الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمود سالم
عليكم باللغة العربية
سيدة اللغات
مقالة لمحمود بك سالم رئيس جماعة الدعوة والإرشاد
(نشرها بمجلة الطلبة المصريين)
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195)(قرآن مبين)
أيها الطلبة الأنجاب، أبناء مصر التي شرفها الله فذكرها مرارًا في كتابه
الحكيم، عليكم بتعلم (اللغة العربية) لغة أجدادنا الأشراف الصالحين، الذين تركوا
أحسن ذكر بين الأمم، وما زال تأثير أعمالهم المفيدة يعم الأقطار بفتوحات الدين
الحنيف المستمرة، وانتشار الشريعة المطهرة التي أينما حلت وقوي سلطانها،
أحيت طيب المبادئ وسامي الأفكار.
اللغة العربية أقدم اللغات الحية. هي لغة إبراهيم الخليل وزوجته السيدة هاجر
المصرية وابنهما إسماعيل صادق الوعد، الذين أكرمهم الله ببناء البيت العتيق؛
ليكون مثابة للناس وأمنًا.
لا شك في أن علماء الآثار يعرفون لغات أخرى أقدم من العربية، ولكن كلها
ماتت ودفن ذكرها في القراطيس، وأغلبها اندثر وانمحى من صحيفة الكون إلى يوم
البعث حين يخرج أهلها من الأجداث كأنهم جراد منتشر. وجدت حديثًا أبنية شاهقة
أسستها أمم راقية في أساليب العمران محفورة كتابات غريبة على جدرانها الآئلة إلى
السقوط وسط الصحاري أو في أحضان الجبال. ولما قرئت أخيرًا تلك الكتابات
العجيبة علم أنها تقرب من زمن عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام، وأنها
بلغة عربية متينة تكاد ألفاظها وتراكيبها وقواعدها تكون كلها من مستعملات لغتنا
الفصحى الحالية. وهذا ما أدهش العلماء، حتى إنهم وصفوا لغة القرآن المجيد
باللغة التي ليس لها طفولة وشيخوخة؛ لأنها من يوم عرفت وهي كالغادة الحسناء
في حلل الشباب والعافية، كأنها من الأبكار العرب الأتراب لأصحاب اليمين.
ومما ننقله في هذا الموضوع، ما ذكره في شأن لسان العرب العلامة أرنست
رينان ذاك المستشرق الطائر الصيت، الذي فاقت شهرته الأقران في كتاب (تاريخ
اللغات السامية) حيث قال:
من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية، وتصل إلى درجة الكمال
وسط الصحاري عند أمة من الرحل. تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها
ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها. وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم
علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغيير يذكر، حتى إنه
لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة. لا نكاد نعلم من شأنها
إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى. ولا نعلم شبيهًا لهذه اللغة التي ظهرت
للباحثين كاملة من غير تدريج، وبقيت حافظة لكيانها خالصة من كل شائبة.
تجد اللغة الفرنسية لا يفهم كلام كتابها وشعرائها الذين ماتوا قبل ثلاث مائة
سنة إلا من مهر في حل الطلاسم. وكذلك اللغة الإنكليزية وباقي لغات أوربة التي
تتباهى الآن وتتيه فخرًا وإعجابًا. وكل تلك اللغات الحديثة في تغيير مستمر وتبديل
مستديم. فبون بعيد بين لغة (موليير) مثلاً ولغة (زولا) عند الفرنسيس. وبون
أبعد بين لغة (ملنن) ولغة (روسكن) عند الإنجليز.
أما أمة العرب التي كرمها الله ورفع شأنها باصطفاء عبده الأكرم من بين
أشراف أشرافها؛ ليكون خاتم النبيين، فقد جعلت لغتها آلة تحمل شريعتها التي
ستدوم ما دامت الأفلاك؛ إذ لا نبي بعده ولا دين بعد هذا الدين. فاكتسبت تلك اللغة
المشرفة بين لهجات البشر مركزًا لا يباريها فيه لسان، من وقت أن صارت منطق
الملائكة أنفسهم في السماء، وامتزجت بالكتاب المجيد امتزاج الروح بالجسد.
وقد أوتيت الأمة العربية أرقى هبات البلاغة، وأجمل صفات الفصاحة؛
لتتهيأ لقبول تلك المعجزة الباقية المستمرة ما دامت الصحف والكتب. تلك المعجزة
التي ظهرت على يد نبي أمي لا يعرف قراءة ولا كتابة، وكانت لأئمة البيان
والكلام حدًّا يقف أمامه العاقل باحترام، ويبهت أمامه المعاند بخذلان.
(وصفت العرب من قديم الزمان بالبيان والبلاغة، وقد استقصى العلماء
شعراءهم، فوجدوهم يربون على شعراء سائر الأمم الأخرى مجتمعة؛ لأن الشعر
سليقة عند العرب، حتى لتجد رعاة الإبل يقصدون القصائد ارتجالاً) .
لسان العرب له الاحترام الأكبر عند فحول علماء الأمم الأجنبية، فإنهم عرفوا
مكانته فوصفوه بأعلى الصفات، وبذلك ارتفع قدر الأمة العربية نفسها عند من يقدر
الأشياء حق قدرها.
قال القسيس الإنجليزي س. م. تزويمر وهو من كبار البروتستانت في كتابه
المشهور (جزيرة العرب. مهد الإسلام) .
(يوجد لسانان لهما النصيب الأوفر في ميدان الاستعمار المادي ومجال
الدعوة إلى الله وهما: الإنجليزي والعربي، وهما الآن في مسابقة وعناد لا نهاية
لهما؛ لفتح القارة السوداء مستودع النفوذ والمال، يريد أن يلتهم كل منهما الآخر،
وهما المعضدان للقوتين المتنافستين في طلب السيادة على العالم البشري. أعني
النصرانية والإسلام) .
وقال إنجليزي آخر وهو القسيس الشهير جورج بوست:
(لغة العرب تفوق كل لغة في الانتشار إذا نظرنا إلى اتساع الأقطار التي لها
فيها سلطان. وهي تفوق أيضًا كل لغة إذا نظرنا على التأثير في مستقبل الأعمال
البشرية، ولا نستثني من كل تلك اللغات إلا لغتنا الإنجليزية) .
وقال أحد علماء الإنجليز المتمكنين من علوم العرب، يصف لسانهم نقلاً عن
كتاب (تزويمر) المذكور آنفًا:
(إنه خالص من شوائب الدخيل، غني بنفسه عن غيره. وفيه مقدرة عجيبة
على إيضاح المعاني وإظهار الأفكار، ومفرداته لا تحصى ولا تعد، وقواعده
النحوية في غاية المتانة، وبالاختصار به يسهل عرض الموضوعات الدينية
والفلسفية والعلمية، بطريقة لا تفوقها لغة إلا الإنجليزية وبعض لغات أخرى قليلة
رقاها الدين النصراني في أوربا الوسطى) .
ولنستشهد بكلمة لأحد الفلاسفة الظرفاء، أراد مدح المعارف الدنيوية عند أهل
أوربا والصنائع اليدوية في الشرق الأقصى، فقال:
(استوى الكمال على ثلاثة أشياء: مخ الإفرنج، وأيدي أهل الصين،
ولسان العرب) .
حقًّا ليس للغة العرب مثيل في كمالها إذا قارناها بأخواتها، فإن قلنا: إن
(العبرية) لغة مقدسة عند أهل التوراة والإنجيل، فالعربية بالقرآن أقدس. وبجانب
فرد واحد يقرأ التوراة باحترام وتجلة، نجد مائة مسلم يتلون الكتاب المجيد حق
تلاوته باحترام أعظم وإجلال أظهر. وإن قلنا: إن (اللاتيني) لسان العبادة في
الكنائس الكاثوليكية، فلسان الإسلام أعم في مساجد المشرقين والمغربين بين أهل
التوحيد جميعًا، والصلاة به متواصلة تواصل ساعات الزمن. ألا ترى المؤذن
يدعو المؤمنين إلى صلاة الفجر في جزر الفيلبين في أقصى الشرق باللسان العربي
المبين، فتتبع تكبيراته تكبيرات المئات والألوف من أهلها، يتردد صداها من مئذنة
إلى مئذنة، ومن جبل إلى جبل، ومن واد إلى واد. فإذا قضيت صلاته في تلك
الجزر، تنقل الأذان منها إلى غيرها، تنقل الفجر في مطالعه فسمعته في الصين
وسيبيريا، ثم في الهند وفارس، ثم في مكة المكرمة والمدينة المنورة، والقدس
الشريف والقسطنطينية المحمية، ثم في مصر المحروسة بحماية الله، ثم في
تونس الخضراء. ثم في الجزائر والسودان، ثم في المغرب الأقصى، ثم يصل
هذا الصوت الرخيم إلى الأوقيانوس حتى شواطئ الأمريكان في أقصى الغرب،
فهكذا كلما طلع الفجر وبزغ النور قام الناس للصلاة والفلاح؛ لعبادة الخلاق العظيم
الذي يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا.
مع دوران الشمس تسمع أمواج الأذان كأمواج البحر المتلاطم، تطرد الموجة
الشرقية أختها الغربية لتوقظ العباد الصالحين من نومهم العميق، فلا تفوت لحظة
من الزمن إلا وفيها لله عبادة وللقرآن ترتيل.
فإن قيل: إن اليونانية القديمة ثم اللاتينية ثم الإنكليزية أو الألمانية وكانت
وما زالت آلات ومبادلة الأفكار بين الإفرنج، فإن لساننا العربي كذلك آلة كاملة
لمبادلة الأفكار والعلوم بين المسلمين في آسيا وأفريقيا وجهات أخرى كثيرة.
وإن قيل: إن لغة الفرنسيس لغة أهل السياسة في أوربا، أجبنا أن لغة العرب
رابطة أقوى منها في مثل هذه الشؤون الاجتماعية؛ لأن الأمم الإسلامية جمعاء
مرتبط بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا بواسطتها، فالعالم المسكوبي مثلاً يعرف بها
شؤون أهل رأس الرجا الصالح ثم يرشد أهل وطنه. والعالم البوسنوي يعرف بها
أحوال القطر المصري وينبه أبناء جنسه. والعالم الجاوي يتناول بذلك اللسان العام
الجامع معلوماته عن أحوال القسطنطينية والقوقاز وفارس، وهكذا تتبادل الأفكار
المفيدة.
لغة الكتاب العزيز تنشر في أنحاء المسكونة العلوم الأدبية والأخلاقية
والاجتماعية والسياسية والشرعية وغيرها. فهي الرابطة القوية والعروة الوثقى
التي لا انفصام لها. بها تتقارب الأجناس المختلفة وتتشابه الأضداد بالتدريج في
الأحكام والأخلاق والمبادئ، وبها تتساوى الناس في معرفة الشريعة الغراء، لا
فرق في ذلك بين السود والبيض، والصفر والحمر. فهي أقوى رابطة (بروح
القرآن وفي ظله) وتفوق متانة كل روابط الجنسية والوطنية وغيرها.
اللغة العربية لها الفضل على أكثر اللغات الجديدة في مشارق الأرض
ومغاربها، فلو أخرجت من قواميس الأسبانيول والبرتغيز وسكان أمريكا الجنوبية
والوسطى مثلاً جميع المفردات العربية، والحلى التي اكتسبتها رطانتهم من العرب،
لما عرفت تلك الأمم أن تبدي فكرًا ساميًا، ولتاهت في مجاهل العي والبكم،
ولعجزت الآن أن تتباهى بشعرائها وأدبائها.
وأين تكون لغة الفرنسيس أنفسهم لو جردناها من كل ما يزينها من مختلفات
فصحاء الحجاز.
فما بالك باللغات الإسلامية مثل الفارسية والتركية والهندوستانية والجاوية
والملايو، وغيرها من ألسنة السودان والتتار والبربر وإخوانهم. حقًّا لو أخرجنا
المفردات العربية التي في تلك اللغات - كما يطلب ذلك بعض المتفرنجين من كتابها-
لبقيت كهيكل الميت. عظامًا مفككة لا حياة فيها.
لغة العرب هي لغة المستقبل؛ لأن النبي العربي هو خاتم النبيين، فشريعته
باقية إلى يوم القيامة (كما قدمنا) ، والقرآن الكريم حامل تلك الشريعة المطهرة هو
السبب في بقاء اللغة العربية حية بين الشعوب؛ لأنهم لا يفهمون دينهم على وجهه
الصحيح من هذا الكتاب الكريم الأبها. فلذلك تموت جميع اللغات الأخرى أيًّا كانت
وتبقى لغة العرب في بهائها وجمالها. وقد أجاد أحد علماء الإفرنج المشهورين
بعلومهم الواسعة، إذ كتب قصة خيالية، فرض فيها سياحًا في أجواف الأرض
تحت قعر البحر العميق وجعل هؤلاء السياح يخترقون طبقات القرى الأرضية حتى
وصلوا إلى وسطها أو ما يقرب من ذلك ، ولما أرادوا الرجوع إلى وطنهم فكروا في
ترك أثر يحفظ ذكرهم إلى أبد الآبدين، إذا وصلت علماء الأجيال المستقبلة إلى
محط رحالهم، فاتفقوا فيما بينهم أن ينقشوا على الصخور كتابة باللغة (العربية) ،
هذا ولما سئل جول فرن كاتب هذه القصة، عن سبب اختياره تلك اللغة العربية،
قال: إنها لغة المستقبل ولا شك في أن يموت غيرها وتبقى هي حية حتى يرفع
القرآن نفسه، فتأمل أيها القارئ اللبيب، واعلم أن طعن الطاعنين في لغة أجدادك
الأماجد ثرثرة لا يعتد بها.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 9) .
اعتاد بعض المتفلسفين من أمد بعيد الطعن في لساننا العربي الفصيح؛
لأغراض في النفس، ومنشأ هذه الأغراض: إما تعصب ديني طائش السهم، وإما
الجشع الاستعماري الذي يعمي ويصم، فقامت في زمننا حرب عوان بين علماء
الإفرنج المستشرقين؛ سببها اختلافهم في الحكم عن لغتنا باستطاعتها أو عدم
استطاعتها التعبير عن الأفكار الدقيقة وتدوين العلوم المنعوتة بالحديثة، ففريق
نصرها وفريق خذلها. فأما الناصرون لها فقد مر عليكم شيء من أقوال بعضهم،
وأما الخاذلون فمنهم من رماها بالفقر المدقع في مادة التعبير، والعي المعجز عن
تأدية الغرض من اللغات، وهذا ظاهر بهتانه. ومنهم من اعترف لها بالغنى،
ولكن زعم أن غناها مفرط زاد عن الحد، وشبه أهلها برجل كثر ماله كثرة لا حد
لها، فعجز عن حصره وتدبيره وفاته الانتفاع به.
هذا بعض ما رميت به لغتنا، فيجب علينا معشر المصريين أن ننهض
بالعلوم القوية وبالفنون الأدبية، حتى لا يجرؤ عاقل بعد الآن إلى الحكم على لساننا
المبين إلا بعد أخذ رأينا، ولا يصح أن تعطى الفتاوى الطويلة العريضة من الأجانب
في أمور العربية، ونحن أحياء نرزق من غير أن يكون لنا صوت مسموع.
لا شك أن أول واجب علينا أن نعتني بلغتنا الجميلة، وأن نتفانى في حبها
وخدمتها كما فعل من سبقنا في العصور الماضية من أهل الفضل والإحسان الذين
تغلبوا على الشهوات، وصرفوا الأموال، وسهروا الليالي، وجابوا البلاد في التماس
حرف من حروفها جهلوه، فاستفادوا وأفادوا. وأنتم أيها الطلبة الأفاضل، سيكون
لكم شأن عظيم في القريب العاجل، فاستعدوا لذلك قبل أن تفوت الفرص.
لغتنا سلاحنا الماضي البتار في جهاد هذه الحياة، ودرع النجاة. فبها نحيي
علوم أجدادنا الواسعة الدائرة، ونظهر كنوزهم الثمينة المدفونة في مكاتب الصين
والهند والسودان، وفي أوربا خصوصًا أسبانيا والقسطنطينية، ولو لم نستخرج إلا
الألفاظ الاصطلاحية العديدة التي نسيت ونحن في حاجة إليها لكفانا. فإن العلوم لا
تفهم ولا تنشر إلا بالأسماء، وما دمنا نستعمل ألفاظًا أجنبية، فإننا لا نقدر على
تعليم عامة الأمة إلا بكل صعوبة، وإن تعلمنا نحن بعد الجهد الجهيد من كتب
الأجانب.
أسماء الحيوان والنبات والجماد موجود أغلبها في العربية والاصطلاحات
الطبية الفلكية والفلسفية، موجودة كذلك في كتبنا، ومن الجهل أن ندعي أنها لا
توجد، وكذلك مصطلحات باقي العلوم والفنون المدفونة في بطون السطور التي
تركها لنا آباؤنا الأولون. فلا ضرورة تلجئنا لِليّ الألسنة بمعجرفات مستهجنة كما
يفعل بعض المتفيهقين الثرثارين؛ في التعبير عن مصطلحات موجودة نظائرها في
كتبنا.
ولا مانع من تعريب الكلمات الأعجمية الدالة على المسميات المستحدثة أو
استعمالها على عجميتها عند الضرورة، كما أدخلت اصطلاحات عربية كثيرة في
قواميس الشعوب الإفرنجية وغيرها.
ومن يدعي من أهل العجمة أن سيدة اللغات فقيرة، فليفتح عينيه، فإنه يجد
في نفس رطانته ألفاظًا فنية متعددة أصلها عربي، وليرجع إلى الحق إن كان من
أهله {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج:
46)
***
{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا
بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً} (الفرقان: 53) لمصر مقام خطير بين الشعوب
الإسلامية؛ لمكانها من ملتقى الأبحر، ولترقيها العلمي العظيم من يوم أن أيقظ محمد
علي الكبير أذهان أهلها، وأنشأ بينهم المطابع التي كانت ينبوعًا صافيًا رويت
بفيضه جميع الأقطار. وأزهرها المنيف له الفضل على أغلب طلاب العلوم
الشرعية المنتشرين في أنحاء المسكونة فهذه (الجامعة الإسلامية) كالشمس الباهرة،
يستضيء بها عباد الله المخلصون.
وتأثير مصر يزداد يومًا فيومًا في القاطنين بالأراضي المطهرة، سواء أهل
مكة والمدينة أو البقاع التي بارك الله حولها، ومنها ينتقل ذكر مصر المحبوبة إلى
باقي أوطان المسلمين في المشارق والمغارب.
وظيفة مصر الأدبية ستزداد أهمية في المستقبل؛ لأنها وسط عالمين إسلاميين
كبيرين: هما العالم الأسيوي والعالم الأفريقي اللذان يريدان أن يتعانقا باشتياق عظيم
ويتحابا.
ولا يخفى أن مصرنا هي القنطرة التي تصل بين الحبيب وحبيبه، وأن لها
مزايا كبيرة في هذا الشأن عند أهل الذكر.
ومن جهة أخرى، فإن قطرنا المبارك سيتخذ كوصلة تربط العالم الإفرنجي ذا
المعارف المنعشة والفنون الجميلة بأمم عديدة، جمدت على ما وجدت عليها آباءها
من أسباب الفوضى والانحلال.
وها هي (الجامعة المصرية) أول خطوة في ذلك الطريق السلطاني الجديد.
فماذا نعمل في وظيفتنا هذه الجديدة، هل نوصل تلك المعارف والفنون
باستقلال رأي مكيفين لها حسب مبادئنا وأذواقنا الإسلامية، حتى نكون باب نعمة
على إخواننا من عرب وعجم أو نكون آلة صماء تعمل حسبما تحرك، ولا تعمل إلا
شرًّا، فنهيئهم لأن يصيروا فريسة سائغة وغنيمة باردة، ستؤدي وظيفتنا حسبما
تكون تربيتنا، فإن حسنت التربية حسنت النتيجة والعكس بالعكس، ولا تكون
التربية جيدة إلا إذا تأسست على مبادئ محمدية، ولا تكون المبادئ محمدية إلا إن
استخرجناها من الكتاب العزيز، وهذا لا يتأتى إلا إذا أحطنا باللغة العربية وعرفنا
أسرارها، وفقنا كل مخلوق في إظهار محاسنها وعجائبها لا أن يسبقنا علماء
الأجانب، مثل: أساتذة (كمبريدج) و (لايدن) و (برلين) وغيرها، ويتركونا
وراءهم تائهين في مجاهل الحواشي الثقيلة السقيمة، لاهين بما فيها من سفسطة
دقيقة عقيمة.
من يخدم اللغة العربية، فإنه يخدم الإسلام، وخدمة الإسلام تؤدي إلى ترقية
بني الإنسان كلهم أجمعين. فهل يحجم الطلبة المصريون عن جهاد علمي يكون لهم
بعده الفخر الأبدي، ولمصرهم العزيزة ولجماعة الموحدين الحظ الأوفر؟
برقي اللغة العربية يسود القرآن، وتنتشر علومه، وتزيد الشعوب العربية
ارتباطًا فتقوى وتترعرع، وفي آن واحد يقوى ويترعرع المجموع الإسلامي كله.
فلينظر الطلبة المصريون إلى علو مكانتهم في المستقبل وسط الأمم المختلفة.
تلك المكانة الخطيرة التي تشبه أن تكون (رقابة أدبية عالية) شرطها الأول خدمة
لسان النبي القرشي عليه أفضل الصلاة والسلام؛ لأجل فهم كتاب الله المجيد على
وجه يوصل إلى سعادة العالم بالعمل به. وليتدبروا كثيرًا معنى الآية الحكيمة.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيداً} (البقرة: 143) .
…
...
…
...
…
...
…
القاهرة في 5 جمادى الآخرة
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محمود سالم
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقرير اللجنة التحضيرية [*]
للمؤتمر المصري
(5 - جعل الخزينة العمومية مصدرًا للإنفاق على جميع المرافق المصرية)
هذا هو الحاصل بالفعل في جميع مصالح الحكومة، إن جميع المصريين
من مسلمين وأقباط تنفق على مرافقهم العامة على السواء من الخزينة المصرية.
ولا يجد المطلع على ميزانية الحكومة مصرفًا اختص به عنصر. فعسى أن يكون
المقصود بهذا الطلب هو المحاكم الشرعية التي ورد ذكرها في مناقشة الجمعية
العمومية للأقباط، ولكن هذه المحاكم مفتوحة الأبواب للمتقاضين من المسلمين ومن
الأقباط؛ ولتسجيل العقود وتقسيم المواريث
…
إلخ، لا فرق في ذلك بين المسلم
والقبطي، فهي بهذه الصفة من المرافق العامة.
على أنه لو كانت المحاكم الشرعية خاصة بالمسلمين دون غيرهم، فإنها لا
تكلف الخزينة العمومية نفقات أصلاً، بل إذا عجزت إيراداتها عن مصروفاتها سنة
زادت إيراداتها عن مصروفاتها سنة أخرى. ومتوسط الفرق بين الإيرادات
والمصروفات لمصلحة الخزينة العمومية في الخمس سنين الأخيرة هو مبلغ 4171
جنيهًا سنويًّا، يصرف هذا المبلغ في المرافق العامة بالضرورة بين المسلمين وبين
الأقباط، فلا معنى للشكوى من المحاكم الشرعية أو التعريض بذكرها في المؤتمر
القبطي، بوصف أنها يصرف عليها من الخزينة العمومية، وبوصف أنها خاصة
بالمسلمين.
وإنه ليحسن في هذا المقام أن نذكر مثلاً لما تصرفه الخزينة العمومية على
المرافق القبطية خاصة، لا لنحاسب على ذلك، ولكن ليرى الأقباط بالحس؛ أن
المناقشة في أمر المحاكم الشرعية لم يكن لها محل في جمعيتهم العمومية التي كثر
التصريح فيها؛ بأن مقاصدها محو الفروق الدينية والأخذ بأسباب الإخاء المصري.
إن مساجد المسلمين ومعابدهم - أثرية كانت أو غير أثرية - يصرف على
عمارتها وترميمها من خزينة ديوان الأوقاف الإسلامية خاصة. وأما كنائس الأقباط
ومعابدهم فإن الأثري منها يصرف على عمارته وترميمه من خزائن الحكومة بمقدار
الثلثين، ولا تتكلف الأوقاف القبطية إلا مقدار الثلث فقط، وحسب ذلك أن يكون
ميزة للأقباط على المسلمين.
وفوق ذلك، فإن أوقاف المسلمين تنفق على تعمير تلك الكنائس والأديرة؛
لأن العمال المكلفين بالقيام بهذه الأعمال إنما ينقذون رواتبهم من ديوان الأوقاف
الإسلامية.
وإننا لنشعر بأن إيراد هذه الأمثلة الجزئية، ليس متفقًا مع ما نحب تقريره من
التسامح ومساعدة إقامة الشعائر الدينية أيًّا كانت والاحتفاظ بالآثار، إلا أن الضرورة
ملجئة إلى التمثيل هذه الجزئيات؛ دفعًا لما عساه أن يتوهم من أن الخزينة المصرية
تحابي المرافق الإسلامية دون غيرها.
ولذلك ترى اللجنة أن هذا الطلب لا محل له.
(6 - النتيجة)
نقول: إن المصريين والمستوطنين في مصر من الجنسيات المختلفة، وعلى
العموم كل من يهتمون بالأحوال المصرية ويرجون التقدم لهذه الأمة، بل كثير من
الأقباط الذين تعلموا من التجارب، يرون أن المؤتمر القبطي لم يكن له محل من
الوجود، وأن مطالبهم التي أخذت شكل الإنذارات خالية عن الأسباب التي تبررها
في أعين الذين يعلقون أهمية في تأليف الأمم الناهضة؛ على تضييق دوائر الفروق
بين الأفراد، وتوسيع دائرة المشابهات بينهم، ويعتقدون حقيقة أن الدين لله وأن
مصر للمصريين.
أيها السادة:
هبوا معنا أن مواطنينا أخطأوا في تقدير الحالة الحاضرة، وما يجب أن
تضحيه الأفراد والمجاميع، أيًّا كان لونها في سبيل تعضيد الوحدة القوية، فإن
الطريقة الوحيدة لتصحيح هذا الخطأ هي إقناعهم به وإقناع الأمة بوجوب التجاوز
عنه.
إن الأمة يجب أن تبني علاقة أفرادها على التسامح من جهة وعلى التضامن
جهة أخرى، ولا يتوفر ذلك إلا إذا عاملت أبناءها جميعًا بما تقتضيه المحبة
والرحمة، وما يؤكد التآزر على تحصيل المنافع المشتركة. فلنطرح ظهريًّا كل ما
جاء في مؤتمر الأقباط من دواعي التفريق في الوحدة القومية، ولنوسع لإخواننا
صدورنا، ونستأصل من نفوس المصريين ذلك الضيق الذي لحقها من جراء ذلك
المؤتمر.
وإنه من الخطأ أن تتشبث العقول بتلك الفكرة التي أنتجها مؤتمر الأقباط،
وهي فكرة محاسبتهم لأخذ ما في أيديهم من المصالح العامة؛ لأن في ذلك مجاراة
لهم على التفريق، إنما ينبغي إصلاح ما طرأ من الفساد على الطرق المتبعة في
الانتفاع بالمرافق العامة. فإن المسلم والقبطي كلاهما ابن الأمة المصرية، وكلاهما
له الحق الكامل في خدمتها والاعتزاز بتلك الخدمة. وإنها لو رجعت إلى نفسها
لشعرت بأنها تحن إلى المسلم والقبطي على السواء.
ليست مصر قليلة الواجبات الوطنية، ولا هي يعوزها ميدان العمل لخيرها،
حتى تشغلها عناصرها بما لا فائدة فيه من التنازع على المراكز أو التخاصم على
شيء من الحقوق التافهة. بل على الضد من ذلك، إن لهذه الأمة الناهضة شؤونا
اجتماعية واقتصادية، لا تكفي في تحقيقها مجهوداتنا الحالية ولا أضعاف أضعافها.
فإن الرقي لا يجيء بالصدفة، ولكنه نتيجة متناسبة مع عمل العاملين.
حقيقة كان يكون من الضرر على جامعة الأمة أن تبين ظلامات الأقباط،
وتغمض الأكثرية جفونها على تلك الظلامات، مع القدرة على التذرع إلى كشفها أو
كشفها بالفعل. يكون من التهاون في حقوق الإنسانية، بل التهاون في حق الوطن،
بل التهاون في حق الذات؛ أن تترك الأكثرية أقلية مهما كان وصفها مهضومة في
حق من حقوقها؛ لأن مثل هذا التهاون أكبر العوامل على العبث بالتضامن الذي هو
أساس الوجود القومي.
أما وقد ظهر بالبرهان أن أفراد الأقباط متمتعون من الحقوق بأكثر مما يتمتع
به بقية الأفراد الآخرين من المصريين، فالواجب على الأقباط أن يرجعوا عن مزج
المعتقدات الدينية بالمصالح القومية، وأن لا يجعلوا من جامعتهم الدينية جامعة
سياسية خاصة، والواجب على المسلمين أن يعتبروا المطالب التي تشف عن هذا
الغرض كأنها لم تكن.
ويسر اللجنة أن تأمل بحق أنه إذا انعقد مثل هذا المؤتمر، يكون الأقباط إلى
جانب المسلمين عاملين فيه؛ للبحث فيما يرقي الأمة المصرية جميعها، حتى يحق
القول بأن الدين لله ومصر للمصريين.
(2)
(حالنا الاجتماعية)
حالنا من الجهة الاجتماعية، يصفها جميعنا بأنها أقل الحالات ملائمة لتمدننا
الحديث، فليس من الضروري الإطالة في شرحها، وضرب الأمثلة على مقدار
الضعف السائد من معظم الوجوه في تأليف جمعيتنا المدنية. كما أنه ليس من
الحكمة أن تثقل كواهلنا، ونحملها فوق طاقتها بالاقتراحات والمشروعات
الاجتماعية. فإن الخير كل الخير هو في أن نترك الآن ما لا نستطيع إلى ما
نستطيع، حتى نتفق في سيرنا مع قواعد التدريج الطبيعي، وقل أن يفشل الذي
يقلد الطبيعة في سيرها، ويقيس قواه بمقياس مضبوط قبل استخدامها في العمل،
وأنه لا ضرر على رقينا المنشود من هذا النمط؛ لأن المشروع الواحد الذي يتم هو
نفسه، يكون أكبر مساعد لإتمام غيره، فحسبنا من المقاصد الاجتماعية الآن أن
نهتم بالمدرسة.
إننا إذا أصلحنا المدرسة أصلحنا العائلة والأمة كلها، فالمدرسة هي الأساس
الذي يجب أن نبني عليه الآن، والمشروع الاجتماعي الذي يجب أن نلفت إليه
النظر قبل كل مشروع اجتماعي آخر.
إن نسبة القارئين والكاتبين في المصريين عمومًا قليلة أمام مطالبنا الكبيرة من
التحول الاجتماعي، بل نسبة تجعل بيننا وبين أن نعيش في زمننا الحاضر بونًا
بعيدًا.
أيها السادة:
نحن نعيش في هذا الزمن تحت سلطان العلم الذي وضع يده على كل شيء
في الوجود، وضع يده على الزراعة والصناعة والتجارة وهي مصادر رزقنا،
وضع يده على الأخلاق والروابط الاجتماعية وهي قوام جمعيتنا، وضع يده على
السياسة وتدبير الممالك وهي مناط سعادتنا وشقائنا، وضع يده على حركات نفوسنا
ووضع لكل شيء ضوابط لا مجاوزة لها. فإن لم يحسن التفاهم بيننا وبين هذا
السلطان القادر، يستحيل علينا أن نعيش في زمانه، ولا واسطة لهذا التفاهم إلا
المدرسة.
فليس تعليم الأمة زخرفًا تزدهي به، ولا زينة تباري بها زميلاتها، ولكن
تعليم الأمة ركن لحياتها، وشرك لازم لوقايتها من الفناء.
قد يجد الأميون الطيبون من المتعلمين ما لا يرضيهم في السلوك والأخلاق
الاجتماعية، فينسبون ذلك للعلم وبضعف إيمانهم بضرورة التعليم، إلا أنه لا ذنب
للعلم ولا للتعليم، ولكن الذنب على الجهل وطرائق التعليم، فكلما رأيتم اعوجاجًا
في المتعلمين، فأصلحوا المدرسة تصلح أبناؤكم وأحوالكم.
من ضعف الوطنية ومن الضرر بالنظام؛ أن يفرغ كل جهده في كسب
الحقوق، ولا يفكر في أداء الواجبات، كل يريد من الأمة أو من الحكومة أن تعطيه
حقه، ولا يريد أن يقوم نحو الجمعية بواجبه، ومن قصر النظر أن يظن المرء
بسهولة الحصول على حقه، إذا لم يكن الأفراد المتضامنون معه يؤدون واجباتهم،
فإذا استمرت هذه الشهوة الفاسدة شهوة التمتع بالحقوق دون النظر إلى الواجبات،
فكل إصلاح اجتماعي مستحيل، وعلى الأخص نشر التعليم وإصلاح المدرسة.
نحن نطلب إلى الحكومة أن تعلم، نطلب إليها ذلك؛ لأنها تصدت لأخذ
الأموال من الأمة للتعليم؛ ولأنها تسير في التعليم. ولكننا على كل حال نضيع
الوقت في الطلب، نظلمها إذا طلبنا منها أن تصلح المدرسة على أنماط التربية التي
تخرج الرجال. ذلك لأن الحكومة مهما كان نوعها وهيئة تأليفها، ليست
اختصاصية في التربية والتعليم، بل ليست التربية والتعليم في الحقيقة من شأنها؛
لأن التعليم يجب أن يكون حرًّا بعيدًا عن كل المؤثرات؛ ولأن المدرسة يجب أن
تكون أمة مصغرة مستقلة، يعلم فيها كل ما هو جار في الخارج أي: في الأمة
الكبيرة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالجهود الذاتية للأفراد والمجاميع الحرة غير الداخلة
في نظام الحكومة، لا سبيل إلى ذلك إلا بأن يريد كل مفكر وكل مثر أن يؤدي
واجباته العامة تلقاء كسبه لحقوقه، ومن الأسف أن علية المفكرين يقصرون عملهم
العام على السياسة، وعلية المثرين لا يقومون إلا قليلاً بواجبات الغني نحو قومه أو
نحو المدرسة.
تقول اللجنة ذلك، ويسرها أن نعترف أن هذه السنين الخيرة كانت ميدانًا
لتناظر المفكرين في التعليم، ومباراة الأغنياء في بر التعليم، فهي بذلك قوية الأمل
في أن يزيد إدراك العلماء والأغنياء لواجبهم نحو التعليم. ومتى أضيف إلى ذلك
الأمل في مجالس المديريات أمكن القول بأننا نبتدئ في سلوك خطة نحو التربية
والتعليم لا تلبث أن تجني الأمة ثمارها.
غير أن لنشر التعليم أصولاً مجربة. وأن لإصلاحه والاستفادة منه في تخريج
الرجال أنماطًا علمية، ولا يسع هذا المؤتمر أن يبحث في هذه التفاصيل. فتقتصر
اللجنة على أن تقترح على المؤتمر أن يطلب أو يشجع طلب عقد مؤتمر للتعليم
والتربية في الخريف القادم، يكون الغرض منه درس الحالة التعليمية في مصر
ووصف العلاج النافع لها، وإرشاد المجاميع التعليمية كمجالس المديريات وغيرها
من الجمعيات الأخرى إلى أقرب الطرق وآكدها في تعليم الأمة، وبماذا تبتدئ في
مشروعاتها التعليمية، وكيف يتم إصلاح المدرسة على مقتضيات الزمن
الحاضر.
(3)
(الحالة الاقتصادية)
إذا كانت حالتنا الاجتماعية داعية إلى الإصلاح، فإن حالتنا الاقتصادية إلى
الإصلاح أدعى لأنها عدم.
نعم أيها السادة بوصف كوننا مجموعًا ليس لنا مع الأسف وجود اقتصادي
إيجابي، بل وجودنا سلبي محض؛ لأننا نتأثر بالحركات الاقتصادية في مصر من
غير أن يكون لنا فيها أدنى تأثير.
نشتغل في تجارة القطن، وما وصفنا الحقيقي فيها إلا أننا عمال في البنوك
الأجنبية، تابعون في تصرفنا لا للحركة المالية العامة كما هو شأن كل تجاري
يشتغل لنفسه، ولكننا تابعون للذين يشتغلون لأنفسهم من الأجانب، ولذلك إذا سقط
منا تاجر أو أفلس - وذلك مع الأسف ليس بالقليل - تأثرت بإفلاسه التجارة
المصرية تأثرًا حقيقيًّا؛ خلافًا لما لو كان لنا في الحركة مركز مصري خاص، إذ
في هذه الحالة لا يكون لخسارة التجار تأثير مضر بثروة البلاد؛ لأن هذا التاجر يخسر
ما يكسبه الآخر، فما أجدر خسارته أو إفلاسه بأن تسمى تحولاً للمال من يد
مصرية إلى يد مصرية، والمال على كل حال باق في مصر.
نشتغل في الحركة المالية الصرفة أي: في أشغال البنوك، فما نصيبنا من
هذا الشغل إلا أننا مقترضون دائمًا لا مقرضون، ومدينون لا دائنون.
نقترض من البنوك لتوسيع ثروتنا، ونغلو من الأسف في حب ذلك التوسيع،
فنأخذ المال بالفوائد التي لا يسمع بها في العالم المتمدن، ونقسطها على أقساط
ندفعها من حاصلات الأرض، وحاصلات الأرض متغيرة بتغير السنين بين
الإخصاب والإجداب، فكثيرًا ما يقع أن ما تنتجه الأرض المرهونة للمزارع المدين
لا يفي إلا بقسط البنك. فيكون معنى ذلك أن المزارع يشتغل لغيره، وأن المصري
يشتغل لتنمية ثروة غير بلاده، فإذا وقفت حركة أعماله واستغرقت ديونه أملاكه
- وذلك أيضًا أصبح مع الأسف كثير الوقوع - تأثرت الحالة الاقتصادية المصرية
بمقدار أهمية أملاك ذلك المزارع المصري في تكوينها؛ لأن انتقال أمواله من يده،
إنما يكون دائمًا ليد غير مصرية، خلافًا لما إذا كان منا الدائن ومنا المدين، ومنا
المرتهن ومنا الراهن، فإن الحالة الاقتصادية للأمة لا تتأثر بخسارة أحدهما أو
انتقال ماله إلى يد الآخر؛ لأن المال يبقى مصريًّا على كل حال.
نشتغل في الصناعة شغلاً بطيئًا قليل الأهمية؛ لأنه ليس لنا رؤوس أموال
تشتغل شغلاً مفيدًا في السوق المالية؛ لذلك لا تخطو الصناعة في بلدنا خطوة إلى
الأمام، حقيقة أنها لا تشجع ولا تحمى من جانب الحكومة، ولكن ذلك ليس هو
وحده السبب الأكبر في عدم تقدمها، بل أكبر الأسباب في ذلك هو قلة وجود رؤوس
أموال مصرية في سوق المال تستعمل في المشروعات العامة.
نحن في بلدنا تتأثر حالنا المالية بكل أزمة مالية تقع في أي بلد من البلاد.
ولا نستطيع أن ندفع عنا أية أزمة خارجية مهما كانت؛ لأن سوقنا ليست لنا، بل
ليس لنا فيها أدنى نصيب.
نحن في بلدنا تتأثر حالنا الاقتصادية بأية إشاعة من الإشاعات مهما كان مبلغها من
الفساد. فإنه يكفي لقبض البنوك يدها عنا والقسوة في مقاضاتنا أن يشيع في الناس
خبر أية حركة سياسية، بل يكفي أن يخلق كاتب عنا رواية تدل على التعصب
الديني أو التحرش بالأجنبي حتى توصد البنوك أبوابها.
فنحن على هذه الحالة لا مأمن لنا من الوجهة المالية، لا من داخل البلاد ولا
من خارجها. وقد أخذنا درسًا مفيدًا من الأزمة المالية التي وقعت في سنة 1907.
إذن أين نحن من المستوى الاقتصادي الذي يتفق مع رغباتنا الأكيدة في التقدم
إلى الأمام.
مع الأسف أن الذي يجيب على هذا السؤال، يرى نفسه مكرهًا على
الاعتراف بأننا لسنا من الحال الاقتصادية على شيء أصلاً. وليست حركتنا
الاقتصادية إلا سلبية صرفة.
لا يفهم من ذلك أننا ننكر جميل رؤوس الأموال الأوربية التي دخلت مصر،
فحسنت كثيرًا من أحوال الأفراد، وصقعت الأملاك العقارية، ولكن الذي يفهم منه
أنه يجب أن يكون للمصري وجود اقتصادي عام أي: حركة فاعلة في السوق،
وليس له من ذلك شيء، يجب أن يكون لمصر وجود فاعل، ثم يجب أن يكون
لأموالها بوصف أنها أمة مزاحمة مالية مع بقية رؤوس الأموال ذات الجنسيات
المختلفة التي تتزاحم في السوق المصرية.
أيها السادة، لا يغلو الذي يقول: إن كل جهد لتقدمنا ضياع وقت، وكل رقي
نرجوه أمنية لا تتحقق، مادامت حالنا الاقتصادية على ما هي عليه.
إن مدنيتنا نتيجة مقدمتها الكفاءة الاجتماعية والاقتصادية، فما لم نحصل على
المقدمات، يستحيل علينا أن نبلغ النتيجة.
إنه يجب علينا أن نأخذ من فورنا بأسباب إصلاح حالنا الاقتصادية. ومن
المشكوك في نفعه أن نطرق مشروعات اقتصادية شتى، عساها تكون فوق طاقتنا
المالية، فنبقى في النقطة التي ابتدأنا منها. بل النافع هو أن نقصر جهدنا على
مشروعات يمكن تحقيقها، وتكون من أهم القواعد التي يبنى عليها صلاحنا
الاقتصادي.
لنبدأ من هذا اليوم؛ لأننا قد تأخرنا كثيرًا. وكل تأجيل في الابتداء في العمل
تأجيل للنتيجة. وليس تأجيل البدء في العمل قاصرًا على أن يفوتنا زمن بغير عمل،
ولكن مادامت التجربة دلت على أن الأعمال إنما تسير على قاعدة الربح المركب،
فإن تأجيل العمل لابد أن يسير على قاعدة الخسارة المركبة. ولو استطعنا أن
نقف في مركزنا الحالي لهان الأمر، ولكن لا سبيل إلى الوقوف: فإما التقدم وهو
البدء في العمل من اليوم، وإما التأجيل وهو التقهقر إلى الوراء ونتيجته الخراب.
وماذا نعمل من اليوم أيها السادة؟
نشرع في إنشاء بنك مصري؛
أيها السادة، لسنا والحمد لله فقراء في المال، فإن للمصريين في البنوك نقودًا
ودائع لا غلة لها، تفي من اليوم بأن تكون رأس مال لبنك مصري محترم. ولسنا
والحمد لله فقراء في الرجال الماليين، فإن كثيرًا من رجالنا قد جمعوا بأنفسهم
ثروات عظيمة من غير أن يكون عند أحدهم رأس مال إلا عمله أو قليل من الحطام
الموروث. ولسنا ضعفاء الثقة بعضنا في بعض، قد أثبتنا في السنين الأخيرة أن
لدينا مجاميع تقوم بالأعمال العامة، ومثل هذه المجاميع يستحيل أن يبنى لها أساس
إلا على الثقة. إن المال والرجال والثقة هي الأركان الثلاثة اللازمة لمشروع مالي
عظيم مثل هذا المشروع. فما الذي يعوقنا عن السير فيه؟ .
لا يقال: إن من العقبات الشديدة خوف مزاحمة البنوك الأجنبية؛ لأننا وإن
اعترفنا بأن البنك المصري سيزاحمها، ولكنه لا يعطل عمل واحد منها، ولا يؤثر
تأثيرًا كبيرًا على مقادير كسبه؛ لأن مصر لا تزال كالبلد البكر في الاستغلال، وأن
البنوك الموجودة فيها إلى الآن على كثرتها لا تفي بحاجاتها. فإن الأراضي
المصرية القابلة للزارعة لم تزرع كلها بعد. والفدان المزروع لم يأت إلى اليوم
بكل ما يستطيع أن يأتيه من الغلة، والأرض غير القابلة للزراعة لم يقنط أحد من
احتوائها على معادن مختلفة؛ كالرصاص والبترول ونحوهما. وبالجملة فالبلاد لا
تزال بكرًا من حيث الاستغلال وتحتاج في استغلالها إلى أموال طائلة، لا تفي بها
الأموال الأجنبية الموجودة في مصر الآن.
إنما تكون فائدة البنك المصري أن لا يتأثر بالإشاعات المكذوبة، فلا يقفل بابه
عن الناس، فتحذو حذوه البنوك الأخرى؛ لأنه بنك البلد وأعلم بما يجري فيه،
فائدته تشجيع المشروعات الاقتصادية المختلفة التي تعود عليه وعلى البلاد بالربح
العظيم، فائدته الرحمة بالفلاحين عند الحاجة يعطيهم بفوائد معتدلة ومناسبة،
وهو مع ذلك يربح ولا يخسر، فائدته أن يجعل لمصر صوتًا في سوقها المالية،
ويدافع عن مصالحها كما تدافع البنوك عن مصالح بلادها، فائدته هو ومشروع
النقابات الزراعية، ومشروع مستودعات التأمين، أن تتحقق في الوجود الكفاءة
المالية التي هي الأساس المتين للرقي المطلوب.
على ذلك تقترح اللجنة على المؤتمر أن يقرر وجوب إنشاء بنك مصري
برؤوس أموال مصرية.
_________
(*) تتمة لما نشر في الجزء السابق ص 353.