمان ناظر مدرسة الصادق ببني سويف،

وباحثة البادية في تقريرها الذي تلي بالمؤتمر، فهل توافقون على فائدة هذا الاقتراح

وعلى إحالته على اللجنة التنفيذية، لتحري ما يلزم نحوه؟

...

... حُذِفَ مِنَ الْبُرُوجْرَام.

9 -

السعي لدى الحكومة لتعيين قضاة المحاكم الأهلية من بين المتمرنين

على أعمال القضاة؛ كالمحامين الذين أمضوا في المهنة عشر سنوات مثلاً،

وترقية القضاة بالأقدمية فقط، وأن يكونوا غير قابلين للعزل وصرف إيرادات

المحاكم في ترقية حال القضاء.

اقترحه حضرة عبد الستار أفندي الباسل.

فهل توافقون على إحالته على اللجنة التنفيذية؛ لبحثه وإجراء ما يلزم نحوه؟

قبل بالإجماع.

10 -

السعي لدى الحكومة لاستصدار قانون، يجعل منزل العائلة

وحصة معلومة من ملكها غير قابلين للبيع، وذلك حماية للأهالي من خطر التجرد

من كل ملك.

اقترحه حضرة عبد الرحيم حسين من ساحل سليم ومحمد أفندي كامل صادق

من مصر، فهل توافقون على هذا الاقتراح وتحيلونه على اللجنة التنفيذية لإجراء

اللازم نحوه؟

قُبِلَ بِالإِجْمَاع.

11 -

إنشاء لجان لمصالحة العائلات.

اقترحه حضرتا حسن بك يونس ومرسي عبد الرحمن البارودي بجرجا،

والأول يرى السعي لدى الحكومة لتعين مجالس في المراكز لهذا الغرض.

...

...

تقرر الاكتفاء بما هو موجود بتلك اللجان

12 -

إيجاد المستشفيات الخيرية والصيدليات بكل مركز من مراكز

المديريات وكل قسم من أقسام المدن.

اقترحته باحثة البادية في تقريرها الذي تلي بالمؤتمر.

واقترحه مرسي عبد الرحمن البارودي بجرجا وحسن المسيري ببهتيم، فهل

تستحسنون هذا الاقتراح، وتشيرون على الأهالي بالعمل به؟

قُبِلَ بِالإِجْمَاع

13 -

السعي لدى الحكومة لتحصيل تركات من يتوفى من المسلمين من

غير وارث؛ لصرفها في شؤون المسلمين.

اقترحه حضرة محمود بك أنيس ومحمود حمادة بالزيتون.

فهل توافقون على هذا الاقتراح؟ أم توافقون على إبقاء الحالة كما هي الآن،

مع إلفات الحكومة إلى الاستيلاء أيضًا على تركات المتوفين عن غير وارث من

باقي المصريين.

رفض الشطر الأول وتقرر الثاني بالإجماع.

14 -

استلفات الحكومة لإلغاء المادة 78 من لائحة الصيارفة؛ لما تقتضيه من

حصر وظائفهم في يد فئة مخصوصة، مع أن الحكومة تصرف سنويًّا على

هذه الطائفة زيادة عن 90.000 جنيه.

اقترحته لجنة المؤتمر الفرعية بالمنوفية وحضرة محمد بك علي المحامي

بأسيوط.

فهل توافقون على هذا الاقتراح، وتحيلونه على اللجنة التنفيذية؛ لإجرء

اللازم نحوه؟

قُبِلَ بِالإِجْمَاع.

15 -

استلفات نظر الحكومة إلى وجوب الحرص على اللغة العربية، ووضع

كل محرراتها بها؛ إذ هي اللغة الرسمية للبلاد، وإن كان للحكومة الحق

بعد ذلك أن تضعها فيما تشاء من اللغات الأخرى.

اقترحه الشيخ عبد العزيز جاويش ومحمود بك أبو النصر.

فهل توافقون على هذا الاقتراح، وتحيلونه على اللجنة التنفيذية لإجراء اللازم

نحوه؟

قُبِلَ بِالإِجْمَاع.

(د) المسائل الاقتصادية:

إنشاء مصرف وطني مصري برؤوس أموال مصرية.

اقترحته اللجنة التحضيرية للمؤتمر.

واقترحه أيضًا حضرات يوسف نحاس بمصر. هاشم أفندي محمد مهنا

المحامي بقنا. حسين علي عيد بالفشن. محمد كمال بشارع محمد علي بمصر،

الشيخ مصطفى فرغلي. رضوان التاجر بأبوتيج. حسين بك عابدين عضو

الجمعية العمومية عن مديرية الجيزة. أمين باشا الشمسي. إبراهيم بك دويدار عمدة

شبراخيت بمديرية الجيزة. حسن بك يوسف بمنفلوط. محمود بك بسيوني المحامي

بأسيوط. عبد الحميد بك سعيد والدكتور محجوب ثابت ولفيف من المصريين

بباريس وإنجلترا. عبد الرؤوف أفندي زكي وإلياس أفندي الأيوبي المترجمين

بمحكمة الإسكندرية المختلطة. متولي أفندي عامر بمحكمة الإسكندرية المختلطة

علي أفندي سليمان بشارع راغب باشا بالإسكندرية محمود حسن قزوير بأسيوط.

محمد أفندي كامل بالفشن. الدكتور أحمد أفندي حلمي قاسم. سليم أفندي ديمتري

بولاد بالمحلة الكبرى. حسين بك هلال عن لجنة المؤتمر الفرعية بميت غمر.

توفيق أفندي الترجمان مدير مدارس أوقاف الحلمية. محمد بك بهجت مفتش

الأوقاف العمومية سابقًا. محمد متولي من أبو قراميط. أحمد أفندي رمزي المحامي،

أحمد محمد مليجي رئيس لجنة المؤتمر الفرعية بمركز الصف. حسن المسيري

ببهتيم. سيد أحمد بك زعزوع ببني سويف. محمد أفندي زكي بإسنا. محمد أفندي

كامل صادق بمصر. محمد أفندي عبد الملك حمزة المحامي بأسيوط.

فهل تقررون إنشاء هذا المصرف على شرط أن يكون مجلس إدارته كله أو

أغلبيته من المصريين؟ وهل تكلفون اللجنة التنفيذية بالبدء في تحقيق هذا المشروع

فورًا بانتخاب لجنة من الاختصاصيين؛ لدرس وتحضير قانون هذا المصرف في

أول جلسة تعقدها اللجنة التنفيذية؟

قُبِلَ بِالإِجْمَاع.

2 -

وجوب السعي لدى الحكومة؛ لإصدار قانون بتقرير عقوبة على

من يشتغلون بالربا الفاحش؛ حماية للأهالي من أطماع المرابين.

اقترحه حضرات محمد علي بك المحامي بأسيوط. هاشم أفندي محمد مهنا،

وقد تلوا تقريرهما عليكم، وحضرات حسين بك هلال عن لجنة ميت غمر الفرعية،

السيد عبد المطلب غيث عمدة النخاس. محمد بك متولي من سحيم غربية.

وكل مقترحي إنشاء البنك الوطني المصري تقريبًا وكثيرون من أصحاب

الاقتراحات الأخرى وجهوا نظر المؤتمر لعمل ما يلزم؛ لمنع الربا الفاحش رحمة

بالأهالي الذين يشكون مر الشكوى من المرابين خصوصًا في الوجه القبلي.

فهل تقررون ذلك، وتحيلونه على اللجنة التنفيذية؛ للسعي لدى الحكومة

بتنفيذه.

قُبِلَ بِالإِجْمَاع.

3 -

السعي لدى الحكومة؛ لإيجاد مراقبة فعلية على الوازنين لعدم الإضرار

بالأهالي، اقترحه عبد الحفيظ أفندي عوض من كفر غنام دقهلية. مرسي عبد

الرحمن البارودي بجرجا.

فهل تقرون على هذا الاقتراح، وتحيلونه على اللجنة التنفيذية لإجراء اللازم نحوه؟

قُبِلَ بِالإِجْمَاع.

4 -

استلفات الحكومة لإلغاء بدل القرعة العسكرية؛ لإضراره بالفقير

الذي يخرج من ملكه أو يستدين لدفع البلد. اقترحه حضرة حسن بك يونس.

فهل توافقون على هذا الاقتراح، وتحيلونه على اللجنة التنفيذية لإجراء اللازم

نحوه؟

تَقَرَّرَ حَذْفُهُ.

5 -

السعي لدى الحكومة في عدم بيع شيء من أملاك الميري الحرة للشركات

الأجنبية، وعلى الخصوص بالطريقة الجارية الآن، وتجزئتها وبيعها

للمصريين.

اقترحه حضرة يوسف أفندي أحمد الخبير بأسيوط.

فهل توافقون على هذا المقترح، وعلى إحالته على اللجنة التنفيذية لإجراء

اللازم نحوه؟

قُبِلَ بِالإِجْمَاع.

6 -

تعضيد النقابات الزراعية وتعميمها في جميع البلاد، والسعي لدى

الحكومة في سن قانون لها هي وشركات التعاون.

اقترحه حضرات يوسف بك نحاس. عمر بك لطفي المحامي، الذي يرى

أيضًا تشكيل نقابة عامة من جميع كبار المزارعين؛ للإشراف على جميع النقابات،

وإعطائها ما يلزم من الإرشادات المفيدة. هاشم أفندي محمد مهنا المحامي. حسن

علي عيد بالفشن. أمين باشا الشمسي. إسماعيل أفندي الأجزجي بطنطا. السيدة

باحثة البادية. حسن بك هلال عن لجنة ميت غمر الفرعية. فضل الزمر رئيس

نقابة ناهيه الزراعية. توفيق أفندي الترجمان. السيد عبد المطلب غيث من

النخاس شرقية. سليمان أفندي فهمي سليمان المحامي بطنطا. أحمد بك رمزي

المحامي. علي عبد السلام بالسويس. حسين المسيري ببهتيم. محمد أفندي كامل

صادق بمصر الذي يرى أيضًا تشكيل نقابات للتأمين على المواشي.

فهل أنتم موافقون على هذا الاقتراح، وتكلفون اللجنة التنفيذية بالسعي لدى

الحكومة لسن القانون المذكور.

قُبِلَ بِالإِجْمَاع.

7 -

إنشاء مستودعات تأمين عامة.

اقترحه حضرة محمود بك أبو النصر

هل توافقون على هذا الاقتراح وتحيلونه على اللجنة التنفيذية؛ للنظر في أحسن

طريقة لتنفيذه؟

قُبِلَ بِالأَغْلَبِيَّةِ.

8 -

السعي لدى الحكومة في إنشاء نظارة خاصة بالزراعة؛ اقترحه

سليمان فهمي من موظفي المالية سابقًا.

واقترح حضرة حسين بك هلال عن لجنة ميت غمر الفرعية السعي لدى

الحكومة؛ أن تتخذ الطرق الفعالة لمراقبة البذور اللازمة لتقاوي القطن، حتى

يتحسن صفته، والسعي لديهما لتحسين الري والصرف حتى تزيد المياه الصيفية

وتقل المناوبات، ولا تتلف الأراضي لعدم تطهير المصارف سنويًّا.

فهل حضراتكم تقررون إحالة هذين الاقتراحين على اللجنة التنفيذية؛

لتدرسهما وتتخذ بشأنهما ما تراه لازمًا وممكنًا؟

قُبِلَا بِالإِجْمَاع.

9 -

تحسين الصناعة المحلية، وإدخال ما يمكن ابتكاره فيها بالمواد

الأولية الموجودة بالبلاد، وأن يستعمل الأهالي مصنوعات البلاد ترويجًا

لها.

اقترحه حضرة حسين بك هلال عن لجنة ميت غمر الفرعية.

قُبِلَ بِالإِجْمَاع.

10 -

حماية الصناعة الوطنية بتأسيس الشركات الصناعية، وتعضيد

الموجودة منها.

اقترحه حضرة إبراهيم بك رمزي بتقريره الذي تلي. عبد الخالق بك مدكور،

وهو يطلب حماية التجارة بالصفة المذكورة كتقريره الذي تلي. ومثله حضرة

حسن بك يونس وجبرائيل بك كحيل، وهو يطلب لهذا الغرض السعي لدى

الحكومة؛ لإصلاح التعريفات الجمركية وتخفيض مصاريف النقل في السكة الحديد

في تقريره الذي تلي على الطريقة التي بينها ومحمد أفندي كامل صادق وهو يطلب

ما يطلبه حضرة جبرائيل بك كحيل.

قُبِلَ بِالإِجْمَاع.

11 -

السعي لدى الحكومة لسن قانون خاص بالعمال؛ لحماية مصالحهم لسبب

ما يحصل لهم من العوارض أثناء العمل وتحديد ساعات العمل وإنشاء محاكم

تحكيم للفصل في المفاوضات بين العمال وأصحاب المعامل.

فهل يستحسن المؤتمر هذه الاقتراحات، ويشجع عليها ويحيلها على اللجنة

التنفيذية؛ للسعي لدى الحكومة في تحقيق ما يلزم تحقيقه بواسطتها؟

قُبِلَ بِالإِجْمَاع.

(هـ) اقتراحات أخرى:

1 -

اقتراح خاص بتحسين حالة الري، ونشر التعليم ببلاد النوبيين

بمديرية أسوان، وتسمية النوبيين باسمهم هذا الحقيقي بدل تسميتهم باسم البرابرة

كما يفعل الناس.

اقترحه خليل أحمد رئيس جمعية الاتحاد النوبي بإسكندرية، واقترحه مكاري

يعقوب بإسكندرية.

فهل توافقون على هذا المقترح وتستحبون عليه (؟) وتحيلونه على اللجنة

التنفيذية؛ للسعي لدى الحكومة لإجراء اللازم فيما يختص بها؟

2 -

عمل ميدالية تذكارًا لهذا المؤتمر تكون من ثلاث درجات: ذهبية

لدولة الرئيس، وفضية لجميع أعضاء المؤتمر العاملين، وبرونز لجميع

أعضائه المساعدين، وتخول اللجنة التنفيذية حق منح هذه الميدالية إلى كل من

يساعدها على تنفيذ قرارات المؤتمر.

اقترحه سعادة حسن باشا مدكور.

قُبِلَا بِالإِجْمَاع.

***

ومما يستحق الذكر أنه لما عرض الاقتراح بإنشاء مصرف وطني صفق

الحضور كثيرًا وتوالى الهتاف من كل جهة.

وعلى أثر ذلك، تبرع حضرات الوجهاء الأماثل لملوم بك السعدي

بمائة وخمسين فدانًا، وعلي بك السعدي بمائة فدان، ومصري بك السعدي بمائة فدان

، وسلطان بك السعدي بعشرين فدانًا، وجعلوها ضمانًا للبنك بعد إنشائه. وتقدر قيمة

هذه الأطيان بنحو سبعين ألف جنيه.

ثم ختمت الجلسة بتلاوة خطبة دولة الرئيس، وهذا نصها:

(خطبة المؤتمر الختامية)

(لدولتلو رياض باشا رئيس المؤتمر المصري)

أيها السادة:

إني على الرغم من حالتي الصحية قبلت مع السرور رئاسة المؤتمر، وأقبل

الآن رئاسة لجنته التنفيذية؛ اعتقادًا مني بأن ميولكم الشخصية متجهة إلى تحقيق

الوحدة القومية ومبدأ التسامح والتوفيق بين جميع عناصر الأمة المصرية.

وإني سعيد الآن بأن اعتقادي فيكم قد تحقق بما أظهرتموه من الإخلاص في

العمل، ومن اللهجة المعتدلة التي جريتم عليها في خطبكم وتقاريركم. سعيد بما

رأيته من غيرتكم على حفظ النظام وعدم الخروج عن حدود البرنامج الذي رسمتموه

لعملكم. تلقاء ذلك اسمحوا لي يا أبنائي الأعزاء أن أشكركم على مساعيكم الشريفة،

وأدعو الله أن يتوج عملكم بالنجاح.

وفي الختام أنصح لكم أن تتخذوا ما جريتم عليه في جلسات هذا المؤتمر من

مبادئ التسامح والاعتدال ومكارم الأخلاق قانونًا دائمًا، ونموذجًا مستمرًّا في

معاملاتكم مع غيركم من أبناء وسكان هذه البلاد على السواء، ولتكن مصلحة مصر

العام رائدكم على الدوام. وفقنا الله جميعًا لما فيه الخير العام والسلام. اهـ.

_________

(*) تتمة ما قرره المؤتمر المصري من الاقتراحات تابع لما نشر في الجزء السابق ص 389.

ص: 457

الكاتب: نقلا عن جريدة المؤيد

‌ملكة بهوبال الهندية في إنكلترة [

1]

في بلاد الإنكليز تقيم الآن أميرة مسلمة؛ أتت لتشهد حفلة تتويج الملك جورج

الخامس مع باقي ملوك الهند وهم كثيرون. وقد اهتمت بأمرها الصحف والمجلات

الإنكليزية؛ لأنها الأميرة المسلمة الوحيدة الشرقية التي تحضر هذه الحفلة الشائقة

رسميًّا، وقد حاول كثيرون من الصحافيين والصحافيات التشرف بمقابلتها،

واستأذنوا فلم يؤذن لهم إلا محررة واحدة جميلة في إحدى المجلات الإنكليزية،

قدرت أن تستميل بجمالها ودهائها الحاشية، فسمحوا لها بشرف المثول بين يدي

الأميرة الهندية العظيمة، فلعل ذكر بعض ما كتب عنها لا يخلو من الفائدة.

هي الأميرة (بيجوم [2] ملكة بهوبال) والبلاد التي تحت حكمها من أحسن

بلاد الهند وأخصبها، يبلغ مسطحها مقدار مسطح الوجه البحري في بلادنا تقريبًا،

ورعاياها يقدرون بسبعة ملايين من النفوس، وهي تقيم بضواحي لندرة بجهة

ريدهل بمنزل أثري جميل، تحيط به حديقة غناء بين حاشيتها المؤلفة من رئيس

وزارتها وأمناء أسرارها، وخادماتها الهنديات والأوربيات ووصيفاتها الوطنيات،

وهن من أبكار الهند الجميلات المشهورات بشعورهن الجميلة السوداء الملقاة على

ظهورهن، ووجوههن السمراء الجذابة، ومعها طبيبها الخاص، وهي متبعة في

معيشتها النظام الشرقي، ومحافظة على عادات الشرقيين في الحجاب، فهي

محتجبة عن الرجال ولا تقابل أحدًا من الأجانب بدون النقاب، أما النساء فإنها

تقابلهن مكشوفة الوجه سواء كنّ أوربيات أو شرقيات.

وهي مشهورة بولائها العظيم لحكومة الهند، حتى إنها منذ ثماني سنوات

قدمت للورد كارزون حاكم الهند العام كمة (طاقية) بديعة الصنع هدية منها لجلالة

ملك الإنكليز. وهذه الكمة مكللة بالجواهر الثمينة ومطرزة تطريزًا شرقيًّا بديعًا،

ومعها خطاب شكر وولاء للملك، تقول فيه: بأنها ليست هي وشعبها فقط الموالين

المخلصين لحكم إنكلترا لبلادها، بل إنها تريد أن تعبر بهذا الخطاب عن سرور

وولاء جميع الرعايا المسلمين في الهند. وإن هذا الولاء هو مطابق لديانتها أي

للشريعة الإسلامية الغراء التي تأمر بإطاعة الله والرسول وأولي الأمر! !

وهي لم تبرح بلادها قبل الآن إلا مرة واحدة في سنة 1901، عندما أدت

فريضة الحج بمكة المكرمة، وهذه هي الدفعة الأولى لزيارتها لإنكلترا ولأول مرة

في التاريخ لملكات بهوبال. وهي متواضعة كريمة الأخلاق مشهورة بالإحسان

لفقراء بلادها ومحبة للتقدم والارتقاء، وتعتقد أن تقدم الهند لا يكون إلا إذا اعتنق

الوثنيون وغيرهم من الهنود الديانة الإسلامية، فهي لهذا تكلف المستنيرين من

رجال مملكتها بأن يبثوا المبادئ الإسلامية بين قبائل الهنود. وهي محافظة على

الصلاة والصيام حسب الشريعة، ولا يفوتها وقت بدون أداء فريضة الصلاة،

ومشهورة بالشجاعة والإقدام، ومما يذكر عنها أنها عندما كانت في طريق الحج

هاجمها جماعة من الأعراب، فأمرت حشيتها بقتالهم وكانت هي تقودهم بنفسها،

فأصلوهم نارًا حامية، حتى ارتدوا عنها خائبين، ولم يستفيدوا شيئًا إلا ما أصابهم

من نيران رجال حاشية الأميرة الشجاعة.

ولقد قابلت جلالة الملك والملكة في قصر بكنهام، فأحسنا ملاقاتها وأكرماها،

ورأت منهما كل انعطاف واحترام أثر في فؤادها. وكان معها نجلها الصغير (سهل

زاده حميد الله خان) ، فكان موضع رعاية خصوصية من جلالة الملكة.

والإنكليز يؤدون لتحيتها الرسمية 21 مدفعًا. وقد كتبت عنها الصحف

الإنكليزية والمجلات قصصًا كثيرة مختلفة، وحكايات غريبة متنوعة عن عاداتها

وأخلاقها ومأكلها ومشربها، حتى إنهم قالوا: إن الأميرة مأكلها عجيب، وإنهم

يأتونها بماء الشرب من الهند، وإنها لا تأكل ولا تشرب من إنكلترا شيئًا أصلاً،

مع أنهم لم يطلعوا على شيء مما كتبوه عنها ولا عجب، فهذه هي عادة الأوربيين

معنا معشر الشرقيين، وعن كل شيء لا يعرفون حقيقته.

ولقد كذبت تلك الآنسة الإنكليزية الصحافية في مجلتها كل ما نسب للأميرة من

الحكايات والخرافات، وقالت: إنها لم تجدها كما كانت تظن أنها تلك الأميرة الشرقية

الأتوقراطية الحاكمة على شعبها بالطريقة الاستبدادية. ووصفتها وصفًا مقرونًا

بالإعجاب؛ إذ قالت: إنها رأت فيها ذكاء نادرًا ولطفًا ورقة وجمالاً. وقالت: إن

الأميرة محبة للفنون الجميلة، ووقت زيارتها كانت ترسم أحد المناظر الطبيعية

البديعة بالضاحية التي تقيم فيها. وقد رأت عندها كثيرًا من الحلي الذهبية والأدوات

والأواني الشرقية الثمينة التي لا تقدر بثمن. وعلمت من محادثتها لها أنها تنظر دائمًا

لإنكلترا كأنها وطن لها. وهي تجتهد في البحث والتنقيب عن كل ما يرقي بلادها

وشعبها، وستأخذ معها من إنكلترا وأوربا كل ما تراه مفيد لنجاح بلادها وأمتها.

وقد تركت ابنها الأكبر (نصر الله خان) في بلادها؛ ليدير شؤون المملكة

حتى عودتها، وتشتغل الآن في تأليف كتاب عن تاريخ حياتها، قد أوشكت أن

تنتهي من الجزء الثاني منها، وستجتهد بأن تصف في الجزء الثالث زيارتها الحالية

لأوربا ولإنكلترا خصوصًا وصفًا تعتقد أن سيكون فيه فائدة لشعبها المجتهد، وأن

يوقظ في نفوس قومها روح النشاط ومجاراة الإفرنج.

وتتبع في مأكلها قواعد وآداب الشريعة الغراء في الاعتناء بالذبح والنظافة

ونحوه، فلا تأكل إلا ما ذبح بيد إمام معيتها وطبخ بإشراف أطبائها المسلمين،

وتلبس رداء على الطراز الشرقي وهو برنس ذو ذيل طويل، وعلى وجهها نقاب

أسود موضون بالذهب ومطرز تطريزًا جميلاً فيه ثقبان لعينيها، وعلى رأسها تاج

صغير من الذهب الوهاج، وفي يديها قفازان من الحرير الأبيض، ولا يسمحون

بالدخول عليها لأحد من الأجانب خصوصًا الأوربيين إلا بإذن خاص منها؛ بشرط

أن يكون ذا صفة عمومية، ولا تقابل أحدًا من الأجانب إلا وفي يديها هذان القفازان،

وهي كثيرة الابتسام لزائريها.

حقق الله آمال الأميرة فيما ترجوه من ترقية بلادها وأمتها.

(المنار) هذه المملكة عربية الأصل شريفة النسب من آل بيت الرسول

عليهم السلام، وناهيك بسلفها الصالح السيد صديق حسن خان صاحب المصنفات

الشهيرة التي هي من دعائم إحياء العلم والدين رحمه الله تعالى. وقد تبرعت في

هذه السنة لمدرسة عليكرة بمائة ألف روبية مساعدة على ما يراد من تحويلها إلى

جامعة تسمى (الجامعة الإسلامية) (وهذا اللفظ يهابه ساسة المصريين،

والحكومة الإنكليزية تساعد عليه مسلمي الهند) ومائة ألف روبية تساوي 650 جنيهًا

مصريًّا. واشتراكها الشهري في جمعية ندوة العلماء عشرون جنيهًا إنكليزيًّا ومبراتها

كثيرة. وما نقلته عنها المجلة الإنكليزية من الاستدلال بوجوب طاعة أولي الأمر

على طاعتها لملك الإنكليز لا يصح كما علم مما فسرنا به أولي الأمر من عهد

قريب، ولها أن تستدل بمراعاة المصلحة العامة، وهي أساس السياسة في الإسلام.

_________

(1)

نقلنا ما يأتي عن المؤيد وهو مترجم عن الإنكليزية بقلم أحمد أفندي عبد الرحمن وقد تصرفنا بعض التصرف في تصحيح الترجمة، والهنود يكبون بهوبال هكذا (بوفال) .

(2)

الهنود يكتبون اسمها (بيكم) بالكاف المفخمة وهي كالجيم المصرية.

ص: 468

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بلاغ محمود شوكت باشا

إلى مفتشي الفيالق

ومفتشي الرديف وقواد التوابير والفرق المستقلة

إن الخدمة الشريفة التي قام بها الجيش في انقلابنا الخيري الحميد الأخير هي

معلومة لدى الجميع، وطبيعي أن الجيش كان مضطرًّا إلى تكوين التحول الجديد

وتسكين الاضطراب الذي حدث في الأحوال العامة، وتأييد مقصد الانقلاب، فكان

اشتغال أعضائه بالسياسة يومئذ أمرًا ضروريًّا، ولكن بعد الانقلاب وتأسيس

الدستور (المشروطية) لم يبق محل لاشتغال الجيش بالسياسة، وأنا منذ سنة

ونصف تقريبًا أوصيت الوصايا اللازمة شفاهًا بكل عزم وإخلاص في الآستانة وفي

أدرنة؛ بأن يحصر الجيش همته في وظيفته العسكرية المقدسة، وإني أقول بلسان

الشكر: إن هذه الوصايا تلقيت بالطاعة من قبل رفاقي الأعزاء، وإنه بهمة رفاقي

الضباط الذين بطبيعتهم يقدرون سمو الوظيفة حق قدرها، حصل في هذه المدة

القليلة نجاح مهم في انتظام الجيش اعترف به الصاحب والعدو، وبهذا النجاح

وجدنا الجيش لم يتوان في طريق التكامل خطوة واحدة، على أنه منذ سنة ونصف

وقف أمام سبع محاربات في اليمن وعسير وشمال الأرناؤوط وحوران والكرك،

ثم اليمن وعسير ثانيًا، وعصيان الماليسور كل ذلك لم يثن عنان مطيته عن التقدم

إلى الأمام، وأن الجيش وفقه الله ما دام يدأب على هذا الجد والاجتهاد، فهي يعلي

شأنه وسطوته دومًا، وأن النقطة الوحيدة التي يعلق عليها الأمل في سبيل الوصول

إلى هذا المقصد؛ هي أن يجرد الضباط رفاقي أذهانهم وأنفسهم من الأفكار

والمقاصد غير اللائقة، ويقفوا وجودهم على الوظيفة العسكرية فقط.

إن التكامل والانحطاط في الجيش منوط بسعي رفاقي، فكلما زاد ارتباطهم

بالوظيفة تتجلى آثار التعالي بصورة جديدة كل يوم، وإن الحالة التي يولدها عكس

ذلك هي السقوط ليس غير. على أن السقوط يكون سريع الوقوع لا تدريجًا كالترقي،

وآثاره تظهر في الحال، وعلى هذا التقدير يكون الجيش قد أودى بوطنه ودولته

التي هو مكلف بالعمل لبقاء وجودها، وهذه النتيجة تثبت أنه يجب على الجندي أن

لا يتفكر في شيء غير الوظيفة، وأن لا يعيش إلا لأجلها فقط؛ لأن الوطن الذي

يعزه أكثر من نفسه لا يعيش إلا بارتباطه هو بوظيفته.

إن السياسة من شأنها توليد المطامع والاختلافات، فهي بالطبع موجبة لإهمال

الوظائف العسكرية وداعية للتباين في الأفكار، وهذا ما يؤدي إلى خراب المملكة.

وإني لمشاهداتي وتجاربي، أعلم أن جميع رفاقي الضباط قد شعروا بقدسية الوظيفة،

وعدلوها بأرواحهم وضمائرهم فيجب عليهم أن ينزهوا أفكارهم ومقاصدهم عما

سواها، وإني أسدي الاحترام لرفاقي الذين يمعنون النظر في الوظيفة ويتلقونها على

هذا الوجه، وأحبهم أكثر من محبة الوالد لولده، كما أنه لا يجوز أن أتوانى ألبتة

في معاقبة الذين لا ينظرون إلى هذه الحقائق، والنتائج التي صورتها بنظر الاهتمام،

فيهملون وظائفهم في ميلهم إلى الأفكار الخارجة عن المسلك ويشتغلون بالسياسة،

ومجازاتهم تنوطها بي صلاحيتي القانونية، ولأجل أن يطلعوا على هذه النصائح

والوصايا نشرناها لجميع المراجع، فأوصيهم وصية خاصة بعمل ما يقتضيه الحال.

(المنار) من أصول السياسة أن الجنود الذين يتصدون للسياسة ويحدثون

الانقلابات بالثورة والسلاح، يكونون خطرًا على المملكة إذا بقي لهم نفوذهم في

الجيش، ومن أحكام السياسة أن يقتل هؤلاء ولو بالحيلة إذا لم يؤمن جانبهم. ومن

أسباب تعجيل الإنكليز بالحرب السودانية عقب الاحتلال؛ تعريض عسكر الثورة

العرابية للهلاك والزوال وقد تم لهم ذلك من غير أن يشعر الناس بسببه. ونحمد الله

أن كان انقلابنا سليمًا، قد قدر محمود شوكت باشا وأعوانه من القواد والضباط

العقلاء (كمحمد هادي باشا وصادق بك) على تلافي الخطر، وإن كان يفهم مما

كتبه هؤلاء الثلاثة أن في الضباط من لا يزال يشتغل بالسياسة؛ بإغراء أولئك

الزعماء المعروفين من جمعية الاتحاد والترقي، ولا شك أن هذا من الجناية

والخيانة كما قال محمد هادي باشا والفاروقي، فعسى أن يوفق محمود شوكت باشا

في أقرب وقت إلى تنفيذ ما أشار إليه في هذا البلاغ من غير فتنة، وحينئذٍ نأمن

من الخطر الداخلي ويستقر أمر الدستور فينا.

_________

(1)

بعد صدور الجزء الماضي من المنار نشرت جرائدنا هذا البلاغ مترجمًا عن الجرائد التركية وهو كبلاغ صادق بك وهادي باشا يؤيد ما كنا بيناه من قبل.

ص: 471

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رأي الأمير صباح الدين

سأله أحد محرري جريدة الطان الفرنسية بباريس عن رأيه في الأزمة

الاتحادية، أو ما يراد وضعه من الإصلاحات في المملكة العثمانية، فأجابه بما يأتي:

إن ضعف طائفة من جمعية الاتحاد والترقي لا يدل على أن الحكومة

العثمانية دخلت في دور تقهقر، فإن هذه الأزمة إنما تدل على قرب دور حرية

حقيقية. إن جمعية الاتحاد والترقي لما قبضت على زمام الأمور؛ بقصد أن تعلي

شأن الوطن المشترك بين جميع العناصر العثمانية، أخذت ترتكب بعض خطيئات

حكومة الدور السابق باسم الدستور، وذلك من أهم الأسباب التي ولدت هذا الاستياء

العام، وكانت النتيجة أن بقيت أمور الإدارة على جانب عظيم من عدم النجاح

بدرجة لا تقل عن إدارة الدور السابق.

كنت وضعت خطة جدية هي أوفق لحاجيات الولايات، وأحفظ لعادات

العناصر وتعاملهم، وأضمن للمحافظة على وحدة المملكة، وآمن لإقامة العدل، فلو

أنهم أنفذوا برنامج هذه الخطة لما بقي مجال لحدوث سلسلة ثورات مشؤومة. إن

الترك في أشد الحاجة على زيادة قابليتهم للارتقاء، ولا يمكنهم أن يبقوا دومًا

مستهلكين، ولكنهم ويا للأسف لم يبذلوا شيئًا من السعي لإخراج هذا التجديد إلى

حيز الفعل حتى الآن. وإن جمعية الاتحاد والترقي لم تكن لتكفل نجاحًا في السياسة

الداخلية، ولم تظهر أثرًا من الحكمة في السياسة الخارجية.

وإن مثل هذه السياسة إذا ولدت استياء عامًّا، يتزايد في كل يوم، يكون أمرًا

طبيعيًّا، ولا يعجب أحد من عدم انتظام كل الأمور للحال، ولكن مما يوجب الأسف

أن رؤساء الاتحاد والترقي قد أظهروا سرعة انفعال بدرجة أنهم لا يتحملون انتقادًا

مهما كان معقولاً، وصادرًا عن حسن طوية.

_________

ص: 473

الكاتب: محمد رشيد رضا

مصاب مصر بوفاة رجلها العظيم

مصطفى رياض باشا

رئيس المؤتمر المصري

قضى الله ولا رادّ لقضائه أن لا نفرغ من تلخيص أعمال المؤتمر المصري؛

بنشر خطبة رئيسه الختامية إلا ويفاجئنا من الإسكندرية نبأ وفاة هذا الرئيس العظيم،

وطيّ سجل حياته الشريفة، ففي يوم السبت 20 جمادى الآخرة (17 يونيو)

تغدى كعادته في داره برمل الإسكندرية، ونام لا يشكو ألمًا ولا سقمًا، وكان من

عادته المضطردة أن يخرج من حجرة نومه على رأس الساعة الرابعة أو يتأخر عدة

دقائق، فيشرب الشاي ممزوجًا بعصير الليمون، ويقابل من عساه يزوره ثم يركب

إلى النزهة ويعود عند المغرب، فلما جاءت الساعة الخامسة، ولم يخرج كعادته

افتقد فإذا هو ميت. عاش عيشة شريفة. ومات ميتة هنيئة - رحمه الله تعالى -

وأشهد أنني ما رأيته يائسًا من الحياة متوقعًا للموت كما رأيته في هذه السنة فقد

سألته غير مرة قبل المؤتمر وبعده عن صحته، فكان يجيب بأنه لا يشكو من شيء،

ثم يستدرك بقوله: (خلاص خلاص) ويشير بيده وبرأسه إلى الذهاب وقرب

الموت.

هذا هو الرجل الجدير بأن يرثى ويؤبن، هذا هو الرجل الحقيق بأن يؤرخ،

هذا هو الرجل الذي ينبغي أن نجعل سيرته في موضع الأسوة، وأخلاقه وأعماله

في مكان العظة والعبرة، فإنه من فحول الرجال الذين تنتجهم الفطرة السليمة في

بعض الأجيال، وهو حجة على أن أعظم ما يتفاضل به الناس هو جوهر النفس

وصفاتها وأخلاقها، لا ما يتلقى في المدارس من مصطلحات العلوم والفنون. فإن

العلم بهذه الاصطلاحات - وإن كان لا بد منه كالحرف والصناعات - ليس هو الذي

يجعل الرجل عظيمًا زعيمًا بإصلاح حكومته، أو ترقية أمته، وإنما هو من الآلات

التي تعين العامل على عمله إن خيرًا وإن شرًّا، فكم من عالم حافظ لأحكام الشرع

والقوانين لا يقيمها، بل يستعين بها على الفساد في الأرض، وكم من عالم

بالاقتصاد يقذفه إسرافه في هاوية الفقر، وإننا نرى مصداق ذلك بأعيننا كل

يوم.

إنني أدع للخطباء والشعراء تأبين نابغة مصر ورجلها العظيم، ورثاءه بما

يمثل مقامه في نفوس أمته، وعرفانها لقدره وقيمته، وأذكر أحاسن أخلاقه، وغرر

صفاته التي امتاز بها في عصره، وفضل بها جميع وزراء مصره.

إنني أعد له صفات وأخلاقًا يقل أن تجتمع في رجل واحد، وقد اجتمعت فيه،

وهي: سلامة الفطرة وكرم الجوهر، الاستقلال في الرأي والعمل، الابتكار

والتصدي للإصلاح، والإخلاص وحسن النية، العدل، حب الحق وكارهة الباطل،

الشجاعة وقوة الإرادة، العفة والنزاهة، الثبات والاستقامة، النجدة والمروءة،

السخاء وعلو الهمة، الاقتصاد والنظام، إيثار المصلحة العامة على المنفعة الخاصة

قوة الإيمان ومراقبة الله عز وجل وهو روح الفضائل كلها.

بهذه الأخلاق والصفات كان رياض باشا كالفلك تمر عليه الحوادث، وتنتقل

البلاد بحكومتها وشؤون الاجتماع والعمران فيها من طور إلى طور، وهو ثابت لا

تتغير أخلاقه، وقد خدم الحكومة المصرية من عهد عباس الأول إلى عهد عباس

الثاني، وذلك نحو نصف قرن. وكان خلقه مع كل واحد من هؤلاء الأمراء واحدًا

على اختلافهم في الأخلاق والآراء والسلطة المطلقة من كل قيد وكل سيطرة،

والسلطة المقيدة بالقوانين ومراقبة الأجانب وسيطرتهم.

سن إسماعيل باشا لرجال حكومته وأغنياء رعيته سنة الإسراف في البذخ

والانغماس في النعيم؛ فامتلأت القصور بالخمور والنساء الغربيات والشرقيات

والشماليات والجنوبيات، حتى كان يكون في القصر الواحد منهن العشرات والمئات،

وكان يتبع ذلك ما يتبعه من المعازف واللهو والطرب، وبقيت دار رياض باشا

ممتازة بين دور الوزراء والكبراء؛ كامتياز نفسه بين نفوسهم لم يدنسها شيء من

ذلك.

ثم سنت لكبراء المصريين والواجدين منهم سنة الاصطياف في أوربة،

فكانت الملاهي والحانات والمواخير مكتظة بهم، والدنانير تفيض فيها من أيديهم

فيضان النيل في أرضهم. وأما رياض باشا فكان يعيش في أوربة كما يعيش في

مصر عيشة الاعتدال والشرف والعفة، ومراعاة قوانين الصحة.

أخبرني في سياق حديث معه أنه لم يدخل دار من دور اللهو في أوربة ولا

دار التمثيل (الأوبرة) في باريس إلا قليلاً مع إسماعيل باشا بصفة رسمية، وأنه

لم يدخل المعازف وآلات الطرب داره إلا مرتين: إحداهما في زفاف ولده محمود

باشا فإنه جاري فيها رغبة أمه، والثانية إجابة لولي العهد لإحدى الدول الكبرى

(أظنه ولي عهد إنكلترة) فإنه زاره زيارة رسمية؛ إذ كان رئيس الحكومة واقترح

عليه أن يسمعه الموسيقى الوطنية، فلم تسعه إلا إجابته.

ولا يحسبن القارئ أن هذا الوزير كان يعيش عيشة القشف والخشونة، كلا إنه

كان متمتعًا بجميع الطيبات بالسعة مع الاعتدال وحسن النظام والشرف كما يليق

بمقامه العظيم، ولهذا بلغ الثمانين وهو متمتع بصحة بدنه، وسلامة حواسه وعقله،

يعرف ذلك من كان يلقاه مثلنا، وظهر ذلك للجمهور في رياسته للمؤتمر التي كانت

خاتمة أعماله الطيبة، فقد كان يجلس عدة ساعات في اللجنة التحضيرية وفي

المؤتمر العام لا يتحرك حركة غير عادية، وذلك ما تقصر عنه عافية كثير من

الشبان.

وكان هو الضابط بعقله ونفوذه المعنوي لسير المؤتمر ومناقشات أعضائه،

لولاه لخشي من تنازع الأحزاب فيه أن يجر إلى الفشل، فقد تحدث الواقفون على

خفايا الأمور أن بعض أصحاب الأثرة والأنانية كانوا يبغون ذلك؛ لأنهم لم يكونوا

هم الداعين إلى المؤتمر والقائمين به، وقد عرف من شنشنتهم مقاومة كل خير يقوم

به غيرهم، ويذمونه وينفرون منه كما نفروا الناس عن الجامعة المصرية وعن

جماعة الدعوة والإرشاد، على أنه لولا قبوله لرياسة المؤتمر لكان محل الريبة عند

الإنكليز وسائر الأوربيين، ولقاوموه خشية أن يجعله أصحاب الأثرة مظاهرة

سياسية تخشى فتنتها، ولا تؤمن مغبتها، وقد صرحت الجرائد الأوربية بما يثبت

هذا.

قلنا: إن رياض باشا كان مستقلاًّ في رأيه وإرادته وعمله، لم يعبث باستقلاله

نفوذ الخديويين، ونقول أيضًا: إنه لم يعبث باستقلاله نفوذ الاحتلال الذي تصرف

كما يشاء في تصريف من عداه من نظار مصر فمن دونهم من الرؤساء؛ ولذلك لم

يرض البقاء في الوزارة على عهدهم، بل رأى تركها أشرف من ترك استقلاله

الذاتي، ولم يكن فيما عارضهم فيه من المداخلة في أعمال الحكومة الداخلية (دون

الاحتلال نفسه) طالب شهرة ولا منفعة، بل كان عاملاً بما يعتقد أن مصلحة البلاد

لا تقوم إلا به، مخلصًا لها فيه، ولهذا أثنى عليه لورد كرومر كغيره من رجال

أوربة العارفين بالشؤون المصرية.

أدركنا هذا الرجل وقد شبع من جاه الدنيا وروي، فلم يكن كثير المبالاة بمدح

ولا ذم، وهو الآن أغنى عن المدح والذم وأبعد عن الانتفاع به أو التأذي منه،

فغرضنا مما نكتب عنه العبرة والحث على التأسي والقدوة. لا نفعه ولا سرد مسائل

تاريخه، عسى أن يستفيد منه من لهم بصيرة في تربية أنفسهم أو تربية أولادهم إن

كان وقت تربية أنفسهم قد فات.

يظن كثير من الناس أنهم يربون أولادهم ويعلمونهم؛ ليكونون رجالاً عظامًا،

وإنما كانوا ظانين واهمين؛ لأنهم لا يعرفون ما هي العظمة الحقيقية، وما هو

الطريق الموصل إليها، يظنون أن العظمة في المناصب الكبيرة ذوات الرواتب

الكثيرة، وألقاب العزة والسعادة، أو العطوفة والدولة، وإن كان صاحبها عاطلاً من

الاستقلال عاريًا من الفضيلة، كلاًّ على أولي السلطان والقوة، أينما يوجهوه لا يأت

بخير، وإن الطريق الأدنى إليها هو أخذ ورقة الشهادة الدراسية من مدارس مصر،

والطريق الأعلى أخذ ورقة مثلها من مدارس أوربة، وقد أخطأوا في الأمرين؛

فليست العظمة الحقيقية في المناصب العليا، وإن من الناس من يفضحه منصبه،

ويظهر فساده ومهانته، وليس الطريق إلى هذه المناصب هو الشهادة الدراسية وإن

كانت الشهادة شرطًا للاستخدام في الحكومة، وإنما يكون الإنسان عظيمًا بجوهر

نفسه وعقله، وعلو أخلاقه وآدابه، فإذا نال العاقل الزكي النفس الكريم الأخلاق

منصبًا كان هو الذي يشرف المنصب بالاستعانة به على الإصلاح والنفع، فإن

كان مع ذلك واسع العلم، كان علمه أكبر عون له على أعماله النافعة، وإن كان لم

يؤت من العلم إلا قليلاً هداه عقله وأخلاقه إلى الاستعانة بأهل العلم، فجعل علم

غيره آلة له وعونًا على الإصلاح الذي يريده. على حين يبعد العالم الفاسد الأخلاق

عنه أهل العلم، ويصطنع أهل الجهل، فيضر الناس ويمنع غيره أن ينفعهم،

فالعلم لفاسد الأخلاق كالسلاح في يد المجنون.

(للترجمة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 474

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سياحة السلطان

والاستفادة من منصبه الديني

لما نجم قرن الفتنة في بلاد الأرنؤوط عام أول اقترح بعض المبعوثين منهم

ومن غيرهم أن ترسل الحكومة إليهم جماعة من الناصحين، وقالوا: إننا نعتقد أنه

يمكن استمالة زعمائهم بالنصح والإرشاد، فإذا لم يصدق اعتقادنا فالحكوة قادرة على

أن تخضعهم بالقوة القاهرة بعد ذلك كما هي قادرة الآن، وإنما الحكمة تقتضي أن

يكون الكي بالنار آخر العلاج. فأبى زعماء الاتحاديين يومئذ قبول هذا

الاقتراح، وعدوه منافيًا لكرامة الدولة وعظمتها، كأن عظمتها عندهم لا تتحقق

بالحكمة والرحمة، وإنما تتحقق بسفك دماء الأمة بأيدي جندها الذي نظم لحمايتها،

وكانوا يقولون: إن إخماد نار هذه الفتنة يتم في أيام معدودات، ولكنه لم ينته في

العام الماضي إلا بخسارة كبيرة، وسفك دماء غزيرة، وذهاب محمود شوكت باشا

نفسه إلى ميدان القتال، واستعانته بالخطابة والإشراف على القلوب من شرفة

التأثير الديني، ومع هذا كان سكون الفتنة على دخن، فعادت في هذا العام أشد ما

كانت وأوسع انتشارًا، فسيرت الحكومة إليهم كما سيرت إلى اليمن جيشًا عرمرمًا،

وقال بعض المتشيعين لها: إن نار الثورة ستنطفئ في أسبوع أو أسبوعين، فكذبت

الوقائع قولهم، وقد مرت الشهور ولم تزدد الفتنة إلا شدة.

في أثناء هذه المدة زالت سيطرة أولئك الزعماء الاتحاديين عن الحكومة،

وضعفت في مجلس الأمة، فرأى من قاموا مقامهم أن فتنة الأرنؤط قد عظمت،

وأن الدول الأوربية أنشأت تخاطب الحكومة في شأنها وما يتعلق بها، بدأت بذلك

روسية وتلتها النمسة وإيطالية، فعدنا إلى ما كنا عليه زمن عبد الحميد من

سيطرتهم علينا أو كدنا، فترجح لهم أن يلجؤوا إلى النصح ويستعينوا بنفوذ السلطان

الديني في إخماد تلك الثورة، وكان سلفهم يرون وجوب إضعاف نفوذ الخلافة في

الحكومة وداخلية البلاد وجعله سياسيًّا محضًا، فقررت الحكومة أن يسافر مولانا

السلطان إلى بلاد الأرنؤوط بعد أن يزور سلانيك وأن يصلي الجمعة إمامًا بالناس،

وأن يدعى الثائرون بأمره إلى الطاعة على أن يعفو عن المجرمين عفوًا عامًّا،

ويدفع دية قتلاهم، حتى لا يتنازعوا فيها؛ جريًا على عاداتهم وتقاليدهم، وكذلك

كان.

مولانا السلطان محمد رشاد طيب النفس طاهر القلب يؤثر الرحمة على

الانتقام؛ لهذا كان مسرورًا مغتبطًا بهذا الرأي، وقد سافر إلى سلانيك ثم سافر منها

إلى مناستر وقصوه، وقد اجتمع للتشرف بالاحتفال به ألوف كثيرة، وفاض معين

إحسانه على المدارس والملاجئ وجمعية الاتحاد، ونقل البرق عن السائح عبد

الرشيد أفندي الروسي إلى أشهر جرائد المسلمين هنا أنه أمّ الناس في صلاة الجمعة،

وكانوا زهاء ثلاث مئة ألف أي: من الجند والأهالي والوفود، فكبرت الجرائد

العربية بمصر وسورية لهذا الخبر ونوهت به، وقالت: إن خليفتنا أحيا سنة

الراشدين وقام بوظيفته الدينية الكبرى، ثم جاءت جريدة (صباح) من الآستانة

وفيها ذكر الاحتفال وأن السلطان صلى مأمومًا. وكان الإمام صديقنا إسماعيل حقي

أفندي المناسترلي.

في فضاء قصوه قد انتصر السلطان مراد الأول على جيش الصرب وبوسنة

وهرسك والأرنؤط والأفلاق والبغدان في ملحمة عظيمة قتل فيها ملك الصرب،

ودانت تلك البلاد كلها لآل عثمان، ولكن السلطان قتل بعد الملحمة بيد جريح كان

بين القتلى، وله مشهد يزار، وإن كانت جثته نقلت إلى بروسة ودفنت فيها،

فزيارة السلطان لمشهده فيه تذكار تاريخي لسلفه العظام الفاتحين الذين غلبوا تلك

الشعوب على أمرها هنالك، ولكننا صرنا الآن في عصر غير ذلك العصر الذي كنا

نفتح فيه الممالك؛ في عصر قد صارت الصرب فيه مملكة جديدة، والجبل الأسود

مملكة جديدة، والبلغار مملكة جديدة، واليونان مملكة جديدة، وصارت هذه

الممالك التي كانت تحت قهر سلطاننا تهددنا فيما بقي لنا، وتغري جيرانها

بالاستقلال مثلها، فالفتح المبين الذي نرجوه من سليل أولئك الفاتحين؛ هو أن

يحفظ لنا البلاد الألبانية بنفوذه الديني المؤثر في نفوس مسلميها، وبالمساوه بينهم

وبين سائر أهل البلاد في العدل والرحمة، وإيثارهما على سياسة أولئك المغرورين

بالشدة والقسوة.

ثم إننا نرجو أن تشمل سياسة العدل والرحمة بلاد اليمن التي طال العهد

ومرت القرون، ولم تر من الدولة إلا السيف والنار، والظلم والعار، وإهلاك

الحرث والنسل، كما صرح بذلك مكاتب جريدة (طنين) التي عطلت فظهرت

باسم (سنين) ، وهي لسان أولئك الزعماء المعروفين من الاتحاديين، الذين نقضوا

ما أبرمه حسين حلمي باشا من الاتفاق مع إمام اليمن على ما فيه حفظ سيادة الدولة

وحقوق الإمام في قومه، وحقن الدماء وعمران البلاد، وآثروا عليه إضعاف الدولة

والأمة بإزهاق الأرواح، وإضاعة الملايين من الأموال، وزيادة البلاد خرابًا على

خراب.

في هذه الفترة التي ضعف فيها نفوذ أولئك الزعماء، وقوي فيها نفوذ الخلافة،

نرجو أن يصيب اليمن نفحة من الرحمة التي لها السلطان الأعلى في قلب مولانا

محمد رشاد، فأهل اليمن أحق بهذه الرحمة من أهل ألبانية إن لم يكونوا مثلهم سواء،

فإذا كان الشعبان سواء في العثمانية في نظر السلطان، من حيث هو في القانون

الأساسي سلطان جميع العثمانيين، فينبغي أن يكون لأهل اليمن امتياز ما في نظره،

من حيث هو في ذلك القانون خليفة المسلمين، فالحجة لم تتعد الدستور فيما يطلب

للفريقين.

أما هذا الامتياز؛ فلمجاورتهم للحرمين الشريفين، وكونهم سياجًا لهما،

فإن بلاد اليمن إذا وقعت في يد دولة أجنبية - لا سمح الله تعالى - يزول نفوذ الدولة

من الحجاز وسلطتها عليه؛ ولما ورد فيهم من الأحاديث الشريفة التي يحترمها

الخليفة من حيث هو خليفة أشد من احترامه للقانون الأساسي.

روى الشيخان وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاكم أهل اليمن

هم أرق أفئدة وألين قلوبًا، الإيمان يمان والحكمة يمانية) وآخر الحديث في الإيمان

والحكمة رواه كثيرون، وروى أحمد والطبراني وغيرهما عن محمد بن جبير بن

مطعم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاكم أهل اليمن مثل السحاب

خيار من في الأرض. ثم استثنى الأنصار بإلحاح واحد منهم.

وروى الطبراني عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أين

أصحاب اليمن هم مني وأنا منهم، وأدخل الجنة فيدخلونها معي. أهل اليمن

المطروحون في أطراف الأرض المدفوعون عن أبواب السلطان، يموت أحدهم

وحاجته في صدره لم يقضها) .

والأحاديث فيهم كثيرة، ويدخلون فيما ورد في العرب عامة كحديث؛ أحبوا

العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي. رواه

الطبراني والحاكم وغيرهما بسند صحيح. وحديث: (إذا ذلت العرب ذل الإسلام)

رواه أبو يعلى بسند صحيح.

لا شك عندنا في حب مولانا محمد رشاد للعرب وحبه للرحمة، فإذا لم ينل

أهل اليمن حظ من عنايته، فلا شك أن علة ذلك تكون من حكومته لا منه، ويكون

ذلك دليلاً على أن عنايتها بمسألة الألبانيين هي من ضغط أوربة، كما تدعي

البرقيات والجرائد الأوربية، لا من إيثار الرحمة على القسوة، والله نسأل حسن

العاقبة، وما فيه الخير للملة والدولة.

_________

ص: 477

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جماعة الدعوة والإرشاد

(مكان إدارتها ومدرستها)

استأجرت هذه الجماعة القصر الشرقي من قصري الروضة بالمنيل من وقف

علي شريف باشا، الذي هو عن يمين كُبري الملك الصالح بالنسبة إلى المتوجه

إلى الجيزة؛ لتنشئ فيه مدرستها الكلية (دار الدعوة والإرشاد) ، ويكون مركز

إدارتها، وسيجلب إليه في الشهر الآتي كل ما يحتاج إليه من الفرش والمقاعد

والماعون، ثم ينشر نظام المدرسة، ويختار لها المعلمون والتلاميذ الداخليون

والخارجيون، وتفتح بعد رمضان الآتي إن شاء الله تعالى.

* * *

(الأعضاء المؤسسون)

أرسل إليّ الشيخ قاسم آل إبراهيم عضو الشرف الأول والسابق بماله إلى

التأسيس حوالة من باريس على أحد المصارف بمبلغ ألف جنيه إنكليزي، وهو

القسط الثاني من تبرعه، فجزاه الله أفضل الجزاء، وقد أثنت على هذا السخيّ

الكريم أشهر الصحف الإسلامية في مصر وسورية والآستانة وروسية والهند

وغيرها من الأقطار.

وقد تبرع للجماعة فقيد القطر وزيره الأكبر المرحوم مصطفى رياض باشا

بمائة جنيه مصري، وكان يرجى منه أن يوالي تبرعاته بمثل ذلك في كل عام،

فرحمه الله تعالى وأكرم مثواه.

وتبرع لها عبد الستار أفندي الباسل شيخ قبيلة الرماح بالفيوم بخمسة وعشرين

جنيهًا مصريًّا، وتبرع كل واحد من الفضلاء الذين نذكر أسماءهم هنا بعشرين

جنيهًا مصريًّا قبل مضي شهرين من إعلان نظام الجماعة الأساسي، فكانوا كلهم من

الأعضاء المؤسسين وهم عبد الله بك فائق مأمور عمل كسوة الكعبة المشرفة،

والدكتور عبده أفندي إبراهيم مفتش الصحة في السنبلاوين، ومحمد نجيب أفندي

المعاون الأول لمركز إمبابه، وإبراهيم بك الهلباوي المحامي الشهير بمصر،

وحنفي بك ناجي، وإبراهيم أفندي داود، كلاهما من وجهاء مصر، وإبراهيم بك

غزالي من أعيان أبنوب، وحسن بك عبد الرزاق المحامي الشهير بمصر، وكذلك

السيد محمد نصيف وكيل إمارة مكة بجدة تبرع بخمسة وعشرين جنيهًا إنكليزية.

وتبرع لها آخرون تبرعًا لم يكونوا به من الأعضاء المؤسسين، وقد نشرت

أسماء بعضهم في الجرائد اليومية، وستنشر أسماء الباقين، واشترك فيها بعض

أهل الغيرة اشتراكات سنوية، وستنشر أسماءهم كلهم في الجرائد اليومية أيضًا،

وتنشر أسماء الجميع في الكراسة التي تصدرها الجماعة في آخر سنتها، وقد وعد

كثيرون بالتبرع والاشتراك في الخريف الآتي، وهو موعد موسم القطن جعله الله

مباركًا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 480

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

اتخاذ بعض مسلمي جاوه الناقوس وفتاوى في ذلك

(س39) من صاحب الإمضاء في مكة المكرمة.

حضرة علامة الزمان، ونور حدقة العرفان، القائم بإحياء شريعة سيد ولد

عدنان، العالم المحقق، والفاضل الكامل المدقق، الجامع بين المعقول والمنقول،

والمشيد أركان الفروع والأصول، سيدي وعمدتي وإمامي وقدوتي، السيد محمد

رشيد رضا، أدام الله وجوده وإنعامه وجوده آمين.

(ما قولكم دام فضلكم ونفعنا الله بعلومكم)

في أهل بلد يضربون الناقوس للإعلام بأوقات الصلاة المكتوبة ونحوها،ولا

يكتفون به عن الأذان والإقامة، ولم يقصدوا بذلك التشبه بالنصارى، بل لإنهاض

المسلمين للصلوات بسماع صوته، مع كونه صار معتادًا عندهم في بلادهم،

والنصارى قد تركوه بالكلية، هل يجوز لهم فعل ذلك أو لا؟ وهل يكفر فاعله أو لا؟

بينوا لنا حكمه بالجواب الشافي، فلكم الأجر من الملك الباري، سيدي.

(وقد رفعت هذه المسألة إلى بعض العلماء فأجاب بما صورته)

الجواب (1)

إن ضرب الناقوس لا يجوز بحال للنهي عنه، قال الشبراملسي نقلاً عن

ابن حجر ما نصه في سيرة الشامي: (اهتمّ صلى الله عليه وسلم كيف يجمع الناس

للصلاة، فاستشار الناس، فقيل: انصب راية، ولم يعجبه ذلك، فذكر له القنع؛

وهو البوق، فقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس، فقال: هو من أمر

النصارى، فقالوا: لو رفعنا نارًا، فقال: للمجوس، فقال عمر: أَوَلا تبعثون رجلاً

ينادي بالصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم أنت فناد بالصلاة) قال

النووي هذا النداء دعاء إلى الصلاة غير الأذان؛ إذ كان شرع قبل الأذان. قال

الحافظ ابن حجر: وكان الذي ينادي بلال الصلاة جامعة. اهـ.

وهو كما ترى مشتمل على النهي عن الناقوس والأمر بالذكر ا. هـ. ع.ش وقد

عدّ الفقهاء ضرب الناقوس من المنكرات التي يمنع الكفار من إظهارها في بلاد

المسلمين، قال في المنهج مع شرحه: ولزمنا منعهم إظهار منكر بيننا كإسماعهم

إيانا قولهم الله ثالث ثلاثة، واعتقادهم في عزير والمسيح عليهما السلام، والناقوس

وعيد لما فيه من إظهار شعار الكفر ا. هـ وقال في النهاية: ويُتلف ناقوس أَظْهَرُوه.

اهـ. وحيث ورد النهي فيه بخصوصه، وصرح بأنه من أمر الكفار أي شعارهم،

وعده الفقهاء من جملة المناكر التي يمنعون من إظهارها في بلادنا، فكيف يجوز لنا

فعله وإظهاره ببلادنا وجعله من شعار ديننا، فما هو إلا مخالف للنهي وفعل للمنكر

والمنهي عنه، وجعل شعار الكفار شعارًا للمسلمين، ما أقبحه من شعار نهى عنه

صلى الله عليه وسلم وتركه الكفار وخلفهم فيه المسلمون، لكن مع حرمته لا يكفر

فاعله؛ لأنا لا نكفر أهل القبلة بالوزر، ولم أر أحدًا من العلماء قال بجوازه فيما

أعلمه من كتب المذهب، والعلم أمانة. وأما اعتياد الجاويين له مع عدم قصدهم

التشبه بالكفار، ومع ترك الكفار له فلا يصيره مباحًا؛ لأن ما ورد النهي عنه

بخصوصه، وصرح الفقهاء بتحريمه لا ينقلب مباحًا كما هو ظاهر، والخير كله

في الاتباع والشر كله في الابتداع. وأما ما اعتاده المسلمون في بعض البلاد

الجاوية من ضرب الطبل الكبير؛ لجمع الناس للصلاة، فلا بأس به؛ لأن كل طبل

مباح إلا طبل اللهو كالكوبة، وهذا ليس منه فهو مباح كطبل الحجاج. قال

الشرقاوي: الناقوس قطعتان من خشب أو نحاس أو نحو ذلك، تضرب إحداهما في

الأخرى للإعلام بأوقات الصلوات مثلاً ا. هـ فيعلم منه أن ما تضربه النصارى من

الصفر (أي النحاس) المجوف الكبير للإعلام بالساعات يكون من جملة الناقوس،

والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى.

(2) وأجاب بعض آخر بما صورته.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم هداية للصواب، وإليه

المرجع والمآب. أما ضرب الناقوس للإعلام بدخول وقت الصلاة فحرام وإن كان

لغرض جمع الناس للجماعة؛ لأن هذا الداعي لا يقتضي تجويز ارتكاب الحرام،

بعد أن نهى الشارع عن الناقوس بخصوصه، وعين للإعلام الأذان المخصوص،

وحينئذ يجب منع الناقوس؛ لخصوصه الإعلام، يزاد في المؤذنين بقدر الحاجة،

وإلا كان في عدم المنع افتيات على الشارع، ويأثم الراضي به إن كان له قدرة على

إزالته ولم يزله، لكنه لا يكفر؛ إذ كل حرام لا يوجب الكفر، كما هو مذهب أهل

السنة خلافًا لما زعمه البعض من التكفير، فإنه زلة فاحشة وغلطة فاشية؛ لأن باب

التكفير خطر، والإقدام على الحكم به على أحد المسلمين أشد خطرًا أو أعظم جرأة

على ما حث عنه (؟) العلماء،وطوق عنان ألسنتهم عن المجازفة فيه والتعرض له،

ما لم يكن لفظ صريح أو فعل كذلك يدل على التكفير، ثم إن المقتضي لتحريم

الناقوس ليس هو التشبه بما هو من شعار الكفار، كما زعمه البعض الآخر المجوز

له، بل المقتضي له النهي فيه بخصوصه، فلعل المخلص من ارتكاب الحرام في

الناقوس هو أن يقوم الأذان على الناقوس، بحيث يصير القصد به الإعلام كما هو

الغرض، فإذا ضرب الناقوس بعد ذلك لقصد جمع الناس لا الإعلام بدخول الوقت،

فلا بأس به، والحالة ما ذكر والله أعلم.

(3) وأجاب بعض آخر بما صورته:

الحمد لله وحده، لضرب الناقوس نظائر كثيرة من البدع، بعضها حرام

وبعضها مكروه، فالقياس أن ضرب الناقوس حرام؛ لأن فيه بدعة وشبها لدين

الكفار، وأنه يجب على من له شوكة ومنزلة منع ذلك؛ لأن العوام قد يعتقدون أنه

مشروع مثل: الأذان والإقامة، فتأمل بإنصاف، والله أعلم.

وهذه الأجوبة التي نقلناها لكم بحروفها مما لا يشفي الغليل، وكيف لا

والحديث الذي ساقه المجيب الأول، لا تكون دلالته على المعنى قطعية، لا يحتمل

لفظه غير هذا المعنى، والنهي إنما يكون للتحريم إذا كانت دلالته على المعنى كذلك

كما في الأصول، وقد قال ع. ش؛ وهو كما ترى مشتمل على النهي عن الناقوس

والأمر بالذكر ا. هـ وهو لم يصرح بأن النهي للتحريم، ولو عمل عليه فسياق آخر

كلامه من قوله والأمر بالذكر مانع عنه؛ لأن الأمر ليس محمولاً على الوجوب؛

لأنه إنما يكون للوجوب إذا كانت دلالته قطعية كما في النهي، وإن قول المجيب

الثاني: ثم إن المقتضي لتحريم الناقوس ليس هو التشبه إلى أن قال: بل المقتضي

له النهي فيه بخصوصه صريح في أن ذات الناقوس حرام، وقوله: فلعل المخلص

إلى آخر جوابه صريح في أنها ليست بحرام، فتعارضا، وإذا تعارضا تساقطا فلم

يكن في الجواب نتيجة، وإن قول المجيب الثالث: لضرب الناقوس نظائر كثيرة

من البدع بعضها حرام وبعضها مكروه، فالقياس أن ضرب الناقوس حرام فيه

غموض يحتاج إلى البيان، وكيف لا، وإنه لم يصرح للقياس بأنه أعلى أو أدنى أو

مساو، وإنه لم يذكر المقيد حتى يعلم مما ذكر، وإن العلة التي ذكرها صريح في

أن علة التحريم هي المشابهة لدين الكفر، وقد عارضه المجيب الثاني بقوله: ثم إن

المقتضي لتحريم الناقوس ليس هو التشبيه إلى آخره، على أن العلة التي ذكرها

فيها تساهل؛ لأنه علل البدعة بكونها بدعة، فهو من تعليل الشيء بنفسه، فحكمه

لا يخفى على من له أدنى مسّ في علم الأصول، فمن فيض مولانا أن تفتونا

بالجواب، فلكم الأجر والثواب، من الملك الوهاب.

...

...

...

من الحقير الراجي القبول

...

...

...

... عبد الحافظ الجاوي

(ج المنار) ما كان يخطر على بالي أننا وصلنا من الجهل بالمسائل

العملية والشعائر المعلومة بالضرورة من ديننا إلى حيث صرنا نعد ضرب

الناقوس في مساجدنا مسألة نظرية، يستفتى فيها المفتون، فيجعلون عهدتهم

كلام مثل الشبراملسي، يستنبطون منه الحكم، ثم تكون فتواهم موضع النظر

ومحل النقد والبحث.

يا رباه! ما هذا التناقض في العقائد والعبادات والآداب الذي ابتلي به

المسلمون منذ انحرفوا عن هداية كتابك العزيز وسنة نبيك الكريم، إنهم يتركون

العلوم والفنون والصناعات الواجبة عليهم لحماية دينهم وملكهم؛ لأن غيرهم سبقهم

في هذا العصر إليها، ويزعمون أنهم بتعلمها والانتفاع بها يكونون متشبهين بالكفار،

ثم إنهم يتخذون نواقيس الكنائس في مساجدهم، ويعدون ذلك من المسائل

الاجتهادية التي تختلف فيها الأنظار، فيترك بعضهم أخذ الحكمة التي هي ضالة

المؤمن عن غير أبناء دينهم، ويأخذ بعض آخر منهم شعائر الدين نفسها عن أولئك

الأغيار!!

إن الله تعالى أخبرنا بأنه أتم دينه وأكمله، فلا يجوز إذًا لأحد أن يزيد فيه ولا

أن ينقص منه برأيه الذي يسميه قياسًا أو غير ذلك من الأسماء، والزيادة والنقص

أو التغيير في الشعائر أغلظ من مثله في أعمال الأفراد في خاصة أنفسهم، وأغلظ

ذلك ما كان موافقًا لعبادة غير المسلمين؛ كاتخاذ الناقوس للإعلام بالصلاة. ولا

يجوز أيضًا ما ليس كذلك؛ كاتخاذ الطبل للإعلام بها. كل ذلك بدعة في الدين،

وكل بدعة فيه ضلالة. وأما البدعة التي تعتريها الأحكام الخمسة فهي البدعة في

الأمور الدنيوية والاجتماعية، وإن كانت مفيدة في تأييد الدين؛ كالفنون اللغوية

والرياضية والطبيعية.

الفتاوى التي أوردها السائل صواب في جملتها وحاصلها، ولا أدخل معه في

باب مناقشة أصحابها في عبارتهم، فإن أمثال هذه المناقشات والاستنباط من كلام

المؤلفين والمفتين وجعلها كنصوص الشارع؛ هو الذي جعل أكثر كتب المتأخرين

مملوءة باللغو مبعدة عن حقيقة الدين.

لا موضع للمراء في كون ضرب الناقوس للإعلام بالصلاة بدعة في عبادة

هي أظهر شعائر الإسلام، فمثل هذا لا يحتاج القول بتحريمه إلى دليل؛ لأنه معلوم

من الدين بالضرورة، والأدلة العامة عليه كثيرة، كقوله تعالى:

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21)

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أحمد ومسلم: كل بدعة ضلالة وكل

ضلالة في النار وتقدم المراد بالبدعة آنفًا، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث

الصحيحين عن عائشة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) والمراد

بأمرنا أمر ديننا، فلا يرد ما قاله بعضهم في سائر الأحداث أنها تعتريها

الأحكام الخمسة، بل العموم في الحديث على ظاهره.

على أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أن جعل شعار ديني للنصارى شعارًا دينيًّا

للمسلمين من غير قسم الحرام. وإلا لجاز تغيير جميع شعائر الإسلام، والجمع بين

الكفر والإيمان.

هذا، وإن من أراد أن يأخذ من كلام الفقهاء ما يستدل به على ردة من

ضرب الناقوس، مستحلًّا له في مثل واقعة السؤال، فإنه لا يعوزه ذلك من كلامهم،

وقد كفر بعضهم من عمل ما هو دون ذلك. وناهيك بابن حجر الهيتمي الذي هو

عمدة أهل جاوه في دينهم، فإنه شدد في المكفرات تشديد الحنفية، كما يعلم من

كتابه (الإعلام في قواطع الإسلام) فإنه ذكر كثيرًا من المكفرات باللازم القريب بل

البعيد جدًّا. وما لنا وللتكفير والمتوسعين فيه، حسبنا أن ننكر هذه الضلالة أشد

الإنكار، ونحث كل من يصل إليه صوتنا في تلك البلاد على إزالتها ما استطاع إلى

ذلك سبيلاً.

***

(عبادة نهر في البحرين برؤيا امرأة)

(س40) من صاحب الإمضاء بجزيرة البحرين

بسم الله الرحمن الرحيم

سيدي الفاضل صاحب المنار المنير أدام الله وجوده.

ثم سلام الله عليك ورضوانه، وبعد، فقد حدث في بلادنا توًّا حادث يستحق

الذكر، وذلك أن امرأة من عامة المسلمين ادعت أن أحد المشايخ أو الأولياء على

زعمها، أتاها في المنام وأخبرها أنه على مسافة نصف ميل من البلاد يوجد نهر

جار (وهو كذلك إذ إن هذا النهر معروف من القدم) وعلى حافة النهر يوجد

صخرة كبيرة (وهذه أيضًا مشاهدة منذ حين) وإنه ضرب بيده تلك الصخرة،

فتفجر منها الماء العذب، وأمرها أن تخبر أهل البلاد كي يأتوا ويغتسلوا ويشربوا

من هذا الماء لأن كل من شرب أو اغتسل منه برئ من جميع العلل والعاهات.

وبالفعل إن هذه المرأة أخبرت أهل البلاد بذلك فصدقها كثير من الناس، وذهبوا إلى

ذلك النهر، وأخذوا يغتسلون ويشربون منه، وينقلون منه إلى القرى المجاورة،

وبسرعة البرق انتشر هذا الخبر بأطراف البلاد، فتهافت الناس على هذا النهر

كتهافت القطا، وعكفوا عليه عكوفهم على الحجر الأسود، معتقدين فيه كاعتقادهم

بالله، حتى كثر الضجيج والازدحام عليه بما يفوق حد التصور، حتى أصبح هذا

النهر الصغير في بلادنا شبيهًا بنهر الكنج بالهند. ولقد ذهبت بنفسي مع بعض

الأصدقاء لمشاهدة ذلك، ولكثرة الزحام لم أقدر أن أتصل بذلك النهر إلا بعد شق

النفس، فرأيت أن النهر لم يتغير عما كان عليه سابقًا، ولقد رثيت لحالة بعض

الأطفال الذين يكادون يموتون غرقًا؛ لكثرة ما تغطسهم أمهاتهم في الماء؛ ابتغاء

البركة والتقديس، فما قول سيدي الأستاذ في ذلك؟ وهل الشرع يبيح مثل هذا؟

وهل من العدل أن يترك هؤلاء العامة على ضلالهم؟ أجيبوا عن ذلك على صفحات

مناركم الزاهر؛ أدامكم الله نبراسًا يهتدي به من ضل عن محجة الصواب. واقبلوا

في الختام فائق احترام.

...

...

...

...

الداعي المخلص

...

...

...

... ناصر مبارك الخيري

(ج) حاش لله، لا يبيح دين التوحيد هذه الضلالة بل الوثنية الظاهرة، وما

حيلتنا والمسلمون قد لبسوا دينهم مقلوبًا، فأنكر كثيرون منهم النفع والضرر عن

طريق الأسباب؛ زعمًا منهم أن ذلك ينافي التوحيد الذي يقصر النفع والضرر على

الخالق عز وجل؛ ولذلك قصّروا كلهم في علوم هذه الأسباب التي قوي بها غيرهم،

حتى سلبهم ملكهم، والأسباب لا تنافي التوحيد بل تؤيده؛ لأنها سنن الله تعالى.

ولكن الذي ينافيه هو التماس النفع ودرء الضر من المخلوقات التي جرت سنة الله

بجعلها أسبابًا عامة لذلك، وهو ما فشا فيهم بتوسعهم بما سموه الكرامات، فقدسوا

الأنهار والأشجار والأحجار، وطلبوا منها جلب المنافع ودرء المضارّ، وهذه هي

الوثنية الجلية بعينها، فتقديس نهركم ليس بالأمر الذي لا نظير له عندهم، بل له

نظائر في جميع الأقطار الإسلامية أو أكثرها.

جعل الحجر الأسود في الكعبة مبدأ للمطاف؛ لكيلا يختل النظام بطواف

الناس من أماكن مختلفة، فيختلط الحابل بالنابل، فصار بذلك من شعائر الحج، وقد

قال النبي صلى الله عليه وسلم عنده: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع وكذا

أبو بكر رواه ابن أبي شيبة والدارقطني، وقال مثل ذلك عمر جهرًا (رواه

الشيخان) ونحمد الله أن صان المسلمين من عبادته بطلب النفع منه والاستشفاء به،

وصان بيته من الشرك أن يعود إليه. فإذا كان هذا الحجر الذي لمسه أفضل

الأنبياء والمرسلين من إبراهيم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام لا ينفع ولا يضر،

فكيف ينفع أو يضر مثل عمود الرخام المعروف في المسجد الحسيني بمصر، وهو

لا يمتاز عن غيره من العمدة التي هناك ولا عن غيرها، أوينفع ذلك الماء الذي

صور الشيطان لتلك المرأة الخرقاء في نومها أنه جرى كرامة لولي من الأولياء.

إن موسى كليم الله عليه السلام قد ضرب بعصاه الحجر، فانفجر منه الماء،

فشرب منه بنو إسرائيل. ولكن لم يعبدوه ولم يستشفوا به، ولم يتبركوا به، ولم

يقدسوه لا بأمر موسى ولا باجتهاد منهم؛ لأن ذلك يهدم التوحيد الذي جاء به موسى،

فكيف يبيح دين التوحيد أن يقدس ماء ليس له مثل تلك المزية، بل ليس له مزية

ما على غيره بدعوى تلك الرؤيا الشيطانية.

أما والله لو رأيت بعيني من أعتقد أنه من أولياء الله الصالحين ضرب صخرًا،

فانفجر منه الماء لما قدست ذلك الماء، ولا استشفيت به لأجله. وإني لأعلم أن من

الماء ما هو سبب لشفاء بعض الأمراض لمعادن تتخلله، ولكن لا يوجد في الدنيا

شيء ينفع أو يضر كرامة منصوبة لأحد من الأولياء.

لو كان في الدنيا شيء ينفع لأجل من اتصل به من الصالحين، وكان طلب

النفع منه مشروعًا، لكان أولى الأشياء بذلك الحجر الأسود، وقد علمت ما ورد فيه

ثم الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها أصحابه الكرام بيعة الرضوان،

وقد قطعها عمر رضي الله عنه وأخفى أثرها بإقرار الصحابة كلهم؛ لما علم أن

بعض من لم يفهم الإسلام بدأوا يتبركون بها. ومن المصائب أن صرنا محتاجين

إلى إقناع المسلمين بالتوحيد، وأن نرى من الصعب أن يقتنعوا به، فهل يستغرب

مع هذا أن يظهر فيهم الدجال ببعض هذا الغرائب التي يسمونها كرامات، فيخضع

له الكثيرون.

***

صعود السيد المسيح إلى السماء

(س41) من صاحب المضاء بصيدا

حضرة العلامة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا حفظه الله.

(1)

هل صعد السيد المسيح إلى السماء بجسمه أم بروحه.

(2)

هل نزوله في آخر الزمان إلى الأرض، وحكمه بالشريعة المحمدية

مأخوذ من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، أفيدونا نفعنا الله

بعلمكم

...

...

...

...

أحد المشتركين

...

...

...

... أحمد إسماعيل القطب

أما الصعود فلم يذكر في القرآن، وإنما جاء فيه لفظ الرفع، قال تعالى:

{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء: 157-158) كما قال في إدريس

{وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِياًّ} (مريم: 57) وقد أسند الرفع إلى الله تعالى للإشارة على أنه

ليس للمرفوع فيه كسب ولا اختيار، وهو يحتمل الرفع المعنوي؛ كقوله تعالى في

الذي آتاه آياته فانسلخ منها {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} (الأعراف: 176) ولم يقل أحد

إن المراد لرفعناه بجسمه. والجمهور يقولون: إن عيسى رفع بروحه وجسده، قيل

بعد وفاته، وقيل قبلها، والله أعلم.

وأما نزوله في آخر الزمان، وحكمه بالشريعة المحمدية، وكسره للصليب

وقتله للخنزير، فليس لها نص في القرآن، وإنما وردت بذلك أحاديث روى

بعضها الشيخان، والله أعلم.

***

(إتيان الزوج في غير المأتى)

(42)

من أحد المشتركين في جدة

ملخص السؤال أن أحد مدرسي الشافعية في جدة، ذكر في درسه أن إتيان

الرجل امرأته في غير موضع الحرث من الذنوب الصغائر. فأجابه أحد السامعين

بكلام خلاصته أنه لا يجوز إفشاء هذا النص؛ لئلا يتجرأ به الجاهل على هذه

المعصية التي وردت في النهي عنها الأحاديث الشريفة، ونص عليها الشافعي نفسه

في الأم، وما ورد فيها يدل على أنها من الكبائر. فاستاء المدرس واستفتى في ذلك

مفتي الشافعية بمكة المكرمة فأفتى بإقراره على ما قرر، وبزجر المعترض وتعزيره.

قال سائلنا: (وحيث وجد في الصحاح وفي الأم للإمام الشافعي ما يخالف ما

أورده المدرس المذكور، حصل إشكال عند طلبة العلم، ولهذا قدمنا إلى فضيلتكم

السؤال والجواب، ونسترحم إمعان النظر فيهما وبيان الحقيقة بنشرها في مجلتكم

الغراء؛ لإزالة الإشكال الواقع، والرد على الضلال المبين المخالف لأحاديث سيد

المرسلين)

إلخ.

(ج) إننا نعهد أن عمدة الشافعية من أهل الحجاز واليمن وحضرموت

وجاوه في المذهب كلام ابن حجر المكي الهيتمي، وهذا قد صرح في الزواجر بأن

هذه المعصية من الكبائر؛ مستدلاًّ بما ورد في الأحاديث من الوعيد والتشديد فيها،

ومنه تسميتها في الحديث كفرًا، ولعن فاعلها. وهذا بناء على ما اعتمده في تعريف

الكبيرة، فما بال ذلك المدرس ترك في هذه المسألة ما جزم به ابن حجر في

الزواجر، وهو خير كتبه؟ وما بال مفتي مكة شايعه على ذلك؟ لعل بعض

الشافعية لا يعتمدون بما يحققه ابن حجر في الزواجر؛ لأنه يستدل عليه بالكتاب

والسنة، وما أظن أن مفتي مكة يعد أفضل مزية لهذا الكتاب سببًا لعدم الاعتماد

عليه، ولا ندري ما هي الحكمة له في نصر ذلك المدرس في هذه المسألة.

هذا، وإنه ينبغي للمدرس وللمفتي أن يتحرّيا ما هو الأقرب إلى هداية

المتعلمين والسائلين بترك المنهيات وفعل المأمورات، وعلى هذا كان ينبغي إما

التصريح بأشد ما قاله العلماء في هذه المعصية، وإما السكوت عن تسميتها صغيرة

أو كبيرة، فإن هذا بحث علمي لا حاجة إلى ذكره في دروس العوامّ. على أن كون

المعصية تسمى صغيرة بالنسبة على غيرها أو باعتبار آخر لا يقتضي أن يستهان

بها، ويتجرأ على ارتكابها، ولكن العوام وأصحاب الأهواء يتجرءون بمثل هذا

على المعصية. وقد بينا في التفسير معنى الكبيرة والصغيرة بما يقطع عرق الغرور

والجرأة على ما يسمونه الصغائر. ولا أحب أن أخوض في أدلة واقعة السؤال في

المنار.

_________

ص: 502

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بحث الاجتهاد والتقليد

فصول من مختصر كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول

لابن أبي شامة الفقيه الشافعي

(فصل) وصح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من

الناس؛ ولكن يقبض العلماء فيقبض العلم، حتّى إذا لم يترك عالمًا، اتخذ الناس

رؤساء جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا، وما أعظم حظ من بذل نفسه وجهدها

في تحصيل العلم؛ حفظًا على الناس لما بقي في أيديهم منه، فإن هذه الأزمنة قد

غلب على أهلها الكسل والملل وحب الدنيا، قد قنع الحريص منهم من علوم القرآن

بحفظ سورة ونقل بعض قراءاته. وغفل عن علم تفسيره ومعانيه واستنباط أحكامه

الشريفة من مبانيه. واقتصر من علم الحديث على سماع بعض الكتب على شيوخ

أكثرهم أجهل منه بعلم الرواية فضلاً عن الدراية، ومنهم من قنع بزبالة أذهان

الرجال وكناسة أفكارهم، وبالنقل عن أهل مذهبه. وقد سئل بعض العارفين عن

معنى المذهب، فأجاب: إن معناه (دين مبدل)، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ

المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا} (الروم: 31-32) ألا ومع هذا

يخيل إليه أنه من رؤوس العلماء، وهو عند الله وعند علماء الدين من أجهل الجهل،

بل بمنزلة قسيس النصارى أو حبر اليهود؛ لأن اليهود والنصارى ما كفروا إلا

بابتداعهم في الأصول والفروع، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لتركبن

سنن من كان قبلكم

) الحديث.

(فصل) والعلم بالأحكام واستنباطها كان أولاً حاصلاً للصحابة رضي الله

عنهم فمن بعدهم، فكانوا إذا نزلت بهم النازلة بحثوا عن حكم الله تعالى فيها من

كتاب الله وسنة نبيه، وكانوا يتدافعون الفتوى، ويود كل منهم لو كفاه إياها غيره،

وكان جماعة منهم يكرهون الكلام في مسألة لم تقع، ويقولون للسائل عنها: أكان

ذلك، فإن قال لا قالوا دعه حتى يقع، ثم نجتهد فيه، كل ذلك يفعلونه خوفًا من

الهجوم على ما لا علم لهم به؛ واشتغالاً بما هو الأهم من العبادة والجهاد، فإذا

وقعت الواقعة، لم يكن بد من النظر فيها.

قال الحافظ البيهقي: وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن، ولم

يمض به كتاب ولا سنة، وكرهوا للمسئول الاجتهاد فيه قبل أن يقع؛ لأن الاجتهاد

إنما أبيح للضرورة ولا ضرورة قبل الواقعة، فلا يغنيهم ما مضى من الاجتهاد،

واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا

يعنيه) ، وعن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر:

أحرج الله على كل امرئ مسلم سأل عن شيء، لم يكن فإنه قد بين ما هو كائن،

وفي رواية: لا يحل لكم أن تسألوا عما لم يكن، فإنه قد قضى فيما هو كائن (قلت)

وهذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} (المائدة:

101)

إلخ وعن عبد الرحمن بن شريح أن عمر بن الخطاب كان يقول: إياكم

وهذه العضل، فإنها إذا نزلت بعث الله لها من يقيمها ويفسرها.

(قلت) إنما يضطر إلى الاجتهاد في الأحكام الحكّام، ولم يأتِ الاجتهاد لغير

الحكام؛ لحديث معاذ: إن لم أجد في كتاب الله تعالى فبسنة رسول الله، وإن لم أجد

في سنة رسول الله أجتهد برأيي. لأنه كان حاكمًا، وقوله عليه السلام: أقضي بينكم

برأيي فيما لم ينزل علي فيه شيء وهو حاكم، وكذلك قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ

إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ} (الأنبياء: 78) لأنهما كانا حاكمين، فالاجتهاد بمنزلة

الميتة، قال الثعلبي والشافعي: لا يحل تناولها إلا عند المخمصة. والذي ليس بحاكم

ويجتهد برأيه، فمثله كمثل رجل يقعد في بيته ويقول: جاز أكل الميتة لفلان، ويجوز

أكلها لي أيضًا. فكذلك لا يجوز لأحد أن يحتج بقول المجتهد؛ لأن المجتهد

يخطئ ويصيب، فإذا كان شيء يحتمل أن يكون صوابًا وخطأ فتركه أولى

مثل: الشبهات من الطعام، تركه أولى من تناوله.

(وعن) الصلت بن رشد قال: سألت طاووسًا عن شيء، فقال: أكان هذا،

قلت: نعم، قال: الله الذي لا إله إلا هو، قلت: الله الذي لا إله إلا هو، قال:

إن أصحابنا حدثونا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: يا أيها الناس لا تعجلوا

بالبلاء قبل نزوله، فيذهب بكم ههنا وههنا، وإن لم تعجلوا قبل نزوله، لم ينفك

المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا

تستعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إذا فعلتم ذلك لا يزال منكم من يوفق ويسدد،

وإنكم إن استعجلتم بها قبل نزولها تفرقتم) ، وكان إذا سئل عن الفتوى يقول:

(اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلّد أمور الناس وضعها في عنقه) ؛ إشارة إلى أن

الفتوى والقضايا والأحكام من توابع الولاية والسلطنة.

(قلت) بهذا السبب أخذوا سنن اليهود والنصارى، وزادوا عليهم

حتى صاروا ثلاثًا وسبعين فرقة، وحكم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم

من أصحاب النار، كما شهد للعشرة بأنهم من أصحاب الجنة، وقال مسروق: سألت

أبيّ بن كعب عن شيء، قال: أكان بعد؟ قلت: لا. قال: فاصبر حتى يكون، فإذا

كان اجتهدنا لك رأينا، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت مائة وعشرين

من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما منهم أحد يحدث بحديث إلا

ودّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ودّ أن أخاه كفاه إياه. وفي

رواية يسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول.

ثم بعد الصحابة أراد الله أن يصدق نبيه في قوله: (تفترق أمتي على بضع

وسبعين فِرقة، أعظمها فرقة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحللون

الحرام ويحرّمون الحلال) ، رواه البزّار في مسنده عن جبير بن نفير عن عوف

بن مالك الأشجعي عنه صلى الله عليه وسلم، فكثرت الوقائع والنوازل في التابعين

ومن بعدهم، واجتهدوا بآرائهم لمن اضطر ومن لم يضطر، ووصلت إلى من

بعدهم من الفقهاء، ففرعوا عليها وقاسوا واجتهدوا في إلحاق غيرها بها،

فتضاعفت مسائل الفقه، وشككهم إبليس ووسوس في صدورهم، واختلفوا كثيرًا من

غير تقليد، فقد نهى إمامنا الشافعي عن تقليده وتقليد غيره كما سنذكره في فصل،

وكانت تلك الأزمنة مملوءة بالمجتهدين، فكل صنف على ما رأى، وتعقب بعضهم

بعضًا مستمدين من الأصلين الكتاب والسنة، وترجيح الراجح من أقوال السلف

المختلفة بغير هوى.

ولم يزل الأمر على ما وصفت إلى أن استقرت المذاهب المدونة، ثم

اشتهرت المذاهب الأربعة، وهجر غيرها فقصرت همم أتباعهم إلا قليلاً منهم،

فقلدوا بعدما كان التقليد لغير الرسل حرامًا، بل صارت أقوال أئمتهم عندهم بمنزلة

الأصلين، وذلك معنى قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) فعدم المجتهدون، وغلب المقلدون، وكثر التعصب وكفروا

بالرسول [1] حيث قال: يبعث الله في كل مائة سنة من ينفي تحريف الغالين

وانتحال المبطلين وحجروا على رب العالمين مثل اليهود أن لا يبعث بعد أئمتهم

وليًّا مجتهدًا، حتى آل بهم التعصب إلى أن أحدهم إذا أورد عليه شيء من الكتاب

والسنة الثابتة على خلافه، يجتهد في دفعه بكل سبيل من التآويل البعيدة نصرة

لمذهبه ولقوله، ولو وصل ذلك إلى إمامه الذي يقلده لقابله ذلك الإمام بالتعظيم،

وصار إليه وتبرأ من رأيه مستعيذًا بالله من الشيطان الرجيم، وحمد الله على ذلك.

ثم تفاقم الأمر حتى صار كثير منهم لا يرون الاشتغال بعلوم القرآن والحديث،

ويرون أن ما هم عليه هو الذي ينبغي المواظبة عليه، فبدلوا بالطيب خبيثًا،

وبالحق باطلاً، واشتروا الضلالة بالهدى، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين،

ثم نبغ قوم آخرون صارت عقيدتهم في الاشتغال بعلوم الأصلين، يرون أن الأولى

منه الاقتصار على نكت خلافية وضعوها. وأشكال منطقية ألفوها، وقال عمر بن

الخطاب: اتهموا الرأي على الدين. وقال سهل بن حنيف: (اتقوا الرأي في دينكم) وقال عبد الله بن مسعود (يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام) .

(قلت) ما عبدت الشمس والقمر إلا بالرأي، ولا قالت النصارى ثالث ثلاثة،

ولا إن الله هو المسيح ابن مريم، ولا اتخذوا لله ولدًا إلا بالرأي، وكذلك كل من

عبد شيئًا من دون الله إنما عبده برأيه، فانظر إلى قول السامري: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ

لِي نَفْسِي} (طه: 96) وقال عبد الله بن عمر: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم

أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا. وقال

الأوزاعي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك رأي الرجال وإن

زخرفوه لك بالقول وقال أيضًا: إذا بلغك عن رسول الله حديث فإياك أن تقول

بغيره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبلغًا عن الله تبارك وتعالى وقال

أيضًا: العلم ما جاء عن أصحاب محمد وما لم يجئ عن أصحاب محمد فليس بعلم

يعني ما لم يجئ أصله منهم. وقال الشعبي: إذا جاءك الخبر عن أصحاب محمد

فضعه على رأسك، وإذا جاءك عن التابعين فاضرب به أقفيتهم وقال سفيان الثوري:

العلم كله بالآثار وقال ابن المبارك: ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي

ما يفسر لك الحديث وقال أحمد بن حنبل: سألت الشافعي عن القياس، فقال: عند

الضرورات. فكان أحسن أمر الشافعي عندي أنه إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به

وترك قوله. وقال الشعبي: القياس كالميتة إذا احتجت إليها فشأنك بها. قلت ما

أحسن قول القائل:

تجنب ركوب الرأي فالرأي ريبة

عليك بآثار النبي محمد

فمن يركب الآراء يَعْمَ عن الهدى

ومن يتبع الآثار يهد ويحمد

وقول بعض المغاربة:

لا ترغبن عن الحديث وأهله

فالرأي ليل والحديث نهار

وقول القائل:

انظر بعين الهدى إن كنت ذا نظر

فإنما العلم مبني على الأثر

لا ترض غير رسول الله متبعًا

ما دمت تقدر في حكم على خبر

ولم يختلف المفسرون فيما وقفت عليه من كتبهم في أن قوله تعالى:

{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) تقديره إلى

قول الله وقول الرسول، فيجب رد جميع ما اختلف فيه إلى ذلك، فما كان أقرب

إليه اعتمد صحته وأخذ به، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ردوا

الجهالات إلى السنة، وفي رواية يرد الناس من الجهالات إلى السنة، وهذه كانت

طريقة العلماء الأعلام أئمة الدين، وهي طريقة إمامنا أبي عبد الله الشافعي، ولهذا

قال ابن حنبل: ما من أحد وضع الكتب حتى ظهر خطؤه [2] أتبع للسنة من الشافعي.

ثم إن الشافعي رحمه الله احتاط لنفسه، وعلم أن البشر لا يخلو من

السهو والغفلة وعدم الإحاطة، فصح عنه من غير وجه أنه أمر إذا وجد قوله على

مخالفة الحديث الصحيح؛ الذي يصح الاحتجاج به أن يترك قوله ويؤخذ بالحديث،

أنبأنا الفاضل أبو القاسم عمن أخبره الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي؛ أنبأنا

أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: سمعت الربيع بن

سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله

صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنته ودعوا ما قلت. وقال صاحب الشافعي المزني في

أول مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقربه على من

أراده مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره؛ لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه.

أي مع إعلامي من أراد علم الشافعي نَهْي الشافعي عن تقليده وتقليد غيره، قال

الماوردي صاحب الحاوي: قوله ويحتاط أي كطلب السلف الصالح، يتبعون

الصواب حيث كان، ويجتهدون في طلبه وينهون عن التقليد.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

(المنار) قد يكون المراد كفر بعضهم، وهم الذين تركوا الكتاب والسنة ألبتة، وحصروا دينهم فيما ارتآه رؤساؤهم، وقد يكون من باب (كفر دون كفر) الذي ترجم له البخاري في صحيحه، ويظهر أنه سقط شيء من الكلام وهو بيان ما به الكفر، والحديث الذي ذكره بعد هذه الجملة لا يظهر اتصاله بها وهو ملفق من حديثين: حديث التجديد وحديث: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) رواه البيهقي في المدخل مرسلاً.

(2)

(المنار) : هاهنا سقط ظاهر ولعله: (إلا الشافعي وما رأيت إلخ) .

ص: 510

الكاتب: محمود سالم

‌كلمة في السياحة المفيدة

وفي العلم وأهله

] فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [[1](قرآن مبين)

يا أيتها الشبيبة المصرية التي عيونها كلها نور، وقلوبها كلها نار،

وأجسامها كلها قوة وصلابة، لماذا تقصرين الهمة على قراءة الأوراق والصحف،

ولا توجهين عنايتك بقدر الاستطاعة إلى السياحة؛ للاطلاع على ما خلق الله من

الغرائب والمدهشات، وعلى ما عملته أيدي الناس من البدائع؟

الرحلة في طلب العلم أكثر بركة من القراءة في الكتب ما عدا ذلك الكتاب

الحكيم. والاغتراب سنة واحدة بنية الاستفادة الحقيقية من المعارف أكثر فائدة من

القعود عشر سنين على عمى بين المحابر والدفاتر.

فرض الله الحج ورغب فيه كل من استطاع إليه سبيلاً. ومن فوائده العظيمة

التجول من بلد إلى بلد ومن قبيلة إلى قبيلة؛ لتتسع الأفكار وتستنير العقول. وهل

يقال (عالم) لمن لم يتجول في أرض الله الواسعة؛ ليعرف الحقائق؟ !

إن السياحة المقرونة بالحكمة والتبصر، تظهر عادات الأمم وأخلاقها

وفضائلها وعيوبها، ومقاصدها من هذه الحياة وسياستها مع الأقوام. ورُبّ أمور لا

تتأتى معرفتها في سنين من مطالعة الكتب تعلم بالتحقيق من طريق الرحلة في أقل

من لمح البصر. فسيروا في الأرض، واعلموا أن الشعوب كلها سبقتكم في طلب

العلم خارج حدود بلادها، حتى أهل الصين الذين كنا نظنهم أمواتًا، فها هم أولاء

الآن خارجون من ديارهم؛ لاقتباس النور حتى من أوطان أعدائهم؛ لينذروا

إخوانهم ويوقظوهم من سباتهم الطويل، متى رجعوا إليهم.

يا أيتها الشبيبة المصرية، تريدين أن تخرجي من الظلمات إلى النور، فعليك

بالعلم، والعلم كله في الكتاب العزيز، وهو مغلق على من لا يسرح نظره في

عجائب المخلوقات، إن أقرب طريق لفهم كلام الله هو التأمل في صنع الله، وما

خلقه في السماء والأرض. وهل يفسر كلام الله شيء كأعمال الله من الغرائب

المؤثرة والفرائد العجيبة! قال الله عز وجل ردًّا على من شك في أن الكتاب الحكيم

من عند الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: 53) .

* * *

...

] قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ

...

... أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ [[2]

...

...

...

...

(قرآن حكيم)

العلم آلة السيادة في كل زمان. به سادت مصركم أم الدنيا على الأمصار كلها،

به ساد الإسلام ويسود عن قريب إن شاء الله، وبه تتسامى الأمم اليوم أمام أعينكم.

فقد كانت شعوب الألمان والطليان واليابان منحلة أكثر من انحلالكم، ومتفرقة

أكثر من تفرقكم، ولكنها أصبحت بفضل العلم تتباهى على إخوانها، وتحكم في

القياصرة والجبابرة. وبالعلوم دخلت في جوف الأرض، وأخرجت الكنوز من

المعادن، وبها قطعت البحار ونشرت نفوذها على العالمين، وبها طارت في السماء

فسبقت النسور والعقبان.

إن الله سبحانه عرفناه بالعقل، فكذلك كتابه فهمناه بالعقل، ولولا هبة العقل

الربانية لما تمكنا من تفسير الكتاب العزيز. والعقل يزيد كل يوم في العلوم وينميها؛

لأن كل أمة تزيد في الكنوز التي أتت بها سابقاتها.

مر على المسلمين زمن كانوا يستعينون فيه على تفسير القرآن بأفكار أرسطو

وأفلاطون وبقراط وفيثاغورس وجالينوس وبيدبا من فحول اليونان والهنود

وغيرهم. أما نحن الآن ففي وقت لا يكفينا فيه رأي الأقدمين وحدهم، فقد استدار

الزمان وحدثت حوادث، وظهرت أقضية وأمور جديدة تستوجب البحث فيما قاله

أهل هذا الوقت مثل: لايبنيتس وأوجست كونت وسبنسر من فطاحل الألمان

والفرنسيس والإنجليز وغيرهم.

القرآن المجيد كثيرًا ما يحتاج مفسره إلى العلوم البشرية؛ لأن المعارف

الدنيوية والتجارب المفيدة والمباحث الدقيقة توضح آياته، كما توضحها

الاجتهادات العقلية والفيوضات الروحية، فكيف تترقى العلوم (العصرية) وتبقى

التفاسير على طريقها القديم في الطب والفلك والكيمياء وباقي العلوم والفنون التي لا

تحصى ولا تعد، بعد أن أفنى ابن آدم حياته فيها.

ترقي العلوم العصرية يضر بالأديان الباطلة، ولكنه من أكبر الفوائد للمسلمين؛

لأن كثيرًا من الآيات القرآنية المبهمة لا تلبث أن يظهر معناها عندما تظهر

حقائق علمية جديدة، كانت خفية على بني الإنسان.

سمعت مرة إنجليزيًّا من المهديين إلى الإسلام يقول:

هل يتأتى لجميع فلاسفة العالم أن يثبتوا غلطة واحدة في القرآن الكريم، ولو

ارتكنوا على كل ما في أيديهم من العلوم العصرية؟ لا يتأتى لهم ذلك. ولو وجدوا

فيه خطأ صغيرًا ما كانوا إلا مظهريه، ولكن أنى لهم ذلك، والعلوم كل يوم في

تبديل وتغيير، وكل لحظة تظهر معان باهرة لآيات ما كنا لنفهم معناها إلا بعد تقدم

العلوم. فلنضرب لكم مثلاً: كان الفلكيون يدعون أولاً أن الأرض ثابتة والشمس

متحركة، ثم قالوا: بل الأرض متحركة والشمس ثابتة، ثم جاءوا اليوم يقولون:

علمنا الآن أن كلًّا في فلك يسبحون، وأن الشمس حقيقة تجري لمستقر لها، فمن

ذلك تتأكد أن العلوم تتغير وتترقى، والقرآن ثابت لا يتأثر بالحوادث، فإن وجد في

الكتاب الحكيم شيء لا نفهمه، وجب علينا أن ننتظر رقيّ العلوم، ولا نشك لحظة

في صحة القرآن.

قصدت في سياحة من سياحاتي مدينة بونتارليه؛ لمقابلة الدكتور جرينيه

المسلم الفرنساوي الشهير؛ الذي كان في السابق عضوًا في مجلس النواب. قابلته

لأجل سؤاله عن سبب إسلامه فقال لي:

إني تتبعت كل الآيات القرآنية التي لها ارتباط بالعلوم الطبية والصحية

والطبيعية، وهي التي درستها من صغري، وأعلمها جيدًا، فوجدت هذه الآيات

منطبقة كل الانطباق على معارفنا الحديثة فأسلمت؛ لأني تيقنت أن محمدًا عليه

السلام أتى بالحق الصراح من قبل ألف سنة، من غير أن يكون له معلم أو مدرس

من البشر، ولو أن كل صاحب فن من الفنون أو علم من العلوم قارن كل الآيات

القرآنية المرتبطة بما تعلمه جيدًا، كما قارنت أنا لأسلم بلا شك إن كان عاقلاً خاليًا

من الأغراض.

هذا المثل أوردته لمن يريد أن يعتبر. فإن الدكتور (جرينيه) لو اقتصر في

فهم القرآن على ما جاء في أغلب التفاسير القديمة المحشوة بكثير من الخزعبلات

بفضل النساخ الدساسين لما اعتنق الإسلام، ولكنه عوّل على معلوماته المستنبطة

من آخر اكتشافات باستور وكوخ وأقرانهما الذين وصلوا بالميكروسكوب وباقي

الآلات المعظمة إلى نقط دقيقة، ما كان الجنس البشري ليحلم بها في منامه قبل

عشرات من السنين.

وكذلك علماء الفلك مثلاً من غير أهل الإسلام، لو بحثوا بحثًا دقيقًا في الآيات

الباهرات لظهرت لهم أنوار عظيمة، ولعلموا أمورًا كثيرة خفيت عليهم حتى الآن.

وإني أرى أن علماءنا الفلكيين لو فسروا الآيات الحكيمة بالمعارف التي

اكتسبوها من دروس الإفرنج، لازدادوا يقينًا ولأدهشوا معلميهم وأساتذتهم وأبعدوا

عن أذهانهم شبهات كثيرة. ولا يبعد شيء من ذلك على أبناء وادي النيل النبهاء؛

لأنهم ورثوا مجد آبائهم الأولين من أقوام الفراعنة الذين أفاضوا علومهم على ناشري

ألوية المعارف في المشارق والمغارب؛ من كهنة الهند وحكماء الصين وفلاسفة

اليونان؛ ولأنهم ورثوا في آن واحد معارف المسلمين الثمينة وخزنوها في أزهرهم

الأنور؛ ليردها الطلبة العطاش من أنحاء المسكونة. فلتمكُّن أبناء العرب

المصريين في أيامنا هذه من لغات الأجانب ومن لغتهم العربية المبينة، يتأتى لهم

أن يرتقوا مقامًا عاليًا بين الإفرنج والمسلمين؛ كأنهم الترجمان بين الأضداد،

والرابطة بين الأقران والأصفياء.

والعلوم العصرية التي يسهل الحصول عليها في أقرب من لمح البصر، متى

وجد التوفيق، وقصد بها الاستعانة على فهم الكتاب المجيد، لا يصعب بثها في

أقطار المسلمين القدسية الطاهرة التي يؤمها المسلمون من كل فج عميق،

ولارتباطنا بها بأقوى الروابط بعد رابطة الدين، وهي رابطة الجنسية ورابطة اللغة.

الشبيبة المصرية التي نراها الآن ضعيفة، لا حول لها ولا قوة في أعمال

القطر ستكون بعد عشر سنين أو خمس عشرة سنة متربعة في مراكز الحكومة،

وقابضة على زمامها من غير شريك ومعارض، فيلزمها أن تستعد لوظيفتها هذه

العالية من الآن؛ للاتفاق على نوع العمل وعلى طريق السير فيه. إنما لا يمكن ذلك

إلا إذا قامت طائفة مباركة أعضاؤها على السواء من طلاب العلوم العصرية، ومن

طلاب علوم الدين الإسلامي الحنيف، واستعدت تلك العصابة العصامية؛ لتتولى

السيادة العلمية في مستقبل الأيام ولترأس كنقابة عامة أدبية جميع أجزاء الأمة

المحمدية المشتغلين بالعلوم والفنون والمعارف. فليتضافر لذلك من الآن طلبة

الأزهر وطلبة كل المدارس الأخرى، ويمزجوا علومهم وأفكارهم العالية وإحساساتهم

الشريفة، فإن القوة تأتي من الاتحاد، ويجيء الضعف من الافتراق والانحلال،

وعلى الأقل يجب فتح باب (الجامعة المصرية) بكل الوسائل لمن كان من فرسان

العلوم الشرعية وباب (الجامعة الإسلامية الكبرى) لمن كان من فرسان العلوم

(الإفرنجية) فتترعرع من اليوم الطائفة القويمة، وبعد قليل من السنين تخرج

الشعب المصري إن شاء الله من الظلمات إلى النور ومعه إخوانه من عرب وعجم؛

لأن الإسلام جسم واحد، متى صلح عضو منه صلحت باقي الأعضاء. فهكذا

تدرجت قبلكم الشبيبة الألمانية؛ لخلاص شعوبهم من الجهل والضعف، فسافرت

واغتربت وتعبت، ثم اتحدت على مبادئ متينة أساسها خدمة الأوطان وخدمة اللغة

الألمانية. فبأعمالها تكونت الوحدة الجرمانية الكبرى التي ترهب الآن كل متكبر

عنيد، وقد تبعتها الشبيبة الإيطالية ثم اليابانية، فعملت عملها، فكونوا مثلهم

واتصلوا إلى أرقى مما وصل إليه الجميع. فإن تحصلتم على العلوم لأجل تنوير

معاني الكتاب الكريم، وطهرتم نفوسكم بمحاسن الآداب المحمدية في آن واحد،

استفدتم وأفدتم، وسهل الله لكم الأعمال، وأعلى شأنكم بين العباد، وإلا فإن بقيتم

على حالتكم منقسمين {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) هذا

متمسك بالجمود على القديم العقيم، وذاك بالتهافت على الجديد المبني على الفاسد،

فلا تلوموا إلا أنفسكم إذا أزمنتم فيما نحن فيه من الارتباك والفوضى.

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) .

...

...

...

القاهرة في 22 رجب الحرام

...

...

...

محمود سالم

_________

(1)

التوبة: 122.

(2)

(الرعد: 16) .

ص: 515

الكاتب: محمد سعيد

‌قانون الجامع الأزهر

والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية

نحن خديو مصر:

بناء على ما عرضه علينا رئيس النظار، وموافقة المجلس المشار إليه، وبعد

أخذ رأي مجلس شورى القوانين.

أمرنا بما هو آت

(الباب الأول)

(في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وفي الرياسة الدينية العامة وفي

الإدارات)

(الفصل الأول)

(في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى)

(المادة الأولى)

الجامع الأزهر هو المعهد الديني العلمي الإسلامي الأكبر، والمعاهد الأخرى

هي معهد مدينة الإسكندرية، معهد مدينة طنطا، معهد مدينة دسوق، معهد مدينة

دمياط، وكل معهد يؤسس في القطر المصري بإرادة سنية

وكذا كل معهد أهلي يتقرر إلحاقه بالجامع الأزهر أو بأحد المعاهد الأخرى

بالشروط والأوضاع التي تبين في لائحة يضعها المجلس الأعلى، ويصدق عليها

بإرادة سنية.

(المادة الثانية)

الغرض من الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى؛ هو القيام على حفظ الشريعة

الغراء، وفهم علومها ونشرها على وجه يفيد الأمة، وتخريج علماء يوكل إليهم أمر

التعاليم الدينية، ويلون الوظائف الشرعية في مصالح الأمة، ويرشدونها إلى طرق

السعادة.

(المادة الثالثة)

تكون مدرسة القضاء الشرعي قسمًا ملحقا بالجامع الأزهر، وتبقى حافظة

لنظامها المقرر لها في قانون 25 فبراير سنة 1907.

ويحل مجلس الأزهر الأعلى محل المعارف العمومية في جميع الاختصاصات

التي له الآن؛ بمقتضى القانون المشار إليه.

وتفصل ميزانية المدرسة عن نظارة المعارف، ويخصص لها باب مستقل في

ميزانية الحكومة العمومية، وتجري عليها الأحكام المتعلقة بها.

ويبقى موظفو المدرسة من مستخدمي الحكومة.

* * *

(الفصل الثاني)

(في الرياسة الدينية العامة)

(المادة الرابعة)

شيخ الجامع الأزهر هو الإمام الأكبر لجميع رجال الدين، والرئيس العام

للتعليم فيه وفي المعاهد الأخرى، والمشرف الأعلى على السيرة الشخصية الملائمة

لشرف العلم والدين بالنسبة إلى من ينتمي لجميع المعاهد من أهل العلم وحملة

القرآن الشريف، وكذا من كان من أهل العلم وحملة القرآن الشريف من غير

المصريين.

(المادة الخامسة)

شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس المجلس الأعلى؛ هو المنفذ الفعلي العام

لجميع القوانين واللوائح والقرارات المختصة بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى

وأرباب الوظائف في جميع المعاهد تابعون له بهذه الصفة وخاضعون لأوامره؛

طبقًا لما هو مقرر في هذا القانون.

* * *

(الفصل الثالث)

(في الإدارة العامة)

(المادة السادسة)

يكون لكل مذهب من المذاهب الأربعة بالجامع الأزهر شيخ، وكذا يكون لكل

معهد من المعاهد الأخرى.

ويحوز عند الاقتضاء تعيين وكلاء للجامع الأزهر ولباقي المعاهد، ويكون لهم

جميع الاختصاصات التي للمشايخ في حال غيابهم الرسمي.

(المادة السابعة)

يكون لكل قسم من أقسام التعليم بالجامع الأزهر المنصوص عليها بالمادة

السادسة والعشرين من هذا القانون؛ شيخ ومراقبون وكتبة.

ويجوز إيجاد هذه الوظائف في المعاهد الأخرى بقرار من مجلس الأزهر

الأعلى، إذا اقتضت أحوال التعليم ذلك، بعد أخذ رأي مجلس إدارة المعهد.

(المادة الثامنة)

يكون بالجامع الأزهر مجلس يسمى مجلس الأزهر الأعلى، وتنشأ مجالس

إدارة للأزهر ولمعهدي الإسكندرية وطنطا.

(المادة التاسعة)

يؤلف مجلس الأزهر الأعلى من شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيسًا، ومن

ثمانية أعضاء وهم:

شيخ السادة الحنفية.

شيخ السادة المالكية.

شيخ السادة الشافعية.

شيخ السادة الحنابلة.

مدير عموم الأوقاف المصرية.

ثلاثة ممن يكون في وجودهم بالمجلس فائدة، لترقية التعليم وحسن انتظام

إدارته؛ بشرط أن يكونوا من الحائزين للصفات الملائمة لحالة الجامع الأزهر

والمعاهد الأخرى.

ويكون تعيينهم بإرادة سنية بناء على قرار من مجلس النظار.

وفي غياب شيخ الجامع الأزهر، ينوب عنه في الرياسة شيخ السادة الحنفية.

(المادة العاشرة)

يختص مجلس الأزهر الأعلى بما يأتي:

أولاً - وضع الميزانية للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى.

ثانيًا - النظر في إنشاء المعاهد الدينية العلمية الإسلامية، وإلحاق بعض

المعاهد الصغرى بالتي هي أكبر منها أو تغيير تبعيتها.

ثالثًا - النظر في فصل المعاهد من تبعية غيرها، وجعلها تابعة للجامع

الأزهر مباشرة.

رابعًا - النظر في إنشاء مجالس إدارة للمعاهد التي ليس لها مجالس إدارة

خامسًا - وضع النظامات العامة للتدريس والامتحانات.

سادسًا - التصديق على تقرير الكتب التي تدرس بالجامع الأزهر والمعاهد

الأخرى.

سابعًا - النظر في ترشيح مشايخ المعاهد الأخرى والوكلاء، وترقيتهم ونقلهم

وفصلهم.

ثامنًا - النظر في ترشيح أعضاء مجالس الإدارة.

تاسعًا - التصديق على ما تقرره مجالس الإدارة؛ من تعيين المدرسين

والموظفين وترقيتهم ونقلهم وفصلهم.

عاشرًا - النظر في طلب منح كساوي التشريف العلمية لمستحقيها؛ بناء على

قرارات مجالس الإدارة.

(المادة الحادية عشرة)

ينعقد مجلس الأزهر الأعلى بالجامع الأزهر مرة في كل شهر على الأقل

بدعوة من الرئيس.

ولشيخ الجامع عقده أكثر من ذلك إن دعا الحال.

وينعقد أيضًا عند الاقتضاء، تحت رياسة سمو الحضرة الفخيمة الخديوية.

(المادة الثانية عشرة)

قرارات مجلس الأزهر الأعلى تكون بأغلبية الآراء وإن استوى الفريقان،

فالأرجحية للفريق الذي فيه الرئيس.

ولا تصح مداولته إلا إذا حضر الجلسة ستة من الأعضاء سوى الرئيس.

(المادة الثالثة عشرة)

يؤلف مجلس إدارة الأزهر تحت رياسة شيخ الجامع، وبعضوية ستة من

الأعضاء؛ واحد من علماء الحنفية، وواحد من علماء الشافعية، وواحد من علماء

المالكية، وواحد يختار كل سنتين من علماء أحد المذاهب المذكورة بالدور، واثنان

ممن يكون في وجودهم بالمجلس فائدة؛ لترقية التعليم وحسن إدارته؛ بشرط أن

يكونا من الحائزين للصفات الملائمة لحالة الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى،

ويكون تعيينهما بالكيفية المبينة في المادة التاسعة.

وفي غياب شيخ الجامع الأزهر، ينعقد المجلس تحت رياسة وكيل المشيخة،

وفي غيابه ينعقد تحت رياسة أكبر الأعضاء العلماء سنًّا.

(المادة الرابعة عشرة)

يؤلف كل من مجلس إدارة معهد الإسكندرية ومعهد طنطا تحت رياسة شيخه؛

وبعضوية أحد علماء الحنفية وأحد علماء الشافعية وأحد علماء المالكية بالمعهد،

وواحد ممن يكون في وجودهم بالمجلس فائدة؛ لترقية التعليم وحسن انتظام إدارته،

بشرط أن يكون من الحائزين للصفات الملائمة لحالة الجامع الأزهر والمعاهد

الأخرى.

ويكون تعيينه بالكيفية المبينة في المادة التاسعة.

وفي غياب شيخ المعهد ينعقد المجلس تحت رياسة وكيل المشيخة، وفي

غيابه ينعقد تحت رياسة أكبر الأعضاءالعلماء سنًّا.

ولشيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى أن يرأس بنفسه

عند الاقتضاء أيَّ مجلس إدارة في المعاهد الأخرى.

(المادة الخامسة عشرة)

يشترط في من يعيّن عضوًا في مجالس الإدارة من العلماء:

أولاً - أن يكون من أرباب كسوة التشريف من الدرجة الأولى أو الثانية.

ثانيا - أن يكون أمضى مدة أقلها عشر سنوات بصفة مدرس في الجامع

الأزهر أو المعاهد الأخرى.

فإن لم يوجد بالمعاهد الأخرى من يكون حائزًا لكسوة التشريف من الدرجة

الأولى أو الثانية، أو من لم يكن أمضى مدة عشر سنين بصفة مدرس يكتفى بمن

يكون حائزًا لكسوة التشريف من الدرجة الثالثة، أو بمن يكون أمضى في التدريس

مدة أقلها خمس سنين.

(المادة السادسة عشرة)

تختص مجالس الإدارة بما يأتي:

أولاً - تحضير الميزانية الخاصة بكل معهد.

ثانيًا - تقرير تعيين المراقبين والكتبة وكذا ترقيتهم ونقلهم وفصلهم.

ثالثًا - تقرير تعيين المدرسين والموظفين الغير المذكورين في الوجه السابق

وترقيتهم ونقلهم وفصلهم.

رابعًا - تقرير كُتُب الدراسة.

خامسًا - توزيع العلوم على المدرسين وتعيين المساجد أو الأماكن التي

تخصص للدراسة وتعيين عدد الدروس التي يكلف بها كل مدرس وساعة ومكان كل

درس.

سادسًا - تقرير القواعد التي يكون بموجبها ضبط الطلبة وحسن سير الأعمال

وكل ما له علاقة بالإدارة الداخلية.

سابعًا - تقرير طريقة توزيع ما يرد من النقود للمعهد من قبيل الإيرادات

الدائمة للتصديق على ذلك من مجلس الأزهر الأعلى.

(المادة السابعة عشرة)

ينعقد مجلس الإدارة مرة في كل أسبوع على الأقل بدعوة من الرئيس، وله

عقده أكثر من ذلك إن اقتضى الحال.

(المادة الثامنة عشرة)

تصح مداولات مجلس الإدارة متى حضر ثلاثة من أعضائه سوى الرئيس،

وتكون القرارات بالأغلبية، وإن تساوى الفريقان فالأرجحية للفريق الذي فيه

الرئيس.

(المادة التاسعة عشرة)

رئيس مجلس الإدارة هو المنوط به الإدارة العمومية في معهده، وتنفيذ

قرارات المجلس، وله تعيين وترقية ونقل وفصل الخدمة الخارجين عن هيئة

العمال ومباشرة جميع أحوال الضبط والنظام، مع مراعاة القوانين وقرارات مجلس

الأزهر الأعلى ومجلس إدارة معهده، وهذا بدون إخلال بما لشيخ الجامع الأزهر

من الاختصاصات العامة الأخرى المنصوص عليها في هذا القانون.

(المادة العشرون)

يعين للتفتيش بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى العدد اللازم من المفتشين،

ويكونون تابعين لرئيس مجلس الأزهر الأعلى.

وينشأ في الجامع الأزهر وفي كل معهد له مجلس إدارة قلم كُتّاب فيه العدد

الكافي للقيام بالأعمال الخاصة به.

ورئيس قلم الكتاب في كل معهد هو كاتب مجلس إدراته.

وإذا غاب رئيس الكتاب، يندب رئيس المجلس منهم من يقوم مقامه، ويعين

لمجلس الأزهر الأعلى كاتب خاص.

(المادة الحادية والعشرون)

يكون إلحاق بعض المعاهد الصغرى بالتي هي أكبر منها أو تغيير تبعيتها،

وكذا فصل المعاهد من تبعية غيرها وجعلها تابعة للجامع الأزهر مباشرة، وإنشاء

مجالس الإدارة بمقتضى إرادة سنية.

(المادة الثانية والعشرون)

انتخاب وتعيين شيخ الجامع الأزهر منوطان بنا وبأمر منا.

وتعيين مشايخ المذاهب بالأزهر ومشايخ المعاهد الأخرى والوكلاء وأعضاء

مجالس الإدارة العلماء، يكون بإرادة سنية بناء على عرض شيخ الجامع الأزهر

بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى، مع مراعاة ما نص عنه بالوجهين السابع

والثامن من المادة العاشرة وبالفقرة الثانية من المادة الآتية.

ومدة العضوية في مجالس الإدارة سنتان، ويجوز إعادة تعيين الأعضاء

أنفسهم.

(المادة الثالثة والعشرون)

يختار شيخ الجامع الأزهر من كبار العلماء المنصوص عليهم في الباب السابع

من هذا القانون.

ويختار شيخ كل مذهب من بين فقهائه الذين هم من كبار العلماء المذكورين.

ويختار مشايخ المعاهد الأخرى والوكلاء من العلماء الحائزين للشروط المبينة

في الفقرتين الأولى والثانية من المادة الخامسة عشرة.

(المادة الرابعة والعشرون)

علماء كل رواق وعلماء كل حارة ينتخبون شيخهم، فإن لم يكن في الرواق أو

الحارة علماء، يكون الانتخاب للمستحقين، وذلك مع مراعاة شروط الواقفين وطبقًا

لما يتقرر في اللائحة الداخلية.

* * *

(الباب الثاني)

(في العلوم وفي زمن الدراسة والمساحات)

(الفصل الأول)

(في العلوم التي تدرس في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى)

(المادة الخامسة والعشرون)

العلوم التي تدرس في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى هي الآتية:

(علوم دينية) : التجويد، التفسير، الحديث ومصطلح الحديث، التوحيد

الفقه، أصول الفقه، السيرة النبوية، التوثيقات الشرعية، الإجراءات القضائية

(علوم اللغة العربية) : النحو والوضع، الصرف، المعاني، البيان،

البديع، آداب اللغة، الإنشاء، العروض والقوافي، الخط، الإملاء، المطالعة.

(علوم رياضية وغيرها) : المنطق، آداب البحث، الحساب، الهندسة،

الرسم، الجبر، التاريخ، الهيئة، الميقات، نظام الإدارة والقضاء والأوقاف

والمجالس الحسابية، التربية العلمية، التربية العملية.

ويجوز للمجلس الأعلى أن يؤخر البدء بتعليم المواد الآتية أو بعضها، ريثما

تتم معداتها وهي:

التجويد، التوثيقات الشرعية، الوضع، آداب اللغة، الجبر، دروس الأشياء،

قواعد الصحة، التاريخ الطبيعي، الهيئة، الميقات، التربية العلمية، التربية

العملية.

(المادة السادسة والعشرون)

ينقسم التعليم في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى إلى ثلاثة أقسام:

أولي وثانوي وعالٍ.

(المادة السابعة والعشرون)

العلوم التي تدرس في القسم الأوليّ هي:

(علوم دينية) : الفقه، التجويد، التوحيد، السيرة النبوية، الأخلاق الدينية

(علوم اللغة العربية) : النحو، الصرف، المطالعة، الإنشاء، الإملاء،

الخط.

(علوم رياضية وغيرها) تقويم البلدان، الحساب، الهندسة، الرسم التاريخ،

دروس الأشياء، خواص الأجسام، قواعد الصحة، التاريخ الطبيعي.

(المادة الثامنة والعشرون)

العلوم التي تدرس في القسم الثانوي هي:

(علوم دينية) : التوحيد، الأخلاق الدينية، الفقه مع حكمة التشريع،

التوثيقات الشرعية، التفسير، الحديث.

(علوم اللغة العربية) : النحو والوضع، الصرف، المطالعة، المعاني،

البيان، البديع، الإنشاء.

(علوم رياضية وغيرها) : المنطق، آداب البحث، التاريخ، الحساب،

الهندسة، الجبر، الهيئة، الميقات، خواص الأجسام، قواعد الصحة، التاريخ

الطبيعي.

(المادة التاسعة والعشرون)

العلوم التي تدرس بالقسم العالي هي:

(علوم دينية) : التوحيد، الفقه مع حكمة التشريع، أصول الفقه، التفسير

الحديث ومصطلح الحديث، الإجراءات القضائية.

(علوم اللغة العربية) : المعاني، البديع، العروض والقافية، آداب اللغة

العربية.

(علوم رياضية وغيرها) : المنطق، نظام القضاء والإدارة والأوقاف

والمجالس الحسبية، التربية العلمية، التربية العملية.

(المادة الثلاثون)

يجوز لمجلس الأزهر الأعلى بناء على طلب أحد مجالس الإدارة أو من تلقاء

نفسه: أن ينقل علمًا أو أكثر من العلوم المقررة في المادة الخامسة والعشرين من

قسم إلى قسم آخر إذا اقتضى الحال، ويجب على كل حال أخذ رأي مجلس الإدارة

الأخرى.

(المادة الحادية والثلاثون)

بعد تقرير عدد الدروس لكل مادة أول سنة، لا يجوز تنقيص دروس أي مادة

تقرر لها درسان اثنان.

* * *

(الفصل الثاني)

(في زمن الدراسة والمساحات)

(المادة الثانية والثلاثون)

مدة التعليم في كل قسم خمس سنين على الأقل وسبع سنين على الأكثر، في

الأحوال المنصوص عليها في المادة التاسعة والأربعين.

(المادة الثالثة والثلاثون)

تبتدئ السنة الدراسية في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى من اليوم الحادي

عشر من شهر شوال، وتنتهي في اليوم العشرين من شهر شعبان.

(المادة الرابعة والثلاثون)

تعطل الدروس في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، ويسامح الطلبة في

الأوقات المعينة بعد:

من 21 شعبان لغاية 10 شوال.

من أول يوليو لغاية أغسطس (مسامحة صيفية) .

عشرة أيام للعيد الكبير.

ويقر مجلس الأزهر الأعلى مدة العطلة للمواسم الخصوصية في كل معهد

فإذا وقعت المواسم والأعياد في شهر يوليو وأغسطس، فلا تعطل الدروس

مدة أخرى.

لكن إذا تداخل آخر شهر شعبان أو شهر رمضان أو أوائل شهر شوال في

الشهرين المذكورين، فيقرر المجلس ابتداء مدة الدراسة ونهايتها، بحيث لا تزيد

مدة العطلة على ثلاثة أشهر ونصف، ولا تنقص عن شهرين ونصف.

(المادة الخامسة والثلاثون)

يعلن بالجريدة الرسمية ابتداء وانتهاء المساحات العمومية ومساحة العيد

الكبير.

(المادة السادسة والثلاثون)

لا يجوز تعطيل الدروس يومًا أو بعض يوم في غير الأحوال المنصوص

عليها إلا بأمر من شيخ المعهد؛ لأسباب استثنائية في الأمر المذكور.

(المادة السابعة والثلاثون)

لا يجوز أن تزيد ساعات التدريس عن سبع ساعات في كل يوم.

* * *

(الباب الثالث)

(في الامتحانات والشهادات)

(الفصل الأول)

(في الامتحانات)

(المادة الثامنة والثلاثون)

شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى هو المدير العام

لأعمال الامتحان والشهادات في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وله أن يراقبها

أيضًا بمن يندبه من الموظفين بعد تصديق مجلس الأزهر الأعلى.

(المادة التاسعة والثلاثون)

الامتحانات التي يجب إجراؤها في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى هي

الآتية:

أولاً - امتحان النقل من سنة إلى أخرى.

ثانيًا - الامتحان الأول.

ثالثًا - الامتحان الثانوي.

رابعًا - الامتحان العالي.

(المادة الأربعون)

الامتحان واجب على جميع طلبة كل سنة من سني الدراسة بالجامع الأزهر

والمعاهد الأخرى؛ ما عدا المحرومين منه بمقتضى ما يتقرر في اللائحة الداخلية.

وكل طالب لم يتقدم إلى الامتحان بغير عذر مقبول يعتبر ساقطًا، ويعامل

بنص المادة التاسعة والأربعين.

(المادة الحادية والأربعون)

الأحوال التي يقبل فيها عذر الطالب في تأخيره [1] عن دخول أي امتحان

تتقرر في اللائحة الداخلية.

(المادة الثانية والأربعون)

إذا تخلف الطالب عن امتحان النقل أو أحد الامتحانات الأولي أو الثانوي أو

العالي في المواعيد المحددة؛ لمرض أو مانع قهري، فلمجلس الإدارة أن يجيز

امتحانه في أول السنة الدراسية التالية.

(المادة الثالثة والأربعون)

يكون الامتحان الأولي والثانوي بالمعهد الذي درس فيه الطالب، وأما امتحان

شهادة العالمية فيكون في الجامع الأزهر.

(المادة الرابعة والأربعون)

الامتحانات الأولي والثانوي والعالي تكون تحريريًّا وشفهيًّا، ويكون الامتحان

تحريريًّا فقط فيما عدا ذلك.

تبين كيفية الامتحانات التحريرية والشفهية باللائحة الداخلية.

(المادة الخامسة والأربعون)

الامتحان السنوي يكون في مقرر السنة الحاصل فيها الامتحان.

وامتحان الشهادات في كل قسم، يكون في مقرر السنة المذكورة؛ وفي العلوم

الدينية وفي علوم العربية المقررة للقسم الحاصل فيه الامتحان.

(المادة السادسة والأربعون)

امتحان النقل يكون في آخر السنة الدراسية، والامتحانات الأولي والثانوي

والعالي، تكون في المواعيد التي يقررها مجلس الأزهر الأعلى.

(المادة السابعة والأربعون)

تكون الامتحانات أمام لجان تؤلف لذلك.

(المادة الثامنة والأربعون)

ينتخب مجلس الأزهر الأعلى أعضاء الامتحان العالي، ويضع لهم التعليمات

التي يراها بمراعاة ما نص عليه في هذا الباب.

وينتخب مجلس إدارة كل معهد أعضاء لجان امتحان النقل والامتحانين الأولي

والثانوي، ويجب التصديق على ذلك من مجلس الأزهر الأعلى.

(المادة التاسعة والأربعون)

المدة التي يغتفر للطالب إعادة الدروس فيها سنتان في كل قسم من الأقسام

الثلاثة، بحيث إن الطالب لا يعيد دروس السنة الواحدة أكثر من مرة.

ومن لم ينجح في امتحان سنة الإعادة يُرْفَت.

إنما يجوز لمجلس الإدارة أن يقرر بقاء الطالب الذي سقط مرتين في الامتحان

سنة ثالثة، بشرط أن لا يكون ذلك موجبًا لإطالة مدة الدراسة أكثر من إحدى

وعشرين سنة.

(المادة الخمسون)

إذا سقط الطالب في امتحان النقل من سنة النقل إلى أخرى أو في امتحان

إحدى الشهادتين الأولية أو الثانوية في علم واحد أو علمين على الأكثر،

فلمجلس الإدارة أن يقرر امتحانه فيما سقط فيه قبل ابتداء الدراسة في السنة التالية،

وذلك إذا كان له من الأحوال الخصوصية ما يقتضي هذا الاستثناء.

(المادة الحادية والخمسون)

من أقام في الجامع الأزهر أو في أحد المعاهد الأخرى أقصى المدة المحددة

لأي قسم من الأقسام الثلاثة؛ ولم يحصل على شهادة هذا القسم، يمحى اسمه من

السجلات، وتقطع مرتباته التي كانت له بمقتضى كونه منتسبًا

ومع ذلك يباح له الدخول في الامتحانات؛ لنيل الشهادة التي سقط فيها، ولا

يسمح بامتحانه لنيل شهادة أعلى منها، وإذا سقط مرتين فلا يسمح بامتحانه بعد ذلك.

ولا يجوز أن يقبل في امتحان بعد مضي سنتين من تاريخ سقوطه السابق

(المادة الثانية والخمسون)

يجور لغير طلبة الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى أن يدخلوا في الامتحانات

لنيل إحدى الشهادات؛ طبقًا لما هو مقرر في هذا الباب وبمراعاة ما يأتي:

أولاً - أن يمتحن طالب نيل إحدى الشهادات الثلاث في جميع العلوم المقرر

تدريسها في القسم الذي يطلب نيل شهادته.

ثانيًا - أن لا يقبل من أحد الامتحان لنيل الشهادة الثانوية، إلا إذا كان حائزًا

للشهادة الأولية.

ثالثًا - أن لا يقبل منه امتحان شهادة العالمية؛ إلا إذا كان حائزًا للشهادة

الثانوية.

(المادة الثالثة والخمسون)

يشترط لنجاح الطالب في الامتحان ما يأتي:

أولاً - أن ينال النهاية الصغرى في السلوك، وفي المواظبة، وفي كل علم

من العلوم المقرر لنهايتها الكبرى 30 أو 40 (راجع الجدول الآتي) .

ثانيًا: أن لا ينقص متوسط درجاته في العلوم الأخر عن ثمانية وأن لا

تنقص درجته في أي علم منها عن أربعة (راجع الجدول الآتي) .

ولا تشترط نمرة السلوك ونمرة المواظبة بالنسبة للطلبة الذين يُمتحنون لنَيْل

شهادة العالمية، ولا للطلبة الذين يدخلون في الامتحان طبقًا للمادة السابقة

ويجب امتحان طالبي الشهادة الأولية في حفظ القرآن كله وأن ينال الطالب عشرين درجة على الأقل من أربعين وإلا يعتبر ساقطا في الامتحان كله.

* * *

(الفصل الثاني)

(في الشهادات)

(المادة الرابعة والخمسون)

الشهادات ثلاثة أنواع:

شهادة أولية: وهي لمن أتموا الدراسة في القسم الأولي.

وشهادة ثانوية: وهي لمن أتموا الدراسة في القسم الثانوي.

وشهادة العالمية: وهي لمن أتموا الدراسة في القسم العالي.

(المادة الخامسة والخمسون)

من نجح في الامتحان الأولي ينال شهادة الأولية، ومن نجح في الامتحان

الثانوي ينال الشهادة الثانوية، ومن نجح في الامتحان العالي ينال شهادة العالمية.

(المادة السادسة والخمسون)

يرتب الناجحون في الامتحان على حسب درجاتهم التي نالوها، والدرجة التي

يكون بموجبها الترتيب هي التي تتحصل من جمع متوسط درجات العلوم الدينية؛

ومتوسط مجموع متوسطي علوم اللغة والعلوم الرياضية.

وينشر كشف الترتيب المذكور بالجريدة الرسمية بالنسبة لمن نالوا الشهادات.

(المادة السابعة والخمسون)

توضع الشهادة الأولية أو الثانوية على نموذج، يقرره مجلس الأزهر الأعلى،

ويوقع عليها من شيخ الجامع الأزهر، وتختم بخاتم المشيخة.

(المادة الثامنة والخمسون)

يصدر بشهادة العالمية بيورولدي عال؛ بناء على طلب شيخ الجامع الأزهر.

(المادة التاسعة والخمسون)

الحائزون للشهادة الأولية يكونون أهلاً لأن يدرجوا ضمن طلبة القسم

الثانوي.

وكذلك يكونون أهلاً لوظائف التعليم في المكاتب التحضيرية التابعة للجامع

الأزهر والمعاهد الأخرى وفي الكتاتيب.

والحائزون للشهادة الثانوية؛ يكونون أهلاً لأن يدرجوا ضمن طلبة القسم

العالي، وكذلك يكونون أهلاً للتعيين في وظائف مدرسي الخط والإملاء، وفي

الوظائف الكتابية في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وفي المحاكم الشرعية

والأوقاف والخطابة والإمامة والوعظ والمأذونية.

(المادة الستون)

الحائزون لشهادة العالمية، يكونون أهلاً لما تؤهل له الشهادة الثانوية،

وللاحتراف بالمحاماة أمام المحاكم الشرعية، وللتعيين في وظائف التدريس بالجامع

الأزهر والمعاهد الأخرى، وفي المساجد لتعليم العامة، وفي الوظائف القضائية

بالمحاكم الشرعية؛ إذا كانوا حنفيين.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: الظاهر أن يقال في تأخره.

ص: 521

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌هل للقول من مستمع؟

وهل للداعي من مجيب

؟

جاءتنا هذه الرسالة من أحد الملاويين صاحب الإمضاء الرمزي، كتبها بعد

قراءة مقالتنا الأولى (العالم الإسلامي والاستعمار الأوربي) .

نطقت ألسن الجرائد والمجلات، وأذن مؤذنوها على منائر الأرجاء أن

سبب سقوط المسلمين وتأخرهم عن الأمم الحية هو الجهل الذي فشا بينهم، فنشأ

منه ما نشأ من عدم الاتفاق والاتحاد ، وانتفت به الوحدة والتراحم والتواد ، وبه

ورثت دولة منها ملكنا وأرضنا وديارنا وسادتنا، واستبدت فينا، فلم يشعر أحد منا

بما حل بنا من سوء هذا العذاب، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، نعم.. فشا الجهل بين

المسلمين على الإطلاق، ولكن ما سمعت الجرائد والمجلات وصفت أحوال المسلمين

كما وصفت أحوال مسلمي جاوه في الجهل وضعف النفس والهمجية، على كونهم

أكثر من ثلاثين مليونًا من المسلمين، وعابت علماءهم لعدم استعدادهم واطلاعهم

على أحوال العالم ، وسياحهم لعدم اعتبارهم وتفكرهم في المخلوقات وأحوال الخلق

عند سيرهم في الأرض.

أطلقت الجرائد والمجلات كلمة مسلمي جاوه على جميع المسلمين في هاتيك

الأرجاء، على أن مسلمي ملايو (ماليزيا) غير مسلمي (جزائر جاوه) ، ولغتهم

غير لغة الجاويين. كالفرق بينهم وبين الهنود في اللغة والجنس، ولا جامعة تجمع

بين أولئك وهؤلاء إلا الدين الحنيف، غير أن الجاويين أكثر مخالطة للملاويين من

سائر المسلمين، وقد خرجوا من جزائزهم هاربين لأرض ملايو؛ لما أحدق بهم من

الضيق والاستبداد والاستعباد الذي لم يفعل ولن يفعل بغيرهم من رعايا هولندة فعله

بهم.

ذلك بأن الملاويين والجاويين هم سواء في الجهل، وعدم الاتفاق والائتلاف

بينهم، والتباغض والتحاسد فيما بينهم، ولكن ليس في الملاويين مثل ما في

الجاويين من دناءة النفس والخضوع الذميم وإن كانوا في الجهل سواء، ثم إن في

أرض ملايو عدة سلاطين، فكل سلطان يتصرف في بلده كيف شاء ، واتفاقهم

محال ، وليس في جزائر جاوه إلا سلطانان وهما الأخوان ، وأهل ملايو على قلتهم

وتفرقهم وتباعدهم وجهلهم كثيرًا ما قاوموا الهولنديين الذين في بلادهم، ونازعوهم

وعصوا أمرهم، وأتشين (أجيه) في صومطرة تحاربها منذ أربعين سنة هولندة

وهى إلى اليوم لم تخضع لها خضوعاً، هل سمعت أن أهل جزائر جاوه على

كثرتهم قاوموا هولندة وعصوا أمرها؟ كلا ثم كلا؛ بل كانوا ولا يزالون خاضعين

خاشعين لها فوق خضوعهم وخشوعهم لرب العالمين. والحمد لله لم يوجد فيما نعلم

أحد من مسلمي ملايو تنصر أو تهود. هذا، ولا أعني بقولي هذا تفضيل الملاويين

على الجاويين، فكلهم معرضون عن طلب العلم ونشر التعليم بين أبنائهم وعن إزالة

التفرق والاختلاف بينهم، وما داموا في الجهل سواء فلا فرق بين الجنسين.

قول (المنار) : ومن عجائب خمولهم: أي (المسلمين الجاويين) وضعف

استعدادهم أن الذين يرحلون منهم لطلب العلم، يقيمون السنين الطوال بمكة أو

مصر، ثم يعود من يعود منهم إلى بلاده وهو لا يعرف من أمر العالم الإسلامي ولا

أحوال هذا العصر شيئًا قط؛ لأنهم يحبسون أنفسهم على أفراد من متفقهة الشافعية،

يتعبدون ببعض كتب متأخري الشافعية؛ كابن حجر الهيتمي والرملي فإن

تجاوزوها فإلى كتب الشيخ زكريا الأنصاري والنووي ا. هـ

وأزيدك أيها القارئ علمًا بأن من يتعلم العلم منهم في مكة، إنما يتعلمه ليطفئ

نور همة غيرهم من المسلمين في إحياء العالم وإصلاح الطريق الموصلة إلى سعادة

الدارين ، وليأمر قومه بالإفراط في الزهد، وترك الدنيا بالمرة، وتحقير النفس

والخضوع الذميم ، لا ليعلمهم دينهم ويبين لهم حقيقته وأصوله، ولا لينجيهم من

تنصير الدعاة (المبشرين) إياهم.

ذلك بأن أكثر الشيوخ الجاويين في مكة، ينفقون أوقات تلاميذهم في قراءة

الكتب الفقهية كتابًا فكتابًا إلى ما لا نهاية له. وهؤلاء التلاميذ أكثرهم لم يفهموا شيئًا

من اللغة العربية، وهم يعلمونهم أيضًا النحو والصرف. ولكن لعدم مراعاتهم

طريقة التعليم المقربة للفهم أو لعدم علمهم بذلك، صار التلاميذ لا يفقهون ما

يقولون.

ولهذا نقول: إذا وجدت واحدًا في المئة يتعلم ويفهم بعد أن قضى في مكة

السنين الطوال فخير كثير ، وكثيرًا ما سألت إخواني الطلبة هناك الذين جلسوا عشر

سنين و15 سنة عن الإعراب، فوجدتهم لا يعرفون الإعراب الظاهر فضلاً عن

الإعراب التقديري والمحلي، ومع هذا يقرؤون ابن عقيل والأشموني وشرحي

المنهج والمناهج. ومن أحوال أكثر هؤلاء الشيوخ أنهم يعلمون حجاج بيت الله

الحرام ما يسمونه الطريقة، ويأمرونهم بشراء السبح ويزهدونهم فى الدنيا، وهؤلاء

الحجاج المساكين لا يعلمون شيئًا من أحكام الدين، ولا أحكام الحج التي تجب عليهم

معرفتها قبل شروعهم فى العمل، وما ذاك إلا ليتصدقوا عليهم.

وإذا كان الحال كذلك، فكيف لا يكثر الدجالون هناك، وأعداء الإصلاح،

ومروجو الخرافات والخزعبلات وأنصار البدع؟

يا هؤلاء الشيوخ: لا تغلو في دينكم، ولا تأمروا تلاميذكم بترك الدنيا

وإخضاع أنفسكم وإهانتها للأمة المستبدة، فإن الإسلام لا يأمرنا نحن المسلمين بذلك

وإنه لا ينهانا عن المأكل اللذيذ ولا الملبس الحسن، وإنه ليس فيه حرج ولا غلو

ولا إفراط ولا تفريط، وعلّموا تلاميذكم كتاب الله وسنة رسوله.

إنني والله لأخشى يوم يتجلى رب العالمين أن يعاقب المعلمين؛ بصد

المتعلمين عن كتاب الله وسنة رسوله. بكتب أولئك الفقهاء وإن كانت دينية، أقول

قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولمن اتبع الهدى ورجحه على الهوى.

...

...

... القاهرة في 17جمادى الآخر 329

...

...

...

... كاتبه

...

...

...

... م. ب. ع

_________

ص: 537

الكاتب: مقترح من‌

‌ حضرموت

حضرموت

سيدي صاحب المنار أطال الله بقاءك في مراضيه في عافية.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهنيكم بما سمت إليه همتكم العالية من

السعي في إقامة (جماعة الدعوة والإرشاد) تلك المكرمة البكر التي نحن الآن في

أشد حالات الاضطرار إليها؛ لأن وظيفة من يخرج منها هي وظيفة الرسل الكرام

عليهم السلام، حياك الله وكبت عداك، لقد أرضيت بسعيك رب العالمين، وأقررت

عين سيد المرسلين، والأنزع البطين، وإني أتمثل بقول الشاعر:

إذا علوي لم يكن مثل طاهر

فما هو إلا حجة للنواصب

إنني على بعد الديار، كتبت إليكم بهذه السطور؛ إعلانًا لما يكنه ضميري من

حب الإسلام وأهله، وحب من يخدمه من أمثالكم، ولو كان حبشيًّا أو أرمنيًّا أو

صينيًّا، فكيف إذا كان من أشرف أرومة، وأطهر جرثومة. وشاهد القول أفعال

تصدقه. ولأقترح على تلك الجماعة الفاضلة بواسطة مناركم الأغر؛ أن تخصوا

أول رجالها المتعلمين بمدرستها بإرساله إلى حضرموت لأن بها عددًا عديدًا من

سلالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قتلهم الجهل، وفقد من بين ظهرانيهم العلم،

وبعد بعض بواديهم عن الدين، وإرشادهم مما يدخل السرور الخاص على

المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قبره. علاوة على أنهم عرب وفي

الجزيرة، والأقربون أولى بالمعروف.

ولأن بحضرموت الآن خلفاً أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وابتدعوا

في الدين، وغرروا العامة، وسلبوا بعضهم البقية الباقية من دينه، وإليك نموذجًا

من مقالهم في وعظهم: كنت منذ أشهر في مجلس أكبر وعاظ حضرموت

المشهورين بالولاية الكبرى، فكان مما قال: إن أتان فلان؛ وسمى أحد المشهورين

بالعلم والولاية من الأولين، كانت تأتي بخبر السماء كل يوم مرتين. فلما مات أتت

به كل يوم مرة. فأفهم قوله هذا من يعظه ويقدم كلامه على كلام الله ورسوله؛ أن

ذلك الولي خير من النبي؛ لأن النبي انقطع عنه الوحي أشهرًا وهذا أتانه، فكيف

هو، يأتي بخبر السماء كل يوم مرتين، وأفهمهم أيضًا أن جبريل أقل قدرًا من تلك

الأتان (أستغفر الله) ؛ لأنه انقطع عن النزول بالوحي بعد موت النبي صلى الله

عليه وعلى آله وسلم، وتلك الأتان لم توصد في وجهها أبواب السماء صاعدة

وهابطة ، ولولا خوفي أن يسبق رأسي كلامي لسألتة عن صفة معراج تلك الأتان،

أكان على البراق أم على أفضل منها، ومنها ما سمعته عن عظيم فيهم، وهو

روايته بالسند عن بعض الأولياء أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليقظة

والمدعون لهذا فينا كثير بدون نكير؛ فسأله أن يحدثه شفاهًا بحديث ينتفع به وينفع

به الأمة، فقال له يعني النبي - وأستغفر الله من كتابة هذا وإن كان حاكي الكفر

ليس بكافر -: (من اتخذ سبحة كان من الذاكرين الله كثيرًا ذكر أم لم يذكر، ومن

شرب القهوة استغفرت له ما دام في فمه أثر منها، ومن وقف بين يدي ولي لله -

وهنا محل الإشارة - حيًّا كان أو ميتًا، ولو قدر شج بيضة، كان وقوفه أفضل من

عبادة الثقلين سبعين سنة إلى نحو ذلك) مما جعلني خرجت باكي العين على

الإسلام موجع القلب؛ مصدقًا لقول ابن المقري رحمه الله في ضلال المتصوفة.

ليتهم كانوا يهودًا

ليتهم كانوا نصارى

الأبيات. متحسرًا لأن الحاضرين على كثرتهم وتأبط العدد الجم منهم للكتب،

واشتغالهم بزعمهم في طلب العلم السنين الكثيرة، لم ينتبهوا إلى فساد هذه المزاعم

البديهية البطلان، فإن السيف خير من السبحة ومتخذه لا يعد من المجاهدين إلا إذا

كان جاهد أو صمم عليه إذا لم يحضره.

واللبن أفضل من محروق البن، وقد أمر النبي بالمضمضة منه لا بالتلمظ

ببقاياه أو بخاثره فضلاً عن الإثابة على عدم النظافة، والوقوف بين يدي الله في

الصلاة أفضل العبادات، ولم يأت فيه ما ذكر من الفضل، فعسى أن ينتشل الله ذلك

القطر وأهله على يدكم، وفقكم الله وهداكم لما يحبه، وإني لا أصرح باسمي في

هذه المقالة، وإن كنت الآن في بمباي حيث ما لعباد عليّ إمارة، ولكني أخاف

على قرابتي في حضرموت من ظلم أولئك الذين عنيت أو أتباعهم (وعلى الله

قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين) والسلام عليكم ورحمة الله

وبركاته.

...

...

...

... مقترح من حضرموت

...

...

بمباي في غزة جمادى الأول سنة 1329

(المنار) هذه هي نتائج الغلو في الصالحين وكراماتهم، ولا أرى في مقابلة

مفاسده الكثيرة مصلحة ما. وأما ما يزعمه الدجالون المتجرون في كتبهم ببث

الكرامات المخترعة من أن هذا يقوي إيمان العامة، فإن أرادوا به إيمانهم بالله

وكتبه ورسله، فلا نسلم لهم ذلك، بل هو الذي أفسد على الكثيرين إيمانهم ودينهم،

وإن أرادوا إيمانهم بالدجل والدجالين فهذا ما نشكو منه، ونسأل الله أن يطهر

الإسلام منه سؤالاً مقترنًا بالسعي والعمل، وعلى الله المتكل.

_________

ص: 540

الكاتب: إسماعيل حقي

‌الدعاء للسلاطين

في الخطب وحكمه شرعًا

ذكر العلامة المحقق الفريد شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي في كتاب

(طراز المجالس) ما نصه:

قال الإمام الغزالي في كتابه المسمى بفاتحة العلوم: لا يحل الدعاء للسلاطين

إلا بأن يقول: أصلحه الله ووفقه للخيرات، وطول عمره في طاعة الله. وأما

الدعاء بطول العمر واتساع النعمة والمملكة والخطاب بالمولى، فلا رخصة فيه؛

لقوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله في

أرضه) ، وإن جاوز إلى الثناء وذكر ما ليس فيه، فكاذب منافق مكرّم للظالم،

وهي ثلاث معاص، انتهى.

وأما حكمه شرعًا، فقال أعلم الشافعية الزركشي في كتاب (أحكام المساجد)

قال الشيخ أبو إسحق: لا يستحب. وسئل عنه عطاء فقال: هو محدث، وإنما

الخطبة وعظ وتذكير، وقال القاضي الفارقي: يكره تركه؛ لما فيه من خوف

الضرر بعقوبة السلطان، انتهى. وخالفه من المالكية ابن خلدون فقال في مقدمة

تاريخه: كان الخلفاء يدعون بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والرضا

عن أصحابه لأنفسهم، فلما استنابوا فيها كان الخطيب يشيد بذكر الخليفة على المنبر

تنويهًا باسمه، ويدعو له بما مصلحة العالم فيه؛ لأن تلك ساعة إجابة لما قاله

السلف: من كانت له دعوة صالحة فليضعها في السلطان وأول من دعا للخليفة في

الخطبة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو بالبصرة عامل لعلي رضي الله

عنه، فقال: اللهم انصر عليًّا واتصل العمل بذلك بعده، انتهى.

ومما يدل على أنه سنة بعد اتفاق الناس على العمل به ما في الإحياء قال: لما

ولي أبو موسى الأشعري البصرة، كان إذا خطب حمد الله وأثنى عليه وصلى على

النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنشأ يدعو لعمر، فقام إليه ضبة العنزي وقال له:

أين أنت من صاحبه أتفضله عليه؟ وصنع ذلك مرارًا، فكتب إلى عمر يشكوه،

فكتب إليه عمر أن أشخصه فأشخصه، فلما قدم عليه ضرب بابه فخرج، فقال له

من أنت قال: ضبة العنزي، فقال له: لا مرحبًا ولا أهلاً، فقال: أما المرحب

فمن الله، وأما الأهل فلا أهل لي ولا مال، بماذا استحللت يا عمر إشخاصي بلا

ذنب؟ قال ما الذي شجر بينك وبين عاملي؟ قال: الآن أخبرك أنه إذا خطب أنشأ

يدعو لك، فغاظني ذلك، وقلت له: أين أنت من صاحبه، فاندفع له عمر رضي

الله عنه باكيًا وهو يقول: أنت والله أوفق منه وأرشد، فهل أنت غافر ذنبي يغفر

لك الله؟ فقال غفر الله لك يا أمير المؤمنين، فبكى وقال: والله لليلة من أبي بكر

ويوم خير من عمر وآل عمر، فهل لك أن أحدثك بليلته ويومه؟ قال: نعم.. قال:

أما الليلة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرًا خرج ليلاً،

فتبعه أبو بكر، وجعل يمشي مرة من أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن

يساره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(ما هذا يا أبا بكر) فقال: يا

رسول الله: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن

يمينك ومرة عن يسارك؛ لآمن عليك، فمشى صلى الله عليه وسلم على أطراف

أصابعه، حتي خفيت آثاره، فلما رأى أبو بكر أنها قد خفيت حمله على عاتقه

وجعل يشتد، حتى أتى فم الغار فأنزله وقال له: والذي بعثك بالحق لا تدخله قبلي،

فإن كان به شر نزل بي قبلك، فدخل وقال له: ولم ير به شيئًا فحمله وأدخله،

وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع، فألقمه أبو بكر رضي الله عنه قدمه؛

مخافة أن يخرج شيء منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيؤذيه، فنهشته حية،

فجعلت دموعه تنحدر على خديه من ألمه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(لا تحزن إن الله معنا) فأنزل الله طمأنينة السكينة على أبي بكر فهذه ليلته.

وأما يومه فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب وقالوا نصلي

ولا نزكي فأتيته؛ لئلا آلوه نصحًا، فقلت: يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق

بهم، فقال: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟ بماذا أتألفهم؟ قُبض رسول

الله صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي، فوالله لو منعوني عقالاً كانوا يعطونه

رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلتهم عليه، فكان والله رشيد الأمر، فهذا يومه. ثم

كتب إلى أبي موسى يلومه انتهى.

قال الشهاب: (قلت) : وقد علم من هذا أن الدعاء للخلفاء والسلاطين بصدق

وحق سنة مأثورة لا بدعة مشهورة؛ لما عرفته من فعل الصحابة من غير نكير،

فلا وجه لما قاله الزركشي وغيره وقول ابن خلدون: وأول من فعله ابن عباس في

خلافة علي كرم الله وجهه، ليس بصحيح أيضًا لما سمعته آنفًا، وهذا من نفائس

الفوائد التي لا تجدها في غير هذه المجلة والله أعلم.

...

...

...

...

إسماعيل حقي

(المنار) قال صاحب المهذب وغيره: إن الدعاء للسلاطين مكروه، وقال

بعضهم: لا بأس به، وآخرون أنه مستحب واتفقوا على حظر المجازفة في مدحهم

وصرحوا بأنه يجوز الكلام واللغط عند مدح السلاطين الجائرين، والذي وقع من

بعض الصحابة هو الدعاء المجرد.

_________

ص: 542

الكاتب: محمد نجيب حفار

‌الإلحاد في المدارس العلمانية [*]

حضرة العالم الفاضل اللوذعي الكامل صاحب مجلة المنار الإسلامية فضيلة

السيد محمد رشيد أفندي رضا أدامه الله ركنًا ركينًا لإنارة منار الدين وكهف

المستغيثين.

أما بعد: سلام عليكم من الله ورحمة وبركة، إن الذي حدا بي لأن أسطر

لسيادتكم هذه العجالة؛ هو أنني قد اطلعت على كلام لبعض مدرسي المدرسة

العلمانية اللادينية التي صار إنشاؤها حديثًا في مدينة بيروت (الموسيو أرنولد) في

جريدة الخرج عدد 74 نقلاً عن جريدة البشير، وعندما فرغت من مطالعتها تخيل

لي أن الإسلام قد عاد كما بدأ غريبًا كئيبًا لا ملجأ له ولا مأوى، ولا مجير يجيره ويرد

عن حوزة بيضته، إلى أن استيقظت من رقدتي، وتنبهت من غفلتي، وعلمت أن الله

سبحانه يرسل في رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وكنت بحسب

اعتقادي أنك هو هو في هذا الزمان؛ ولذلك بادرت لأقدم لحضرتكم ما تفوه به

ذلك الضال من الطعن في الدين، وفي ذات الله تقدست ذاته من أن تصل إليه أيدي

المعطلين الخائنين الكافرين؛ لتعلقوا على ذلك ما يرد أباطيله وأضاليله

الكاذبة ومفترياته الخاسئة، إذ ليس مثل فضيلتك من يكبح جماح مثله، كما سبق

لحضرتكم ولحضرة المرحوم الأستاذ الإمام كسر رءوس هكذا وحوش ضارية، بل

الوحوش خير منهم، وهذه عبارته بنصها وحروفها.

قال الخائن: (يجب تحطيم الأصنام النخرة، ولا سيما أشدها ثباتًا ونخرًا أي

حقيقة الله

العقل يقودنا إلى الحقيقة، الإيمان يقودنا إلى الكذب، الكذب هو الله

أمن الممكن أن يكون الله شيئًا سوى ذلك الوعيد الذي رفعه الأحبار منذ القدم

فوق رءوس الشعوب، ولم يزل في أيامنا وفي وسط الحضارة والتمدن آلة القوى

الشريرة، آه! فليسقط كل إله. إن كان عناية ربانية قد اجترمت على الأرض

جرائم لا تحد ولا تحصى، كي يسود الخير الاجتماعي فيما بيننا، وكي تتحرر

الشعوب يجب ليس فقط هدم الكنيسة ونقضها، يجب أيضًا قتل الله!) .

هذه عبارته بنصها وحروفها تمامًا، فالله أسأل أن يلهمكم ردًّا كافيًا شافيًا على

هذا الخائن، وخصوصًا أن كثيرًا من المسلمين من أهالي بيروت أرسلوا أولادهم

للمدرسة المذكورة؛ ليتعلموا بها اللادين، نعوذ بالله من فساد الاعتقاد والدين،

والسلام عليكم.

طرابلس الشام في 28 جمادى الثاني سنة 327

...

...

...

...

... محبكم الصادق

محمد نجيب حفار

(المنار) ليس العجيب أن يقذف ذلك الملحد تلك الأباطيل جهرًا، فتنشر في

الجرائد، ولكن العجيب أن تسمح الحكومة العثمانية بنشر الكفر الصريح في

المدارس والجرائد، وهي لا تكاد تسمح في الآستانة بانتقاد أحد من أصحاب

السياسة السوءى. وكل ما قاله ذلك الملحد بديهي البطلان لا يحتاج إلى الرد عليه،

فهو يزعم أن الإيمان يعلم الناس الكذب والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ

الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (النحل: 105) وقول الله هو الحق الذي يصدقه العقل، فإن

من لا إيمان له لا حظ له من حياته إلا التمتع بالشهوات والحظوظ العاجلة، فلا

يمتنع من الكذب لأجل تحصيلها. وأما المؤمن فيمنعه من الكذب خوف العقاب في

الآخرة فوق الحذر من فقد الكرامة في هذا، وإن الذين جربوا هذا التعليم في أوربة

بدأوا يجنون منه الحنظل والزقوم بزيادة الجنايات والجرائم فيهم، وإننا ننقل لك ما

نشر في جريدة الأخبار في العدد الذي صدر في 26 جمادى الآخرة مؤيدًا لذلك وهو:

التعليم اللاديني

بشرنا مكاتب من الإسكندرية في المقطم بأن نخبة من الماسون ورجال

الجمعيات الأخرى، شارعون في إنشاء مدارس التعليم المطلق من كل سلطة

دينية، يعلمون فيها التلاميذ على مذهب ابن رشد، ورحب بهذا المشروع

وأطراه وأمل فيه خيراً عظيمًا وسأل بلدية الإسكندرية أن تساعده مساعدة

فعلية مادية، فرأينا والحالة هذه أن نقول كلمة في التعليم المشار إليه نذكر فيها

نتائجه في البلاد التي أقبلت عليه، ونبين حقيقته عبرة لقوم يعقلون.

أقبلت فرنسا على هذا التعليم منذ سنة 1882، فلم تر منه فائدة في ترقية

الأخلاق، بل دلت الإحصاءات على أن الفساد زاد كثيرًا في الأجيال التي

خرجت في عهده، ولا يزال يزداد في الأحداث نوع خاص فإن عدد المجرمين

الأحداث في سنة 1882كان 16000، فإذا هو 41000 سنة 1892، وكان

معدل المنتحرين من الأحداث الذين يتراوح سنهم بين السادسة عشرة والواحدة

والعشرين 168 في سنة 1875، فبلغ 780 في سنة 1900 وبلغ عدد

الفارين من الخدمة العسكرية - وهي جريمة ضد الوطن - 25787 في سنة

1909، وكان أقل من ذلك بكثير فيما مضى، وانتشر مذهب اللاوطنية أيما

انتشار.

وممّا يزيد هذه الأرقام جسامة أن ازدياد الجنايات؛ لا يقابله زيادة في

المواليد؛ بل نقص فيها على ما هو معلوم.

والعقلاء متفقون على أن ذلك نتيجة التعليم اللاديني.

قال المسيو غيليو وهو من رجال القضاء: ما من رجل صادق مهما كان

مذهبه إلا يضطر إلى الإقرار؛ بأن زيادة الجرائم الهائلة بين الفتيان قد بدأت

بعد ما أحدثوه في التعليم العمومي.

وقال المسيو بونجان وهو قاض آخر: إن فرنسا ستهبط إلى أقصى

دركات الهاوية؛ بسبب هاته الذريات المتوالية التي تفوق كل واحد منها

الأخرى صلفًا وكسلاً وتمردًا. وإنما سبب كل ذلك التربية اللادينية.

وقال المسيو ألار أحد زعماء الاشتراكيين في مجلس النواب مخاطبًا

أعضاء المجلس:

إني أسألكم، أليست طريقة التعليم التي جئتمونا بها سببًا

من أسباب الجنايات؟

ويدعم هذا الرأي الإحصاء الذي أورده المسيو غيليو قال:

إن من مائة ولد يحاكمون، لا يكاد يكون اثنان من تلامذة المدارس

الدينية والباقون من سواها.

هذا ولما كان الشارعون في التعليم اللاديني في مصر يريدون الانتساب

إلى ابن رشد، فلا نرى بدًّا من أن نبدي لهم في المقام رأي ذلك الفيلسوف

نفسه في هذه المسألة.

جاء في الهلال عدد 2 سنة 2 صفحة 41 في ترجمة ابن رشد، وقد قال:

إنه ينبغي للإنسان في حداثته التمسك بالدين، وإنه إذا توصل إلى معرفة

حقائق الدين السامية نظريًّا، فلا ينبغي أن يزدري بالمبادئ التي نشأ عليها.

وسئل رينان شارح فلسفة ابن رشد في هذا العصر: كيف تصلح أخلاق

الأحداث؟ فقال: إني آسف كثيرًا؛ لأن ذوي الشأن لا يهتمون بغرس مبادئ

الدين في صدورهم.

ورأي ابن رشد ورينان يشجب المدارس اللادينية، حتى إذا صحت

دعوتها الأولى؛ وهي أنها تعلم العلوم في معزل عن الدين، فكيف وهي لا

تقصد حقيقة سوى مقاومة الدين ومقاتلته، وذلك بشهادة الزعماء والأركان.

قال المسيو فيفياني في مجلس النواب الفرنساوي: لقد حان الوقت لأن

نجاهر بأن كلمة (الحياد) ؛ لم تكن سوى أكذوبة سياسية وخدعة، قضت بها

الظروف لتسكين خواطر ذوي الضمائر الضعيفة. أما الآن فالواجب أن

نكشف حقيقة مقاصدنا، ونقول: إنه لم يكن في نيتنا سوى أمر واحد؛ وهو

إنشاء مدرسة تقاوم الدين بنشاط وجهاد.

قال المسيو أولار رئيس جمعية التعليم العلماني: كفانا ذكرى الحياد (في

الأمور الدينية) في المدارس، فلا نقول بعد الآن: إننا لا نريد دك الدين بل

لنجاهر أننا نريد دكه دكًّا.

وجاء في مقدمة الجزء الثاني من كتاب (التعليم الجمهوري) الذي

وضعته (جمعية نشر التعليم العلماني) 1905 ما يلي: (دعونا من الله، إننا

لا نريد أن نهدم الكنيسة فقط، بل نريد أن نقتل الله نفسه) (قاتلهم الله ولعنهم) .

وجاء في كتاب (القوى الطبيعية) للمسيو هنري أرنول أحد أساتذة

المدرسة العلمانية في بيروت ما يلي: (الله هو الكذب. اقرأ بوفون وفولتر وكوفيه

وداروين نفسه تجد أن كل مرة لم يتمكن يراع أولئك المفكرين العظام

من جعل حقيقة تنتشر في الكون وتسير في سبيلها، كان المانع لها الله) .

هذه نتائج التعليم الذي يريد أن ينفحنا به ماسون الإسكندرية وأعوانهم،

كأننا في حاجة إلى عوامل جديدة لزيادة الجنايات، وتكثير حوادث الانتحار،

وبث روح اللاوطنية في هذا القطر، وهذه قواعد ذلك التعليم وغايته، ولا نعلم

كيف تطلب مساعدته من حكومة ذات دين رسمي تنفق على إقامة شعائره

مبالغ طائلة، وتبث الأئمة والوعاظ في البلاد مستعينة بمواعظهم على تقليل

الجنايات، وتشترك بثمانية آلاف نسخة من مجلة دينية؛ رغبة في إصلاح

الأخلاق، وكتابها ينادون أنها دينية قبل كل شيء، ويتحاشون ذكر اسم

الجلالة في الجرائد؛ حذرًا من أن يؤدي ذلك إلى امتهانه، ويقومون ويقعدون

إذا فكرت بلدية الإسكندرية بإقامة تمثال لشاعر أهان نبيهم، ألا يرى الكاتب

أن هذه الحكومة إذا أجابت طلبه تقع في التناقض؛ إذ أنها مخطئة: إما في

تعزيز الدين وإما في المساعدة على مقاومته، وإن طلب المساعدة من مثل

هذه الحكومة لمثل هذه الغاية منتهى السذاجة أو غاية الوقاحة. اهـ.

(المنار)

سبق لنا كلام في انتشار الإلحاد في فرنسة، وأنها ستكون أول دول أوربة

هلاكًا إذا لم تتدارك ذلك، وما كنا سمعنا عن أحد من عقلائها كلامًا في ذلك؛

كالذي ترجمته لنا جريدة الأخبار، وما دعا الحكومة الفرنسية إلى هذا إلا خوفها

على جمهوريتها؛ لأن جميع رجال الدين فيها يعتقدون وجوب الحكومة الملكية،

فما جاءتها هذه الفتنة إلا من السياسة الملعونة، ومن العجائب أن ما حاولته

فرنسة ولم تتجرأ على التصريح به إلا بعد عشرات السنين من السعي له، ينفذ

في بلادنا بعد الدستور فجأة، ويعلن إعلانًا، وما نسبة ماسون الإسكندرية هذا

النوع من التعليم إلى ابن رشد إلا غش وخداع، وإن لنا لعودة إلى هذا الموضوع

إن شاء الله تعالى.

_________

(*) من صاحب الإمضاء من أهل العلم في طرابلس الشام.

ص: 544

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(مجموعة الرسائل)

أهدانا الشيخ محيي الدين صبري الكردي الكانيمشكاني أكثر من ثلاثين رسالة،

انتقاها وطبعها في مجموعة بلغت صفحاتها 633 صفحة، من قطع رسالة التوحيد،

وأكثر هذه الرسائل لابن سينا الفيلسوف وللغزالي ولمحيي الدين بن عربي

وباقيها لبعض المشهورين مثلهم كابن تيمية والسيد الجرجاني والفخر الرازي

وغيرهم، وهي في الفلسفة والأخلاق والآداب والعقائد والتصوف، منها أصول

الكلام للرازي والرسالة البعلبكية لابن تيمية، وهي التي يثبت فيها أن القرآن كلام

الله ليس للنبي ولا لجبريل ولا غيرهما شيء منه، وإن القارئ كثيرًا ما يجد في

رسائل أمثال هؤلاء العلماء الأعلام ما لا يجده في كتبهم الكبيرة من التحقيق والفائدة،

وقد تصفحت كثيرًا من رسائل هذه المجموعة، فرأيتها مفيدة للجمهور إلا بعض

رسائل ابن عربي. منها:

كتاب المؤمل، للرد إلى الأمر الأول:

هذا الكتاب الوجيز لعبد الرحمن المشهور بابن أبي شامة الفقيه الشافعي

المتوفى سنة 665، وهو مختصر في رسالة جعلت أول هذه الرسائل في المجموعة،

وإنما أخرت ذكره للتنويه بأهم وأنفس مسائله وفوائده؛ وهي مسألة الاجتهاد

والتقليد المقصودة بالذات منه، فهو يريد بالرد إلى الأمر الأول رد الدين إلى الكتاب

والسنة، وقد بدأ كلامه بذكر ضعف العلم في زمنه واندراسه، وبمدح الله ورسوله

للعلم وأهله، ثم بذكر الأئمة المجتهدين الذين نشروا علوم الاجتهاد في جميع الآفاق

من شرعية ولغوية، قال: وهم في ذلك متفاضون، فمنهم المحكم لعلم الكتاب،

ومنهم القائم بأمر السنة، ومنهم المبرز في العربية، ومنهم الممعن في استنباط

الأحكام، وقل من اجتمع فيه القيام بجميع ذلك، فكان من أجمعهم وأقومهم به إمامنا

أبو عبد الله القرشي الطلبي الشافعي رضي الله عنه، وذكر جملة صالحة من

فضائله وما قاله علماء عصره فيه، ثم تكلم في صفة العلماء وفائدة علم الدين،

وانتقل من ذلك إلى الاجتهاد واستنباط الأحكام، وجعل ذلك خاصًّا بالحكام وهذا هو

الذي كنا حققناه في (محاورات المصلح والمقلد) ثم عقد فصولاً لبحث الاجتهاد

والتقليد، نقلنا بعضها في غير هذا الموضع من هذا الجزء، تحت عنوان (بحث

الاجتهاد والتقليد) .

***

(كتاب الصاحبي في فقه اللغة العربية، وسنن العرب في كلامها)

هذا الكتاب من تصنيف الشيخ أبي الحسين أحمد (ابن فارس) أحد أئمة اللغة

المشهورين المتوفى في القرن الرابع، وسمّاه الصاحبي نسبة إلى الصاحب ابن عباد

الوزير، واسم هذا الكتاب يدل على موضوعه، وهو بمعنى ما يعبرون عنه اليوم

بفلسفة اللغة.

من مباحث الكتاب: هل اللغة العربية توقيف أو اصطلاح؟ ، وبحث كون

اللغات لا تجيء جملة واحدة في زمن واحد، وبحث الخط، وعلم العربية وفنونها،

وفضلها وسعتها، والقرآن وإعجازه واستحالة ترجمته، وخصائص اللغة العربية

في القلب والاختلاس والإدغام والحذف والإضمار والترادف. واختلاف لغات

العرب في الهمز والتليين والتقديم والتأخير.. وفصاحة قريش وما يعاب من لغات

العرب، وما لا تتكلم به إلا للضرورة، والقبائل التي نزل القرآن بلغاتها، وبحث

القياس في العربية.

ومنها الكلام في مراتب الكلام في وضوحه وإشكاله ومصادر الإشكال، وآداب

اللغة العربية قبل الإسلام وبعده، والاصطلاحات الدينية فيها، ومنها أقسام الكلام

وحدود الأسماء والأفعال والحروف وأجناسها وأقسامها، وفي هذه الأبواب مسائل

مهمة كوضع الأسماء للمجاورة، والسبب وكيفية وقوعها على المسميات،

والمشترك والترادف، ومنها الكلام على حروف المعاني بالتفصيل، وعلى حروف

المعجم وما يزاد في الأسماء والأفعال منها.

وأهم من هذه المباحث اللفظية ما جاء أبواب معاني الكلام؛ من مباحث الخبر

والاستخبار، والأمر والنهي والدعاء، والطلب والعرض والتحضيض، والتمني

والتعجب، والخطاب على اختلاف المخاطبين في الذكورة والأنوثة والعدد، وما

خالف الأصل في ذلك، ومباحث العدد والجمع والتثنية، وطرق الإفهام والفهم،

والمعنى والتفسير والتأويل، والمطلق والمقيد، والحقيقة والمجاز، والاتفاق

والافتراق، والقلب والإبدال، والاستعارة والحذف، والاختصار والزيادة والتكرار،

والعموم والخصوص، وإضافة الفعل إلى غير الفاعل في الحقيقة، وتحويل

الخطاب من الشاهد إلى الغائب والعكس.

ومن مباحث الكتاب الممتعة: مباحث معاني أبنية الأفعال وأسماء الصفات،

ومبحث التوهم والإيهام، والقبض والمحاذاة، وإضمار الأسماء والأفعال والحروف

والتعويض أي إقامة كلمة مقام أخرى تكون عوضاً عنها لنكتة.

وأعلى من ذلك كله ما عقده من الأبواب لنظم القرآن، وذكر منه عدة نظوم،

وكذلك أبواب الإضافة والتقديم والتأخير والاعتراض والإيماء، وتنزيل بعض

المخلوقات منزلة بني آدم في التعبير عنها بضمير العقلاء، ومباحث التهكم والهزء

والكف أو الاكتفاء والإعارة، وباب أفعل في غير التفضيل، والشرط والكناية

والاستطراد والاتباع والنحت والإشباع والتأكيد، وغير ذلك.

ما ضعفت اللغة فينا إلا بتركنا مدارسة أمثال هذه الكتب التي تبين لنا سنن

العرب في كلامها؛ بالشواهد والأمثلة في أمثال هذه الأبواب التي ذكرناها،

واقتصارنا على درس قواعد النحو والصرف والبيان بالأسلوب الفني الضعيف، مع

قلة الشواهد وعدم بيان طرق الاستعمال، ويا حبذا لو قرر تدريس هذا الكتاب في

الأزهر ومدرستي القضاء الشرعي ودار العلوم، وينبغي أن يطالعه الأدباء والكتاب

ولا سيما المصنفين ومحرري الجرائد، وأن يستعين به مدرسو أدب اللغة وتاريخها

على دروسهم، والكتاب يطلب من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز وثمنه سبعة

قروش صحيحة.

***

(السعادة والسلام)

كتاب في الأخلاق وفلسفة الآداب، وبيان سعادة الحياة، من تأليف حكيم

غربي ذاق لذة العلم والحكمة، وأمير إنكليزي ذاق جميع لذات الدنيا، فهو جدير

بصحة الحكم في مثل هذا الأمر، هذا المؤلف هو (لورد أفبري) صاحب الكتب

المتعددة فيما يقارب معنى هذا الكتاب؛ (منها معنى الحياة، ومسرات الحياة،

ومحاسن الطبيعة) وقد ترجم كتابه هذا بالعربية وديع أفندي البستاني فأحسن

الاختيار، وقدمه للناشئتين المصرية والسورية بعبارة جميلة قال:

(إليكم إخواني في الشبيبة حديثًا فلسفيًّا شعريًّا الحياة وسعادتها وسلامها،

وسائر أحوال أيامها وأعوامها، يبسطه شيخ جليل، وعالم كبير، قطع من مراحل

الحياة ما لم تقطع، واختبر فيها مال لم نختبر، حديثًا موجهًا للعقل والقلب والنفس

جميعا) .

عبارة المؤلف في الترجمة فيها سلاسة وسهولة، تشوبها أغلاط أكثرها في

الأسلوب والتركيب؛ وسببها فيما يظهر قراءة الكتب المسيحية وما كتب على

أسلوبها.

بل رأيت فيه من ضروب الخطأ والضعف في التعبير ما لم أر مثله في غيره

كقوله في ص8: (لكانت هي الحياة محتملة لولا ملاهيها (وصواب التركيب)

لولا ملاهي الحياة لكانت كذا) وانظر هل كلمة محتملة ههنا واقعة في محلها؟

ومن الشواهد على ما ذكرنا قوله في ص3: (ونظريًّا إن لم يكن الجميع فالسواد

الأعظم متفقون على أن السعادة والطمأنينة من أعظم البركات، أما فعليًّا فكثير من

يبيعهما مغبونًا)

إلخ، وكان ينبغي أن يقول: السواد الأعظم في الناس - إن لم

يكونوا كلهم - متفقون) اتفاقًا (نظريًّا على كذا) أو يقول: جل الناس أو كلهم

متفقون نظريًا على كذا؛ ولكن كثيرًا منهم يبيعها بالفعل مغبونًا

إلخ ومنها قوله:

(وحتى أعلم العلماء والأطباء قليل ما يعلمون عما في أجسامنا، ومنها قوله عقب

هذه الجملة) ، وهو من المقرر المسلم به أنه إذا تكلمنا أو قرأنا أو تفكرنا

إلخ،

وكان الصواب أن يقول: ومن المقرر المسلم أننا إذا تكلمنا أو قرأنا أو تفكرنا

إلخ.

والكتاب يطلب من مكتبتي المنار والمعارف.

***

(كتاب زراعة القطن ومقاومة آفاته وتحسين أنواعه)

إن القطر المصري يعد من أغنى الأقطار بزراعته، ولا يزال أهل العلم

والعمل يبحثون في وسائل زيادة إتقانه ومقاومة آفاته، وينشرون في ذلك الفصول

والمقالات والرسائل والكتب، ومن أحسن ما كتب في ذلك وأنفعه هذا الكتاب الذي

ترى عنوانه في أول هذه السطور؛ وهو من تأليف أحمد أفندي الألفي أحد

الموظفين في مزارع الأمير عمر باشا طوسون، قال المؤلف:

جريت منذ اشتغلت بالفلاحة على كتابة مشاهداتي فيها ومطالعاتي عنها في

مذكرات، كنت أنتهز الفرص لتهذيبها واستخلاصها؛ كمؤلف في الزراعة العملية

على الأصول الحديثة.

(وهذا كتاب القطن قسم من ذلك، أودعت فيه أفضل ما يعرف إلى الآن عن

زراعته ومقاومة آفاته وتحسين أنواعه، وأثبت ضمنه تقرير لجنة القطن الأخير

لمكانه من الأهمية والفائدة) .

(وإني لأرجو أن يكون كتابي هذا خير تذكرة للزارع المستنير، وأفضل

مرشد للفلاح المستفيد، فقد استقصيت في اجتناء الفوائد، والتقاط الفرائد، وإيداعها

فيه إيداعا مهذبًا عن تجربة واختبار، وبحث واستبصار) .

ومن المزايا التي كان بها هذا الكتاب من أحسن الكتب في موضوعه سهولة

عبارته، بحيث يسهل على الفلاحين أن يستفيدوا منه ما لا يستفيدون من غيره،

وثمن النسخة منه ثمانية قروش، ويطلب من مكتبة المنار.

***

(كتاب منتخبات البيان والتبيين)

كتاب البيان والتبيين للجاحظ هو أحد دواوين الأدب التي كانت عمدة العلماء

والأدباء؛ في تحصيل ملكة البلاغة وصناعة الإنشاء منذ القرن الثالث الذي ألف فيه

الكتاب، إلى أن نزل قضاء الله تعالى بهذه اللغة وعلومها وآدابها بعد زوال الدولة

العربية، فصارت الكتب النافعة الممتعة تهجر رويدًا رويدًا وتؤثر عليها كتب

الأعجمين المعقدة، ولما انتعشت هذه اللغة الشريفة بعض الانتعاش في هذا العصر،

طفق الناس يبحثون عن تلك الكتب المهجورة، ويصلون حبلهم بحبلها، فطبع

كتاب البيان والتبيين منذ سنين، ولكن طبعًا غير جيد ولا مصحح، وطبع في هذا

العام منتخباته في رسالة صغيرة تناهز جزءًا من أجزاء المنار، فيها من غرر

الكلام وعقائله ما يصدق عليه قول الشاعر:

تزين معانيه ألفاظه

وألفاظه زائنات المعاني

فأحث طلاب الإنشاء ومحبي الحكمة والأدب أن يقرءوا هذه المنتخبات المرة

بعد المرة مع التأمل في معانيها، والتفطن لأساليبها ومناحيها، وتوطين النفس على

احتذاء مثالها. وهي تطلب من مكتبة المنار.

***

(ابن تيمية)

كتب الشيخ رضاء الدين أفندي محرر مجلة (شورا) التي تصدر بلغة التتر

في أرنبورغ من روسية ترجمة حافلة لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية،

وطبعها في كتاب على حدته، فنحث أهل اللغة على قراءتها؛ لما نعلم من حسن

اختيار الكاتب لما ينفع الناس.

***

(الدعوة إلى الإصلاح)

قد عرف قراء المنار من قبل اسم الشيخ محمد بن الخضر المدرس في جامع

الزيتونة، وفي المدرسة الصادقية بتونس، وعرفوا أنه من العلماء المصلحين بما

كتبناه عن مسامرته (الحرية في الإسلام) بين فيها وجه الحاجة إلى الدعوة،

والدعوة في نظر الإسلام، وشرائط الدعوة والإخلاص فيها وآدابها، وآثار السكوت

عنها، والإذن في السكوت وأسباب إهمالها، وما يدعى إلى إصلاحه.

وقد بحث في هذه الفصول كلها بحث البصير المستقل، فنسأل الله أن ينفع به

ويكثر في تلك البلاد وغيرها من أمثاله، ولعلنا ننقل بعض فصول رسالته في جزء

آخر.

***

(صحف جديدة)

(مجلة الطلبة المصريين) أنشأ هذه المجلة إبراهيم صبحي أفندي أحد الطلبة

الأذكياء منذ ثلاث سنين، فلم تصادف من الرواج ما كان ينتظر، فاضطر إلى ترك

إصدارها، ثم اتفق مع طائفة من إخوانه على تأسيس شركة تتولى أمرها فأنفذوا

ذلك، وقد صدر الجزء الأول من المجلة في طورها الجديد في أول جمادى الآخرة

باسم صاحب الامتياز محمود بك سالم رئيس شركة مجلة الطلبة المصريين والمدير

المسئول، ورئيس التحرير عبد الحميد حمدي أفندي، والمجلة شهرية، صفحات

الجزء منها 56 وقيمة الاشتراك فيها للمساهمين في شركتها 20 قرشًا في السنة،

ولغير المساهمين من الطلبة 30، ولسائر الناس 40، وقد نقلنا عنها في الجزء

الماضي مقالة له في عددها الثاني عنوانها: السياحة المقيدة والعلم وأهله، ونحث

أهل الفضل على الإقبال على هذه المجلة؛ تنشيطًا لنابتة البلاد وتقوية لعزيمتهم

على هذا العمل النافع؛ ونشرًا لفوائد المجلة في البلاد.

(الوطنية) جريدة أسبوعية أصدرها في بيروت الشيخ محمد القلقيلي ثم

نقلها إلى مصر، وأذنت له الحكومة بنشرها فيها، وما عرفنا الرجل إلا معتدلاً

حسن النية، وقد كتب في الجرائد المصرية عدة سنين وفي الجرائد السورية سنتين،

فصار له خبرة بأحوال القطرين، وهو معروف بالأمانة، فهو جدير بأن يوثق به

وتروج جريدته، وهذا ما نتمناه له، وفقنا الله تعالى وإياه.

(البلاغ) جريدة أسبوعية صدرت في بيروت مشربها النداء بالجامعة

الإسلامية، أصدرها محمد أفندي الباقر ونصوحي أفندي بكداش، وهذا المشرب

الذي اختاره هو المشرب الذي يستعذبه الكثيرون، فعسى أن يوفق هذان الشابان

الذكيان إلى كل ما يجعل صحيفتهما في مكان الثقة التي تليق بموضوعها الجليل

الدقيق لتبقَى وتفيد.

(المحامي) جريدة أسبوعية، أصدرها في طرابلس الشام أحمد أفندي

سلطان المحامي الذائع الصيت في اللواء بل في الولاية وما جاورها، وستكون

جريدته ممتازة بين أخواتها من جرائد الوطن؛ بأهم ما يهتم به القراء من إبراز

الأخبار والآراء في قوالب من أحكام الشرع ومواد القانون تزيد الثقة بها والأمن

عليها من أحكام المحاكم. وقيمة الاشتراك السنوي فيها بمصر والبلاد الأجنبية 10

فرنكات، فنتمنى لها النجاح والبقاء.

_________

ص: 548

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فقيد مصر

مصطفى رياض باشا

(2)

قلنا: إن رياض باشا فاق الأقران، وكان من نوابغ الزمان، بفطرته الزكية،

وأخلاقه الشريفة، وإن من تلك الأخلاق والسجايا الاستقلال في الرأي والعمل،

والابتكار والتصدي للإصلاح

إلخ.

كان هذا الرجل يعمل في عهد إسماعيل باشا وما قبله ما يمكنه أن يعمله من

الإصلاح ومنع الظلم، حتى كان يعرض نفسه للخطر وينقذه الله تعالى منه

بإخلاصه، واعتقاد أميره أنه لا يستغني عن مثله في حكومته، وقد جمع إسماعيل

مرة كبار رجاله واستشارهم في وضع ضريبة جديدة فوق تلك الضرائب الكثيرة،

فما منهم إلا من أظهر الاستحسان وأبدى رأيه في كيفية وضعها وطريق تنفيذها،

إلا رياض باشا فإنه ظل ساكتًا حتى سأله إسماعيل لم لم يتكلم؟ فقال: إن عندي كذا

فدانًا عليها من الضرائب كذا، وهو يزيد عن غلتها بقدر كذا، فأدفع هذه الزيادة من

راتبي، فالذي أراه أن حال الأهالي لا تحتمل أكثر مما عليهم، ولما أمرهم الأمير

بالانصراف طفق بعض الباشوات يلكزون رياضًا قبل أن يبرحوا الباب، ويقولون:

ما لك تعرض نفسك للهلاك؟ فقال لهم بصوت جهوري: إنني أرضى أن أعرض

نفسي للهلاك ولا أعرض أهل البلاد كلهم له، وله وقائع متعددة من هذا القبيل؛

ولذلك قال لورد كرومر: إنه هو الذي تجرأ على تعليق الجُلجُل في عنق الهرّ،

يشير بهذا إلى المثل العربي الذي نظمه (لافوتين) الإفرنجي فيما نظمه من الحكم

والأمثال؛ ولما عز على فقيد مصر العمل بالاستقلال في آخر عهد إسماعيل،

وتعذر عليه الاتفاق معه، هاجر من مصر إلى أوربة، وعزم على الإقامة فيها

طول حياته أو تتغير الحال، ولم يعد منها إلا بعد سقوط إسماعيل، وطلب توفيق

باشا له ليتولى رياسة حكومته الجديدة.

سقط إسماعيل باشا عن عرشه والبلاد على شفا جرف هار مما برّح بها الظلم

وما نشأ عنه من الفقر والذل، والغرق في الدَّين بأخذهم المال من الأوربيين بالربا

الفاحش أضعافًا مضاعفة، فأراد توفيق باشا أن يري البلاد عصرًا جديدًا فوسد

الأمر إلى رياض باشا؛ لعلمه بأنه رجل الهمة والإقدام والرغبة الصادقة في

الإصلاح.

قال الأستاذ الإمام فيما كتبه من أسباب الثورة العرابية في سياق ذكر وزارة

الفقيد وتأثيرها في البلاد ما نصه:

حفظ رياض باشا لنفسه إلى رياسة النظارة نظارة الداخلية أصالة ونظارة

المالية نيابة مؤقتة، كان ولا يزال رياض باشا يألف إدارة الأمور الداخلية؛ لعلمه

أنها روح السلطة الحقيقية في الحكومة، وهي التي تشرف على أحوال الأهالي

مباشرة وتتصل بأهم شؤونهم، فيهمه أن يكون هو الآخذ بزمام تلك الإدارة؛ اعتقادًا

منه أن ذلك يمكنه من أن يعمل بنفسه ما هو خير للعامة. أما نظارة المالية فقد

استضمها إلى وظائفه موقتًا؛ لأن المشاكل المالية هي التي كانت أهم شيء يستدعي

دقة الفكر وشدة الالتفات، فأراد أن يكون المباشر لجميع المخابرات التي تحصل

فيها خصوصًا وله بها إلمام سابق؛ لأنه كان النائب عن الحكومة في لجنة التفتيش

العليا.

قبض رياض باشا على إدارة الداخلية بيد شديدة وعزم ثابت. وأول شيء

توجهت عزيمته إلى محوه بسرعة تامة التسخير الشخصي.

ربما يسأل سائل ما هي السخرة الشخصية: التسخير في البلاد المصرية كان

على نوعين: التسخير باسم المنفعة العامة؛ وهو إلزام الأهالي بالعمل مجانًا بلا

أجر فيما لا بد منه لمصالح العامة؛ كإقامة الجسور على الأنهار العظيمة، وحفر

الجداول الكبيرة التي تستمد المياه منها بلاد كثيرة، وتشييد كل بناء يقام بأمر

الحكومة. والنوع الثاني هو إلزام الأعلياء لمن دونهم بالعمل في منافعهم الخاصة

بدون أجرة، ويسومونهم مع ذلك آلام الضرب والإهانة إن لم يؤدوا ما فرضوه

عليهم من تلك الأعمال الخاصة، أو أدوه وقصروا في تطبيقه على ما في نفس

وكلاء أولئك الأعلياء، أو أتوا به كما ينبغي وكما يريد الوكلاء، ولكن كان الوكيل

أو الناظر أو الخولي يشتهي أن يضرب لمجرد التلذذ بالضرب، ولا يستثنى من

ذلك موظف إلا أن يكون في نهاية العجز الطبيعي، بحيث لا يستطيع أن ينطق

بكلمة (أرميه)[1] أو أن يحرك الكرباج بيده.

(كان كل ذات من الذوات الفخام له بلاد تتعلق به، يستخدم سكانها في

أراضيه بأشخاصهم وماشيتهم في جميع مواسم الزراعة، على شريطة أن يحمل

العاملون أزوادهم وأقواتهم وأدوات العمل وغذاء ماشيتهم من ديارهم إذا كانت البلاد

قريبة، فإن كانت بعيدة سمح لهم بغذاء الماشية فقط دون غذاء الآدميين. ولكن لا

يسمح لهم بأماكن تقي من البرد والمطر أيام الشتاء تبيت فيها العملة الذين يعملون له

مجانًا، بل كانوا يبيتون كراديس في (الدوار) تحت السماء، كما لا يسمح

بمستظل يقيهم الحر أيام الصيف، فالقر يقتلهم شتاء والحر يذيبهم صيفًا، والذوات

الكريمة تجني ثمار أعمال الموتى وتتلذذ بما تطعم من أيديهم. وهكذا كان يصنع

أصاغر موظفي الحكومة وعمد البلاد كل على حسب اقتداره في التسخير؛ العالي

يسخر من دونه إلى أن ينتهي كل استعباد وتذليل إلى أدنى طبقة من الشعب.

ولا أريد بيان ما في هذه الحال من الأضرار المادية والعقلية والأدبية، فكل

من استحق أن يسمى إنسانًا يعلم أنها كانت ضربة قاضية على الحياة الوطنية

والوجود الملي، وقاتلة للشعور بالاستقلال الإداري الخاص بالنوع الإنساني، وزد

على ذلك أنها ما كانت تدع للفلاح وقتًا يعمل فيه بأرضه، فكانت أوقاته موزعة بين

السخرة العمومية والسخرة الخصوصية، فأوقات عمله لنفسه كانت خلسات بين هذه

الأوقات، فكيف كان يعيش؟ لا أدري كيف بقي الفلاح حيًّا مع هذا، لولا ما عرف

من صبر المصريين على أن يعيشوا؟

ساعد رياض باشا على محو هذه الجريمة ما كان يظهر من ميل الجناب

الخديوي إلى العدل والتعفف عن دنيء الكسب؛ فلذلك شدد ناظر الداخلية في أوامره

إلى المديرين وسائر المأمورين أن لا يأتوا عملاً من ذلك، وأن لا يسمحوا لغيرهم

أن يأتيه، وأظهر من الشدة في ذلك ما أخاف رجال الحكومة وغيرهم، فأخذ على

أيديهم وأيدي الذوات، بل وعلى أيدي الأغلب من عمد البلاد، وفي مدة قريبة لم

يبق أثر للتسخير الشخصي إلا في بعض الأطراف على طريق الخفية والكتمان

ونوع من الشفقة؛ خوفًا من الحاكم القوي، وبالغ رياض باشا في ذلك حتى أنه آخذ

مدير القليوبية مرة في إرسال بعض أشخاص من أهاليها؛ لحفر الترعة التوفيقية

التي تصل إلى أراضي القبة لأنها خاصة بالخديو، ووبخ المدير توبيخًا شديدًا،

وعرض الأمر على الخديو فاستحسنه، ولكن لم يذهب بلا أثر في نفسه، فإن

المبالغة في العدالة إلى هذا الحد مما لا يلتئم مع السلطة العليا في مصر مهما كانت

منزلة الحاكم من الكمال. فانظر ماذا يكون في نفوس أكابر رجال الحكومة السابقين،

بل والحاليين من رياض باشا بعد حرمانهم من منافع أبدان الرعية بغتة بلا تدريج؟

وبعد ذلك شرع رياش باشا في إجراء ما كانت أشارت به لجنة التفتيش العليا

(من الأجانب) من إبدال نظام السخرة بنظام آخر أضمن للعدل؛ في توزيع ما

يلزم للأعمال اليومية من منفعة أو عمل على المنتفعين بها، وجمع لذلك كثيرًا من

الأعيان للاستعانة برأيهم، ولكون الأمر غريبًا على أذهانهم لم يهتدوا فيه إلى وجهة

الصواب فانصرفوا، ووضعت الحكومة نظامًا حسبما هداها إليه رأيها، يقضي

بالتخيير بين دفع بدل نقدي وبين القيام بالعمل البدني، وأخذ في تنفيذه ولكن حالت

دونه صعوبات كثيرة، فمن الأغنياء من دفع البدل عن رجاله، ثم أكرهوا بعد ذلك

على العمل بأبدانهم، ومن الناس من أراد دفع البدل النقدي، فلم يقبل منه وألزم بأن

يعمل بنفسه؛ وذلك لعدم التعود على إيفاء الأعمال بطريقة المقاولات، ومع ذلك فقد

خف الويل بهذا النظام عن كثير من الفلاحين، وشعروا بأن أوقاتهم ملك لهم، ولكن

كانوا يظنون أن أبدانهم وأزمان حياتهم وهبت لهم من جانب ملاكها وما كان يخطر

ببالهم أنها كانت مسلوبة منهم ثم ردت إليهم؛ ولذلك كنت تراهم يتعجبون، وينقلون

أخبار هذه القصة بالدهشة والاستغراب، كأنه قد رسخ في نفوسهم أن ليس من شأن

الحاكم أن يعدل، فإن طبيعة الحكم تقضي بالظلم.

وهنا أورد حادثة تدل على شدة حرص رياض باشا في ذلك الوقت على أن

تكون أعمال الفلاحين منحصرة فيما يعود عليهم بالمنفعة العامة والخاصة: هطل

مطر غزير نشأ عنه سيل جرف جانبًا من جسر سكة حديد من خط السويس،

فكتبت مصلحة سكة الحديد العمومية إلى مدير الشرقية وكان فريد باشا، تستنهض

همته في إرسال مئتي شخص لإصلاح الجسر، فأمر المدير بإرسال العدد المطلوب

في الحال وأصلح الجسر، ولم تأت مصلحة سكة الحديد ولم يفعل المدير إلا بعض

ما هو معهود في البلاد، وما لم يكن يعده الأهالي شيئًا نكرًا، خصوصًا وقد كان

الناس يفهمون أن أعمال السكك الحديدية من الأعمال العمومية، فلما بلغ الخبر

رياض باشا استدعى أولاً فريد باشا وعنفه أشد التعنيف مع ما هو معلوم بينهما من

المحبة وشدة القرابة، ولم يكتف بذلك، بل أمر بكتابة منشور عمومي لجميع

المديرين، فكتب المنشور عدة مرات، وكلما قرأه لم يجده وافيًا بغرضه؛ لعدم تعود

الكتاب على التنويه بشأن الأهالي إلى الدرجة المطلوبة له فيمزقه ، وآخر الأمر

دعاني لتحرير ذلك المنشور فكتبته وذكرت فيه الحادثة، وأتذكر منه هذه الفقرة:

(وليعلم المديرون والأهالي جميعًا أن الأهالي ليسوا عبيدًا لأحد، ولا لأحد عليهم

سلطان إلا فيما يتعلق بمنافعهم عامة أو خاصة) وهذا تصريح من رئيس الحكومة

النائب عن الجناب الخديوي بإعتاق الأهالي من عبودية التسخير، بل من العبودية

للحاكم على وجه الإطلاق، وهذا مما لم يعهد له مثل من قبل. اهـ المراد هنا.

(المنار)

هذا ما كتبه الأستاذ الإمام في إبطال رياض باشا للسخرة، وفيه ما ترى من الفائدة التاريخية والعبرة.

وسنذكر في النبذة التالية ما كتبه من أعماله الإصلاحية الأخرى؛ كتوزيع مياه

النيل بالقسط لري الأرض ومساواته فيها بين الرؤساء والفلاحين، وإلغاء الضرائب

الكثيرة، وإبطاله استعمال الكرباج، ومنعه الحبس لتحصيل الحقوق الأميرية

والشخصية، وغير ذلك من أعماله الجليلة.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

أمر من الرمي على ما تنطق به العامة؛ أي ألقه على الأرض لأجل الضرب.

ص: 555

الكاتب: محمد رشيد رضا

سوء التفاهم بيننا

وبين أصحاب مجلة دين ومعيشت

تكلمت مجلة دين ومعيشت فيما رددنا به عليها في الجزء الرابع، وقالت إنه

ليس ردًّا عليها، بل على ذلك التتري الذي ترجم لنا عبارتها ترجمة غير صحيحة،

وجزمت بأنه كان متعمدًا لذلك وساعيًا بالفساد، وكان لها أن تلتمس له عذرًا بضعفه

في الكتابة العربية، وقالت: إن تذييلها ما كانت نقلته عن الجزء الأول من المنار،

لم يكن للتردد في صدقه ولا للرغبة في تكذيب طلعت بك لأقوال المنار، (بل

كان هذا ليتأكد صدق المنار، فإن غاية ما تمنيناه هي بعينها ما يتمناه صاحب

المنار في هذه المسألة، فلهذا لما طالعنا ما رده صاحب المنار وأنه غير موجه إلينا،

واطلعنا على بشارته بقرار طلاب الإصلاح المقاومين لأولئك الزعماء بإبطال

المحافل الماسونية من عاصمة الآستانة، انشرحت صدورنا وانكشفت همومنا شرحًا

وكشفًا لا نقدر قدره، وهذه البشارة لا تعد لها ولا تكافئها الدنيا وما فيها فلله الحمد

وله المنة) .

ثم قالت: وأما نحن أصحاب مجلة دين ومعيشت بحمد الله تعالى مسلمون،

ولسنا بكاهنين ولا متكهنين، فإن الكاهن عدو الله وكافر بالإجماع، فكيف المتكهن؟

(فبإقرار منا على فضيلة صاحب مجلة المنار، لا نلتزم الاتباع له في كل

ما كتبه وبسطه، فإن كان هو حقًّا في اعتقادنا، ووافق لما سبلناه وسلكناه كما هو

في مسألة التياترو صدقناه واتبعناه، وإن كان غير ذلك كما في مسألة الحجاب

رددناه أو سكتنا، وهذه سنة الله في الذين خلوا من قبل) .

المنار:

إن الخلاف يقع بين الناس بسوء الفهم أكثر مما يقع بسوء القصد،

ولو كنا نكتب نحن وأصحاب هذه المجلة بلغة واحدة لسهل الاتفاق بيننا مع حسن

النية في كل شيء. وإني رأيت في عبارتهم العربية ضعفًّا، فأخشى أن خلافهم

للمنار في بعض المسائل جاء من ذلك. مثال ذلك أنهم ههنا جزموا بأن المتكهن

أجدر من الكاهن بالإجماع على كفره، وهم يشيرون بهذا إلى قولنا: إن مجلتهم

(تكهنت في استنباط الباعث) على ما كتبناه. قال في الأساس:

(وتكهن قال ما يشبه قول الكهنة) وبهذا المعنى يستعمل هذا اللفظ في

مصر وغيرها من البلاد العربية، ومن قال ما يشبه قول الكهنة في الأخبار عما لا

يقوم عليه دليل ظاهر؛ كالكلام عن نية إنسان أو مقصده لا يكون كاهنًا ولا يكون

حكمه حكم الكاهن (ولا نبحث هنا في حكمه) فهل يصح أن يكون أولى من الكاهن

فيما يحكم به عليه؟ لا. لا يبعد أن يكون فهمهم لما قلناه في مسألة الحجاب كفهمهم

لهذه الكلمة، وإننا لا نطالبهم باتباع المنار في شيء قط بل باتباع الحق إذا ظهر

دليله، سواء وافق ما كانوا عليه من قبل أم لا؛ فإن الحق أحق أن يتبع. وفقنا الله

وإياهم لاتباعه في كُلِّ حَالٍ وَكُلِّ آنٍ.

وأما سرور أصحاب هذه المجلة من قيام صادق بك ومن معه لإصلاح ما

أفسده غيرهم، فيشاركهم فيه أكثر العثمانيين وجميع المسلمين الذين يغارون على

هذه الدولة لأنها إسلامية، ولا يرضون أن يكون سلطانها (إمبراطورًا) لا

(خليفة) ولا ندري أيتم السرور أم لا، فإن أولئك الزعماء يجمعون أمرهم الآن

ليستعيدوا نفوذهم. وقد وصلوا بالدولة إلى حيث صارت أوربة تنذرها بالقضاء

عليها، ونسأل الله السلامة وحسن العاقبة.

_________

ص: 559

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جمعية الاتحاد

ومشروع العلم والإرشاد

علم المركز العمومي لجمعية الاتحاد والترقي أن مسلمي الآستانة ساخطون على

الجمعية؛ لمنعها تنفيذ مشروع العلم والإرشاد فيها، وكذا غيرهم، فأرسل إلى جميع

أندية الجمعية بلاغًا يعتذر فيه عن ذلك؛ مدعيًا أنه كان عين مندوبين من أعضاء

الجمعية في الآستانة؛ ليبحثوا مع صاحب المشروع في حقيقته، وهذان المندوبان كتبا

إلى المركز العمومي بأن رأيهما عدم تنفيذ المشروع لأسباب تتعلق بشخص مقترحه.

سخر المركز من أنديته وغشها بهذا البلاغ، والحق أن الجمعية لم تنفذ المشروع

لأمرين:

(أحدهما) أن من أصوله أن يكون تعليم المرشدين باللغة العربية ويعلمون

التركية إلزامًا.

(وثانيهما) أن مقصده حياة الدين بمعزل عن السياسة، وإلا فإن جمعية المشروع

قد تأسست، والمقترح قد ترك الآستانة يائسًا من العمل، فلينفذوا المشروع بأنفسهم

إن كانوا صادقين.

_________

ص: 560

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

أسئلة من الإسكندرية

(س 42 44) من صاحب الإمضاء.

حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا دام بقاه

السلام عليكم، أرجوكم إجابتي عن الأسئلة الآتية:

1 -

ما معنى الباقيات الصالحات في قوله تعالى: {المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ

الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف:

46) .

2 -

هل يجوز إعطاء جماعة الدعوة والإرشاد من مال الزكاة؛ ليضعوه

في مشروعهم الخاص بالمسلمين، فإن جاز، فهل يجوز نقلها لهم لمحلهم، ولو

كان أبعد من مسافة القصر كَمِن الإسكندرية لمصر.

3 -

ما معنى الدنيا والآخرة وحرثهما في الآيات، وما ماثلها {مَن كَانَ

يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ

فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (الشورى: 20) {مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا

وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي

الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود: 15-16)

فهل الذي يعمل للدنيا يبعد عن الآخرة ويقرب من عذابها؟ وما هو العمل الخاص

بالآخرة. أفيدونا ولكم الأجر والثواب.

...

...

...

...

... محمد ميلاد

(الباقيات الصالحات)

أما الجواب عن السؤال الأول فهو أن الباقيات الصالحات هي الأعمال التي

تصلح بها النفس وتتزكى، حتى تكون أهلاً لدار الكرامة في الآخرة، سميت باقيات؛

لأن أثرها يبقى في نفس عاملها بما تطبع فيها من الملكات الفاضلة والصفات

الجميلة التي يترتب عليها الجزاء بالحسنى في الآخرة، وذكرت في مقابلة المال

والبنين اللذين كان المشركون يفاخرون بهما فقراء المسلمين من السابقين الأولين

كعمار وصهيب، ويظنون أنهم ينالون بهما سعادة الآخرة، كما حكى الله عنهم

غرورهم بهما في قوله: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (سبأ: 35) .

***

(إعطاء مال الزكاة لجماعة الدعوة والإرشاد)

وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو القول بجواز إعطاء جماعة الدعوة

والإرشاد من مال الزكاة؛ لأنها تنفق هذا المال في مصارفه الشرعية؛ لأنها تعلم

طائفة من الفقراء والمساكين وتربيهم وتنفق عليهم، ومن هذه المصارف ما فرضه

الله تعالى لصنف المؤلفة قلوبهم وهذه الجماعة، هي الجديرة بمعرفة هذا الصنف

والاستعانة بمال الزكاة على تأليف أفراده؛ ليتمكن الإيمان من قلوبهم بتصديها

للدعوة إلى الإسلام.

وقد اختلف الفقهاء في جواز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر، فمنعه بعضهم؛

واستدلوا بحديث معاذ عند الشيخين؛ إذ أمره عندما أرسله إلى اليمن أن يأخذها من

أغنيائهم ويضعها في فقرائهم، وما في معناه. وأجازه آخرون؛ لأن النبي صلى الله

عليه وسلم كان يرسل عماله، فيأتون بالزكاة من الأعراب إلى المدينة، فينفق منها

على فقراء المهاجرين والأنصار، وهذا معروف مشهور، وحديث معاذ وغيره ليس

فيه ما يدل على منع النقل، ولكنه قد يدل على أنه خلاف الأصل؛ إذ النقل لا

يكون إلا لسبب أو مصلحة، وهذا هو المختار عندي في المسألة.

تظهر حكمة الشرع ظهورًا بينًا في قيام أغنياء كل بلد بسد ضرورات

وحاجات الفقراء والمساكين فيها، فإن البائس المعوز الذي تراه هو أولى برحمتك

ورعايتك ممن تسمع ببؤسه وإعوازه على البعد، وأجدر أن تحول بينه وبين حسده

لك على ما يرى من نعمتك، وتمني زوالها عنك، وإنما يكون ذلك بأن تفيض عليه

منها، وتجعل له نصيبًا فيها، والبلاد المجاورة لبلدك التي تعرف فقراءها أو

يعرفونك حكمها حكم بلدك، وهي التي يتردد أهلها بعضهم على بعض عادة، وإن

كانت دون مسافة القصر، فهذه المسافة التي يقدر بعض الفقهاء بها لا دليل عليها،

ولا يظهر ما ذكرنا من الحكمة ولا غيره فيها وحديث معاذ في أهل اليمن كافة، فهو

إن دل على منع نقل الزكاة، فإنما يدل على منع نقلها من القطر اليماني الذي جعل

عاملاً عليه إلى الحجاز وغيره من البلاد التي لا ولاية له عليها، فالمنع لأجل

الولاية لا لأجل المسافة، فيكون مخصوصًا بما يأخذه الولاة والعمال؛ كزكاة الأنعام

والزرع. وإما ما يوزعه المالك من زكاته فلا دليل على الحجر عليه فيه.

ويظهر من عبارة الحديث أيضًا تخصيصه بسهم الفقراء والمساكين، ويلزمه

سهم العاملين عليها خاصة؛ لأنهم يأخذونه مما يجمعونه، فالذي يجمع زكاة أهل

اليمن مثلاً لا يأخذ سهمه من زكاة أهل الحجاز. وهذا إذا كان كل وال يوزع زكاة

البلد الذي يتولاه فيه.

وكذلك المؤلفة قلوبهم والغارمون وأبناء السبيل، يعطون سهامهم حيث

يوجدون، والأقرب منهم أولى من الأبعد على ما ذكرنا في الفقراء، فلا يتجاوز

الأقرب مكانًا أو نسبًا إلا لمصلحة؛ كأن يرى المزكي أن من في البلد الآخر أحوج،

أو أن إعانته أنفع. وأما السهم الذي في سبيل الله فمجاله أوسع ولا سيما على ما

اختاره الأستاذ الإمام من شموله لمصالح المسلمين العامة كلها.

***

(حرث الدنيا والآخرة)

وأما الجواب عن الثالث؛ فهو أن الحرث عبارة عن الزرع، ومنه الأثر

المشهور: الدنيا مزرعة الآخرة والحرث والزراعة هنا من باب المجاز، فمريد

حرث الدنيا هو من يعمل عمله فيها؛ لأجل التمتع بلذاتها، لا يبتغي من حياته فيها

غير ذلك. ومريد حرث الآخرة هو من يعمل أعماله التي هي غرضه من حياته

لأجل الآخرة، أي يكون مخلصًا في عباداته ويلتزم في معاملاته أحكام الشرع التي

تحدد بها الحقوق، فلا يظلم ولا يأكل مال أحد بالباطل، ويتحرى الحق وعمل

الخير، فيتصدق من فضل ماله على الأفراد وفي المصالح العامة، وهو يتمتع

بالطيبات وزينة الدنيا من طريق الحل، ولكن ذلك لا يكون هو مراده من حياته،

بل يكون له مراد أعلى وهو الاستعداد لحياة الآخرة الباقية، وقد فصلنا القول في

هذه المسألة تفصيلاً في تفسير قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي

الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي

الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة: 200-201) .. إلخ فراجعه في الجزء الثاني من

التفسير، وقوله تعالى: ?? {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ

نُؤْتِهِ مِنْهَا} (آل عمران: 145) وقوله تعالى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن

يُرِيدُ الآخِرَةَ} (آل عمران: 152) فراجعهما في الجزء الرابع من التفسير.

_________

ص: 574

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌علم الفلك والقرآن

نظرة في السماوات والأرض

نشرت هذه المقالة في مجلة الطلبة المصريين، ثم زاد الكاتب فيها بعض

زيادات وحَواشٍ.

{قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَاّ

يُؤْمِنُونَ *} (يونس: 101-102) {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ

النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (غافر: 57)

...

...

...

... قرآن شريف

فهرس المقالة

تعريف الأرض - السيارات والأفلاك - أسماؤها وعددها - الثوابت -

الجذب العام - الكون كالجسم الواحد - الأقمار - مركز السيارات - ذوات الأذناب

- البروج - مجاميع الثوابت - الصور السماوية - سدرة المنتهى- رؤية النبي

لجبريل - الجنة والنار - السماء - السماوات السبع والإسراء والمعراج - خطأ

القدماء في اعتبار الأرض مركزًا للعالم - احتمال أن السماوات أكثر من سبع وأن

العدد لا مفهوم له - نص القرآن على الحركة الذاتية للسيارات وغيرها - سكنى

السيارات بالحيوانات - الدابة في يوم القيامة - الأرض ليست سبعًا - تفسير الآية

الواردة في ذلك - العوالم متعددة العرش أو الكرسي - الملائكة والشياطين - رجم

الشياطين بالشهب - العوالم لم تخلق لأجل الإنسان وليس الإنسان أشرف جميع

الموجودات - فصل في دقائق المسائل العلمية الفلكية الواردة في القرآن - المحكم

والمتشابه - الخاتمة في بيان الغاية من هذا الوجود.

* * *

ما هي هذه الأرض التي نعيش عليها؟

هي كوكب من الكواكب التي تدور حول الشمس، وتسمى بالسيارات،

ومجموع الشمس مع هذه السيارات يسمى بالمجموعة [1] أو المنظومة الشمسية

فالشمس مركز بالنسبة لها وهي مضيئة لذاتها، ومنها تستمد هذه السيارات النور

والحرارة. ولا ينبغي أن يفهم القارئ من تسميتنا الشمس بالمركز؛ أن مدارات هذه

السيارات هي دوائر، بل هي بيضاوية الشكل، وليست في الوسط تمامًا، بل هي

مائلة إلى أحد الجوانب.

ومدارات هذه السيارات تسمى بالأفلاك، فهي الأشكال البيضاوية التي ترسمها

السيارات في مسيرها حول الشمس.

وأكبر هذه السيارات ثمان: الأرض إحداها واثنان منها في داخل مدار

الأرض، وخمس منها في خارجه، وهذه المدارات أو الأفلاك ليست في مستوى

واحد، بل هي في مستويات مختلفة، فمن المدارات ما هو أفقي ومنها ما هو رأسي،

وفيها ما هو مائل إلى اليمين أو إلى الشمال.

أما السياران اللذان في داخل فلك الأرض فهما عطارد (Mercury)

والزهرة (Venus) ، ويسميهما الفلكيون السيارين الداخلين. أما السيارات الخمس

الباقية فهي المريخ (Mars) والمشتري (Gupiter) وزحل (Satun)

وأورانوس (Uranus) ونبتون (Xeptume) ، وتسمى السيارات الخارجة.

وكلما كان فلك الكوكب أو السيار صغيرًا كانت سنته صغيرة.

وكلما كان كبيرًا كانت سنته كبيرة، فسنة عطارد وهو أصغرها فلكًا هي 88

يومًا من أيامنا هذه، وسنة نبتون وهو أكبرها فلكًا هي 60176 يومًا أي 164 سنة

و8 شهور من سنيننا وشهورنا، أي أنه يدور حول الشمس في المدة المذكورة.

ويوجد بين المريخ والمشتري عدة سيارات صغيرة تسمَّى نجيمات، اكتشف

منها إلى الآن أكثر من 121 نجيمًا (تصغير نجم) ، وأكبر هذه النجيمات هي فستا

(Vesta) أي إلهة النار، ويونو (Gumo) وسيرس (Geres) وبالاس (Pall

as) وهي أسماء وثنية، وجميع هذه السيارات كبيرة كانت أو صغيرة هي أجرام

مظلمة كأرضنا هذه سواء بسواء، ولا يضيئها إلا انعكاس أشعة الشمس عليها.

أما النجوم الثوابت فهي شموس كشمسنا هذه مضيئة بذاتها، وسميت ثوابت [2]

لأنها لا يتغير وضعها بالنسبة لأخواتها، وهي مراكز لسيارات أخرى تدور حولها

كما أن شمسنا مركز للسيارات الثمانية المعروفة، ولكن نظرًا لبعدها العظيم عنا

ترى كأنها نجوم صغيرة، والحقيقة أنها شموس كبيرة وأقرب هذه الثوابت إلينا يبعد

عن الأرض بمقدار 19.131.030.000.000 ميلاً، والنور الذي ينبعث منه يصل

إلينا في ثلاث سنوات وربع [3] ويمكننا تمييز السيارات عن الثوابت بأن السيارات

تغير وضعها بالنسبة للثوابت، وبأن نورها أسطع وهو ثابت لا يتلألأ؛

وذلك لقربها منا. أما نور الثوابت فإنه يرتعش ويتلألأ لشدة بعدها عنا.

والسبب الذي يمسك السيارات في أفلاكها، ويحفظ نظامها في مداراتها؛ هو

جذب الشمس لها، فلولاه لسارت في طريق مستقيم إلى حيث لا يعلم إلا الله،

وكذلك جميع الكواكب يجذب بعضها بعضًا {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} (النازعات: 27){وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ} (الذاريات: 7)[4] فإذا جاء الوقت

الذي يفسد فيه نظام هذا الكون اختل التوازن وزال التجاذب، وتناثرت الكواكب،

واصطدم بعضها ببعض، وانشق عن البعض الآخر وانفصل عنه وتفرق {إِذَا

السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} (الانفطار: 1-2) ، {إِذَا السَّمَاءُ

انشَقَّتْ} (الانشقاق: 1) الآيات.

أما الآن فجميع الكواكب متجاذبة مرتبط بعضها ببعض من كل جهة، ولا

يوجد فيها ما هو منشق عن بقيتها، منفك عنها، لا ارتباط له بها بل كلها متماسكة

كالبنيان أو كأجزاء الجسم الواحد {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا

وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) أي ليس لها شقوق تذهب باتصالات الكواكب

فتفرقها وتقطع علاقاتها وأحبال تجاذبها، بحيث يكون بعض الكواكب غير متماسك

بالبعض الآخر ومنفصلاً عنه في ناحية من السماء لا ارتباط له به {فَارْجِعِ البَصَرَ

هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (الملك: 3) أي انشقاق وانقطاع. أما ما بين الكواكب من

المسافات فهي وإن كانت كبيرة؛ إلا أنها بالنسبة لمجموعها وكثرتها وعظمها

كالمسام بالنسبة لأجزاء الجسم الواحد، وكما أن الكواكب تتحرك في هذه المسافات،

كذلك ذرات الجسم تتحرك فيما بينها من المسافات. والأثير (مادة العالم الأصلية)

يملأ هذه كما يملأ تلك، فالكون كله أو السماء كلها جسم واحد لا انشقاق فيه الآن،

ومجموعتنا الشمسية هذه هي جزء من أجزاء هذا الجسم العظيم أو ذرة من ذراته،

فهذه المسافات التي بين الكواكب ليست هي الشقوق أو الفروج المراد نفيها، بل

الفروج المنفية هي كما قلنا التي تباعد ما بين مجاميع الكواكب، حتى تقطع

اتصالاتها وتشتتها وتذهبها مبددة في الفضاء بلا نظام ولا اتصال، وتجعل كل عالم

مستقلاً بذاته منقطعًا عن غيره خارجًا عن دائرة الجذب العام، فانشقاق السماء

وانفطارها الذي سيحصل يوم القيامة هو تبديد عوالمها وتشتيتها وانتثار كواكبها.

هذا واعلم أن أكثر السيارات لها توابع تدور أيضًا حولها، وهي الأقمار

فتعكس النور من الشمس إليها وتضيئها ليلاً] وَجَعَلَ القَمَر [5 {َ فِيهِنَّ نُوراً} (نوح: 16) وسميت توابع؛ لأنها تتبعها في مسيرها حول الشمس، كما يتبع

الخادم سيده. فللأرض قمر واحد، وللمريخ اثنان، وللمشتري أربعة، ولزحل

ثمانية، ولأورانوس ستة، ولنبتون واحد فقط كالأرض، وليس لعطارد ولا للزهرة

أقمار.

أما حجم هذه الأرض بالنسبة للسيارات الأخرى، فيعتبر خامسها في الكبر،

والسيارات التي هي أكبر من أرضنا هذه هي المشتري وزحل وأورانوس ونبتون.

أما عطارد فهو أصغر الثمان، وهو أكبر من قمر الأرض بقليل، ولكنه

أقرب السيارات إلى الشمس، ويمكن رؤيته بعد الغروب بقليل أو قبل الشروق

كذلك.

وأما الزهرة فحجمها تقريبًا قدر حجم الأرض، ولقربها منا ترى أنها أشد

الكواكب نورًا بعد الشمس والقمر، وتشاهد بعد الغروب وقبل الشروق مثل عطارد،

ولكن مدتها أطول وتسمى عقب الغروب (كوكب المساء) ، وقبل الشروق

(كوكب الصبح) .

وأما المريخ فهو أقرب السيارات الخارجية إلى الأرض وحجمه ثمن حجمها،

وتشاهد في قطبية بالتلسكوب نقطًا بيضاء، يقال: إنها ثلج.

وأما المشتري فهو أكبر السيارات على الإطلاق وأشدها نورًا بعد الزهرة

بالنسبة لنا، وتحيط به منطقة من السحب ودورته حول محوره هي عشر ساعات

فقط، فهو أسرع دورة من الأرض، ولكبر حجمه يقال: إن قشرته لم تبرد تمامًا

إلى الآن.

وأما زحل فأغرب شيء يشاهد فيه هو وجود ثلاث مناطق عريضة تحيط به

بعضها خارج بعض، ويقال: إنها مكونة من ملايين من التوابع الصغيرة، وأمرها

في الحقيقة مجهول. وأما أورانوس ونبتون فهما أبعد السيارات في المنظومة

الشمسية وآخرها على ما نعلم.

وهذان السياران لم يكونا معروفين للقدماء؛ لأنه لا يمكن رؤيتهما بالعين

المجردة. وأما باقي السيارات فهي معروفة من قديم الأزمان وعند جميع الأمم؛

لأنها ترى جميعًا بالعين المجردة، وقد كان القدماء يعدون السيارات سبعًا غير

الأرض، مع أنهم ما كانوا يعرفون منها غير الخمس المسماة بالدراري وهي

(عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل) لأنهم كانوا يحسبون الشمس والقمر

من ضمنها، والحقيقة أنهما ليسا منها في شيء، فإن الشمس من الثوابت، وهي

مركز العالم الشمسي الذي نحن فيه. والقمر تابع للأرض كباقي التوابع المذكورة

آنفًا {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ

فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61) .

أما ذوات الأذناب (Comets) فهي أيضًا سيارات غازية، ولكنها تدور

حول الشمس على أبعاد شاسعة جدًّا، فأفلاكها متسعة اتساعًا عظيمًا، وهي في

بعض الأحيان تقترب من الشمس، حتى تختفي في ضوئها، ثم تبتعد حتى يخيل

لنا أنها خرجت عن المنظومة الشمسية؛ وذلك لأن الشمس كما قلنا: ليست في

وسط الأفلاك بل مائلة إلى بعض جوانبها، وأكثر هذه المذنبات يخرج فعلاً عن

منظومتنا هذه الشمسية، ويذهب إلى منظومات أخرى، والمذنبات تعد بالمئات وإن

كنا لا نرى بالعين المجردة إلا القليل منها لصغرها ومتى ابتعدت عن الشمس،

عادت إليها أذنابها؛ لأن هذه الأذناب عبارة عن أجزاء من أجرامها الغازية، تجذبها

الشمس إليها وتشدها، والصغير منها لا ذنب له مهما اقترب من الشمس.

والخلاصة أن بعض هذه النجوم الغازية لها أفلاك معروفة، والبعض الآخر

وهو الكثير لا تعرف له أفلاك. والظاهر أنها ضالة في الفراغ بين العوالم

العديدة، وأصلها نجوم انحلت وبانحلالها هي تنشأ الشهب.

وأشهر هذه المذنبات التي ظهرت في القرن التاسع عشر مذنب ظهر سنة

1811، وكان طول ذنبه 112مليونًا من الأميال، ومذنب هالي الذي ظهر في سنة

1843 وفي 1880 و1882، وقد ظهر في سنة 1861و1862 مذنبان كانا غاية

في البهاء والجمال، وأخيرًا ظهر واحد شاهدناه في السنة الماضية (1910) .

أما البروج فهي صور وهمية تنشأ من اجتماع الثوابت بعضها بجانب بعض

بحسب ما يتخيل لنا، وهي اثنا عشر برجًا معروفة، نرى أن الشمس تتنقل من

واحد منها إلى الآخر بحسب الظاهر، وباجتماع الثوابت بعضها ببعض تنشأ صور

أخرى غير البروج؛ كصورة الدبين والثريا والجاثي على ركبتيه والنسر الطائر

وغير ذلك، ولعل سدرة المنتهى المذكورة في القرآن الشريف هي صورة كهذه

الصورة [6] فيكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل من الأرض بعينيه على

صورته الحقيقية الأصلية مرتين: مرة في الأفق ومرة عند سدرة المنتهى [7] وهو

نازل من الملأ الأعلى فلا يبعد أن تكون هذه السدرة [8] صورة تشبه شجرة النبق،

ناشئة من اجتماع عدة ثوابت بعضها مع بعض (راجع سورة النجم والتكوير) ،

وشبهت بذلك كما شبه غيرها بصورة النسر الطائر مثلاً.

وقوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} (النجم: 16) معناه أنه رأى

جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى، حينما كانت الأرواح والملائكة تغشاها

وتهبط عليها وتحف من حولها، وذلك بأن كشف الله عن بصره وبصيرته

وأنارهما، فرأى ما رأى {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} (النجم: 18) فكانت هذه

الرؤية للأرواح والملائكة رؤية حقيقية عيانية؛ كرؤية جبريل في الأفق والنبي صلى

الله عليه وسلم لم ينتقل من الأرض {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى} (النجم: 17) ،

{أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} (النجم: 12) . أما رؤية هذه السدرة المذكورة في

حديث المعراج فكانت في مرة أخرى غير هذه وكانت منامية (أي رؤيا) كما

سيأتي في الحاشية، ولا علاقة لها بما ذكر في سورة النجم، فإنه كان يقظة؛

ولذلك خيل له فيها أن للسدرة نبقًا كقلال هجر [9] وأن أربعة أنهار (منها النيل

والفرات) تخرج منها. هذا إذا لم تكن هذه العبارات زيادات من بعض الرواة؛ فإنها

تشبه الإسرائيليات، وتقرب مما جاء في أوائل سفر التكوين في وصف جنة آدم، وإلا

فإن هذه السدرة لا نبق لها، فإنها مجموعة كواكب على ما نعتقد، والنيل والفرات

لا يخرجان منها ولا ماء السحاب أيضًا. فإن السحاب الذي ينزل منه المطر إلى

الأرض وتتكون منه الأنهار؛ كنص القرآن في عدة مواضع أصله بخار تصاعد

من بحار الأرض؛ ولذلك قال الله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا} (النازعات: 31) أي من

الأرض {مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31) وقال: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ

يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} (الزمر: 21) وقال: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ

بِقَدَرِهَا} (الرعد: 17) فكأنه قال: إن ماء الأنهار والينابيع هو من السماء أي

: السحاب بدليل قوله: {أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ

الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (فاطر: 9) وقوله في السحاب: {فَتَرَى الوَدْقَ} (النور:

43) المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (النور: 43) والسحاب أخرجه الله تعالى من

الأرض لا من الجنة بدليل الآية المتقدمة، فكيف إذًا يكون النيل والفرات آتيين من

الجنة، وهما يتكونان بشهادة الحس والقرآن من ماء المطر الخارج من نفس

الأرض؟!

كذلك ما ورد في حديث المعراج من شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم،

واستخراج قلبه وغسله بالماء في طست من الذهب إلى غير ذلك مما جاء فيه،

فالأقرب إلى العقل والعلم أن ذلك كله كان رؤيا، يراد بها أن الله تعالى طهر قلب النبي

ونفسه صلى الله عليه وسلم، وملأهما علمًا وحكمة، وأطلعه على كثير من غيبه.

ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول:

اعلم أن لفظ السماء يطلق لغة على كل ما علا الإنسان، فإنه من السمو أي

العلو، فسقف البيت سماء، ومنه قوله تعالى:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} (الحج: 15) أي فليمدد بحبل إلى سقف بيته، وهذا الفضاء اللانهائي سماء،

ومنه قوله تعالى: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} (البقرة: 22) والكواكب سماوات.

فالسماوات السبع المذكورة كثيرًا في القرآن الشريف هي هذه السيارات السبع [10]

وهي طباق أي أن بعضها فوق بعض؛ لأن فلك كل منها فوق فلك غيره كما تقدم،

والشمس مركز لهذه الأفلاك السبعة، ومنها تستمد هذه السيارات النور والحرارة،

فهي سراج وهاج، ونورها كنور السراج غير مستمد من غيره؛ بل ناشئ عن

احتراق موادها كما سبق. وأما الأقمار فهي كالمرآة تعكس نور الشمس على

الكواكب التابعة لها؛ فلذا لم تسم في القرآن بالسُّرج، فإنها لا نور لها من ذاتها،

قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ القَمَرَ} (نوح: 15-16) أي جنس القمر {ِفيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} (نوح:

16) أي لهم جميعًا، وفي هذه الآية إشارة إلى أن الشمس والقمر ليست من

السموات السبع المرادة في القرآن، وإن كان يصح أن تسمى بالسموات لغة، ولكنه

يريد بالسموات غيرها، وقد كان القدماء يعدونها من السموات السبع قبل اكتشاف

(نبتون وأورانوس) ويعتبرون الأرض مركزًا للعالم، ولكن القرآن الشريف لم

يجارهم في هذا الخطأ، وبين بهذه الآية وغيرها أن السموات شيء والشمس والقمر

شيء آخر، وأن الأقمار نور في السموات حينما كان الناس يظنون أن لا قمر إلا

للأرض فقط، فانظر إلى هذه الآيات البينات الدالة على صحة القرآن وعلى صدق

النبي الأمي في الوحي، فلو كان القرآن من عند غير الله لوجد فيه مئات الألوف

من الأوهام والغلطات الفاشية في زمنه، كما وجد ذلك في كتب الأولين والآخرين،

فما بالك بهذا النبي الأمي الذي نشأ في زمن الجهل، وبعيدًا عن العلم وعن مجالس

العلماء صلى الله عليه وسلم؟

فإن قيل: إذا كان القدماء لم يروا من السيارات إلا خمسًا، فكيف قال: {أَلَمْ

تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} (نوح: 15) قلت: إن الرؤية هنا علمية

لا بصرية، والاستفهام إنكاري، فالمعنى ألم تعلموا أن الله خلق سبع سماوات..

إلخ، فهي على حد قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ

بِأَصْحَابِ الفِيلِ} (الفيل: 1) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشاهد هذه

الحادثة بل ولد بعدها، وإنما سمعها من الناس، فكذلك القدماء وإن كانوا لم يشاهدوا

من السيارات إلا خمسًا، فإن ما جهلوه منها هو مثل ما علموه سواء بسواء لا فرق

بينهما، وقد أخبرهم الأنبياء بأنها سبع، فيسهل عليهم تصديقهم في ذلك، إنما خص

الله تعالى هذه السبع بالذكر، مع أن القرآن الشريف لم يذكرها في موضع واحد

على سبيل الحصر، فلا ينافي ذلك أنها أكثر من سبع، قال تعالى: {رَبُّ

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} (مريم: 65) أي من التوابع والنجيمات والسحب

وغير ذلك {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} (مريم: 65) هذا وقد قال

بعض العلماء باللغة العربية: إن العرب تستعمل لفظ سبع وسبعين وسبع مئة

للمبالغة في الكثرة، فالعدد إذًا غير مراد، ومن ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ

يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ

وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 261) وقوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ

لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} (الحجر: 43-44) وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي

الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (لقمان: 27) .

هذا، وقد أشار القرآن الشريف إلى حركة هذه الكواكب بقوله تعالى: {فَلَا

أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوَارِ الكُنَّسِ} (التكوير: 15-16) وقوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ

يَسْبَحُونَ} (يس: 40) وهما يدلان أن حركتها ذاتية، لا كما كان يقول القدماء من

أن الكواكب مركوزة في أفلاكها التي تدور بها وبدورانها تتحرك الكواكب.

أما الأرض فهي كما سبق إحدى هذه السيارات، ولم تعتبر سماء بالنسبة

للإنسان؛ لأنه يعيش عليها، فالسيارات الكبيرة وإن كانت ثماني إلا أن سبعًا منها

فقط هي التي تعلو الإنسان فهي السموات بالنسبة له، ويقول العلماء: إنه من

المحقق أن هذه السيارات مسكونة بحيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا هذه،

ويكون كل كوكب منها أرضًا بالنسبة لحيواناته، وباقي الكواكب سماوات بالنسبة

لها. والظاهر أن القول بوجود الحيوانات في هذه الكواكب صحيح؛ لأن الله تعالى

يقول في كتابه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ

عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (الشورى: 29) ويقول: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ

وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: 29) .

أما كون الأرضين سبعًا كالسموات، فهو أمر نجهله ولا نفهمه إلا إذا أريد به

أن للأرض سبع طبقات، والحق يقال: إن كون الأرضين سبعًا هو كما يظهر لنا

وهم من أوهام القدماء؛ ولذلك لم يرد في القرآن الشريف لفظ الأرض مجموعًا

(أي أرضين) ، ولم يرد فيه مطلقا أن الأرضين سبع، مع أنه ذكر أن السماوات

سبع مرارًا عديدة، وفي كل مرة يذكر معها الأرض بالإفراد.

نعم.. ورد في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ

مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} (الطلاق: 12) وهي الآية الوحيدة التي فهموا منها أن

الأرضين سبع، وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقًا، ولنا في تفسيرها وجهان:

إما أن تكون (من) في قوله تعالى: {وَمِنَ الأَرْضِ} (الطلاق: 12) زائدة [11]

وإما أن تكون غير زائدة، أما على الوجه الأول فتقدير الآية هكذا: {اللَّهُ الَّذِي

خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) وعلى تفسيرنا هذا

تكون هذه الآية دالة على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه أي:

أنها إحدى هذه السيارات، وهو أمر ما كان معروفًا في زمن النبي صلى الله عليه

وسلم، وما كان يخطر ببال أحد من العرب، وذلك من دلائل صدق القرآن،

والأرض مثل السيارات الأخرى في المادة، وكيفية خلقها، وكونها تسير حول

الشمس وتستمد النور والحرارة منها، وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى،

وكونها كروية الشكل. فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه

وكلها مخلوقة من مادة واحدة وهي مادة الشمس، وعلى طريقة واحدة، قال الله

تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} (الأنبياء: 30)

أي السموات تمامًا {فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30) أي فصلنا بعضها عن بعض،

فالأرض خلقها الله تعالى مثل السموات تمامًا {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} (الملك: 3) .

وأما على الوجه الثاني وهو أن (من) غير زائدة، فتقدير الآية هكذا:

(والله الذي خلق سبع سماوات وخلق من الأرض أرضًا مثلهن) فالآية واردة على

طريقة التجريد كقولك: (اتخذت لي سبعة أصدقاء، ولي من فلان صديق مثلهم)

أي مثلهم في الصداقة أو التقدير، وبعض الأرض مثلهن في مادتها وعناصرها.

وعليه فليس في القرآن الشريف أدنى دليل على أن الأرضين سبع كما

يزعمون.

هذا، واعلم أن المجموعة الشمسية يوجد في العالم مثلها كثير [12] كما بينا

ومن المعلوم أن الشمس وما حولها من السيارات تدور في الفضاء حول نجم آخر،

يعتبر مركزًا لها، ولا يعرف بالتحقيق ما هو هذا النجم، ويقال: إنه هو نجم من

نجوم الثريا أو من صورة النسر الطائر أو الجاثي على ركبتيه، وإذا كان هذا هو

حال مجموعتنا الشمسية، فالظاهر أن المجاميع قاطبة تدور حول مركزها من

النجوم الثابتة، كما يشاهد ذلك في المجاميع الشمالية، فإنها تدور حول القطب

الشمالي (النجم المعروف) وإذًا فلا يبعد أن جميع هذه المجاميع قاطبة تدور حول

مركز واحد عام لها، وهذا المركز يجذبها جميعًا إليه، ويحفظ كيانها ونظامها،

وربما كانت جميعًا مخلوقة من مادته، وله فيها تأثيرات كالكهربائية والمغناطيسية

وغيرهما مما لا نعلمه، وعليه فيكون هذا المركز أو النجم هو كالعاصمة للعالم كله

بسائر مجاميعه، فهو مركز الجذب والتأثير والتدبير والنظام، و (تخت) العالم أو

كرسيه أو عرشه، والغالب أن ما يريده القرآن بلفظ العرش هو هذا المركز العام

للعالم كله، فهو عرش الله [13] وعرش الرحمن كما يقول القرآن {قُلْ مَن رَّبُّ

السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (المؤمنون:

86-

87) وقد اقتبست ما ذكرت في العرش من مذاكرة لي مع السيد صاحب المنار،

ولقائل أن يقول: إذا كانت الشموس أو مراكز هذه المجاميع تسير بمجاميعها حول

هذا المركز العام الذي تقول: إنه هو العرش، فهل هذا العرش يسير أيضًا بها في

الفضاء أم هو ثابت؟ فإن كان ثابتًا فماذا يثبته؟ أما الجاذبية فلا يصح أنها تثبته

في نقطة واحدة من الفضاء، كما أنها لا تثبت الشمس، وإن كانت تحفظ النسبة بين

العرش وبين جميع العوالم (المجاميع) إلا أنها لا تثبته بمعنى أنها لا تمنعه من

أن يسير بها جميعًا في الفضاء، وعليه فإذا قلت: إن العرش ثابت فما هذا الشيء

الذي يثبته؟؟

والجواب أن الله تعالى وكَّل به قوى مخصوصة لا نعلم كنيتها ولا حقيقتها،

وهذه القوى تمنعه من جميع الجهات أن يسير بالمجاميع في الفضاء، وهذه القوى

المجهولة لنا تسمى (حملة العرش) وهي أشياء روحانية لا يمكننا أن ندرك ماهيتها،

كما أننا لا ندرك ماهية المغناطيس أو الكهرباء أو سائر القوى الجاذبة، ومن

ادعى إدراك هذه الأشياء، فليخبرني أي شيء ينبعث من الجسم الجاذب إلى الجسم

المجذوب فيجذبه، وما كُنه هذا الشيء وكيف نتصوره؟؟ قال الله تعالى: {الَّذِينَ

يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} (غافر: 7) وقال

أيضًا: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (الحاقة: 17) أي ثمانية أصناف

من هذه القوى الروحانية أو ثمان قوى وهي المسماة بالملائكة {وَتَرَى المَلائِكَةَ

حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} (الزمر: 75) .

وكما أن العرش [14] تحفه الأرواح الغيبية، فكذلك الكواكب الأخرى مسكونة

مع الحيوانات والدواب بأرواح منها الصالح (ملك) ومنها الطالح

(شيطان) وكذلك أرضنا هذه ففيها من الملائكة ومن الشياطين ما لا نبصره

{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) ولا يخفى أن عدم

الوجدان لا يدل على عدم الوجود، فعدم إدراكنا لهذه الأرواح لا يدل على عدم

وجودها، كما أن عدم معرفة القدماء للميكروبات والكهرباء التي تشاهد الآن

آثارها العظيمة، لم يكن يدل على عدم وجودها إذ ذاك في العالم، فمن الجهل

الفاضح إنكار الشيء لعدم معرفته أو العثور عليه، على أن لنا الآن من مسألة

استحضار الأرواح أكبر دليل على وجود أرواح في هذه الأرض لا نبصرها ولا

نشعر بها.

وقد قدر الله تعالى أن الحيوانات في هذه الأرض إذا خرجت عنها إلى حيث

ينقطع الهواء ويبطل التنفس تموت في الحال، وكذلك قدر أن الأرواح الطالحة التي

في أرضنا هذه، إذا أرادت الصعود إلى السماء والاختلاط بالأرواح التي في

الكواكب الأخرى، انقض عليها قبل أن تخرج من جو الأرض شهاب من هذه

الكواكب أو من غيرها [15] فأحرقها وأهلكها بإفساد تركيبها ومادتها، حتى لا يحصل

اتصال بين هذه وتلك، ولا تطلع على أسرار العوالم الأخرى، وهذه الشهب التي

تنقض إن كانت صادرة من أجرام ملتهبة كانت ملتهبة، وإن كانت صادرة من

أجرام غير ملتهبة التهبت فيما بعد لشدة سرعتها واحتكاكها بالغازات التي تمر فيها

في جونا هذا، ولعل في مادة الشياطين ما يجتذب إليه هذه الشهب ويتحد بها؛ كما

تنجذب العناصر الكيماوية بعضها بعضًا: (مثال ذلك عنصر الصوديوم فإنه

يجتذب إليه الأكسجين من الماء فيحلله) . ولا نقول: إن جميع الشهب تنقض لهذا

السبب، بل منها ما ينقض لأسباب أخرى كاجتذاب بعض الأجرام السماوية له،

ومنها ما ينقض لإهلاك الشياطين كما بينا هنا، والشياطين مخلوقة من مواد غازية

كانت ملتهبة {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} (الحجر: 27) وهذه

المسائل لا يوجد في العلم الطبيعي الآن ما يثبتها، كما أنه لا يوجد فيه ما ينفيها،

وإنما نحن نصدقها؛ لأن القرآن الذي ثبتت صحته عندنا جاءنا بها، قال الله تعالى:

{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لَا

يَسَّمَّعُونَ إِلَى المَلأِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ *

إِلَاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (الصافات: 6-10) والمراد بالسماء

الدنيا هنا الفضاء المحيط بنا القريب منا أي: هذا الجو الذي نشاهده وفيه العوالم

كلها. أما ما وراءه من الجواء البعيدة عنا التي لا يمكن أن نصل إليها بأعيننا ولا

بمناظيرنا (Telescopse) فهو فضاء محض لا شيء فيه، فلفظ السماء كما قلنا

له معان كثيرة كلها ترجع إلى معنى السمو، وتفسر في كل مقام بحسبه، وكذلك هو

في اللغات الأجنبية: فمثلاً في الإنكليزية لفظ (Lleaven) قد يراد به الجو أو

الجنة أو الذات الإلهية.

فكل مسألة جاء بها القرآن حق لا يوجد في العلم الطبيعي ما يكذبها؛لأنه وحي

الله حقًّا، والحق لا يناقضه الحق {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ

لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .

ومما تقدم، تعلم أن العوالم متعددة؛ ولذلك يقول القرآن الشريف في كثير من

المواضع الحمد لله رب العالمين [16] وهذا أيضًا يخالف ما كان عليه القدماء، فإنهم

كانوا يزعمون أن العالم واحد، وأن الإنسان أشرف الموجودات، وأن الكواكب كلها

أجرام فارغة خلقت ليتلذذ بمنظرها الإنسان [17] مع أن القرآن يقول منذ مئات من

السنين: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} (الأنبياء: 16) وقال:

{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} (آل

عمران: 191) وقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم

مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) ولم يقل

وفضلناهم على جميع الموجودات، وقال أيضًا: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ

مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (غافر: 57) فالقرآن ينطبق على

العلوم الحالية أتم الانطباق، ولا يوجد كتاب آخر ديني يدانيه في شيء من ذلك

{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} (الشعراء: 192-193)

{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) ولذلك لا تجد علمًا في العلوم الصحيحة، ولا

اكتشافًا من الاكتشافات الحديثة، ولا مبدأ قويمًا إلا ويؤيد الإسلام بقدر ما يزعزع

غيره من الأديان الأخرى.

_________

(1)

يطلق لفظ مجموعة في هذه المقالة على معنيين مختلفين: 1- على المنظومة المكونة من شمس وسيارات حولها كمنظومتنا الشمسية (system) 2- وعلى مجموعة الكواكب الثابتة كالدب الأكبر المركب من عدة شموس (constelllation) ، والمجموعة بالمعنى الثاني مركبة من عدة مجاميع بالمعنى الأول، والسياق هو الذي يعين أحد المعنيين فيما يأتي.

(2)

ثبوت هذه الكواكب أو الشموس هو أمر اعتباري فقط، وإلا فالحقيقة أن جميع الكواكب متحركة سواء سميت ثوابت أو سيارات، كما سيأتي قال تعالى:[وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ](يس: 38-40) .

(3)

تذكر قوله تعالى: [وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ](الحج: 47)، وقوله:[تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ](المعارج: 4) وقوله: [ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ] . (السجدة: 5) .

(4)

الحبك: جمع حبيكة كطريقة وطرق، وحبيكة بمعنى محبوكة أي مربوطة فقوله تعالى:[وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ](الذاريات: 7) معناه ذات المجاميع من الكواكب المربوط بعضها ببعض بحبال من الجاذبية، فإن كل حبيكة مجموعة من الكواكب المتجاذبة، فالآية الشريفة نص على تعدد المجاميع وعلى الجاذبية التي يقول الإفرنج: إنهم مكتشفوها، وعليه فهي إحدى معجزات القرآن العملية، وسيأتي بيان بعضها.

(5)

الألف واللام هنا للجنس لا للعهد، كما في قوله تعالى:[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ](التين: 4) .

(6)

لا يظن القارئ أن المشابهة تامة بين هذه الصور (المجاميع) وبين ما شبهت به، كما لا يخفى على الفلكيين، بل الحقيقة أن هذه المشابهة تكاد تكون مفقودة ولا وجود لها إلا في نظر التخيل والوهم، فلا عجب إذًا إذا شبهت إحدى هذه المجاميع بشجرة النبق، فإنه يوجد بين الأسماء التي اصطلحوا عليها ما هو أبعد وأعجب، ولا نسبة هناك بين المشبه والمشبه به.

(7)

المنتهى: أي الغاية التي تنتهي إليها جميع الخلائق بعد الحساب يوم القيامة [وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنتَهَى](النجم: 42)، فمن كان منهم سعيدًا أدخل في جناتها التي توجد في كواكبها السيارة؛ ولذلك قال تعالى:[عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى](النجم: 15) وكون عرض الجنة كعرض السموات والأرض لا غرابة فيه، فإن من الكواكب الأخرى ما هو أكبر من مجموع هذه الأرض وباقي السيارات التي حول شمسنا هذه، وهي المسماة في القرآن بالسموات ومن كان منهم شقيًّا أدخل في نيرانها المتأججة المستعرة التي توجد في شموس هذه المجموعة، فهي تسع جميع سكان السموات والأرض وباقي سكان المجاميع الأخرى، وإليها ينتهون وقيل سميت بسدرة المنتهى؛ لأنها أقرب المجاميع إلى العرش أي أنها توجد بعد جميع المجاميع وفي نهايتها، وسيأتي ما يفهمك معنى ذلك ومعنى لفظ العرش.

(8)

ويحتمل أن كلمة (سدرة) هنا معربة من كلمة لاتينية (sideris) بمعنى الكوكب أو النجم، وعليه فمعنى (سدرة المنتهى) كوكب الانتهاء، وهذه الكلمة اللاتينية أخذت بهذا المعنى في كثير من اللغات الأجنبية، ولعل العرب نقلتها إلى لغتها من بلاد الروم أو غيرهم مما كانوا يخالطونهم ويكون هذا المعنى مما نسيه الناس كما نسوا غيره من الكلمات الأصلية والمعربة أو من معانيها ولا يخفى أن المفرد المضاف (يعم)، كقوله تعالى:[أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ](البقرة: 187) ، أي ليالي الصيام، فكذلك هنا يصح أن يراد (بسدرة المنتهى) سدرات أي عدة كواكب لا كوكبًا واحدًا.

(9)

كما خيل ليوسف أن إخوته كواكب ساجدة له، وكما خيل للعزيز أن سني الخصب والجدب سبع بقرات سمان وسبع عجاف.

(10)

أما ما ورد في حديث المعراج من وجود الأنبياء في السموات، فالأرجح عندي أن المعراج كان رؤيا منامية روحانية كما قلنا، وفي هذه الرؤيا فرضت الصلوات الخمس؛ لأن رؤيا الأنبياء من الوحي كرؤيا إبراهيم أنه يذبح ولده والمعراج لم يرد له ذكر في القرآن مطلقًا، وأما ما ورد في سورة النجم والتكوير فلا علاقة له بالمعراج، وإنما هي رؤية النبي لجبريل من الأرض على صورته الحقيقية كما سبق أما الإسراء إلى بيت المقدس وهو الذي ذكر في القرآن الشريف؛ فالأرجح أنه كان جسدانيًّا كما هو ظاهر القرآن؛ ولذلك اقتصر عليه، ولم يذكر شيئًا عن المعراج، ولو كان حصل ليلة الإسراء وكان جسدانيا مثله لذكر معه في سورته، فإنه أعجب وأغرب وأدل على القدرة الإلهية من الإسراء، وهذه السرعة العجيبة في الإسراء يقربها إلى عقولنا ما نراه في حركات الكواكب، وما نشاهده من المخترعات البشرية البخارية والكهربائية وقد قال بما قلت هنا كثير من المسلمين، حتى من أزواج النبي والصحابة والتابعين فهو ليس ابتداعًا في الدين؛ فالإسراء إلى البيت المقدس ورؤية جبريل والملائكة كانا في اليقظة، والمعراج إلى السماء كان في المنام وكلها كانت في أوقات مختلفة ولذلك لم يذكر في حديث المعراج (بحسب رواية البخاري التي هي أصح الروايات بالإجماع) أن النبي صلى الله عليه وسلم سار أولاً إلى بيت المقدس، بل المذكور فيه أنه سار مباشرة من مكة إلى السماء الأولى، وكذلك لم يذكر فيه أن جبريل فارقه، ثم ظهر له عند سدرة المنتهى بصورته الحقيقية بل المذكور أنه كان مصاحبًا له من أول المعراج إلى آخره على صورة واحدة، وذلك يدل على أن ما ذكر في القرآن مما وقع يقظة هو غير ما ذكر في الحديث مما وقع منامًا في وقت آخر، وإلا لذكرا معًا في سياق واحد: إما في القرآن وإما في أصح الأحاديث، وهو الأمر الذي لم يحصل إلا في بعض روايات لا يعول عليها، وهي من خلط بعض الرواة الحوادث بعضها ببعض.

(11)

الدابة كل حيوان يدب أي يمشي، ومنه قوله تعالى:[وَإِذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ](النمل: 82) ، والمعنى إذا قامت القيامة بعث الله نوعًا مخصوصًا من دواب هذه الأرض، كما يبعث غيره من أنواع الدواب الأخرى ينطقه فيوبخ الإنسان على كفره، كما ينطق أعضاءه في ذلك اليوم أيضًا، فليس المراد من قوله:(دابة) الفرد بل النوع كما في قولك: (أرسل الله عليهم دودة أتلفت زرعهم) ، أي ديدانًا كثيرة من نوع واحد مخصوص، وربما كانت هي الفرس، فإن الدابة بحسب عرف العرب مختصة بالفرس.

(*) زيادة (من) الداخلة على المعرفة في سياق الإثبات غير جائز.

(12)

هذه الحقيقة تطابق القرآن الشريف من جميع الوجوه، فهو القائل:[فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ](الجاثية: 36-37) ، فانظر الفرق بين هذا الدين وبين غيره الذي يجعل بني آدم هم كل شيء في هذا الوجود، حتى إن الله الذي وسع كرسيه السموات والأرض لا شأن له إلا التفرغ لهم بنزوله إلى الأرض بنفسه، والمعيشة بينهم وتخليصهم بطريقة لا مناص له منها ولم يجد سواها، وهي أن يتحمل الإهانة والقتل والصلب بدلاً عنهم ثم الموت والدفن والصعود إلى السماء بهذا الجسد الحيواني، والبقاء إلى الأبد كل ذلك لأجل مرضاة جزء صغير حقير من عبيده لا يبلغون عشر معشار ما له من المخلوقات العظيمة الكثيرة في العوالم الأخرى العديدة [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ] (المدثر: 31) ، [قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (المائدة: 17) ، [سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُواًّ كَبِيراً * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً] (الإسراء: 43-44) .

(13)

أما قوله تعالى: [وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ](هود: 7) أي قبل خلق السموات والأرض، فالظاهر منه أن الله تعالى خلق أولاً المادة وكانت غازية ثم تكاثفت، حتى صارت سائلاً (وهو الماء) ، ثم تكاثف الماء فظهر في جرم العرش، ثم تكونت بعده الأجرام الأخرى شيئًا فشيئًا، ثم التهبت جميعها لأسباب يذكرها علماء المادة، فكانت هي الشموس، وتحول ما بقي من السوائل حولها إلى غازات، كما كان أولاً (وهو الأثير الآن) ثم انفصلت السيارات من الشموس، فتكونت المنظومات العديدة ومنها منظومتنا هذه التي نحن فيها.

(14)

الراجح أن جرم العرش منطفئ ولا نار فيه لشدة قدمه، فإنه أقدم سائر الأجرام، كما انطفأ كثير من الشموس الأخرى القديمة، على ما حققه علماء الفلك، ولذلك لا يمكن أن نبصره لانطفائه،ولا يحترق ما فيه من الموجودات.

(15)

يعتقد الآن علماء الفلك أن أكثر الشهب تنشأ من ذوات الأذناب، ويحتمل أن بعضها ناشئ، من بعض الشموس المنحلة أو الباقية الملتهبة أو من براكين بعض السيارات، أو مما لم ينطفئ من السيارات للآن ومتى علمنا أن ذوات الأذناب والسيارات جميعًا مشتقة من الشموس، كان مصدر جميع الشهب هي الشموس أو النجوم، وهذا يفهمنا معنى قوله تعالى:[وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ](الملك: 5) .

(16)

يطلق لفظ العالمين أيضًا على أمم الأرض المختلفة من الجن والإنس، كما في قوله:[الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ](الأنبياء: 71)، وقوله:[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] . (الأنبياء: 107) أي في هذه الأرض.

(17)

المراد بالإنسان هنا الإنسان الأرضي، وإلا فإن هذا اللفظ يطلق على كافة أفراد هذا النوع العاقل من الحيوانات، سواء كانوا في الأرض أو السيارات الأخرى (السموات)، وعلى هذا المعنى العام يحمل قوله تعالى:[إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ](الأحزاب: 72) - إلى قوله -[وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ](الأحزاب: 72) الآية وسجود الملائكة لآدم لا يدل على أن نسله أشرف هذا النوع كله، فقد يجوز أن الله خص الآخرين بما هو أعلى وأعظم من ذلك، ولو كان هذا السجود يدل على التفضيل لكان آدم نفسه أفضل جميع الأنبياء من باب أولى وهو مما لم يقل به أحد.

ص: 577

الكاتب: محمد توفيق صدقي

‌فصل في بيان دقائق

المسائل العلمية الفلكية

الواردة في القرآن

يلاحظ القارئ مما تقدم أن القرآن الشريف قد أتى في هذا الباب بمسائل علمية

دقيقة لم تكن معروفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المسائل تعتبر من

معجزات القرآن الخالدة وهاكها ملخصة:

1 -

الأرض كوكب كباقي الكواكب السيارة {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق:

12) وهما من مادة واحدة {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30) وهي

تدور حول الشمس {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ

الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88)[*] .

2 -

السيارات الأخرى مسكونة بالحيوانات {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ} (الشورى: 29)، {يُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} (الإسراء:

44) ، {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الرحمن: 29) ومجموع هذه

الآيات يدل على أن في السموات حيوانات عاقلة كالإنسان.

3 -

ليس القمر خاصًّا بالأرض، بل للسيارات الأخرى أقمار {وَجَعَلَ

القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} (نوح: 16) .

4 -

ليست السيارات مضيئة بذاتها، بل إن الشمس هي مصباحها جميعًا

{وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} (نوح: 16) أي لهن كما يدل عليه السياق، فالنور الذي

نشاهده فيها منعكس عليها من الشمس.

5 -

السماوات والسيارات السبع شيء، والشمس والقمر شيء آخر،

فهما ليسا من السيارات كما كان يتوهم القدماء {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (العنكبوت: 61) الآية وغيرها

كثير.

6 -

العوالم المتعددة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) والعوالم

هي منظومات من الكواكب المتجاذبة {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ} (الذاريات:

7) .

7 -

ليست جميع العوالم مخلوقة لأجل هذا الإنسان {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ

وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر: 57) أي الناس المعهودين على وجه

الأرض، والإنسان الأرضي أفضل من بعض المخلوقات لا كلها {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى

كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) ولا ينافي ذلك قوله: {وَسَخَّرَ

لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (الجاثية: 13) إذ لا يلزم من هذا القول

أنها غير مسخرة لغيرنا من الأحياء، فالبحر مثلاً قال الله تعالى فيه: {سَخَّرَ لَكُمُ

البَحْرَ} (الجاثية: 12) مع أنه مسخر لغيرنا من الحيوانات البحرية تسخيرًا أتم

وأعم، فمنه تأكل وتشرب وتتنفس، وفيه تسكن وتحيا وتموت. فما هو

مسخر لبعض الحيوانات تسخيرًا جزئيًّا قد يكون مسخرًا لغيرها تسخيرًا كليًّا،

فكذلك النجوم مسخرة لنا لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر، مع أنها لغيرنا

شموس عليها قوام حياتهم، كما أن شمسنا عليها قوام حياتنا، وهي بالنسبة لهم

نجم من نجومهم الثوابت، وبالجملة فإن جميع العوالم بما بينها من الارتباط العام

والتجاذب الذي بينها مسخرة بعضها لبعض بالنفع الكلي أو الجزئي.

8 -

كان القدماء يعتقدون أن جميع الثوابت مركوزة في كرة مجوفة يسمونها كرة

الثوابت أو فلك الثوابت، وبحركة هذه الكرة تتحرك هذه الكواكب كما تقدم، ومعنى

ذلك أن الكواكب لا حركة لها بذاتها، وأن فلك جميع الثوابت واحد، وأنه جسم

صلب. والحقيقة خلاف ذلك؛ فإن لكل كوكب فلكًا يجري فيه وحده، وكل كوكب

يتحرك بذاته لا بحركة غيره، والكواكب جميعًا سابحة في الفضاء، أو بعبارة أصح

في الأثير (مادة العالم الأصلية) غير مركوزة فيه في شيء مما يتوهمون، وبهذه

الحقائق، جاء الكتاب الحكيم والناس في الظلمات والأوهام يتخبطون. قال الله

تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40) والتنوين في لفظ (كل) عوض

عن الإضافة، والمعنى كل واحد من الكواكب في فلك خاص به يسبح بذاته. وفي

قوله يسبحون إشارة إلى مادة العالم الأصلية (الأثير) التي تسبح فيها الكواكب

كما تسبح الأسماك في الماء، فليست الأفلاك أجسامًا صلبة تدور بالكواكب كما كانوا

يزعمون.

9 -

نص الكتاب العزيز على وجود الجذب العام للكواكب كافة من جميع

جهاتها فقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ} (الذاريات: 7)، {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} (النازعات: 27) ، {هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (الملك: 3) راجع تفسير

هذه الآيات فيما تقدم، فالكون كله كالجسم الواحد الكبير محكم البناء لا خلل فيه،

كما قال: {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) ، ويتخلله الأثير كما يتخلل ذرات

الجسم الصغير {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14) .

10 -

كان الناس في سالف الأزمان لا يدرون من أين يأتي ماء المطر،

ولهم في السحاب أوهام عجيبة، كما كانت لهم في كل شيء سخافات وخرافات،

ولكن القرآن الشريف تنزه عن الجهل والخطأ فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي

سَحَاباً} (النور: 43) إلى قوله: {فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (النور:

43) وقال: {فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (النور: 43) ومقتضى القولين

أن الماء العذب الذي نشربه ونسقي به الأرض سواء كان من الينابيع أو من الأنهار

هو من الأمطار الناشئة من السحاب، ومن أين يأتي السحاب؟ هو بخار من

بحار هذه الأرض أي: أن السحاب هو من الأرض، وهو عين قوله تعالى:

{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31) أي أن الماء جميعه أصله من

الأرض، وإن شوهد أنه ينزل من السحاب.

فهذه كلها آيات بينات ومعجزات باهرات دالة على صدق النبي وصحة القرآن.

* * *

(الخاتمة في بيان الغاية من هذا الوجود)

قد علمنا مما تقدم أن العوالم متعددة، وأنها كلها مسكونة بالأحياء العاقلة وغير

العاقلة، فهل كلها مخلوقة عبثًا؟ ؟ وهل لهذا الوجود غاية؟ ؟ أم كل هذه العوالم

سائرة للفناء؟ وخلقت لا لشيء؟ شموس وسيارات وأقمار تجري في أفلاكها

بانتظام ونواميس وسنن وهي مملوءة بالأحياء، وتظهر فيها جلائل أعمال الطبيعة

والمخلوقات، أتنقرض هذه كلها وتنتهي إلى الفناء المحض والعدم الصِّرف؟ كلا ثم

كلا.

{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ

لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ} (المؤمنون: 115-116)

الحياة وخصوصًا حياة الحيوانات العاقلة، هي كما نشاهد غاية الغايات في

هذا الوجود، وإلا كان العالم كله كالقصر المشيد الذي لا سكان فيه، أو كالملعب

الجميل الذي لا يرى فيه ممثلون أو لاعبون.

وإذا كانت الحياة هي غاية هذا الوجود، فهل لهذه الحياة غاية؟ ؟ وإذا كانت

المادة وقوتها في هذا العالم غير قابلة للعدم والفناء كما يقولون، فلم تكون الحياة

فانية؟ وإذا كانت المادة وقوتها تتشكل بأشكال مختلفة، وتظهر بصور وأطوار

متنوعة ومع ذلك نقول ببقائهما؟ فلماذا نقول بفناء الحياة إذا تغير شكلها أو صورتها؟

أليس من العجيب أن القائلين بعدم فناء المادة والقوة هم المنكرون لبقاء الأرواح

البشرية إذا غيرت المادة المنظورة شكلها؟ مع أن الأرواح قد لا تكون شيئًا آخر

سوى نوع مخصوص بسيط لطيف من أنواع المادة التي لا نعرفها، كالأثير الذي

يقولون بوجوده وأنه مالئ للعالم كله وأنه يتخلل ذرات المادة الكثيفة: {وَمَا أُوتِيتُم

مِّنَ العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) .

وإذا سلم أن النفوس أو الأرواح لا تفنى إذا كانت من نوع هذه المادة، فهل

أعمال هذه النفوس تفنى، وأنتم القائلون بعدم فناء القوة، سواء كانت كامنة أو

عاملة؟ ! (Potential & Kinctic Energy) .

هذا، ولا يخفى أن لكل عمل أثرًا في النفس [1] وإذا سلم أن النفس وعملها

(قوتها) وأثر عملها لا تفنى كان من السهل علينا أن نسلم أن الأعمال السيئة تطبع

في النفوس آثارًا سيئة (impressions - Bad) لا تمحى. ولا تزال تلك

الأعمال تطبع آثارًا من جنسها في النفس كلما زادت، حتى تجعل النفس شريرة أو

صالحة، كأنها جبلت على الشر أو الخير.

وإذا كان من المشاهد أن الجزاء في هذه الحياة هو النتيجة الطبيعية للأعمال

إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، والنفوس بما انطبعت عليه باقية كما بينا، أفلا تلقى

جزاءها الأوفى في الدار الآخرة، كما كانت تلقى ذلك في الدنيا، وتكون النفس

الشريرة هناك دنيئة غير صالحة إلا للسكنى مع الأشرار الذين هم مثلها في دار

تناسبها أحوالها، كما أن النفوس الصالحة تكون في عكس ذلك {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا

* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 9-10) .

وإذا سلم أن النفوس كما هي بشرها أو خيرها باقية، أفلا يكون الجحيم

والنعيم لهما باقيين كذلك غير فانيين؟ فالدنيا مزرعة الآخرة أو المدرسة لتربية

النفوس، فمن ربيت نفسه على الخير حتى صارت صالحة، كان جزاؤها النعيم

المقيم في الآخرة، ومن ربيت نفسه على الشر حتى صارت شريرة فاسدة، كان لها

الجحيم لا يناسبها غيره لأنها مجرمة {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي

جَحِيمٍ} (الانفطار: 13-14) فالجزاء باق لأن النفوس بما طبعت عليه في الدنيا

باقية، قال تعالى:{كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين:

14) ، وقال: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ

فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 81) فدوام العذاب هو للنفوس الشريرة التي

فسدت، حتى صارت لا تصلح للخير مهما بقيت في الدنيا {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا

نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (الأنعام: 28-29){وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (الأحقاف: 19) .

...

...

... الدكتور محمد توفيق صدقي

...

...

...

طبيب ليمان طره

_________

(*) لا يمكن أن يكون المراد بهذه الآية تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة حينما يبيد الله تعالى العوالم كما قال [وَسُيِّرَتِ الجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً](النبأ: 20)، وكما قال:[وَإِذَا الجِبَالُ نُسِفَتْ](المرسلات: 10) لعدة أسباب:

1-

إن قوله تعالى فيها [وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً](النمل: 88) لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة على أن حمل هذه الآية على المستقبل مع أنها صريحة في إرادة الحال شيء لا موجب له وهو خلاف الظاهر منها 2- إن سير الجبال للفناء يوم القيام يحصل عند خراب العالم وإهلاك جميع الخلائق وهذا شيء لا يراه أحد من البشر كما قال: [وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلَاّ مَن شَاءَ اللَّهُ](الزمر: 68) أي من الملائكة فما معنى قوله إذَا [وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً](النمل: 88) 3- إن تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة إذا رآه أحد شعر به لأن مادام وضعها يتغير بالنسبة للإنسان فيحس بحركتها وهذا ينافي قوله تعالى (تحسبها جامدة) أي ثابتة أما في الدنيا فلا نشعر بحركتها لأننا نتحرك معها ولا يتغير وضعنا بالنسبة لها وهذا بخلاف ما يحصل يوم القيامة فإن الجبال تنفصل عن الأرض وتنسف نسفا وهذا شيء يراه كل واقف عندها 4- أما ورود هذه الآية في سياق الكلام على يوم القيامة فهو كورود آية: [أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً](النمل: 86) المذكورة قبلها في نفس هذا السياق والمراد بهما ذكر شيء من دلائل قدرة الله تعالى المشاهدة آثارها في هذا العالم الآن من حركة الأرض وحدوث الليل والنهار ليكون ذلك دليلاً على قدرته على البعث والنشور يوم القيامة فإن القادر على ضبط حركات هذه الأجرام العظيمة لا يصعب عليه أن يعيد الإنسان وأن يضبط حركاته وأعماله ويحصيها عليه ولذلك ختم هذه الآية التي نحن بصدد الكلام عليها بقوله: [إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] فذكر هذه الأشياء في هذا السياق هو كذكر الدليل مع المدلول أو الحجة مع الدعوى وهي عادة القرآن الشريف فإنك تجد الدلائل منبثة بين دعاويه دائمًا حتى لا يحتاج الإنسان لدليل آخر خارج عنها كقوله تعالى: [مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ](المائدة: 75) وذلك شيء مشاهد في القرآن من أوله إلى آخره وهو من أكبر آيات البلاغة العليا ومن عجيب أمر هذا القرآن أن يذكر أمثال هذه الدقائق العلمية العالية التي كانت جميع الأمم تجهلها بطريقة لا تقف عثرة في سبيل إيمان أحد به في أي زمن كان مهما كانت معلوماته فالناس قديمًا فهموا أمثال هذه الآية بما يوافق علومهم حتى إذا كشف العلم الصحيح عن حقائق الأشياء علمنا أنهم كانوا واهمين وفهمنا معناها الصحيح فكأن هذه الآيات جعلت في القرآن معجزات للمتأخرين تظهر لهم كلما تقدمت علومهم وأما المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم فمعجزته لهم إتيانه بأخبار الأولين وبالشرائع التي أتى بها وبالمغيبات التي تحققت في زمنه وغير ذلك مع علمهم بصدقه وحاله وبعده عن العلم والتعلم بالمشاهدة والعيان فآيات القرآن بالنسبة لهم بعضها معناه صريح لا يقبل التأويل وفيها بيان كل شيء مما يحتاجون إليه والبعض الآخر يقبل التأويل وتتشابه عليهم معانيه لنقص علومهم وهذا القسم لا يهمهم كثيرًا فإنه خاص بعلوم لم يكونوا وصلوا إليها وهو معجزات للمتأخرين يشاهدونها وتتجلى لهم كلما تقدموا في العلم الصحيح، قال تعالى:[هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ](آل عمران: 7) أي لها معان كثيرة يشبه بعضها بعضا وتتشابه عليهم في ذلك الزمن فلا يمكنهم الجزم بالصحيح منها -[فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ]- بتشكيك الناس في دينهم بسببه -[وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلَهُ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ] ، في زمنهم لنقص علمهم، [وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً] (الإسراء: 85) -[وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ](آل عمران: 7) 000إلخ، فإذا جعل قوله تعالى:[وَالرَّاسِخُونَ] معطوفًا على لفظ الجلالة كان المعنى أن تأويله لا يعلمه أحد في جميع الأزمنة إلا الله والراسخون في العلم يعلمونه وإذا كان لفظ (والراسخون) مستأنفًا كان المعنى أن الراسخين في العلم في زمنهم لا يعلمون تأويله كما قلنا وإنما يؤمنون به لظهور الدلائل الأخرى لهم على صدق النبي ويفوضون علم هذه الأشياء إلى المستقبل من الزمان كما نفوض الآن نحن مسألة رجم الشياطين بالشهب للمستقبل ونؤمن بالقرآن لثبوت صدقه بالدلائل الأخرى القطعية. (1) روى علماء الطب الشرعي عن كثير من الغرقى الذين أنقذوا من الموت بعد أن كادوا يقعون فيه أنهم رأوا جميع أعمالهم شرها وخيرها كبيرها وصغيرها حتى ما كانوا نسوه منها ممثلة أمام أعينهم وتمر عليهم واحدة فواحدة كما تمر الصور المتحركة أمام الناظرين وهذا يدل على انطباع جميع الأعمال في النفوس وأنهم سيرونها مصداقًا لقوله تعالى: [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ](آل عمران: 30) الآية وقوله:

[وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً](الكهف: 49) ولعل ذلك يفسر لنا قوله تعالى: [مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ](ق: 18) وقوله: [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ](الانفطار: 10-11) وتكون هاتان الآيتان واردتين على سبيل التمثيل كقوله تعالى: [قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ](فصلت: 11) وقوله: [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا](الأحزاب: 72) الآية وقوله: [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ](الأعراف: 172) .

ص: 594

الكاتب: محمد سعيد

قانون في الطلبة

والمدرسين والموظفين [1]

الباب الرابع

في الطلبة والمدرسين والموظفين

(الفصل الأول)

في قبول الطلبة وواجباتهم

(المادة الحادية والستون)

يشترط في قبول الطالب في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى ما يأتي:

أولاً - أن لا ينقص سنه عن عشر سنوات، ولا يزيد عن سبع عشرة سنة.

ثانيًا - أن يكون عارفًا بالقراءة والكتابة بدرجة تؤهله للمطالعة في الكتب.

ثالثًا - أن يكون حافظًا لنصف القرآن الكريم على الأقل، وعليه حفظ القرآن

كله عملاً بنص المادة الثالثة والخمسين.

رابعًا - أن يكون خاليًا من الأمراض.

خامسًا - أن يقدم شهادة بحسن سيرته، إذا كان قد بلغ عمره أربعة عشر عاما

كاملة.

* * *

(المادة الثانية والستون)

يجوز قبول العميان ضمن طلبة جامعة الأزهر والمعاهد الأخرى، ويتلقون

من العلوم ما يناسب حالتهم، بحسب ما يقرره مجلس الأزهر الأعلى.

ويجب أن تستوفى فيهم بقية شروط القبول، وأن يكونوا حافظين للقرآن كله.

* * *

(المادة الثالثة والستون)

شروط انتساب الغرباء في الجامع الأزهر يقررها مجلس الإدارة، وكذلك

الامتحانات التي يجب عليهم أن يؤدوها، ونوع الشهادة التي يُمْنَحوها.

* * *

(المادة الرابعة والستون)

يجوز قبول الطالب في غير السنة الأولى من القسم الأول بالشروط الآتية:

أولاً - أن يجوز الطالب الامتحان في جميع مقرر السنين السابقة على السنة

التي يطلب الدخول فيها أمام لجنة يعينها مجلس الإدارة من المدرسين.

ثانيًا - أن يكون حافظًا لنصف القرآن.

* * *

(المادة الخامسة والستون)

لا يسوغ لأحد أن يدخل في القسم الثانوي إلا إذا كان حائزًا للشهادة الأولية،

وأدى الامتحان في علوم السنة أو السنوات السابقة على التي يريد الدخول فيها.

ولا يسوغ لأحد أن يدخل في القسم العالي إلا إذا كان حائزًا للشهادة الثانوية،

وأدى الامتحان في علوم السنة أو السنوات على التي يريد الدخول فيها.

* * *

(المادة السادسة والستون)

لا يجوز قبول أي طالب في سنة من السنوات طبقًا لما هو مقرر في المادتين

السابقتين، إذا كان سنه زائدة عن السن المقرر للسنة التي يريد الدخول فيها باعتبار

نهاية السن المقرر لها [2] .

* * *

(المادة السابعة والستون)

الطلبة مكلفون بمراعاة النظام والمحافظة على ما هو مقرر في هذا القانون،

وما يتقرر في اللائحة الداخلية، وقرارات مجلس الأزهر الأعلى، ومجالس الإدارة

وأوامر المشيخة.

* * *

(المادة الثامنة والستون)

الطلبة ممنوعون منعًا باتًّا من الاشتراك في أية مظاهرة، ومن كل اجتماع

يوجب التشويش على الدروس أو الإخلال بالنظام.

وأما الاحتفالات المألوفة عادة فلا تعد من المظاهرات.

وهم ممنوعون أيضًا من إعطاء أخبار للجرائد، ومن إبداء ملاحظات

بواسطتها، ومن أن يكونوا مكاتبين أو وكلاء لأية جريدة كانت، ولا يجوز لهم

مكاتبتها إلا في المسائل الدينية والعملية.

* * *

(الفصل الثاني)

في المدرسين والموظفين

(المادة التاسعة والستون)

يجب أن يكون المدرس تحت تصرف مجلس الإدارة في جميع ما يكلفه به من

الدروس أو الأعمال الأخرى المتعلقة بالتعليم.

فإذا امتنع بغير عذر مقبول عن أداء عمل كلف به بعد إنذاره من قبل المشيخة

رفت وقطعت مرتباته.

* * *

(المادة السبعون)

كل عالم من غير المتقاعدين انتخب للتدريس في علم من العلوم المقررة في

الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى المبينة في المادة الخامسة والعشرين، ولم يقبل،

ولم يكن له عذر مقبول لدى مجلس الإدارة، يمحى اسمه من سجل المدرسين وتقطع

جميع مرتباته.

* * *

(المادة الحادية السبعون)

المدرس أو الموظف الذي جاء دور ترقيته في معهد غير الذي هو فيه، ولا

يقبل النقل، يفقد حق الترقية في الدور الذي طلب نقله فيه [3] .

* * *

(المادة الثانية والسبعون)

المدرسون والموظفون ممنوعون منعًا قطعيًّا من الاحتراف بأية حرفة في

الخارج غير حرفتهم التي هم فيها.

ولا يجوز لهم أن يشتغلوا بالتعليم في الخارج، ولا أن يقبلوا وظيفة كذلك إلا

بإذن خاص من مجلس الإدارة.

ولا يرخص مجلس الإدارة بما ذكر إلا في حالة الضرورة الشديدة بشرط بيان

ذلك في المحضر.

وكل مدرس أو موظف لدى الحكومة في أية وظيفة، يرفت حتمًا من المعهد

الذي كان يدرس فيه، وتقطع مرتباته ولا يجوز تكليفه بدروس في نظير مكافأة أو

بدونها، إلا بقرار من مجلس الإدارة وبشرط قبول الجهة التي صار الموظف تابعًا

لها.

ويجب تصديق مجلس الأزهر على ما ذكر.

* * *

(المادة الثالثة والسبعون)

المدرسون والموظفون ممنوعون من الاشتراك في أية مظاهرة، ومن مكاتبة

الجرائد في غير المسائل العلمية والدينية، ومن إعطاء أخبار إليها مباشرة أو

بالواسطة.

وأما الاحتفالات المألوفة عادة فلا تعد من المظاهرات.

* * *

(المادة الرابعة والسبعون)

على المدرسين والموظفين أن يكونوا خاضعين لجميع اللوائح والقرارات

والأوامر المختصة بالتعليم وبالنظام.

* * *

(الباب الخامس)

في الإجازات

(الفصل الأول)

في إجازات الطلبة

(المادة الخامسة والسبعون)

لا يسوغ لأحد من الطلبة أن يتغيب عن المعهد الذي يتلقى العلم فيه، في غير

أوقات المسامحات المقررة إلا بإذن كتابيّ من المشيخة التابع لها.

* * *

(المادة السادسة والسبعون)

إذا تغيب الطالب بغير إذن أو تأخر عن الحضور للدرس بعد انقضاء أيام

المسامحات أو بعد انقضاء المدة المرخص له بها، ولم يكن له عذر مقبول،

فللمشيخة عقوبته بإحدى العقوبات الأربع الأولى المنصوص عليها في الفقرة

الأخيرة من المادة الثامنة والثمانين.

* * *

(المادة السابعة والسبعون)

إذا بلغت مدة الغيبة شهرًا، ولم يكن للطالب عذر مقبول، ولم يكن قد أخبر

المشيخة بسبب الغيبة، يرفت، وتقطع مرتباته في سنة الغيبة، وإذا انتسب في

السنة التالية يعتبر معيدًا لدروسه.

وكذلك يرفت وتقطع مرتباته إذا تكررت غيبته بدون إذن وبغير عذر مقبول

ثلاث مرات فأكثر في السنة الواحدة، وبلغ مجموع مدة التأخير في المرات الثلاث

شهرًا، فإذا تكرر ذلك منه مرة ثانية في سنة أخرى بعد قبول انتسابه رفت، ولا

يجوز قبوله في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى.

* * *

(المادة الثامنة والسبعون)

إذا مرض أحد الطلبة، وكانت حالته تستلزم الراحة أو المعالجة في الخارج،

جاز لشيخ المعهد أن يرخص له بإجازة مرضية لا تتجاوز ثلاثة أشهر؛ بناء على

شهادة طبية من طبيب المشيخة التابع لها الطالب أو من طبيبه الخاص؛ بشرط

تصديق طبيب المشيخة عليها.

ويصح تمديد مدتها بالشروط المذكورة.

فإن زادت مدة الإجازة عن ستة أشهر، قطعت مرتبات الطالب وبقي منتسبًا.

* * *

(المادة التاسعة والسبعون)

لشيخ المعهد أن يرخص كتابة للطالب بإجازة استثنائية، لا تتجاوز مدتها

خمسة عشر يومًا بناء على طلب بالكتابة من الطالب أو ولي أمره، إن كان له ولي

أمر، متى تبين أن الأسباب الداعية لذلك قوية.

(الفصل الثاني)

في إجازة المدرسين والموظفين

(المادة الثمانون)

يجوز للمدرسين والموظفين الحصول على إجازات استثنائية لمدة لا تتجاوز

أسبوعًا واحد؛ بشرط أن لا يتكرر ذلك أكثر من مرتين في السنة.

* * *

(المادة الحادية والثمانون)

ويجوز لهم أن ينالوا إجازة مرضية لمدة أكثرها ثلاثة أشهر؛ بمراعاة

الشروط المنصوص عليها في المادة الثامنة والسبعين.

ويصح تمديد مدتها بالشروط عينها.

* * *

(المادة الثانية والثمانون)

كل مدرس أو موظف تأخر عن العود إلى العمل المكلف به بعد انتهاء

المسامحة أو الإجازة المرضية أو الاستثنائية المرخص له بها، يحرم من مرتبه

ابتداء من اليوم الخامس لانقضاء المسامحة أو الإجازة إذا قدم عذرًا مقبولاً وإلا فمن

اليوم التالي.

فإذا بلغت مدة التأخير شهرًا من دون إخطار وعذر مقبول، يرفت وتقطع

مرتباته.

* * *

(المادة الثالثة والثمانون)

يكون الترخيص بالإجازات لمدرسي وموظفي الجامع الأزهر والمعاهد

الأخرى فيما زاد عن أسبوع؛ بأمر من شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس

الأزهر الأعلى.

ولا يرخص لأحد مدرسي المعاهد الأخرى أو موظفيها بإجازة؛ إلا بعد أخذ

رأي شيخ المعهد التابع له المدرس أو الموظف.

* * *

(المادة الرابعة والثمانون)

يراعى في الترخيص للمدرسين والموظفين بإجازات استثنائية أن لا يتغيب

منهم في آن واحد عدد تستلزم غيبته تعطيل سير الدروس أو الأعمال الأخرى، أو

الاستعانة بمن يقوم مقامهم في وظائفهم من غير المدرسين.

* * *

(المادة الخامسة والثمانون)

يقرر مجلس الأزهر الأعلى مدة الإجازة الاعتيادية التي يجوز الترخيص بها

للموظفين والكتبة، مع مراعاة القواعد المدونة في هذا الباب.

وكذلك يقرر مدة الإجازات المرضية التي يسوغ الترخيص بها بمرتب كامل

أو بنصف مرتب أو بدون مرتب، كما يقرر المدة التي يجب بعدها رفت المدرس

أو الموظف.

(الباب السادس)

في التأديب

(الفصل الأول)

في تأديب الطلبة والمدرسين والموظفين

(المادة السادسة والثمانون)

تأديب الطلبة والمدرسين والموظفين من خصائص مجالس الإدارة، ويقدمون

للمجلس المختص بتقرير من المشيخة التابعين لها.

ولشيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى؛ أن يأمر بإحالتهم

في المعاهد الأخرى على مجلس التأديب مباشرة إذا تبين له ما يقتضي ذلك.

* * *

(المادة السابعة والثمانون)

كل واحد ممن ذكروا في المادة السابعة، خالف حكمًا من أحكام هذا القانون،

أو غيره من القوانين واللوائح الخاصة بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، أو

قرارات مجلس الأزهر الأعلى، أو مجالس الإدارة، أو أوامر المشيخة، أو تعدى

على غيره بالأذى، أو ارتكب أمرًا يخل بالنظام أو بالمروءة وشرف العلم، يعاقب

تأديبيًّا.

* * *

(المادة الثامنة والثمانون)

العقوبات التأديبية التي يجوز الحكم بها على الطلبة هي:

التوبيخ على انفراد أو بحضور الطلبة.

الطرد من الدرس مدة أكثرها أسبوع.

الإنذار.

قطع الجراية مؤبدًا.

الإخراج من المساكن التابعة للمعهد لمدة أكثرها ثلاثة أشهر أو مؤبدًا.

تقليل أو إلغاء اغتفار إعادة الدروس.

(الرفت) محو الاسم من السجلات مدة أقلها سنة، مع الحرمان من الامتحانات.

ولشيخ الأزهر ومشايخ المعاهد الأخرى توقيع العقوبات الأربع الأولى،

وللمدرسين توقيع العقوبتين الأوليين، مع مراعاة أن الطرد من الدرس لا يكون إلا

من الدرس الذي حصلت فيه المخالفة.

* * *

(المادة التاسعة والثمانون)

العقوبات التأديبية التي يحكم بها على المدرسين وبقية الموظفين الداخلين هيئة

العمال هي:

الإنذار.

قطع المرتب لمدة أكثرها خمسة عشر يومًا.

الإيقاف بلا مرتب لمدة أكثرها ثلاثة أشهر.

تنقيص الراتب.

الإنزال من درجة إلى التي دونها.

الرفت.

* * *

(المادة التسعون)

يجوز لشيخ الجامع الأزهر ومشايخ المعاهد الأخرى توقيع العقوبتين

الأوليين.

* * *

(المادة الحادية والتسعون)

تأديب الخدمة الخارجين عن هيئة العمال، يكون بمعرفة شيخ المعهد.

* * *

(المادة الثانية والتسعون)

محو الاسم والرفت يقتضيان عدم قبول المحكوم عليه في أي معهد آخر.

(الفصل الثاني)

في الاستئناف

(المادة الثالثة والتسعون)

يجوز للمدرسين والموظفين دون غيرهم أن يستأنفوا الأحكام الصادرة عليهم

من مجالس الإدارة بالإيقاف، وتنقيص الراتب والإنزال من الدرجة والرفت.

* * *

(المادة الرابعة والتسعون)

يرفع الاستئناف إلى مجلس الأزهر الأعلى بعريضة يقدمها المحكوم عليه،

شاملة لبيان أوجه تظلمه من الحكم بيانًا كافيًا.

* * *

(المادة الخامسة والتسعون)

المدة التي يجوز فيها رفع الاستئناف ثمانية أيام من تاريخ علم المحكوم عليه

بحكم مجلس الإدارة.

* * *

(المادة السادسة والتسعون)

يثبت علم المحكوم عليه بالحكم الصادر في حقه؛ بإخباره وقت النطق به في

جلسة الحكم أو بخطاب رسمي يرسله إليه رئيس المجلس الصادر منه الحكم.

***

(المادة السابعة والتسعون)

يحكم مجلس الأزهر الأعلى في الاستئناف المرفوع إليه بعد اطلاعه على

أوراق الدعوى، وأوجه تظلم المحكوم عليه المبينة في عريضة الاستئناف أو التي

يقدمها بمذكرة خاصة.

وله أن يسمع أقوال المحكوم عليه إذا تراءى له ذلك.

* * *

(المادة الثامنة والتسعون)

يجوز لشيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى أن يستأنف

الأحكام الصادرة من مجالس التأديب في ظرف شهر من تاريخ صدورها.

(الفصل الثالث)

أحكام تأديبية أخرى

(المادة التاسعة والتسعون)

ينعقد مجلس الأزهر الأعلى بهيئة مجلس تأديب خاص؛ للنظر فيما ينسب

لمشايخ المعاهد الأخرى والوكلاء والحكم عليهم بالنقل أو بإحدى العقوبات

المنصوص عليها في المادة التاسعة والثمانين.

* * *

(المادة المئة)

الموظفون بإرادة سنية يجوز فصلهم كذلك؛ بناء على طلب شيخ الجامع

الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى.

ويجوز لمجلس الأزهر الأعلى أيضًا فصل الموظفين الآخرين والمدرسين؛

بدون إحالتهم على مجلس التأديب إذا وجد ما يقتضي ذلك.

* * *

(المادة الأولى بعد المئة)

إذا وقع من أحد العلماء أيًّا كانت وظيفته أو مهنته ما لا يناسب وصف العالمية

يحكم عليه من شيخ الجامع الأزهر بإجماع تسعة عشر عالمًا معه من هيئة كبار

العلماء المنصوص عليها في الباب السابع من هذا القانون؛ بإخراجه من زمرة

العلماء.

ولا يقبل الطعن في هذا الحكم.

ويترتب على الحكم المذكور محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع

الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أية جهة

كانت وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية.

(الباب الرابع)

في هيئة كبار العلماء

(المادة الثانية بعد المائة)

يكون بالجامع الأزهر ثلاثون عالمًا اختصاصيًّا، لكل واحد منهم بالأزهر

كرسي خاص في المحل يخصص للتدريس العام بمعرفة شيخ الجامع الأزهر.

ويجوز أن يوجد البعض منهم في المعاهد الأخرى بصفة شيخ المعهد أو وكيله

* * *

(المادة الثالثة بعد المائة)

يطلق على العلماء الثلاثين المذكورين في المادة السابقة اسم (هيئة كبار

العلماء) .

* * *

(المادة الرابعة بعد المائة)

الفنون التي يختص كل عالم من هيئة كبار العلماء بواحد منها هي الآتية:

1 -

الفقه وأصول اللغة.

2 -

الحديث ومصطلح الحديث.

3 -

تفسير القرآن الكريم.

4 -

علوم اللغة العربية.

5 -

التوحيد والمنطق.

6 -

التاريخ والسيرة النبوية والأخلاق الدينية.

ويجوز أن يختص الواحد بفئتين اثنين، ولا يعتبر بالنسبة للعدد أو المرتب

إلا فن واحد منهما باختيار صاحبهما.

* * *

(المادة الخامسة بعد المائة)

يكون للسادة الحنفية أحد عشر كرسيًّا؛ وللسادة الشافعية تسعة، وللسادة

المالكية تسعة، وللسادة الحنابلة كرسي واحد.

* * *

(المادة السادسة بعد المائة)

يشترط أن يكون للفقه ثلاثة كراسي للحنفية ' واثنان لكل من الشافعية

والمالكية وواحد للحنابلة.

ويجب أن يخصص ثلاثة كراسي لعلوم اللغة العربية، وكرسيان على الأقل

لكل واحدة من المجموعات الأربع الباقية، وهي التفسير ثم الحديث ثم التوحيد

والمنطق، ثم التاريخ والسيرة النبوية والأخلاق الدينية.

* * *

(المادة السابعة بعد المائة)

يشترط فيمن ينتخب ضمن هيئة كبار العلماء:

أولاً - أن لا يكون سنه أقل من خمس وأربعين سنة.

ثانيًا - أن يكون قد مضى عليه وهو مدرس في الجامع الأزهر والمعاهد

الأخرى عشر سنين على الأقل؛ منها أربع على الأقل في القسم العالي.

ثالثًا - أن يكون قد ألف كتابًا في أحد العلوم المذكورة في المادة الرابعة بعد

المائة، وأن يكون قد منح الجائزة العلمية المنصوص عليها في المادة الثانية.

والعشرين بعد المائة من هذا القانون.

رابعًا - أن يكون معروفًا بالورع والتقوى، وليس في ماضية ما يشين سمعته

* * *

(المادة الثامنة بعد المائة)

يكون تعيين كبار العلماء بإرادة سنية بناء على طلب شيخ الجامع الأزهر،

بعد الانتخاب بأغلبية ستة عشر من هيئة كبار العلماء، ويبقون في وظائفهم ما

داموا قادرين على أداء العمل المكلفين به.

* * *

(المادة التاسعة بعد المائة)

يعطى كل عالم دخل ضمن كبار العلماء راتبًا شهريًّا قدره عشرون جنيهًا،

وينعم عليه بكسوة التشريف من الدرجة الأولى إن لم يكن حائزًا لها من قبل.

* * *

(المادة العاشرة بعد المائة)

يجب على كل من حضراتهم أن يلقي في كل أسبوع بالجامع الأزهر أو

بالمعهد الموجود به ثلاثة دروس على الأقل في العلم الخصيص هو به، وأن يكون

إلقاء الدرس في وقت يتمكن فيه العدد الأكبر من العلماء من حضوره وله أن يلقي

درسًا عاليًا آخر في غير العلوم المنصوص عليها في المادة الرابعة بعد المائة.

* * *

(المادة الحادية عشرة بعد المائة)

يضع شيخ الجامع الأزهر مع من يختاره من هيئة كبار العلماء نظام الوعظ

والإرشاد وقواعدهما، ويصدرها إلى الجهة المختصة لتنفيذها.

* * *

(المادة الثانية عشرة بعد المائة)

ترجع هيئة العلماء في نظامها وسيرها وسائر ما يتعلق بها إلى لجنة تؤلف

تحت رياسة شيخ الأزهر من ستة علماء تنتخبهم الهيئة، وما تقرره يجب اتباعه مع

ملاحظة ما هو متعلق بالنظام العام بالأزهر من نصوص هذا القانون.

* * *

(المادة الثالثة عشرة بعد المائة)

تتألف هيئة كبار العلماء أول مرة من العلماء الذين ينتخبهم مجلس الأزهر

الأعلى، مع عدم مراعاة نص المادة الثانية بالنسبة لإكمال العدد ثلاثين، ونص

المادة السابعة بعد المائة بالنسبة لاستيفاء الشروط.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

تابع لما نشر في الجزء السابع (ص 251) .

(2)

المنار: السن مؤنثة.

(3)

المنار: هذا هو نص المادة كما نشرت في الجريدة الرسمية وهي كما ترى.

ص: 601

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كلمات علمية عربية

أسوقها إلى المترجمين والمعربين [1]

(مقدمة) لما كان من مستلزمات نهضتنا العلمية العصرية نشر الكتب بين

أمتنا باللغة العربية الشريفة، وكان كثير من الناس يظن أن لغتنا فقيرة في

الاصطلاحات العلمية كالألفاظ الطبية وغيرها، أردت نشر ما عثرت عليه في

هذا الباب من الكلمات الفصيحة التي تفيد المعربين والمؤلفين باللغة العربية،

وهاكها بغير ترتيب، بل أنشرها كلما عثرت على شيء منها، وأرجو الله تعالى أن

ينفع بها الناطقين بهذه اللغة، وأن يرد بها افتراء الذين يرمون لغتنا بالضعف

والنقص، وسأذكرها مع ما يقابلها من اللغة الإنجليزية، إلا إذا لم يوجد لها مقابل أو

كان ما يقابلها معروفًا مشهورًا، وحينئذ يكون الغرض من ذكرها ضبطها بلغتنا أو

بيان أنها ليست عامية، كما قد يتوهم بعضهم فأقول:

القَلَح: صفرة الأسنان.

الظَّلْم: الطبقة اللامعة للأسنان Enamel.

الحثَر: التهاب بثري للعين Phlyctenular Conjunctivitis.

الانتشار في العين تمدد ناظرها Dilatation of Pupil.

الظَفَرة Pterygium: هي جليدة تغشى العين من تلقاء المآقي.

السَّبَل Pannus: كدُورة القرنية مع تكون شريانات فيها، وهي تنشأ من الرمد

الحبيبي.

الغرْب Dacryocystitis: التهاب الكيس الدمعي للعين.

العائر أو الساهك Panophthalmitis: التهاب مقلة العين وتقيحها.

اللَّخَص: التصاق الجفون Blepharo-phimosis.

اسمدرّت عينه ظهر لها سمادير motes: وهي أشباه الذباب، ترى أمام العين.

الكَمَش Astigmatism: عدم اجتماع أشعة الضوء في العين في نقطة واحدة؛ لعدم

انتظام القرنية، فيضعف الإبصار.

البَخَق Glaucoma: مرض يحدث به ضمور الشبكية؛ لشدة ضغط سوائل العين

عليها لكثرتها، فيذهب البصر والعين منفتحة.

الإطراق: استرخاء الجفن Ptosis.

الخَفَش Hyper-metropia: القدرة على رؤية الشيء بعيدًا، مع عدم القدرة على

رؤيته قريبًا؛ لصغر العين أي صغر قطرها الأمامي الخِلْفي.

الشتر Ectropion: انقلاب الجفن.

الحَوَص: ضيق العين الخلقي.

الخَوَص: غُؤور العين.

العقيقة: الشعر الذي يولد به الإنسان Down.

الحاسم [2] Artery foreeps جفت الشريان.

ضمد الجرح Todressit.

الضماد Dressing.

الحجبتان: رأسَا الوركين.

القتير: رؤوس المسامير.

الكراديس أو المُشَاش Epiphysis: هي رؤوس العظام.

السحج Abrasion

النَّدْب أثر الجرح أو البثر Scar.

السِّدَاد Stopper.

الناجود. الكوب Beaker.

الفِلِزّ Mineral.

الإطار هو كل ما أحاط بالشيء Frame.

المِكْوى Cautery.

اللدْن Caouthouc.

المِلاب العطر المائع والكِباء العطر اليابس.

الخُوان للأكل Table.

سرير العملية Operation - Table.

غَوْر أو قعر الكيس Cul de Sac.

كِرْش الدابة. معدة الإنسان. حوصلة الطائر.

الرُضاب: اللعاب.

اللبَأ Colostrum وهو أول اللبن بعد الولادة.

الزفير أول صوت الحمار الوحشي، والشهيق آخره، وفي الإنسان الشهيق جذب

الهواء للرئة والزفير إخراجه Inspiration Expiration.

الحَمَالة بالفتح Suppositroy ما يتحمل به في المستقيم أو المهبل أو مجرى البول.

وجع فلانًا بطنه: أصابه ألم فيه.

النُّقبة أول الجرب.

العِقيُ Meconium أول براز للطفل.

الفنجانة والفنجان Cup.

البكرة من الخشب Trochleur.

القَرَع Favus داء معروف.

البق Bugs.

الجرنفش العظيم الخلقة Acromegaly.

الأرأس Hydro-cephalus العظيم الرأس.

العثجل العظيم البطن.

الأركب العظيم الركبة.

الحنتار أو الحندل Cretin صغير الجسم والعقل.

مح البيضة: صفارها.

مُكاكة العظم Sequestrum: ما ينفصل منه لمرض.

النَّصفان من الآنية: ما بلغ الماء (ونحوه) نصفه، وقربة نَصفَى Half-ful.

الوَتَرة: ما بين المنخرين.

المنخران: Nostrils.

النَّثْرة: ما بين الشاربين أسفل الوترة.

المُرَيطاء Hypogastrium: ما بين السرة والعانة.

البرَص: Leucodermia.

الكَوْكب: بياض في سواد العين Leucoma.

الغربيب jet-black: شديد السواد.

الكُبَاد: التهاب الكبد Hepatitis.

الثنايا: Middle incisors.

الرباعيات: Lateral incisors.

الأنياب: Canines.

الضواحك: Anterior pre-molars.

الرَحَى: Molar.

النَوَاجذ: Wisdom teeth.

اللفف: Hesitation in speech.

الخنخنة: Nasal twang.

الصَّعَر: Torticollis التواء العنق.

ثُندأة الرجل: ثديه.

برثن السبع ومخلب الطائر.

الرعاف Epistaxis: نزيف الأنف.

القضَّة: دم العذرة (أي البكارة) .

والجَسَد Clot: الدم المتجمد.

الشّرق Sarcoma: ورم لحمي خبيث.

ألية الأصبع: Thenar.

الحَمَّاة: لحمة الساق Calf.

الثَّرب الشحم على الأمعاء والكرش Omentum.

الخُشَشَاء Mastoid: العظم الناتئ خلف الأذن.

الحَجاج Orbit: عظم الحاجب.

الداغصة Patella: عظم فوق مفصل الركبة.

الكلس: (الجير) Calcium.

الشَّوَى Scalp: فروة الرأس.

الجُلبة Scab: قشرة تغطي الجرح أو البثر.

القيض: قشرة البيضة.

الغِرقئ: القشرة التي تحت القيض.

السّابياء والحولاء والسُّخْد كلها بمعنى Amniotic fluid أي السائل الأمينوسي الذي فيه الجنين.

الصؤاب (والصئبان) : جمع صؤابة وهي بيضة القمل والبرغوث.

الرَمص Meibomian: وسخ العين.

الأفّ Wax of ear: وسخ الأذن.

الحَزَار والهِبربة والإبرية: وسخ في الرأس كالقشر.

تعفن العضو: Gangarene.

غَبِر العِرق Thrombosed: إذا انسد الوريد والتهب.

الدُّردي: ما يركد في أسفل الدهن والشراب من الكدر وغيره.

مَذِرت البيضة: فسدت.

الزحار الدوسنطاريا Dysentery.

الزحير Tenesumus.

الوَجور: الدواء أو غيره الذي يوجر أي: يصب في الفم.

الشقيقة Migraine: صداع في نصف الرأس.

القُلاع Aphthoe: بثور بيضاء التهابية في الفم.

الرَثْية Rheumatism: التهاب المفاصل.

الخُزَرة Lumbago: داء يأخذ في مستدقّ الظهر بفقرة القطن.

السَّنون: ما يستاك به.

الشَوصة Pleurodynia: ألم الجنب.

الخُناق: Diphtheria.

الذبحة: Angina.

التوصيم Malaise: فتور الجسم.

الهيضة Cholera: الهواء الأصفر.

التشنج والتقلص بمعنى.

غَفَر الجرح نكس وانتقض Became septic.

الشخوص Catalepsy: من شخص، إذا فتح عينيه، جعل لا يطرف مع دوران

في الشحمة (المقلة) .

الصَّرع: Epilepsy.

ذات الجنب Pleurisy: التهاب بلوراوي.

ذات الرئة أو البرسام Pneumonia: التهاب الرئة.

القروة: القليلة وهي سائل يكون في جراب الخصيتين.

عرق النَّسا ألم في العصب الوركي Sciatica.

الحَصبة Measles.

الدوالي Varicose: تمدد الأوردة وانتفاخها.

داء الفيل: Elephantiasis.

الماليخوليا تعريب: Melancholia.

السُّل والهَلس والهُلاس بمعنى: وهو التدرن الرئوي.

الشَّرى: مرض جلدي Tinea Circinata.

الحَصَف Sudimina، Milaria: حبيبات تظهر في الجلد بعد العرق الشديد.

السَّلعة Lipoma: ورم شحمي.

النَّمِلة Herpes: مرض جلدي يحدث نفطات صغيرة.

الخنازير Scrofula.

النار الفارسية Pemphigus: نفاخات ممتلئة ماء رقيقًا، تخرج بعد حكة ولهب

وتحدث حمى شديدة.

النفاخات: (الفقاقيع) Bulloe.

حمى النافض: Malaria.

حمى الدق: Typhoid.

الحمى المطبقة أو المحرقة: Typhus.

الصُّنْبور: (الحنفية) Tap.

الإداوة: Avessel with a tap.

البزاز: هو يسمى بالعامية (بزبوز) .

التقشقش Adesquemation: سقوط البشرة.

الزمانة Partial paraplegia: الإقعاد الجزئي.

الإقعاد Praplegia: الشلل النصفي السفلي.

الحَدب Kyphosis: بروز الظهر ودخول الصدر؛ وهو أحدب وهي حدباء.

القَعس Lordosis: بروز الصدر ودخول الظهر؛ وهو أقعس وهي قعساء.

الفَدَع Talipes: اعوجاج القدم أو اليد.

الأصك Knock-kneed.

الأقفد Has Talipes equinus: من كانت قدمه كقدم الفرس.

الضهياء: المرأة المصابة بانقطاع الحيض.

المثناء Has incontinence: المصابة بسلسل البول.

الرتقاء أو العفلاء Has imperforate: المسدودة المهبل بغشاء صفيق hymcn

الرعدة: ارتعاش المحموم Rigors.

الرعشة: ارتجاف المسن وضعيف Tremors العصب.

القفقفة: ارتعاش البرد.

المِخْوض: الآلة التي يضرب بها الشراب، ليختلط Glass rod.

الخَلْفة Lienteric diarrhoea: خروج الطعام من البطن بدون هضم لشدة

الإسهال.

مراقُّ البطن: ما رقّ منه ولان.

المسام Pores.

الجلمان: آلة لحلق الرأس وغيره.

الأعلم: مشقوق الشفة العليا Hare-lip.

الأفلح: مشقوق الشفة السفلى.

الأشرم: مشقوق الشفتين.

الأخرم: مشقوق الأنف.

هاض العظم: كسره ثانية Refracture.

الرض: Contusion.

المِخَدّة: وسادة معروفة.

الخمْل Villi.

الشريان Artery.

الرِّزمة Dozen.

الأقط: ما يسمى الكشك.

مُصمت أي: غير مجوف أو مسدد.

المحجن أو العُقَّافة Hook.

الشَّغاف Pericardium: غشاء محيط بالقلب.

التامور: دم القلب.

الفالوذج: ما يسمى بالعامية البالوظة.

العيبة: وعاء الثياب.

المِركن: وعاء من الخزف كالذي يوضع فيه المرهم.

التكَبد Hepatisation: صيرورة الرئة كالكبد بعد التهابها.

الرغيدة والصحيرة: هي ما نسميه (مهلبية) .

لَبك معروفة: وهي كلمة صحيحة ليست عامية.

العفِص القابض Styptc: فإذا كان فيه حرافة وحرارة كالفلفل فهو حامز.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

للدكتور محمد توفيق أفندي صديق.

(2)

المنار: الحاسم والمحسمة كل مانع قاطع وأصله ما يمنع به العرق أن يسيل دمه وكانوا يحسمون بالكيّ.

ص: 614

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الانتقاد على المنار

علم القراء أن من سُنَّتِنَا نَشْر ما يُنْتقَد على المنار، والجواب عنه إمَّا

بالاعتراف بخطئنا، وإمَّا ببيان خطأ المُنْتَقِد، وليس من هذه السُّنَّة أن نَحْفِل

بمطاعن السفهاء أو الحاسدين، أو أعداء الإصلاح الدجَّالين، فإن مطاعنهم ليست

انتقادًا وليس فيها شيء من العلم، وإنما يفترون كذبًا ويخلقون إفكًا، ويحرفون الكلم

عن مواضعه؛ فيجعلون الكفر إيمانًا والإيمان كفرًا، ويُزَينون جَهْلَهم بالشعريات

والجدليات، ويحمون أنفسهم بما لا يخوض مثلنا فيه ولله الحمد، وقد يكون من

يَبْهَتنا بمثل ذلك ممن اشترك في المنار من السنة الأولى واستفاد منه، وأكل علينا

قيمة الاشتراك عِدَّة سنين، واستحيينا من مطالبته لادعائه صحبتنا، وقد يكون ممن

لا يقرأ المنار ولا يعلم شيئًا مما فيه.

مثال ذلك قول بعضهم: إن صاحب المنار يناظر الله عز وجل ويُسَاميه

ويقاسمه سلطانه على النفوس وسيطرته على القلوب.. ويطاوله في كتابه، وإنه

كَذَّبَ كتاب الله واتخذه هزوًا ولعبًا (وحسبك بهذا مروقًا من الدين وخروجًا عليه) .

أما زعمه الأول (منازعة الله تعالى وتَقدّس في ألوهيته) فلم يأت عليها

بشبهة، وأما الثانية المتعلقة بالقرآن العظيم؛ فقد ذكر لها شبهة لا يقولها إلا مثله

وهي: أننا نقلنا منذ أربع عشرة سنة أن بعض أدباء مصر قال في وصف مقدمة

كتابنا الحكمة الشرعية: كدنا أن لا نميز بين كلامها وما فيها من آيات القرآن لولا

الحفظ.

لو كان مثل هذا مما يشتبه على من شم رائحة العلم باللغة العربية لرددنا عليه

- لا بأنه من باب الغلو الشعري في التشبيه الذي قاعدته أن المشبه به أبلغ وأعلى من

المشبه، ولا بأن حاكي الكفر ليس بكافر إذا فرضنا أن هذا كفر أو خطأ، ولا بأن

عدم التمييز بين كلام البشر وبعض كلام الله المقتبس فيه لغير الحافظ لا يعده أحد

من فقهاء المسلمين كفرا، ولا طَعْنًا في القرآن لأنه قد يكون من الجهل بالإعجاز أو

يكون ذلك المقتبس قليلا لم يبلغ القدر الذي قال علماء العقائد إنه معجز، ومن كفر

من يخطئ بمثل هذا فإنه يُكَفِّر أكثر المسلمين، ولا سيما الأعاجم والأميين - بل

كنا نورد بعض الآيات الكريمة من الكتاب المجيد في استعمال مادة كاد استعمالاً لا

يقدر القاذف المُكَفِّر أن يفسره بمثل ما فسر به كلمة ذلك الأديب، كقوله تعالى:

{وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً *

وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} (الإسراء: 73-74) .

كاد معناها المقاربة ومن قارب الشيء لا يحكم عليه بأن تلبس به بل يحكم

بأنه لم يتلبس به، وقد يكون ذكر المقاربة للتمهيد إلى نفي الشيء في مظنة وقوعه

بحسب العادة أو ما من شأنه أن يخطر بالبال لا لإثباتها بالفعل، ولذلك قال بعض

المفسرين: إنه صلى الله عليه وسلم ما ركن إليهم ولا قارب الركون. ومعنى عبارة

ذلك الأديب المصري (وهو إبراهيم بك اللقاني رحمه الله تعالى) أن تلك المقدمة بليغة

بحيث يمكن للمبالغ في مدحها أن يقول لولا الحفظ لقاربت أن لا أميز بينها وبين ما

فيها من الآيات المقتبسة حقيقة أو ادعاء على سبيل المظنة، وحاصله أنه ما قارب،

فكيف يكفر هو ومن نقل كلامه.

من قبيل هذا الطعن ما شنع به بعض الدجالين من أعداء الإصلاح علينا

وعلى شيخنا الأستاذ الإمام، وشيخه حكيم الإسلام، ويتجرأ به على رمينا بالكفر

والدعوة إليه ويطعن في أنسابنا ويستدل على ذلك بأوهامه وأحلامه، التي يصورها

له الشيطان في يقظته ومنامه، ومن الناس من تصور لهم أحلامهم أفضل البشر،

بما يناسب اعتقادهم (أي الرائين) من الصور، كما تريهم طواغيتهم بصور

نورانية، وهياكل قدسية، وقد بلغ بعض الصالحين أن بعض مبغضيه رآه بصورة

مظلمة، فقال إنما رأى صورة نفسه في مرآتنا الصافية، ومثله قول الشيخ عبد

الغني النابلسي رحمه الله تعالى في هذا المعنى: (ذا مِن صفانا رأوا أوصافهم فينا)

على أن غير واحد من أهل العلم والصلاح قد رأوا الأستاذ الإمام رحمه الله

تعالى رؤى صالحة تمثل ما كان عليه من كمال العلم والعرفان، واستغراق الأوقات

في خير الأعمال، فهل نعتد برؤى الصالحين، أم بأحلام سيئي الاعتقاد من

الدجالين، الذين تشهد عليهم ألسنتهم بأنهم ينطقون عن الهوى، كما نبين لك ذلك

بالأمثلة الآتية:

فمما قاله من أشرنا إليه في الأستاذ الإمام: أن تفسيره للقرآن كان يبدي فيه

آراءه وهي إما فسق وإما كفر! ! ولكن كيف كان يُقِرّ هذا الفسق والكفر علنًا

علماء الأزهر، فهل أجمعوا على الفسق والكفر، وانفرد ذلك الشاعر الدجال

بالإيمان والتقوى؟ ومن قال هذا القول في تفسير الأستاذ الإمام الذي كان يلقيه في

الأزهر على مسمع الجم الغفير من العلماء والطلاب لا يُستغرب منه أن يقول: إن

صاحب المنار جوز الكفر لتلاميذ المدرسة الكلية الأمريكانية ببيروت في جزء شهر

شعبان سنة 1327 ومن راجع ذلك العدد يرى فيه أننا شددنا عليهم في مسألة مشاركة

النصارى في حضور عبادتهم وذكرنا لهم اتفاق العلماء على حظر ذلك وعدِّه من

الردة بشرطه، ونصحنا لهم بأربع:

1-

مطالعة الكتب التي تبين حقيقة الإسلام والنسبة بينه وبين النصرانية.

2-

مطالعة الكتب التي تعارض كتبهم الدينية ككتاب أضرار تعليم التوراة

والإنجيل.

3-

المواظبة على الصلوات الخمس لا سيما مع الجماعة وعلى الصيام وسائر

أعمال الإسلام.

4-

ما أمر الله به من التواصي بالحق والتواصي بالصبر و.. إلخ (راجع

ذلك في ص 639 م 13) .

فإذا كان هذا هو تجويز الكفر فما هو الإسلام والإيمان؟ هل هما نشر

الخرافات الممهدة لدعوة الدجال؟

***

نقد الروايات

وحديث سجود الشمس واستئذانها بالطلوع

هذان مثالان أو أمثلة من مطاعن الدجالين الذين يملي عليهم الجهل والهوى ما

يكتبون، ولا يميزون بين ما هو بديهي البطلان وما يمكن أن تقوم عليه الشبهة،

ومن النوع الثاني تحريفهم لكلام لنا في نقد الروايات نذكره ثم نبين حقيقة معناه،

وما قالوه فيه. وهذا نصه بعد بيان مكان أحاديث الآحاد من الدين، وهل تفيد الظن

أو اليقين:

(ولا شك في أن كثيرًا من الأحاديث المروية في دواوين المحدثين المشهورة

تفيد هذا النوع من العلم واليقين ولا يعقل أن يكون كل ما رواه المسلمون عن النبي

صلى الله عليه وسلم غير موثوق به بل لا يعقل أن تكون أكثر روايات التاريخ التي

اتفق عليها المؤرخون كاذبة، فكيف يكون أكثر ما رواه المحدثون واتفقوا على

تصحيحه كاذبًا وهم أشد تحرِّيًا وضبطًا من المؤرخين، واحتمال خطأ بعض الرواة

العدول ووقوع ذلك من بعضهم لا يمنع الثقة بكل ما يروونه، كما أن مجرد تعديل

المحدثين لهم لا يقتضي قبول كل ما رووه بغير بحث ولا تمحيص.

فالجامعان الصحيحان للبخاري ومسلم هما أصح كتب الحديث متنًا وسندًا لشدة

تحري الشيخين فيهما رضي الله عنهما وجزاهما خيرا) ومع هذا لم يتلقهما

المحدثون بالقبول تقليدًا لهما وثقة مجردة بهما، بل بحثوا ومحصوا وجرحوا بعض

رواتهما وبينوا غلط بعض متونهما كتغليط مسلم وغيره لرواية شريك عند البخاري

في حديث المعراج، وتغليطهم لمسلم في حديث خلق الله التربة يوم السبت (وتقدم

ذكرهما) وفي حديث صلاة الكسوف بثلاث ركعات وثلاث سجودات، وفي حديث

طلب أبي سفيان بعد إسلامه أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة ويتخذ

معاوية كاتبًا.

ومن دقق النظر في تاريخ رجال الصحيحين ورواية الشيخين عن المجروحين

منهم يرى أكثرها في المتابعات التي يراد بها التقوية دون الأصول التي هي العمدة

في الاحتجاج، ثم إذا دقق النظر فيما أنكروه عليهما مما صححاه من الأحاديث يجد

أن أقوالهما في الغالب أرجح من أقوال المنازعين لهما لا سيما البخاري فإنه أدق

المحدثين في التصحيح ولكنه ليس معصومًا من الغلط والخطأ في الجرح والتعديل.

وجملة القول في الصحيحين أن أكثر رواياتهما متفق عليها عند علماء

الحديث لا مجال للنزاع في متونها ولا في أسانيدها والقليل منها مختلف فيه، وما من

إمام من أئمة الفقه إلا وهو مخالف لكثير منها، فإذا جاز رد الرواية التي صح

سندها في صلاة الكسوف لمخالفتها لما جرى عليه العمل، وجاز رد رواية خلق الله

التربة يوم السبت.. إلخ لمخالفتها للآيات الناطقة بخلق السموات والأرض في ستة

أيام وللروايات الموافقة لذلك، فأولى وأظهر أن يجوز رد الروايات التي تتخذ شبهة

على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء منه (كالروايات في نسخ

التلاوة ولا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا بدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق صدقي

وأمثاله كثيرون) ومثلها الرواية في سحر بعض اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم

ردها الأستاذ الإمام ولم يعجبه شيء مما قالوه في تأويلها لأن نفس النبي صلى الله

عليه وسلم أعلى وأقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها، ولأنها مؤيدة لقول الكفار

{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: 8) وهو ما كذبهم الله

فيه بقوله بعده {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الإسراء: 48) .

ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد كرواية السؤال عن الشمس أين

تذهب بعد الغروب؟ والجواب عنه بأنها تذهب فتسجد تحت العرش وتستأذن الله

تعالى بالطلوع إلخ، وقد سألنا عنه بعض أهل العلم من تونس ولما نجب عنه لأننا

لم نجد جوابًا مقنعًا للمستقل في الفهم. فالشمس طالعة في كل وقت لا تغيب عن

الأرض طرفة عين كما هو معلوم بالمشاهدة علمًا قطعيًّا لا شبهة فيه، فإذا قلنا إنها

يصدق عليها مع ذلك أنها ساجدة تحت العرش لأنها خاضعة لمشيئة الله تعالى،

ولأن كل مخلوق هو تحت عرش الرحمن - إن لم تكن التحتية فيه حسية لأن

الجهات أمور نسبية لا حقيقية فهي معنوية - إذا قلنا هذا أو إنه تمثيل لخضوعها في

طلوعها وغروبها وهو أقرب فهل ينطبق على السؤال والجواب انطباقًا ظاهرًا

لا مراء فيه؟ اللهم لا. ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح قد

يخرج بعضه على أنه من باب الرأي في أمور العالم والأنبياء لا تتوقف صحة

دعوتهم ونبوتهم على العلم بأمور المخلوقات على حقيقتها ولم يقل أئمة الدين إنهم

معصومون فيها كما يدل عليه الحديث الصحيح في تأبير النخل ولكن يستثنى

الإخبار عن عالم الغيب فهم معصومون فيه.

زعم ذلك الدجال أن في هذه العبارة تصريحًا بصحة رواية حديث سجود

الشمس وإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكذيبًا له اللهم (سبحانك هذا

بهتان عظيم) واستنبط من ذلك الجزمَ بكفر صاحبها! ! والعبارة بعيدة من هذا

الزعم، كبعد ذلك المحرِّف عن الإخلاص والعلم، إذ الكلام في الرواية التي ترد

لعلة في متنها وإن صح بحسب صناعة تعديل الرجال سندها، ومعنى رد الرواية

عدم تسليم إسنادها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابي ومثلنا لذلك بما رد

من هذه الروايات لمخالفته لما جرى عليه العمل بالإجماع، وما ردًّ لمخالفته للقرآن

(ومن هذا القبيل رد المفسرين لرواية الصحيحين في سبب نزول {فَمَا لَكُمْ فِي

المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} (النساء: 88) كما ترى في تفسير هذا الجزء) وبما رد منها

لكونه شبهة على القرآن.

ثم قلنا (ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع كرواية السؤال عن الشمس أين

تذهب؟ أي ومثل ما خالف العمل وخالف ظاهر القرآن بحيث يعد شبهة عليه ما

خالف الواقع، وقد عبرنا في هذه المواضع بلفظ الرواية للأشعار بعدم تسليم كون

هذا حديثا.

ثم أشرنا إلى الوقف في معناه بقولنا: إننا لم نجد جوابًا مقنعًا للمعترض، وهذا

بصرف النظر عن مسألة الرواية.

ثم قلنا (ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح قد يخرج بعضه

على أنه من باب الرأي في أمور العالم) إلخ أردنا بهذا النوع ما لا ينطبق على

الواقع المحسوس الذي لا نزاع فيه. قلنا هذا النوع ولم نقل هذا الحديث نفسه،

وقلنا (قد يخرج) وكلمة قد هنا تشير إلى قلة هذا وعدم الجزم به، وقلنا (بعضه)

ولم نجعل ما هو موضع البحث من هذا البعض، وإنما مثلنا له بحديث تأبير النخل

الذي جعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمهيدًا ليبين للناس أنهم أعلم بأمور

دنياهم وأن الأنبياء لم يبعثوا ليعلموا الناس الزراعة والصناعة بدقائقها وتفصيلاتها

بل ليعلموهم الدين.

ثم بعد هذا كله استثنينا من هذا النوع الإخبار عن عالم الغيب وقلنا إن الأنبياء

معصمون فيه، نعني أنه إن صح عنهم وجب تصديقهم فيه للإشارة إلى أن هذه

الرواية التي هي محل البحث قد تكون من المسائل الغيبية.

فقد رأيت أيها المنصف المستقل في الفهم، الذي يخاف الله أن يكفر عباده

المؤمنين به بغير علم، أن أصل كلامنا في رد تلك الرواية وعدم تسليم صحتها،

وأن عبارتها تشعر مع ذلك بالوقف في معناها (ولا سيما في حال روايتها بالمعنى

كما هو الأغلب في مثلها ونبهنا على هذا في موضع آخر) وتشير إلى أنه يجوز أن

تكون من باب الكلام عن عالم الغيب الذي نسلم به ما لم يكن محالًا، فأين هو الجزم

بصحة الرواية وتكذيب مضمونها مع الاعتراف بإسنادها إلى النبي صلى الله عليه

وسلم؟ ؟

وهب أننا جزمنا بصحة الرواية وخرجناها على الرأي في الأمور الدنيوية

كحديث تأبير النخل الثابت في الصحيح فهل يعد هذا كفرًا مع قوله صلى الله عليه

وسلم في ذلك الحديث (أنتم أعلم بأمر دنياكم) وروى مسلم في صحيحه والنسائي

في سننه عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أنا بشر إذا

أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) وروى

أحمد وابن ماجه من حديث طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن

الظن يخطئ ويصيب ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله) وعلم السيوطي

على هذا الحديث في الجامع الصغير بالصحة، فلو فرض أنني جعلت الحديث الذي

هو موضع البحث من قبيل تأبير النخل، وكان جعله من قبيله غير ظاهر فقصارى

ما يمكن أن يقال إنني أخطأت في الفهم. على أنني لم أجعله من هذا القبيل كما

علمت.

هذا وإننا قد نبهنا مرارًا على أن بدعة التكفير قد أحدثها غلاة المبتدعة

بتكفيرهم من يخالف بدعتهم وإن مما امتاز به أهل السنة (عدم تكفير أحد من

أهل القبلة) وقد اشتهر أن العمدة عندهم في التكفير هو جحود شيء مجمع عليه

معلوم من الدين بالضرورة ممن نشأ بين المسلمين ولم يكن حديث عهد بالإسلام أي

أن يجحده عالمًا به أو جاهلاً غير معذور بجهله، واشترطوا أيضًا أن يكون غير

متأوِّل، فإن من جحد ذلك الشيء بتأويل ظهر له لا يكون كافرًا، ولكن أين هؤلاء

المجازفون من العلم والفقه ومن السنة وأهل السنة.

إننا لم نقصد بما ذكرنا هنا الرد والمناظرة، وإنما قصدنا التذكير والعبرة،

ليتذكر العاقل المنصف أن تصدي أمثال هؤلاء للكلام والكتابة في الدين، هو أكبر

مصائب المسلمين، والتمهيد به لبيان ما انتقد على المنار في هذا العام بنوع من

الاستدلال، سواء كان من حسن الظن أو سيئه وموعدنا بيان ذلك الأجزاء الآتية.

_________

ص: 620

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(أساس التقديس)

رسالة في علم الكلام للشيخ فخر الدين (محمد بن عمر) الرازي الشهير،

كتبها وأهداها للسلطان أبي بكر بن أيوب. وقد بسط الكلام فيها على تأويل

المتشابهات من الآيات والأحاديث الواردة في صفات الباري تعالى، وأسلوبه في

مذهب الأشعري معروف مشهور يمتاز بالسهولة وكثرة الدلائل التي لم يُسْبَق إليها،

ويتكلم في أواخرها على مذهب السلف.

(الدرة الفاخرة في تحقيق مذهب الصوفية والمتكلمين والحكماء في وجود الله تعالى وصفاته ونظام العالم)

هذه الرسالة للشيخ ملا عبد الرحمن الجامي يذكر فيها مذهب المتكلمين في

المسألة ثم مذهب الحكماء ثم مذهب الصوفية، ويرجحه على المذهبين.

ولعمري إن الجميع فلاسفة، ولكل وجهة وطريقة في البحث. والحق ما كان

عليه سلف الأمة الصالحون من أهل الصدر الأول.

طَبَعَ هاتين الرسالتين في كتاب واحد الشيخ محيي الدين صبري الكردي

وشريكاه من قومه الشيخ عبد القادر معروف والشيخ حسين نعيمي. فنثني على

همتهم ونَحُثُّ أهل العلم على قراءة الرسالتين، وتباعان في مكتبة المنار بشارع عبد

العزيز بمصر.

(الواجبات)

كتاب جديد وضعه وطبعه ونشره سامي أفندي بواكيم الراسي من فضلاء

السوريين في (سان باولو - البرازيل) وقدَّمه هدية معنوية إلى والده يواكيم أفندي

مسعود الراسي، قسَّم المصنف الواجبات إلى واجبات عامة وواجبات إفرادية، فمن

الأولى ما يجب للأهل والأقربين والأزواج والأصدقاء بعضهم على بعض وكذا ما

يجب للأعداء وللجنس البشري وللبهائم. ومن الثاني ما يجب على المعلمين

والصحافيين والأطباء والمحامين والجنود والتجار والزراع والصناع. وذكر أنه

كتب ما يشعر به، أي كتب كتابة المستقل الذي يستملي من فكره ووجدانه، لا من

تخيله ومحفوظه، وقد قرأنا جملاً من الكتاب تدل على صدق المؤلف في دَعْواه،

ونرى أن كتابه من الكتب النافعة.

(لغة العرب)

مجلة شهرية أدبية علمية تاريخية أصدرتها في بغداد (رهبنة الآباء الكرمليين)

وجعلت صاحب امتيازها (الأب أنستاس الكرملي) ومديرها المسئول كاظم أفندي

الدجيلي. صدر الجزء الأول منها في أول هذا الشهر وصفحاته أربعون من قطعة

رسالة التوحيد، واعتذرت المجلة عن ذلك بأنها لم تجد في بغداد ورقًا كبيرًا كورق

المجلات العربية في الشام ومصر كما أنها لم تجد فيها حروفًا كحروفها في حجمها

واستكمال نقطها وحركات شكلها ليتسنى لها ضبط ما تحتاج إلى ضبطه منها

بالحركات.

ومن مزايا هذه المجلة أنها ستبين لنا من أحوال العراق وما اتصل به من

جزيرة العرب ما نحن في حاجة شديدة إليه. وقيمة اشتراكها فيما عدا ولاية بغداد

من البلاد العربية تسعة فرنكات في السنة. والمرجو أن تنجح لقدرة أصحابها على

الخدمة التي انتدبوا لها بالعلم والمال.

(رواية البائسين)

هي القصة الشهيرة التي صنفها باللغة الفرنسية شاعر فرنسة العظيم فيكتور

هيكو. وهي كمصنفها أشهر من نار على علم عند جميع الشعوب الأوربية، وكان

شاعر مصر الشهير محمد حافظ إبراهيم ترجم من بعض سنين جزءًا منها بالعربية

ترجمة تصرف فيها بالمعاني وأبدع في صناعة التعبير ثم لم يتم الترجمة، فانبرى

لترجمتها كلها ترجمة حرفية صديقنا جرجي أفندي وصموئيل أفندي يني صاحبا

مجلة المباحث، التي تصدر في طرابلس الشام، وقد صدر الجزء الأول من

ترجمتهما في 200 صفحة، والمرجو من نشاطهما أن يتما ترجمة الكتاب في وقت

قريب؛ ليستفيد منه قراء العربية ما فيه من الحكمة العالية والآداب السامية، التي

نال بها فيكتور هيكو من العظمة والشهرة ما لم ينله أحد من الشعراء والعلماء، ولا

من الملوك والأمراء.

(شفاء العائلات. من أدران الموبقات)

قصة صنفتها الكاتبة الإنكليزية (ألن وود) وأودعتها تاريخ أسرة كبيرة من

قومها اسمها أسرة (دانسبري) كانت في أوج العلياء ثم هبطت إلى الحضيض

بفشو السكر فيها وما يتبع السكر من الشرور والمفاسد. وقد ترجمها بالعربية

إسكندر أفندي إبراهيم يوسف وطبعت في مطبعة المعارف وتطلب من مكتبتها.

(مصرع الظالمين)

قصة تمثيلية جديدة من تصنيف توفيق أفندي سعيد الرافعي قال في وصفها:

(تمثل الظلم في أبشع مظاهره والانتقام من الظالمين، ثم تمثل الأمانة والطهارة في

الحب، والخيانة والغش في الدولة، وضعف المرأة وقوة الرجل، والانكباب على

الملاذ والشهوات، وما ينتج عن كل ذلك من النتائج السيئة والحسنة، في عبارة لا

تلطف على العامة، ولا تسفل عن الخاصة) .

(عدل القضاء)

قصة أدبية ألفها محمد أفندي حافظ وطبعها الشيخ أحمد علي المليجي الكتبي

الشهير بجوار الأزهر ومنه تطلب) .

(الصهيونية)

(ملخص تاريخها - غايتها، وامتدادها إلى سنة 1905)

نشرت جريدة الكرمل التي يصدرها في حيفا نجيب أفندي الخوري مقالات في

جميعة اليهود الصهيونية التي تسعى لتمليك اليهود بلاد فلسطين وتمهد السبيل لإعادة

ملك بني إسرائيل في تلك البلاد، وقد كنا حريصين على جمع نسخ الجريدة التي

نشر فيها تلك المقالات؛ لما فيها من الفوائد السياسية والتاريخية، ولكن صاحب

الجريدة كفانا ذلك فجمع ما كتبه في رسالة بلغت 64 صفحة. وقد اعتمد في جُلِّ ما

كتبه على دائرة المعارف اليهودية فلخص منها بالترجمة العربية جل ما كتبه فنشكر

له هذه الخدمة، ونحث جميع قراء العربية، ولا سيما العثمانيين على قراءة رسالته

والاعتبار بها.

_________

ص: 626

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فقيد مصر

مصطفى رياض باشا

(3)

نقلنا في الجزء السابع (الماضي) ما كتبه الإمام في كتابه (أسباب الثورة

العُرابية) عن إبطال رياض باشا للسخرة ، ووعدنا بأن ننقل عنه شيئًا آخر من

أعماله الإصلاحية ، وها نحن أولاء ننجز الوعد، فنقول: كتب الأستاذ عقب ما

تقدم ما نصه:

(العدل في الري)

واهتم رياض باشا بأن توزع مياه النيل بالقسط، وقد كان الفقراء لا ينالون

من النيل أيام هبوطه إلا فضلات ما يبقى عن ري أراضي الأغنياء، فوضعت

نظارة الأشغال العمومية بعض الروابط، وشددت المراقبة في تنفيذها، فأصاب

التوزيع جانبًا من العدل، غير أن عادة بعض موظفي الهندسة حالت دون الغاية

المطلوبة، خصوصًا مع تعود الأهالي على السكوت عن ذلك وعدم الشكوى منه؛

ظنًا منهم بأن الدعاء لا يجاب في أرض مصر على ما يعهدون ، ولكن أتذكر أنني

ذكرت لرياض باشا يومًا حالة قسم الحاجر في مديرية البحيرة وأن الماء محجوز

عنه، وقد كادت تتلف زراعة القطن فيه، فلم تمض بضع دقائق حتى كتب لنظارة

الأشغال بتحقيق السبب، وبعد يومين أطلقت المياه، وأوخذ المتسبب في حجزها،

وهكذا كان شأنه عند سماع أي شكاية من هذا القبيل.

وإني أتذكر حادثة عُدّت في وقتها من أغرب الحوادث؛ ذلك أن بولينو باشا

كانت له آلة بخارية رافعة للمياه على جدول عظيم بجوار دمنهور، وكان يعطي

الماء للأهالي بالأجرة، وكان يستمر في إدارة وابوره إلى ما بعد ارتفاع الغيطان

وتزاحم المياه على فم الترعة؛ ليستزيد من الأجور، وكانت تلك عادته من سنين،

والأهالي متعودون على هذا الظلم؛ لكثرة الشكوى وعدم الإشكاء.

ففي أول نظارة رياض باشا كانت قد ارتفعت مياه النيل، ومن المعروف أن

المياه في شهر سبتمبر تعلو فوق مستوى أغلب الزرع في مصر، فركبت المياه فم

الجدول، ووابور بولينو باشا مستمر الدوران والمياه محجوزة عن الأهالي إلا أن

تكون من مياه بولينو باشا، فشكوا للمدير لإحساسهم بفائدة الشكوى إذ ذاك،

وعرض المدير شكواهم على رياض باشا فأمر بفتح الترعة ، وعند التنفيذ جاء

رجال بولينو بالسلاح لمقاومة المنفذين، وأشعر رياض باشا فأمر بفتح الترعة ولو

بقوة السلاح، ففتحت تحت حماية العساكر المصرية.

كانت مديرية البحيرة من أسوأ المديريات حالاً من جهة الري وأعمال

التطهير، فكان أهاليها يسامون العذاب أيام الشتاء في تطهير ترعة الخطاطبة،

ويجلب من سكان المديريات الأخرى عدد عديد لمساعدتهم؛ ليستحصلوا على قليل

من الماء ، لا يكفيهم بعد شدة العناء ، وكثيرًا ما فتك الموت فيهم أيام العمل لشدة

البرد ، فاهتم رياض باشا ليخفف المصاب عنهم، وأنشأت نظارة الأشغال العمومية

نظام شركة ري البحيرة، وكان يوم البدء بإدارة آلاتها يومًا معروفًا، احتفلت فيه

الحكومة احتفالاً عظيمًا، حضره كثير من كبار الموظفين والأجانب، وشرب فيه

رياض باشا كأسًا من ماء النيل على ذكر نجاح عمل يتعلق بمنفعة النيل.

(إلغاء الضرائب)

ولم تمض بضعة أشهر على تعيين هذه الوزارة، حتى ألغي نيف وثلاثون

ضريبة من الضرائب الصغيرة التي كانت أخرت بالمصنوعات، وأوقفت حركة

الأعمال التجارية والصناعية الخاصة بالأهالي، وأساءت حال المزارعين ، وزيد

مئة وخمسون ألف جنيه على ضريبة الأطيان العشورية؛ تعويضًا لما فات بإلغاء

تلك الضرائب ، ولا يخفى أن أغلب هذا النوع من الأطيان في يد الأغنياء، فقد

خف بذلك عن الفقراء ما ثقل على أهل الثروة، وهو مما لا يمحى أثره من نفوس

الفريقين.

وذهب الأفواج من التجار والصناع إلى سراي الإسماعيلية؛ ليعلنوا شكرهم

للجناب الخديوي على إلغاء تلك الرسوم القاتلة للأعمال في مصر، وكان لذلك

احتفال عظيم. ولكن الذوات الكرام لم يحتفلوا له، ولم ير لجماهيرهم سواد حول

السراي ولا داخلها؛ إلا في أيام التشريفات والمقابلات التي ينحصر موضوع الكلام

فيها في حالة الجو وحره وبرده واعتداله، ولا يذكر فيها أمر إلغاء الضرائب،

وربما ذكر فيها استحسان إبقائها أو الزيادة فيها على أن يكون ذلك على الفقراء.

ثم عفت الحكومة عما عجزت عن تحصيله من الضرائب والرسوم المتأخرة

لغاية سنة 1876، ورفعت بذلك المطالبة به عن الأهالي، وفرح به كثير من

الأغنياء الذين ظهروا بمظهر العجز، وراوغوا في دفع الضرائب فيما سبق،

وساعدتهما الحظوة على الإمهال إلى ذلك الوقت.

(ميزانية الحكومة ونظام الجباية)

ثم نظم برنامج الإيراد والمنصرف من مال الحكومة (ميزانية) ، وشكلت

لجنة لسماع شكايات المطالبين بالضرائب وإنصافهم ، ووضع نظام التحصيل في

الأوقات المعينة حسب على مواسم الزراعة، وعرف الفلاح ما له وما عليه ، وهذه

الأمور أجريت طبقًا لما كانت أشارت له لجنة التفتيش العليا، كما صرح به رياض

باشا فيما كتب به إلى لجنة صندوق الدَّيْن.

ولما نظمت أوقات التحصيل على حسب مواسم المحصول، نما في الناس

الشعور بأن الحكومة نوع محدود من النظام، وأنها لا تريد منهم إلا مبالغ معينة ،

وليس من شأنها أن تشغل الأهالي كما تشغل الماشية بدون استبقاء شيء في أيديهم،

وبدأوا يوقنون بأن ما زاد من الضرائب المحددة فهو لهم خصوصًا، بعد ما صدرت

الأوامر الصريحة بأن لا ضريبة توضع إلا بنظام معروف، تراعى فيه المصالح

وتبين فيه الأسباب.

ثم ظهر عقب ذلك مبدأ المساواة بين الأغنياء والفقراء وبين الأجانب

والوطنيين ، فقد كان الغني أو الذات الكريمة من ذوات الحكومة يماطل في دفع

الضرائب من سنة إلى سنة، وربما عوفي من دفعها بعد ذلك، ويوزع ما لم يدفعه

على أراضي جيرانه من فقراء الأهالي ، وهكذا كان شأن الأجانب بعد ما يأخذون

الأراضي من مالكيها؛ إيفاء لديونهم، أو يشترونها بالثمن البخس عند اشتداد

الضيق على الفلاح وإلحاح الكرباج على بدنه بدفع ما لا يلزمه، وليس في يده منه

شيء.

كانوا يماطلون في دفع الضرائب، وما أبوا دفعه يوزع بغير حق على

المساكين الذين لا حامي لهم. أما بعد مضي أشهر من نظارة رياض باشا، فقد

صدرت الأوامر مشددة بتحصيل ما على الأجانب والذوات بالطريقة التي يجري بها

تحصيل ما على الأهالي بدون مراعاة، وقد نفذت الأوامر بعدما لاقت صعوبات

كثيرة ، وظهر عند التنفيذ أن بعض الأغنياء والأجانب كان في ذمته ضرائب سبع

سنين، فحصلت منه بقوة الحكومة ، وهذا مما لم يكن يسمع به من قبل.

ثم صدرت أوامر في ابتداء سنة 80 بإلغاء لائحة المقاولة، وإعفاء الممولين

من دفع ما بقي منها. ولكن مع إلغاء الامتياز الذي اكتسبه من دفعها جملة، وبعض

الامتياز الذي ناله من دفع بعضها، وفرح بذلك قوم وسيء به آخرون، وسنذكر

شيئًا من أثر ذلك فيما بعد.

(إبطال الكرباج ومنع الحبس لتحصيل الحقوق)

وصدرت الأوامر بإبطال استعمال الكرباج بتحصيل الأموال الأميرية،

وعجب كثير من الناس من ذلك، وقالوا: كيف يمكن أن يحصَّل مال من الفلاح

بدون ضرب؟ وأنكرته نفوس كثير من المديرين، وظنوا أن قد هدم ركن عظيم

من سلطان الحكومة على قلوب الرعية، ولكن لم يمض إلا قليل حتى ظهر الخزي

على وجوه القائلين بأن الفلاح المصري لا يؤدي ما عليه إلا بالكرباج، وأخذ

الممولون يتسابقون إلى دفع ما عليهم حتى قبل الأجل؛ خوفًا من ضياع النقد عند

حلول الآجال المعينة.

وهكذا صدرت الأوامر مشددة في عهد رياض باشا بمنع الحبس؛ لتحصيل

الحقوق، سواء كانت أميرية أو شخصية، وقد لاقى تنفيذ هذه الأوامر مصاعب

ومقاومات؛ لتمكن الميل إلى الظلم في نفوس أغلب المأمورين. لكن رغمًا عن كل

ذلك فقد ظهر أثره ظهورًا بينًا. ولم تأت آخر مدة رياض باشا حتى محي أثر

الحبس لتحصيل الحقوق إلا ما ندر ولم يكن يعرف ، ومن غرائب آثار التعود على

الظلم وعلى رؤيته ملازمًا للسلطة في مصر؛ أن الذين حفظت أبدانهم من الضرب

والجلد وأرواحهم وأجسامهم من الحبس في سبيل اقتضاء الحقوق، سواء كانت

للحكومة أو للأفراد، كأنهم يعدون تلك الأوامر مخالفة لما يجب أن يعاملوا به ، وأن

لا يفيد فيهم إلا الكرباج، كما لا يزال قوم منهم يقولون بذلك إلى اليوم ، وكانوا

يهزءون بتلك الرحمة. اللهم إلا الذين لمع في عقولهم روح الفهم ووصل إلى

أبصارهم شعاع الإحساس؛ بما للإنسان من حق التكرمة التي خصه الله بها. ا. هـ

المراد.

هذا ما ننقله من صفحات هذا التاريخ الصادق؛ للاستدلال به على أن رياض

باشا كان من الرجال المصلحين في إدارة الحكومة ، وإن لنا لمجالاً واسعًا في

الاستدلال على سائر ما ذكرنا من أخلاقه وصفاته الحميدة.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 629

الكاتب: محمد رشيد رضا

تأبين رياض باشا

في يوم الجمعة الثاني من هذا الشهر، احتفل بتأبين فقيد مصر ووزيرها

المصلح مصطفى رياض باشا لمضي أربعين يومًا على وفاته. وكان الاحتفال في

حوش قبره وقبور ذويه (مدفنهم) بقرافة الإمام الشافعي. وحضر الاحتفال رئيس

النظار محمد سعيد باشا وكثيرون من العلماء والكبراء والأدباء. فافتتح بتلاوة

مجيدي الحفاظ لآيات القرآن العظيم، ثم بأنشودة أنشدها تلاميذ مدرسة الجمعية

الخيرية الإسلامية في القاهرة. ثم تليت الخطب وأنشدت القصائد في تأبين الفقيد،

ووزع بعض القصائد مطبوعًا.

ابتدأ التأبين حسن باشا رضوان وكيل المؤتمر المصري، فذكر عمل الفقيد

في المؤتمر وخدمته الحسنة في قبول رياسته، وما كان لذلك من التأثير الصالح،

وخطب كثيرون منهم الشيخ محمد بخيت قاضي الإسكندرية الشرعي، وحسن بك

عبد الرازق وأحمد باشا زكي الكاتب الأول لأسرار مجلس النظار، بل تلا هذا

وهو قاعد ملخص تاريخ الفقيد في صحائف طويلة مفيدة. وكانت قصيدة محمد

حافظ أفندي إبراهيم أحسن المراثي، وتليها مرثية الشيخ محمد الحملاوي ناظر

مدرسة عثمان باشا ماهر.

وارتجل صاحب هذه المجلة خطبة ختم بها التأبين، وبين طريق العبرة وهذا

ملخصها:

أيها السادة الإخوان:

لم يترك الخطباء والشعراء المؤبِّنون مجالاً لقائل يجول به في هذا الوقت

القصير، وقد مل الحاضرون من طول المكث وحرارة المكان، فأحب أن أكتفي

بكلمة وجيزة أوجهها إلى الشبان قبل غيرهم فأقول:

قد صار الاحتفال بتأبين الرجال المحترمين عادة مألوفة بيننا في هذا العصر،

وكان التأبين والرثاء للأموات معهودين في العصور السابقة كالأماديح للأحياء.

ولكن بين الرجال الذين يرثون ويؤبنون فرقًا عظيمًا. فما كل من أُبِّنَ ورثي مدح

كفقيد مصر الذي نؤبنه ونرثيه اليوم.

للخطباء والشعراء في كل من ينظمون وينثرون فيه الثناء أقوال متشابهة،

يدخل أكثرها عند الناقدين في باب أعذب الشعر أكذبه. وإذا دققنا النظر، نرى أن

ما قيل في فقيدنا اليوم غير ما كنا نسمعه ونقرؤه في أكثر الذين رُثوا وأُبنوا من قبله

أكثر تلك تخيلات شعرية ، وإيهامات خطابية ، إذا حللتها لم تحل منها بطائل، إذ لا

تنبئ عن عمل ثابت، ولا عن خلق راسخ. وإنما تجدها أماديح مبهمة ، بألفاظ عامة ،

تقال في كل صاحب مكانة وشهرة: كالفضل والنبل والعدل ، والمجد والسعد والحمد ،

وما شاكل ذلك. وهذه مدائح عملية ثابتة: رياض باشا فعل كذا وكذا من الإصلاح ،

رياض باشا أزال كذا وكذا من المظالم والمفاسد ، رياض باشا كان في أخلاقه كذا

وكذا من الفضائل. إلى آخر ما سمعتم، وللفقيد من المزايا والأعمال ما لم يتناوله

المقال.

الرجال بالأعمال، والأعمال آثار الصفات والأخلاق ، وبذلك يتفاضل الناس لا

بالعلوم وشهادات المدارس فقط. لا أريد بهذا أن أغمط قدر العلم وأحط من قدره،

وإنما أريد أن أنبه شبابنا الأذكياء إلى أن العلم وحده لا يكفي لجعل الرجل عظيمًا

في قومه ، نافعًا لأمته ووطنه ، فإن العلم آلة تديرها الأخلاق ، فإذا كانت أخلاق

الرجل فاسدة كان علمه كالسيف في يد المجنون، يضر به ولا ينفع.

قد ثبت في إحصاءات بعض القضاة في أوربة؛ أن الذين يرتكبون الجرائم

والجنايات من المتعلمين وحملة الشهادات العالية أكثر من الذين يرتكبونها من العوام

والأميين، كما بَيَّن غوستاف لوبون في كتابه (روح الاجتماع) ، فإذا كان العلم

وحده لا يمنع الرجل أن يكون من المجرمين ، فهل يكفي لرفعه إلى أفق الرجال

المصلحين؟ !

كان رياض باشا رجلاً عاملاً مصلحًا لا بشهادة الشعراء والمؤبنين فقط ، بل

شهد له كبار الرجال من أوربا وهم قلما يشهدون لرجل شرقي؛ لأن ضعف الشرق

وانحطاطه الاجتماعي صرف أبصارهم عن النظر فيما عساه يوجد فيه من فضيلة

ومزية؛ ليروها كما هي ويقدروها قدرها. وإنما كان رجلاً بأخلاقه الفاضلة

وصفاته الحميدة؛ من استقلال الفكر والإرادة ، وقوة العزيمة ، والعفة والنزاهة ،

والإخلاص في العمل ، والقيام بالمصالح العامة ، وغير ذلك مما سمعتم.

يوجد في الناس من ينتقدون بعض أعمال هذا الرجل ، وما كان معصومًا من

الخطأ فيعدوه الانتقاد. ولكن لا يستطيع أحد أن يقول: إن عملاً من أعماله المنتقدة

كان عن سوء نية أو فساد خلق؛ كالتوسل به إلى الشهوات ، والمحافظة على

المنصب ، أو الاستكثار من المال والعقار، أو ابتغاء مرضاة الرؤساء والأمراء؛

لأجل العروج في معارج الارتقاء. فمن ينتقده في بعض أعمال ، يمدحه ويظهر

فضله في أخلاقه. يقولون: اجتهد فأخطأ. وهكذا كان ينتقد على عظماء الرجال

من الصحابة والأئمة فمن دونهم؛ لأن الخطأ من شأن البشر. قالوا: المجتهد

يخطئ ويصيب، وقال أهل السنة اجتهد علي رضي الله عنه في قتاله لمعاوية

فأصاب. واجتهد معاوية في خروجه على علي فأخطأ فلا غضاضة ولا عار على

الرجل العامل أن يجتهد فيصيب تارة ويخطئ تارة ، وإنما العار على الذين يقترفون

الخطايا عامدين عالمين لفساد أخلاقهم واتباع شهواتهم.

لم يقل أحد: إن رياض باشا كان يغشى في أوربة حانات السكر ومواخير

الفسق، ولم يقل أحد: إنه كان يلعب القمار، ولا أنه تدنس بشيء من هذه الشهوات

والأطماع ، ومن كان هكذا طاهرًا نقيًّا فهو جدير بأن يصرف وقته إلى أفضل

الأعمال ، حتى يعد من عظماء الرجال.

من أحب منكم أيها الشبان الأذكياء أن يستفيد من سيرة هذا الرجل العظيم،

وأن يكون في قومه أرقى من الزراع والصناع الذين يعمل كل منهم للهيئة

الاجتماعية عملاً صغيرًا على قدره. من أحب أن يكون رجلاً عظيمًا للأمة، رافعًا

لقدرها مصلحًا فيها فعليه أن يعنى قبل كل شيء بتهذيب أخلاقه ، عليه أن يكون

مستقل الرأي والإرادة. ولا يكون ممن قيل فيهم: (أتباع كل ناعق) الذين

يرضون دائمًا أن يكونوا أذنابًا متبوعين. يلتمسون لهم من يقودهم فيسيرون وراءه

كأفراد الجند، دأبهم الطاعة العمياء ، والتصفيق للزعماء ، إذا كثر في الأمة

المستقلون أصحاب الأخلاق الفاضلة، استقلت وارتقت حتى تكون من الأمم العزيزة

وإلا فلا أمة ولا استقلال. والسلام.

_________

ص: 633

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مشروع المنتدى الأدبي في التعليم العربي

ومساعدته عليه

قد صار في حكم البديهيات أن حياة الأمم بحياة لغاتها ، وارتقاءها الحقيقي

منوط بارتقائها ، فالمؤرخون يستدلون باللغة على درجة مدنية أهلها في الزمن

الماضي ، وعلماء التربية يربون الأمة بتهذيب لغتها ، وجعلها مستودعًا لجميع

العلوم والفنون التي يعلو بها شأنها ، حتى أن الشعوب التي ليس للغتها تاريخ في

العلوم والآداب ، ولم يؤثر عن سلفها شيء تقر به العين من الكتب والآثار، منها ما

حاولت من عهد قريب ومنها ما تحاول الآن تدوين لغتها ، ووضع المعجمات والنحو

والصرف لها ، ونقل العلوم والآداب إليها.

وإننا نرى للغتنا العربية الشريفة تاريخًا مجيدًا في العلوم والآداب والشريعة ،

ونرى الملايين من أهلها المختلفين في الأديان والمذاهب والأقطار محتاجين إلى

إعادة مجدها الذي ضيعه من قبلهم؛ لأنه لا يمكنهم مجاراة الأمم الصاعدة في معارج

الارتقاء إلا بذلك. ونرى ملايين من الشعوب الأخرى يرغبون في إحيائها ،

وتسهيل سبيل تعليمها؛ لحاجتهم إليها في دينهم ، وهم المسلمون من الترك والفرس

والتتار والهنود والصينيين والجاويين وغيرهم.

في مصر نهضة شريفة في خدمة هذه اللغة ، ولما مَنَّ الله على البلاد العثمانية

بالدستور، وصارت حرية العلم والتعليم حقًّا لجميع العثمانيين ثابتًا بالقانون ،

تحركت عزيمة العرب العثمانيين لخدمة لغتهم ، ونشر التعليم بها في بلادهم ، كما

تحرك غيرهم من الشعوب العثمانية لذلك ، وهذه هي الطريقة المثلى لإحياء هذه

المملكة ، وإعلاء شأن هذه الدولة؛ إذ به يقوى كل عنصر في الأمة ، وتتسع بها

دائرة الثروة ، وما ارتقت أمة من الأمم إلا بالتعليم الأهلي، سواء كانت من جنس

واحد كفرنسة ، أو من أجناس مختلفة كالنمسة ، ولاسيما إذا كان يتعذر على

الحكومة تعميم التعليم بجميع ضروبه لقلة المال.

من أفضل ما قام به العرب العثمانيون من السعي لنشر التعليم بلغتهم مشروع

المنتدى الأدبي في دار السلطنة (الآستانة) ، الذي صادف الارتياح من أعيان الأمة

ونوابها، والعطف من ولي عهد السلطنة (يوسف عز الدين أفندي) ، فنفح المنتدى

بمبلغ من الدنانير مساعدة له على عمله الشريف.

هذا المشروع هو نشر التعليم الأهلي في الولايات العربية لجميع أهلها بلغتهم،

وله لائحة في ذلك نشرت في أشهر الجرائد المصرية كالمؤيد والعلم والمقطم

والأهرام. وقد صادف هذا المشروع العلمي ارتياحًا في هذه البلاد التي هي أم البلاد

العربية في العلوم، فتألفت فيها لجنة لمساعدة القائمين به؛ إجابة لدعوة صديقنا عبد

الكريم قاسم الخليل رئيس المنتدى، الذي زار مصر في هذا الصيف لأجل هذه

الغاية ، ووضعوا لهم نظامًا في ذلك.

أما اللجنة التي تألفت بمصر لمساعدة المنتدى الأدبي على نشر وترقية التعليم

العربي؛ فأعضاؤها المؤسسون 17، وقد اختاروا لرياسة اللجنة محمد باشا

الشريعي، وللوكالة رفيق بك العظم، ولكتابة السر عبد الخالق بك مدكور، ولأمانة

الصندوق حسن بك عبد الرازق. والباقون هم: أحمد بك تيمور. أثناثيوس مطران

أفندي السريان. سامي أفندي الجريديني المحامي. الدكتور شبلي شميل. الشيخ

طنطاوي جوهري. عارف بك المارديني. عبد الحميد أفندي حمدي (وهو مأمور

الإدارة) . عبد الستار أفندي الباسل. الشيخ محمد المهدي. محمد علي أفندي كامل

المحامي. محمود بك سالم المحامي. نقولا أفندي شحادة. يوسف دريان أفندي

مطران الموارنة.

_________

ص: 635

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحريق في الآستانة

فجعت الآستانة يوم عيدِ الدستور من الشهر الماضي بحريق هائل، التهم من

البلد ما تقدر مساحته بالأميال ، وقيمته بالملايين من الليرات، حتى قيل: إنه دمر

زهاء ربع إستانبول، ومن المباني التي أكلتها النار في أول شبوبها (دائرة أركان

الحرب) ومن المعاهد المشهورة سوق (الشاهزاده) و (آق سراي) و (قوم

قبو) وما يتصل بذلك من الدور والمساجد والمدارس.

المصاب كبير، ومن حسن الحظ أن كان في الصيف (وبساط الصيف واسع)

كما جاء في المثل، ولو كان في شتاء كالشتاء الماضي في برده وثلجه؛ لهلك

الألوف من الناس. وقد كنا كتبنا في الجزء الثاني من هذه السنة نبذة في بيان كثرة

الحريق في الآستانة، وقلة عناية الحكومة بأمر إطفائها؛ كاتخاذ المطافئ الحديثة

وجرها بالآلات البخارية والكهربائية وإعداد الماء لها في كل مكان. وشددنا النكير

على حكومتنا في هذا؛ لعلها تتألم فتتذكر أو تخشى فما أفاد التذكير.

ومما يذكر مقرونًا بالحمد والشكر والترغيب؛ أن أهل النجدة والسخاء طفقوا

يبذلون الإعانات للمنكوبين. ولكن يخشى أن تصرف هذه الإعانات في غير الوجه

الأنفع.

فنقترح الآن أن تؤلف شركة مالية لبناء ما هدم على الطريقة الحديثة بسرعة،

وإعطائها المساكن للمنكوبين بأثمان رخيصة بالتقسيط، وجعل الإعانات التي تجمع

عونًا للفقراء على دفع أقساطهم.

_________

ص: 637

الكاتب: محمد توفيق صدقي

‌استدراك [

1]

العصمة لله ولكتابه وحدهما، وقد وقعنا في خطأ في مقالة الفلك في صفحة

589 من هذا العدد من المنار، نبهنا إليه الأستاذ المفضال السيد محمد رشيد، وذلك

في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) فأحببت أن أصححه كما يأتي، فيضاف هذا التصحيح في أول

ص589 المذكورة بعد قولنا في الصفحة التي قبلها (ولنا في تفسيرها وجهان: إما

أن تكون.. . إلى قولنا: وعليه فليس في القرآن

إلخ) .

وصحة العبارة هكذا:

كلمة (الأرض) فيها بمعنى الطين والتراب الذي نعرفه، كما في قوله تعالى

{وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ

بَهِيجٍ} (الحج: 5) وقوله: {وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الروم: 19)

ونحوه كثير. وإما أن تكون بمعنى الكرة الأرضية كما في قوله تعالى: {وَالأَرْضُ

جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ} (الزمر: 67) إلى قوله: {فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ

وَمَن فِي الأَرْضِ} (الزمر: 68) .

أما على الوجه الأول، فتقدير الآية هكذا: (الله الذي خلق سبع سموات،

ومن هذا الطين والتراب خلق ما هو مثلهن) وهو هذا الكوكب الأرضي أي الكرة

الأرضية، فكأنه قال: إن هذه الأرض المركبة من الطين والتراب خلقت مثل

السموات أو الكواكب السيارة؛ وذلك لأن الأرض مثل السيارات في المادة [2]

وكيفية الخلق، وكونها تسير حول الشمس، وتستمد النور والحرارة منها، وكونها

مسكونة بالحيوانات كالكواكب الأخرى، وكونها كروية الشكل. فالسيارات أو

السموات والأرض هي متماثلة من جميع الوجوه، وكلها مخلوقة من مادة واحدة

وهي مادة الشمس وعلى طريقة واحدة، قال الله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} (الأنبياء: 30) - أي شيئًا واحدًا - {فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30) أي فصلنا بعضها عن بعض، فالأرض خلقها الله مثل

السموات تمامًا {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} (الملك: 3) ؛ لأن

نواميس جميع الموجودات واحدة وعلى تفسيرنا هذا، تكون هذه الآية دالة على أن

الأرض هي إحدى السيارات، وهو أمر ما كان معروفًا في زمن النبي صلى الله

عليه وسلم، وما كان يخطر ببال أحد من العرب؛ وذلك من دلائل صدق القرآن.

وأما على الوجه الثاني؛ وهو أن المراد بالأرض الكرة الأرضية، فتقدير

الآية هكذا: (الله الذي خلق سبع سموات وخلق من الأرض أرضًا مثلهن) أي أن

الآية على طريقة التجريد، كقولك: (اتخذت سبعة أصدقاء، ولي من فلان صديق

مثلهم) أي في الصداقة، وقولك:(عرفت من الله ربًّا رحيمًا) والمعنى على هذا

الوجه والوجه الأول واحد، أو التقدير:(وخلق بعض الأرض مثل الكواكب)

على أن (من) تبعيضية، وهذا البعض هو مثلها في عناصرها الكيماوية الداخلة

في تركيبها، فكأنه قال: إن بعض عناصر هذه الأرض، هو مثل عناصر الكواكب

الأخرى نوعًا وكمية. والبعض الآخر موجود فيها عناصر أخرى لا نعرفها ولا

توجد عندنا، وقد ثبت ذلك للفلكيين بتحليل الضوء بالمنشور (Spectral

Analysis) فوجدوا مثلاً في جو المشتري وزحل وأورانوس غازًا لا يوجد عندنا

منه شيء، وكذلك يوجد في الشمس عناصر كثيرة لا توجد عندنا، وقد وجدوا في

بعض الشموس الأخرى أن السلكا (Silica) تقوم فيها مقام الكربون (الفحم)

الذي يكاد يكون معدومًا فيها أو غير موجود مطلقًا، وذلك في مثل نجمي رجل

ودنب (Rigel & Deneb) ، ولا ينافي ذلك ما قلناه في الوجه الأول من تفسير

هذه الآية، فإن العناصر وإن اختلفت في الظاهر لكن مادتها في الحقيقة واحدة؛

لأنها جميعًا مخلوقة من شيء واحد (وهو الأثير) .

...

...

...

... محمد توفيق صدقي

_________

(1)

لصاحب الإمضاء.

(2)

وقد تحقق العلماء ذلك ببعض طرق علمية؛ كطريقة تحليل الضوء الصادر من الكواكب بالمنشور البلوري والتحليل الكيماوي للأحجار السماوية (النيازك) الساقطة على الأرض ونحوها، فوجدوا أن في السماوات عناصر كعناصر الأرض.

ص: 638

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مخاطبات المنار

صاحبه وإدارته ومكتبته

إدارة المنار مختصة بالنظر في أمر الاشتراك في المجلة، وأمر المطبعة وما

يطبع فيها ، وأمر بيع مطبوعات المنار في الجملة ، وستكون الإدارة والمطبعة في

أوائل الشهر الآتي في شارع مصر القديمة بالقرب من كوبري الملك الصالح ، وعدد

(نمرة) الدار 91.

ومكتبة المنار مختصة ببيع الكتب المتفرقة من مطبوعات المنار وغيرها،

وإرسالها إلى طلابها حيث كانوا ، وبيع الأدوات المدرسية أيضًا ، وهي في شارع

عبد العزيز بالقرب من حديقة سراي شريف باشا.

فالمرجو من طلاب الكتب أن يخاطبوا المكتبة بعنوانها هكذا (مكتبة المنار

بشارع عبد العزيز بمصر) .

والمرجو من طلاب الاشتراك ومن المشتركين الذين يكاتبوننا في أمر الاشتراك ،

وممن يريدون أن يطبعوا عندنا شيئًا من الكتب والرسائل أو غيرها؛ كبطائق

الزيارة ورقاع الدعوة والأوراق التجارية ، ومن طلاب مطبوعات المنار في الجملة ،

وممن يريدون نشر إعلانات في المجلة، المرجو من كل هؤلاء أن يرسلوا

مكتوباتهم باسم (إدارة مجلة المنار بمصر) والعنوان البرقيّ (التلغرافي) هكذا

(المنار بمصر) .

وأما صاحب المنار، فيختص بالنظر في أمر فتاوى المنار والرسائل التي

يراد نشرها فيه، فالمرجو مخاطبته باسمه في ذلك ، ويجوز كتابة اسمه على كل ما

يرسل إلى الإدارة، ولكن من أراد طلبه في أقرب وقت، فلا يخلط في خطاب واحد

بين عدة مطالب.

(1)

ينبغي أن تكون المكاتبة الشخصية في ورقة على حِدَتها، فذلك أَرْجَى

لسهولة الجواب عنها.

(2)

ينبغي أن تكتب الأسئلة التي يستفتى عنها في ورقة على حِدَتها بخط

واضح؛ لأجل أن تعطى لمرتبي الحروف، ويسهل عليهم جمع ما فيها. وكثيرًا ما

يكون إيداع سؤال في خطاب شخصي أو خطاب يتعلق بالاشتراك أو شراء الكتب

سببًا لإهماله وعدم الجواب عنه ، كما أن طلب الكتب في خطاب فيه أسئلة أو أمور

تتعلق بالمجلة يكون سببًا لتأخير إرسال الكتب.

(3)

ينبغي أن يكتب ما يطلب من إدارة المنار (وهو ما بيناه آنفًا) في

ورقة على حدته؛ لأجل أن يحول إلى عامل الإدارة، فينفذه في أقرب وقت.

إذا روعيت هذه الأمور، فلا بأس بإرسال عدة مطالب في أوراق متعددة

توضع وترسل في ظرف واحد باسم صاحب المنار؛ لأنه في هذه الحالة ينظر فيما

يخصه، ويحول إلى الإدارة والمكتبة ما يخصهما.

(4)

ينبغي أن ترسل جميع الحوالات المالية باسم صاحب المنار (محمد

رشيد رضا) ، سواء كانت ثمن المنار أو مطبوعاته أو أجرة ما يطبع في مطبعته

أو أجرة إعلانات ، ولا بأس بإرسال الحوالة الواحدة بأثمان أشياء متعددة.

(5)

ينبغي أن تكون الحوالات البريدية كلها باسم (مكتب بوسطة مصر)

وأن لا يرسل شيء منها بعد الآن باسم (مكتب باب الخلق) ، ولا غيره من

المكاتب الفرعية بالقاهرة، وأما الحوالات الخاصة بالمكتبة فترسل باسم مكتبة

المنار بشارع عبد العزيز.

(6)

بنك الكريدي ليونه أحب إلينا من سائر البنوك أن تكون الحوالات

عليه.

_________

ص: 639

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

المعراج في اليقظة أم في المنام وروحاني أم لا؟

(ص45 و46) من صاحب الإمضاء من سبس برنيو بمصر.

حضرة فضيلة الأستاذ العلامة المفضال سيدي السيد محمد رشيد رضا صاحب

المنار الأغر، أيد الله بوجوده الإسلام ، وذهبت به ظلمات الجهل والبدع المنتشرة

بين الأنام.

أهديكم عظيم تحيتي واحترامي. إن ترك المألوف أمر صعب على الناس،

لاسيما إذا رسخ في اعتقادهم وتمكن من قلوبهم، وإن كان ذلك مخالفًا للحق أو كان

عين الضلال، فلم يهن عليهم أن يتركوه؛ ولهذا آتيكم بمسألة مهمة أرجو بيانها

بالحق اليقين ، وما بعد الحق إلا الضلال المبين ، وهي: مسألة المعراج، فهل

وافقتم حضرة الفاضل الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي في قوله: فالأرجح عندي

أن المعراج كان رؤيا منامية كما قلنا، وفي هذه الرؤيا فرضت الصلوات الخمس؛

لأن رؤيا الأنبياء من الوحي كرؤيا إبراهيم أنه يذبح ولده. اهـ. وهل ورد في

السنة الصحيحة أن رؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم تعتبر شرعًا، وأنها من الوحي

كما قال حضرته؟

إنني أول من يسارع إلى قبول قوله: ولو كان المعراج حصل ليلة الإسراء،

وكان جسدانيًا مثله لذكر معه في سورته، فإنه أعجب وأغرب وأدل على القدرة

الإلهية من الإسراء. اهـ. فإن عروجه صلى الله عليه وسلم بجسده الشريف

إلى السموات، مما يؤيد حجته صلى الله عليه وسلم على المكذبين له، في

إخباره إياهم بالإسراء. ولكن أشكل عليّ ما رواه الشيخان ونقله القاضي عياض في

شفائه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أتيت بالبراق وهو دابة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه قال:

فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت

المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن،

فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة ، ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح

جبريل، فقيل من أنت قال: جبريل، قيل: ومن معك، قال: محمد، قيل: وقد

بعث إليه، قال: قد بعث إليه ، ففتح لنا، فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير.

الحديث. فما قولكم في هذا الحديث أيحتج به أم لا؟ فالمرجو من فضلكم إظهار

الحقيقة، فإن ما صرح به حضرة الدكتور مما نخاف ذكره عند عامة المسلمين،

خصوصًا عند مسلمي جاوه والملايو فإنهم يتخذون ما وصف لهم من أن السموات

خلقت من حديد ونحاس وفضة وياقوت وزبرجد و.. . واعتقادًا راسخًا ، وإيمانًا

صادقًا.

...

...

...

...

... م. ب. ع

(ج) اختلف علماء السلف والخلف في الإسراء والمعراج ، أكانا بالروح

والجسد أم بالروح فقط ، وفي اليقظة أم في المنام ، وقد كنا من أول العهد بالتمييز

نسمع ذكر هذا الخلاف في المساجد عندما تقرأ قصة المعراج في الليلة السابعة

والعشرين من رجب كل سنة. وإذ كانت المسألة خلافية فما على الباحث من سبيل

إذا ظهر له رجحان أحد الأقوال أن يقول به ، وسبق لنا ذكر هذا القول في المجلد

الأول من المنار. وقد رجح بعض المحققين أن الإسراء نفسه كان روحانيًا فما بالك

بالمعراج؟

قال ابن القيم في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد) ما نصه:

(فصل) وقد نقل ابن إسحق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: إنما كان

الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك. ولكن ينبغي

أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء منامًا، وبين أن يقال: كان بروحه دون

جسده ، وبينهما فرق عظيم. وعائشة ومعاوية لم يقولا كان منامًا وإنما قالا أُسري

بروحه ولم يفقد جسده وفرق بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالاً

مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة، فيرى النائم كأنه قد عرج به إلى السماء

أو ذهب إلى مكة وأقطار الأرض، وروحه لم تصعد ولم تذهب وإنما ملك الرؤيا

ضرب له المثال.

والذين قالوا: عرج رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان طائفة قالت:

عرج بروحه وبدنه، وطائفة قالت: عرج بروحه ولم يفقد بدنه. وهؤلاء لم يريدوا

أن المعراج كان منامًا، وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها وعرج بها حقيقة،

وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة، وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة

في صعودها إلى السمواتِ. اهـ.

وأطال في بيان الفرق، وذكر فيه حل إشكال في حديث المعراج، وهو أن

النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى في قبره بالكثيب الأحمر (من أرض

فلسطين) ، ورآه في السماء السادسة، ولم يعرج جسد موسى من قبره إلى السماء،

وإنما تلك روحه صلى الله عليه وسلم.

هذا وإن من أدلة القائلين بأن المعراج كان منامًا رواية شريك في صحيح

البخاري، فإنه يقول في آخر الحديث:(ثم استيقظت) والذين لا يقولون بذلك

يغلطون رواية شريك ومنهم من يقول بتعدد المعراج قال ابن القيم:

(فصل) قال الزهري: عرج بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلى بيت المقدس وإلى السماء قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وقال ابن عبد البر

وغيره: كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران انتهى. وكان الإسراء مرة واحدة

وقيل مرتين: مرة يقظة ومرة منامًا وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين

حديث شريك وقوله: (ثم استيقظت) وبين سائر الروايات. ومنهم من قال بل

كان هذا مرتين: مرة قبل أن يوحى إليه ومرة بعد الوحي كما دلت عليه سائر

الأحاديث ، ومنهم من قال بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي ومرتين بعده ، وكل

هذا خبط. وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة

لفظة تخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرة أخرى ، فكلما اختلفت عليهم

الروايات عددوا الوقائع؛ إلى أن قال بعد تعجب من القائلين بالتعدد مما يلزمه من

القول بتعدد فرض الصلاة، وقد غلط الحفاظ شريكًا في ألفاظ حديث الإسراء.

ومسلم أورد المسند منه ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص. اهـ. أقول وفي روايات

حديث المعراج: اضطراب واختلاف كثير، طالما ردوا ما وقع فيه مثله.

وحديث أنس الذي أشار إليه السائل، لا يسلم من الاضطراب والاختلاف

الذي قلناه، ولا يتسع هذا الجواب لبيان ذلك ومقابلته بالأحاديث التي منعوا

الاحتجاج بها؛ لاضطرابها واختلاف رواياتها اختلافًا لا يقبل الجمع إلا بتكلف

وتسليم ما تسلم به النفس، ولا يصدقه العقل كقول بعضهم: إن المعراج متعدد كان

بعضه يقظة وبعضه منامًا ، ولا يستطيع عاقل أن يقبل أن يتعدد فرض الله الصلاة

على نبيه خمسين ومراجعته فيها، حتى يجعلها خمسًا مرارًا متعددة. ولذلك اضطر

بعض المحققين إلى الجزم بأن بعض روايات الصحيحين في المعراج غلط. ولعلنا

نبين الروايات كلها ووجوه الاختلاف والاضطراب فيها في مقال مخصوص في هذه

المسألة.

والظاهر أن الطبيب محمد توفيق صدقي رجح كون المعراج رؤيا منامية؛

لكونه أقرب إلى العقل وأبعد عن الطعن ، لا للجمع بين الروايات والتوفيق بينها

فإنه لم يتتبعها. على أن القول أقرب ما يتفصي به من اختلافها الكثير. وتعدد

الرؤيا واختلاف رؤية الأنبياء في السماوات فيها لا يعد مشكلاً كتعدد ذلك في اليقظة،

وإذا صححنا رواية واحدة من هذه الروايات ورددنا ما عداها وإن كان في

البخاري، فحينئذ يكون ما قاله المحقق ابن القيم هو الأقرب، وهو أن ذلك كله كان

مشاهدة روحية، لم ينتقل فيها جسده الشريف من مكانه.

ولا يبعد أن يقع الغلط في الروايات الصحيحة السند، فإن من قل غلطه

وشذوذه لا ترد روايته ألبتة، ولا شك عند أهل العلم بالحديث في صحة رواية أنس

التي أشار إليها السائل؛ فإنها في الصحيحين ولم يبين وجه استشكاله لها ، وهي لا

تدل على ما يعتقده أهل قطره من الجاوه والملايو في السموات، وكونها خلقت من

حديد ونحاس وفضة وياقوت. وما ورد في خلق مادة السموات لا يصح. وكان

الجم الغفير من علماء المسلمين يرى فيها رأي فلاسفة اليونان؛ وهو أنها أجسام

شفافة بسيطة. وما يقوله محمد توفيق صدقي تبعًا لعلماء الفلك في هذا العصر أقرب

إلى اعتقادهم، فإنهم يقولون: إنها مؤلفة من العناصر التي توجد في أرضنا ومنها

الحديد والنحاس.. إلخ.

* * *

(رؤيا الأنبياء وحي)

أما رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكونها من الوحي، فقد ثبت في

الأحاديث الصحيحة. وأول أبواب صحيح البخاري (باب كيف بدئ الوحي إلى

رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه حديث عائشة: (أول ما بدئ به رسول الله

صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا

جاءت مثل فلق الصبح) الحديث.

ومن هذا الباب رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ومنه الأحاديث الصحيحة

في رؤيا المؤمن والمسلم والصالح؛ كحديث أنس وعبادة وأبي هريرة مرفوعًا

(رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) رواه أحمد والشيخان غيرهما،

وحديث أبي سعيد عند البخاري، وعبد الله بن عمر وأبي هريرة عند مسلم

الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة ويقابل الرؤيا الصالحة

الأحلام، وما يرى الإنسان في النوم مما يحدث به نفسه عادة، وهذا التقسيم ورد

في الحديث الصحيح.

وجملة القول أن مسألة المعراج فيها الخلاف الذي عرفت، فالذي يتتبع

النصوص يرجح ما يراه أقوى وأقرب إلى الجمع بين المعقول والمنقول، ومن لا

نظر له في ذلك يقلد من يثق به أو يطمئن قلبه لقول الأكثرين، وهو أن ذلك كان

يقظة بالروح والجسد. والعبرة في المسائل الاعتقادية بما يطمئن إليه القلب. ولا

ينبغي لمثل السائل من طلاب العلم أن يكون اطمئنانه إلا بعد بحثه ونظره.

وليعلم أننا ننشر من الرسائل العلمية (كرسالة الطبيب محمد توفيق صدقي)

ما يوافق رأينا وما يخالفه، ولا نحكم رأينا في كل مسألة في تلك الرسائل إلا عند

الحاجة. وقد كان الطبيب المذكور ذاكرنا في موضوع رسالة (علم الفلك في القرآن)

قبل كتابتها، ثم ذكر فيها ما وافق رأينا وما خالفه بحسب ما ظهر له، حتى إننا

بعد طبعها في المنار ذكرنا له خطأه في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) فلما ظهر له ذلك أذعن له كعادته، وكتب ذلك الاستدراك الذي

نشرناه له في أواخر الجزء.

* * *

(إنكار صحة حديث المعراج)

(س47) من صاحب الإمضاء في صولو (جاوه)

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله القائم بحقوق الله،

وعلى آله وصحبه وناصريه وحزبه. حضرة سيدي المحترم الأستاذ محمد رشيد

رضا صاحب مجلة المنار الأغر. بعد إهدائكم أوفر التحية والإكرام، أقدم إلى

حضرتكم سؤالاً أرجو الإفادة بالجواب الشافي كما أن عادتكم شفاء الغليل، وأن

يكون في أول عدد يصدر من المنار إذا لم يكن هناك مانع، وأن لا تحيلونا على

الأجزاء والمجلدات المتقدمة؛ لكون في ذلك تفتيش أو لكون بعض المجلدات لا

يوجد عندنا.

(السؤال) طالعت في الجزء الخامس من السنة الثانية من الهداية لصاحبها

عبد العزيز جاويش، فعثرت على سؤال وجواب في قصة الإسراء والمعراج بنبينا

محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الجواب ما يشعر أن الإسراء روحي أي رؤيا

منامية، واستدل بحديث عائشة ومعاوية، وأن أحاديث المعراج موضوعة بدليل ما

فيها مما جرى له صلى الله عليه وسلم من مراجعة ربه عز وجل، وتردده بينه

وبين نبي الله موسى، وغير ذلك مما رواه الشيخان في صحيحيهما، وأن ذلك من

الأباطيل والألاعيب والأكاذيب والأقاويل المنتحلة التي يجب أن ينزه الله ورسوله

عنها. فهل صاحب الهداية مصيب في جوابه أم مخطئ؟ وهل إذا كانت رؤيا

منامية أن يستعظم أمرها وتستحيلها العقول، فقد بلغنا أنه صلى الله عليه وسلم لما

حدث بالإسراء والمعراج افتتن كثير ممن أسلم، ومنهم من ارتد وازداد المكذبون

تكذيبًا.

...

...

...

... سالم بن أحمد باوزير

(ج) أما قول الشيخ جاويش: إن الإسراء روحي، فهو شيء سبقه إليه

غيره. وأما قوله: إن أحاديث المعراج موضوعة، فهو حكم بمحض الرأي، لم

يبن على قاعدة من قواعد الجرح والتعديل، فالحديث متفق عليه بين المحدثين لا

خلاف في صحته، وإنما وقع الخلاف في سياقه ومعناه. وقد علمتم الفرق بين

القول بأن ذلك كان في الرؤيا، وأن ذلك كان روحيًّا مما نقلناه عن المحقق ابن القيم

وإذا كانت الرؤيا لا تقتضي الافتتان والارتداد الذي نقل، فعروج الروح إلى السماء

مع بقاء تعلقها بالجسد في الأرض، لا يبعد أن يكون من أسباب افتتان الضعفاء

وتقول السخفاء ، والله سبحانه يقول: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلَاّ فِتْنَةً

لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) فكيف مع هذا يقول قائل: إن الرؤيا لا تكون فتنة.

* * *

أسئلة من فوندق فادغ (جاوه)

(س48-53) من صاحب الإمضاء.

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

سيدي الأستاذ الفاضل العلامة السيد محمد رشيد رضا دام فضله آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فالمرجو من إسداء مراحمكم وإلينا وإلى

البلد الذي عم فيه الجهل وامتد فيه الكسل، أن تنقذوا أهلها من غيابة الجهل، وأن

ترحمونا بتقطيع حبل الجراءة والملل بتحرير هذه الأسئلة، وكشف نقاب الجواب

عنه كي لا يجهل. ثم إن رأيتم إدراجها في صحيفة المنار الأفخم، فلكم الفضل

والإحسان وإلا فرأيكم الأعلى، أو تفضلوا بجواب على سبيل المراسلة والمخابرة

بواسطة البوستة. (ألا وهي) .

(1)

هل كلفنا الشارع بلباس معين، بحيث يعد مرتكب غيره من أنواع

الملابس خارجًا عن الدين، كما أفتى به أكثر علماء بلدنا، ومع ذلك أنهم لم يبينوا

ضابط ما يجب منه وما يحرم، وحجتهم فيه حديث: من تشبه بقوم فهو منهم فهل

هذا الحديث من جملة الأحاديث التي يصح الاستدلال بها أم لا وأيضًا فما هي حقيقة

التشبه؟

(2)

هل يختل إيمان أحد من المؤمنين بمحض لبس البرنيطة المعروف

على مقدم قلنسوة الإفرنجي، وبلبس وصل الخرقة المربوطة في الحلقة فوق الثياب

كما هو لباس الإفرنجي والتركي أيضًا. وبالأول يقول أكثر علماء بلدنا وحجتهم فيه

أن البرنيطة والخرقة المسماة بالزنار من خصوصية لباس الإفرنجي، وقد نهى

الشرع عن لباس ذلك الزنار.

(3-4) هل لنا قول من أقوال العلماء أو مذهب من مذاهب أهل السنة

والجماعة؛ يجوز تعليق صور الحيوان على نحو الجدار أو الأستار المرتفعة أم لا؟

وهل الكسب الحاصل على يد المحترف بالآلة المعروفة المسماة بالفوتغراف حرام

أم حلال؟

(5)

هل يحرم سماع آلة الملاهي مطلقًا أم يجوز مطلقًا؟ أم لذلك تفاصيل؟

(6)

إن الأصوليين قد قالوا: إن الأحكام تدور مع علتها وجودًا وعدمًا؛

فبناء على ذلك، فإن في الإحياء ذكروا لتحريم نحو المزامير ثلاثة علل: إحداها

أنها تدعو إلى شرب الخمر. الثانية: أنها في حق قريب العهد بشرب الخمر تذكر

مجلس الأنس بالشرب. الثالثة: أن الاجتماع عليها لما أن صار عادة أهل الفسق،

فيمنع من التشبه بهم. فإذا انتفت تلك العلل كيف الحال وقتئذ، فيا سيدي حرروا لنا

ما في السؤال، فإنها قد أوقعتنا في الإشكال والجدل، ولكم منا كثير الشكر ومن الله

المتعال جزيل النوال.

...

...

...

... الراجي من ألطافك

...

...

...

... حاج عبد الله أحمد

...

...

...

...

... فوندق فادغ

(اللباس في الإسلام)

أما الجواب عن الأول والثاني - وهما بمعنى واحد - فهو أن الإسلام لم يكلف

الناس أن يلبسوا لباسًا معينًا بكيفية مخصوصة إلا في الإحرام بالحج أو العمرة،

ومن مقاصدهما أن يكون الإنسان فيهما بعيدًا عن الترف والعادات المألوفة بارزًا في

زي الإنسان الأول في البساطة والسذاجة البدوية، على أن من لا يلبس لباس

الإحرام لا يعد خارجًا من الإسلام، وإنما يعد مخالفًا لواجب من واجبات الإحرام

التي يكون مساويًا بها لسائر القائمين معه بتلك العبادة، ويجب عليه فدية تكون

كفارة لهذا التقصير. ولم يقل أحد من علماء السلف ولا الخلف: إن الشارع كلف

المسلمين زيًّا مخصوصًا في غير الإحرام، وقد ثبت في حديث البخاري أن النبي

صلى الله عليه وسلم لبس الجبة الرومية من لباس الروم، وفي صحيح مسلم أنه

صلى الله عليه وسلم لباس الطيالسة الكسروية من ملابس المجوس. وقد فصلنا

القول في هذه المسألة في المجلد السادس، وعدنا إليها في غيره لكثرة السؤال عنها

(راجع ص61 و113 من مجلد السنة الماضية) وما كنت أظن أن من يوصفون

أو يسمون بالعلماء في بلد السائل يتجرؤون على تكفير من يخالفهم في لبسهم؛

كالزي الإفرنجي الذي يلبسه الملايين من الترك والتتار والعرب المصريين

والسوريين وغيرهم.

إن أمثال هؤلاء الذين سماهم جهلاء قومهم علماء، قد جعلوا الإسلام

والمسلمين سخرية بأمثال هذه الفتاوى والأقوال التي جعلوا بها بعض العادات هي

جوهر الدين، وهم يرون عقائد الإسلام وأخلاقه وآدابه ومقاصده العالية تنتقض

عروة عروة، فلا ينكرون من ذلك شيئًا حتى إنهم وضعوا نواقيس النصارى في

مساجدهم، وجعلوا ذلك موضع خلاف ، وما حرموا على المسلمين إلا ما يرتفع به

شأن الأمم من العلوم والفنون والأعمال ، وبعض العادات التي تقتضيها طبيعة بعض

البلاد، ثم إنهم يتبرؤون من الاجتهاد بمعنى الاهتداء بالكتاب والسنة تارة،

ويستدلون بالحديث على ما لا يدل عليه كحديث السؤال من تشبه بقوم فهو منهم وقد

بينا في ص61 من مجلد السنة الماضية ما قيل في ضعفه وتصحيحه ومعناه وكونه

لا يدل على ما ذكروه.

(اتخاذ الصور وتعليقها على الجدر)

سبق لنا ذكر هذه المسألة في المنار غير مرة، منها جواب سؤال من

الإسكندرية، نشر في ص140 من المجلد الخامس وهذا نص الجواب فيه:

(ج) اختلف العلماء في اتخاذ الصور فقيل: إنه محرم مطلقًا، وقيل: إن

المحرم منها ما له ظل، وأما ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه ، وقيل: إن المحرم هو

ما اتخذ بهيئة التعظيم، وهذا أقوى الأقوال عندي لوجهين: أحدهما حديث عائشة

عند أحمد والبخاري ومسلم؛ وهو أنها نصبت سترًا وفيه تصاوير، فدخل رسول

الله صلى الله عليه وسلم ونزعه. قالت: فقطعته وسادتين، فكان يرتفق عليهما

وفي لفظ لأحمد (فقطعته مرفقتين، فلقد رأيته متكئًا على إحداهما وفيها صورة)

المرفقة: المتكأ والمخدة.

ولو كانت الصورة ممنوعة لذاتها لأزالها من المرفقة ، وإنما هتك الستر لأنه

كان منصوبًا كالصورة المعبودة، فهو يذكر بها وفيه تشبه بعابديها. ثانيهما: العلة

الحقيقية في النهي عن التصوير والصور المعظمة؛ وهي محاكاة عباد الأصنام لا ما

قالوه من أن فيها محاكاة خلق الله، فإن هذه العلة تقتضي تحريم تصوير الشجر

والجماد، وقد نقل بعضهم الإجماع على حله؛ فإذا انتفت العلة انتفى المعلول والله

أعلم اهـ.

وبينا في فتوى أخرى أنه لمثل هذه العلة نهى النبي صلى الله عليه وسلم

عن زيارة القبور في أول الإسلام، ثم رخص فيها بشرط أن تكون للعبرة وتذكر

الآخرة؛ لأن ذلك المعنى التعبدي الوثني كان قد زال، فإذا قلت: إن الحكم يدور

مع علته وجودًا وعدمًا، وعلمت أن أهل هذا الزمان لا يتخذون الصور للعبادة ولا

تذكرهم رؤيتها بعبادتها ولا عابديها؛ إلا ما يكون في معابد الوثنيين، وبعض

طوائف النصارى، وفي بعض بيوتهم من صور المسيح وأمه عليهما السلام،

وبعض حوارييه رضي الله عنهم، إذا قلت هذا القول وعلمت هذا العلم، وظهر لك

أن الذريعة التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم سدها بنزع ذلك الستر، كان لك

أن تقول: إنه لا يظهر لتعليق صور من لا يعظم تعظيمًا دينيًّا وجه للحظر.

ومن الفقهاء من بحث في اتخاذ الصور من وجوه أخرى؛ كتحقيق معنى

الصورة، وهي صورة الحيوان الكامل الخلقة، فقالوا: إن الصورة إذا كانت غير

تامة لا يمتنع اتخاذها بالتعليق ولا بغير التعليق، وعبر بعضهم بالمنع من الصورة

التي يعيش مثلها، وجعلها هي الممنوعة دون التي لا يعيش مثلها، وكنت أرى

بعض المشايخ المتورعين إذا أتى بورقة فيها صورة، وكانت من الأوراق التي

يحتاج إلى استعمالها كما تراه كثيرًا في الأوراق وغير الأوراق من متاع أوربة،

يأخذ الموسى بيده فيحزّ في الورقة رأس الصورة حزًّا، ويقول: الآن لا يعيش

مثلها. وكنت ولا أزال أتعجب من هذا العمل.

وذهب بعضهم في بيان حظر تصوير الحيوان إلى أن علته مضاهاة خلق الله

تعالى، وقصد ذلك بدليل ما ورد في الحديث الصحيح دالًّا على ذلك، وهذا لا يأتي

في متخذ الصورة بل في المصور.

قال القسطلاني في شرحه للبخاري بعد كلام في ذلك: والحاصل كراهة

صورة حيوان منقوشة على سقف جدار أو وسادة منصوبة أو ستر معلق أو ثوب

ملبوس، وأنه يجوز ما على الأرض أو بساط يداس أو مخدة يُتكأ عليها ومقطوع

الرأس وصورة شجرة. والفرق أن ما يُوطأ ويطرح مهان مبتذل، والمنصوب

مرتفع يشبه الأصنام. ا. هـ.

وهذا هو التعليل الصحيح كما قدمنا، وقد زالت العلة الآن ولاسيما فيما يتخذ

من الصور لأجل العلم؛ كالطب والتشريح والتاريخ الطبيعي أو لمصالح الدول

والحكومات؛ كصور جواسيس الحرب والمجرمين أو تحقيق الشخصية لمصالح

كثيرة.

(الكسب بآلة الفونغراف)

وأما الجواب عن الرابع؛ فهو أنه لا يظهر وجه لتحريم كسب صاحب آلة

الفونغراف؛ والأصل في الأشياء الحل.

(سماع آلات الملاهي)

وأما الجواب عن الخامس، فقد فصلنا القول فيه تفصيلاً في أول المجلد

التاسع من المنار في جواب (الأسئلة الجاوية) ، وهي خمسة أسئلة تتعلق بالسماع،

فذكرنا في جوابها أحاديث الحظر التي يستدل بها المحرمون مع تخريجها، وأدلة

الإباحة مع تخريجها، وخلاف العلماء في الغناء والمعازف (آلات الطرب)

وأدلتهم. ثم بحثنا في السماع من جهة القياس الفقهي ومن جهات أخرى، وكان

حاصل الجواب:

(1)

إنه لم يرد نص في الكتاب ولا في السنة في تحريم سماع الغناء

وآلات اللهو يحتج به.

(2)

ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه سمعوا

أصوات الجواري والدفوف بلا نكير.

(3)

الأصل في الأشياء الإباحة.

(4)

ورد نص القرآن بإحلال الطيبات والزينة وتحريم الخبائث.

(5)

لم يرد نص عن الأئمة الأربعة في تحريم سماع الآلات.

(6)

كل ضار في الدين والعقل أو النفس أو المال أو العرض، فهو من

المحرم ولا محرم غير ضار.

(7)

من يعلم أو يظن أن السماع يغريه بمحرم حرم عليه.

(8)

إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.

(9)

إن تتبع الرخص والإسراف فيها مذمون شرعًا وعقلاً.

(10)

إذا وصل الإسراف في اللهو المباح إلى حد التشبه بالفساق، كان

مكروهًا أو محرمًا.

فإذا اكتفى السائل بهذا الإجمال فيها، وإلا فليرجع إلى التفصيل في المجلد

التاسع من ص35 إلى 51 ومن 141 إلى 147.

وبما تقدم يستغنى عن جواب السؤال السادس، وإذا راجع التفصيل الذي

أشرنا إليه في مسألة السماع، يجد ما يشفي في مسألة تعليل الغزالي لتحريم نحو

المزامير والله أعلم.

_________

ص: 664

الكاتب: محمد توفيق صدقي

‌كلمات علمية عربية

أسوقها إلى المترجمين والمعربين [*]

(2)

السجيل Pumice stone: نوع من الحجر الخفيف الذي يمتص

الرطوبة، ويعرف بالإنكليزية بالاسم المذكور هنا، وأصله من مواد طينية

(أرضية) متحجرة تقذفها البراكين من جوفها، ومن هذه الحجارة تكونت بعض

الأراضي والجزائر كجزيرة ليباري (Lipari) وهي التي ألقيت على قوم لوط،

قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} (هود: 82) وكانت إذ ذاك

ملتهبة، ولما ألقيت على أصحاب الفيل كانت باردة ولكنها ملوثة بميكروب الجدري،

والظاهر أن الطير التي حملتها كانت تريد بناء أوكارها منها في الجبال أو غيرها،

فأخذتها من أمكنة كثر إلقاء جثث الموتى، فالجدري فيها لانتشار أوبئة هذا المرض

في الأزمنة القديمة انتشارًا مريعًا خصوصًا في زمن حادثة الفيل، فإنه كان منتشرًا

في البلاد المجاورة للبلاد العربية، ولكنه كان غير معروف فيها قبل هذا التاريخ،

ولما كانت السوائل المنتنة المعدية تسيل عادة من هذه الجثث امتصتها هذه الحجارة

التي يكثر وجودها في الجهات البركانية، حتى تشبعت منها، فأخذتها هذه الطيور

بعد نبش الأرض أو وجدتها من غير نبش (وربما كانت هذه الطيور جارحة)

فسقط منها بعض هذه الأحجار على أصحاب الفيل، فانتشر فيهم الجدري حتى

أهلكهم، وكان - على ما يقال - ذلك أول وباء من هذا النوع عرف في بلادهم،

وليعلم القارئ أن جثث الموتى بالجدري تبقى معدية مدة طويلة بخلاف غيره من

بعض الأمراض، فالظاهر أن ميكروبه (الذي لا نعرفه للآن) يعيش فيها بعد

التعفن مدة، ولا يموت بسرعة كغيره من الميكروبات المرضية الأخرى التي

تقتلها بإفرازاتها ميكروبات التعفن بسهولة. قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} (جماعات)(الفيل: 3){تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} (الفيل: 4) .

استطراد لا بأس به بمناسبة ذكر البراكين هنا؛ اعلم أنه كثيرًا ما يحدث من

الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير

كالجبال، وهذا أمر مشاهد حتى في زمننا هذا. فإذا سلم أن سد ذي القرنين

المذكور في القرآن الشريف غير موجود الآن، فربما كان ذلك ناشئًا من ثورة

بركانية خسفت به وأزالت آثاره، ولا يوجد في القرآن ما يدل على بقائه إلى يوم

القيامة. أما قوله تعالى على لسان ذي القرنين {هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ

رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقاًّ} (الكهف: 98) فمعناه أن هذا السد رحمة

من الله بالأمم القريبة منه؛ لمنع غارات يأجوج ومأجوج عنهم، ولكن يجب عليهم

أن يفهموا مع متانته وصلابته لا يمكن أن يقاوم مشيئة الله القوي القدير، فإن بقاءه

إنما هو بفضل الله، ولكن إذا قامت القيامة وأراد الله فناء هذا العالم، فلا هذا السد

ولا غيره من الجبال الراسيات يمكنها أن تقف عثرة لحظة واحدة أمام قدرة الله، بل

يدكها جمعاء دكًا في لمح البصر. فمراد ذي القرنين بهذا القول؛ تنبيه تلك الأمم

على عدم الاغترار بمناعة هذا السد أو الإعجاب والغرور بقوتهم، فإنها لا شيء

يذكر بجانب قوة الله. فلا يصح أن يستنتج من ذلك أن هذا السد يبقى إلى يوم

القيامة، بل صريحه أنه إذا قامت القيامة في أي وقت، كان وكان هذا السد موجودًا

دكه الله دكًا. وأما إذا تأخرت فيجوز أن يدك قبلها بأسباب أخرى؛ كالزلازل إذا قدم

عهده، وكالثورات البركانية كما قلنا، وليس في الآية ما ينافي ذلك.

وأما قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} (الأنبياء: 96)

فالمراد منه خروجهم بكثرة وانتشارهم في الأرض كما يخرج الشيء المحبوس أو

المضغوط إذا انفجر. واستعمال لفظ الفتح مجازًا شائع في اللغة ومنه قولك (فتحوا

البلاد) ، وقوله تعالى:{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} (الأنعام: 44) و {لَا

تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} (الأعراف: 40) فلا الأشياء لها أبواب ولا السماء،

وكذلك يأجوج ومأجوج لا باب لهم، بل هم من كل حدب ينسلون، والغالب أن

المراد بخروجهم هذا خروج المغول (التتار) وهم من نسل يأجوج ومأجوج وهو

الغزو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجري، وناهيك بما فعلوه إذ ذاك

في الأرض بعد أن انتشروا فيها من الفساد والنهب والقتل والسبي، وقد ذكرنا ذلك

في مقالات (القرآن والعلم) في المجلد الحادي عشر من المنار.

أما ذو القرنين فالغالب أنه أحد ملوك اليمن الملقبين (بالأذواء) كذي يزن

وغيره وهم المعروفون للعرب، وقد كان لأهل اليمن مدينة عالية وحضارة كبيرة

وقوة جسيمة كانت مجهولة للأمم، وبدأ الباحثون الآن يقفون على شيء من آثارهم

حتى في غير بلادهم.

والراجح أن السد كان موجودًا بإقليم داغستان التابع الآن لروسيا بين مدينتي

دربند وخوزار Derbend & Khuzar، فإنه يوجد بينهما مضيق شهير منذ

القدم يسمى عند كثير من الأمم القديمة والحديثة (بالسد) وبه موضع يسمى (باب

الحديد) ، وهو أثر سد حديدي قديم بين جبلين من جبال القوقاز الشهيرة عند العرب

(بجبل قاف) وقد كانوا يقولون: إن فيه السد كغيرهم من الأمم، ويظنون أنه في

نهاية الأرض وذلك بحسب ما عرفوه منها، راجع دائرة المعارف الإنكليزية فيما

يتعلق بكلمة (دربند) . ومن وراء هذا الجبل كان يوجد قبيلتان قديمتان تسمى

إحداها (آقوق) والثانية (ماقوق) ، فعربهما العرب (بيأجوج ومأجوج) ، وهما

معروفان عند كثير من الأمم واسمها بالإنكليزية Gog & Magog، وقد ورد

ذكرهما أيضًا في كتب أهل الكتاب. ومنهما تناسل كثير من أمم الشمال والشرق في

الروسيا وآسيا. راجع تتمة هذا المبحث في (مقالات القرآن والعلم) . وقد اقتبسنا

بعض ما ذكر عن أستاذ المنار في بعض فتاويه، ولنرجع إلى ما كنا فيه:

الحرّيف: الحاد يلذع طعمه اللسان كالبصل والفلفل.

الرائب من اللبن معروف.

ثع الماء من الجرح: نضح.

النَّعرة Mole: الجنين الكاذب.

الجنطيانا Gentian: نبات خلاصته نافعة للمعدة.

(أمم الصبيان) : هي تشنجهم Infantile Convulsion.

الفرزجة Pessary: آلة توضع في المهبل لتعديل الرحم أو منع سقوطه.

المنفخة Insufflator: آلة لنفخ الدواء في الجروح وغيرها.

تحنَّك: دهن باطن الفم بالدواء.

السلاق Blepharitis: التهاب الجفون.

الارتكاض: حركة الجنين في الرحم.

الصفر: خليط من النحاس والقصدير Bronz.

الشبّه: خليط من النحاس والخارصين Brass.

الدُّوغ: اللبن بعد أخذه زبدة Caseinogen.

التصلب الشرياني: جمود الشرايين Sclerosis of Ariteries.

الدم البحراني: هو الشرياني.

بقر البطن: فتحه (شقه) .

الزكام Coryza.

الطبي: ثدي ذات الخف والظلف.

الجبيرة للكسر معروفة Splint.

الصماخ: فتحة الأذن Meatus.

الصهبة: احمرار الشعر.

الصنان: رائحة العرق الكريهة.

الصمام للقلب Valve: غشاء يسد فتحاته.

الغراء Glue معروف.

رسب Precipitated.

الغلصمة: اللهاة لحمة في الحلق معروفة Uvula.

الأغن: مؤنثه الغناء لمن يتكلم بأنفه.

الزغب: الريش الصغير.

أفرَخ الطائر وفرّخ.

الرُّوبة: خمير اللبن.

المُزَأبق Amalgam: كل خليط من الزئبق مع معدن آخر.

زات يزيت: دهن بالزيت.

أبَّر: لقح Fecundation.

الأبور: ما يؤبر به Pollen Powder.

السأسم: الأبنوس.

أثاث البيت: متاعه Furnitures.

مؤخر الرأس Occiput.

الأدرة: انتفاخ الخصية لالتهاب فيها.

الأراك: شجر المسواك.

الميزاب والمزراب بمعنى.

الصابون Soap.

اليافوخ Fonanel: ما لان في رءوس الأطفال.

المصل Serum: الماء الذي يبقى بعد تجمد الدم إذا وضع في وعاء.

الآنك: الرصاص الخالص.

البثرة Pustule.

سطع الماء: تبخر، وسطعت الرائحة: طارت وارتفعت.

والساطع: هو الغاز والهواء Gas.

بَزل: ثقب الميزل المثقب.

البراجم: رءوس السلاميات، والرواجم: ظهورها وبطونها.

البردة: التخمة.

البرود: هو الششم.

بزغ وشرط وحجم بمعنى.

الباسور Pile: زائدة في الشرج من انتفاخ الأوردة.

المبضع: مشرط صغير.

البطح: البسط Supination.

بط Punctute: ثقب.

بظر المرأة معروف Clitoris.

البلاط للأرض Floor معروف.

البلعوم المريء Oesophagus.

البنج Hyoscyamus.

الترياق Antidote: ما يبطل ضرر السم للجسم.

تهِم Putrefy: فسد.

الجدري Small Pox: داء مشهور.

لفِطة Vesicle: نفاحة صغيرة ممتلئة ماء.

الأنبوب Tube: القصبة الجوفاء.

ذونبرات Dentated: ما له أسنان.

جمد Solidify.

العروق Vessels.

حفر الأسنان: داء بها Caries.

حف رأسه: نتفه.

الحقب: احتباس البول Retention.

النُّوَّارة Flower: الزهرة.

قدم رَحّاء Flat - Foot: ليس بها خمص Not arched.

الخمص: ارتفاع باطن القدم.

النغف Larvae: حينما تكون الحشرات كالدود بعد خروجها من البيض قبل

تمام نموها.

الصُّعقر: البطارخ وهو بيض السمك.

البُوال Diabetes: الديابيطس أي كثرة التبول، وهو إما مائي أو سكري.

استمنى Masturbate: أنزل منيه بيده.

حيوانات قشرية أو صدفية Mollusca.

الجبن: الحالوم معروف.

الفُطر Fungus: الطحلب.

كَزَّ يَكُز: تشنج.

الكزاز Tetanus: مرض يحدث تشنجًا، وينشأ من ميكروب يوجد في

الطين.

البؤرة Focus: تستعمل في الطب بمعنى المركز أو المجمع؛ كمجمع

الأشعة أي: مكان اجتماعها في نقطة واحدة.

الجزيرة Beeftea: نوع من المرق.

البؤبؤ Pupil: إنسان العين.

الجيدار Ergot: دواء يمنع النزف.

الذراريح Cantharidis: الذباب الهندي.

الشيكران Conium: حب سام يشبه الكرويا.

المغناطيس Magnet: ما يجذب الحديد.

الكبابة Cubebs: حب معروف.

الكثيراء Tragacanth: نوع من الصمغ.

المغنيسا Magnesia: أكسيد العنصر المسمى مغنيسيوم.

النعنع: النعناع Mint.

السعتر أو الصعتر Thyme.

خلاصة الشيح Santonin.

خلاصة الصفصاف Salici.

الحماق أو الجاورس: الجدري الكاذب Chicken Pox.

داء التنفط أو النملة Herpes: مرض جلدي يحدث بثورًا صغارًا.

البُرَّة: البثرة الخبيثة أو الجمرة Anthrax.

التقرح: التآكل Ulcerate.

الصفار (بالضم) Anoemia.

اليرقان Jaundice: احتباس الصفراء في الجسم.

السعفة والقوباء Eczema.

سَوّس تسويسًا: كثر سوسه.

نواع: حمى النافض Malaria.

(1)

حمى الثاني Quotidian أو الورد.

(2)

حمى الغب Tertian.

(3)

حمى الرّبع Quartan.

السكتة Apoplexy.

الجذام Leprosy.

البهق Tinea: مرض جلدي.

العِرق المديني Eilaria Medinensis: دودة تسكن في جلد الإنسان.

شحم الحنظل Pulp.

البواب Pylorus: فتحة المعدة إلى الأمعاء.

الميل للجرح Director: آلة للجس.

الفؤاد Cardiac endof stomach: وهو في الاصطلاح طرف المعدة

من جهة القلب.

أقسام الأمعاء الصغيرة:

(1)

الإثنى عشري Duodenum.

(2)

الصائم Jejunum.

(3)

اللفائفي Ileum.

الأعور Coecum: أول الأمعاء الكبيرة.

القولون Colon: الأمعاء الغلاظ الكبيرة.

المستقيم Rectum: آخر الأمعاء الكبيرة.

البطون Ventricles: التجاويف كتجاويف المخ.

الشريانات: الشرايين Arteries.

الباب Portal vein: اسم وريد مشهور.

الأجوف Cava: اسم وريد عظيم معروف.

الأضراس Molars.

الأربطة Ligaments للمفاصل معروفة.

العضل Muscle: اللحم الأحمر.

الوريد Vein: العرق الذي يجري فيه الدم الأسود.

العَصب Nerve: حبل أبيض في الجسم يحصل به الحس أو الحركة.

الحاف Sublingual vein: الوريد الذي تحت اللسان.

السلامى Phalanx: أحد عظام الأصبع.

اليبس Ankylosis: عدم تحرك المفاصل.

النواضح: الرواشح Filters.

النطع Palate: سقف الفم.

الاستحاضة Menorrhagia: زيادة فاحشة في دم الحيض.

الدماميل Boil: الدمامل.

تمتم في كلامه To slurr.

قائمة الزهرة: وهي ما فوق المبيض Style.

البُرعم Bud: زهرة النبات قبل أن تنفتح.

الكِم والكمامة Calyx: وعاء الطلع.

الخرز Beads معروف.

الإحليل Urethra: مجرى البول.

الحالب Ureter: ما ينقل البول من الكلية إلى المثانة.

النوشادر أو النشادر Ammonia.

الخرق Incomplete Hernie: الفتق غير الكامل.

العصابة ما يربط به الفتق Truss

الشبق شدة الغلمة أي شهوة الجماع.

النمش Lentigo: نقط بالجلد خلقية.

داء الضفدع Ranula: ورم كيسي تحت اللسان.

اللقوة: شلل عصب الوجه.

تغرغر بالغرغرة Gargle.

نتوء الرحم Prolapsed Uterus: الرحم البارد.

مدر البول Diuretic.

أسهل البطن: أطلقه.

أمسك البطن: قبضه.

الداحس Whitlow: التهاب الإصبع.

الكِمَاد والكُمُد Fommentations.

(البقية تأتي)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي - تابع لما سبق.

ص: 674

الكاتب: محمد سعيد

قانون الجامع الأزهر

والمعاهد الدينية الإسلامية [*]

(الباب الثامن)

في الميزانية والكتب ومراقبة الأوقاف والكساوى

(الفصل الأول)

في الميزانية

(المادة الرابعة عشرة بعد المائة)

تكون ميزانية الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى مستقلة ومنقسمة إلى

قسمين: الأول للإيرادات، ويكون شاملاً لبيانها بالتفصيل. والثاني لبيان

المصروفات نوعًا نوعًا.

ويعرضها شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى على

الحضرة الفخيمة الخديوية؛ للتصديق عليها.

* * *

(المادة الخامسة عشرة بعد المائة)

لا يجوز استعمال مبلغ مخصص لأمر معين في الميزانية لغير ما وضع

له؛ إلا بقرار من مجلس الأزهر الأعلى، وبشرط أن لا يحصل طلب ذلك قبل

حلول الشهر الخامس من السنة الدراسية.

* * *

(المادة السادسة عشرة بعد المائة)

يبطل توزيع بدل الكساوى بالطريقة التي كانت متبعة قبل صدور هذا

القانون، ويضم المبلغ إلى الميزانية.

وكذلك يضم إلى الميزانية كل مبلغ ينحل عن أولاد العلماء، وكل مبلغ

ينحل من مثمن الغلال القابل للانحلال.

* * *

(المادة السابعة عشرة بعد المائة)

لا يجوز الجمع بين راتبين مقررين في الميزانية ما عدا مرتب شيخ

الجامع الأزهر؛ بصفته أيضًا من كبار العلماء.

* * *

(المادة الثامنة عشرة بعد المائة)

يضع مجلس الأزهر الأعلى لائحة؛ لتقاعد الموظفين والمدرسين بالجامع

الأزهر والمعاهد الأخرى، ويخصص في الميزانية المبلغ اللازم لذلك.

وكذلك يخصص فيها مبلغ لأولاد العلماء.

ويضع لائحة شاملة لبيان القواعد التي يجب مراعاتها في كيفية صرف

المرتبات وبقية المصروفات المقررة في الميزانية، وبيان الجهة التي تكون

فيها النقود، وبيان أوامر الصرف واستماراته وغير ذلك من القواعد المختصة

بتنفيذ الميزانية، وضبط حساباتها طبقًا لما هو مدون بالمواد السابقة.

* * *

(الفصل الثاني)

في الكتب وفي لجنة الكتب

(المادة التاسعة عشرة بعد المائة)

لا يتقيد طلب العلم في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى بكتب مخصوصة

ولكن يجب التصديق على ما يدرس منها من مجلس الأزهر الأعلى.

ويجب أن لا يدرس في أي معهد كتاب لم يكن مقرًا على تدريسه في

المعاهد الأخرى، وأن تكون كتب الدراسة واحدة في جميع المعاهد.

* * *

(المادة العشرون بعد المائة)

تمنع قراءة التقارير بالأزهر والمعاهد الأخرى منعًا باتًّا، ولا يجوز

قراءة الحواشي إلا في القسمين الثانوي والعالي بعد إقرار المجلس الأعلى.

* * *

(المادة الحادية والعشرون بعد المائة)

يؤلف مجلس الأزهر الأعلى لجنة من أربعة من أعضائه برياسة شيخ

الجامع الأزهر؛ لفحص الكتب التي يقدمها مؤلفوها، وتقرير ما تستحقه من

المكافأة.

ويضم إليها شيخا معهدي الإسكندرية وطنطا، واثنان يختاران من كبار

علماء الفن المؤلف فيه الكتاب؛ إن كان موضوعه علمًا من العلوم المختصة

بها هيئة كبار العلماء.

فإن كان موضوع الكتاب علمًا من العلوم الحديثة، ضم إليها اثنان كذلك

من الاختصاصيين في هذا العلم.

* * *

(المادة الثانية والعشرون بعد المائة)

يخصص مبلغ سنوي لا يقل عن خمسمائة جنيه؛ لإيجاد جوائز لا يقل

مبلغ الواحدة منها عن عشرة جنيهات ولا يزيد عن مائة، تعطى لمن يؤلفون

كتبًا في العلوم التي تدرس بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، يتقرر نفعها

طبقًا لما هو مدون في المواد الآتية:

* * *

(المادة الثالثة والعشرون بعد المائة)

على لجنة مكافآت الكتب أن تلاحظ في تقرير نفعها ما يأتي:

أولاً - أن لا يكون الكتاب مخالفًا للعقائد الدينية، وأن تكون عبارته

علمية خالية من التعقيد.

ثانيًا - أن يكون ترتيبه وتبويبه مطابقًا لمقتضى قواعد التعليم من دون

تشويش ولا اضطراب.

ثالثًا - أن لا تقرر مكافأة على كتاب ترى فائدة من تدريسه، إذا كان

مخالفًا في ترتيبه وتبويبه بوجه عام للكتب التي سبق تقرير مكافأة عليها وتقرر

تدريسها.

* * *

(المادة الرابعة والعشرون بعد المائة)

تفضل كتب فقه المذهب الواحد، إذا اتفقت مع كتب المذاهب الأخرى في

التبويب والترتيب دون غيرهما مما سبق تقرير مكافأة عليه.

* * *

(المادة الخامسة والعشرون بعد المائة)

يجوز تقرير مكافأة لمؤلفي كتب يتقرر نفعها للجامع الأزهر والمعاهد

الأخرى بوجه عام، ولو لم تخصص للتدريس.

* * *

(المادة السادسة والعشرون بعد المائة)

للجنة أن تضع نموذج ترتيب الكتب التي ترى نفعًا من تأليفها، وتوضح

مضامينها العامة، وتنشرها للكافة لينسجوا على منوالها.

ولمجلس الأزهر الأعلى أن يكلف اللجنة بوضع نماذج الكتب التي يرى

تأليفها والنشر عنها.

* * *

(الفصل الثالث)

في مراقبة نظارة الأوقاف

(المادة السابعة والعشرون بعد المائة)

لمجالس الإدارة مراقبة نظارة الأوقاف؛ فيما هو مخصص من ريعها للجامع

الأزهر والمعاهد الأخرى.

ولشيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى ولمجالس الإدارة

ومجلس الأزهر الأعلى عند الاقتضاء؛ أن يأمر بمقاضاتهم للحصول على حقوق

الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وذلك بدون إخلال بما لديون الأوقاف العمومية

من الحقوق والاختصاصات المقررة في اللوائح والقوانين.

* * *

(المادة الثامنة والعشرون بعد المائة)

يؤلف مجلس الأزهر الأعلى لجنة؛ لفحص حجج الأوقاف التي للجامع

الأزهر والمعاهد الأخرى فيها مرتبات حالاً أو مآلاً من أي نوع كانت،

وحصرها في دفتر خاص، والنظر في طريقة توحيد المرتبات.

وكذلك تنظر بالاتفاق مع مدير عموم الأوقاف فيما يخص العلماء في

الجامع الأحمدي وغيره من صناديق النذور وطريقة صرفه.

* * *

(المادة التاسعة والعشرون بعد المائة)

تختص اللجنة المذكورة أيضًا بالنظر في إبدال الجرايات بنقود، ووضع

القواعد التي يترتب بمقتضاها البدل النقدي لمن يستحقه من الطلبة والعلماء

بشرط عدم مخالفة شروط الواقفين، بحيث لا يحرم واحد من هذا البدل أن لو

كان يستحق الجراية.

* * *

(المادة الثلاثون بعد المائة)

يأخذ شيخ الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى رأي مجالس

الإدارة في نتيجة أعمال اللجنة قبل أن تقررها، ثم يقدمها بعد الإقرار عليها

إلى مجلس الأزهر الأعلى، وما يتقرر منه في ذلك يعرض على الحضرة

الفخيمة الخديوية؛ للتصديق عليها بإرادة سنية.

* * *

(المادة الحادية والثلاثون بعد المائة)

متى تقرر إبدال الجراية بنقود، يستمر صرف ما يترتب منها شهريًّا

طول السنة.

* * *

(الفصل الرابع)

في كساوى التشريف

(المادة الثانية والثلاثون بعد المائة)

يضع مجلس الأزهر الأعلى الشروط اللازم توفرها في العلماء؛ لنيل

كساوى التشريف العلمية، ويصدر بذلك إرادة سنية.

* * *

(المادة الثالثة والثلاثون بعد المائة)

تمنح كساوى التشريف للعلماء غير الموظفين في المصالح الأميرية

بإرادة سنية، بناء على طلب شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر

الأعلى بعد إقرار المجلس المذكور.

وأما بالنسبة للموظفين في المصالح الأميرية؛ فإن تقرير استحقاقهم

للكساوى المذكورة ومنحها لهم، يكون بناء على طلب رؤساء الدواوين

التابعين لها بعد أخذ رأي شيخ الجامع الأزهر.

* * *

(المادة الرابعة والثلاثون بعد المائة)

لا تمنح كسوة التشريف لغير العلماء الحائزين لشهادة العالمية، ويستثنى

من ذلك القضاة الشرعيون.

* * *

(المادة الخامسة والثلاثون بعد المائة)

تقرير كساوى التشريف المظهرية، ومنحها يكون بمحض إرادة الحضرة

الفخيمة الخدوية بناء على طلب شيخ الجامع الأزهر.

* * *

(الفصل التاسع)

أحكام عمومية

(المادة السادسة والثلاثون بعد المائة)

العالم هو من بيده شهادة العالمية.

وكذا كل من ثبت له هذا اللقب قبل العمل بهذا القانون بالتطبيق لنصوص

القوانين السابقة أو بالقدم.

* * *

(المادة السابعة والثلاثون بعد المائة)

تبيّن أسماء العلماء المنوه عنهم في الفقرة الثانية من المادة السابقة في

اللائحة الداخلية، مع إيضاح القوانين التي حازوا هذا اللقب بناء على ما دون

فيها.

* * *

(المادة الثامنة والثلاثون بعد المائة)

يجب أن تراعى شروط الواقفين في جميع ما تقرره مجالس الإدارة

ومجلس الأزهر الأعلى.

* * *

(المادة التاسعة والثلاثون بعد المائة)

يضع مجلس الأزهر الأعلى لائحة؛ لنظام إدارة المكاتب التحضيرية

التابعة للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى والكتاتيب.

وكذلك يضع اللائحة الداخلية العمومية للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى.

* * *

(المادة الأربعون بعد المائة)

يضع مجلس إدارة الأزهر النظامات الخصوصية لطلبة الأروقة

والحارات وغيرهم ممن لهم نظامات أو قوانين خاصة بهم.

ويجب على كل حال أن لا تخرج تلك النظامات الخصوصية، كما تجب

مراعاته في الجامع الأزهر من النظام العام بمقتضى هذا القانون.

* * *

(المادة الحادية والأربعون بعد المائة)

يقرر مجلس الأزهر الأعلى ترتيب درجات المدرسين والموظفين،

وكيفية تعيينهم وترقيتهم، وتصدر بذلك إرادة سنية.

* * *

(المادة الثانية والأربعون بعد المائة)

تشتمل اللائحة الداخلية للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى على البيانات

والقواعد اللازم مراعاتها في تنفيذ هذا القانون بما لا يخالف نصًا من نصوصه

* * *

(المادة الثالثة والأربعون بعد المائة)

على مشايخ أقسام الجامع الأزهر ومشايخ المعاهد الأخرى أن يقدموا كل

سنة لشيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى تقريرًا بما

وصل إليه ارتقاء التعليم المنوطة بهم إدارته، ومتضمنًا جميع ملاحظاتهم

ومقترحاتهم المختصة بالنظام والتعليم والمدرسين وبقية الموظفين.

ويرفع الجامع الأزهر إلى الحضرة الفخيمة الخديوية تقريرًا عامًّا عن

سير التعليم، ودرجة ارتقائه في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى.

* * *

(المادة الرابعة والأربعون بعد المائة)

ينظر مجلس الأزهر الأعلى في كل تعديل يراد إدخاله على هذا القانون

قبل عرضه على مجلس النظار.

* * *

(الباب العاشر)

في الأحكام الوقتية

(الفصل الأول)

في أحكام وقتية عامة

(المادة الخامسة والأربعون بعد المائة)

من بيده الآن شيء من المرتبات، ولم ينل وظيفة من الوظائف بالجامع

الأزهر والمعاهد الأخرى، بقي له مرتبه إلى أن ينحل عنه.

* * *

(المادة السادسة والأربعون بعد المائة)

المرتبات الشهرية أو السنوية التي كان أصلها من مرتبات الأزهر،

وخرجت منه بأوامر سابقة، على أن تبقى في أعقاب أربابها تعود للأزهر

متى مات واحد منهم بلا عَقِب.

* * *

(المادة السابعة والأربعون بعد المائة)

تنظر مجالس الإدارة في شؤون أولاد العلماء الذين يقبضون الآن مرتبات

عن آبائهم، فمن ثبت لها منهم أنه مشتغل بالعلم حق الاشتغال، أبقته على

مرتبه إلى أن يؤدي الامتحان طبقًا لنصوص هذا القانون، ومتى نال الشهادة

ودخل في صف العلماء، صار حكمه حكم حاملي الشهادات ويقطع مرتبه.

ومن لم يكن مشتغلاً أو لم يكن مواظبًا، وطلب منه الاشتغال أو المواظبة

ولم يشتغل قطعت مرتباته.

ويراعى في ذلك كله أقصى السن المقرر للدراسة.

ويجب التصديق من مجلس الأزهر الأعلى على ما تقرره مجالس الإدارة

في ما ذكر.

* * *

(المادة الثامنة والأربعون بعد المائة)

إذا مات أحد من أولاد العلماء الذين لهم مرتبات عن والدهم، وترك

أولادًا فلا حق لهم في شيء مما كان مرتبًا لأبيهم، ولو كانوا مشتغلين بطلب

العلم.

* * *

(المادة التاسعة والأربعون بعد المائة)

يبطل تمييز مخصصات الأزهر من حيث المرتبات إلى مال حكومة

ومال أوقاف، ولا يكون هناك بعد الآن مرتب جديد لعالم يبقى كله أو بعضه

لورثته إلا ما يتقرر بشأن ذلك في لائحة التقاعد المنصوص عليها في المادة

الثامنة عشرة بعد المائة من هذا القانون.

* * *

(المادة الخمسون بعد المائة)

العلماء الذين لا تسمح لهم وظائفهم أو أوقاتهم بالانقطاع للتدريس،

ويكون منوطًا بهم تدريس بعض العلوم مجانًا أو في مقابل مكافأة وقتية أو

مستمرة، يقرون على ما هم عليه بقدر الحاجة إليهم.

ولا يعين أحد منهم الآن بهذه الكيفية إلا للضرورة القصوى وبشرط

رضاء المصلحة التي يكون موظفًا فيها.

* * *

(الفصل الثاني)

في أحكام وقتية خاصة

(المادة الحادية والخمسون بعد المائة)

استثناء من النصوص السابقة تطبق الأحكام الآتية على طلبة الجامع

الأزهر المنتسبين فيه وقت وجوب العمل بهذا القانون.

* * *

(المادة الثانية والخمسون بعد المائة)

العلوم التي تدرس في الجامع الأزهر للطلبة الموجودين به وقت وجوب

العمل بهذا القانون، ماعدا طالبي الانتساب في السنة الأولى الذين يقبلون

بالتطبيق لنصوصه هي الآتية:

أولاً - العلوم الدينية وهي؛ الفقه وحكمة التشريع والتوثيقات الشرعية

وأصول الفقه والتفسير والحديث ومصطلح الحديث والسيرة النبوية والأخلاق

الدينية والتوحيد.

ثانيًا - علوم اللغة وهي؛ النحو والوضع والصرف والمعاني والبيان

والبديع والعروض والقافية والخط والإملاء والإنشاء.

ثالثًا - العلوم الرياضية وغيرها وهي؛ المنطق وآداب البحث والحساب

والجبر والجغرافيا والتاريخ ومبادئ الهندسة.

يخصص مجلس إدارة الجامع الأزهر لكل سنة العلوم التي تدرس فيها،

والمدرسين الذين يدرسونها، ويضع جدولاً بأوقات الدروس وعددها في كل

يوم، ويراعى في ذلك تخصيص أوسع الأوقات؛ لتدريس العلوم الدينية،

وكذلك يرتب الطلبة في السنين باعتبار السنوات التي يكونون قضوها في طلب

العلم إلى وقت وجوب العمل بهذا القانون، ويجوز له بناء على طلب يقدم من

الطالب نفسه أن يضعه في سنة أدنى من السنة التي يجب وضعه فيها؛ طبقًا

لهذه القاعدة.

* * *

(المادة الرابعة والخمسون بعد المائة)

يعين مجلس الإدارة من بين العلماء المدرسين بالجامع الأزهر من يكل

إليهم تفقد سير التدريس وانتظام الطلبة، وله أن يعفيهم من جميع الدروس

المكلفين بها أو من بعضها.

وذلك بدون إخلال بوسائل المراقبة الأخرى.

* * *

(المادة الخامسة والخمسون بعد المائة)

على العلماء المعينين لمراقبة التدريس وانتظام سير الدروس أن يتعهدوا

الطلبة وقت تلقيهم إياها، ويقدموا لمجلس الإدارة في كل خمسة عشر يومًا

تقريرًا؛ بما يتبين لهم من حالة التدريس وانتظام الدروس في أوقاتها، وقيام

المدرسين والطلبة بما هو واجب عليهم.

* * *

(المادة السادسة والخمسون بعد المائة)

على مجلس الإدارة أن يتخذ جميع الوسائل المؤدية إلى ما يراه نافعًا

للتدريس من الوسائل التي يشير بها المراقبون أو التي يستنبطها من تقاريرهم.

* * *

(المادة السابعة والخمسون بعد المائة)

يخصص مبلغ في الميزانية لشراء ما يلزم من أدوات الدراسة والكتب؛

لتصرف إلى الطلبة الفقراء مجانًا.

ولا يعطى لواحد منهم من الكتب إلا ما هو مقرر تدريسه بحسب السنين.

* * *

(المادة الثامنة والخمسون بعد المائة)

تمتحن الطلبة في كل سنة بمعرفة أساتذتهم تحت ملاحظة المراقبين ومن

يعينه مجلس الإدارة لمساعدتهم في ذلك، ويقدم كل مدرس كشفًا بنتيجة

امتحان طلبته لمشيخة الأزهر.

* * *

(المادة التاسعة والخمسون بعد المائة)

يكون امتحان التلامذة السنوي في الكتب وفي المقادير المقرر تدريسها

في السنة.

* * *

(المادة الستون بعد المائة)

النهاية الكبرى لدرجات الامتحان السنوي عشرون والصغرى اثنا عشر،

وكل طالب لم ينل النهاية الصغرى في كل علم من العلوم يعتبر ساقطًا.

* * *

(المادة الحادية والستون بعد المائة)

يترتب على سقوط الطالب في الامتحان السنوي عدم الترخيص له

بحضور دروس السنة التالية.

وعليه أن يؤدي الامتحان مرة ثانية في نهاية السنة الثانية، فإذا لم ينجح

أيضًا محي اسمه من سجلات الأزهر.

وإن نجح جاز له تلقي دروس السنة التي تلي سنته.

ولا يجوز أن يتكرر ذلك من ثلاث مرات لطلبة قسم شهادة الأهلية، ولا

أكثر من مرتين لطلبة قسم شهادة العالمية.

* * *

(الفصل الثالث)

في امتحان الشهادات

(المادة الثانية والستون بعد المائة)

ينقسم امتحان الشهادات إلى قسمين:

القسم الأول يكون بعد مضي ثمان سنوات على الأقل وإحدى عشرة سنة على

الأكثر من وقت الانتساب بالجامع الأزهر، ويكون في الفقه والتوحيد والمعاني

والبيان والبديع والنحو والصرف، وشيء من التفسير والحديث والسيرة النبوية،

والحساب والخط والإملاء والإنشاء.

والثاني بعد مضي اثنتي عشرة سنة على الأقل وسبع عشرة سنة على

الأكثر من التاريخ المذكور أيضًا، ويكون في جميع العلوم المبينة في المادة

الثانية والخمسين بعد المائة.

والامتحان واجب على كل طالب قضى في الأزهر إحدى المدتين

المذكورتين، مع مراعاة ما هو منصوص عليه في المادة السابقة والمادة

الثالثة والخمسين بعد المائة.

* * *

(المادة الثالثة والستون بعد المائة)

من نجح في الامتحان المنصوص عليه في الفقرة الأولى من المادة

السابقة، يعطى شهادة تسمى - شهادة الأهلية - وهي تؤهله لأنْ يستمر في

الدراسة إلى أن ينال شهادة العالمية، مع مراعاة ما هو مدون في المادتين

الثانية والستين بعد المائة والسادسة والستين بعد المائة.

وكذلك يكون أهلاً للتعيين في الوظائف المنصوص عليها في المادة

التاسعة والخمسين، مع مراعاة نص المادة السادسة والستين بعد المائة.

***

(المادة الرابعة والستون بعد المائة)

من نجح في الامتحان النهائي ينل شهادة العالمية، وتؤهل الشهادة

المذكورة لما هو منصوص عليه في المادة الستين، مع مراعاة نص المادة

السادسة والستين بعد المائة.

* * *

(المادة الخامسة والستون بعد المائة)

إذا أقام طالب أقصى المدة المحددة لأي قسم من القسمين المذكورين في

المادة الثانية والستين بعد المائة، ولم يحصل على شهادة هذا القسم يمحى

اسمه من السجلات، وتقطع مرتباته التي كانت له بمقتضى كونه منتسبًا.

* * *

(المادة السادسة والستون بعد المائة)

طلبة الامتحان لنيل الشهادة الأهلية والعالمية الذين أتموا دراسة السنة

الرابعة عند وجوب العمل بهذا القانون، يعافون من الامتحان في مواد الإنشاء

والآداب البحث وتقويم البلدان والتاريخ والهندسة والتوثيقات الشرعية، إلا إذا

رغبوا الامتحان على مقتضى ما هو منصوص عليه في هذه الأحكام الوقتية.

وأما الطلبة الذين انتهت مدة دراستهم بالجامع الأزهر والجامع الأحمدي

قبل وجوب العمل بهذا القانون، فيعافون أيضًا من الحساب والجبر.

ومن أدى الامتحان على مقتضى هذه الأحكام الوقتية، يفضل على غيره.

* * *

(المادة السابعة والستون بعد المائة)

تلغى القوانين والأوامر والإرادات السنية المبينة بالملحق المرفق بهذا

القانون.

* * *

(المادة الثامنة والستون بعد المائة)

على رئيس مجلس نظارنا تنفيذ هذا القانون، ويتم العمل بجميع نصوصه

في أول السنة الدراسية المتداخلة في سنتي 1329 - 1330 (1911 -

1912) صدر بسراي رأس التين في 14 جمادى الأولى سنة 1329 (13

مايو سنة 1911) .

...

...

...

... عباس حلمي

...

...

...

... بأمر الحضرة الخديوية

...

...

...

... رئيس مجلس النظار

...

...

...

... محمد سعيد

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما نشر في الجزء الأول (ص 601) .

ص: 681

الكاتب: محمد سعيد

‌ملحق بقانون الجامع الأزهر

والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية

النصوص الملغاة

23 ذي القعدة سنة 1288 (3 فبراير سنة 1872) إرادة سنية بإنفاذ

قانون التدريس.

7 جمادى الثانية سنة 1302 (24 مارس سنة 1885) قانون امتحان

من يريد التدريس بالجامع الأزهر.

7 محرم سنة 1303 (15 أكتوبر سنة 1885) قرار من مجلس النظار

بضبط أعداد أهل الجامع الأزهر، والشروط المعتبرة في شأن التبعية وكيفية

ما يجري في ذلك.

6 جمادى الأولى سنة 1305 (3 يناير سنة 1887) أمر عال شامل

لقانون امتحان التدريس.

7 رجب سنة 1312 (3 يناير سنة 1895) إرادة سنية بتشكيل مجلس

إدارة الأزهر.

21 رجب سنة 1312 (17 يناير سنة 1895) أمر كريم شامل لقانون

امتحان من يريد التدريس بالجامع الأزهر.

6 محرم سنة 1313 (29 يونية سنة 1895) قانون صرف المرتبات

بالجامع الأزهر.

17 شعبان سنة 1213 (أول فبراير سنة 1896) قانون كساوى

التشريف.

20 محرم سنة 1413 (أول يولية سنة 1896) قانون الجامع الأزهر.

2 صفر سنة 1326 (5 مارس سنة 1908) قانون الجامع الأزهر وما

شاكله من المدارس العلمية الدينية الإسلامية (قانون نمرة 1 سنة 1908) .

22 محرم سنة 1327 (20 فبراير سنة 1909) إرادة سنية بإيقاف

العمل مؤقتًا في الأزهر بالنظام الجديد والرجوع إلى قوانين سنة 1312 وسنة

1324.

4 شوال سنة 1327 (15 أكتوبر سنة 1909) إرادة سنية بالموافقة

على إعادة العمل بمقتضى قانون سنة 1326 تدريجًا.

23 رمضان سنة 1328 (27 سبتمبر سنة 1910) إرادة سنية

باعتماد نظام مؤقت للسير على موجبه بالجامع الأزهر في السنة التي تبتدئ

من 11 شوال سنة 1328 هجرية.

_________

ص: 693

الكاتب: أمين المعلوف

‌الكوليرا [*]

كثر تحدث الناس هذه الأيام بالكوليرا ولا غرابة في ذلك؛ لأنها من أشد

الأمراض فتكًا بالبشر، وقد صارت منا على قاب قوسين أو أدنى، فرأيت أن أكتب

شيئًا عنها معولاً في ذلك على أحدث ما كتب في هذا الموضوع، وأقتصر على ذكر

ما يهم معظم القراء معرفته من تاريخ هذا الداء وانتشاره وأسبابه وعدواه وأعراضه

وتشخيصه والوقاية منه، وأحاول أن أوضح ذلك كله أيضًا بأسلوب يفهمه جمهور

القراء.

(أسماؤها)

لهذا الداء على حداثة العهد به في الأنحاء الغربية من المعمورة أسماء كثيرة

أشهرها الكوليرا، وهي لفظة يونانية منحوتة من كلمتين معناهما جريان الصفراء،

وقد أطلقها أطباء اليونان قديمًا على الداء المعروف بالهيضة عند أطباء العرب،

وهي شبيهة جدًّا بالكوليرا الأسيوية، وسببها في الغالب خلل في الهضم، وربما

كان بعضها ناشئًا عن مكروبات لا تزال مجهولة.

وأهم أعراضها القيء والإسهال، وقد تنتهي بالموت، فيتعذر حينئذ تمييزها

عن الكوليرا الأسيوية بغير الفحص البكتيريولوجي، ومن هذا القبيل حادثة باب

الشعرية والحوادث الأخرى التي اشتبه فيها أطباء الصحة والكورنتينات، فلم

يجزموا بصحة التشخيص قبل الفحص البكتريولوجي، وحسنًا فعلوا بالرغم من انتقاد

بعض الكتاب؛ لأن التمييز بين هذين الدائين قد يستحيل بغير هذا الفحص،

علاوة على أن المسؤولية الكبيرة التي تلقى على هؤلاء الأطباء تجعلهم شديدي الحذر

والريب.

وقد غلب اسم الكوليرا على هذا الداء الوافد الخبيث، ولكن الأطباء يميزون

بين الداءين بقولهم كوليرا أسيوية أو وافدة أو هندية وكوليرا منفردة أو محلية،

ويراد بالكوليرا المنفردة الداء المعروف بالهيضة عند أطباء العرب؛ لذلك أطلق

بعض أطبائنا اسم الهيضة الوافدة أو الأسيوية على الداء المعروف بالكوليرا

الأسيوية عند الإفرنج، وهي تسمية عربية صحيحة.

ومن أسمائها الهواء الأصفر، وهو أكبر شيوعًا في الشام منه في مصر،

ولعله سمي بذلك في أوائل القرن الماضي؛ لاعتقاد الناس في تلك الأيام أن منشأه

تغيره في الجو أو الهواء.

(تاريخها ومنشؤها)

لم تكن الكوليرا معروفة عند أطباء اليونان والعرب، ولم يذكر التاريخ أنها

تجاوزت حدود الهند وبعض الجزر المجاورة لها قبل أوائل القرن الماضي. وهي

قديمة جدًا في الهند، ذكرها كتابهم منذ أكثر من ألفي سنة. ولم يذكر مؤلفو العرب

في ما أعلم شيئًا عنها، فليست الهيضة كما مر ولا هي الوباء، ويراد به الطاعون

في المؤلفات العربية طبية كانت أو تاريخية، على أن لفظة الهيضة شبيهة جدًّا

بلفظ (هيجة) وهي اسم الكوليرا بلغة الهند، فهل أخذ أطباء العرب هذه اللفظة عن

الهنود أو هو أصلي في العربية؟ تلك مسألة تستحق البحث والنظر.

وقد كان أول عهد الإفرنج بالكوليرا في أوائل القرن السادس عشر أي بعد

دخول البرتغاليين والإنكليز إلى الهند، على أنها لم تحول أنظارهم إليها حينئذ؛

لأنها كانت مستقرة هناك شديدة الفتك والانتشار، فلما كانت سنة 1817 انتشرت

انتشارًا هائلاً في الهند، وفتكت بأهلها فتكًا ذريعًا، ثم أخذت في الانتقال حتى بلغت

الصين واليابان شمالاً وجزر المحيط الهندي جنوبًا، وسارت غربًا فدخلت بلاد

إيران إلى أن وصلت سنة 1823 إلى بر الأناضول وشمال سورية ثم توقف سيرها،

ولم تتجاوزهما إلى أوربا ولا إلى الحجاز أو مصر.

ثم حدثت وافدة أخرى سنة 1830، ففشت الكوليرا في بلاد أفغانستان وإيران،

ودخلت روسيا عن طريق استراخان، وأخذت تنتشر في أوربا فبلغت ألمانيا

وفرنسا والنمسا وأسبانيا، ووصلت إلى بلاد الإنكليز سنة 1831، وانتقلت من

أوربا إلى أميركا ولم يتقلص ظلها عن أوربا قبل سنة 1839، وأما في المملكة

العثمانية فقد كان انتشارها هائلاً، دخلت الحجاز عن طريق العراق وانتقلت إلى

الشام ومصر وشمال أفريقيا، وكان ذلك سنة 1831، وهي أول مرة عرف فيها

هذا الداء في الحجاز ومصر والأماكن التي لم يدخلها قبلاً في الشام.

ثم أخذت الوافدات تتوالى بعد ذلك فكان عددها كلها في مصر تسع وافدات

وهي؛ وافدة 1831 وفدت مع الحجاج، ووافدة سنة 1838 جاءتها من أوربا،

ووافدة سنة 1848 فشت أولاً في طنطا ولا يعلم من أين جاءتها، ووافدة سنة

1850 وفدت مع الحجاج، ووافدة سنة 1855 وفدت مع الحجاج، ووافدة سنة

1865 فشت في البلاد بعد رجوع الحجاج وكانت أشدها فتكًا، ووافدة سنة 1883

فشت أولاً في دمياط ويظن أنها انتقلت إليها من الهند ووافدة سنة 1896 وفدت مع

الحجاج، ووافدة سنة 1902 وهي الأخيرة فشت في موشه من قرى الصعيد بعد

رجوع الحجاج، وعسى أن تكون هذه آخر الوافدات.

أما الحجاز فكان عدد الوافدات تسع عشرة وافدة أشدها فتكًا وافدة سنة 1865

وقد كانت أيضًا أشد وافدات الشام فتكًا.

والكوليرا متوطنة في الهند لاسيما في بنغال السفلى أي: وادي نهر الكنج،

فإنها مستقرة هناك لا تنقطع ألبتة. وهذه الأماكن التي تكون الأوبئة مستقرة فيها

كالطاعون والكوليرا تسمى في عرف الأطباء بؤر جمع بؤرة، وهي في اللغة

موضع النار، فاستعارها أطباؤنا لما يسميه الإفرنج Foyer أو Focus وهما

بمعنى البؤرة تمامًا أي: موضع النار، ويريد بهما علماء الطبيعيات نقطة تجمع

النور أو الحرارة، والأطباء نقطة تجمع الداء، وللطاعون بؤر كثيرة منها مصر

على زعم بعضهم. وللكوليرا ثلاث بؤر غير البؤر التي في الهند وهي؛ كانتون

وشنغاي وبانكوك، ويقال: إنها قلما تنقطع من هذه المدن الثلاث في أشهر الصيف،

على أن أهم بؤرة لها وادي الكنج كما مر.

وتشتد الكوليرا في بعض السنين لأسباب لا تزال غامضة، فتنتشر من البؤر

التي تكون مستقرة فيها وتنتقل من بلد إلى آخر. فليس الخوف منها هذه السنة لأنها

قريبة منا فقط، بل لأنها سريعة الانتشار على ما يظهر.

الطرق التي تدخل منها إلى الشام والحجاز ومصر ثلاث: طريق البحر

الأحمر، وطريق إيران والعراق وطريق أوربا. على أنها لم تدخل الحجاز إلا من

طريق البحر الأحمر مع الحجاج الهنود وطريق إيران والعراق.

***

(2)

(انتقالها)

تنتقل الكوليرا مع الناس فتسير في طرق المواصلة التي يسيرون فيها،

وسرعة انتقالها متوقف على سرعة انتقالهم، فقد كان سيرها بطيئًا قبل زمن سكك

الحديد والبواخر، أما الآن فهي سريعة الانتقال جدًّا. وتظهر غالبًا في المواني

البحرية أو الأماكن التي تحتشد فيها الناس؛ لإقامة المواسم والأسواق، لكن ذلك

ليس مضطردًا، فالوافدة الأخيرة التي فشت في هذا القطر كان ظهورها أولاً في

قرية من قرى الصعيد.

وهي غير منتظمة في سيرها، فقد تتخطى عدة أماكن على طرق المواصلة،

وتفشو في غيرها كما حدث سنة 1902، فإنها تخطت مدنًا كثيرة في صعيد مصر،

وفشت في حلفا، فإذا لا سمح الله دخلت القطر وفشت في الإسكندرية مثلاً، فقد

تظهر في مدينة من مدن الصعيد قبل ظهورها في القاهرة.

والعزلة تقي منها، فإن بعض الجزر في المحيط الهندي وغيره لم تدخلها

الكوليرا قط، وكذلك أستراليا ونيوزيلاندا وغرب أفريقية ومواضع كثيرة من

السودان، فإنها فتكت بالجيش المصري سنة 1896، لكنها لم تنتقل إلى الأماكن

التي كان العدو مقيمًا فيها لقلة المواصلة.

ويقال بالإجمال: إن السواحل البحرية والأماكن المطمئنة الرطبة على مقربة

من الأنهار والمزدحمة بالسكان أكثر تعرضًا لها من الأماكن المرتفعة الجافة مثل قرى

جبل لبنان والأماكن البعيدة عن النيل. وقد قيل لي: إنه حالما ابتعد الجيش

المصري عن النيل سنة 1896 وخيم في الصحراء قلت الإصابات كثيرًا بين

العساكر ثم انقطع الداء تمامًا.

والماء أعظم وسائل نقل الكوليرا، والأدلة على ذلك كثيرة، فمدينة بيروت

مثلاً لم تنتشر فيها الكوليرا منذ سنة 1875، مع أنها فشت بعد ذلك في مدن كثيرة

من مدن الشام كدمشق وطرابلس وغيرهما، وكانت تحدث إصابات في محجرها

وفي المدينة نفسها كلما فشت الكوليرا في القطر المصري أو غيره من البلدان

المجاورة، لكن الداء لم ينتشر فيها قط؛ لنظافة مائها وصعوبة تلوثه بخلاف دمشق

وحِمْص وحماة وطرابلس وغيرها من مدن الشام.

أما في القطر المصري، فيستبعد تلوث الماء الذي توزعه الشركات في

البيوت. والخوف ليس منه بل من استقاء الماء من الآبار والترع والنيل قرب الشاطئ

، أو من تلوث الآنية التي يوضع الماء فيها كالأزيار لاسيما هذه الأزيار القذرة التي

نراها على جوانب الشوارع في القاهرة، فإن زيرًا واحدًا من هذه الأزيار قد يكون

سببًا لهلاك مئة نفس إذا تلوث بجراثيم الداء. وقد فتكت الكوليرا سنة 1902 ببعض

أهل القاهرة، وكان عدد الجنود المصريين فيها نحو ثلاثة آلاف لم تحدث بينهم

إصابة واحدة؛ لأنهم عزلوا في ضواحي المدينة، واعتني اعتناءً تامًا بالماء الذي

كانوا يشربونه، وهذا كان شأن الجنود الإنكليزية فيها، وإنما أصيب منهم جندي أو

اثنان شربا ماءً في إحدى فهوات المدينة على ما أتذكر.

(سببها)

لم يكن سبب الكوليرا معروفًا قبل وافدتها التي فشت في مصر سنة 1883،

فانتدبت الحكومة الألمانية حينئذ لجنة رئيسها الدكتور كوخ، وأرسلتها إلى مصر

للبحث عن سبب هذا الداء، فاكتشف الدكتور كوخ في مبرازت المصابين وأمعاء

المتوفين منهم مكروبًا، ترجح له أنه مكروب الكوليرا، لكنه لم يجزم بذلك قبل أن

سافر إلى الهند موطن هذا الداء، ووجد المكروب نفسه في مبرازت المصابين هناك

أيضًا، فتحقق لديه أنه سبب الداء. ولكن هذا المكروب لم يستوف الشروط الأربعة

التي كان كوخ قد سبق فوضعها؛ ليثبت أن مكروبًا معلومًا يسبب مرضًا معلومًا،

ولكن الأدلة الأخرى كثيرة على أنه علة الكوليرا.

***

(3)

(مكروبها)

لقد مر بنا أن سبب الكوليرا نوع من المكروبات اكتشفه كوخ في مصر سنة

1883.

وليس غرضي الآن البحث في هذا المكروب بحثًا علميًّا وافيًا، ولا ذكر

المشاحنات التي قامت بسببه، بل غاية ما أريد إيضاح شيء عنه لغير الأطباء؛

لأن الوقاية من الأمراض المعدية تقتضي معرفة ماهية المكروبات المسببة لها،

فأقول: المكروبات أحياء صغيرة جدًّا لا ترى بالعين المجردة أي: بغير الآلة

المعروفة بالمكرسكوب، ولشدة صغرها لا يقاس طولها وعرضها بالمقاييس المعتادة

بل بمقياس خاص بها يعرف بالمكرومليمتر أي المليمتر الصغير، وهو جزء من

ألف جزء من المليمتر أو جزء من مليون جزء من المتر، ويعبر عنه بالحرف

اليوناني الذي يقابل حرف الميم بالعربية، فلا بأس بالتعبير عنه بحرف الميم في

لغتنا، فيقال: إن مكروب التدرن مثلاً طوله ثلاث ميمات أي: ثلاثة أجزاء من

ألف من المليمتر. ومكروب الكوليرا نوع من هذه الأحياء الصغيرة، وهو أصغر

عن باشلس التدرن لكنه ليس أقل منه خبثًا، طوله من ميم ونصف إلى ميمين،

وعرضه نحو نصف ميم، فإذا فرضنا أننا وصلنا واحدًا منه بآخر وهذا بآخر وهلم

جرا، حتى يكون من هذه المكروبات حبل طوله مليمتر واحد فقط لاقتضى لذلك

خمسمائة مكروب على الأقل. وإذا وضعنا حبلاً من الحبال بجانب حبل آخر ثم

آخر بجانب هذا وهلم جرا، حتى تصير الحبال مليمتر مربع، لاقتضى ذلك مليون

ميكروب أي: أن مليونًا من هذه المكروبات الواحد منها بجانب الآخر لا تزيد

مساحة سطحها على مليمتر مربع. فتأمل كم يكون عددها في المليمتر المكعب أو

في زير من أزيار الماء في بركة أو صهرج، وكم يعلق منها على أصبع واحدة إذا

تلوثت ببراز المصابين. فمتى عرفنا ذلك سهل علينا أن نفهم كيف يتلوث الماء

بمكروب الكوليرا. فإذا فرضنا أن الواحد منا لمس مصابًا أو لمس ثيابه، وكان

على المصاب أو على ثيابه أثر من برازه؛ ثم على غير انتباه منه أخذ إناءً وغمسه

في زير الماء ليملأه منه، فإن الزير يتلوث بالمكروبات لا محالة. والمكروبات

سريعة النمو جدًا إذا وافقتها الأحوال، فلا تمضي بضع ساعات حتى يصير في

الزير ملايين منها. ومثلها لو فرضنا أن براز المصاب طرح في بركة ماء أو في

ترعة أو على شاطئ النيل، حيث يكون الماء بطيء الجري، أو لو غسلت ثياب

المصاب في هذه الأماكن أو طرحت فيها فإنها تتلوث بالداء، وتكون سببًا في انتقاله

من شخص إلى آخر.

أما شكل هذا المكروب فهو كالضمة العربية؛ لذلك يعرف عند بعضهم

بالباشلس الضمي، وقد يكون هلالي الشكل، وربما التصق اثنان منه فيصيران مثل

شكل حرف S الإفرنجي، وقد تتصل أفراد كثيرة منه فتصير خيوطًا كاللوالب

ومقر الباشلس في الأمعاء فقط، فإنه لم يعثر عليه في غيرها من أنسجة

الجسم، ولم ير إلا في محتوياتها، وقيل: إنه عثر عليه في القيء أحيانًا، على أن

ذلك نادر، وربما كان القيء في مثل هذه الأحوال مختلطًا بالبراز.

***

(كيفية إثبات الداء)

قلنا: إن مكروب الكوليرا يكون في الأمعاء بالبراز، فإذا اشتبه أطباء الصحة

بإصابةٍ، أخذوا شيئًا من هذا البراز وفحصوه بالمكرسكوب، فإذا كانت المكروبات

كثيرة جدًّا عثروا عليها حالاً وعرفوها ببعض الصفات الخاصة بها دون غيرها،

ويتفق أحيانًا أنهم لا يعثرون على شيء منها، فلا يكون ذلك دليلاً على أن الإصابة

المشتبه فيها ليست بالكوليرا أو أن المكروبات غير موجودة، فعدم رؤيتها ليس دليلاً

على عدم وجودها؛ لأنها قد تكون قليلة جدًّا، فلا يعثر عليها، فيلجؤون حينئذ إلى

الفحص البكتريولوجي القائم على المبدأ الآتي: وهو أن المكروبات تنمو في بعض

المواد كالجلاتين والمرق، ولها في نموها خواص يميز بها النوع الواحد منها على

غيره، فمتى نمت في هذه المواد كثرت جدًّا، وانفصل كل نوع منها على حدة

وعرف بهذه الخواص وبغيرها، ولكن هذا الفحص يستغرق بعض الزمن من ست

ساعات إلى يومين أو ثلاثة.

ثم إن مصلحة الصحة لا تكتفي بفحص براز المصابين فقط، بل تفحص

براز الذين اختلطوا بهم؛ خوفًا من وجود المكروب في أمعائهم قبل ظهور الداء فيهم؛

لأن بعض الأمور المختصة بهذا الداء لا تزال غامضة، ويظن أن بعض الناس

القادمين من الأماكن الموبوءة، قد يكون الداء كامنًا فيهم لا تظهر أعراضه. وربما

كان أمثال هؤلاء الناس سببًا لانتشار الوباء، وقد ثبت هذا الأمر في الحمى

التيفودية، فإن مكروبها قد يكون في أمعاء شخص غير مصاب بها، فينتقل منه إلى

شخص آخر، ويكون سببًا لإصابته بها.

***

(4)

(هل الباشلس الضمي وحده علة الكوليرا)

مما لا شبهة فيه أن الكوليرا مرض شديد العدوى، وأن للباشلس الضمي

علاقة كبيرة به، لكن ذلك ليس دليلاً على أن هذا الباشلس هو سببه الحقيقي، فإنه

لم يستوف الشروط الأربعة التي وضعها كوخ؛ ليثبت أن مكروبًا معلومًا يسبب

مرضًا معلومًا. والشروط هي هذه:

أولاً - يجب إثبات وجود المكروب في دم المصاب أو أنسجته.

ثانيًا - يجب زرع هذا المكروب خارج الجسم في منبت يصلح له، والحصول

على نبت خالص منه بعد أعقاب متوالية.

ثالثًا - إذا أدخل هذا النبت إلى جسم حيوان سليم، يجب أن يصيبه الداء

المذكور.

رابعًا - يجب إثبات وجود المكروب في جسم الحيوان الذي أدخل إليه أو في

أنسجته.

فمكروب الكوليرا قد استوفى الشرطين الأولين ولم يستوف الشرطين

الأخيرين استيفاء تامًّا؛ إذ لا بد لاستيفائهما من إيصال نبت خالص من المكروب

إلى الإنسان أو غيره من الحيوان وإصابته بالداء، وهذا لم يتم حتى الآن في بعض

حوادث. على أن العلاقة بين الباشلس الضمي وبين الكوليرا من الأمور الثابتة.

وغاية ما يهم الجمهور معرفته أن الكوليرا من الأمراض المعدية، وأن عدواها

تنتقل بالبراز، سواء كان هذا الباشلس هو سببها الحقيقي وحده أو كان له أعوان

يساعدونه على ذلك.

ولا بأس بذكر بعض الحقائق التي اتضحت بعد اكتشاف هذا الباشلس، وهذه

أهمها:

(1)

اكتشفت أنواع كثيرة من الباشلس شبيهة بالباشلس الضمي في بنائها

ونموها أهمها: باشلس الهيضة الفردية، وباشلس اللعاب الضمي. ويرى كوخ

وأنصاره أن هذه الميكروبات وإن كانت شبيهة بالباشلس الضمي في بنائها، فهي

مختلفة عنه في نموها في المنابت المعروفة.

(2)

شرب كثير من الباحثين نبتًا خالصًا من الباشلس الضمي على سبيل

التجربة، فأصيب بعضهم بإسهال خفيف، وعثر على الباشلس في برازهم، لكنه

لم يصب أحد منهم بأعراض تشبه أعراض الكوليرا الحقيقة إلا فيما ندر؛ لذلك

يرى بعضهم أن الباشلس الضمي ليس هو المكروب الحقيقي الذي يسبب هذا الداء

فرد قولهم بأنه لا بد من عوامل أخرى تساعد الباشلس الضمي على إحداث الكوليرا؛

كاستعداد الجسم أو اشتراك مكروب آخر لا يزال مجهولاً في العمل معه. ولا يخفى

أيضًا أن المكروبات إذا كرر زرعها ضعفت كثيرًا، فربما كانت المكروبات التي

جربت قد تلاشت قواها.

(3)

حدثت إصابات لا تختلف في أعراضها عن الكوليرا قط، ولم يعثر

على الباشلس فيها بالرغم من شدة العناية في البحث عنه؛ لذلك يرى بعضهم أن

الكوليرا قد يكون سببها غير الباشلس المذكور. ورد قولهم بأن البحث في مثل هذه

الإصابات لم يكن وافيُا، وإن عدم العثور على الباشلس ليس دليلاً على عدم وجوده

(4)

عثر على هذا الباشلس في براز أشخاص غير مصابين بالكوليرا،

ففسر بعضهم ذلك بأنه لا بد من استيفاء شروط أخرى للإصابة بهذا الداء، ولم تكن

هذه الشروط مستوفاة في هؤلاء الأشخاص.

(كيفية فعل الباشلس في إحداث الكوليرا)

قلنا: إن مقر الباشلس في الأمعاء فقط، وعلى فرض أنه سبب الكوليرا

الحقيقي، فأعراضها المعروفة ناشئة عن تهييج موضعي في الأمعاء وعن سم خاص

يفرزه الباشلس فيها ويمتصه الجسم، فيؤثر في بعض الأعصاب، ويحدث القيء

واعتقال العضلات وانقباض الأوعية الدموية على سطح الجسم والتهور الجليدي

والزرقة.

(مدة الحضانة)

يراد بالحضانة أو التفريغ الزمن الذي ينقضي بين التعرض للعدوى أو دخول

المكروب إلى الجسم وظهور أعراض الداء، فمدة الحضانة في الجدري مثلاً من

عشرة أيام إلى اثني عشر يومًا أي: أنه إذا دخل سليم على مصاب بالجدري

وانتقلت إليه العدوى، لا تظهر فيه أعراض الداء قبل مضي عشرة أيام إلى اثني

عشر يومًا. فمدة الحضانة في الكوليرا تختلف كثيرًا، وهي من بضع ساعات إلى

عشرة أيام، لكنها على الغالب من ثلاثة أيام إلى ستة أيام.

* * *

(5)

(الوقاية منها)

الوقاية من الكوليرا قسمان: وقاية عامة أو إدارية، وهي ما تتخذه الحكومة

من التدابير لمنع دخول الداء إلى البلاد أو انتشاره فيها. ووقاية خاصة أو شخصية

وهي ما يتخذه الأفراد من الوسائل التي تمنع انتقال العدوى إليهم.

(الوقاية العامة)

أهمها التدابير التي تتخذها الحكومة في المواني والثغور؛ لمراقبة القادمين من

الأماكن الموبوءة والحجر عليهم وعزل المصابين منهم، ومن التدابير الحجر

الصحي أو الكورنتينا، وكان يراد بها قديمًا الحجر أربعين يومًا على القادمين من

الأماكن الموبوءة بالطاعون.

وأول حكومة فعلت ذلك حكومة البندقية، فإنها أقامت محجرًا صحيًّا سنة

1403 في إحدى الجزر القريبة منها وقاية من الطاعون، ثم حذت الحكومات

الأخرى حذوها إلى أن فشت الكوليرا في أوربا سنة 1831، ففعلت مثل ذلك

لاتقائها، وما برحت تفعل ذلك إلى أن اتضح لبعضها أن هذا الحجر يعرقل التجارة

ويوقع البلاد في خسارة كبيرة، وأنه لم يكن كافيًا لدفع الوباء في كثير من الأحيان،

فأخذت الحكومة الإنكليزية تقلل من هذا التضييق على البضاعة والركاب، إلى أن

ألغت الحجر إلغاءً تامًّا سنة 1896، وسنت نظامًا خاصًا للسفن القادمة من الأماكن

الموبوءة.

وكانت الحكومات الأوربية تعقد المؤتمرات لدفع الأوبئة التي قد تدخل أوربا

من الشرق، وأول مؤتمر عقدته لهذه الغاية كان سنة 1852 وآخرها سنة 1897،

وهذا الأخير كان للبحث في أمر الطاعون فقط. وكانت نتيجة هذه المؤتمرات أن

الحكومات الأوربية عدلت عن التضييق الشديد على البضائع والركاب، واتخذ

بعضها التدابير المتبعة في بلاد الإنكليز، وبقي بعضها يضرب الحجر الصحي على

واردات الأماكن الموبوءة. فالحكومات التي لا تزال تضرب الحجر الحجر الصحي

هي الدولة العلية ومصر وحكومة اليونان وروسيا وأسبانيا والبرتغال. أما

الحكومات الإنكليزية فتضرب الحجر الصحي في بعض أملاكها فقط؛ ومنها قبرص

ومالطة وجبل طارق في البحر المتوسط، وتكتفي في موانيها الأخرى بمراقبة

القادمين فتحجر على السفن التي حدثت فيها إصابات مدة سفرها إلى أجل مسمى،

وتنقل المصابين إلى مستشفيات خاصة، ثم تطهر السفن وتراقب القادمين خمسة

أيام في منازلهم.

وأهم المؤتمرات التي عقدت في أمر الكوليرا مؤتمر البندقية سنة 1892،

وكان الغرض منه النظر في أمر دخول الكوليرا إلى أوربا بطريق السويس ،

ومؤتمر درسدن سنة 1893، وكانت الغاية منه البحث في انتشار الكوليرا في

البلدان الأوربية ، ومؤتمر باريس سنة 1894 للنظر في أمر الكوليرا في زمن الحج،

وأهم هذه المؤتمرات مؤتمر درسدن، ولا يزال معمولاً بقرارته حتى الآن.

وللحكومة المصرية قانون خاص للمحاجر بوجه عام، وقانون آخر للحجر

الصحي في زمن الكوليرا، وهو مبني على قرارات مؤتمر درسدن وباريس،

وهاك ما يهم الجمهور الاطلاع عليه من مواد مؤتمر درسدن والقانون المصري:

أولاً - على الحكومات الموقعة لاتفاق درسدن أن يُعْلم بعضها بعضًا؛ متى

فشت الكوليرا في إحدى مقاطعاتها، وتواصل الأخبار عن سير الداء مرة في

الأسبوع على الأقل.

ثانيًا - تعد إحدى المقاطعات ملوثة متى أعلن رسميًّا حدوث إصابات فيها،

وتعد نظيفة متى مضت خمسة أيام لم تحدث فيها وفاة أو إصابة جديدة، واتخذت

التدابير لتطهير الأماكن الملوثة.

ثالثًا - تعد السفينة ملوثة متى كان أحد ركابها مصابًا بالكوليرا عند وصولها،

أو حدثت فيها إصابات قبل وصولها بسبعة أيام على الأكثر. وتعد مشتبهًا فيها متى

حدثت فيها إصابة قبل وصولها بسبعة أيام على الأقل ، ونظيفة إذا لم تحدث فيها

إصابة أو وفاة بالكوليرا قبل سفرها وفي مدة السفر وبعد وصولها ولو كانت قادمة

من إحدى المواني الموبوءة. ويظهر أن مصلحة الصحة البحرية تعد الذين في

برازهم مكروب الكوليرا كأنهم مصابون بها، ولو لم تكن أعراض الداء ظاهرة فيهم.

رابعًا - تتخذ التدابير الآتية في معاملة السفن الملوثة:

يعزل الركاب المصابون ويبقى الآخرون تحت الحجر الصحي زمنًا لا يزيد

على خمسة أيام، وتطهر الأمتعة التي يرى رجال الصحة أنها ملوثة، ثم تطهر

السفينة.

أما السفن المشتبه فيها فتطهر، ويفرغ ماء الشرب منها ويستبدل بماء نظيف

ويستحسن الحجر على الركاب مدة لا تزيد على خمسة أيام بعد وصولهم. وقد

اشترطت الحكومة الإنكليزية أن لا يحجر على ركاب السفن الملوثة والمشتبه فيها،

بل يراقبون في منازلهم.

والسفن النظيفة يفرج عن ركابها حالاً، لكن الحكومة المصرية تراقب

القادمين من مواني البحر المتوسط في منازلهم ولو كانت سفنهم نظيفة.

خامسًا - جاء في القانون المصري أن ملابس المصابين القديمة والضمادات

الملوثة والأوراق والأشياء التي لا قيمة لها تتلف بالنار.

أما الملابس النظيفة وأدوات الفراش والأوراق ذات القيمة، فتطهر بفرن

خاص لذلك.

وجاء في مؤتمر درسدن أن الثياب القديمة والخرق وأدوات الفراش يمنع

دخولها أو تطهر. أما البضاعة فلا يجوز إتلافها عند تطهيرها، ولا يجوز تطهير

الرسائل والمطبوعات.

سادسًا - لا يحجر على الحيوانات، بل يفرج عنها حالاً بعد غسلها.

سابعًا - يجيز القانون المصري لمجلس الصحة البحرية أن يعد السفن

المزدحمة بالركاب الذين أحوالهم ليست على ما يرام؛ كأنها ملوثة أو مشتبه بها،

ولو لم تكن قادمة من أماكن موبوءة أو يكن أحد ركابها مصابًا بالكوليرا.

هذا أهم ما جاء في اتفاق درسدن والقانون المصري، ولم أر فيهما ذكرًا لمنع

الفاكهة، وهي المسألة التي تناولتها الجرائد هذه الأيام.

والمنصف لا يسعه في هذا المقام إلا الثناء على رجال الصحة البحرية؛ لما

يبذلونه من اليقظة والنشاط لوقاية البلاد من هذا الداء الوبيل، فإذا نجت البلاد منه

وستنجوا بإذن الله، يكون الفضل الأكبر في ذلك إليهم.

...

...

...

...

الدكتور أمين المعلوف

_________

(*) مقال علمي طبي صحي للدكتور أمين المعلوف، نشره في المقطم.

ص: 694

الكاتب: محمد بك رشدي

‌الإسعافات الطبية الوقتية

للمصابين بالكوليرا

للدكتور محمد بك رشدي حكيمباشي محافظة مصر

الكوليرا مرض وبائي، يصل مكروبه للجسم بواسطة المياه والمأكولات

ولا تحصل العدوى به بواسطة الهواء، وعدواه من براز المصابين أشد،

وميكروبه ينمو ويتضاعف في الأقمشة المبلولة، وهذا يفسر شدة العدوى

بالملابس الملوثة بالمواد البرازية للمصابين وانتقالها بها.

ويتضاعف أيضًا وينمو في المأكولات: كاللبن والبيض والمرق والبطاطس

المسلوق والخبز واللحوم وكافة الخضر والشكولاتة والأشربة المسكرة والمربات،

وعلى سطح الأرض الرطبة، ويعيش حيًّا في البراز مدة 24 ساعة من التبرز،

ويعيش (في البرد) لغاية درجة تحت الصفر، إنما يكون بدون حركة ثم ينمو

بارتفاع الحرارة، وعلى ذلك فالبرد يضعفه والحرارة تقويه كسائر

المخلوقات الحيوانية والنباتية.

فمتى دخل ميكروب هذا المرض في البنية بواسطة الماء أو المأكولات،

تمضي مدة من الزمن قبل ظهور أعراضه المرجفة، ويسمى هذا الزمن بدور

التفريخ، ويختلف من ثلاثة إلى خمسة أيام، وهذا في الزمن لا يحس المصاب

بشيء، ثم بعده تظهر الأعراض المرضية، وتحصل منه العدوى ببرازه.

الأعراض:

يعرف هذا المرض في مدة انتشاره بتبرز وقيء متكررين، وظمأ شديد

وتناقص في البول أو فقده، وانطفاء الصوت، وآلام شديدة بسمانة الساقين،

وبتلون الجسم بلون أزرق خصوصًا الأظافر وغور الأعين، وانحطاط شديد

في القوى، وبرودة وقشعريرة، وتكون مواد البراز سائلة شبيهة بسائل غسيل

الأرز.

الأسباب:

من ضمن الأسباب التي تساعد على حصول هذا المرض؛ الاستعداد

الشخصي والتعب والحرمان وعدم النظافة وعسر الهضم.

ثم إن تركيب طبيعة الأرض له دخل في شدة انتشاره، فكلما كانت

الطبقات السطحية للأرض ذات مسام كثيرة كان الوباء أكثر شدة وبالعكس.

وعند حصول الإصابة، توجد جواهر دوائية توقف نمو ميكروبه وتميته

كمحلول الشب واحد على مائة، وعطر النعناع الفلفل واحد على مائتين، أو

حمض اللبنيك واحد على ثلاث مئة، أو حمض الليمون واحد على مائتين،

والحرارة تميته، فالملابس الملوثة بالماء المحتوي على ميكروب هذا المرض

إذا جففت في الحرارة الكافية للتجفيف، وبحثت فيما بعد بحثًا ميكروسكوبيًّا،

لا يوجد بها أثر ميكروب هذا المرض.

الوسائط الوقتية:

يجب على كل إنسان ظهرت الإصابة في جواره أن يتحاشى مخالطة

المصاب، ويسارع إلى استدعاء الطبيب من فوره؛ ليرشده إلى ما يلزم اتخاذه

من الوسائل لنجاة المريض وسلامة غيره من عدوى هذا الوباء.

ومن المعين الاستحمام يوميًا بماء طاهر أي: مرشح مغلي (بعد تبريده)

مع تجنب الاستحمام والوضوء والشرب من ماء النيل العكر؛ لما عسى أن

يكون فيه من ميكروب الداء، وتقصير الثياب بحيث لا تصل سطح الأرض؛

اتقاء لما يمكن أن يعلق بها من الميكروبات. ومن الملاحظات الجديرة بالعناية

وجوب خلع النعال وعدم الدخول بها في محالّ الجلوس أو الاستقبال، والامتناع

عن شرب الخمر من أي نوع كان؛ لأن شرب الخمر يعين على إضعاف

المعدة.

ويجتنب السهر الطويل والتعرض للبرد والاعتدال في الأكل وعدم

الإفراط فيه، ويحسن اجتناب المصافحة باليد مع غسل اليدين قبل الطعام

وبعده وقص الأظافر، ويتعين الامتناع عن أكل الخضر غير المطبوخة؛

كالجرجير والفجل والأسماك البحرية كأم الخلول والجنبري ونحوها، ويجتنب

أكل الفواكه غير الناضجة ، وتطهر أطباق الأكل بوضع قليل من السبرتو النقي

بها وإشعالها إن لم يغسل بماء مغلي، ومراقبة الطهارة لعدم مسح الأطباق

بمناشفها القذرة. ويحسن أن لا يؤكل الخبز إلا بعد تجميره على النار أو على

لهب اسبيرتو، والامتناع من التدخين أو التقليل منه؛ لأنه يضعف المعدة

والقلب، ويجب غلي مياه الشرب طول مدة الوباء.

الإسعافات الأولية:

تنحصر تلك الإسعافات في مقاومة ثلاثة أعراض مهمة وهي: القيء

والإسهال وبرودة الجسم.

القيء: يقاوم القيء بتعاطي شراب الليمون المثلج أو منقوع النعناع

المثلج المحلى بالسكر أو شراب حمض اللبنيك.

كالمشروب الآتي:

حمض اللبنيك من 10 إلى 15 جرام، شراب السكر 90 جرام كؤلات

الليمون والنعناع 2 جرام ، ماء مغلي 1000 جرام.

يؤخذ كل ساعة كأس.

الإسهال: يستعمل حقن شرجية من محلول الشب من 10 إلى 15 جرام

في الألف، تذاب في ماء مغلي، وتعمل الحقنة 3 مرات في اليوم.

برودة الجسم: الدلك بقطع من الصوف بعموم الجسم بعد غمسها بروح

الكافور، ووضع جملة زجاجات مملوءة بماء سخن حول الجسم بعد لفها

بالقماش، وتثبيت سدادتها جيدًا.

ثم يستدعى الطبيب في الحال لإجراء الوسائط الصحية اللازمة، وتتميم

العلاج بحسب حالة الأعراض.

فهذا ما كنا نشير باستعماله من الإسعافات الوقتية الأولية سنة 1896،

حينما كنت حكيمباشي باستبالية مديرية الفيوم، وظهرت فوائدها كما يثبت

الإحصاء ذلك، وقد رأيت أن أكتفي بذكر ما يمكن لغير الأطباء استعماله في

الإسعافات الوقتية لهذا المرض الوبيل، وقى الله البلاد شره إنه سميع مجيب.

_________

ص: 705

الكاتب: هبة الدين الشهرستاني

ميرزا علي محمد الباب

وادعاؤه النبوة

وردت من أحد المأمورين بشيراز رسالة تحاول إثبات المهدوية لميرزا

علي محمد بن أقارضا البزاز الشيرازي (مدعي البابية ومؤسس طريقتها)

وما اضطررت إلى الجواب عنها إلا من شدة إصرار مرسلها ، ومن اقتحام

بعض الصحف المصرية في أمرهم على العمياء، وتوصيفهم عن غير دراية،

وتقريب العقول الناقصة من شبايك كيدهم.

إني لم أر بعد النظر في أدلة تلك الرسالة دليلاً يكتسب من الأنظار أدنى

أهمية، ولا وجدت قياسًا في كتابه روعيت فيه أصول الاحتجاج غير حجة

واحدة، سنجعلها مدار البحث ومحوره، حيث تناسب أبحاثنا في النبوة

بيد

أن الكاتب من لباقته وشطارته أبرز تلك الحجة الواحدة في كسوة الحجج

المتعددة.

(وخلاصة تلك الحجة)

أن (علي محمد الشيرازي) تحدى كالأنبياء لدعواه ، وأخرج للناس كتابًا

يصدق ما ادعاه ، فلو لم يكن نبيًّا صادقًا ناطقًا بالحق، لوجب على الله

(سبحانه) أن يفضحه ويظهر كذبه ، ويجازيه أسوأ الجزاء على افترائه وبهتانه

على مولاه وجوبًا عقليًّا (تقتضيه قاعدة اللطف) ونقليًّا دلت عليه آيات الكتاب

وبينات السنة اهـ.

(وهاك جوابي عن هذه الشبهة)

ينبغي لنا في هذا المبحث أن ننظر أولاً في أنه كيف يجب أن يفتضح

المتحدي الكاذب.. ثم ننظر في حقيقة اللطف الواجب.. كل ذلك على وجه

العموم.. ثم نتكلم في افتضاح (علي محمد) وظهور كذبه لدى العقلاء بأجلى

وجوه الفضيحة.

ولا ينقضي عجبي منكم أيتها الفرقة الـ

تدعون المهدوية لصاحبكم

وهي فرع من الفروع الاعتقادية في دين الإسلام ثم تستدلون على مقصدكم

بدلائل النبوة وتنسبون لصاحبكم تحدي الرسالة، وأنه أظهر كتابًا أكبر من

كتاب محمد صلى الله عليه وسلم وتتشبثون لمطلوبكم بشبهات النصارى على

الإسلام: فأدلتكم ترمي إلى شيء ودعواكم ترمي إلى آخر يخالفه تمام

الاختلاف فعرفونا وجه التوفيق ومنزع الاحتجاج ومحجة النزاع.

نجعل وجدانكم الصادق أيها المنصف بيننا حكمًا فاصلاً ثم ننشدك نشيدة

الباحث عن حقيقة (ونقول) هل الواجب على المولى (سبحانه) أن يفضح

المتنبي الكاذب بعلامات محسوسة.. مثل أن يكتب على وجنته أو جبهته (هذا

نبي كاذب) ..؟ أو يوكل عليه ملكًا يهتف أمامه بذاك النداء مدى الدهر

فتقصر الحجة في الكتابة على خط واحد بالضرورة ، وتقتصر في النداء على

لغة واحدة فلا تتم الحجة على أكثر البشر ولا تبلغهم حقيقة الأمر قطعيًّا مع

اشتراكهم وتساويهم في التكليف ويفوت الشارع بناء عليه مقصده السني من

تشريع السبل ، وبعث الرسل ، وهل عهدت يا صاح في إحدى الشرائع من إلهك

الحكيم استعمال العلامات الشخصية والصور الحسية في فضيحة متنبئ أو

متحدّ كاذب..؟ كلا ثم إن الصور المحسوسة لا تعم الأعصار والأمصار ، كما

أن الخط واللغة لا يعرفان الأقوام المختلفة حقيقة الأمر ، فلا محيص من تصديق سنة

الله تعالى والاعتراف بصحة سيرته مع أدعياء النبوة حيث يميز كاذبهم عن

صادقهم بوجه علمي وصورة عقلية ، يفتضح بها الكاذب بين الناس أجمعين ، على

اختلاف ألسنتهم وألوانهم ، فتحصل الغاية المقدسة وتتم الحجة على كل مكلف

بأبلغ منهج وأتم صورة.

حيث إن الوجوه العقلية لا تختص بقوم دون قوم ولا بأبناء لهجة دون

آخرين ولا تختص بعصر ولا بمصر بل تعم ذوي العقول قاطبة في جميع

الظروف والأحوال (العقل دليل في كل سبيل) .

وإتمام الحجة في فضيحة المتنبئ الكاذب مما يجب أن يظهر لجميع

العقلاء والعلماء الذين أضحت عقائد العامة تتبع آراءهم ، وأفعالها تناط بأقوالهم {ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} (الأنفال: 42) .

إذن فالحري بنا أن ننظر في أمر هذا المدعي بالنظر العقلي ، والطريق

العلمي ، الذي به يظهر المولى (سبحانه) كذبه إن كان مفتريًا عليه.

(الحقيقة تكفينا فضيحة المتنبي)

(وفي ذلك معنى قاعدة اللطف)

قالت العدلية من المسلمين (يجب على الله سبحانه وتعالى أن يفضح

المتنبي والمتحدي الكاذب بقاعدة اللطف) وخاضوا في عباب اللطف كل

مخاض ، لكن لي في المقام رأيًا متوسطًا أظن إصابة الحق فيه.

وموجزه أن المتحدي بالنبوة يدعي لنفسه العصمة بالضرورة.. والحقائق

لا تمهله دون أن تظهر كذبه: حيث إن الفاقد لفضيلة العصمة ، لا ينفك (حسب

المفروض) عن سهو أو نسيان ، فيبدو منه خلال أعماله وأشغاله سهو في

فعل ، أو نسيان عن قول ، سيما عندما تتراكم الأشغال عليه ، ويحاط في المجامع

العمومية بالشواغل القلبية ، وتآثير الظواهر في مشاعره ونفسه الضعيفة ، ومتى

ما سها في شيء أو نسي تبين كذبه وافتضح.

إن من يدعي بما ليس في

كذبته شواهد الامتحان

فيحصل المطلوب بتأثير أودعه الله في مظاهر الحقيقة (وهو أمر طبيعي)

في العوالم الأدبية لا بد منه ولا محيص.

وإذا تبينت محافظته على الحقائق ، لم يظهر منه خطأ أو زلة في أعماله

وأقواله ، ولا عدول عن غايته، ولاتغيير فى مسلكه طول عمره، فذلك

الصديق الذى يجب تصديقه والإيمان بما يدعيه، وهو العاصم المعصوم ولا

ريب فيه.

(افتضاح علي محمد عندنا)

ذكر الناس في ظهور خداعه وكذبه، مظاهر وأشياء، ونشروا كثيرًا

مما يزري بشأنه ويكذب دعواه، وأعلنوا خذلانه في مجالس العلماء بأصفهان

وتبريز وشيزار وغيرها. واستبان انحطاطه وقصوره عن المباحث العلمية

والأدبية والاعتقادية لكنني أعتمد في انجلاء حاله وتكذيبه على منهجين أرى

لهما مقامًا ساميًا كثير الأهمية في عالم البحث الفلسفي عن الأديان والنبوات ،

وعن تعيين الأنبياء والصادقين من المصلحين.

(المنهج الأول) : ظهور خطأ منه في سياسة أمره يمنعه من نجاحه

بحيث يمسي المدعي للنبوة غرضًا لأسهم الملازمة من جمهور العقلاء فإن

ذلك وشبهه من جملة الأمور الفاضحة ، وشواهد كذبه الواضحة ، يتم الحق

بأمثالها حجته على رائديه.

ولا يبرح عن اعتقادي أن العاقل المنصف إذا تأمل في كلمات (علي

محمد) وبيانه الذي زعم معارضة القرآن به وعرف أغلاطه اللفظية ، التي لا

تقبل وجهًا ولا علاجًا في فنون العربية ،.... يجزم بخطأه في عالم السياسة

فمجرد تصديه لمعارضة القرآن العظيم في العربية والبلاغة وهو عاجز عن

التكلم بها غير محيط بأصولها وفنونها يكفينا فضيحته ولا ينفك لوم العقلاء منه

على هذه الفلتة الكبيرة يلومونه من جهات متعددة:

(1)

لماذا يا مسكين لم تقنع بدعوى كونك إمامًا أو بابًا إليه كما كنت

عليه في مبدأ أمرك حتى ادعيت النبوة واحتجت إلى إظهار الآيات والمعاجز

وعرضت بنفسك للفضحية.

(2)

لماذا اخترت يا مسكين من بين المعجزات معارضة القرآن الذي

أعجز أساطين الفصاحة.

(3)

إن لم تطاوعك النفس إلا في معارضة القرآن فلماذا عارضته

بالعربية حتى يصبح أمرها عليك من كل باب تأتيه من حيث أنك أجنبي عنها

نشأت على اللغة الفارسية في إيران وما سبرت أفانين العربية وآدابها

تعجز

عن أداء جملة لا تلحن فيها ، وتعارض قرآنًا خرت لبلاغته الأدباء سجدًا إلى

الأذقان ، وخضعت دونه رجال الإصلاح والسياسة وعلماء البيان ، تعارضه ببيانك

المشتمل على أغلاط بعيدة الإحصاء في فنون العربية من تصريفها والأعاريب

والبلاغة في التركيب خاليًا عن طريف معنى ولطيف حكمة.

ولو أنك يا مسكين لفقت كتابك من فقرات وجمل بلغتك الفارسية لصنته

من قدح العلماء في ألفاظه وتراكيبه ، وانحصرت دوائر اللوم في أغلاطك

المعنوية خاصة ، وكان لك في ذلك ولصحبك مندوحة وتخفيف مشقة ، وكنت

في راحة من جانب ألفاظه لا تلجأ إلى مضيق الاعتذار (ورب عذر أقبح من

ذنب) عن ألحانك (بأن الألفاظ كانت أسيرة الإعراب فأطلقها) ولا يلتجئ زعيم قومك

اليوم تصحيحًا لأغلاطك إلى قوله: (إن ولي الله لا يكون أسيرًا لأصول اللغات

وإعراب الكلمات) اعتذر به (ميرزا أبو الفضل) الكلبايكاني في كتابه بعد اعتراض

شيخ الإسلام التفليسي عليه بأغلاط البيان وألحانه:

وإنني لا أعدوه وسألتك يا صاحبي ولا أحتطب لك من كلماته في هذه

الوجيزة من هنا ومن هناك وإنما أذكرك ببعضب كلماته التي انتخبتها أنت لنا

وأتحفتنا بها في رسالتك إلينا فمن ذلك قوله: (تالله قد كنت راقدًا هزتني

نفحات الوحي وكنت صامتًا أنطقني ربك المقتدر القدير لولا أمره ما أظهرت

نفسي قد أحاطت مشيأته مشيأتي وأقامني على أمر به ورد على سهام

المشركين امرءًا قرأ ما نزلناه للملوك لتوقن بأن الملوك ينطق بما أمر من لدن

عليم خبير) .

ومن ذلك قوله: (كنت نائمًا على مضجعي مرت علي نفحات ربي الرحمن

ويقضتني من النوم وأمرني بالنداء بين الأرض والسماء ليس هذا من عندي بل

من عنده يشهد بذلك سكان جبروته وأهل مدائن عزه فوا نفسه الحق لا أجزع من

البلايا في سبيله ولا عن الرزايا في حبه ورضائه قد جعله الله البلاء غاديه لهذه

الدسكرة الخضراء) .

وبالإجمال فإنها فلتة عظيمة سياسية وحقيقية؛ صدرت منه بمشيئة الله تعالى

رغمًا على مشيئته ليصبح الحق أبلج ، ويمسي الباطل لجلج ، وما صرعه الحق

هذه الصرعة الفاضحة ولا أكبه بعثرته الواضحة ، إلا من جنايته العظمى

على الحقيقة المقدسة ، وهتك حرمة الإسلام وما أبدى فيه من....

(المنهج الثاني) ثبات المدعي واستقامته في مسلكه الخاص الذي دعاه

الناس إليه من مبدأ أمره إلى منتهاه لا يحول عنه ولا يزول في حال ضعفه

وقوته سالكًا فيه بقوله وفعله عن شجاعة أدبية (كيف يميل عن الحقيقة من

نالها أو يعدو الحق صاحبه وما وراء عبادان قرية) .

فهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم جرى على سنة الأنبياء من قبله ،

فادعى الرسالة من ربه في مبدأ أمره ، واستقام عليها حتى فارق صحبه ، فكانت

الرسالة لا غيرها دعواه وخطته من قبل أن يبلغ المسلمون عدد الأصابع

ثم

اتسعت بلاده وعلت كلمته وفاق المؤمنون به عشرات الألوف وصارت

الأموال والكنوز تجبى إليه من أقطار الأرض: ولم تكن مع ذلك دعواه إلا

الرسالة التي كان يدعيها في أول أمره. وما أورثه ارتقاء شأنه ونفوذ سلطانه ،

فرقًا في أخلاقه ودعاويه ، ولا في معيشته وسيرته ، ولقد كان يروج منه (ولا

ريب) أن يدعو الناس بعد ذلك إلى تقديسه والاعتراف بألوهيته (والعياذ بالله)

أو يأكل أطيب المأكول ويتخذ لنفسه أجمل وسائل العيش والتنعم من اتساع

سلطته ونفوذ كلمته وتملكه القلوب والمشاعر.

لكنه صلى الله عليه وسلم كان يزداد تواضعًا وزهدًا كلما ازداد قدرة لئلا

يهابه الناس فيقدسوه تقديس الرعية لسلطانها المستبد.

وأمّا (علي محمد) فلا يجد المرء بعد الفحص أقل ثباتًا منه في مسلكه

ودعواه ، فإنه ادعى البابية في مبدأ أمره ويعني من البابية أنه الباب بين الشيعة

وبين إمامهم (المهدي المنتظر)(عج) يبلغهم أحكام الشريعة عنه (ع) كما

كان نواب المهدي (عج) في القرن الثالث يعرفون بهذا الاسم والصفة وكانوا

هم الأبواب إليه والنواب عنه، فكانت البابية أو دعوى (علي محمد) ولأجل

ذلك عرف أصحابه بهذا الاسم والعنوان من مبدأ أمرهم إلى الآن.

ثمّ عظمت وطأته ، وانتشرت دعوته ، وشاهد ازدحام الناس على نفسه ،

فادعى الإمامة والمهدوية لنفسه ، وإنه هو الإمام المنتظر عند الشيعة بعينه ، ولا

يخفى عليك اختلاف المسلكين وتفاوت الرتبتين.

ثم ارتقت كلمته وكثر أتباعه لأمور اتفاقية لا يسع المقام ذكرها، واستشعر

من تابعيه ، قبول كل ما يدعيه ، فادعى النبوة وأظهر كتابًا زعم نسخ القرآن به

والمعارضة معه

ويحكى عنه الربوبية أيضًا مستدلاً بتوافق اسمه في العدد

أعني (علي محمد) لاسم (رب) فإن كلاً منهما 202 في حساب (أبجد)

الجملي.... ولم يثبت بعد ذلك حتى قتله (ناصر الدين) شاه إيران بعدما عقد

المؤتمرات لأجله ، أظهر العلماء كذبه وعجزه في الأبحاث العلمية. ومن طلب

تاريخه فليراجع كتاب (باب الأبواب) أو مفتاحه لمنشئ جريدة (حكمت)

الفارسية المصرية.

وليت شعري ما كان يدعي بعد هذه الدعاوى لو أمهله الدهر وساعدته

العامة؟ (نعم) لا يستقيم سويًّا على صراط مستقيم من حاد عن الحق *

ويضطرب الرأي ممن لم يفز بحقيقة * ولا يثابر على خطة من لم يكن على

يقين *

فهلا يكفيك اضطراب رأيه الظاهر من تلوناته وتقلباته في خطته شاهدًا

على خطأه وزلَله ، أم نسيت ما قدّمناه في صدر البحث تمهيدًا لخواتيمه ، والسلام على من اتبع الهدى.

...

...

...

... من نجف بالعراق

...

...

...

هبة الدين الشهرستاني

...

...

...

... منشئ مجلة العلم

_________

ص: 707

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أرباب الأقلام في بلاد الشام

ومشروع الأصفر

أشرنا في المقالة الأولى التي كتبناها عند إعلان الدستور إلى ما أمامنا من

العقبات والمشكلات السياسية والأدبية والاقتصادية في طريق هذا الطور الجديد من

الحكم ، وقد وقع جميع ما كنا نتوقع ، ومما أشرنا إليه في تلك المقالة بالإجمال ،

وعدنا إلى بيانه بعد ذلك بالتفصيل قولنا: إن الحرية ما حلت في بلاد كبلادنا خصبة

التربية جيدة الإنبات غنية بالمعادن والغابات ، قابلة لرواج التجارة والصناعات ،

إلا وتدفقت عليها أموال أوربا لأجل استثمارها فيها ، وهناك من أبواب الرجاء

للبلاد والخوف عليها ما لا يفطن له الآن في الأمة إلا الأفراد من الناس. فمن

المطالب بتنبيه الأمة إلى طرق الثروة الطبيعية مع حفظ رقبة بلادها ، والحذر من

قضاء الديون الأجنبية عليها؟ .. إلخ

ثم كان المنار هو السابق لجميع الصحف - على ما نعتقد - إلى التنبيه على

نفوذ اليهود الصهيونيين في جمعية الاتحاد والترقي، وما في ذلك من الخطر على

الدولة، حتى أنكر علينا ذلك بعض أصدقائنا المخلصين من المسلمين وغير

المسلمين بمصر، ورد علينا بعض اليهود في جريدة المقطم ، ولم تلبث الحقيقة أن

ظهرت بعد ذلك في مجلس الأمة العثمانية أولاً، ثم على لسان الصدر الأعظم حقي

باشا الذي صرح في خطاب له بأن اليهود هم أصحاب المستقبل في هذه الدولة،

حتى في أمورها الإدارية والعسكرية، فهذه مقدمة أولى للكلمة التي نريد أن نقولها

الآن.

مقدمة ثانية: إننا كنا كتبنا مقالاً نشر في المنار وفي بعض جرائد بيروت،

نبهنا فيه إخواننا العثمانيين إلى المشابهة بين ما يستقبلون في هذا الطور الجديد من

الحياة الذي دخلوا فيه، وبين ما سبقهم إليه إخوانهم المصريون من مثله ، وهو

طور حرية الأقلام والأعمال ، وذكرناهم بأن يعتبروا بحال مصر، ويتقوا ما استبان

لهم ضرره ، ويأخذوا ما استبان لهم نفعه ، وبينا لهم ما اختبرناه بنفسنا من ضرر

ومفسدة ما جرى عليه بعض إخواننا الكتاب المصريين؛ من رمي بعضهم بعضًا

بخيانة الوطن وإيثار مصلحة الأجانب فيه على مصلحة أهله. فتن بهذه البدعة

بعض المغرورين الطائشين، وغلوا فيه غلوًّا كبيرًا، حتى لم يخجل بعضهم من

التصريح بأن مشروع الدعوة إلى الإسلام وإرشاد المسلمين إلى حقيقة دينهم، وما

فيه من الخير لهم في دنياهم، يراد به خدمة الأجانب من غير المسلمين! ! فكان

مثل هذا الكاتب كمثل بعض أهل الشام الذي اعتاد أن ينبذ من يخالف رأيه بلقب

وهابي، حتى إذا كان يحدث بعض أدباء النصارى، فلما خالفه قال له أنت وهابي! !

فقال له ذلك الأديب: بل أنا مسيحي ما رغبت عن ديني! قال كلا. إنما أنت

وهابي! !

مقدمة ثالثة: الخلاف في الرأي طبيعي في البشر لا بد منه ، ونافع لا شك في

نفعه ، ولو لم يكن لوجب أن يوجد بالتكلف إن لم يوجد بالطبع ، وهو ضار إذا أدى

إلى الشقاق والتفرق، وإن أهل العلم والفضل يتناظرون في المسائل العلمية

والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، فيكون أحدهم موجبًا والآخر سالبًا بالمواضعة

والاتفاق ، وإن لم يسبق لهم فيه خلاف ، وإنما غايتهم بيان الحقيقة بالبحث عن كل

ما يمكن أن يصل إليه الفكر فيها. كذلك تؤلف الأحزاب في المجالس النيابية؛

ليؤيد بعضهم الحكومة في سياستها وإدارتها ، وينتقدها البعض الآخر فيهما ،

وغرض الفريقين واحد؛ وهو بيان المصلحة الحقيقية للبلاد. فلا يصح أن يرمى

الحزب الموافق للحكومة بأنه سيء النية، يريد أن يساعدها على الاستبداد بالأمة ،

ولا أن يرمي الحزب المخالف بأنه عدو للدولة.

بعد هذه المقدمات أقول: إنه قد ساءني في ما كان من خلاف جرائدنا السورية

في (مشروع الأصفر) ونبز بعضهم بعضًا بالألقاب ، ونزولهم إلى ما لا ينبغي

من الطعن والسباب ، حتى جعل بعضهم أشهر الجرائد بالإخلاص موضع الارتياب.

مشروع الأصفر من المسائل الاقتصادية الجديرة بأن يختلف فيها الباحثون،

ولو لم يختلفوا بالفعل لحسن منهم أن يتواطئوا على الخلاف، فيتكلف بعضهم

استنباط كل ما يمكن أن يستنبط له من المضار ، وبعضهم استنباط كل ما يمكن

استنباطه من المنافع ، ثم يحكموا بعض أهل الروية والعلم في الترجيح أو يدعوه

إلى الحكومة والرأي العام ، مناظر الإنسان نظيره، فمن رمى مناظره بالخيانة

وسوء النية كان طاعنًا في نفسه ، وموقفًا لها موقف التهمة والتزاحم على المنفعة.

إنني لم أعن بدرس (مشروع الأصفر) الأول؛ لأنني رأيته يتقلب بين ألسنة

المبعوثين وأقلام الصحفيين ، فتركته لهم ، ولكنني كنت أميل إلى رفضه ، ورأيتهم

كذلك يميلون، ولا عنيت به بعد تنقيحه أيضًا ، ولا تتبعت ما يجيئني من الجرائد

التي تبحث فيه ، فأنا لا أحكم فيه نفسه ، وإنما أقول كلمات يصح أن تكون لمن

وعاها من أسباب الحكم الصحيح فيه ، وهي:

(1)

إن عمران بلادنا يتوقف على استعمال الأموال الأوربية فيها، وزمام

هذه الأموال في أيدي اليهود ، وأضرب لذلك مثالاً وقع بمصر؛ وهو أن بعض

الناس قال لتاجر يهودي وقد ساومه في (ساعة) : إنني لا أريد أن أشتري شيئًا

يربح منه اليهود ، فقال اليهودي: إذًا لا تشتر شيئًا قط. ولأجل هذا يصانع

الاتحاديون اليهود الصهيونيين وغير الصهيونيين ، فإذا كان إخواننا السوريون لا

يقبلون مشروعًا فيه أموال لليهود، فيعلموا أن معنى هذا أنهم لا يقبلون مشروعًا

عمرانيًّا كبيرًا في بلادهم مطلقًا ، وبعبارة أخرى لا يقبلون أن تعمر بلادهم.

(2)

إن أهل بلادنا السورية بل العثمانية كلها عاجزون عن القيام

بالمشروعات الكبيرة من زراعية وصناعية وتجارية لا لقلة ما لهم فقط ، بل لذلك

ولجهلهم بما تتوقف عليه تلك المشروعات من العلوم والفنون والأعمال الهندسية

والآلية ، فهم في أشد الحاجة إلى الاستعانة على تلك المشروعات بأموال الأوربيين

ورجالهم ، وإلى الاحتكاك بهم والاشتغال معهم لأجل التعلم منه.

(3)

إن الخطر من الصهيونيين ينحصر عندي في شيء واحد؛ وهو

امتلاكهم للأرض المقدسة، فينبغي لكل من يقدر على حمل الحكومة العثمانية على

منعهم من ذلك أن لا يألو فيه جهدًا ولا يدخر سعيًا.

(4)

إن الخطر من استعمال أموال الأجانب اليهود وغيرهم ينحصر عندي

أيضًا في أمرين: أحدهما غرق الأهالي والحكومة في الديون ، وثانيهما تمليكهم

لرقبة البلاد ، بأن يكون أكثر الأرض أو الكثير منها لهم.

(5)

إذا عدوْنا هذين الخطرين، فلا يضرنا أن نستخدم أموال اليهود

العثمانيين وأموال الأجانب من اليهود وغيرهم؛ في المشروعات التي تعمر بها

بلادنا بالزراعة واستخراج المعادن وغير ذلك ، بل ذلك نافع لنا بل لا بد لنا منه إلا

إذا اخترنا الخراب على العمران ، والفقر على الغنى ، وماذا نخاف بعد هذا؟

إننا رأينا العبرة في مصر بأعيننا، زادت ثروة هذا القطر بأموال الأوربيين

وأعمالهم أضعافًا مضاعفة ، وكثر فيها الأغنياء ، ولولا جراءة الفلاح المصري على

الاستدانة بالربا الفاحش وغير الفاحش بغير حساب يوازن فيه بين دخله وبين ربا

الدين الذي يأخذه بغير حاجة شديدة إليه في الغالب، ولولا الإسراف والقمار

والمضاربات لما كان على المصريين دين يذكر بالنسبة إلى ثروتهم العامة ، ولكانوا

أغنى شعوب الأرض. على أنهم إذا ثابوا إلى رشدهم ، وعني المتعلمون منهم

بالثروة والاقتصاد بعض ما يعنون بالسياسة ، فإنه يمكن لهم أن يفوا ديونهم في زمن

قريب ، وعند ذلك يكون لهم شأن صحيح في السياسة ، أساسه القوة الحقيقية لا القوة

الكلامية.

فاضت أنهار الذهب الأوربي على مصر في زمن لم يكن لمصر فيه مثال

سابق تقيس حالها عليه لشبهها به ، ولا منار تهتدي به في حياتها الاقتصادية ،

ولكنها أنشأت تتعلم بالتجارب ونفقات علم التجارب كثيرة ، وقد ظهرت بواكر ثمرة

علمها بالتوجه إلى إنشاء النقابات الزراعية؛ لوقاية الفلاحين من غوائل الربا

الفاحش وحفظ ثروتهم ، وإنشاء الشركات التجارية والصناعية ، وأنشأوا يعملون بما

تعلموا من الأوربيين، فكانوا في أول عملهم كالطفل الذي بدأ يتعلم المشي يمشي

خطوة ويسقط ، وقد كنا كتبنا في المنار مقالات ونبذًا في ذلك عنوانها (طفولية

الأمة) .

أما العثمانيون وأخص منهم السوريين، فأمامهم المثال الظاهر والمنار

المضيء وهو مصر ، فليعتبروا بحالها ، ولا يقبلوا في أمثال هذه الأمور كل رأي ،

ولا يتبعوا فيها كل ناعق ، وليحذروا ممن يستميلون العامة إليهم بما يروج عادة في

سوقهم ، وهو الإنذار والتخويف وإذاعة السوء، فإن الجمهور يرجح دائمًا خبر

الشر على خبر الخير.

ليس أمر مشروع الأصفر بيد الجرائد التي تراه نافعًا ولا التي تراه ضارًا،

وإنما أمرها إلى مجلس الأمة وحكومتها العليا ، فلتقل كل جريدة ما تشاء في بيان

نفعه وضره ، من غير طعن ولا لعن ، فإذا نفذ بعد ذلك كان أهل البلاد على بصيرة

من الانتفاع به والتوقي من ضرره ، وإذا ردته نثلت الكنائن ، وفاءت السكائن ،

وكفى الله المؤمنين القتال.

* * *

(مسألة اليمن واتفاق الحكومة مع الإمام)

كنا اقترحنا على الدولة قولاً وكتابة أن تتفق مع الإمام، فتعترف له بزعامته

وتقره على إمامته في قومه حسب اعتقادهم ، وترضى منه بما يقبله في مقابلة ذلك

من الاعتراف بسيادة الدولة على اليمن، وكونه هو تابعًا لها. وبعد الاتفاق على

هذين الركنين يسهل الاتفاق على كل شيء ، بل نبهنا الدولة على ما هو أعم من

ذلك؛ لتمكين سلطتها في جزيرة العرب كلها بمثل هذا الاتفاق مع أمرائها.

كان من سعيي في مسألة اليمن أن اقترحت على رءوف باشا المعتمد العثماني

بمصر - والفتنة في ريعانها والعسكر يساق إلى اليمن تباعًا - أن يخاطب حكومة

الآستانة في أمر الاتفاق مع الإمام بلسان البرق ، وقلت له: إنني موقن بأن الإمام

يرضى بالاتفاق، ويكره أن يحارب الدولة باختياره ، وإنني أتجرأ أن أضمن ذلك

بشرط أن تعترف الدولة بإمامة الإمام وزعامته في قومه وعدم نزع السلاح منهم ،

والإمام يعاهدها على عدم الخروج عليها وعلى تأمين البلاد ، وما زالت العرب تدين

بالوفاء في الجاهلية والإسلام إلخ ما ذكرته له. فقال: إن الخطابات البرقية وغير

البرقية لا تكفي للإقناع في مثل هذه المسألة، ولعلنا نتكلم فيها عندما نذهب إلى

الآستانة في فصل الصيف.

أما الأصول التي قررتها اللجنة التي ألفت في الباب العالي؛ لأجل وضع

النظام لإصلاح اليمن، فهي على ما نشر في الجرائد عشرة:

(1)

تقسيم اليمن وعسير إلى ثلاث ولايات.

(2)

أن يعين مشايخ القبائل حكامًا إداريين أي متصرفين في الألوية

وقائمقامين في الأقضية، ومديرين في النواحي.

(3)

أن يصرف النظر عن أصول المحاكمات التي عليها العمل في الدولة

هنالك، ويستبدل بها محاكم شرعية تحكم في الدعاوي.

(4)

أن تنشأ الطرق والمعابر الكافية، وتؤسس المدارس وأخصها

الابتدائية.

(5)

أن يُمنَح الإمام يحيى رياسة اليمن الروحية.

(6)

أن تبتاع نسافات تحافظ على السواحل، وتكون سدًا دون تهريب

السلاح والذخائر الحربية، وأن تنشأ المعاقل العسكرية اللازمة.

(7)

أن يعفى اليمانيون كافة من الخدمة العسكرية، ويوفد من سورية

وطرابلس أناس يقومون بها هناك ، أو يأخذ لها أناس من العربان بالأجرة.

(8)

أن يسمح للعربان بحمل السلاح مؤقتًا.

(9)

أن تلغى الضرائب ويحصر التبغ (الدخان) ؛ لأنه يسهل تهريب

السلاح.

(10)

أن يعين الولاة من أصحاب الفطنة والحنكة والدراية، ويمنحوا

السلطة الواسعة.

هذه الأصول ليست فيما نرى إصلاحًا كافيًا لليمن، ولكنها ترضي اليمانيين

وتسكن ثأرتهم إلى أن تتمكن الدولة من ضبط السواحل ومنع السلاح ومن امتلاك

أعنة الرؤساء والمشايخ بالوظائف والرواتب ، وإعداد القوة العسكرية من غير أهل

البلاد؛ لتنفيذ كل ما تريده الحكومة بالقوة. وبعد هذا يجمع السلاح من الأهالي

ويحملون على كل ما تريده الحكومة منهم ومساواتهم بسائر العثمانيين. ولو كان لنا

أن نقترح لاقترحنا، ولكننا نتمنى أن توفق الدولة إلى اختيار الولاة من الرجال

الموصوفين بما ذكر في الأصل العاشر وبالديانة والإخلاص في العمل ، فعلى هذا

جل المعوّل ، وما حرك الفتن هنالك في كل زمن إلا أولئك الولاة الطغاة العتاة الذين

يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

وسوف نرى ما هي المدارس التي تنشأ هناك، وماذا يعلم فيها ، وما هي

الطرق والمعابر التي تنشأ للعسكر وللزراعة والتجارة ، وكيف تكون المحاكم ،

ونبدي رأينا في ذلك فإنه هو كل حظ اليمانيين من الإصلاح العملي. وكان من

مصلحتهم ومصلحة الدولة أن يدخلوا في الخدمة العسكرية ويتعلموا في بلادهم ،

ويقوموا فيها بكل ما تحتاجه الحكومة من الجند في الداخل ، وينفروا إذا استنفروا

لمحاربة كل عدو مهاجم ، وإذا جرى الإصلاح في طريقه المستقيم وزالت مخاوف

القوم، وريبتهم التي غرستها في نفوسهم المظالم السابقة، فإنهم يطلبون ذلك من

تلقاء أنفسهم.

أما مسألة عسير فكادت تكون أعسر من مسألة اليمن وأعقد ، وأعصى على

من يحلها وأبعد ، فقد عظم فيها نفوذ السيد الإدريسي الروحي، وارتابت فيه الدولة

فحاربته ، واستعانت عليه بأمير مكة الشريف حسين المشهور بالروية والحزم

والإخلاص للدولة ، فسار إلى عسير بنفسه وبعض أنجاله، يقود جيشًا مؤلفًا من

عسكره الخاص وعسكر الدولة النظامي، فحارب الإدريسي بقوتيه العسكرية

والمعنوية، حتى فك الحصار عن أبها عاصمة بلاد عسير، وأجلى الإدريسي إلى

عصم الجبال فامتنع فيها ، والأمير - أعزه الله - كان أجدر من قواد الحروب

بإيثار الصلح والسلام ، وحفظ الدماء بالنفوذ الروحي وقوة الخطابة والبرهان ، ويقال:

إنه كان يريد هذا، وأن الإدريسي أبى عليه فتح باب الكلام ، وقد داوى الأمير ما

جرح بالإحسان إلى أهل البلاد التي دخلها في عسير وإنشاء المساجد والمدارس

لأهلها ، ثم عاد إلى الحجاز مؤيدًا منصورًا ، ولكن الدولة ترى أن عقدة عسير

العسكرية لما تنحل.

* * *

(الأزهر وملحقاته بعد القانون الجديد)

أتممنا نشر قانون الأزهر والمعاهد الدينية التابعة له في القطر المصري. وقد

قامت قيامة الأحزاب لهذا القانون وقعدت ، واجتمعت وافترقت ، وصوبت وخطأت ،

وأرى أن المعارضين للحكومة وقد تركوا الباب، فلم يظهروا الاهتمام به في

جرائدهم ولا في مجلس الشورى ، وكان بعض أعضاء مجلس الشورى اعترضوا

على جعل حق اختيار شيخ الجامع للأمير، وعلى انعقاد مجلس الأزهر الأعلى

تحت رياسته ، فأطلقت جرائد الأحزاب المعارضة على هؤلاء الأعضاء لقب

الحزب الحرّ، واحتفلوا بهم احتفال التكريم.

أما لب اللباب ، والأمر الجديد في هذا الباب ، الذي سكت عنه رجال هؤلاء

الأحزاب ، فكان سكوتهم العجب العجاب ، فهو أن الأزهر وملحقاته كانت من

المدارس الحرة المستقلة في أمرها دون الحكومة الواقعة تحت سيطرة الاحتلال ،

فأصبح الآن مصلحة من المصالح التابعة للحكومة كسائر مصالحها ، وهذا ما كان

يتقيه ويحذره الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى، كما صرحت به في المنار من قبل.

فالمعارضون للحكومة إما أن يكونوا لم يفهموا هذا الأمر الجديد العظيم وذلك

منتهى الجهل والغفلة ، وإما أن يكونوا قد اعتقدوا أن إصلاح التعليم الديني في البلاد

لا يمكن أن يكون إلا بيد الحكومة؛ لأن الأمة عاجزة عنه، ومحتاجة إلى مراقبة

الاحتلال بواسطة الحكومة، حتى على شئونها العلمية الدينية ، وهذا يناقض ما

يقولون كل يوم ، فهل عندهم من وجه ثالث فيظهروه لنا وللأمة كلها إن كانوا

لخدمتها يحسنون.

* * *

(رأي فاضل في الإنفاق النافع والمنار)

جاءنا الكتاب الآتي من ذلك المحسن المستتر الذي تبرع بستة جنيهات مصرية

لإدارة المنار؛ لتوزع بقيمتها نسخًا منه على من تراهم أحق بها ، وقد رأينا أنه يود

نشره ليظهر رأيه للقراء، وينبههم إلى القدوة الصالحة، وهذا نص الخطاب:

القاهرة في 6 أغسطس سنة 1911

حضرة الأستاذ الفاضل محمد رشيد رضا حفظه الله وزاده هدى وتوفيقًا.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأرسل إلى حضرتكم الجنيه الباقي

من الستة جنيهات التي تخصصت للعشرة اشتراكات في مجلة المنار. ولعلي بذلك

أكون جئت بمثال حسن لمسلمي هذا القطر وسائر مسلمي الأقطار الذين يبغون

الإنفاق؛ حبًا في الخير وتقربًا من الله، فلا يهتدون لسبله القويمة وطرقه الصحيحة

فكم من أموال تنفق في النذور ، وكم يضيع منها في المآتم والأفراح ، وكم يذهب

في تشييد الحيشان والقبور ، وكم يصرف في زيارة المقابر في الأعياد والمواسم ،

وكم في إحياء الليالي للأولياء الميتين في الموالد وغير الموالد ، وكم من صدقات

تعطى لغير مستحقيها وغير ذلك ، إنما أعني هذا الصنف من المسلمين فقط؛ لأنهم

إنما يفعلون ذلك إجابة لداعي الخير الذي يناديهم، فيلبون نداءه في الجملة، ولكن

بدون أن يقفوا على كنه ما يدعون إليه.

ولا أعني غيرهم من المسرفين المبذرين الذين يلقون أموالهم في مهاوي اللذات

والشهوات والشرور والمضرات ، ولا غير هؤلاء من البخلاء الجامدين. لعمري لو

أنفق عشر معشار ما ينفق من هذه الأموال فيما يحييهم من الأخذ بيد المصلحين

ومساعدة ما يقومون به من المشروعات العامة لوجدنا بفضل الله أمة الإسلام غيرها

اليوم ، ولزال ما ألم بها من البؤس والشقاء ، لا أقول هذا محاباة ولا نفاقًا؛ فإني

أخاطبكم مختفيًا عنكم وعن الناس ، بحثت فلم أجد في الدنيا دعوة إلى الحق والإسلام

مثل ما تقوم به مجلتكم، ولا شخصًا حيًّا وقف نفسه لخدمة الإسلام والحق والإنسانية

كشخصكم المحبوب. فهل آن للناس أن يعرفوا شأنكم وشأن مجلتكم؟ ألا إنهم (لو)

عرفوا ذلك لالتفتوا حول لوائكم جميعًا، وكانوا لكم من الناصرين ، فصبرًا إن الله مع

الصابرين ، والعاقبة للمتقين، والسلام عليكم ورحمة الله.

...

...

...

...

... المصري

_________

ص: 713

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

أسئلة من البحرين

(س54 - 59) من صاحب الإمضاء

الحمد لله وحده:

حضرة محترم المقام حجة الإسلام وإمام المسلمين السيد محمد رشيد رضا

رضي الله عنه وأرضاه.

سلام واحترام: يرد بجهتنا المنار ونطلع عليه، فنرى فيه من آيات الإرشاد

لسبل الرشاد ، والإفصاح عن طرق الفلاح ، ما يشهد بفضله وفضل صاحبه أطال

الله بقاءه في سلامة وعافية ، ولا زالت آثاره في مناره ماثلة للمسترشدين

والمعتبرين ، سيدي، أرجوكم الإجابة عما يأتي بأوجز ما يمكن، وإرساله ضمن

جواب إن لم ترغبوا درجه في المنار.

(1)

المعراج كيف كان؟

(2)

انقضاض الكواكب وعلته الطبيعية، والتوفيق بين ذلك بين ما ورد

في سورة (قل أوحي) وسورة (والصافات) ؟

(3)

أوحي على النبي صلى الله عليه وسلم معنى القرآن فقط، والنبي

صلى الله عليه وسلم هو أعرب عن ذلك المعنى بهذه الألفاظ، وركبها هذا

التركيب، أم أوحي إليه المعنى واللفظ جميعًا.

(4)

هل يصح حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف وما معناه؟

(5)

هل من الممكن إنشاء مؤتمر إسلامي، يعود على الإسلام بفائدة في

القريب العاجل؟ وأين ينبغي أن يكون؟

(6)

ألا تستحسنون أن تقوم جماعة الدعوة والإرشاد أول مرة لفتح ناد بمكة

تسميه نادي التعارف؟

واقبلوا سلام واحترام الداعي المخلص للمنار وصاحبه.

...

...

...

محمد صالح يوسف الخنجي

* * *

(الجواب عن السؤال الأول: كيف كان المعراج؟)

لا ندري كيف كان المعراج، ولا نقطع فيه بشيء، فإنه خصوصية أكرم الله

تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم فأراه من آياته في عالم الغيب والشهادة ما لم

ير غيره من البشر ، فإن في رواياته أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى يصلي

في قبره بالكثيب الأحمر ورآه في السماء السادسة ، وفيها أنه رأى في السماء آدم

ونسم بنيه عن يمينه وشماله ، وصلى بالأنبياء إمامًا ببيت المقدس ، ورآهم في

السماء ، ورأى العصاة يعذبون في صور غير صورهم التي كانوا عليها في الدنيا ،

ولم يقل أحد من المسلمين إن موسى أو آدم رفع بجسده إلى السماء ، فما قولك بنسم

بني آدم كلهم ، ولا أن العصاة يبعثون بأجسادهم قبل يوم القيامة ، وظاهر هذا أن

تلك المرائي روحانية كما قال بعضهم أو منامية كما قال آخرون ، وذكرنا الفرق

بينهما في الجزء الماضي ، ومنه ما ورد في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم

تمثل له بيت المقدس وهو بمكة فوصفه لمن سأله عنه من المنكرين.

وقد أورد على ما نشرناه في الجزء الماضي إشكالاً، وسئلنا عن حلهما كتابة

ومشافهة: (أحدهما) وهو قديم لو كان الإسراء والمعراج في المنام أو بالروح فقط

لما أنكرهما أهل مكة، ولما كان ذكرهما فتنة للناس ، على أننا قد ذكرنا في جواب

(س47) حل هذا الإشكال بالإيجاز. وأما بيانه بالتفصيل فهو أن الفتنة هي

الاختبار الذي يتميز به الإيمان اليقيني من عدمه ، فالمؤمن الموقن بصدق النبي

صلى الله عليه وسلم في كل ما يخبر به؛ وإن كان من الأمور المخالفة للعادات

والمألوفات، فإذا قال: رأيت كذا وكذا مما هو ممكن عقلاً ممتنع عادة، ولم يبين له

أنه ذلك في اليقظة أو في المنام يتحقق الاختبار، وتظهر درجة إيمانه ويكون النبي

صادقًا في قوله: إنه رأى ذلك لأن فعل الرؤية البصرية والرؤيا المنامية واحد،

فيقال في كل منهما رأيت، والإدراك إنما هو للروح ، والجسد آلة لا يتقيد بها إلا

ضعفاء الأرواح ، ومن ذلك أحاديث فتاني القبر، فقد ورد أنهما يبهمان السؤال

فيقولان للميت: ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم وادعى أنه رسول الله ، وقد

قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلَاّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60)

ووردت الروايات الصحيحة في أن هذه الآية نزلت في شأن ما رآه النبي صلى

الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج. ولفظ (الرؤيا) حقيقة فيما يرى في

المنام؛ ولذلك اضطر إلى تأويل الآية مَنْ جزموا بأن الإسراء والمعراج كانا في

اليقظة، كما اضطروا إلى تأويل رواية شريك في صحيح البخاري الدالة على أنهما

كانا في المنام أو إلى القول بالتعدد، وبعضهم قال إنها غلط. وجملة القول أن آية

الإسراء التي أوردناها آنفًا، وحديث شريك في البخاري يدلان على أن الرؤيا

المنامية هي التي كانت فتنة للناس. نعم.. إن الجمهور قد أولوا الآية، وقالوا

في الحديث ما علمت، وأما إذا قلنا: إن المعراج روحي ، وأنه كان بالصفة التي

يعبر عنها الصوفية بالانسلاخ كما يأتي قريبًا، فلا وجه لاستغراب الافتتان بخبره مع

التصريح بالانسلاخ والتجرد ، وإن لم يصرح به حمله الناس على أنه بالروح

والجسد وافتتنوا به. على أن افتتان بعض الناس واعتراضهم إنما ورد في شأن

الإسراء فقط؛ ولذلك قال بعضهم: إن الإسراء هو الذي كان بالجسد والروح فقط

دون المعراج، واختاره المازري في شرح مسلم.

(الإشكال الثاني) أورده عالم مشهور من القضاة في هذه الديار قال: إن

الإسراء أو المعراج الروحي لا يعد من الخوارق؛ لأن بعض الهنود الوثنيين

يميتون أجسادهم موتًا مؤقتًا، وتطوف أرواحهم في الأرض طائفة من الزمن، ثم

تعود فتتصل ببدنها، فيخبر صاحبها عما رأت في تلك السياحة الروحية ، وقد كان

الإنكليز يسمعون مثل هذا عن الهنود ولا يصدقونه حتى اختبروه بأنفسهم، فأنام

هندي أو أمات نفسه أمام بعضهم، ورأوا جسده جثة لا حراك بها ، وعلموا منه أن

روحه تقصد بلدًا معينًا، فلما عاد إلى حياته المعتادة أخبر بأن روحه جاءت ذلك

البلد ورأت فيه كذا وكذا. فاستخبر أولئك المختبرون بعض معارفهم في ذلك البلد

عما وقع فيها في تلك المدة، فوافق الجواب ما قاله الهندي.

والجواب عن هذا على تقدير صحة الرواية من وجوه:

(أحدها) أن الإسراء والمعراج ليسا من المعجزات التي تحدى بها النبي

صلى الله عليه وسلم للاستدلال على نبوته؛ لأن الاستدلال إنما يكون بما يدركه

المنكرون بحواسهم ولا يشكون فيه.

(ثانيها) يكفي في تسمية الخارقة معجزة أن يعجز الناس عنها، وإن أتوا

بشيء من نوعها ولا سيما إذا كان ما أتوا به دونها ، فإبراء الأرمد كإبراء الأعمى،

ولا إبراء المزكوم كإبراء المسلول ، والروح التي تنسلخ من بدنها فتطوف في بقاع

محدودة من الأرض وترى بعض المحسوسات فيها فقط ، لا يقاس عملها بعمل

الروح التي تطوف ما شاء الله أن تطوف في الأرض، وترى فيها أرواح الأنبياء

والملائكة ثم تعرج إلى السماء وترى ما ترى من آيات الله الكبرى كالجنة والنار،

وتسمع وحي الله تعالى في الملأ الأعلى.

(ثالثها) أن المتكلمين يقولون: إن خوارق العادات تكون لغير الأنبياء،

وتختلف أسماؤها باختلاف أحوال من تكون لهم، فتكون إرهاصًا ومعجزة وكرامة

للأنبياء، الأول قبل البعثة والثاني بعدها مع التحدي والثالث بدونه. وكرامة فقط

للأولياء، ومعونة لمن دونهم من الصالحين، واستدراجًا للفساق والكفار ، وفي

كلامهم هذا مجال للأنظار.

(رابعها) أن الخوارق التي ذكروا لها هذه الأقسام، إنما جنسها المنطقي هو

الأمر المخالف للمعتاد بين جماهير الناس بحسب الأسباب العامة المعروفة التي تنشأ

عنها أعمالهم ، ولا ينافي ذلك عند المتكلمين أن تصدر الخارقة عن كثيرين؛ ولذلك

جوزوا أن تكون معجزة النبي كرامة لكثير من الأولياء، وذكروا وقائع في ذلك منها

إبراء المرضى وإحياء الموتى والمكاشفات التي لا تحصى ، وجوزوا أيضًا أن

تصدر الخارقة عن كل أحد، وميزوا بينها بالأسماء التي سمعت. ومن الناس من

يرد هذا ولا يقول به، فقد قال الشيخ محي الدين بن عربي شيخ الصوفية الأكبر في

عصره: إن الخارقة لا تتعدد، فإن ما يتعدد لا يكون خارقًا للعادة ، وهذا هو

المعقول لا من حيث تطبيقه على معنى الخارقة فقط، بل يقال أيضًا: إن ما يتكرر

لا بد أن يكون له سبب معروف وطريقة توصل إليه، كما توصل طريقة الصوفية

سالكيها إلى ما يذكرون من الكرامات التي صارت عادة تتكرر لأصحابها، وإن

كانت مخالفة للعادات التي عليها غيرهم ، فالكشف مثلاً معتاد من صنف الأولياء،

وإنما هو خارق للعادة عند جمهور الناس ، وسببه الرياضات الروحية ، ولأصحاب

الرياضات البدنية أعمال معتادة بينهم خارقة للعادة عند غيرهم؛ كالمشي على

الحبال وتعلقهم بها من أرجلهم، وإلقاء أنفسهم من الأماكن المرتفعة، وما هو أغرب

من هذا.

هذا، وإن الانسلاخ الذي ذكر عند الهنود وطواف الأرواح وحدها أو بأجساد

من الأثير تشبه الأجساد المركبة، مما نعلم منقول عن صوفية المسلمين، وللشيخ

محيي الدين ابن عربي وقائع كثيرة فيه مذكورة في فتوحاته وفي غيرها، ويذكرون

لأنفسهم معارج روحية ، ويقول محي الدين: إن النبي صلى الله عليه وسلم

عرج به إلى السماء 30 مرة. والله أعلم.

وإننا نورد هنا ما قاله ولي الله الدهلوي في كتابه (حجة الله البالغة) في

الإسراء والمعراج على طريقة الصوفية؛ لتعرف المذاهب والآراء المشهورة فيهما

كلها، وهذا نصه: وأسري به إلى المسجد الأقصى ثم إلى سدرة المنتهى وإلى ما

شاء الله، وكل ذلك لجسده صلى الله عليه وسلم في اليقظة، ولكن ذلك في موطن

هو برزخ بين المثال والشهادة جامع لأحكامهما، فظهر على الجسد أحكام الروح،

وتمثل الروح والمعاني الروحية أجساد؛ ولذلك بان لكل واقعة من تلك الوقائع تعبير،

وقد ظهر لحزقيل وموسى وغيرهما عليهما السلام نحو من تلك الوقائع، وكذلك

لأولياء الأمة؛ ليكون علو درجاتهم عند الله كحالهم في الرؤيا والله أعلم.

أما شق الصدر وملؤه إيمانًا، فحقيقته غلبة أنوار الملكية وانطفاء لهب الطبيعة

وخضوعها لما يفيض عليها من عالم القدس. وأما ركوبه على البراق فحقيقته

استواء نفسه النطقية على نسمته التي هي الكمال الحيواني، فاستوى راكبًا على

البراق كما غلبت أحكام نفسه النطفية على البهيمية وتسلطت عليها. وأما إسراؤه

إلى المسجد الأقصى؛ فلأنه محل ظهور شعائر الله، ومتعلق همم الملأ الأعلى،

ومطمح أنظار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكأنه كوة إلى الملكوت. وأما ملاقاته

مع الأنبياء صلوات الله عليهم ومفاخرته معهم، فحقيقتها اجتماعهم من حيث

ارتباطهم بحظيرة القدس، وظهور ما اختص به من بينهم من وجوه الكمال.

وأما رقيه إلى السماوات سماء بعد سماء، فحقيقته الانسلاخ إلى مستوى

الرحمن منزلة بعد منزلة، ومعرفة حال الملائكة الموكلة بها، ومن لحق بهم من

أفاضل البشر والتدبير الذي أوحاه الله فيها، والاختصام الذي يحصل في ملأها.

وأما بكاء موسى فليس بحسد، ولكنه مثال لفقده عموم الدعوة وبقاء كمال لم يحصله

مما هو في وجهه. وأما سدرة المنتهى فشجرة الكون، وترتب بعضها على بعض

وانجماعها في تدبير واحد؛ كانجماع الشجرة في الغاذية والنامية ونحوهما، ولم

تتمثل حيوانًا لأن التدبير الجملي الإجمالي الشبيه للسياسة الكلي أفراده، وإنما أشبه

الأشياء به الشجرة دون الحيوان؛ فإن الحيوان فيه قوى تفصيلية والإرادة فيه

أصرح من سنن الطبيعة. وأما الأنهار في أصلها فرحمة فائضة في الملكوت حذو

الشهادة وحياة وإنماء؛ فلذلك تعين هنالك بعض الأمور النافعة في الشهادة كالنيل

والفرات. وأما الأنوار التي غشيتها فتدليات إلهية ، وتدبيرات رحمانية ، تلعلعت

في الشهادة حينما استعدت لها. وأما البيت المعمور فحقيقته التجلي الإلهي الذي

يتوجه إليه سجدات البشر وتضرعاتها، يتمثل بيتًا على حذو ما عندهم من الكعبة

وبيت المقدس ، ثم أتي بإناء من لبن وإناء من خمر فاختار اللبن، فقال جبرئيل:

هديت الفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك، فكان هو صلى الله عليه وسلم جامع

أمته ومنشأ ظهورهم ، وكان اللبن اختيارهم الفطرة والخمر اختيارهم لذات الدنيا ،

وأمر بخمس صلوات بلسان التجوز؛ لأنها خمسون باعتبار الثواب ، ثم أوضح الله

مراده تدريجًا؛ ليعلم أن الحرج مدفوع، وأن النعمة كاملة وتمثل هذا المعنى مستندًا

إلى موسى عليه السلام، فإنه أكثر الأنبياء معالجة للأمة ومعرفة بسياستها) ا. هـ

(تنبيه) ذكرت في الجزء الماضي من المنار أن حديث المعراج مضطرب،

وعنيت بهذا اضطراب المتن. وقلما يطلقون لفظ الاضطراب ويريدون به المتن.

* * *

(الجواب عن الثاني الشهب علتها وكونها رجومًا)

اختلف علماء الفلك في أصل الشهب (ويسمونها النيازك) ، وقد ذكر الطبيب

محمد توفيق أفندي صدقي بعض آرائهم فيها في مقالته التي نشرت في الجزء الثامن،

ومنهم من يقول: إن بعضها من مقذوفات براكين الأرض تحلق في الفضاء ثم

تسقط ، وهذا أبعد الآراء عن الصواب، وأقرب منه أن تكون من براكين الكواكب،

ومنهم من يقول: إن أكثرها من قطع النجوم المتكسرة، وبعضها ينفصل من

الكواكب الثابتة. وكل ما قيل في ذلك من رجم الظنون ، لم يصل شيء منه إلى

مرتبة اليقين ، إلا أن لبعضها مدارًا يعرف بالحساب ، وسبب سقوطها هو جذب

الأرض لها عند دنوها منها بدخولها في فلكها. وقد بينا من قبل أن السبب مهما كان

لا ينافي ما يترتب على سقوطها من رجم الشياطين، وتأذيهم بها، وحيلولتها بينهم

وبين الدنو من ملائكة السماء، واستراقهم السمع منهم. وقد ثبت أن الشهب كانت

كثيرة في سنة البعثة، وهي تكثر كذلك كلما دنا مدارها الذي تكثر هي فيه من

الأرض، فكان ذلك من توفيق أقدار لأقدار، والله الموفق وكل شيء عنده بمقدار.

* * *

(الجواب عن الثالث: نزول القرآن باللفظ والمعنى)

أسلوب القرآن غير أسلوب الحديث النبوي، والفرق بينهما ظاهر لا يخفى

على قارئ من أهل هذه اللغة ولا سامع ، والحديث القدسي وغير القدسي في ذلك

سواء. فالقرآن معجز بأسلوبه وفحواه، لا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا

من دونه من البشر على الإتيان بمثله. والذي نجزم به أنه كان يلقى إلى النبي

صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب والنظم، فيلقيه صلى الله عليه وسلم إلى الناس

كما ألقاه إليه الملك، حتى إنه يذكر لفظ الأمر الذي يخاطب هو به، فيقول مثلاً:

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) وهو المخاطب بلفظ قل وكان الظاهر في

الامتثال أن يقول ابتداء (اللَّهُ أَحَدٌ) ولكنه أمر أن يبلغ ما يلقى إليه كما هو ، وإن كان

إلقاء الملك غير إلقاء البشر في كيفيته، فهو مثله في حاصله وما يدرك منه ،

وسنذكر ما ورد في ذلك في وقت آخر.

* * *

(الجواب عن الرابع: أنزل القرآن على سبعة أحرف)

الحديث رواه باللفظ الوارد في السؤال أحمد والترمذي عن حذيفة، وأشار

السيوطي في الجامع الصغير إلى تحسينه، فهو لا يصل إلى درجة الصحيح ،

وروي بلفظ آخر وبزيادة فمن قرأ على حرف منها، فلا يتحول إلى غيره رغبة

عنه، وهو عند الطبراني عن ابن مسعود ، ورواه عنه أيضًا بزيادة أخرى

وحسنوهما. وروي على ثلاثة أحرف ، وعلى عشرة أحرف ، وكلاهما ضعيف.

وقيل: إن العدد ليس للتحديد، والمعنى على أحرف متعددة.

والمختار عندي في معنى الأحرف أنها اللغات العربية المختلفة في الأداء التي

عبر عنها عند كتابنا الآن باللهجات؛ كالهمز وعدمه والإمالة وعدمها والمد والقصر

وصفة حرف الهجاء من ترقيق وتفخيم ، فقد كان هذا مما تختلف فيه العرب، حتى

يعسر على من كانت الإمالة لغة لهم أن يتركوها وهكذا غيرها من الحروف ، فأذن

الله بأن يقرأ كل قوم بحرفهم الذي اعتادوه؛ لأن ذلك لا يغير شيئًا من معنى القرآن

ولا من جوهر لفظه، بل هو يتعلق بأعراض الكلم دون جوهره ، ولا ينافي أنه

نزل بلغة قريش.

* * *

(الجواب عن الخامس: المؤتمر الإسلامي)

يظهر لنا أن المسلمين لما يستعدوا كما يجب لعقد مؤتمر عام؛ لأجل البحث

في مصالحهم وما يرقي شؤونهم ، وقد ذكرهم بذلك العقلاء مرارًا، فلم يلقوا إليهم

سمعًا ، ولا أداروا نحوهم طرفًا ، ولا أمالوا عطفًا ، والذي يسبق إلى ذهن كل من

يبحث في هذه المسألة أن المؤتمر يجب أن يكون في مكة المكرمة أو المدينة المنورة ،

وهذا ما سبق إلى التنبيه عليه السيد جمال الدين الأفغاني، وما كنا اقترحناه منذ

أربع عشرة سنة ، ثم كونه الكواكبي أوسع تكوين في كتابه (سجل جمعية أم

القرى) ، وكلنا نعلم أن السلطان عبد الحميد ما كان ليرضى بعقد هذا المؤتمر في

الحرمين، وكذلك لا يرضى به زعماء جمعية الاتحاد والترقي الآن. وكان إسماعيل

غصبر نسكي صاحب جريدة ترجمان التي تصدر في بغجه سراي (عاصمة بلاد

القريم الروسية) اقترح عقد هذا المؤتمر بمصر من عدة سنين، فأجاب دعوته

فئة من المصريين، وجعلوا للمؤتمر قانونًا، ونشروا الدعوة إليه في جميع الأقطار،

فلم يجب دعوته أحد.

ومصر هي البلاد المتمتعة بالحرية التي يمكن أن يكون فيها المؤتمر متى تم

الاستعداد له ، وتليها بلاد الهند. ونرجو أن تكون جماعة الدعوة والإرشاد هي

المعدة للمسلمين إلى عقد مثل هذا المؤتمر بعد تأسيس شعبها في جميع الأقطار ،

ويتوقف عقد المؤتمر ونجاحه على وثوق الحكومات التي تسوس المسلمين بأنه لا

عمل له إلا إحياء العلم والفضيلة ، والجمع بين الدين والمدنية النزيهة ، وعدم الدخول

في مآزق السياسة والتعرض لفتنها ، نعم إن من حكام المسلمين من لا يرضيهم ترقي

المسلمين بدينهم كما نريد، ولكنهم لا يشتدون في مقاومة المؤتمر إذا كان هذا هو

مرادنا منه، وكنا بمعزل عن السياسة فيه.

* * *

(الجواب عن السادس: إنشاء ناد للتعارف بمكة)

إننا نستحسن اقتراح الفاضل أشد الاستحسان، ولكن إنشاء الجماعة ناديًا لها

في مكة المكرمة أو في غيرها من البلاد يتوقف على إنشاء شعبة لها هناك تكون

ضليعة بذلك، فالاقتراح يعد الآن مبتسرًا ، والبسر قد يصير رطبًا فتمرًا ، والرجاء

في الله عز وجل أن نجد في خيار المسلمين من المساعدة على عملنا هذا ما

يمهد لنا السبيل إلى ما فيه الخير لنا وللبشر أجمعين.

* * *

(المندل وخواص القرآن)

(س60) ورد من جاوه إلى مكة المكرمة وأرسل إلينا منها.

ما قولكم دام فضلكم في علم المندل وخواص بعض الآيات القرآنية أو السور،

ومنها ما إذا قرأ على كف صبي دون البلوغ أو جعل وفقًا وحمله الصبي، يظهر له

في كفه أو قدامه شخص أو أشخاص على صورة الإنسان، بحيث يراه الصبي دون

غيره بعينه ويخاطبه ويسأله عما يريد، فيخبره الشخص بمقتضى سؤاله ويأمره

بأمر أراد فيه (كذا) ، وكذلك وجد في كتاب (الرحمة في الطب والحكمة) للعلامة

السيوطي، وذكر فيه لرؤية السارق عبارته فيه (لرؤية السارق يكتب على بيضة

دجاجة من أول سورة الملك إلى حسير، ثم تدهنها بالقطران وتعطيها لصبي، ثم

تقرأ سورة يس والصبي ينظر إليها، فإنه ينظر السارق، فاعرف هذا السر وصنه

عن غير أهله) اهـ. فما الحكم على هذا شرعًا، هل يجوز استعماله أم لا؟

وهل يكون من قبيل السحر أو الكهانة أو من خواص الآيات القرآنية؟ أفتونا

مأجورين يوم الدين؛ لأن هذا شيء جرب واستعمل وصح في بعض الأحيان.

(ج) خلق الإنسان ضعيفًا ، ومن آيات ضعفه أنه يفتتن بكل ما لا يعرف

سببه، ويسرع إلى تصديقه قبل تمحيصه ، ولا سيما إذا لون بلون الدين أو جاء من

ناحيته ، أو من قبل من يعدون من علمائه.

قال علماء المنطق: إن التجربة من طرق العلم اليقيني، وإن المجربات

إحدى اليقينيات الست ، ويعنون بذلك المجربات المطردة التي لا تختلف متى

استوفت شروطها؛ ككون الخبز مغذيًا والماء مرويًا، وبعض الأملاح والزيوت

مسهلاً ، ونرى جماهير الناس يجربون الشيء مرة أو مرتين تجربة ناقصة،

ويجعلون له حكم المجربات المطردة، ويسلمون به وبكل ما كان من جنسه تسليمًا ،

وهذا وذاك هما سبب شيوع الخرافات في الناس ، فمن فقه هذا لا يثق بكل ما قيل:

إنه جرب وصح سواه، قاله المعاصرون بألسنتهم أو الميتون في كتبهم ، وإن لم

يكن أحد من الفريقين متهمًا بالكذب ، فقد ينظر صبي أو كبير في المندل أو في غير

المندل كالرمل والحصا؛ لأجل الاهتداء إلى معرفة سارق أو غير سارق، فيتراءى

له شيء يذكره ، أو شيخ يصفه ، ثم يظهر الواقع موافقًا لذلك ولو من بعض الوجوه،

فيحفظه الناس لغرابته. وأما إذا ظهر الواقع مخالفًا لذلك وهو الأكثر، فإنهم

ينسون ما قيل، ولا يعدونه دليلاً على كون التجربة لم تثبت المندل أو الرمل طريقًا

لمعرفة بعض المغيبات.

إن التجربة إذا صحت ظاهرًا في بعض الجزئيات دون بعض، يجب البحث

عن سبب ذلك. وكان يجب أن يكون أول ما يخطر ببال العاقل أن قول صاحب

المندل أو الرمل: إن سارق كذا شاب طويل القامة واسع العينين طويل الذراعين

ونحو ذلك، قد يكون من التخيلات التي تتراءى عادة ، وإن صدق الوصف جاء

بالمصادفة والاتفاق؛ لأن من يقول شيئًا من شأنه أن يقع مثله، فإن الواقع يوافقه

تارة ويخالفه تارة، ولا مقتضي لمخالفته دائمًا ، وهذا الأمر المعقول هو الواقع في

مدعي معرفة بعض الغيب بالمندل والرمل وما أشبههما ، يصيبون مرة ويخطئون

مرارًا ، فتجربتهم لا تسفر عن إثبات صحة دعواهم لمن ينظر إلى مجموع وقائعهم

ولكن صغار العقول يكتفون بالجزئية الواحدة أو الجزئيات القليلة، ويعدونها قضايا

كلية مطردة.

ويقول بعض المتقدمين والمتأخرين: إن تجربة المتقنين للمندل وما يشبهه

صحيحة، وإن المتقن لا يكاد يخطئ إلا إذا فقد بعض شروط العمل ، فإذا صح هذا

القول يكون هذا الأمر من الصناعات التي تعرف أسبابها وتتخذ لها عدتها، ولا من

الخوارق الحقيقية ، ولا من الخواص المجهولة ، وهذا هو الراجح. وينبغي حينئذ

البحث عن تلك الأسباب ومعرفة حقيقة هذه الصناعة التي يقل المتقن لها، حتى

يؤمن غش الأدعياء. وابن خلدون وغيره من الحكماء الذين أثبتوا أن لهذا أصلاً

صحيحًا، يقولون: إن المدار فيه على استعداد الأنفس البشرية لإدراك بعض

الأمور الغائبة بالتوجه التام إليها ، وأن بعض النفوس أقوى استعدادًا لذلك من بعض،

والغلام أقوى استعدادًا له من الكبير في مثل وسيلة المندل، والعصبي المزاج

أقوى استعدادًا له من غيره ولا سيما من اللمفاوي، وإن ما ينظر فيه من الزيت أو

الماء أو الكتابة أو البيضة أو الحصا ليس مقصودًا لذاته ولا تأثير له في نفسه،

وإنما المراد منه جمع الهمة وإشغال النفس عن الخواطر بحصر توجهها في شيء

محسوس واحد؛ لتنتقل منه بعد حصرها وتوجهها فيه إلي ما تريد معرفته من ذلك

الأمر الغائب، وهذا تعليل معقول، فإذا كان المسلمون يكتبون شيئًا من القرآن

الكريم فغيرهم يكتب شيئًا آخر من كتبهم الدينية أو يكتب حروفًا مفردة لا معنى لها،

والمقصد منها اشتغال الحس، وتوجيه النفس، ومن هذا الباب ما يدركه بعض

أصحاب الأمراض العصبية من الأمور الغائبة؛ وهو يؤيد نظرية ابن خلدون

وأمثاله، وإذا كان هذا صناعة يجوز شرعًا لمن أتقنها أن ينتفع بها وينفع، وإنما

المحرم الغش الذي يفعله الدجالون الذين لا يحصى عددهم، وهو الذي قد يعد من

قبيل السحر لأنه خداع وتلبيس.

* * *

(العمل بالسياسة والقوانين)

(س61) جاء من أحد آل الشيبي في مكة المكرمة، وقد ورد من جاوه.

ما قولك دام فضلكم في أحكام السياسة والقوانين التي أنشأها سلطان البلد أو

نائبه، وأمر وألزم بلده وقضاته بإجرائها وتنفيذها، هل يجوز لهم إطاعته وامتثاله

لإطلاق قوله تعالى: {وأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} (آل عمران: 32) إلخ، أم

كيف الحكم؟ أفتونا مأجورين؛ لأن هذا شيء قد عم البلدان والأقطار.

(ج) إذا كانت تلك الأحكام والقوانين عادلة غير مخالفة لكتاب الله وما صح

من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجب علينا أن نعمل بها؛ إذا وضعها أولو

الأمر منا وهم أهل الحل والعقد، مع مراعاة قواعد المعادلة والترجيح والضروريات،

وإن كانت جائزة مخالفة لنصوص الكتاب والسنة التي لا خلاف فيها لم تجب

الطاعة فيها؛ للإجماع على أنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهذا نص

حديث رواه بهذا اللفظ أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري

وصححوه. ورواه الشيخان في صحيحيهما وأبو داود والنسائي من حديث علي

كرم الله وجهه بلفظ (لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف) ولا

يشترط أن تكون هذه القوانين موافقة لاجتهاد الفقهاء فيما أصلوه أو فرعوه برأيهم؛

لأنهم صرحوا بأن الاجتهاد من الظن، ولا يقوم دليل من الكتاب والسنة ولا من العقل

والحكمة على أنه يجب على الناس أن يتبعوا ظن عالم غير معصوم، فلا يخرجوا عنه

ولو لمصلحة تطلب أو مفسدة تجتنب، ولا بغير هذا القيد.

وكذلك يطاع السلطان فيما يضعه هو أو من يعهد إليه ممن يثق بهم من القوانين

التي ليس فيها معصية للخالق، وإن لم يكونوا من أولي الأمر الذين هم أهل الحل

والعقد لأجل المصلحة لا عملاً بالآية، ولكن إذا اجتمع أهل الحل والعقد ووضعوا غير

ما وضعه السلطان، وجب على السلطان أن ينفذ ما وضعوه دون ما وضعه هو؛ لأنهم

هم نواب الأمة، وهم الذين لهم حق انتخاب الخليفة، ولا يكون إمامًا للمسلمين إلا

بمبايعتهم، إن خالفهم وجب على الأمة تأييدهم عليه لا تأييده عليهم، وبناء على هذه

القاعدة التي لا خلاف فيها عند سلف الأمة؛ لأنها مأخوذة من نصوص القرآن الحكيم،

قال الخليفة الأول في خطبته الأولى: (وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت

فأعينوني، وإذا زغت فقوموني) وله كلام آخر في تأييد هذه القاعدة، وقال الخليفة

الثالث علي المنبر أيضًا: (أمري لأمركم تبع) ، وقال الخليفة الرابع في أول

خطبة له، وكانت بعدما علمنا من الأحداث والفتن: (ولئن رد إليكم أمركم إنكم

لسعداء وأخشى أن تكونوا في فترة) وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى

بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) والفتنة التي قتل فيها عثمان لم تكن بالشورى بين أولي

الأمر، بل كانت بدسائس هاجت الرعاع، وأرز (انكمش) فيها مثله وهو إمام أولي

الأمر وأعلمهم وأعدلهم إلى كسر بيته. وما قاله بعض الفقهاء خدمة للمستبدين من

الأمراء، من وجوب طاعتهم في كل شيء خوفًا من الفتنة؛ مخالف لنص الحديث

الصحيح وللإجماع على مضمونه، ولعمل الصدر الأول؛ وهو الذي كان السبب في

إضاعة ملك المسلمين وترك العمل بشرع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم،

فالخضوع للمستبدين الظالمين هو الذي مهد السبيل للخضوع للكافرين، ولأجل هذا

كان الحكام المستبدون يضطهدون العلماء المستقلين، ويرفعون رتب المعممين

المقلدين، الذين كانوا أعوانهم في كل حين، نعم.. إن مقاومة الأمة لأمراء الجور

المتغلبين؛ يجب أن يكون بالحكمة والتدبر؛ واتقاء استشراء الفتن وانتشارها والعمل

بقاعدة ارتكاب أخف الضررين.

* * *

(الفرق بين الزواج والزنا)

(س62) من صاحب الإمضاء بمصر

حضرة الأستاذ الفاضل

السلام عليكم ورحمة الله وبعد، نطلب من حضرتكم الإجابة على سؤالنا الآتي

نشرًا في مجلة (المنار) ، ولكم منا الشكر ومن الله الأجر.

رجل لا يرغب في الزناء ولا يمكنه أن يتزوج، وليس في استطاعته أن

يعصم نفسه عن النكاح، فهل إذا اتفق مع بغي، وتزوج بها في ليلته، وعقدا عقدة

النكاح بينهما بدون واسطة وحين يصبح يطلقها، أفهل هذا يعد زناء أم لا؟

أفيدونا على ذلك ولكم الثواب.

...

...

...

...

م. ع. المللواني

(ج) كيف لا يعد هذا زناء؛ وهو يعلم علم اليقين أنه يأتي زانية، كانت

البارحة كما تكون غدًا في حجرة غيره، وهو لم يستبرئ رحمها، ولم يعقد عليها

عقدًا صحيحًا؛ والعقد الصحيح هو ما تعقد به رابطة الزوجية بقصد العيشة الزوجية

وأما اشتراط الشهود فيه وسنية إعلانه، فليتميز عن السفاح الذي من شأنه أن يكون

في الخفاء كالصورة التي تسأل عنها، وأنت موقن أنك لا تقصد الزوجية بالكلمات

التي سميتها عقدًا، وإنما تقصد السفاح أي الاشتراك مع البغي في سفح ماء الشهوة،

وأين أنت من قوله تعالي: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا

يَنكِحُهَا إِلَاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ} (النور: 3) ، فاعتبر بهذا،

واعلم يا أخي أن الفرق الحقيقي بين الحلال والحرام والخير والشر والحق

والباطل لا يكون كلمة يلوكها اللسان، بل الفرق أمر حقيقي يعبر عنه اللسان لأجل

بيانه، فلا تغش نفسك، وتظن أنك تخادع ربك، وإذا كنت تحب أن تبقى طاهرًا

نقيًا من فتن الفاحشة فتوجه إلى ربك، وانتزع فكرة التمتع من قلبك، واشغل نفسك

عنها بما يقوي إيمانك كالصيام وذكر الله تعالى بالتدبر والحضور؛ إلى أن يهيئ الله

لك زوجًا صالحة والسلام.

_________

ص: 731

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بحث الاجتهاد والتقليد

تابع لما نشر في الجزء السابع

عن مختصر كتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول

لابن أبي شامة من فقهاء الشافعية في القرن السابع

(فصل) ثم إن المتصفين من أصحابنا بالصفات المتقدمة من الاتكال على

نصوص إمامهم، معتمدين اعتماد الأئمة على الأصليين (الكتاب والسنة) ، قد وقع

في مصنفاتهم خلل كثير من وجهين عظيمين.

(الأول) إنهم يختلفون كثيرًا فيما ينقلونه من نصوص الشافعي، وفيما

يصححونه منها، وصارت لهم طرق مختلفة (خراسانية وعراقية [1] فترى هؤلاء

ينقلون عن إمامهم خلاف ما ينقله هؤلاء، المرجع في ذلك كله إلى الإمام واحد،

وكتبه مدونة مروية موجودة، أفلا كانوا يرجعون إليها وينقون تصانيفهم من كثرة

اختلافهم عليها؟ وأجود تصانيف أصحابنا من الكتب فيما يتعلق بنصوص الشافعي

كتاب التقريب [2] . أثنى عليه أخبر المتأخرين بنصوص الشافعي وهو الإمام الحافظ

أبو بكر البيهقي.

(الوجه الثاني) ما يفعلونه في الأحاديث النبوية والآثار المروية من كثرة

استدلالاتهم الضعيفة؛ على ما يذهبون إليه نصرة لقولهم، وينقصون من ألفاظ

الأحاديث وتارة يزيدون فيها، وما أكثره في كتب أبي المعالي وصاحبه أبي حامد [3]

نحو: (إذا اختلف المتبايعان وترادا) ومن العجيب ما ذكره صاحب المهذب في

أول باب إزالة النجاسة قال: وأما الغائط فهو نجس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم

لعمار: (إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والمني والدم والقيء) ، ثم ذكر

طهارة مني الآدمي، ولم يتعرض للجواب عن هذا الحديث الذي هو حجة خصمه

عليه في أمر آخر، ومن قبيح ما يأتي به بعضهم أن يحتج بخبر ضعيف؛ هو دليل

خصمه عليه، فيوردونه معرضين عما كانوا ضعفوه، ففي كتاب الحاوي والشامل [4]

وغيرهما شيء كثير من هذا، وهم مقلدون للإمام الشافعي، فهلا اتبعوا طريقته

في ترك الاحتجاج بالضعيف، وتعقبه على من احتج به وتبين ضعفه.

ثم إن مذهبه ترك الاحتجاج بالمراسيل إلا بشروط، ولو ذكر سند الحديث

وعرفت عدالة رجاله إلى التابعي، وسقط من السند ذكر الصحابي، كان مرسلاً،

ويورد هؤلاء المصنفون هذه الأحاديث محتجين بها بلا إسناد أصلاً، فيقولون: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظنون أن ذلك حجة، وإمامهم يرى أنه لو سقط

من السند الصحابي وحده لم يكن حجة، وكذا لو سقط غير الصحابي من السند،

فليتهم إذ عجزوا عن أسانيد الأحاديث ومعرفة رجالها عزوها إلى الكتب التي

أخذوها منها. ولكنهم لم يأخذوا تلك الأحاديث إلا من كتب من سبقهم من مشايخ،

ممن هو على مثال حالهم، فبعضهم يأخذه من بعض فيقع التغيير والزيادة والنقصان

فيما صح أصله، ويختلط الصحيح بالسقيم، بل الواجب في الاستدلال على الحكام

وبيان الحلال والحرام، إن من يستدل بحديث يذكر سنده ويتكلم عليه بما يجوز

الاستدلال به أو يعزوه إلى كتاب مشهور من كتب أهل الحديث المعتبرة، فيرجع

من يطلب صحة الحديث وسقمه إلى هذا الكتاب وينظر في سنده وما قال ذلك

المصنف أو غيره فيه.

وقد يسر الله تعالى وله الحمد؛ الوقوف على ما يثبت من الأحادث وتجنب ما

ضعف منها؛ بما جمعه علماء الحديث في كتبهم من الجوامع والمسانيد، فالجوامع

هي المرتبة على الأبواب من الفقه والرقائق والمناقب وغير ذلك، فمنها ما اشترط

فيه الصحة؛ إذ لا يذكر فيه إلا حديث صحيح على ما شرطه مصنفه ككتابي

البخاري ومسلم، وما ألحق بهما واستدرك عليهما وكصحيح إمام الأئمة محمد بن

إسحاق بن خزيمة. وكتاب أبي عيسي الترمذي وهو كتاب جليل مبين فيه الحديث

الصحيح والحسن والغريب والضعيف، وفيه عن الأئمة فقه كثير. ثم سنن أبي

داود والنسائي وابن ماجه، ومن بعدهم سنن أبي الحسن الدارقطني والتقاسيم

لأبي حاتم بن حبان وغيرهما، ثم ما رتبه وجمعه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه

الكبير من الأوسط والصغير التي أتى بها على ترتيب مختصر المزني؛ وقربها إلى

الفقهاء بجهده فلا عذر لهم، ولا سيما الشافعية منهم في تجنب الاشتغال بهذه الكتب

النفيسة، (والكتب) المصنفة في شروحها وغريبها بل أفنوا زمانهم وعمرهم

بالنظر في أقوال من سبقهم من المتأخرين، وتركوا النظر في نصوص نبيهم

المعصوم من الخطأ، وآثار أصحابه الذين شهدوا الوحي وعاينوا المصطفى صلى

الله عليه وسلم، وفهموا مراد النبي فيما خاطبهم بقرائن الأحوال؛ إذ (ليس الخبر

كالمعاينة) ، فلا جرم لو حرم هؤلاء رتبة الاجتهاد وبقوا مقلدين.

(وقد كان العلماء في الصدر الأول معذورين في ترك ما لم يقفوا عليه من

الحديث؛ لأن الأحاديث لم تكن فيما بينهم مدونة إنما كانت تتلقى من أفواه الرجال

وهم متفرقون في البلاد، ولو كان الشافعي وجد في زمانه كتابًا في أحكام السنن

أكبر من الموطأ لحفظه مضافاً إلى ما تلقاه من أفواه مشايخه، فلهذا كان الشافعي

بالعراق يقول لأحمد بن حنبل: أعلموني بالحديث الصحيح أصر إليه. وفي رواية:

إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا لي حتى أذهب إليه.

(ثم جمع الحفاظ الأحاديث المحتج بها في الكتب، ونوعوها وقسموها

وسهلوا الطريق إليها، فبوبوها وترجموها (أي وضعوا لها التراجم والعناوين)

وبينوا ضعف كثير منها وصحته، وتكلموا في عدالة الرجال وجرح المجروح منهم

وفي علل الأحاديث، ولم يدعوا للمشتغل شيئًا يتعلل به. وفسروا القرآن والحديث،

وتكلموا على غريبهما وفقههما، وكل ما يتعلق بهما من مصنفات عديدة، فالآلات

متهيئة لطالب صادق ولذي همة وذكاء وفطنة.

(وأئمة الحديث هم المعتبرون القدوة في فنهم، فوجب الرجوع إليهم في ذلك

وعرض آراء الفقهاء على السنن والآثار الصحيحة، فما ساعده الأثر فهو المعتبر

وإلا فلا، فلا نبطل الخبر بالرأي ولا نضعفه إن كان على خلاف وجوه المضعف

من علل الحديث المعروفة عند أهله، أو بإجماع الكافة على خلافه، فقد يظهر

ضعف الحديث وقد يخفى. وأقرب ما يؤمر به في ذلك أنك متى رأيت حديثًا خارجًا

عن دواوين الإسلام؛ كالموطأ ومسند أحمد والصحيحين وسنن أبي داود والترمذي

والنسائي ونحوها مما تقدم ذكره مما لم نذكره، فانظر فيه فإن كان له نظير في

الصحاح والحسان قرب أمره، وإن رأيته يباين الأصول وارتبت به فتأمل رجال

إسناده، واعتبر أحوالهم من الكتب المصنفة في ذلك، وأصعب الأحوال أن يكون

رجال الإسناد كلهم ثقات، ويكون متن الحديث موضوعًا عليهم أو مقلوبًا أو قد

جرى فيه تدليس، ولا يعرف هذا إلا النقاد من علماء الحديث، فإن كنت من أهله

فبها وإلا فاسأل عنه أهله، فما عرفوا منه أخذناه، وما أنكروه تركناه.

(فالتوصل إلى الاجتهاد بعد جمع السنن في الكتب المعتمدة؛ إذا رزق

الإنسان الحفظ والفهم ومعرفة اللسان أسهل منه قبل ذلك، لولا قلة همم المتأخرين

وعدم المعتبرين.

(ومن أكبر أسباب تعصبهم برفق الوقوف [5] وجمود أكثر المتصدرين منهم

على ما هو المعروف، الذي هو منكر مألوف.

* * *

(فصل) فإذا ظهر هذا وتقرر، تبين أن التعصب لمذهب الإمام المقلد ليس

هو باتباع أقواله كلها كيفما كانت، بل الجمع بينها وبين ما ثبت من الأخبار والآثار

والأمر عند المقلدين أو أكثرهم بخلاف هذا؛ إنما هم يئولونه تنزيلاً على نص

إمامهم.

(ثم الشافعيون كانوا أولى بما ذكرناه؛ لنص إمامهم على ترك قوله إذا ظفر

بحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلافه، فالتعصب له على

الحقيقة إنما هو امتثال أمره في ذلك وسلوك طريقته في قبول الأخبار والبحث عنها

والتفقه فيها، وقد نقلت ما روي عنه في تاريخ دمشق: قال الربيع قال الشافعي:

(قد أعطيتك جملة تغنيك إن شاء الله تعالى، لا تدع لرسول الله حديثًا أبدًا إلا أن يأتي

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه؛ فتعمل بما قلت لك في الأحاديث إذا

اختلفت) وفي رواية: (إذا وجدتم عن رسول الله سنة خلاف قولي فخذوا بالسنة

ودعوا قولي؛ فإني أقول بها) وفي رواية: (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله ودعوا ما قلت) وفي رواية

(كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع

في حياتي وبعد مماتي) [6] .

(قال: وسمعت الشافعي يقول - وروى حديثًا - قال له رجل: تأخذ بهذا يا

أبا عبد الله، فقال متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا صحيحًا فلم

آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب) وأشار بيده إلى رأسه، وفي رواية: روى

حديثًا فقال له قائل: أتأخذ به؟ فقال له: أتراني مشركًا؟ أو ترى في وسطي زنارًا؟

أو تراني خارجًا من كنيسة؟ نعم.. آخذ به آخذ به آخذ به، وذلك الفرض على

كل مسلم) وقال حرملة: قال الشافعي: كل ما قلت وكان قول رسول الله صلى الله

عليه وسلم أولى ولا تقلدوني) وفي كتاب ابن أبي حاتم عن أبي ثور قال: سمع

الشافعي يقول (كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه

مني) وفيه عن الحسين الكرابيسي قال: قال لنا الشافعي: (إذا أصبتم الحجة في

الطريق مطروحة فاحكوها عني فإني القائل بها) وقال الربيع: سمعت الشافعي

يقول: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغرب

عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه

وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي.

قال وجعل يردد هذا الكلام. قال: وقال الشافعي: (من تبع سنة رسول الله صلى

الله عليه وسلم وافقته، ومن غلط فتركها خالفته، صاحبي اللازم الذي لا أفارقه هو

(الثابت عن رسول الله) وقال الزعفراني: كنا لو قيل لنا سفيان عن منصور عن

إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: هذا مأخوذ

وهذا غير مأخوذ حتى قدم علينا الشافعي، فقال: (ما هذا؟ إذا صح الحديث عن

رسول الله فهو مأخوذ به لا يترك لقول غيره) قال: فنبهنا لشيء لم نعرفه، يعني

نبهنا على هذا المعنى.

قال أبو بكر الأثرم: كنا عند البويطي فذكرت حديث عمار في التيمم، فأخذ

السكين وحته من كتابه وجعله ضربه [7] وقال: هكذا أوصانا صاحبنا إذا صح

عندكم الخبر فهو قولي) .

(قال المؤلف) قلت هذا من البويطي فعل حسن موافق للسنة ولما أمر به

إمامهم، وأما الذي يظهر التعصب لأقوال الشافعي كيفما كانت وإن جاءت سنة

بخلافها، فليسوا متعصبين في الحقيقة؛ لأنهم ما أمر به إمامهم بل دأبهم وديدنهم إذا

ورد عليهم الحديث الصحيح الذي هو مذهب إمامهم من قول قد أمر بتركه عند

وجدان ما يخالفه من السنة، هذا مع كونهم عاصين بذلك لمخالفتهم ظاهر كتاب الله

وسنة رسوله، والعجب أن منهم من يجيز مخالفة نص الشافعي لنص له آخر في

مسألة أخرى بخلافه ثم لا يرون مخالفته؛ لأجل نص رسول الله صلى الله عليه

وسلم، وقد أذن لهم الشافعي في هذا.

قال البوطي سمعت الشافعي يقول: (لقد ألفت هذه الكتب، ولم آل فيها

جهدًا ولا بد أن يوجد فيها الخطأ؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ

اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) فما وجدتم في كتبي هذه مما

يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه) وفي رواية (إني ألفت هذه الكتب مجتهدًا،

بنحو ما قبله وفي آخره، فاشهدوا على أني راجع عن قولي إلى حديث رسول الله

صلى الله عليه وسلم؛ وإن كنت قد بليت في قبري) .

وقال إبراهيم بن المنذر الخزامي: حدثنا معن بن عيسى القزاز قال: سمعت

مالكًا يقول: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي: فكل ما وافق

الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه) .

وذلك الظن بجميع الأئمة، وقد كره الإمام أحمد أن يكتب فتاويه، وكان يقول:

لا تكتبوا عني شيئًا ولا تقلدوني ولا تقلدوا فلانًا وفلانًا، وخذوا من حيث أخذوا) وقال

بعضهم: لا تقلدوا دينكم الرجال إن آمنوا آمنتم وإن كفروا كفرتم. وكان أحمد لا يفتي

في طلاق السكران شيئًا، ويقول: إن أحللناه بقول هذا حرمناه بقول هذا: وقال نعيم

بن حماد: سمعت أبا عصمة يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: ما جاءه عن رسول الله

صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وما جاء عن أصحابه اخترنا، وما كان من

غير ذلك فنحن رجال وهم رجال.

وروى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: أقلد من كان من القضاة المفتين

من الصحابة؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة، ولا أستجيز خلافهم

في رأيي إلا ثلاثة نفر - وفي رواية: أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأيي

إلا ثلاثة نفر -: أنس بن مالك، وأبو هريرة، وسمرة بن جندب، فقيل له

في ذلك، فقال: أما أنس فاختلط في آخر عمره وكان يستفتى (فيفتي) من عقله وأنا

لا أقلد عقله. وأما أبو هريرة كان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في

المعنى ومن غير أن ينظر في الناسخ والمنسوخ [8] .

وقال ابن المبارك: سمعت أبا حنيفة يقول: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه

وسلم فعلى الرأس، وإذا جاء عن أصحابه نختار من قولهم، وإذا جاء عن التابعين

زاحمناهم، وفي رواية قال: آخذ بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد

في كتاب الله ولا سنة رسول الله آخذ بقول أصحابه، ثم آخذ بقول من شئت منهم

وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم. فأما إذا انتهى الأمر

إلى إبراهيم أو الشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب؛ وعدَّ رجالاً

من التابعين؛ فقوم اجتهدوا لرأيهم. وكان سوَّى بين الصحابة والتابعين في أنهم إذا

أجمعوا في مسألة على قولين؛ لم يجز إحداث قول ثالث، وجوز أبو حنيفة ذلك، وأما

ما أجمع عليه الصحابة فلا كلام في أنه لا تجوز مخالفته.

فقد وضح لك من أقوال الأئمة أنه متى جاء حديث ثابت صحيح عن رسول الله

صلى الله عليه وسلم فواجب المصير إلى ما دل عليه الظاهر ما لم يعارضه دليل آخر

، وهذا هو الذي لا يسع أحدًا غيره، قال الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ

حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا

تَسْلِيماً} (النساء: 65) . فنفى سبحانه الإيمان عمن لم يحكم رسوله فيما وقع

التنازع فيه ولم يستسلم لقضائه، وقال: يضمنها في طاعة غيره، وقال تعالى:

{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب: 71) وأوعد على

مخالفة، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن

يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} (الأحزاب: 36) .

قال يونس بن عبد الأعلى: حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي نجيح عن مجاهد

قال: ليس من أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم،

وروي عن مجاهد بإسناد آخر، وروي معناه عن الشعبي، وكذلك روى شعبة عن

الحكم بن عتيبة، وروي عن مالك بن أنس وقال:(إلا صاحب هذا القبر)

وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ا. هـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

ثم حدثت بعد المصنف الوجوه الشامية والمصرية بعد مصنفات محيى الدين النووي في الشام، ثم زكريا الأنصاري فابن حجر الهيتمي والرملي بمصر، وكل هؤلاء قد اعتمدوا على كتب النووي وقلما يخالفونه، وعمدة أهل الحجاز واليمن وحضرموت إلى هذا العهد كتب ابن حجر، كما أن عمدة أهل مصر الشام كتب الرملي كما كان الخراسيون يعتمدون كلام فقهاء خراسان، والعراقيون كلام فقهاء العراق والمدار على الثقة بالرجال لا على الدليل والنص، حتى إنك لو أطلعت الحجري أو الرملي عنهم على نص الشافعي المخالف لنص ابن حجر أو الرملي لنبذه واتبع ابن حجر أو الرملي.

(2)

هو للشيخ قاسم القفال الشاشي، قال ابن خلكان: هو أجل كتب الشافعية بحيث يستغني من هو عند غيره.

(3)

أبو المعالي إمام الحرمين وأبو حامد الغزالي.

(4)

الحاوي للمواردي، والشامل لابن الصباغ وهما من أعظم كتب الشافعية وأوسعها.

(5)

قال في هامش الأصل: يعني ارتفاق الأوقاف والانتفاع مما شرط على المالكية أو نحوهما فنقيدهم بالارتفاق بها وحصرهم جهة الارتزاق منها أورث تعصبهم وجمودهم انتهى، يعني أنه لولا تلك الأوقاف التي حبست في العصور الأولى على أصحاب هذه المذاهب لسلك جميع العلماء مسلك الأئمة وسائر السلف في الاستقلال وتحكيم الكتاب والسنة.

(6)

المنار: في الأصل المطبوع تحريف وتقديم وتأخير في هذه النقول صصحناه من الكتب التي نقلته نقلا مضبوطًا.

(7)

أي جعل التيمم ضربة واحدة يمسح بها المتيمم وجهه ويديه وكان في الكتاب ضربتين واحدة للوجه وأخرى لليدين، وحديث عمار ضربة واحدة فأصلح البويطي بها كتابه وترك قول الشافعي أستاذه بحديث عمار.

(8)

قال في (مرأة الوصول وشرحها مرقاة الأصول) من أصول الحنفية رحمهم الله في بحث حال الراوي، وهو إن عرف بالرواية فإن كان فقيها تقبل منه الرواية مطلقًا، سواء وافق القياس أو خالفه وإن لم يكن فقيها كأبي هريرة وأنس رضي الله عنهما فترد روايته إن لم توافق الحديث الذي رواه اهـ بحروفه، ولابن القيم في إعلام الموقعين بحث كبير في أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس فراجعه اهـ من هامش الأصل المطبوع، لم يشر صاحب الهامش إلى سقوط سبب ترك رواية سمرة.

ص: 743

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المسألة الشرقية [*]

واعتداء إيطالية على طرابلس الغرب

وقعت الواقعة، ليس لوقعتها كاذبة، خافضة رافعة، فوجفت القلوب،

وامتدت الأعناق، وشخصت الأبصار، وعميت الأنباء على الناس فهم يتساءلون:

كيف أقدمت إيطالية على مفاجأة الدولة العثمانية بالعدوان، واغتصاب مملكة كبيرة

وهي ولاية طرابلس الغرب ومتصرفية بنغازي، وإيذانها بالحرب من غير عداء

سابق ولا خلاف على شيء بني عليه هذا العدوان؟

كيف رضيت الدول العظمى بهذا العدوان المشوه الذي هدمت به حقوق الدول

ونقضت به معاهداتها، وبطلت الثقة بكل ما عدا القوة فيها، فهي كالوحوش

المفترسة، والذئاب الضارية، ولا يصدها عن الولوغ في الدماء، وتمزيق الأشلاء

إلا العجز فقط؟

كيف سكتت الشعوب الأوربية لدولها على هذه السياسة الوحشية التي لا شائبة

فيها لشيء من شرف الإنسانية؟

هل الحقوق والعهود والقوانين والعدل والرحمة والإنسانية ألفاظ تلوكها الألسنة

وترسمها الأقلام؛ لأجل مخادعة الغافلين والتغرير بالجاهلين، أم هي خاصة بمن

يدعون الانتساب إلى المسيح، وإن كانوا أبعد الخلق عن آدابه وتعاليمه في القناعة

والزهد والرحمة ومحبة الأعداء، والصفح عن المعتدين؟

هل تقصد أوربة بالسماح لإحدى دولها الكبرى بهذا العدوان المشوه، المخالف

لما اعتاده سائر دولها من العدوان المموه؛ لجعله مقدمة لإسقاط هذه الدولة الإسلامية

واقتسام بلادها بعد أن أسقطن دولة المغرب الأقصى، واتفقن على انقسام دولة

إيران، وسمحن لروسية بإنشاب براثنها في القسم الشمالي منها، وترك القسم

الجنوبي لدولة إنكلترة؟

أتريد هذه الدول الأوربية المسيحية العادلة الرحيمة البريئة من الظلم

والتعصب بزعمها هدم الدول الإسلامية الثلاث في سنة واحدة؟ هذا ما يتساءل به

الناس.

قد انهتك الستر، وانكشف القناع، وأظهرت أوربة ما كانت تخفيه بالتمويه

من قصد إزالة سلطان المسلمين من الأرض، والقضاء عليهم بالذل والعبودية، وأن

يكونوا خدمًا وعبيدًا لأوربة؛ بعد أن تقتسم ما بقي من ممالكهم، وتقطع عليهم جميع

طرق العزة والقوة، وتحرمهم إلى الأبد من إنشاء حكومة ذاتية.

كانت أوربة تتوسل إلى مقصدها هذا بالبحث عن ذنوب للحكومات الإسلامية

وإن لم تخل من مثلها حكومة، أو انتحال ذنوب لا حقيقة لها، وإنما أوجدتها

الدسائس الأوربية؛ ليبنى عليها مرادها منها.

ابتلي المسلمون بملوك وأمراء وأعوان لهم من العلماء والزعماء بينهم وبين

كل علم وعمل تعتز به أمتهم، وتقوى به دولتهم، فمكنوا بذلك أوربة من مقاتلهم،

وفتحوا لها الثغور؛ لاحتلال بلادهم وإزالة استقلالهم، فزال أكثرها وبقي أقلها

مستقلاً في الظاهر، ولكنه تحت نفوذ أوربة في الواقع.

هذه الدولة العثمانية قد اضطرها مركزها في أوربة، واحتكاكها بدولها وكونها

في الأصل دولة حربية إلى اتخاذ جيش منظم؛ كالجيوش الأوربية التي صار أساس

قوتها العلم والصناعة والنظام لا الكثرة والشجاعة والقوة البدنية فقط، فكانت الدولة

بهذا الجيش وبقليل من النظام أشد الحكومات الإسلامية بأسًا، وأقوهن استقلالاً.

ولكن أوربة تعبث باستقلالها الداخلي، فلا تدعها تتصرف في بلادها كما تتصرف

الدول الأوربية القوية منها والضعيفة في بلادها، بل لا يسمحن لها من التصرف

بمثل ما يسمحن به الولايات التي فصلنها منها وجعلنها دولاً مستقلة؛ كاليونان

والبلغار والجبل الأسود، فهي تريد (مثلاً) أن تزيد في المكوس (الجمارك) على

ما يرد إلى بلادها ولا تقدر على ذلك أو ترضى جميع الدول الكبرى به.

قد علم القاصي والداني أن دول أوربة تطمع في تقسيم ولايات هذه الدولة

بينهن، وأنهن يتربثن بذلك لتنازعهن في القسمة، وخشيتهن أن تؤدي إلى حرب

طحون، يتمزق بها شمل أوربة ويسحق بعضها بعضًا، وكان بعضهن يحسب

لسخط المسلمين الخاضعين لها ولهرجهم حسابًا، فهذا هو السبب في عدم اتحاد دول

أوربة الكبرى باسم الصليب على اقتسام بلاد الدولة العثمانية.

ويلي هذه الدول في دول الإسلام دولة إيران فدولة المغرب الأقصى، كانت

أوربة تتربص بهما الدوائر، وتنتظر الفرص، ترى أن سلاطين هذه الدول

وأعوانهم يستعجلون الطامعين فيها بالاستيلاء عليها؛ لأنهم يظلمون الناس، ويبغون

في الأرض، ويسوقون الناس إلى اليأس من حكمهم، وتوقع زواله وتوطين النفس

عليه، ومتى وصلت البلاد إلى هذا الحد سهل وجود أو إيجاد الفتن والحوادث فيها

والتوسل بها إلى احتلالها أو حمايتها أو امتلاكها، أو ما شئت من الأسماء اللغوية أو

العرفية الدالة في هذا العصر على الفتح السلمي أو الحربي.

كان جل التنازع في السياسة العثمانية والإيرانية بين الدولتين الروسية

والبريطانية، حتى نجم قرن ألمانية في أوائل هذا القرن الهجري وظهرت شرة

عاهلها المستوى على عرشها لهذا العهد في منازعة إنكلترة، فاستمال إليه السلطان

عبد الحميد فخنق الإنكليز على الدولة العلية، وقلبوا لها ظهر المجن، واتفقوا مع

روسية عليها، ومهدوا السبل لتقسيمها.

كانت روسية هي السابقة إلى السعي في إزالة دولة العثمانيين ومحو اسمها من

لوح الوجود، وإرث موقعها البحري الذي لا نظير له في الأرض؛ لتجمع بين

القوتين البرية والبحرية، وتكون لها السيادة العليا في البرية. وكانت قاعدة السياسة

الإنكليزية أنه يجب أن تبقى الدولة العثمانية سدًّا في وجه روسية، وحائلاً بينها

وبين البحر المتوسط الذي هو قلب البحار وسيدها، بشرط أن لا تقوى، ولا تكون

دولة بحرية تخشى، وإن شئت قلت:(بشرط أن لا تموت ولا تحيا) فلما استقرت

قدمها في مصر والسودان، ودمر الأسطول الروسي في محاربة اليابان ، وظهر

الأسطول الألماني في منتهى القوة، وصار في سنين قليلة بعد الأسطول الإنكليزي

في الدرجة، تغيرت السياسة الإنكليزية، وتبع ذلك تغير سياسة أوربة كلها في

المسألة الشرقية؛ لأن إنكلترا لا تزال صاحبة النفوذ الأول في عالم السياسة.

كان من سوء حظ العالم الإسلامي في مشرقة ومغربه أن انخدع في هذا الطور

السياسي الجديد بعاهل الألمان، فاغترت الآستانة ثم طهران ثم فاس؛ بإظهار ميله

ووده للعالم الإسلامي ورغبته في بقاء دوله مستقلة عزيزة قوية، فكان غرورها

وانخذاعها، هو الذي حمل إنكلترة على التعجيل بالقضاء عليها، ولم يغن عنها وداد

عظيم الألمان الوهمي شيئًا، بل كان صوته في تحية الثلاث مئة ومن الملايين

المسلمين نذير الشؤم وفاتحة الشقاء.

ألمانية دولة بنيت سياستها على الأثرة والشح، فهي تريد أن تربح بشرط أن

لا يربح منها أحد، بل تريد كسبًا بغير رأس مال، فلا تسمح بدرهم ولا دينار ولا

بجندي ولا بكرة مدفع ولا رصاصة بندقية؛ لأجل المسلمين الذين منَّاهم

إمبراطورها بصداقته؛ لأجل الربح منهم. فكان إذًا كان لا بد لهم أو للدولة العثمانية

كبيرة دولهم من الاعتماد على صداقة دولة أوربية، فلا يشك عارف خبير بأن

صداقة إنكلترة خير لهم ولدولتهم من صداقة ألمانية؛ فإن إنكلترة إذا أرادت أن

تضر لا تقدر دولة أخرى على مثل ضررها، وإذا أرادت أن تمنع الدولة من

اعتداء غيرها عليها، فلا تقدر دولة أخرى على مثل منعها وحماتيها. وأما النفع

فلا ينبغي أن نعتمد فيه على دولة أجنبية، فمن لم ينفع نفسه لا ينفعه غيره.

هذا هو رأيي في الدولتين، وقد صرحت به منذ سنين للبارون أو بنهايم الذي

كان مندوب الإمبراطور غليوم الثاني غير الرسمي بمصر؛ إذ كان يريد أن يقتضي

بضد هذا الرأي، ولكن ظهرت حجتي على حجته ولم يستطع إقناعي ولا خداعي

بمثل ما خدع به بعض الناس، وهذا هو رأي جميع من أعرف من إخواننا

العثمانيين المعتدلين في آرائهم السياسية.

وأذكر أن أحمد مختار باشا سألني عن رأيي في انكسار إنكلترة في حرب

الترانسفال وكانت الحرب في ريعانها: هل من مصلحتنا نحن العثمانيين أن يستمر

انكسار الإنكليز ويسقط نفوذهم، فقلت: أرى أن المصلحة في أن يقف الانكسار

والغلب عند هذا الحد، وأن تنتصر بعده إنكلترة، ويبقى نفوذها في أوربة محفوظًا،

فإن سقوطها خطر على دولتنا؛ لأن من مصلحتها أن تبقى دولتنا، ومصلحة

روسية في زوالنا، ولا يقف في وجهها سواها، فأهوى بيده ورأسه، وقال هذا هو

الرأي.

كانت سياسة عبد الحميد السوء تهدم ما كان لإنكلترة من المصلحة في بقاء

الدولة، وتقرب بينها وبين روسية، وتزيل ما بينهما من الأضغان والأحقاد. فلما

زال سلطانه وجاء الدستور، كانت إنكلترة أول دولة رحبت بحكومتنا الجديدة،

وأظهرت لها الميل، وأنحت على النمسة بأشد اللائمة عندما أعلنت ضم البوسنة

والهرسك إلى أملاكها، وكادت وزارة كامل باشا تعيد لها سياستها الأولى معنا بأكمل

مما كانت عليه. ولكن قام في وجهه أغيلمة غلطة وسلانيك وأسقطوا وزارته

بإرشاد اليهود الصهيونيين الألمانيين، وما زال الغرور بأولئك الزعماء الذين نزوا

على الدولة بقوة جمعية الاتحاد والترقي وضباطها، حتى أيأسوا إنكلترة منا في

وقت يرون فيه فرنسة وروسية وإيطالية تابعات لها في السياسة، ويرون النمسة

مغتصبة البوسنة والهرسك تطمع في سلانيك مركز عظمتهم وفيما جاوروها من

مكدونية، ويرون فيه ألمانية تتفق مع الروسية سرًّا على بلاد إيران شقيقة دولتنا

وجارتها، وذلك من أكبر الأخطار علينا، ولم يفيقوا من غرورهم حتى سمعوا

صيحة إيطالية في يوم انعقاد مؤتمر جمعيتهم السنوي تقول: قد آذنتكم بالحرب،

وأخذت منكم طرابلس بالقوة والقهر، ورأوا الدولة العلية تراجع الدول العظمي

وتذكرهن بالحقوق الدولية والمعاهدات والإنسانية، فيتصاممن عن ندائها، ويدعن

إيطالية تغتصب هذه المملكة الإسلامية الواسعة من الدولة الإسلامية التي لم يبق في

يدها في إفريقية الإسلامية سواها، وقد كان معظم سواحلها الشمالية والشرقية لها.

إن سكوت أوربة على هذا العدوان المشوه الذي تتبرأ منه الأعذار، وتنكث به

العهود وتنسخ القوانين برهان واضح على أنه عدوان متفق عليه، وإذًا لا يقف هذا

العدوان عند طرابلس، ولا سيما إذا ظهر لأوربة أن التجربة الأولى ناجحة بعجز

الدولة العثمانية عن كل عمل، وعدم تأييد الأمة العثمانية بجميع شعوبها التي يعتد

بها لها، وعدم تهييج شعور العالم الإسلامي كله لأجلها.

يظهر أن دول الاستعمار ولا سيما إنكلترة وفرنسة، يعتقدن أن العالم

الإسلامي قد مات شعوره وتقطعت روابطه؛ بما نفثت فيه أوربة من سموم الجنسية

الوطنية واللغوية والقومية، ومن التعاليم الفاسدة المزعزة لأركان الإيمان، المغرية

بالنعيم والشهوات، وقوَّى اعتقادها هذا عدم ظهور الغيرة والحمية الإسلامية عند

العبث باستقلال دولة المغرب الأقصى ودولة إيران، فتجرأن على العبث باستقلال

الدولة العثمانية، ولم يحفلن باعتقاد المسلمين أنها دولة الخلافة، وأن بذهابها زوال

الحكم الإسلامي من الأرض، وهو الذي يجب على كل مسلم أن يبذل ماله ونفسه

في سبيله.

ألا فليعلم المسلمون في جميع أقطار الأرض والعثمانيون أينما كانوا وحيثما

وجدوا؛ أن ذهاب طرابلس الغرب غنيمة باردة، يتبعه اغتصاب النمسة لسلانيك

وما جاورها، فاقتسام بقية ولايات مقدونية، فوضع الولايات السورية تحت حماية

الدول الكبرى، فتجزئة بقية ولايات الدول.

لا يغرنكم انتقاد بعض جرائد لغدر إيطالية وعداونها، سواء كان صادرًا عن

مخادعة وخلابة، أو عن استقلال في الانتصار للمعاهدات والقوانين، أو لأجل أن

لا يناقض إقرارهن لإيطالية ما كان من إنكارهن على النمسة عندما اغتالت البوسنة

والهرسك.

الجرائد في أوربة مرآة أممها وحكوماتها، فإذا كانت تلك الأمم والحكومات

غير راضية من عدوان إيطاليا؛ فما حل عقدتها على أوربة بعسير.

أمامنا شيء واحد فيما أرى؛ تأليف وزارة تثق بها أوربة، واجتماع مجلس

الأمة في الحال وتأييده، وإزالة سيطرة أولئك الأحداث على الدولة بقوة جمعيتهم؛

فهم مصدر هذا البلاء كله، فإذا تم هذا وأمكن لهذه الوزارة أن تقنع دول الاتفاق

المثلث بوجوب كف عدوان إيطالية؛ والمحافظة على جميع أملاك الدولة فذاك وإلا

فالخطر واقع ماله من دافع.

إن عجزنا عن تأليف هذه الوزارة وليس لها مثل كامل باشا، وعن تأييد

المجلس لها بمعارضة أولئك الأحداث، فذنب هلاكنا علينا ولا عتب لنا على أوربة

وإن قدرنا على تأليفها وتأييدها، وعجزت هي عن إقناع الدول بما ذكرنا، علمنا

أن البلاء من أوربة كلها، وأنها متفقة على محو سلطتنا من الأرض كلها لا من

طرابلس فقط، والحكم حينئذ للطبع لا للرأي، فإذا كان قد زال منا كل شعور

بالشرف وقيمة الحياة الإنسانية نخلد إلى الذل والعبودية؛ وإلا نفعل كما نفعل كل ما

يفعله الإنسان الذي يشعر ويحس إذ يئس من الحياة الاستقلالية الشريفة، وقضى

عليه بالذل والعبودية، فاعتبروا يا أولي الأبصار.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) ننشر في جريدة المؤيد مقالات متسلسلة تحت هذا العنوان اكتفينا منها هنا بالأولى.

ص: 750

الكاتب: محمد توفيق صدقي

كلمات علمية عربية

أسوقها إلى المترجمين والمعربين [*]

تريبة جمعها ترائب Chest- bondds: وهي عظام الصدر في الذكر

والأنثى، ويغلب استعمالها في موضع القلادة من الأنثى، ومنها قول امرئ

القيس:

(ترائبها مصقولة كالسجنجل) وقد وردت هذه الكلمة في قوله تعالى:

{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (الطارق: 5-7) والمعنى أن المني باعتبار أصله وهو الدم، يخرج من

شيء ممتد بين الصلب: (أي فقرات الظهر في الرجل) والترائب: أي عظام

صدره، وذلك الشيء الممتد بينهما هو الأبهر (الأورطي) وهو أكبر شريان في

الجسم، يخرج من القلب خلف الترائب، ويمتد إلى آخر الصلب تقريبًا، ومنه

تخرج عدة شرايين عظيمة ومنها شريانان طويلان يخرجان منها بعد شرياني

الكليتين، وينزلان إلى أسفل البطن، حتى يصلا إلى الخصيتين فيغيانهما، ومن

دمهما يتكون المني في الخصتين، ويسميان شرياني الخصتين أو الشريانين

المنويين Spermatic Arteris؛ فلذا قال تعالى إن المني: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ

الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (الطارق: 7) لأنه يخرج من مكان بينهما وهو الأورطي

أو الأبهر، وهذه الآية على هذا التفسير تعتبر من معجزات القرآن العلمية. وقال

الأستاذ الإمام: إن الصلب كناية عن الرجل والترائب كناية عن المرأة أي: من

باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، والمعنى على قوله رضي الله عنه؛ أن المني

يخرج من بين الرجل والمرأة إذا اجتمعا، فينزل من ذكر الرجل وهو ما بينهما إلى

رحم الأنثى فيحصل الحمل. وهو قول وجيه ولكن الأول أوجه وأدق.

الذرور Powder: ما يذر علي الجروح من المساحيق.

تليين الطبيعة Laxtion

النفطات Vescales

الشكال للقضيب Froenum، معروف الشلل Pralysis يحدث من فساد الأعصاب

الشمع Wax

اللحم المشوي Roasted معروف

المشيمة للجنين Plccnta

السَّلى Foetal membrane غشاء الجنين.

الصبغة Tincture هي اصطلاحات نوع من الخلاصة الدوئية السائلة.

الصندل Sandal

الخلاف هو الصفصاف Salicis

الودك Gelatin (الجلاتين)

الهاضوم ما يهضم الطعام Pepsin

الصلم قطع الأذن

الضوى Marasmus الضعف الشديد والنحافة

الطبق: من أمتعة البيت

العُثة: معروفة

الطست: معروف

عجب الذنب العصعص Cocyx

العرقوب Tendo Achiilis

العذرة: غشاء البكارة Hymdn

العرنين الأنف Bridge ofncse أو ما صلب منه.

العسم Amkylosis: يبس المفاصل.

العظلم النيل البقم بمعني Aniline

التقبض Astringency

عفلت المرأة: سقط رحمها

التعفن والعفونه كلمات صحيحة

الطُّنُب أو العقب Tenden: وتر العضل

احقن بكذا أو المحقنة (الآلة للحقن) والحقنة: (المادة التي يحقن بها) .

الحكة Prurigo: مرض جلدي يحدث أكلانًا شديدًا.

خُمرة Erysipelas: مرض عفن.

استحم: اغتسل.

الحنف: اعوجاج الرجل إلى داخل Talipes varus.

الحشفة: Glans Penis رأس الذكر.

الجص: الجبس.

خرف: يخرف فهو خرف Tobccome dclirifous.

الخُرء: Foeces الغائط.

الخزام Seton معروف.

الخس Lettuee: نبات.

الخشخاش: ما يسمي أبا النوم PoPPy.

الوَرِك Femur: فخذ الإنسان.

الخضروات Vegetables.

الاختلاج Ataxy: اضطراب الحركة.

خَللة فتخلل: أي صار خَلا.

خلية: جمعها خلايا Cells.

الرمص والغمص: وسخ العين Mcibomian Secretion.

الدمام: حمرة تحمر بها النساء وجوهن.

الودج Gugular Vein: وريد في العنق.

الأبهر Aorta: أصل الشرايين وأكبرها.

الأبجل: عرق في الرجل، والأكحل في الذراع Basilic، والضافن في الفخذ،

والنياط في الظهر.

المرحاض: المستراح.

الرسغ: Wrist oramkle.

الرضفة: قطعة من الحجارة المحماة.

عملية الرقع Grafing: هي وضع قطع من الجلد بدل قطع ماتت وسقطت.

الزنبق Lily: نوع من الزهور.

الزر Button.

المسبار Probe: ما يجس به الجرح.

الاست Anus: حلقة الدبر.

السرخس الذكر Filix Mas.

السعوط

دواء الأنف

السقمونيا المحمودة Scammony نوع راتينحى مسهل

أنبوب التصريف Drainage Tube وهو ما يوضع لإنزال المدة من الجروح.

استسقاء البطن Ascites ماء ينزل به المرض.

السقي Ascitic fluid وهو السائل الذي يوجد في البطن.

السلس Incontinence نزول البول بدون إرادة.

السهك: ريح العرق الكريهة.

الشب Alum.

القوتياء الزرقاء هي كبريتات النحاس الشبث هو المسمى بالعامية أبو شبت.

الشثن: غلظ الأصابع.

الشرم: قطع الأرنبة، انشقاق الشفة العليا Hare - lip.

الشظية Fibula أحد عظمى الساق.

شحمة الأذن معروف.

الشغى عدم انتظام الأنتظام الأسنان.

الدسام والشف Gauze هو المسمى عندنا بالشاش.

الغضروف Cartilage ما لان من العظم.

الغدة Gland عضو صغير للإفراز.

غروت الجلد أغروه أي ألصقته.

الاغتصاب Rape الفسق كرها.

الغضون مكاسر الجلد.

الغلفة القُلفة prepuce جلدة الذكر.

الفتق Hernia عاهة معروفة.

فحصت عن كذا ولا يقال فحصت كذا.

القحف vertex أعلى الرأس.

الفرصة pledget قطعة من القطن أو غيره توضع في المهبل بالدواء.

فروة الرأس أو الشوى Scalp.

الفص lobe.

فضخ الرأس أي كسره وأخرج مخه.

فك المظم أزاله من مفصله.

الفالج Hemiplegia الشلل النصفي الجانبي وهو ينشأ نزف في المخ.

القذال Occiput مؤخر الرأس.

قصبة الرجل والرئة Tibia، Trachea.

القص Sternum العظم الأمامي للصدر.

القلس Eructaions رجوع الطعام أو الشراب من المعدة إلى الفم.

قنيت القناة to groove.

القولنج Colic المغض وهي كلمة معربة.

القيح: الصديد

الزنبيل هو المقطف بلغة العامية.

اكلدم Ecchymosis.

الكرسوع طرف الزند الذي يلي الخنصر والناتى عند الرسغ.

الكزبرة Coriander.

الخلف ثدي ذوات الخف.

كشط نحّى

الكلب Hydrophobia داء مميت

الكلف Chloasma تلون الجلد في الحبل.

الكلية Kidney.

الكاهل Dorsal.

الكوع طرف الزند الذي يلي الإبهام

الساعد forearm

اللتادة معروفة

السمحاق periosteum غشاء فوق العظم يغذيه.

اللصوق plaster دواء يلصق بالجلد.

المطاء سمحاق الرأس pericranium.

اللعوق ما يعلق من الدواء.

اللفافة Bandage.

بيمارستان Asylum وهي كلمة معربة.

المرارة إفراز الكبد Bilc.

الذور Giddiness.

ولد منكوسا أي خرج رجلاه قبل رأسه نُكس المريض نكسا عاوده المرض.

نكأت القرحة أنكأها إذا قشرتها.

أنموذج يجمع نماذج.

الأنملة Terminal phalanx.

النهك Exhaustion الضعف المتناهي.

النَّوبة fit.

الوباء Epidemic المرض العام كالطاعون.

الزرنيخ Arsenic.

الوشم Tattooing.

الأرق Insomnia عدم النوم.

المسفرة Brush ما نسيه (فرشة) .

البيض النمرشت نصف المسلوق.

الشمر Fennel.

داء الثعلب Alopecia.

الماء في العين Cataract وهي كدورة بلورية.

الهاون Mortar.

(الأسفيداج معروف.

القيفال تعريب Cephalic)

...

وهما وريدان

الباسليق تعريب Basilic.

الأخدعان عرقا الصدغين.

استرخاء المعدة Diolation تمددها.

القراقر Borbovygmi صوت الأمعاء.

مرض Nurse.

مرق اللحم Soup معروف.

المارن: ما لان من الأنف.

الماست كلمة فارسية معناها.

لبن الزبادي ويسمى اللبن.

الماضر بالعربية.

المصارين Intestinse الأمعاء.

معَط سقط شعره

موق العين Canthus.

المروخ Linimer الدهان.

الناتئ process.

الاستنثار قذف مخاط أنفه.

النَّخَر Necrosis وهو داء يفسد العظم ويميته.

المنديل معروف.

النزف Hoemorrhage خروج الدم والدم نزيف أي منزوف.

الناصور والناسور واحد Sinus، fistula.

الحرس الزفت pitch

الأنفخة والمنفخة Rennet معروفة.

النقرس Gout ويسمى أيضا داء الملوك لأنه يكثر في المترفين.

المدة Pus هي القيح.

النقيع Infusion ما يستخرج من الدواء بصب الماء المغلي عليه كالشاي.

الطبيخ أو المطبوخ Decoction ما يستخرج من الدواء بغليه في الماء.

النقه Convalescence الإبلال الشفاء.

المنكب shoulder الكتف.

العضد Humerus.

النقي والنقو Marrow هو مخ العظم.

النخاع Spinal cord.

المناعة. الحصانة. وهي في الاصطلاح عدم قابلية بعض الأجسام لبعض الأمراض Immunity.

فهذا ما أردت نشره من الكلمات العلمية التي عثرت عليها الآن، والله يوفقنا لنشر غيرها في المستقبل إن شاء، إنه سميع النداء مجيب الدعاء.

الدكتور محمد توفيق صدقي

_________

(*) للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي ـ تابع لما سبق.

ص: 756

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حالة المسلمين في جاوه والإصلاح

لا جرم أن من إخواننا الفضلاء قراء (المنار) من يحب أن يطلع على حالتنا

الحاضرة بجاوا؛ لأن وشيجة الرحم الدينية بل والطينية لما تنفصل بعد بيننا وبينهم

طالما وددت أن أزيح الغشاء عن حالتنا الحاضرة، حتى أصورها للقراء كما

هي؛ لولا أن العي والحصر قد ختما على فمي، وكدما رأس قلمي، فلا أستطيع

أن أبدي من الأمر إلا قليلاً.

نعم.. وقد يعتورني بعض الخواطر فأقول: ما لي ولعصر يافوخي في تدوين

حالة تتعثر الأقلام خجلاً من تسطيرها، ويتعلثم اللسان تنزهًا عن شرحها، على أن

شأننا لا يخفى على من له أدنى اطلاع على شؤون الأمم، وجمودنا العريق لا ينكره

من له أقل نظرة في سطح معترك الطوائف الحيوي.

ما كان في المخدع من أمرنا

فإنه في المسجد الجامع

ومع هذا أجدني مرغمًا على القول بأن حالتنا سيئة، وأراني مضطرًّا إلى

شرحها والشكوى منها؛ بحكم العوامل التي تدفع المريض إلى الأنين والتأوه وشرح

مرضه إلى كل من يراه.

ولكن منا فئام هداهم الله يُحفظهم التنديد بحالتهم المحزنة، ويغيظهم نصح

الناصحين، وإصلاح المصلحين، وعليه فقد أصبحنا جامدين مغرورين (حشفًا

وسوء كيلة) .

بماذا أبتدي وعلام أنتهي؟ يقف بعض الجامدين هنا باهتًا مندهشًا أمام تلك

الكلمات؛ التي ملستها أقلام الكتاب من كل أمة على صفحات الجرائد والمجلات،

وصقلتها ألسن الخطباء على ذرى المنابر والمنصات، حتى أصبحت والحمد لله

فيهم سلوة كل كئيب، وعكازة كل خطيب.

هي تلك الكلمات التي يتبجح بها المتبجحون من الأمم الراقية بقولهم:

(عصر العلم، عصر التقدم)

إلخ، فترى الجامدين منا يحسبونها من قبيل

الأماني والأحلام، حتى يدفعهم حسبانهم واندهاشهم الناشئين عن جمودهم وجهلهم

إلى تفنيد أولئك المتبجحين وتزييف أقوالهم، ويا ليتهم قاسوا ما جهلوه وما استمحلته

عقولهم من وجود معان لتلك الألفاظ، بما يشاهدونه ولا يشكون فيه مما اكتشفه العلم

الحديث من العجائب التي لم يحلموا بها؛ لا هم ولا قومهم المحرومون من أسرار

الطبيعة والمنبوذون من علوم الكون:

إن تقدم رجال الغرب وعلومهم ومدنيتهم أعظم مما تتوهم، وأضعاف ما قد

نعلم، وإننا لم نر إلا النزر اليسير من بخار تلك المدنية العظيمة التي لا تحتمل

تصديق مثلها عقولنا الضعيفة، ولو أنعم المنصف منا بصره وأعمل فكره في هذا

التقدم المادي والأدبي الذي أحرزته الأمم الغربية ومن ضارعها، ثم كر بصره في

حالتنا الحاضرة؛ لجزم جزمًا صارمًا بأنه مع صرف النظر عن كلمة الشهادتين

التي فضلناهم بها، لم تكن نسبة حالنا إلى تقدمهم إلا كنسبة حال متوحشي نيام إلى

تمدننا، وعلى هذا فلا نجد مسوغًا للوهم إذا هم عاملون بمثل ما نعامل به من هم

أحط أخلاقاً من الإهانة والاحتقار.

مهلاً مهلاً أيها القارئ، ولا تعجل بالوثوب حفظك الله إلى تفنيدي وتكذيبي؛

فإن الشواهد حاضرة، والأدلة قائمة، ولئن آلمك قولي ففي ما نحن عليه معاشر

الحضارة من التأخر والانحطاط ما هو أجدر بالتألم وأحرى بالتأسف، وإن منا والله

أقوام لا يضيرهم الهون، ولا تستفزهم الحمية ولا يؤلمهم القول.

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

إن لبني الغرب في هذا العصر علمًا جمًّا، وفكرًا دقيقًا، وإدراكًا عاليًا،

وهمة جزلة، وأموالاً طائلة، وممالك فسيحة، ومستعمرات ذهبية، وإن لهم من

نفع الإنسانية بل والبهيمية ما لا يستطيع هذا القلم الضئيل وصفه، ولا تدرك

معلوماتنا كنهه.

ليس هذا هو موضوع القلم اليوم، ولكني وددت لو أمثل للمغرورين من قومنا

بعض حال رجال أوربا؛ فيقابلوا بينها وبين حالنا التي نظل شامخين بأنوفنا تيهًا

بها وغرورًا على أنفسنا وزورًا! ! !

من آية وجهة أشرفت علينا معشر الحضارم لا تشاهد إلا منظرًا يصهر الفؤاد

ويذرف العيون، ويفتت الأكباد، ويرقق قلب الشامت.

أمور يضحك السفهاء منها

ويبكي من مغبتها الحليم

أجل والله، من آية وجهة ألقيت بصرك على مجموع العرب هنا، تجدهم قد

أجادوا في تمثيل أدوار الهمجية الغابرة، والجهالة الفاضحة، وأحسنوا الارتطام في

حمأة التوحش، وأطربوا الشامتين بغطيطهم الناشئ عن سباتهم العميق بل موتهم

الفظيع، وإنه وأيم الحق لينبغي لإخواننا المصريين والسوريين والحجازيين

والمراكشيين وكل من الطوائف العربية؛ أن يبعث بعضهم لبعض مسنون التعزية

في إخوانهم الحضارم الذين ذهبوا ضحية الجهل، وفريسة الغرور، وماتوا

مجاهدين في سبيل الدينار والدرهم.

أخذ الجمود من كبرائنا مأخذه، وتمكن في نفوسهم اعتقاد أن كل جديد ضار،

وأن العكوف على العادات القديمة أنفع ما كان وما يكون، وأن ما سبقتنا إليه رجال

أوربا من الخير لا يجوز لنا فعله شرعًا. رسخ هذا الاعتقاد في قلوبهم، وامتزج

بعقولهم وأرواحهم، حتى صدهم عن استماع الدين، وسدوا فجاج الإصلاح،

ودفعوا في صدر الأمة، حتى قهقروها عن التقدم، زاعمين أن التحسين والتنظيم

وتسهيل وسائل التعليم مخل بالنسب الكريم أو الدين القويم، ومعاذ الله أن يكونوا في

هذا من الصادقين، فإن الفتن في الإصلاح شيء، والدين والأنساب شيآن آخران.

بلغ من تعصب كبرائنا أن حظروا جعل المدارس على الطريقة الحديثة من

إقامة طاولات ومكتبات قدام التلاميذ، توضع عليها أدواتهم، وسرر يجلسون عليها

ولوح خشبي توضح فيه مشكلات المسائل، وعدوا ذلك من المنكرات، والواجب

تغييرها باليد لمن قدر عليهم؛ لأن في هذا كما لا يخفى تشبهًا بالكفار ومجاراة

لأصحاب النار، بل الواجب علينا أن نقشف مداركنا ونهين تلاميذنا؛ فنجلسهم على

قاعة المدرسة مباشرة أو بواسطة حصير في هذه البلاد الندية، حتى يصابوا

بمرض البيري بيري المخوف فيموتوا قريبًا، وننفض أيدينا منهم نفض الأنامل من

تراب الميت، وحينئذ نستريح من انتظار نفعهم في المستقبل.

كنا لما أن رأينا العجمة الجاوية تمكنت جيدًا في أولاد العرب هنا، حتى إن

بعضهم لا يفهم لفظ الأعداد البسيطة بالعربية، ورأينا الأوربيين يدأبون في نشر

لغتهم وعقائدهم الدينية بين أولاد الجاويين، ويحاولون ردهم عن دينهم الإسلامي

الذي ما بقوا متمسكين إلا باسمه، ورأينا إخواننا العرب جامدين سامدين لا يتألمون

ولا يتكلمون، لما رأينا كل ذلك نهضنا على ما بنا بمساعدة بعض الإخوان،

وفتحنا مدرسة لتعليم اللغة إجمالاً: فأولاً يدرس فيها إتقان الألفاظ وتركيبها ثم النحو

والصرف وغيرها من الفنون العربية، ويدرس أيضًا فيها الجغرافية والتاريخ

الإسلامي والعقائد الإسلامية وطرفًا من اللغة الإنجليزية.

وقد باشرت التعليم العربي بنفسي، فجعلت تعليمهم اللغة على أحسن الطرائق

الناجعة الرائجة في هذا العصر؛ وهي طريقة برليتز الأمريكاني التي هي عبارة

عن نظر في المحسوسات والمشاهدات، وعلم في العمليات، (انظر المنار م8 ج

22ص87) وهي أشبه شيء بطريقة تعلم الطفل لغة أبيه وأمه؛ إذ يدرس التلميذ

الأفعال بالأعمال كأن يحمل الكتاب ويفتحه، ثم يطبقه ويقوم ويذهب إلى اللوح

الأسود ويمسك الطباشير بيده ثم يكتب، وتعرض على سمعه مشاهد الحياة اليومية،

فيسهل عليه تأليف جمل صغيرة، يتزايد كل يوم عددها بسرعة عجيبة. وهذه

الطريقة هي بدون شك أحسن طريقة لتعليم اللغات، فقد جربناها فوجدناها نافقة

نافعة، كما شاهدنا تأثيرها فينا حينما تعلمنا اللغة الإنكليزية عليها، وكما يشهد

المنصفون تأثيرها أيضًا في تلاميذنا الذين يطلبون العربية عندنا على خطتها، بل

قد جربت هذه الطريقة في أجمل عواصم أوربا، وما برحت مدارسها تتكاثر بتلك

الأصقاع حتى صارت اليوم تعد بالمئات، وكلها أسفرت عن نجاح أكيد، وارتقاء

عظيم، واقتصاد في الوقت والمال (انظر المنار) وأما الذي تولى تعليم القسم

الإنجليزي فهو شاب من خيرة الناشئة العربية هنا؛ وهو حضرة الأستاذ عبد

الرحمن القدسي المتخرج من مدرسة المعلمين بسنغافورة والحامل للشهادة.

ولكن مع كل هذا نرى الجامدين والمتعصين من قومنا العرب؛ لم يرضهم

فعلنا، بل قاموا يشتموننا ويقدحون في أعراضنا، ويصادرون نهضتنا، وينفرون

الناس عن مدرستنا، في وقت نحن أحوج الناس فيه إلى مساعدتهم.

حقًّا أقول: إن للمنار هنا اليد الطولى في الإصلاح وترقية العقول، وإحداث

هذه الحركة الفكرية في أدمغة الشبان، فقد أثر معها أيما تأثير ما غذاها به من لبان

الغيرة، وأنشقها إياه من نسيم النهضة، وقذفه إليها من المعارف، فالمنار اليوم هو

أنشودة النابتة هنا ومورد أنظارهم؛ اعتمادًا على ما يرونه غير ما مرة على

صفحاته من ضروب الذكر للحضارم بجاوه، فتارة نصحيًا، ومرة موبخًا، وأخرى

مثنيًا، وطورًا باحثًا عن أحوالهم، متفقدًا لأمورهم، وكل هذا مالا تفعله معهم أية

جريدة أخرى، فالنابتة بهذا لا تعد المنار إلا أكبر أستاذ وأشفق والد.

نعم.. ظهرت أيضًا شبه حركة عربية بسنغافوره محصورة في بعض

الأفراد، فأنشأت منذ زمن غير بعيد جريدتين أو ثلاث، ولكنها والحق يقال: إنما

هي حركة عدائية، قام بها عباد الأهواء والأغراض بعضهم ضد بعض، فياليت

تلك الجرائد التي نحن أحوج الناس إلى إرشاداتها العمومية، واستنهاض الهمم إلى

المعالي، والقيام بالمشروعات المفيدة، عدلت خطتها ورجعت عن غيها إلى ما يعود

بالخير الجزيل على الحضارم وغيرهم.

ولكن من يسمع ما نقول وأنت ترى أولئك سادتنا وقادتنا: إما ساكتين أو

عاملين مثل تلك الأعمال، ولا شك أن سمعة العنصر العربي هنا ستكون سيئة جدًا

حينما يطلع الملايو وغيرهم على جرائدنا وما ينشر فيها، وعوائدنا وما ينجم عنها

فرحماك اللهم رحماك، اللهم لا تشمت بنا عدوًّا ولا تسئ بنا صديقًا، وأنزل

صاعقة من صواعق نقمتك على من قام عثرة في سبيل تقدم هذه الفئة المنكودة الحظ. آمين آمين.

...

...

...

محمد بن هاشم طاهر

...

...

... مدرس العربية بفليمبغ سوماترا

(المنار)

كاتب هذه الرسالة من أذكى شبان الحضرميين المقيمين في تلك الجزائر ذهنًا،

وأزكاهم نفسًا، وأشهم غيره؛ فهو يحب أن يعمل ويخذله شيوخ من قومه، وأقوى

الخاذلين للإصلاح في تلك البلاد جاهًا وعضدًا الشيخ الهرم عثمان بن عقيل، وقد

يسوء الكاتب أن نصرح بذلك؛ لأنه من أسرته أو هو عمه كما أظن، ونحن

نكره أن نذكر المفسدين في الأرض بأسمائهم لولا الضرورة.

كان المسلمون يكتبون إلينا في السنة الأولى والثانية والثالثة للمنار (أي منذ

14 سنة) مقالات في بيان ظلم هولنده وضغطها على العرب واضطهادها لهم،

ويقولون: إن عونها عليهم هو واحد منه اسمه السيد عثمان بن عقيل؛ لأنها جعلته

جاسوسًا عليهم ومستشارًا لها في أمورهم، وما كنا ننشر شيئًا مما يكتبون لكراهتنا

الخوض في سيئات الأشخاص؛ ولأننا كنا نظن أن ذلك الطعن في الرجل يوشك أن

يكون لهوى أو غرض أو منافسة، وأما الضرورة التي دعتنا إلى التصريح باسمه

والتحذير منه بعد ذلك؛ فهي ما رأيناه من رسائله التي يطبعها وينشرها بين

المسلمين في التنفير من الإصلاح والمصلحين، الخبط والخلط في أحكام الدين،

وتحريم العلوم والفنون والنظام، وشبهته أن إنشاء المدارس المنتظمة وتعلم العلوم

الرياضية والطبيعية من التشبه بالإفرنج، وهو حرام مطلقًا في اجتهاده الجهلي،

وكذا يحرم عنده تعلم العلوم العربية والشرعية بطريقة جديدة وعلى هيئة صحية؛

كما عليه العمل في مصر والآستانة وغيرها، كل ذلك عنده من التشبه المحرم في

شرعه، وليس منه تعليقه هو وسام هولنده على صدره، وقد رسم فيه الصليب

علامة على خدمته له ولأهله! ! فهكذا يقتل هؤلاء الجهال المسلمين باسم الإسلام،

وقد زاد الطين بلة أن أنشأ بعض أنصاره جريدة في سنغافوره لعداوة الإصلاح

وأهله، والتبجح بخرافاته ودجل دجال بيروت المعروف.

كان أول من سلط عثمان بن عقيل على إغواء المسلمين ومنعهم من أسباب

الترقي عدو الإسلام الدكتور (سنوك فخرونية) الهولندي المنافق الذي ادعى

الإسلام، وسمى نفسه عبد الغفار، وأقام زمنًا في الأزهر، وذهب إلى مكة فأقام

فيها يتجسس على المسلمين، ثم أخرج منها بدلالة وكيل فرنسة السياسي في جدة،

ثم جعلته هولنده مستشارها في معاملة المسلمين فأعانه عثمان بن عقيل على ظلمهم

ومنعهم من الترقي، وعلى اضطهاد العرب، فكافأته هولنده بالمال وبوسام صليبي

يفتخر بوضعه على صدره، فهكذا يكون أنصار الإسلام! ! ولولا هذا المفسد

وأنصاره لتقدم الحضارمة هناك في العلم والعمل، وأصلحوا تلك الجزائر كلها وكانوا

أئمة العلم والنور والهداية فيها؛ لما أوتوه من الذكاء النادر، ولا بد أن يزيل الله

هذه العقبات من طريقهم، ويصدق رجاءنا فيهم، فليعلم السيد محمد بن هاشم أن الله

لا بد أن يظهر دينه كما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وأن ينصر حزبه

أنصار كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على الدجالين والمنافقين، ولتعلمن

نبأه بعد حين.

هذا، وإننا نحث محبي العلم وأنصار اللغة العربية على إمداد مدرسة فليمبغ

بالكتب والمال؛ لتكون ينبوعًا للترقي والإصلاح في تلك البلاد، وقد علمنا أن

جمعية نشر اللغة الإنكليزية قد ساعدتها بالكتب التعليمية، ألسنا نحن أولى بهذا

الخير وأحوج إليه.

_________

ص: 761

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الانتقاد على المنار

في بحث اختلاف الأمة

جاء في مجلة دين ومعيشت الإسلامية التي تصدر في البلاد الروسية ما

ترجمته.

كنا ترجمنا في العدد 27 من المجلة مقالة من مجلة المنار في حديث:

(اختلاف أمتي رحمة) ، ووعدنا ببيان كون بعض الكلمات منها لا يطمئن به

الخاطر؛ فإنجازًا للوعد نبين فكرنا في المسألة: تقول المنار في آخر المقالة:

(ولكن لما جاء دور التقليد والتشيع والتعصب للمذاهب حلت النقمة، وتفرقت

الكلمة، وذهب الريح والشوكة، إلى أن وصلنا إلى هذه الدرجة من الضعف: ذهب

ملكنا الكبيرة وصارت المملكة الكبيرة من ممالكنا تقع في قبضة الأجانب) يريد

بقوله هذا: إسناد السبب في ضعف الإسلام، وكون أهله متفرقين شذر مذر إلى

انقسامهم إلى مذهبي: السنة والشيعة والمذاهب الأربعة المشهورة؛ بسبب اختلاف

الأئمة في الأحكام، وإلى أن كل فرقة من أتباع الأئمة الأربعة تقلد إمامها، بذلك

يسند الغيب إليهم. هذا الفكر خطأ من المنار على ما نظن، والسبب في ضعف

العالم الإسلامي وصيرورته إلى تلك الحال؛ هو كون المسلمين مغلوبين أمام

خصلتين من أقبح الخصال في الشريعة الإسلامية واتصافهم بهما: الأولى منها

الحمية الجاهلية؛ أعني بها الاهتمام بالقومية والجنسية العربية والتركية والفارسية

والهندية والتتارية والجركسية وأمثالها، وتقديم كل قوم وملة حفظ قوميتهم ومليتهم

على حفظ الوحدة الإسلامية، والقرآن يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا

تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ

إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ

تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103) .

(وهنا فسر معنى الآية بالتتارية ثم قال) : معلوم عند كل من يطلع على

كتب التفاسير والتواريخ أن العرب قبل مجيء الإسلام؛ كانت قبائل وطوائف كل

واحدة منها عدوة للأخرى تعيش بالقتل والنهب (وبعبارة أخرى. كانوا يمضون

الأوقات بالقتل والنهب) وبعد مجيء الإسلام تركوا العداوة فيما بينهم واتحدوا

وتآخوا حتى اضطربت أطراف الأرض بقوتهم وشوكتهم، وإذا أسلم أناس من أي

ملة كانوا عدهم العرب إخوانًا لهم، وكذلك الذين أسلموا؛ بسبب هذا الاتحاد

والتآخي، لم يبق بين المسلمين للعصبية ولا الرومية ولا الفارسية ولا غيرها من

القوميات والجنسيات، وعاش المسلمون كلهم كما يعيش الإخوان مع إخوتهم.

الزمان لا يدوم على حال واحدة، بل لا بد من التقلب من حال إلى حال؛

فالفرس الذين ذهبت الدولة من أيديهم بشوكة الإسلام، كانوا مسلمين كسائر الناس،

ولكن البعض منهم لا سيما الذين لم تذهب لذة الإمارة من أفواههم، لم يهضموا في

نفوسهم رياسة العرب الذين كانوا قبل الإسلام غير معدودين من البشر على

اعتقادهم. فأرادوا إلقاء الفتن بين المسلمين؛ ومن ورائه حفظ قوميتهم ومنصب

الرياسة في ملتهم بأي طريق كان، هكذا أخذوا يعملون بالحمية الجاهلية.

للوصول إلى تلك الأماني ألقوا الفتنة أولاً بين العرب، وأخذوا يفضلون طائفة

منهم ويستخفون بالآخرين. فبهذه الكيفية حملوا العرب أنفسهم على زرع بذور

التفرقة بينهم الممنوعة بالآيات القرآنية المار ذكرها؛ وللإيهام بحسن أعمالهم

ومشروعيتها أظهروها في روح الذين دعوا الناس إلى لعن الخلفاء الأولين

وتكفيرهم؛ لأنهم غصبوا الخلافة من عليّ كرم الله وجهه، وكانت من حقه.

وهذه الأعمال منهم إنما يريدون بها سترة حميتهم الجاهلية وإبداءها في صورة

حسنة؛ كشيء مشروع في أعين الناس وأصل الخلاف ليس هناك، هم في الحقيقة

لا يرون كون الخلافة في عليّ كما لا يرون كونها في أبي بكر أو عمر، بل تلك

الأعمال منهم كما قلنا إلقاء للفتنة بين العرب والأمل باختطاف شيء من الرياسة لهم

أثناء الفتن، بناء على ذلك ما كان ذلك الاختلاف بعد مجيء دور التشيع كما قال

صاحب المنار، بل كان موجودًا قبل التشيع، ولكن ظهر في الميدان صباغ التشيع؛

لتقوية ذلك الاختلاف فقط.

أما تقليد الأئمة الأربعة، فليس له أدنى مناسبة لذلك الاختلاف؛ والدليل على

ذلك أنه لم يوجد في وقت من الأوقات فتن تنحر إلى الحرب بسبب الاختلاف في

الحنفية والشافعية أو المالكية ولا الحنبلية، لا ترى حربًا من الحروب الإسلامية إلا

وتجد سببها الأول ترجيح القومية والملية على الوحدة الإسلامية. وإذا قلنا بلسان

العرب فهو الحمية الجاهلية، والإثبات ذلك يكفي النظر في حال تركيا الآن: فتنة

في اليمن، وعصيان في الدروز، وشق عصا الطاعة في الألبان، كل تلك

الاضطرابات ليس سببها الاختلاف في كون بعضهم مسلمًا أو غير مسلم، أو في

كون بعضهم شافعيًّا أو حنفيًّا. بل السبب في الكل تلك القومية والملية.

كنا ذكرنا في أول المقالة خصلتين، وقلنا: إنهما السبب في وصول العالم

الإسلامي إلى تلك الدرجة من الضعف، الخصلة الأولى قد بيناها. وأما الثانية فهي

حب الرياسة. كون تلك الخصلة من الأخلاق الذميمة في الشريعة الإسلامية مبين

بالتفصيل في كتب الأخلاق. فلا حاجة هنا إلى البيان من تلك الجهة، كل قوم

يريدون رياسة قومهم على الآخرين دون غيرهم. ولا يتجنب في ذلك أي عمل

يمكن مجيئه من يديه، وكذلك كل فرد من أفراد القوم يريد أن يترأس في قومه دون

غيره، وهذه الخصلة شائعة جدًّا بين الجهلاء ولا سيما بين غير الممدنيين في ديار

القزاق والباشقرط، فهم يجتهدون في نيل منصب بولص وأستر شينه (كلاهما

منصب حاكم في درجة واحدة) حتى ينجر الأمر في بعض الأوقات إلى الحنابلة كل

ذلك أمام العيون، شيوع حب الرياسة بين أفراد قوم، لا شك في كونه يجلب

أضرارًا جسيمة على القوم، وذلك حقيقة ثابتة بتجارب عديدة، نيل شخص غير

منتظر الظهور في الميدان على منصب الرياسة وقت تخاصم اثنين فيها يصادف

كثيرًا جدًّا، ولا يكون نصيب المتخاصمين فيها إلا إضاعة الوقت وصرف القوى،

كذلك الدولة المتشكلة من الأقوام الكثيرين إذا شاع في أبنائها حب الرياسة أو

تطاول كل قوم إلى اتخاذ رئيس فيما بينهم، فلا شك في سريان الضعف إلى تلك

الدولة من جميع أطرافها، وتلك حقيقة ثابتة بتجارب عديدة ومعروف لكل من يطالع

كتب التواريخ. ولا حاجة إلى مراجعة كثير من الكتب ليعرف، بل يكفي قليل من

التفكير في أسباب دخول ممالك الهند المتشكلة من الأقوام العديدة مقدارهم ثلاثمائة

مليون أو زيادة في قبضة الإنكليز وعددهم ثلاثون مليونًا فقط.

الأقوام والقبائل في الهند، كانوا لا يتحملون رياسة الأقوام الآخرين من

جيرانهم، وكانت الحروب الدموية لا تنقطع فيما بينهم في نصب رئيس من أنفسهم

دون الأقوام الآخرين، ففي ذلك الوقت جاءتهم الإنكليز، وقالت لهم: (اتركوا

الحرب فيما بينكم ولا تقاتلوا من غير جدوى، كلكم لا تصلحون للرياسة أبدًا،

ولنجرب نحن أمر الرياسة عليكم) حتى أخذوا جميع الهند في أيديهم الصغيرة من

غير مشقة أو بمشقة قليلة، وصاروا رؤساء عليها يحكمون. فالسبب في استسلام

هؤلاء الأقوام الذين لا يعد عددهم ولا يحص إلى الإنكليز وهم عدة ملايين ليس

اختلافهم في الحنفية والشافعية أو النسبية أو الشعبية، بل السبب من غير شك

خصلة حب الرياسة المذمومة المزوجة بالاختلاف في القومية والملية.

نظن أن صاحب المنار المحترم؛ لا شك يعرف أكثر منا سبب دخول

الإنكليز مصر التي ولد فيها وتربى في قبضة الإنكليز، السبب في ذلك من غير

شك ليس اختلافهم في الحنفية أو الشافعية؛ لأن المصريين كلهم شافعيو المذهب إلا

القليل اليسير، بل السبب فيها أيضًا تلك الخصلة الذميمة خصلة حب الرياسة،

وبعد ذلك لا حاجة بنا إلى قراءة تواريخ تونس أو الأندلس، فنحن ما عرفنا كيف

نؤول كلام رشيد رضا أفندي المحترم؛ حيث يقول: السبب في دخول ممالك

الإسلام في يد الأجانب التقليد والتشيع. والحال أن تلك الأسباب المار ذكرها في

الميدان أمام كل الناس، لذلك قلنا: إن هذا الفكر خطأ من المنار، وما قلنا ذلك إلا

تأدبًا وإلا ما يعوزنا الكلام لمقابلة تلك الكلمات من المنار؛ لأن المذاهب الأربعة قد

توورثت (أو تنوقلت) عن الأولين إلى الآخرين منذ عشر قرون أو أكثر قرنًا بعد

قرن، وما قال أحد في قرن من القرون لا سيما العلماء بعدم لزوم تلك المذاهب،

بل عدوها عين الرحمة كما يقول الحديث.اهـ.

_________

ص: 767

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رد المنار

المسائل الاجتماعية والسياسية التي يبحث فيها عن أحوال الأمم وطبائعها

وأسباب ترقيها وتدليها وحياتها وموتها؛ هي أعلى وأرقى وأعوص مسائل العلوم

البشرية كلها، ولا سيما إذا كان فهمها يتوقف على معرفة الباحث دين الأمة التي

يبحث عن أحوالها؛ وفقه أصوله والاستقاء من ينبوعه الأول كالأمة الإسلامية.

والمناظرة في هذه المسائل أصعب من المناظرة في سائر العلوم والفنون؛

لأسباب منها أن كل أحد يظن أنه يعرف حقها وباطلها، وقل من يعرف ذلك،

ومنها أن تحرير محل النزاع عسير ولا سيما بالكتابة في لغتين أو لغة واحدة

يتفاوت المتناظران في فهمها، فلهذا وذاك نرى أن مناظرة رصيفتنا الغراء (مجلة

دين ومعيشت) لنا في هذه المسألة من المشكلات؛ لأن ما يترجمه لنا عنها أهل

لسانها من التتار الذين يطلبون العلم عندنا؛ يدلنا على أن محرريها لا يفهمون كلامنا

حق الفهم، بل نراها تخطئ فيه خطأ تستند إلينا به ما لم يخطر لنا على بال وقد

كتبت هي أيضًا في عبارة ترجمت لنا عنها أن الترجمة كانت خطأ. وههنا نقول:

إننا جعلنا التقليد والتشيع هو سبب استيلاء الأجانب على بلاد الإسلام، ويظهر أنها

فهمت أنه هو السبب المباشر لهذا المسبب، وقد أخطأت في هذا الفهم كما أخطأت

في جزمها بأننا ولدنا في مصر وتربينا في قبضة الإنكليز، وفي قولها إن مصر

وقعت في قبضة الإنكليز بسبب حب الرياسة، ومع هذا كله لا بد أن نكتب في هذه

المسألة المهمة (أسباب اختلاف المسلمين وضعفهم واستيلاء الأجانب عليهم) ما

ترجى فائدته في التفاهم بيننا وفي إيقاظ أمتنا من نومها، وأو تنبيهها من غفلتها عن

نفسها، فنقول:

(1)

إن لضعفنا الذي كان سبب استيلاء الأجانب علينا أسبابًا كثيرة، من

أطال النظر في بعضها دون بعض يمكنه أن يطيل القول في جعله هو السبب دون

غيره، فيكون خطأه في الحصر فقط، ويكون هذا الخطأ فاحشًا إذا كان السبب

المحصور فيه من الأسباب الفرعية غير الرئيسية؛ كحب الرياسة الذي عدته

رفيقتنا للضعف بذاته لما وجدت دولة قوية، وإننا نذكر من الأسباب التي يمكن

للمرء أن يطيل في بيان كونها المضعفة للأمة خلق الحسد الذي يغري محبي الرياسة

بالبغي على من يسبقهم إلى ما تصبو إليه نفوسهم؛ أو يرونها أحق به ممن ناله

دونهم، فالذي يظهر لنا أن عليًّا كرم الله وجهه كان يرى أنه أحق الناس بإمامة هذه

الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يبغ على من سبقه إلى ذلك كما بغى

عليه معاوية، ولا خلاف في كون خروج معاوية على أمير المؤمنين هو الصدمة

الأولى التي أصابت الإسلام، فكانت علة العلل لكل ما جاء بعدها من أسباب

الضعف، فذلك أن تقول: إن ذلك البغي علته الحسد؛ لأن من لا يحسد صاحب

النعمة لا يبغي عليه؛ ولذلك ورد في الحديث (وإذا حسدت فلا تبغ) رواه ابن

أبي الدنيا من حديث أبي هريرة بسند ضعيف ورسته عن الحسن مرسلاً،

والحسد كما يقع بين الأفراد يقع بين الأمم وأهل الملل كما ورد في تفسير] أَمْ

يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ [

الآية؛ أنها أنزلت في حسد اليهود

للعرب أن بعث نبي آخر الزمان منهم، وعلى هذا يمكنك أن تقول: إن الحروب

التي وقعت بين الشعوب الإسلامية كان سببها الحسد.

(ومنها) أي أسباب ضعف المسلمين عدم وضع نظام سياسي للخلافة وشكل

الحكومة تكفله الأمة، وهذا ما يرجحه أكثر الباحثين في السياسة اليوم.

(منها) أنهم لم يوفقوا إلى تأليف جند دائم بنظام يكفل طاعته لأولي الأمر؛

كالنظام المعروف اليوم.

(ومنها) وهو أعمها الجهل بعلم الاجتماع والسياسة والفنون التي عليها مدار

القوة، وهو الذي أزال ممالكنا في هذا القرن وما قبله لا التعصب الجنسي ولا حب

الرياسة، وسبب هذا الجهل جمودنا على التقليد الذي أضعف عقولنا لعدم الاستقلال

في استعمالها، وأضعف رابطتنا الدينية ووحدتنا العامة.

ومنها غير ذلك من الأسباب الاجتماعية والدينية التي بحثنا فيها من قبل،

وبحث غيرنا من الناس كثيرًا، وناهيك بما جمع من تلك الأبحاث في سجل جمعية

أم القرى، وغرضنا من هذه الأمثلة أن نبين أن ما بيناه من ضرر اختلاف الأمة

في دينها وتفرقها إلى مذاهب وكونه من أسباب ضعفها، لا ينافي ما جاء في مجلة

(دين ومعيشت) من ضرر العصبية الجنسية وحب الرياسة، وكونها من أسباب

ضعف المسلمين، ونحن لم نحصر جميع الحروب والفتن بين المسلمين في

الاختلاف والتقليد كما حصرها أصحاب تلك المجلة في التعصب للجنسية والقومية

(وهم يعبرون عن ذلك بالملية كالترك والفرس، فقد استعملوا الملة بغير معناها

الشرعي واللغوي) وفي حب الرياسة.

(2)

أخطأت أختنا مجلة دين ومعيشت فيما ذكرته من الشواهد التي استدلت

بها على ما ذهبت إليه، أخطأت في قولها: إن الخلاف الضار والتقاليد حدث في

الأمة قبل التشيع، والصواب أن التشيع حدث في القرن الأول، وأخطأت في

قولها: إن العصبية الجنسية هي التي كانت سبب الحروب بين المسلمين في القرون

الأولى، وأنه لم يكن للتشيع والمذاهب أدنى تأثير فيها، والصواب أن سم العصبية

الجنسية والقومية لم يسر في المسلمين في تلك القرون سريانًا قويًّا يؤثر فيها، وقد

كنا بينا ما فعله زنادقة الفرس بسائق هذه العصبية من الإفساد في الإسلام ومحاولة

رد أهله عنه وإزالة ملكه، وكونهم ألبسوا ذلك لباس الدين وبثوه في شيعة عليّ

وأبنائه آل بيت الرسول عليهم السلام، التي تفضلهم على بني أمية الباغين

الجائرين، وكانت هذه الشيعة مؤلفة من خيار المؤمنين، فسرى بعد ذلك إلى عامتها

الغافلة بعض دسائس أولئك الزنادقة، وما أحدثوا من تعاليم الباطنية الكفرية ولكن

المسلمين الصادقين من العرب والعجم لم يفطنوا لدسيستهم، وظلت أخوة الإسلام

جامعة بينهم، ولا يستثقل عربي إمارة عجمي ولا مشيخته، وكانوا كلهم يتعاونون

على نقد ما وضعه الزنادقة من الأحاديث وما بثوه من البدع وروجوه بزعمهم أنه

مذهب شيعة آل البيت الطاهرين، وقد كانت الحروب والفتن التي أثارها الباطنية

من القرامطة والإسماعيلية وغيرهم تشب نيرانها باختلافه التعاليم الدينية لا

باختلاف الجنسية والقومية. والعبيديون ما استولوا على مصر وأسسوا ملكهم باسم

الجنسية بل باسم المذهب، وما أزال ملكهم صلاح الدين الأيوبي بالعصبية الجنسية

والقومية بل بعصبية المذهب، ولم يكن أحد من العرب يكره حكم نور الدين التركي

ولا صلاح الدين الكردي، ولا يخطر في باله أنه من غير قومه، بل لا يزال

العرب يعدونهما خير خلف للخلفاء الراشدين.

نعم.. إن فتنة العصبية الجنسية الجاهلية قد أضرت بالدولة العثمانية كما بينا

ذلك مرارًا بالنقد المر، ومع هذا نقول على علم وخبر: إن عرب اليمن وحوران

لم يقاتلوا الدولة ولم يعصوها؛ لاختلاف الجنس والعنصر. فأما أهل اليمن فهم

يدافعون الدولة ويحاربونها عندما تحاربهم؛ لاختلاف المذهب ولظلم رجال الدولة

وإفسادهم هنالك، كما اعترف كتاب الترك بذلك في جرائدهم في أثناء الفتنة الأخيرة

في هذا العام، ولم يكن اليمانيون هم البادئين في الحرب الأخيرة، بل كان الإمام

يطلب الاتفاق مع الدولة. ومذهب الزيدية الذين جل تلك الحروب معهم وجوب

الخروج على أهل الجور وقتالهم، وأما دروز حوران فهم على كونهم من الباطنية

لم يعصوا الدولة؛ لأنها تركية وهم عرب، والقتال بينهم وبين العرب الخلص

المجاورين لهم مستمر، وإنما تحرشت بهم الحكومة لتستريح من شقاوتهم وكثرة

اعتدائهم على من حولهم، ولم يكن تحرشها بهم من حسن الإدارة في شيء إذا كان

يمكن إخضاعهم بحسن السياسة؛ كما يعرف الخبيرون من رجال الدولة، وكذلك

أخطأت في تلك الفعلة الشنعاء في الكرك.

إنني أرى تأثير الإسلام في إزالة عصبية العرب القومية لا يزال أقوى من

تأثيره في إزالة عصبية غيرهم من المسلمين، فأهل جزيرة العرب الذين لم يروا

من الدولة خيرًا قط، وإنما رأوا منها الغارات الشعواء، وسفك الدماء، يودون لو

يفدونها بأرواحهم، ويتمنون لو توفق إلى إدارة بلادهم بإقامة حكم الشرع فيها، مع

كونهم لم يتعودوا الخضوع لسلطة غريب عنهم، فهم من أعرق أهل الأرض في

الاستقلال، ولو كان أهل اليمن يكرهون سلطة الترك؛ لأجل العصبية الجنسية

لخرجوا عليهم في هذا الوقت الذي لا تستطيع الدولة أن ترسل فيه إليهم جندًا،

ولكنهم في هذا الوقت عرضوا أنفسهم واستعدوا لبذل أرواحهم في الحرب مع الدولة

التي لم يروا منها خيرًا قط، وما ذلك إلا لأن رابطة الإسلام فيهم أقوى من رابطة

الجنسية والقومية.

نعم.. إن الأرنؤط يطلبون ما يطلبون باسم العصبية القومية، وما ألجأهم إلى

ذلك إلا سوء سياسة المتفرنجين في الآستانة الذين يحاولون تتريكهم بالقوة القاهرة،

ولو جروا معهم على سنة الإسلام؛ لما كان للعصبية الجنسية أثر يذكر فيهم.

(3)

أخطأت رصيفتنا أيضًا فيما أشارت إليه من سبب احتلال الإنكليز

لمصر كما أخطأت في قولها عن صاحب المنار: إنه ولد في مصر وتربى فيها،

كما قلنا في أول هذا الرد، ونزيد هنا أن زمن وجودنا بمصر هو أربع عشرة سنة

كعمر المنار ويزيد أشهرًا، وأنه لم تكن العصبية الجنسية ولا حب الرياسة سبب

دخول الإنكليز في مصر؛ وإنما سببه سوء إدارة إسماعيل باشا وضعف توفيق باشا،

فالأول أغرق البلاد بالديون وجعل إنكلترة وفرنسة رقيبتين على حكومته، حتى

أدى ذلك إلى خلعه، والثاني أحدث حركة عسكرية ليتخلص بها من وزارة رياض

باشا، ولم يستطع تسكينها فاستعان بالإنكليز عليها. وليس هذا محل شرح ذلك،

أفرأيتم أيها الرصفاء كيف تبنون أحكامكم على أسس من الرمل لا تمسك بناء ولا

تحقق رجاء.

وبعد هذه الإشارة الوجيزة والتذكرة المختصرة، أقول: إنني صرحت في

الكلام على ذلك الحديث؛ بعد بيان أنه لا يصح بأن أهون الاختلاف الأمة اختلاف

السلف في فهم أحكام الدين؛ ومنهم علماء الأمصار كأئمة الفقه المشهورين: أبي

حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم (رحمهم الله تعالى ورضي عنهم)

وقلت: إن مثل هذا الاختلاف طبيعي لا ضرر فيه، ثم بينت أن ضرر الاختلاف

في الدين قد نجم في دور التشيع والتعصب، وكان من أسباب ضعف الأمة الذي

فرق شملها حتى صارت إلى ما نحن فيه، ولم أقل: إن الضعف زوال الممالك لا

سبب له إلا الاختلاف والتشيع، على أن من يقول هذا لا يعجزه أن يستدل عليه،

وبيان ذلك حتى يصعب المراء الظاهر فيه يطول، وليس هذا محل التطويل، وإنما

هو محل التذكير، فنذكر إخواننا الفضلاء أصحاب تلك المجلة وغيرهم من القراء

ببعض المسائل في ذلك فنقول:

إن كتاب الله تعالى قد بين في آيات كثيرة ضرر الاختلاف والتفرق ولا سيما

في الدين، وتوعد على هذا بمثل ما يتوعد على الكفر، حتى صرح بأن الذين

يكونون شيعًا وفرقًا في الدين هم برآء من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بينا هذا

مرارًا في التفسير وغير التفسير تارات بالإطناب وتارات بالإيجاز.

إن النبي صلى الله عليه وسلم بين مثل ذلك في قوله وعمله، حتى لم يكن

يغضب لشيء كما يغضب إذا رأى الاختلاف بين أصحابه قد أفضى أو كاد يفضي

إلى التفرق؛ وانتصار كل طائفة لرأي، والنقول في ذلك كثيرة وفيما يقابله من

الأمر بالاتفاق والاعتصام كثيرة جدًا.

إن السلف الصالحين كانوا يتحرون هذا الهدي النبوي، ويحذرون من إفضاء

الخلاف في الفهم؛ وهو طبيعي لا مندوحة عنه إلى التفرق والتشيع المحظور،

حتى إن الشافعي ترك القنوت في الصبح عندما صلى في مسجد أبي حنيفة مع

أصحابه ببغداد، ورأى أن ترك سنة غير مجمع عليها مرة (أو أكثر) أهون من

مخالفة جماعة من المسلمين؛ أداهم اجتهادهم إلى عدم سنيتها. وقد خفي هذا على

من علل ذلك بأنه ترك القنوت تأدبًا مع أبي حنيفة وهو في قبره إذ لا يعقل أن يترك

مثل الشافعي سنة الرسول تأدبًا مع أحد الناس، وخفي أيضًا على من زعم أن

اجتهاده في المسألة تغير في ذلك الوقت ثم عاد، وهذا بعيد أيضًا كبعد الأرض عن

السماء. وأما ما قلناه فهو معهود من السلف، يترك الواحد اجتهاده والعمل بظنه في

مثل هذه المندوبات؛ ليوافق الجماعة الذين خالف اجتهادهم اجتهاده فيه إذا كان

عمله به يظهر به الاختلاف والتفرق؛ كالقنوت وتكبيرات صلاة العيد، وإلا عمل

كل باجتهاد نفسه وعذر الآخر في اجتهاده. ومن هذا الباب جواب الإمام أحمد لمن

سأله: أيصلي من لم يتوضأ من خروج الدم، وكان يرى الوضوء منه، قيل له:

فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال كيف لا أصلي

خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب، وكان مالك قد أفتى هارون الرشيد بأنه لا

وضوء عليه إذا هو احتجم، فصلى يومًا بعد الحجامة، وصلى خلفه أبو يوسف ولم

يعد الصلاة، وقال بعض الفقهاء: إن من علم أن الإمام مخالف له في اجتهاده أو

تقليده في مثل ذلك لا يصلي خلفه، وجعلوا المسألة خلافية وصوروها بقولهم: هل

العبرة برأي الإمام أم برأي المأموم؟ وفرقوا بين المؤمنين في ذلك وغيره، حتى

إنهم صاروا يعقدون في بيت الله تعالى بمكة وفي سائر المساجد عدة جماعات في

وقت واحد، ولا يرون في هذا بأسًا وإن خالفوا السنة وعمل السلف؛ لأجل تمتع

أئمة الصلوات بالرواتب الموقوفة عليهم.

يري أصحاب مجلة (دين ومعيشت) أن هذا الخلاف والتفرق لا ضرر فيه،

وأنه لم يترتب عليه حرب ولا عداء، ولم ينكره أحد من العلماء في كل هذه

الأعصار، وكتب التاريخ ومصنفات أشهر العلماء الإعلام ترد رأيهم هذا وتنقضه

عروة عروة.

لا يماري أحد فيما جرى بين المسلمين من الفتن والحروب باختلاف أهل

السنة مع الخوارج والشيعة؛ ومنها فتنة ابن العلقمي المشهورة، وآخرها ما جرى

بين العثمانيين مع شيعة إيران الإمامية ومع شيعة اليمن الزيدية فلا نخوض في هذا،

بل نشير الآن إلى بعض الفتن التي شوهت التاريخ باختلاف أهل المذاهب الفقهية

الحنفية والشافعية والحنبلية، ومن أخذ مثل تاريخ الكامل لابن الأثير وتصفح

فهرسه، يستخرج من كل مجلد عدة فتن ولا سيما في بغداد.

أثبت لنا التاريخ أن إغارة التتار على المسلمين، قد كانت أول مزلزل لقوتهم

وخاضد لشوكتهم، وأنه كان للعداوة بين الشافعية والحنفية يد في إغراء التتار

الوثنيين بالمسلمين وتنكيلهم بهم، وكانوا قد كادوا يعودون أدراجهم، بعد إخضاعهم

الأعاجم وأخذ البلاد منهم، وموت ملكهم وقائدهم جنكيز خان، وعجزهم عن فتح

أصبهان الإسلامية، قال ابن أبي الحديد في (ص329) من الجزء الثاني من

شرحه على نهج البلاغة: (المطبوع بمصر) ما نصه:

(ورجع جنكيز خان إلى ما وراء النهر وتوفي هنالك، وقام بعده ابنه قاآن

مقامه، وثبت جرماغون في مكانه بآذربيجان، ولم يبق لهم إلا أصبهان، فإنهم

نزلوا عليها مرارًا في سنة 627 وحاربهم أهلها، وقتل من الفريقين مقتلة عظيمة،

ولم يبلغوا منها غرضًا، حتى اختلف أهل أصبهان في سنة 633 وهم طائفتان

حنفية وشافعية وبينهم حروب متصلة وعصبية ظاهرة، فخرج قوم من أصحاب

الشافعي إلى من يجاورهم ويتاخمهم من ممالك التتار، فقالوا لهم: اقصدوا البلد

حتى نسلمه إليكم، فنقل ذلك إلى قاآن بن جنكيز خان بعد وفاة أبيه والملك يومئذ

منوط بتدبيره، فأرسل جيوشًا من المدينة المستجدة التي بنوها وسموها (قراحرقم)

فعبرت جيحون مغربة، وانضم إليها قوم ممن أرسله جرماغون على هيأة المدد

لهم، فنزلوا أصفهان في سنة 23 المذكورة وحصروها. فاختلف سيفا الشافعية

والحنفية في المدينة، حتى قتل كثير منهم، وفتحت أبواب المدينة فتحها الشافعية

على عهد بينهم وبين التتار؛ أن يقتلوا الحنفية ويعفو عن الشافعية، فلما دخلوا البلد

بدأوا بالشافعية فقتلوهم قتلاً ذريعًا، ولم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم، ثم قتلوا

الحنفية ثم قتلوا سائر الناس، وسبوا النساء وشقوا بطون الحبالى، ونهبوا الأموال

وصادروا الأغنياء، ثم أضرموا النار فأحرقوا أصبهان، حتى صارت تلولا من

رماد) اهـ.

ومن فضائح الخلاف بين الشافعية والحنفية؛ ما ذكره المؤرخون في خبر

انتقال ابن السمعاني من مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي، وما جرى من

التعصبات والمطاعن والفتن، حتى إن ابن السبكي لم يستحِ من نقل الرؤى التي

تقدمت ذلك، ومنها أنه لما اختلج في ذهنه تقليد الشافعي وتردد فيه، رأى رب

العزة جل جلاله في النوم فقال له: (عد إلينا أبا المظفر) قال: فانتبهت وعلمت

أنه يريد مذهب الشافعي فرجعت إليه! ! فهذا العالم العلامة من المقلدين الذين قالوا

عنه إنه شافعي وقته، قد فهم من الرؤيا التي رآها أن الله تعالى يريد بقوله له:

(عد إلينا) الرجوع عن مذهب أبي حنيفة الذي مكث ثلاثين سنة يناظر علماء

الشافعية في ترجيحه على مذهبهم؛ ويتقلد مذهب الشافعي الذي كان يجتهد تلك المدة

كلها في إبطال ما خالف الحنفية منه، ويؤخذ من هذا الفهم أنه كان يرى أن مذهب

أبي حنيفة بعيدًا عن الله وعن مرضاته كأنه ليس من دينه في شيء، أي كان هذا

منه وهو متقلد له، ولماذا لم يفهم من العودة إلى الله العودة إلى الأصل دينه من

كتابه المنزل وسنة نبيه المرسل، ومن غير شوب لهما بظنون الحنفية والشافعية

جميعًا؟

المراد من الإشارة إلى هذه الواقعة من وقائع تعصبات المذاهب وتفرقها بين

السلمين؛ هو بيان أن كبار المقلدين كانوا يعبرون عن المخالفين لهم في المذهب

بمثل ما يعبرون به عن المخالفين لهم في أصل الدين وإن لم يصرحوا بتكفيرهم

بلفظ الكفر والردة، ومن ذلك قول بعض الحنفية: إنه يجوز للحنفي أن يتزوج

البنت الشافعية قياسًا على الذمية! ! بل غلا بعضهم وصرح بالتكفير، ولا يزال

هذا التعصب شديدًا في بعض بلاد الأعاجم كالهند وغيرها على ضعف المذاهب كلها،

ولا تخلوا البلاد العربية من نزغات في ذلك، فقد قال أحد متفقهة الحنفية في

طرابلس الشام في درسه مرة إنه لا يصلي خلف إمام شافعي؛ لأن الشافعية يشكون

في إيمانهم (أي إن علماءهم أجازوا أن يقول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله)

فذهب بعض الشافعية إلى المفتي، وقال له: اقسم المساجد بيننا وبين الحنفية،

فانتهر المفتي ذلك الحنفي وأطفأ الفتنة، ولعل مصر الآن أشد بلاد الإسلام تساهلاً

وأقلها تعصبًا في ذلك.

تقول مجلة (دين ومعيشت) : إن العلماء قد أقروا خلاف المذاهب الموروثة

وعدوه رحمة، كما ورود في الحديث فلم يكره أحد وهذا غير صحيح؛ فإن العلماء

النابغين المستقلين قد أنكروا ذلك في كل عصر، وحثوا المسلمين على هداية الكتاب

والسنة، وترى في هذا الجزء كلامًا لفقيه شافعي مستقل في ذلك، ولكن ضاع أكثر

أقوالهم في الجماهير التي غلب عليها الجهل والمشتغلين بمدارسة هذه المذاهب؛

لأجل الأوقاف التي حبست على المنتمين إليها، والمناصب التي يخصهم بها الملوك

والأمراء، فلولا الأمراء والسلاطين والأوقاف التي وقفوها على المشتغلين بهذه

المناصب اندرست كما اندرس غيرها، بل لما وجدت بهذه الصفة، وإنما كان

يحفظ منها مثل ما حفظ من مذهب الثوري والأوزاعي وأضرابهم، وهو أقوال

الأئمة ودلائلهم تذكر في شروح الحديث وكتب الفقه التي لا تجيز فيها إلى فئة، ولا

افتراق فيها بين جماعة المسلمين، وهؤلاء المقلدون للمذاهب المتعصبون لها لأجل

ما ذكر، لا يعدون من العلماء حقيقة وإن عدوا منهم عرفًَا، وكان السلف يعبرون

عن المقلد بالجاهل مهما اشتغل بالعلم، وعن المجتهد بالعالم، وترى مثل هذا في

الهداية وشروحها من كتب الحنفية في أحكام القضاء والإفتاء، على أن مقلدي كل

مذهب أنكروا مسائل الخلاف في غير مذهبهم، فكان لنا من مجموع أقوالهم إنكار

جميع ما اختلف فيه، ولا يمكن الترجيح بينهم إلا بالرجوع إلى الأصل الذي أمرنا

الله به في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء:

59) كما كان يفعل السلف الصالح رضي الله عنهم.

كان المسلمون في خير القرون أمة واحدة، وكان العلماء فيهم أدلاء ونقلة لدين

الله لا يدون ظن أحد منهم (اجتهاده) في المسائل؛ ليتخذ دينًا يدعي إليه ويلتزم

دون غيره، وكان سبب انتشار هذه المذاهب تعين الحكام من أهلها، ثم انتماء

الملوك والأمراء إليها، فلو بقيت دولة العبيدية في مصر لصار جميع أهلها أو

أكثرهم شيعة ثم باطنية، ولولا تعقب السلطان صلاح الدين لمذهبهم وتعمد محوه

واستبدال مذهب الشافعية وكذا المالكية به؛ لما صار أكثر أهل مصر شافعية

والكثير منهم مالكية كما بين ذلك المقريزي في خططه، ولولا استيلاء العثمانيين

وأسرة محمد علي باشا على مصر وهم حنفية، وجعلهم القضاة والحكام من أهل

مذهبهم؛ لما كثر علماء الحنفية في الأزهر وانتشر مذهبهم في هذه البلاد، فملوك

الدنيا ومناصب الدنيا ومتاع الدنيا وزينة الدنيا وجاه الدنيا هي التي قررت هذا

الخلاف بين المسلمين وحفظته ونصرته؛ كما بين ذلك الإمام الغزالي في كتاب العلم

من الربع الأول من إحياء علوم الدين، وحسبك أن تراجع منه الباب الرابع الذي

عقده لبيان (إقبال الخلق على علم الخلاف) فإنه صرح فيه بنحو ما ذكرناه آنفًا

وبينه كما بينه غيره من العلماء والمؤرخين.

وما زال علماء الدنيا - أو علماء السوء كما يقول الغزالي - يؤيدون الحكام

الظالمين في كل حين لأجل المال والجاه، بل يؤيدون غير المسلمين أيضًا؛ كما

كان بعض علماء مصر يقنعون المسلمين بوجوب الخضوع لفرنسة عندما استولت

على مصر بجيش بونابرت، يفعلون ذلك باسم الإسلام. فلا عجب إذا أيدوا كل

حكومة منسوبة إلى الإسلام، مهما كانت جائرة ومهما كان مذهبها في الأصول

والفروع، وقد وجد من أصحاب العمائم في مصر من أنشأ في هذا العصر مسجدًا في

مصر باسم ملك إيطالية الكاثوليكي، ووقفه على روحه ليكون له ثواب الصلاة فيه،

وهذا المعمم الذي يعد من طائفة العلماء وشيوخ المتصوفة هو ابن الشيخ عليش الذي

كان يعد أشهر علماء الأزهر، وأشدهم تشددًا في الدين. وكان من هذا الخزي أن

اسم الشيخ عليش وشهرته مما استعانت به إيطالية على أخذ مملكة طرابلس الغرب

وبرقة من الدولة الإسلامية، كل ذلك لأجل عرض قليل وحطام حقير يستفيده من

فضلات وكالة إيطالية السياسية بمصر.

فهل يستغرب مع هذا ما قاله الغزالي والمقريزي وغيرهما من المتقدمين في

سبب التعصب للمذاهب ونصرها، وهو أنه طلب المال والجاه والتمتع بالأوقاف

والمناصب؟ أم يستغرب ما كان يكتبه الشيوخ الدجالون من عبيد الدنيا في مدح

السلطان عبد الحميد مدمر الدولة العثمانية، ومذل الأمة الإسلامية من المدائح فيه،

وتكفير المخالفين له، كقول الشيخ يوسف النبهاني في ذيل قصيدة له في مدحه

ومدح كاتبه عزت باشا العابد؛ إنه يتقرب إلى الله بمحبته وموالاة من ولاه ومعاداة

من عاداه، قال: (وذلك لازم لكل مسلم، وإن عكسه من أكبر الكبائر وأعظم

الذنوب الموجبات لسخط الحق سبحانه، بل ربما أدى ذلك إلى الكفر) ثم ذكر

أن الذين عادوه يعني أحرار العثمانيين طلاب إصلاح الدولة (قد عصوا الله

ورسوله، وأسخطوا جميع المؤمنين، واستحقوا لعنة الله وغضبه في كل حين) وذكر

في تلك القصيدة أن عبد الحميد جدد الدين والدولة، وأنه لا يوجد له مثل في

الأرض. ولكن عسى أن يوجد له مثل فوق السموات. والقصيدة مطبوعة، فهل

مكن المستبدين من إهلاك المسلمين إلا أمثال هؤلاء المقلدين الجاهلين

الطامعين في الأموال والمناصب بعنوان هذه المذاهب، وإذا كان الأمر

كذلك، فأي رحمة استفادها المسلمون من اختلاف أولئك المقلدين المتعصبين غير

تلك الأموال والمناصب التي تمتع بها أولئك المفرقون بين المسلمين باسم

المذاهب، وأئمة الذاهب برآء من ذلك ومن الرضى به.

وجملة القول: إن حديث (اختلاف أمتي رحمة) لا أصل له كما صرح بذلك

غير واحد من أئمة الحديث، وذكر الخطابي له في عرض كلامه، لا يثبت أن له

أصلاً عنده، ولكن قد يشعر بذلك كما قال السخاوي، ووجود أصل له لا يستلزم

صحته ولا حسنه، وهو لا يعرف له سند، ومعناه كلفظه لا يصح ولا يثبت، بل

الثابت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف، وفي

الواقع ونفس الأمر أن الاختلاف قد أدى إلى التفرق والعداوة والبغضاء، فكان من

أسباب ضعف المسلمين وتمزقهم كل ممزق، فهم للتعصب للمذاهب قد أضعفوا

وحدتهم وأضعفوا استقلال عقولهم، فلما ارتقت الأمم باستقلال العقل في فنون العلم،

وما يترتب عليه من الأعمال علوهم وسلبوا ملكهم.

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله

بين وجوهكم) متفق عليه في الصحاح والسنن كلها، وفي رواية أبي داود (أو

ليخالفن الله بين قلوبكم) وفسرت الوجوه في رواية الجمهور بالقلوب كما فسر به {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} (الأنعام: 79) قال النووي في

شرح الحديث: معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء، وقال القرطبي: معناه

تفترقون، فيأخذ كل واحد وجهًا غير الذي يأخذه صاحبه، ولا يفقه هذه الحكمة

النبوية إلا العليم بصفات الأنفس البشرية وأخلاقها ونظام الاجتماع الإنساني،

ومن سنن الله في ذلك أن ما ينفق فيه الإفراد من الأعمال الظاهرة المشتركة بينهم،

يكون سببًا لائتلافهم واتفاقهم ووحدتهم، والضد بالضد؛ ولذلك تتحرى الأمم

المرتقية في العلم والنظام أن تربي أفرادها على نظام واحد في الأعمال الظاهرة،

وأن تنشر عاداتها في الأمم الأخرى؛ لتجذب بها قلوبها إليها، وقد أوضحنا

هذا المعنى في مقالاتنا (المسلمون والقبط) فليرجع إليها.

(يا سبحان الله) إن رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يسمح لنا أن تختلف

أفرادنا في صف الصلاة، فيتقدم بعضهم على بعض، وأقسم على أن ذلك يكون

سبب اختلاف قلوبنا ووقوع التفرق بيننا، ثم نحن نجيز لأنفسنا أن نقيم في المسجد

عدة جماعات في وقت واحد لاختلاف المذاهب، ونعد هذا رحمة بنا، ونحن نشعر

في أنفسنا بأن ذلك يبعد بعضنا عن بعض ولا شك في ذلك، ونجيز لها غير ذلك

من الفتن والفساد.

لو شئت أن أنقل بعض ما أعلم من وقائع الفتن والعداوة بين أهل المذاهب

لجئت بالفضائح، وكل ذلك قد جرى باسم الانتصار لأئمة العلم والفقه، وما هو إلا

انتصار للأهواء كما قال الغزالي: لا شيء منه يوافق أصول أولئك الأئمة ولا

سيرتهم الشريفة، بل يقل أن يوجد مدعي اتباعهم من يعرف حقيقة ما كانوا عليه،

وإنما يتبع أهل كل عصر علماء عصرهم الذين أشرنا إلى حالتهم لثقتهم بهم وإن

كانوا جاهلين، حتى بالمذاهب التي جعلوها حرفتهم وسبب رزقهم، وهؤلاء القادة

الجاهلون هم الذين منعوا المسلمين من أسباب الرقي المالي العلمي والصناعي؛

فضاعت بلادهم.

منشأ عصبية التقليد الثقة، وأكبر مفاسده أن تكونت بهذه الثقة مذاهب

المبتدعة وطرقهم، بل مذاهب الكفر والزندقة باسم الإسلام كمذاهب الباطنية،

فالبكداشية يعدون الآن في بلاد الترك والأرنؤط بالملايين ويقولون: إنهم من

المسلمين، وما كان الآخذون بتعليم (الفضل الحروفي) من المسلمين في شيء،

أفرأيت لو لم توجد بدعة التشيع أو التعصب من كل طائفة لتعليم معين، هل كان

وجد هذا الضلال، أرأيت لو أن المسلمين يعملون في كل عصر وكل مكان بقوله

تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) هل كان وجد هذا

التفرق والتمزق والانحلال؟ ؟ لا لا وإنما وجد بالتقليد لأن كل طائفة وثقت

برؤسائها فاتبعتهم بغير دليل، وسنزيد هذا بيانًا في وقت آخر إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 770

الكاتب: محمد رشيد رضا

الأخبار التاريخية والآراء

(محاربة إيطالية لطرابلس الغرب)

نعني بطرابلس الغرب الإقليم الواقع بين القطر المصري والقطر التونسي،

ومنه برقة المعبر عنها في عرف الدولة بمتصرفية بنغازي، وهو مملكة كبيرة

مساحتها أربعمائة ألف ميل أو تزيد، ولكنها لسوء الإدارة والظلم والفوضى قد غلب

عليها الخراب وقل فيها السكان، فأهلها يقدرون بمليون ونصف، يدخل في ذلك

بدوهم مع حضرهم، وموقع هذه المملكة البحري والتجاري عظيم، وهي قابلة

للعمران والترقي، وقد كنا نسمع منذ وعينا أن دولة إيطالية طامعة فيها، وكانت

الحكومة الحميدية على سيئاتها قد عنيت بتعليم أهل طرابلس النظام العسكري،

فأنشأت فيها فرقًا من الفرسان (الألايات الحميدية) كما فعلت في بلاد الأكراد،

فقلنا يومئذ إن للسلطان عبد الحميد في هذه الدولة حسنتين: سكة الحديد الحجازية

والألايات الحميدية. وقد اقترحنا على الدولة العلية منذ أكثر من عشر سنين؛ أن

تعمم التعليم العسكري في طرابلس الغرب وفي سائر البلاد العثمانية، وتجعل فيها

مستودعات للسلاح؛ ليكون الأهالي مستعدون للدفاع عن أنفسهم إذا فاجأهم

الطامعون، وتعذر على الدولة أن تمدهم بالجند الكافي، بل قلنا: إن الطامعين إذا

علموا أن أهل البلاد مستعدون للحرب والكفاح يحجمون عن مهاجمة البلاد؛ لأن

أوربة - ولا خوف إلا منها - تؤثر الفتح السلمي الذي لا تخسر فيه كثيرًا من

أبنائها وأموالها على الفتح الحربي.

كانت نصائحنا كنصائح غيرنا تحمل على معاداة السلطان، ولا يترتب عليها

إلا إيذاء الناصح في نفسه أو أهله وماله، ثم زالت الحكومة الحميدية وحل محلها

الحكومة الجديدة، التي سيطرت عليها جمعية الاتحاد والترقي بقوة الجيش وديوان

الحرب العرفي، فكان حظ طرابلس الغرب في عهد هذه الحكومة شرًا من حظها في

زمن عبد الحميد، فقد أضعفت وزارة حقي باشا حمايتها، ومهدت السبيل لتعجيل

إيطالية باحتلالها، كما يعلم من التقرير الرسمي الذي قدمه بعض المبعوثين إلى

المجلس في طلب محاكمة حقي باشا.

إن إيطالية تستعد منذ سنين كثيرة لامتلاك طرابلس الغرب، وكان هذا

الاستعداد على أشده بعد الدستور؛ إذ كان حقي باشا سفير الدولة في رومية عاصمة

إيطالية، فصدرًا أعظم للدولة، يسهر أكثر لياليه في سفارة إيطالية يقامر مع النساء

والرجال

وكان يشهد دائمًا لإيطالية بحسن النية وصداقة الدولة العلية، حتى إن

سفير فرنسة حذره منها، وأنذره سوء معاقبة مقاصده، فماراه بالنذر، حتى حل

الخطر، ووقع البلاء المنتظر.

وهاك ترجمة البلاغ الذي أعطاه سفير إيطالية لصديقه حقي باشا بإمضاء سان

جليانو رئيس وزارة إيطالية.

* * *

(إنذار إيطالية للدولة العثمانية)

لبثت الحكومة الإيطالية منذ سنين تنبه الباب العالي لضرورة وضع حد لسوء

النظام وإهمال الحكومة العثمانية في طرابلس وبنغازي، ولوجوب تمتيع هذه البلاد

بما تتمتع به سائر أقسام إفريقية الشمالية، وهذا التغيير (المشار إليه من حيث تأييد

الأمن وترقية البلاد) الذي يقتضيه التمدين، يجعل المصالح الحيوية بحسب ما

تستلزمه مصلحة إيطالية في الدرجة الأولى؛ بالنظر لقصر المسافة الفاصلة بين تلك

البلاد وشواطئ إيطالية.

وبالرغم من حسن مسلك الحكومة الإيطالية التي كانت دائمًا توالي وتعضد

تركية في كثير من المسائل السياسية في العهد الأخير، وبالرغم من اعتدالها

وصبرها حتى الآن، كانت الحكومة العثمانية تجهل رغائبها في طرابلس، حتى إن

جميع مشروعات الطليان في تلك الأصقاع كانت تصادف دائمًا مقاومة لا تحتمل.

فالحكومة العثمانية التي كانت حتى الآن تبدي العداء والسخط من الحركة

الإيطالية الشرعية في طرابلس وبنغازي، وما زالت كذلك حتى الساعة الحادية

عشرة من هذا اليوم (أي الساعة التي كتب أو قدم فيها البلاغ) ، اقترحت على

الحكومة الملكية (يعني الطليانية) أن تتفاهم معها، وأعلنت أنها ميالة أن تمنحها

أي امتياز اقتصادي يتفق مع المعاهدات النافذة، ومع شرف تركية الأعلى

ومصالحها. ولكن الحكومة الملكية لا تشعر الآن أنها في أحوال توافق الدخول في

المفاوضة بهذا الموضوع - المفاوضة التي برهن الاختيار الماضي على عدم نفعها

وهي لا تشتمل على ضمان المستقبل، ولا تكون إلا سببًا للاحتكاك والنزاع.

ومن جهة أخرى، قد وردت الأخبار إلى الحكومة الملكية من قنصلها في

طرابلس وبنغازي تفيد أن الحالة هناك خطرة جدًّا؛ بسبب التحريض العام ضد

الرعية الطليان، التحريض الذي زاده الضباط وسائر موظفي الحكومة، فهذا النهج

خطر شديد على الطليان وعلى سائر الأجانب على اختلاف جنسياتهم. ولما

أصبحوا قلقين على حياتهم، ابتدأوا يهجرون البلاد بلا إبطاء، ووصول (السفن)

العسكرية العثمانية إلى طرابلس زاد الحالة خطرًا وحرجًا؛ مع إن الحكومة الملكية

نبهت الحكومة العثمانية إلى نتائجه السيئة من قبل، ولهذا تضطر الحكومة الملكية

أن تتخذ الاحتياطات اللازمة؛ دفعًا للخطر الذي ينشأ عنه.

ولما وجدت الحكومة الإيطالية نفسها مضطرة إلى الحرص على شرفها

ومصالحها، قررت أن تحتل طرابلس وبنغازي احتلالاً عسكريًّا، وهذا هو الحل

الوحيد الذي تعول عليه إيطالية، والحكومة الملكية تنتظر أن تصدر الحكومة

السلطانية أوامرها بأن لا يصادف الاحتلال معارضة من رجال الحكومة العثمانية،

وأن لا تجد صعوبة في إنفاذ ما تريد إنفاذه، وبعد ذلك تتفق الحكومتان على تقرير

الحالة اللازمة التي تلي ذلك الاحتلال.

وقد صدرت الأوامر للسفير الإيطالي في الآستانة أن يلتمس جوبًا حازمًا في

هذه المسألة من الحكومة العثمانية في مدة 24 ساعة منذ تسليمه هذا البلاغ، حتى

إذا لم تجاوب عليه اضطرت الحكومة الإيطالية لتنفيذ المشروعات المدبرة لضمان

الاحتلال.

ونرجو أن يبلغ جواب الباب العالي المنتظر في 24 ساعة لنا عن يد السفير

العثماني في رومية.

...

...

...

...

الإمضاء

سان جليانو

* * *

(جواب الدولة على الإنذار)

تعلم السفارة الملكية كل العلم الظروف التي لم تسمح لطرابلس وبنغازي بأن

تقدم التقدم الموموق.

ودرس المسألة بغير غرض يكفي في الحقيقة لأن يثبت أن الحكومة الدستورية

العثمانية لا يجوز اتهامها بحالة؛ هي نتيجة الحكم الماضي، فإذا ظهر ذلك، وعدنا

إلى تاريخ حوادث السنين الثلاث التي مرت يصعب جدًّا على الباب العالي أن يجد

ظرفًا واحدًا ظهر فيه بمظهر العداء للمشروعات الطليانية في طرابلس وبنغازي، بل

إنه يجد عكس ذلك؛ أي أن إيطالية كانت تساعد بمالها ونشاطها الصناعي على

إنهاض ذلك الشطر من السلطة إنهاضًا اقتصاديًّا.

وتعتقد الحكومة السلطانية أنها أظهرت ميلاً حسنًا مطردًا إلى كل المقترحات

التي كانت تقدم لها بهذا المعنى، بل إنها درست وحلت حلاً وديًا كل طلب طلبته

السفارة الملكية.

ولا حاجة بنا إلى أن نريد أنها كانت بذلك تنقاد دائمًا لإرادتها أن تحفظ صلات

الصداقة والثقة مع حكومة إيطالية وفي أن تنميها، وهذه الإدارة الحسنة هي التي

دفعتها مؤخرًا إلى أن تقترح على السفارة الملكية اتفاقًا يكون أساسه الامتيازات

الاقتصادية التي تفتح مجالاً واسعًا للنشاط الطلياني في تلك الأقاليم، على شرط أن

يكون حد تلك الامتيازات كرامة السلطنة ومرافقها والمعاهدات النافذة.

بهذا برهنت الحكومة العثمانية على ميولها السليمة، دون أن يغيب عنها حفظ

العهود التي تربطها بالدول الأخرى. تلك العهود التي لا يسقط شطر منها بإرادة

فريق من المتعاقدين.

أما ما يختص بالنظام والأمن في طرابلس وبنغازي؛ فإن الحكومة العثمانية

القادرة جيدًا على تقدير الحالة، لا يمكنها إلا أن تؤكد كما فعلت سابقًا أنه لا يوجد

أقل سبب داع للخوف على الطليان والأجانب النازلين هناك.

ففي تلك الأقاليم لا يوجد اضطراب ولا تهيج، ومهمة الضباط وغيرهم من

موظفي الحكومة ضبط الأمن، وهم يقومون بمهمتهم خير قيام.

وأما وصول النقالات العسكرية العثمانية إلى طرابلس المتمسكة به السفارة؛

لأنها تتوقع منه نتائج خطرة، فجواب الباب العالي عليه أنه لم يرسل سوى نقالة

واحدة، سافرت قبل وصول مذكرة 26 سبتمبر ببضعه أيام وزيادة، على هذا أن

تلك النقالة لا تحمل جنودًا، فلا يمكن أن يكون لوصولها تأثير على أفكار الأهالي

غير تأثير الهدوء.

فإذا تبين ذلك لا يبقى إلا عدم وجود الضمان الذي يضمن للحكومة الطليانية

توسع مصالحها الاقتصادية في طرابلس وبنغازي، إذا كانت الحكومة الملكية لا

تعمد إلى عمل خطير كالاحتلال العسكري، فإن الباب العالي مستعد لإزالة هذا

الخلاف، والحكومة السلطانية تطلب من الحكومة الملكية أن تبيّن لها نوع الضمان

المطلوب، فهي توافق عليه إذا لم يمس الأملاك وتتعهد بأن لا تغير شيئًا من الحالة

الحاضرة أثناء المفاوضات، من حيث الهيأة العسكرية في طرابلس وبنغازي،

وتأمل أن الحكومة الملكية توافق الباب العالي على مقصده السلمي الآستانة 29

سبتمبر سنة 1911.

(المنار)

تلا ذلك الإنذار بالحرب والشروع فيه، وقد كتبنا مقالات عنوانها العام (المسألة

الشرقية) ونشرناها في المؤيد؛ لبيان ما يجب بيانه في هذه الكارثة الخطرة، ونشرنا

في هذه الجزء الأول منها، وسننشر عمائرها في الأجزاء الآتية.

_________

ص: 781

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نظام مدرسة دار الدعوة والإرشاد

بسم الله الرحمن الرحيم

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ

الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) .

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ

وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 151) .

(صفة المدرسة)

(الأصل الأول) دار الدعوة والإرشاد مدرسة كلية إسلامية، تدرس فيها

جميع العلوم والفنون التي تدرس عادة في الكليات مع التربية الدينية، وزيادة العناية

بالعلوم الإسلامية، وتنشأ أقسامها بالتدريج، يبدأ منها بقسم عال؛ لتخريج الدعاة

إلى الإسلام والمرشدين بالوعظ والتدريس وهو المقصد الأساسي.

(الأصل الثاني) هذه المدرسة تابعة لجماعة الدعوة والإرشاد، ويكون لها

لجنة مدرسية يتولى مجلس إدارة الجماعة تأسيسها، وناظر يكون من أعضاء هذا

المجلس (وفاقًا للأصل السابع من النظام الأساسي للجماعة) .

(الأصل الثالث) مجلس إدارة الجماعة، هو الذي يعين المدرسين الموظفين

عدا الخدم من العاملين في المدرسة بناء على طلب لجنة المدرسة.

(الأصل الرابع) لسان التدريس في هذه المدرسة هو اللسان العربي،

ويتحتم فيها تعلم لغة من لغات العلم الأوربية. ويجوز أن تدرس فيها عدة من

اللغات الشرقية والغربية لا سيما لغات الشعوب الكبيرة من المسلمين؛ كالتركية

والفارسية والأوردية والملاوية، ويكون ذلك بقرار من مجلس الإدارة بعد استشارة

لجنة المدرسة، وللمجلس أن يقرر تدريس بعض العلوم والفنون أو اللغات التي لا

نص عليها في هذا النظام من تلقاه أو بناء على طلب لجنة المدرسة.

(الأصل الخامس) العلوم التي تقرأ في قسم الدعاة والمرشدين وطريقة

تدريسها، تبين في فصل يلحق بهذا النظام.

(الأصل السادس) برنامج الدراسة وجدول الدروس، تضعه لجنة المدرسة

عند إدارة الشروع فيه، ويقرره مجلس الإدارة.

(الأصل السابع) القسم العالي الذي يبتدأ به في تأسيس المدرسة، يكون

صنفين: صنف المرشدين ومدته ثلاث سنين، وصنف الدعاة ويختار طلابه من

متخرجي صنف المرشدين، ويمكثون ثلاث سنين أخرى، فمجموع مدته ست سنين

ماعدا السنة التمهيدية الأولى.

(الأصل الثامن) يكون للمدرسة سنة تمهيدية؛ لإعداد الطلاب وترشيحهم

للدخول في السنة الأولى، وللمدرسة أن تتسامح في السنة التمهيدية بما ترى

التسامح فيه من شروط الطلبة.

(الأصل التاسع) التعليم في قسم الدعاة والمرشدين من المدرسة مجاني،

والمدرسة تنفق على الطلاب الداخلين فيه وتكفيهم كل ما يحتاجون إليه فيها،

وتعطيهم إعانة شهرية بحسب الحاجة الاجتهاد والتهذيب، لا تقل عن ريال مصري

في الشهر، وأما الطلاب الخارجيون فلا تنفق عليهم شيئاً.

(الأصل العاشر) مدة الدراسة في السنة تسعة أشهر.

(الأصل الحادي عشر) تعطل المدرسة دروسها ثلاثة أشهر الصيف؛

وأسبوعًا لكل من عيد الفطر وعيد الأضحى إذا وقعنا في أيام العمل.

(الأصل الثاني عشر) الطلاب الداخليون مخيرون في مدة العطلة بين البقاء

في المدرسة والسفر إلى بلادهم وزيارة أهليهم، وعلى من بقي فيها أن يلتزم ما

تكلفه إياه من الدراسة ومدارسة القرآن والمطالعة والكتابة.

(الأصل الثالث عشر) طلب الدخول في المدرسة للتعلم أو التعليم أو غير

ذلك من الخدم فيها يقدم إلى الناظر، وهو يراجع لجنة المدرسة فيما يتعلق به

نظرها من ذلك.

(الأصل الرابع عشر) يكون للمدرسة طبيب، ومراقب عام (ضابط)

وكاتب، ومأمور إدارة يناط به حفظ موجودات المدرسة وشراء الأدوات وتوزيعها

على الطلبة، ويجوز أن يكون لكل منهم معاونون بحسب الحاجة.

(الأصل الخامس عشر) يكون في المدرسة الأنواع الآتية من الدفاتر:

(1)

دفتر قرارات ومحاضر لجنة المدرسة.

(2)

دفتر أسماء الطلاب الداخلين، وما يتعلق بحالهم في المدرسة.

(3)

دفتر أسماء الطلاب الخارجين، وما يتعلق بحالهم في المدرسة.

(4)

دفتر الأمور الصحية.

(5)

دفتر كوبيا؛ لطبع الوسائل التي تصدر من المدرسة.

(6)

دفتر الرسائل الواردة والصادرة، يذكر فيه تاريخها وأسماء المرسلين

والمرسل إليهم الموضوع.

(7)

دفتر الآلات والأدوات المتعلقة بالتعليم.

(8)

دفتر الأثاث والماعون.

(9)

دفتر التبرعات والهبات التي ترد إلى المدرسة خاصة.

(10)

دفتر المدرسين وأحوالهم في مواظبتهم وغيبتهم.

(11)

دفتر المستخدمين وأحوالهم في مواظبتهم وغيبتهم.

(12)

دفتر رواتب المدرسين والمستخدمين.

(13)

دفتر النفقات العامة.

(14)

دفتر مكتبة المدرسة وما فيها من الكتب المهداة إليها والمشتراة لها.

(15)

دفتر شهادات أهل الفضل والمكانة الذين يزورون المدرسة بخطوطهم.

* * *

(شروط الطلاب وآدابهم في قسم المرشدين والدعاة)

(الأصل السادس عشر) يشترط في قبول الطالب الداخلي:

(أولاً) أن يثبت بالكشف الطبي أنه صحيح الجسم والحواس، سليم من

الأمراض والعاهات، قادر على التحصيل.

(ثانيًا) أن تثق المدرسة بأنه حسن السيرة طاهر الأخلاق، لم يعرف عنه

أمر يخل بالدين والشرف.

(ثالثًا) أن تكون سنه بين 20 و25.

(رابعًا) أن يكون حافظًا لطائفة من القرآن الكريم، بحيث يسهل عليه إتمام

حفظه قبل إتمام دراسة الصنف الأول.

(خامسًا) أن يكون قد حصل قدرًا صالحًا من النحو والصرف والفقه،

وعرف القواعد الأربع من الحساب على الأقل، وأن يكون صحيح الإملاء، حسن

الخط في الجملة، جيد المطالعة في الكتب العربية.

(سادسًا) أن يكون من أصل قديم في الإسلام.

(سابعًا) أن يكتب على نفسه وثيقة، يبين فيها أنه اطلع على نظام المدرسة

ورضي بأن يكون من طلابها ملتزمًا لنظامها خاضعًا لجماعتها، يتوجه إلى حيث

توجهه بعد إكمال الدراسة.

(ثامنًا) أن يكتب طلبًا للناظر، يبين فيه اسمه واسم أبيه وجده وعشيرته

وبلده وحكومته وسنه، ويقدمه متصلاً بالوثيقة.

(الأصل السابع عشر) يرجح الفقير من حائزي الشروط على الغني،

والعارف بلغة أوربة على غير العارف، وحافظ القرآن كله على حافظ بعضه.

(الأصل الثامن عشر) تتحرى المدرسة أن يكون طلابها من الأقطار المختلفة،

فإذا تساوى اثنان من طلاب الدخول في الاستعداد، رجح من كان من قطر أو

بلد لا يوجد في المدرسة منه أحد على غيره، ومن كان من قطر أو بلد فيه قليلون

من الطلاب على من كان من بلد فيه كثيرون منهم.

(الأصل التاسع عشر) على كل طالب من هؤلاء الطلاب أن يصلي

الصلوات الخمس في الجماعة، والرواتب المسنونة، وأن يقرأ كل يوم طائفة من

القرآن مع الترتيل، وأن يذكر الله تعالى في أوقات الفراغ من العمل منفردًا ما

حضر قلبه ونشطت نفسه، وأن يلتزم أحكام الدين وآدابه في المأمورات والمنهيات

ولا سيما المحافظة على الصدق في الجد والهزل، وأن يكون دائمًا نظيف البدن

والمكان والفراش وسائر ما بيده من الكتب وغيرها، محافظًا على النظام والآداب،

مطيعًا للناظر والمعلمين والمراقبين، وللناظر أن يكلف الطلبة ما يراه من النوافل

حسب الطاقة.

(الأصل العشرون) يتمرن هؤلاء الطلاب على الرياضات البدنية بأنواعها؛

كالعمل في الأرض والسباحة والمشي والعدو، ويراقبهم في أثنائها بعض المعلمين.

(الأصل الحادي والعشرون) لا يسمح للطلاب بشرب الدخان مطلقًا.

(الأصل الثاني والعشرون) لا يجوز لأحد من الطلاب أن يخرج من

المدرسة إلا بإذن من الناظر لعذر مقبول، فإن كان العذر مرضيًا يشترط في قبوله

عند عودته أن يكون قد برئ منه، وأن يكون سليمًا من كل داء بشهادة الطبيب الذي

تثق به المدرسة.

(الأصل الثالث والعشرون) يحظر على الطلاب الاشتغال بالسياسة،

والدخول في الجمعيات والأحزاب السياسية والتشيع لها بنحو المظاهرات، ومكاتبة

الجرائد السياسية.

(الأصل الرابع والعشرون) لا يجوز لأحد من الطلاب أن يعيب أحدًا من

إخوانه، أو يترفع عليه بجنسه أو نسبه أو نشبه أو مذهبه، وإذا بحثوا في مذاهب

العلماء وخلافهم في الأصول أو الفروع؛ عليهم أن يبحثوا بالإنصاف وحسن الأدب

ولا سيما مع الأئمة والمصنفين.

(الأصل الخامس والعشرون) يكلف هؤلاء الطلاب الكلام الفصيح في

المدرسة وخارج المدرسة.

(الأصل السادس والعشرون) تحترم المدرسة استقلال الطلاب في أفكارهم

وآدابهم، وحريتهم في أقوالهم وسؤالهم. ولهم التصريح لمن شاءوا من المعلمين

والناظر بكل ما يخطر في بالهم من المسائل الدينية والعلمية والأدبية والاجتماعية

وإن كانت من باب الشكوك والشبهات في مسائل الدين، ولكن مع حسن الأدب في

التعبير.

وعليهم أن لا يظهروا الاقتناع بشيء لم تطمئن له قلوبهم، ولم تستبنه عقولهم

(الأصل السابع والعشرون) يشترط في الطالب الخارجي أن يكون حسن

السيرة والآداب نظيف الثياب؛ عارفًا باللغة العربية وعلومها معرفة تمكنه من فهم

الدروس التي يريد حضورها سالمًا في الأمراض؛ بشهادة الطبيب الذي تثق به

المدرسة.

(الأصل الثامن والعشرون) من أراد أن يكون طالبًا من القسم الخارجي؛

فعليه أن يقدم طلبًا لناظر المدرسة، يبين فيه اسمه واسم أبيه وجده وبلده وحكومته

وسنه، ويعين الدروس التي يريد حضورها، ويتعهد بأنه يلتزم آداب المدرسة

ونظامها.

(الأصل التاسع والعشرون) المدرسة مخيرة في قبول الطالبين وردهم.

(الأصل الثلاثون) يكون لكل تلميذ دفتر مجلد، يكتب اسمه في أوله،

ويكتب في سائر صفحاته أسماء العلوم والفنون المفروضة في البرنامج في كل سنة

من سني المدرسة، ويقيد بجانب كل علم وفن اسم الأستاذ الذي حضر عليه الطالب

وشهادة الأستاذ له بالمواظبة والتحصيل بحسب الواقع.

* * *

(المعلمون)

(الأصل الحادي والثلاثون) يشترط أن يكون المعلمون الموظفون من أصحاب

الشهادات والتآليف أو الأعمال الدالة على قدرتهم على تدريس ما يعهد إليهم،

وأن تكون سيرتهم حسنة في أخلاقهم وآدابهم الدينية والاجتماعية.

(الأصل الثاني والثلاثون) المعلمون مطالبون بتعليم الطلاب وتربيتهم الدينية

والعقلية والجسمية، ولهم الاستقلال التام في ذلك بشرط التزام نظام المدرسة.

(الأصل الثالث والثلاثون) على المعلمين القيام بالأمور الآتية:

أ - أن يكونوا في المدرسة قبل ابتداء الوقت المحدد لدروسهم ببضع دقائق

على الأقل.

ب - أن يلقوا الدروس بعبارة فصيحة موضحة بالشواهد والأمثلة.

ج - أن لا يشتغلوا في أثناء الدرس بغير موضوعه، ولا يخلطوا في

الاستطراد إلا أن يكون ذلك في درس الوعظ.

د - أن يختبروا فهم الطلاب في كل درس، فإن علموا أن فيهم من لم يفهم

بعض المسائل، فعليهم أن يعيدوها له إلى الثلاث مرات، فإن لم يفهم أرجئ

إفهامه إلى ما بعد الدرس.

هـ - أن يقبلوا من كل طالب كل سؤال يلقيه عليهم، فإن لم يكن من

موضوع الدرس، أرجأوا الجواب عنه إلى ما بعده.

و أن يحترموا استقلال الطلاب، ويعذروهم في خطأهم وشكوكهم،

ويرفقوا بهم ولا يحقروا أحدا منهم؛ لسوء فهمه أو شكه واشتباهه، وأن يتلطفوا في

إقناعهم مع حفظ كرامتهم؛ ليربوهم على الصدق والاستقلال وعزة النفس،

ويرشحوهم بذلك للقدوة الصالحة والأسوة الحسنة.

ز - أن يقيدوا في دفاتر الطلاب المذكورة في (الأصل 29) : الشهادة لهم

بالحضور، ودرجة التلقي فيما حضروه، واستفادوه من الدروس في كل علم.

ح - أن يراقبوا الطلاب في اجتماعاتهم للطعام والرياضة والصلاة، ويؤموهم

في الصلاة، ويؤاكلوهم ويكون هذا بالتناوب بين المعلمين.

ط - أن لا يكون بينهم وبين الطلاب معاملة مالية ألبتة ولا علاقة خاصة، بل

يجب على كل أستاذ أن يساوي بين جميع تلاميذه، كما يجب عليه أن يساوي بين

أولاده في التربية القويمة، فإذا عهد أحد أولياء الطلاب إلى بعض المعلمين بأن

ينفق عليه أو يخصه بعناية منه، فعلى هذا المعلم أن يراجع الناظر في ذلك ويعمل

برأيه.

(الأصل الرابع والثلاثون) جميع المعلمين متساوون في المرتبة وإن تفاوتوا

في الرواتب، فيجب أن يكونوا مظهرًا للأخوة والمساواة والتناصف، وأن يلتزموا

في أنفسهم ما يربون عليه تلاميذهم من الأخلاق والآداب والأعمال الصالحة من

العبادات والمعاملات.

(الأصل الخامس والثلاثون) يحظر على موظفي المدرسة؛ أن يشتغلوا

بسياسة الدولة العلية الداخلية أو الخارجية أو بسياسة غيرها من الدول، وأن يكاتبوا

الجرائد بذلك، وأن يتحزبوا للأحزاب والجمعيات السياسية، ومن أراد أن يكتب في

بعض الصحف مقالة في غير السياسة الممنوعة، فعليه أن يستطلع رأي الناظر فيها،

وأن يطلعه على ما كتب ويعمل برأيه. أما من يريد منهم أن يكتب شيئًا عن

المدرسة أو عن جماعة الدعوة والإرشاد للنشر في الصحف أو رسالة إلى بعض

الناس، فعليه أيضًا أن يستشير الناظر فيه، والناظر لا يأذن إلا بعد مراجعة مجلس

الإدارة.

(الأصل السادس والثلاثون) المدرسون المتبرعون يظهرون رغبتهم لمجلس

الإدارة، وهو يقررهم حسب الحاجة، وليس عليهم إلا حفظ نظام المدرسة العام.

* * *

(لجنة المدرسة)

(الأصل السابع الثلاثون) تؤلف لجنة المدرسة من ناظرها وأربعة أعضاء، يعينهم مجلس إدارة جماعة الدعوة والإرشاد من أعضاء الجمعية.

(الأصل الثامن والثلاثون) تجتمع اللجنة في المدرسة مرة في كل شهر على

الأقل، وللناظر أن يدعوهم للاجتماع في غير الأوقات التي يعينون مواعيدها أن

عرض ما يقتضي ذلك.

(الأصل التاسعة والثلاثون) لأعضاء اللجنة أن ينتخبوا لهم رئيسًا دائمًا،

وأن يجعلوا لكل جلسة رئيسًا، وفي حالة انتخاب رئيس سوى الناظر، يكون

الناظر هو كاتب سر اللجنة.

(الأصل الأربعون) تنعقد الجلسة بثلاثة على الأقل، إذا كان الناظر والرئيس

منهم، ولا تكون قراراتها صحيحة نافذة حينئذ إلا باتفاق الآراء، وفيما عدا هذه

الصورة يكون الحكم للأغلبية مطلقًا، فإن تساوت الآراء نفذ رأي من كان الرئيس

معهم.

(الأصل الحادي والأربعون) تناط بلجنة المدرسة الأعمال الآتية:

أ - اختيار وترشيح المعلمين وسائر موظفي المدرسة وتقدير رواتبهم.

ب - وضع الميزانية السنوية للمدرسة.

ج - النظر فيما يلزم المدرسة من الكتب وأدوات الكتابة والرياضة البدينة

والأجهزة والآلات لتعليم بعض الفنون، والأثاث والماعون والطاعون واللباس

وتقرير ذلك.

د - تقدير وتقرير المكافأة للناجحين في الامتحان.

هـ - النظر فيما تحتاج إليه المدرسة من المصنفات الجديدة، ومن يعهد إليه

بتأليفها، وما يقرر للمصنفين من المكافآت. والنظر فيما يعرض على المدرسة من

المصنفات الجديدة الموافقة لطريقتها في التعليم وما يقرر منها.

و ترتيب أوقات الدروس ومسائلها.

ز - النظر في كل ما يتعلق بامتحان الطلاب، وتقرير أوقاته وأنواعه

ومسائلها (مع موافقة الأصل الثاني والسبعين من هذا النظام) .

ح - النظر في نقل الفائزين في الامتحان من سنة إلى أخرى، ومن صنف

إلى آخر.

ط - اختيار الكتب النافعة للتدريس والمطالعة.

ي - النظر فيما يهديه أهل الفضل إلى المدرسة ووضعه في مواضعه.

ك - محاكمة من يقصر فيما عليه من الأعمال من موظفي المدرسة غير الخدم.

ل - النظر في جميع ما يتعلق بترقية المدرسة وحفظ ما فيها.

م - التفتيش على الدروس.

ن - الإجازات المرضية وغيرها للطلاب والمستخدمين (وفاقًا للأصل

الخامس والستين من هذا النظام) .

(الأصل الثاني والأربعون) : تنظر لجنة المدرسة في كل ما تحتاج إليه

المدرسة مما لا نص عليه في هذا النظام، وما تقرره من ذلك يقدمه الناظر إلى

مجلس إدارة جماعة الدعوة والإرشاد للتصديق عليه.

(الأصل الثالث والأربعون) : لا تنفذ ميزانية المدرسة ولا شيء من قرارت

لجنتها المتعلقة بالنفقات المالية إلا بعد تصديق مجلس إدارة الجماعة عليه.

* * *

ناظر المدرسة

(الأصل الرابع والأربعون) يشترط أن يكون ناظر المدرسة من أهل العلم

والاستقامة، والرغبة الذاتية في مقصد الدعوة والإرشاد، والإذعان لغرضها من

التربية والتعليم المبين في هذا النظام.

(الأصل الخامس والأربعون) الناظر هو المسئول عند مجلس إدارة جماعة

الدعوة والإرشاد عن تنفيذ نظام المدرسة وإقامة التربية والتعليم فيها، وهو المنفذ

لقرارات لجنتها؛ الذي يضع اللوائح والتنظيمات الداخلية لها، وعلى كل من في

المدرسة أن يعمل بهذه اللوائح والتنظيمات بعد تصديق لجنة المدرسة، وجميع

الموظفين فيها يكونون تحت إدارته.

(الأصل السادس والأربعون) الناظر هو الذي يعين خدم المدرسة، وله حق

عزلهم وتأديبهم.

(الأصل السابع والأربعون) الناظر هو صاحب الحق في الإذن بدخول

المدرسة والمنع منه، فليس لأحد من الأجانب عن المدرسة أو عن مجلس إدارة

الجماعة أن يدخلها بدون إذنه.

(الأصل الثامن والأربعون) للناظر أن يعهد إلى بعض موظفي المدرسة

بحفظ دراهمها والنفقة منها، وعليه أن يراجع عمله، ويحصر النقود في كل شهر

على الأقل، ويجوز أن يعطي العامل مكافأة على ذلك.

(الأصل التاسعة والأربعون) يرسل الناظر إلى أعضاء لجنة المدرسة بيانًا

بالمسائل التي ينظرون فيها قبل انعقاد كل جلسة بأربع وعشرين ساعة على الأقل.

(الأصل الخمسون) الناظر يضع مشروع ميزانية المدرسة ويقدمه للجنتها

في أواخر السنة الدراسية، ويبين لها أيضًا ما يرى من زيادة عدد الطلاب في السنة

التي بعدها، ومن التغيير والزيادة في الكتب والأدوات المدرسية والزيادة في رواتب

الموظفين.

(الأصل الحادي والخمسون) على الناظر أن يبين للجنة المدرسة في آخر

كل سنة ما يوجد في المدرسة من كتب الدراسة وأدوات التعليم وغيرها.

(الأصل الثاني والخمسون) على الناظر أن يبين للجنة المدرسة نتيجة كل

امتحان يكون في المدرسة؛ لتبني عليه قراراتها في قبول من يدخل المدرسة عقب

امتحان الدخول، ونقل من يصلح للنقل من سنة إلى أخرى ومن صنف إلى آخر؛

بعد الامتحان السنوي والامتحان الأخير للصنف الأول، ومن يصلح للتعليم من أهل

الشهادتين العالية والعليا بعد امتحانهما؛ لتختار منهم من تحتاج إليه المدرسة من

المعلمين.

(الأصل الثالث والخمسون) على الناظر أن يقدم لمجلس إدارة الجماعة

كشفًا بأسماء من فازوا في امتحان الشهادتين العالية للمرشدين والعليا للدعاة،

وأسماء من اختارتهم لجنة المدرسة منهم للتعليم؛ ليعين المجلس المعلمين ويرسل

الباقين إلى البلاد التي يختارها؛ لأجل قيامهم بالدعوة والإرشاد فيها.

(الأصل الرابع والخمسون) على الناظر أن يقدم عقب كل جلسة للجنة

المدرسة بيانًا لمجلس إدارة الجماعة بقراراتها؛ لأجل النظر فيها والتصديق على ما

يتوقف تنفيذه على تصديقة.

* * *

(المراقب العام)

(الأصل الخامس والخمسون) لا يتلقى المراقب أمرًا إلا من ناظر المدرسة.

(الأصل السادس والخمسون) على مراقب المدرسة القيام بما يأتي.

أ - حفظ النظام في المدرسة وصيانة مبانيها وأثاثها.

ب - تعهد الخدم في قيامهم بخدمتهم ولا سيما النظامة.

ج - التنبيه على أوقات الدروس والأكل والرياضة.

د - مراقبة الطلاب في الحضور والاجتماع والتفرق والأكل والرياضة

والصلاة والنوم.

هـ - حضور عيادة الطبيب وتنفيذ الأوامر الصحية.

و معاونة أمور الإدارة فيما يحضره للمدرسة.

ز - القيام بكل ما يكفله الناظر إياه من أعمال المدرسة.

* * *

(المخالفة والتأديب)

(الأصل السابع والخمسون) الذنوب التي تعاقب عليها المدرسة نوعان:

ذنوب مدرسية كإتلاف بعض أدوات وأثاث المدرسة، أو كترك التلميذ أو المستخدم

ما تكلفه إياه المدرسة في نظامها العام، أو بألسنة رؤسائها كالمعلمين والمراقب مع

الطلبة والناظر مع الجميع، فليس لطالب أن يعصي أستاذه ولا الراقب عليه، ولا

لأحد من المدرسة أن يعصي الناظر.

(الأصل الثامن والخمسون) جميع الشكايات في المدرسة تقدم إلى الناظر،

وما كان منها في حق الناظر فإنه يرفعها مع بيان رأيه وعمله فيها إلى مجلس إدارة

الجماعة في مدة لا تتجاوز الأسبوع، وللشاكي بعد الأسبوع أن يراجع المجلس

مباشرة؛ إذا لم يشكه الناظر أو يقنعه.

(الأصل التاسع والخمسون) من أتلف شيئًا من أشياء المدرسة؛ لتقصير

منه غرم ثمنه.

(الأصل الستون) يعاقب الطلاب على ذنوبهم بالتعذير والتأنيب النزيه سرًّا

فجهرًا في الدرس أو غيره من الاجتماعات، فالوقوف في الدرس، فالحرمان من

الرياضة مرة أو أكثر، فالقيام ببعض الأعمال النافعة وقت الرياضة، فالحرمان من

الإدام مرة أو أكثر، أو من الأكل مع الجماعة، فقطع المرتب شهرًا أو أكثر،

فالحرمان من الإجازة الصيفية فالإخراج من القسم الداخلي فالطرد من المدرسة.

ويجوز الجمع بين عقوبتين فأكثر من هذه العقوبات. ولا يجوز أن يعاقب أحد

بعقوبة بدنية، ولا الحرمان من الدرس إلا إذا هوش فيه، فاللمدرس أن يخرجه منه

ولا من الطعام ألبتة.

(الأصل الثاني والستون) كل من ارتكب ذنبًا مخلاً بالدين والشرف يطرد

من المدرسة حتمًا. ومن أشد الذنوب قبحًا الكذب، فمن ثبت عليه أنه كذب وأنكر

كذبته ولو مرة واحدة يطرد من المدرسة، ومن ثبت عليه الكذب ثلاث مرات مع

الاعتراف والاعتذار والتوبة يطرد من المدرسة بعد المرة الثالثة، ويلي ذلك طعن

بعض الطلاب في مذهب غيره وتهييج العصبية أو الجنسية، فمن تكرر ذلك منه

يطرد طردًا.

(الأصل الثالث والستون) للناظر الحق في تأديب التلاميذ بما عدا الطرد

من المدرسة. وأما الطرد فيكون بحكم من لجنة المدرسة، ولا يعلن هذا الحكم ولا

ينفذ إلا بعد تصديق مجلس إدارة الجماعة عليه.

* * *

(غياب موظفي المدرسة أو إجازاتهم)

(الأصل الرابع والستون) للناظر أن يغيب عن المدرسة في أيام العمل إلى

ثلاثة أيام، وإذا احتاج إلى إجازة أكثر من ثلاثة أيام، يطلب ذلك من مجلس إدارة

الجماعة، ويختار له وكيلاً عنه في مدة الإجازة من مدرسي المدرسة أو لجنتها،

ويخبر مجلس إدارة الجماعة ذلك.

(الأصل الخامس والستون) إجازات جميع موظفي المدرسة تطلب من

ناظرها، وللناظر أن يستقل بإعطاء إجازة ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك يعرضه

على لجنة المدرسة.

(الأصل السادس والستون) ليس لأحد من المدرسين غير المتبرعين أن

يغيب عن وقت الدرس إلا بعذر صحيح، وعلى كل مدرس يريد الغياب عن درسه

أن يخبر الناظر قبل الدرس ليتدارك الأمر.

(الأصل السابع والستون) من غاب من موظفي المدرسة عنها لمرض،

فللناظر أن يكلفه إحضار شهادة طبية من طبيب تثق به المدرسة، فإذا زادت مدة

غيابه بعذر المرض عن ثلاثة أيام، ولم يقدم شهادة طبية بمرضه، وكونه مانعًا له

من عمله، فللناظر أن يكلف طبيب المدرسة أو طبيبًا آخر ولو بالأجرة أن يعوده،

ويقدر المدة التي يظن شفاؤه فيها، ثم يخبر بذلك لجنة المدرسة ومجلس إدارة

الجماعة.

(الأصل الثامن والستون) من غاب من الموظفين أكثر من ثلاثة أيام بغير

عذر المرض، يعرض الناظر أمره على لجنة المدرسة، ولها أن تعده مستعفيًا

وتنتخب بدله، ثم يعرض الناظر ما تقرره على مجلس الإدارة للتصديق عليه.

(الأصل التاسع والستون) من غاب من الموظفين أو المدرسين المندوبين

عن المدرسة وقت عمله بغير عذر المرض مطلقًا أو بعذر المرض أكثر من 15

يومًا، جاز للجنة الإدارة أن تقرر اختزال راتبه في المدة التي فيها أو مدة أكثر منها

أو أقل.

* * *

(الامتحان)

(الأصل السبعون) الامتحان ثلاثة أنواع: امتحان الدخول في المدرسة

وامتحان الاختبار في منتصف كل سنة وآخرها الشهادة الدراسية، وكل منها يكون

لسانيًا وقلميًا.

(الأصل الحادي والسبعون) يمتحن الطلاب الداخليون في جميع مواد العلوم

التي يدرسونها، ويمتحن الطلاب الخارجيون في مواد الدروس التي واظبوا عليها

وفيما يطلبون أن يمتحنوا فيه من غيرها.

(الأصل الثاني والسبعون) يتولى معلمو المدرسة امتحان الدخول والامتحان

الذي يكون في أثناء السنة وفي آخرها تحت رياسة الناظر. وأما امتحان الشهادة

فيتولاه لجنة يعينها مجلس الإدارة ويعين رئيسها، ويجوز له أن يندب بعض

الأجانب عن المدرسة؛ لمشاركة أساتذتها في امتحان آخر السنة.

(الأصل الثالث والسبعون) إنما يكون الفوز والنجاح في الامتحان السنوي

وامتحان الشهادة بحسب النسبة المبينة في الجدول الآتي:

الأخلاق والآداب العملية

... 90 في المئة

حفظ القرآن الكريم

... 80 في المئة

تجويد القرآن الكريم

... 50 في المئة

التفسير

... 70 في المئة

الحديث

... 60 في المئة

مصطلح الحديث

...

50 في المئة

التوحيد

... 50 في المئة

الكلام (ويدخل فيه رد الأغاليط والشبه والمطاعن عن الإسلام) 50 في المئة

البدع والخرافات والتقاليد والعادات

50 في المئة

أصول الفقه

... 50 في المئة

الفقه

... 50 في المئة

حكمة التشريع

... 60 في المئة

علم النفس والأخلاق والتصوف والتربية العلمية العملية

60 في المئة

الإرشاد والمرشدون والدعوة والدعاة

60 في المئة

تاريخ الإسلام ودوله

... 60 في المئة

تقويم البلدان

... 60 في المئة

التاريخ العام قديمه وحديثه

... 50 في المئة

الملل والنحل (ومنه تاريخ الأديان والجمعيات الدينية)

50 في المئة

أصول القوانين وحقوق الدولة وضروب النظام

40 في المئة

المنطق

... 40 في المئة

المناظرة وآداب البحث

... 40 في المئة

سنن الاجتماع

... 50 في المئة

سنن الكائنات

... 40 في المئة

الرياضيات (حساب وجبر وهندسة وهيئة)

50 في المئة

فنون العربية [1]

...

50 في المئة

أدبيات العربية وتاريخها

... 60 في المئة

اللغة الأوربية

... 60 في المئة

سائر اللغات

... 30 في المئة

قانون الصحة

... 50 في المئة

الاقتصاد

...

50 في المئة

الخط والرسم

... 30 في المئة

(الأصل الثالث والسبعون) من فاز في الامتحان الأخير للصنف الأول،

يعطى الشهادة العلمية العالية ويلقب فيها بالمرشد، وهذه الشهادة تؤهله لمنصب

إرشاد المسلمين بالوعظ والتعليم وللتدريس في مدارس جماعة الدعوة والإرشاد ما

عدا صنف الدعاة بدار الدعوة والإرشاد.

(الأصل الرابع والسبعون) من فاز في الامتحان الأخير الصنف الثاني،

يعطى الشهادة العلمية العليا، ويلقب فيها بالداعي إلى الله. وهذه الشهادة تؤهله

للدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه؛ وللتدريس في الصنف الأعلى من دار الدعوة

والإرشاد وفي سائر مدارس الجماعة.

(الأصل السادس والسبعون) من خاب في امتحان إحدى الشهادتين؛

لتقصيره في بعض العلوم، يجوز للجنة المدرسة أن تقرر امتحانه فيما قصر فيه في

أثناء السنة، وأن تقرر تكليفه حضور جميع دروس السنة التي خاب فيها، وإعادة

الامتحان مع طلابها في آخر سنتها. فإن خاب في المرة الثانية ضربت له موعدًا

قريبًا لإعادة امتحان ما قصر فيه، فإن خاب في الثالثة حرم من الشهادة العالية وبقي

من صنف المرشدين. وإن كان امتحان الشهادة العالية، أخرج من القسم الخارجي

ويمتحن مع طلابه.

(الأصل السابع والسبعون) إذا خاب أحد الطلاب الداخلين فيما عدا امتحان

الشهادة من امتحانات آخر السنة؛ بتقصيره في بعض العلوم وفوزه في الآخر،

فيجوز للجنة المدرسة أن تقرر إعادته دروس تلك السنة كلها، وأن يعاد امتحانه قبل

دخوله السنة التالية فيما خاب فيه إذا لم يزد عن ثلاثة علوم، فإذا نجح نقل إلى

السنة التالية، وإلا كانت مخيرة بين تقرير إخراجه من القسم الداخلي وبين قبول

إعادته لدروس السنة كلها، ولا يعيد طالب دروس سنة أكثر من مرتين.

(الأصل التاسع والسبعون) إذا حال المرض أو مانع اضطراري آخر دون

أداء بعض الطلاب امتحان آخر السنة مطلقًا، كانت المدرسة مخيرة بين أن تمتحنه

قبل الشروع في درس السنة التي بعدها وبين إلزامه إعادة دروس تلك السنة كلها.

(الأصل الثمانون) من برع في امتحان بعض العلوم وخاب في بعضها،

يجوز للمدرسة أن تعطيه شهادة خاصة فيما برع فيه. والخطابة كالعلوم فمن أتقنها

يعطى شهادة بها.

(خاتمة)

(الأصل الحادي والثمانون) لمجلس إدارة الجماعة تعديل أحكام هذا النظام

باتفاق ثلاثة أرباع جميع أعضائه؛ بشرط أن يكون بعد أخذ رأي أعضاء لجنة

المدرسة.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هي فقه اللغة ومفرداتها وأساليبها، والنحو والصرف والعروض، والبلاغة والإنشاء والشعر والخطابة والإملاء.

ص: 785