المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جمادى الأولى - 1329ه - مجلة المنار - جـ ١٤

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (14)

- ‌المحرم - 1329ه

- ‌فاتحة المجلد الرابع عشر

- ‌الاشتراك في المنار

- ‌فتاوى المنار

- ‌جمعية الدعوة والإرشاد

- ‌المقالة الأولى لجريدة العلم

- ‌المقالة الأولى التي كتبتردًّا على جريدة العلم

- ‌نهضة التعليم الإسلامي في سملك دابل

- ‌أعظم رجل في العالم

- ‌اعتصام الفئتين الكبريين من المسلمين

- ‌البابية البهائية

- ‌الماسون في الدولة العثمانية

- ‌صفر - 1329ه

- ‌الذكر بالأسماء المفردة

- ‌أسئلة من الهند

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌أقوال الجرائد

- ‌حال المسلمين والمصلحين

- ‌الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية [

- ‌تقرير مرفوع إلى جناب صاحب الدولةالأمير أحمد باشا فؤاد حضرتلري

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع أول - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع الآخر - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌أمير الألاي صادق بك

- ‌المسلمون والقبط(النبذة السادسة)

- ‌اقتراح صاحب المنار على المؤتمر المصري

- ‌كيف خلق الإنسان [*]

- ‌النسائيات [*]

- ‌مذكرة عن أعمالالمبشرين المسيحيين

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌مقدمة مقالات المسلمون والقبط

- ‌جمادى الأولى - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌العالم الإسلاميوالاستعمار الأوربي(1)

- ‌آراء أديسونفي مستقبل البشر

- ‌بيان أمير الألاي صادق بك

- ‌شيء من مناقب صادق بك

- ‌بيان هادي باشا الفاروقي

- ‌ألمانيا والعالم الإسلامي

- ‌(المؤتمر المصري)

- ‌اتفاق الدولوالمانع لها من قبول دولتنا فيه

- ‌احتلال فرنسة لمملكة المغرب الأقصى

- ‌جمادى الآخرة - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌العالم الإسلاميوالاستعمار الأوربي(2)

- ‌عليكم باللغة العربيةسيدة اللغات

- ‌المؤتمر المصري [*]

- ‌ملكة بهوبال الهندية في إنكلترة [

- ‌بلاغ محمود شوكت باشا

- ‌رأي الأمير صباح الدين

- ‌سياحة السلطانوالاستفادة من منصبه الديني

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌رجب - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌بحث الاجتهاد والتقليد

- ‌كلمة في السياحة المفيدة

- ‌قانون الجامع الأزهروالمعاهد الدينية العلمية الإسلامية

- ‌هل للقول من مستمع؟وهل للداعي من مجيب

- ‌ حضرموت

- ‌الدعاء للسلاطينفي الخطب وحكمه شرعًا

- ‌الإلحاد في المدارس العلمانية [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌فقيد مصرمصطفى رياض باشا(2)

- ‌جمعية الاتحادومشروع العلم والإرشاد

- ‌شعبان - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌علم الفلك والقرآن

- ‌فصل في بيان دقائقالمسائل العلمية الفلكية

- ‌كلمات علمية عربيةأسوقها إلى المترجمين والمعربين [1]

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌فقيد مصرمصطفى رياض باشا(3)

- ‌مشروع المنتدى الأدبي في التعليم العربي

- ‌الحريق في الآستانة

- ‌استدراك [

- ‌مخاطبات المنار

- ‌رمضان - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌كلمات علمية عربيةأسوقها إلى المترجمين والمعربين [*](2)

- ‌ملحق بقانون الجامع الأزهروالمعاهد الدينية العلمية الإسلامية

- ‌الكوليرا [*]

- ‌الإسعافات الطبية الوقتيةللمصابين بالكوليرا

- ‌أرباب الأقلام في بلاد الشامومشروع الأصفر

- ‌شوال - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌بحث الاجتهاد والتقليد

- ‌المسألة الشرقية [*]

- ‌حالة المسلمين في جاوه والإصلاح

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌رد المنار

- ‌نظام مدرسة دار الدعوة والإرشاد

- ‌ذو القعدة - 1329ه

- ‌العلوم والفنونالتي تدرس في دار الدعوة والإرشاد

- ‌فتاوى المنار

- ‌المسألة الشرقية

- ‌مقدمات الحربفي طرابلس الغرب

- ‌عِبَرُ الحرب في طرابلس الغرب

- ‌ذو الحجة - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌مناظرة عالم مسلملدعاة البروتستانت في بغداد

- ‌المسألة الشرقية

- ‌منشورات إيطالية الخداعية

- ‌إعانة أمير أفغانستان وكبراء قومهلأهل طرابلس الغرب

- ‌عريضة الشكرمن العثمانيين المستخدمين في أفغانستان إلى أميرها

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌كتابٌ رصيفٌ ورأيٌ حصيفٌفي المساعدة على الحرب بطرابلس الغرب

- ‌الخطر الأكبر على بلاد العربوالرأي في تلافيه

- ‌الانتقاد على المنار

الفصل: ‌جمادى الأولى - 1329ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الرابع عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمدك اللهم وأنت ولي الحمد، ولك الأمر من قبل ومن بعد، تخرج الحي

من الميت، وتخرج الميت من الحي، وتخلق الضعف من القوة وتخلق القوة من

الضعف، وتجعل العلم من الجهل، وتجعل الجهل من العلم، وتنصر الحق على

الباطل ولا تنصر الباطل على الحق، فللحق السلطان الأعلى ما وجد من يقوم به،

وإنما بقاء الباطل في نوم الحق عنه، وقد قلت وقولك الحق {إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49) {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ} (هود: 45) .

أحمدك اللهم وأصلي وأسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين، النبي

الأمي الذي بعثته في الأميين، فزكّاهم بالتأديب والتربية الفضلى وعلّمهم الكتاب

والحكمة العليا، فكانوا بتربيته سادة العالمين، وبتعليمه أئمة العالمين، فاستجبت

فيه دعوة أبيه إبراهيم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ

وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) .

أحمدك اللهم وأسألك الرحمة والرضوان، والبركة والإحسان، لآل نبيك

الطاهرين، وأصحابه الهادين المهديين، الذين ابتلوا في سبيلك فثبتوا وصدقوا

وأوذوا لاتباع دينك فصابروا وصبروا، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم فهاجروا

وهجروا، الذين عاهدوا فوفوا وآووا ونصروا، ولمن اتبعهم بإحسان، على هداية

السنة والقرآن، أولئك هم الصالحون المصلحون، والعاملون المخلصون (9:

101) {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ

رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً

ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيم} (التوبة: 100) .

أحمدُك اللهم وأسألك أن تهدينا صراطهم المستقيم، وتقينا كما وقيتهم من كيد

الشيطان الرجيم، وتعيذنا كما أعذتهم من شر الوسواس، الذي يوسوس في صدور

الناس، من الجنة والناس، من شياطين الجن المستترين، وشياطين الإنس

الظاهرين، الذين يقعدون بكل صراط يوعدون، ويصدون عن سبيل الله من آمن

ويبتغونها عوجًا، الذين قطعوا حبل الرابطة التي آخيت بها بين المسلمين، ففرقوا

بينهم في الجنس والوطن ومذاهب الدين، فقالوا عربي وتركي، ومصري وغير

مصري، وسني وشيعي، وأنت قلت وقولك الحق: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً

وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ

إِخْوَاناَ} (آل عمران: 103) إلي قولك الحكيم: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا

وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:

105) .

اللهم، إنهم قد تفرقوا عن حقك، وفرقوا بين من جمعتهم بالتوحيد من خلقك،

واتبعوا سنن من قبلهم، في أيام فسادهم وجهلهم، وقد عادوا أولئك المتفرقون إلي

الاتحاد ولم يعودوا، وتابوا عن التعادي والخصام ولم يتوبوا، فغيرت ما بهم، لما

غيروا ما بأنفسهم، تصديقًا لكتابك، وإنفاذًا لسنتك، غيرت تلك النعمة التي أنعمت

بها على سلفهم من الملك الواسع، والعز السابغ والمال الوافر، وأدلت الدولة

لسواهم، وجعلتهم في حكمهم ورزقهم عالة عليهم، ولا تزال بلادهم تنتقص من

أطرافها، ويتغلغل نفوذ الأجانب في أحشائها، وقد أتى عليهم حين من الدهر

يسمعون نذر الزوال من كتاب الوحي ولا يزدجرون، ويشاهدون عبر النكال في

كتاب الكون ولا يعتبرون، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (المدثر: 49) ،

{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68) .

اللهم، إنك تعلم أن ما حل بالمسلمين بتركهم الاعتصام بكتابك، وإعراضهم

عن سنتك في خلقك، قد جعله الناس شبهة على كتابك الحكيم، ووسيلة للطعن في

دينك القويم، وما ظلمتهم ولكن كانوا هم الظالمين، والقرآن هو حجتك عليهم

أجمعين، أمرهم بالاتحاد والاعتصام فتفرقوا، ونهاهم عن الاختلاف فيه فاختلفوا، ولا

يزالون مختلفين، إلا من رحمتهم من المقربين {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ

الآخِرِينَ} (الواقعة: 13-14)) ومن أصحاب اليمين، {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ *

وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 39-40) .

اللهم، إنك لم تذر المؤمنين الأولين على ما كانوا عليه، ولا تدع المسلمين

على ما انتهوا إليه، بل مزت وتميز الخبيث من الطيب، وزيلت وتزيل بين المفسد والمصلح، ووفقت من شئت لنشر دعوة التوحيد والاعتصام، بين جميع

الشعوب والأقوام، اللهم، فانصرهم وهم حزبك على أحزاب الشيطان، المفرقين

بين المسلمين في المذاهب أو العناصر أو اللغات أو الأوطان، وقهم اللهم فتن السياسة

وشرور زعمائها محبي الرياسة، الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، ولقد

جاءهم من ربهم الهدى، ولكنهم آثروا عليه الشهوة والهوى، فيناضل فارسهم بسهام

البهتان، ولا بالدليل والبرهان، وينافح بالنميمة وقول الزور، ويدل بالمخيلة

والدعوى والعجب والغرور، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا

كِتَابٍ مُّنِيرٍ} (الحج: 8) ، {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي العُمْيَ وَمَن كَانَ فِي

ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الزخرف: 40) .

أحمدك اللهم عودًا على بدء؛ أن وفقتني لتأييد المصلحين، والدعوة إلي

الاتحاد والائتلاف بين المسلمين، فقد تم بفضلك وتوفيقك للمنار ثلاثة عشر عامًا،

يدعو إلي ذلك بدليلَيْ النقل والعقل، والأساليب المتنوعة من القول الفصل،

وأضرع إليك أن توفقني على رأس العام الرابع عشر في السعي إليه بالفعل، وأن

تظهر هذا الدين في الآخرين، كما أظهرته في الأولين، فقد بدا غريبًا، وعاد كما

بدا في غربته، فأتم اللهم التشبيه باستتباع ذلك لظهوره وقوته، وانصر دعاته

الصادقين، على عداته المنافقين، الذين يلبسون لباسه ويجهلون حقيقته، فيجنون

عليه ما لا يجني المنكرون له، حتى صدق عليهم ما قلته في المتفرقين قبلهم

{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ} (الحشر: 2) {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً

وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ

أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} (الحشر 14: 15) .

اللهم، إنك تعلم أن من هؤلاء المفرقين من أعماه الحسد وحب الظهور،

ومنهم من أصمه الكبر والغرور، ومنهم من أفسده الفسق والفجور، ومنهم من أبعده

الكفر بك، والصدود عن هداية رسلك، فهم أمشاج مختلفون في عقائدهم وأخلاقهم

الباطنة، مختلفون في عاداتهم وأعمالهم الظاهرة، لا يجمع بين قادتهم إلا حب المال

والجاه في الحياة، والطمع في نصب التماثيل والصور لهم بعد الممات، وتلك

عاقبة الذبذبة، فيما ابتليت به هذه الأمة من اختلاف التعليم والتربية، نال الأجانب

من نفوسهم ما يشتهون، وهم لا يشعرون، فهم لهم خادمون، ويحسبون أنهم هم

المقاومون، أولئك هم المفرقون، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، يفرقون

بين أعضاء الأمة، ويحللون العناصر التي يتركب منها جسم الدولة، أولئك هم

الأخسرون أعمالاً، والرابحون أقوالاً وأموالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا،

وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت

تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة: 16) .

اللهم، قد ضاق ذرع المصلحين، بهؤلاء المفسدين المفرقين، كلما داووا

جرحًا سالت جروح، وكلما رتقوا فتقًا ظهرت لهم فتوق، وكثرت الدعوة بالباطل،

واختلط الحابل بالنابل، وظهر في جو السياسة العارض الممطر، واضطربت

القلوب من موعد الصبح المسفر، يومئذ تظهر عاقبة الذين يعملون في السر، ضد

ما يقولون ويدعون في الجهر، ويتبرأ أهل الجنوب من شياطينهم أهل الشمال؛ إذا

ظهر ما يضمرون لما بقي للإسلام من سلطان وشبه سلطان، بإغراء أولئك الذين

قضوا على سلطة غيره من الأديان، ويومئذ يعلم المغرورون من نوكى المسلمين،

أنهم كانوا فاتنين مفتونين، ( {إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ} (الصافات: 106) ،

{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) .

تطلعت رءوس الفتن، واشتعلت نارها في ألبانية فحوران فاليمن، يخرب

المسلمون بيوتهم بأيدهم، ويقتلون أنفسهم بسيوفهم، ويمهدون السبل للطامعين فيهم،

فيكفونهم أمر الحرب، وبذل المال وسفك الدم، أهلك أهل الحضارة والترف منهم

حب الشهوات، وأهلك أهل الخشونة والتقشف الجهلُ بالفنون والصناعات، وقد

أفسد الرؤساء من الفريقين حب الرياسة، وما يتبعها من فتن السياسة (أعوذ بالله

من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من

كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها

السياسة، وكل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس

ويسوس، وسائس ومسوس) [1] فالسياسة مسار الفتن، ومصدر الإفك والكذب،

ومورد السعاية والمحل، وناهيك بسياسة أهل الضعف، في مثل هذا العصر،

الذين فقدوا كل شيء، ويدعي الواحد منهم كل شيء، ويجرد من لا يتبع أهواءهم

من كل شيء، يلبسون الحق بالباطل، وينصرون من يتبع أهواءهم من مظلوم أو

ظالم، يؤيدون المفسدين والمجرمين، ويتجرمون على البرآء الصالحين، {قُل لَاّ

تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 25) ، {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا

ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ} (سبأ: 26) .

يا أيها المفتون المغرور، المختال في ثوبين من الزور، اعلم أنه ليس في

طاقة أحد أن يتقن كل عمل، فيكون رئيسًا أو زعيمًا في السياسة، والعلم والدين

والأدب والكتابة والخطابة، والأمور الاجتماعية والمالية، وكل ما تحتاج إليه الأمة

لتكون من الأمم الحية، فعليك إن كنت من الصادقين أن تتقن عملاً ما، ثم تكون

عونًا وظهيرًا للعاملين، ويا أيها المفتون بالقوة، ادخر قوتك للقاء خصمك الأقوياء،

ولا تضعفها بالبغي على إخوانك الضعفاء، فرب جهاد في غير عدو، ورب

ضعة في حب العلو، ورب باغ على نفسه، وهو يحسب أنه ينتقم من خصمه،

والبغي مصرعه وخيم، {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا

السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ

أَلِيمٌ} (الشورى: 41-42) .

يا أهل القرآن، أقيموا القرآن، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان،

قد غلبتم على ما فرطتم فيه من حقكم، فنزا على مصالحكم الملاحدة والفاسقون من

قومكم، وكانوا هم المنافذ والكوى لدخول سلطان الأجانب في أرضكم، تركتم لهم

دنياكم فطمعوا في دينكم، يريدون إطفاء نوره والإحاطة بوليه ونصيره، فأفيقوا من

نومكم، واتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وانشروا دعوة الإسلام، واجعلوا أمامكم

القرآن، فهو حبل الله الممدود بين أهل الإيمان {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا

تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) ، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا

تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) .

هذا ما يذكِّر به المنار قراءه المصطفين الأخيار، على رأس عامه الرابع عشر،

كما هي سنته في فاتحة كل سنة، وإنها لتذكرة للخاصة، بحسب حالة الإصلاح

العامة، ويدعوهم كما يدعو جميع العلماء الذين يطلعون عليه، إلى الكتابة إليه بما

يرونه منتفدًا فيه، مؤيدًا بالدليل والبرهان، لا بقول فلان ورأي فلان، فإنما المنار

صحيفة جميع المسلمين، لا صحيفة طائفة واحدة من المقلدين، فهو يدعوهم إلى

الاجتماع على ما اتفقوا عليه، وأن لا يتعادوا فيما اختلفوا فيه، بل يردوه إلى الله

والرسول، فهو خير عمل وأحسن تأويل، {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) .

...

...

...

منشئ المنار ومحرره

...

...

...

محمد رشيد رضا الحسيني

_________

(1)

هذه الاستعاذة للأستاذ الإمام رحمه الله تعالى.

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاشتراك في المنار

(1)

جرى العرف في أقطارنا كلها بأن المشترك في صحيفة مؤقتة؛

كالجرائد والمجلات، اشتراكه مسانهة، كلما جاءت سنة كان مشتركًا فيها، ما لم

يؤذن صاحب الصحيفة قبل دخول السنة الجديدة أو في أولها بقطع الاشتراك.

وعملاً بهذا العرف، ترسل المنار إلى المشتركين في العام الماضي، فمَنْ قَبِلَ هذا

الجزء الأول كان مشتركًا إلى آخر هذه السنة، ووجب عليه أن يؤدي قيمة

الاشتراك كاملة وإن بدا له في أثناء السنة قطع الاشتراك وجعله نصف سنة، فمن

لم يرض بهذا الشرط، فليرد إلينا هذا الجزء.

(2)

من أحب ابتداء الاشتراك في المنار هذا العام، فعليه أن يرسل القيمة

سلفًا مع طلب، وهي مبينة على غلاف كل جزء.

(3)

إذا لم يصل بعض الأجزاء إلى المشترك، فالإدارة ترسله إليه إذا

طلبه بعد موعد وصوله إليه بشهر واحد، فإن طلبه بعد ذلك أو طلب بدلاً عما

أضاعه من الأجزاء، فعليه أن يرسل ثمن ما يطلبه، وثمن الجزء بمصر ستة

قروش، وفي الخارج فرنك ونصف.

_________

ص: 8

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

أسئلة من سومطرا

(س1-3) لصاحب الإمضاء في فيلمبغ (سومطرا) .

إلى حضرة الأستاذ الأكبر مرشد الأنام، ومشيد دعائم الإسلام، السيد محمد

رشيد رضا. بعد التحية والإكرام؛ بناءً على واسع حلمكم، ووافر علمكم، أتجاسر

على أن أقدم لحضرتكم بعض المسائل الدينية التي أعيانا حلها، وقد أصبحت اليوم

بطرفنا من الوقائع الحالية، مؤملاً من حميد شيمكم أن تجيبونا عنها على صفحات

مناركم المنير، ولشدة مسيس الحاجة إلى الجواب نلح على سماحتكم في المبادرة به،

فالناس لجنابكم منتظرون، ولكم من الله جزيل الأجر، ومنا جميل الشكر، وهي

هذه:

(1)

ما قولكم - لا برحتم نورًا للمبتدئين، وحسامًا مصلتًا على رقاب الملحدين

- في جبانة ببلادنا تدفن فيها أموات المسلمين، وقد اشتدت في هذه الأيام إليها حاجة

الحكومة؛ لجعلها رصيفًا على البحر لوقوف البواخر؛ بسبب لياقتها لذلك وقربها من

الميناء، وقد أضحى من المتعذر هنا وجود غيرها من الأراضي التي تجدر بأن تكون

رصيفًا، وقد أعلنت الحكومة قصدها هذا، وطلبت من المسلمين من غير إجبار أن

ينبشوا موتاهم، وينقلوهم إلى مكان آخر؛ ليتسنى لها بحث الأرض المطلوبة

وتسويتها؟ ولا برحت تكرر الطلب مع الإعلان بعدم الإكراه، فهل يجوز للمسلمين -

والحالة هذه - نبش موتاهم نظراً للمصلحة العمومية أم لا؟ فإن قلتم لا، فهل يحصل

الجواز لو فرضنا وجود الإكراه والإجبار من الحكومة أم لا يحصل؟ تفضلوا

سادتي بادروا بالجواب.

(2)

وما قولكم لا زال مناركم شجًا في حلوق الدجالين، وشبًا ترتعد منه

فرائص المحتالين، في خضاب اللحية أو حلقها، هل ورد في السنة المنيفة نص

يصرح بتحريم ذلك، فإن قلتم: لا، فهل وقع الإجماع على التحريم، وما هو

الحكم فيما لم يَنُص الكتاب والسنة على تحريمه، ولا انعقد عليه الإجماع، وهل

للقياس مدخل في هذا الباب؟ أفيدونا مأجورين.

(3)

وما قولكم - حفظكم الله وأبقاكم - في ضمانة الحياة، هل يجوز في

شرعنا الشريف الجنوح إليها؟ وما الدليل على عدم الجواز لو فرضنا قولكم به؟

فإن سبق لكم في هذا كلام في المنار أو غيره، فالمأمول من فضلكم عدم إحالتنا

عليه، والمكرر يحلو، جزاكم الله عن هذه الأمة خيرًا، آمين.

...

...

... السيد جعفر بن شيخ السقاف

(ج1 نبش المقابر وجعلها للمصلحة العامة)

المشهور في كتب الفقه أن المقابر المسبلة يحرم البناء فيها، سواء كان المبني

قبة أم بيتًا أم مسجدًا ويجب هدمه، قال ابن حجر الهيتمي: حتى قبة إمامنا الشافعي

التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين

الرفع للإمام. وقال: إنه لا يجوز زرع شيء فيها؛ لأنه لا يجوز الانتفاع بها بغير

الدفن.

قال الشمس الرملي: وقد أفتى جماعة من العلماء بهدم ما بني فيها، ويظهر

حمله على ما إذا عرف حاله في الوضع، فإن جهل ترك حملاً على وضعه بحق،

كما في الكنائس التي نقر أهل الذمة عليها في بلدنا، وجهلنا حالها، وكما في

البناء الموجود على حافة الأنهار والشوارع، وصرح في المجموع بحرمة البناء

في المسبلة، قال الأذرعي: ويقرب إلحاق الموات بها؛ لأن فيه تضييقًا على

المسلمين بما لا مصلحة ولا غرض شرعي فيه بخلاف الإحياء ا. هـ وتأمل تقييده

الحرمة بالتضييق بما لا مصلحة فيه، وهل يعمل بمفهومه من أنه إذا كانت هناك مصلحة عامة وامتنع التضييق باستبدال تلك المقبرة بغيرها فإنه يجوز.

وأما نبش القبور، فإن كان قبل البلى حرم إلا لضرورة وعد الفقهاء منها

الدفن بغير غسل، أو في أرض مغصوبة، أو ثياب مغصوبة، أو لغير القبلة أو

وقع في القبر مال، وغير ذلك، قال الرملي في النهاية أما بعد البلى عند من مر

(أي أهل الخبرة بتلك الأرض) فلا يحرم النبش، بل تحرم عمارته وتسوية ترابه

عليه، إذا كان في مقبرة مسبلة؛ لامتناع الناس من الدفن فيه لظنهم عدم البلى.

وقال الشعراني في الميزان الكبرى: (واتفقوا على أنه لا يجوز حفر قبر

الميت؛ ليدفن عنده آخر إلا إذا مضى على الميت زمن يبلى في مثله ويصير رميمًا،

فيجوز حينئذ، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: إذا مضى على الميت حول،

فازرعوا الموضع اهـ.

والشافعية صرحوا بمنع زراعة المقبرة المسبلة والموقوفة، كالبناء عليها

وتشريف القبور فيها؛ لأن ذلك يمنع من الانتفاع.

وفي كتاب (كشف القناع عن متن الإقناع) من كتب الحنابلة المعتبرة؛ أن

البناء على القبر مكروه، وفي المسبلة أشد كراهة، وعن الإمام أحمد منعه في وقف

عام، ثم قال ما نصه: وإذا صار (الميت) رميمًا جازت الزراعة وحرثه (أي

موضع الدفن) وغير ذلك؛ كالبناء عليه، قاله أبو المعالي. والمراد (أي بقول أبي

المعالي) : تجوز الزراعة والحرث ونحوهما إذا صار رميمًا (إذا لم يخالف شرط

الواقف لتعيينه الجهة) بأن عين الأرض للدفن، فلا يجوز حرثها ولا غرسها. اهـ.

المراد منه، ثم ذكر جواز نبش قبور المشركين؛ ليتخذ مكانها مسجدًا؛ لأن موضع

مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان مقبرة لهم؛ فاشترى الأرض، وأمر بنبشها

وجعلها مسجدا، وكذا إذا كان فيها مال. وعبر في المنتهى من كتبهم بقوله: (ويباح

نبش قبر حربي لمصلحة أو لمال فيه) .

هذا ما رأيت أن أورده من كلام الفقهاء، والمذاهب فيه متقاربة، ولا أذكر

نصًا صريحًا عندهم في الواقعة، وقد رأيت ما ذكره بعضهم من المصلحة،

وجمهورهم على أن المقبرة الموقوفة أو المسبلة ليس لأحد أن يتصرف فيها بغير

الدفن، حتى إنهم منعوا أن يحفر الإنسان فيها قبرًا لنفسه أو لغيره من الأحياء؛

ليدفن فيه عند الموت، ومن الفقهاء من يرى أنه يجوز التصرف في الوقف

بالاستبدال، وبما هو أقرب إلى مقصد الواقف، والتصرف في المسبلة أهون،

وروي عن الإمام أحمد جواز استبدال مسجد بمسجد للمصلحة، واحتج بأن عمر

أبدل مسجد الكوفة القديم بآخر، وصار الأول سوقًا، وجوز أن يباع ويبنى بثمنه

غيره للمصلحة، ولو في مكان أو بلد آخر.

أما الكتاب فلا ذكر فيه لهذه المسألة، والسنة كذلك، إلا أنه ورد فيها مما

يتعلق بالمسألة حديث بناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في مكان كان مقبرة،

وتقدمت الإشارة إلى ذلك في كلام الفقهاء، وحديث جابر عند البخاري والنسائي

قال: (دفن مع أبي رجل فلم تطب نفسي حتى أخرجته فجعلته في قبر على حدة.

قال بعض العلماء: وفيه دليل على أنه يجوز نبش الميت لأمر يتعلق بالحي،

أي على رأي من يعد فعل الصحابي حجة، وهو خلاف ما عليه الجمهور، ولو

كان لهم عناية بالاحتجاج لهذه المسألة، لقالوا: إن هذا العمل مما لا يخفى، وقد

أقره الصحابة عليه، فكان إجماعًا، وكم قالوا مثل ذلك.

والذي أراه أن هذه المسألة كسائر المسائل التي لا نص فيها عن الشارع ترد

إلى أولي الأمر من المسلمين، وهم رءوس الناس وأصحاب العلم والمكانة فيهم،

فيتشاورون فيها، ويقررون ما يرون فيه المصلحة للمسلمين، فإذا رأوا المصلحة

في استبدال مقبرة أخرى بها استبدلوا، ولهم أن ينقلوا حينئذ رمم الموتى ويدفنوها

في المقبرة الجديدة، وإلا فلا. وأما إذا أكرهتهم الحكومة على ذلك، فالأمر ظاهر

أنهم يكونون معذورين.

(ج 2 خضاب اللحية وحلقها)

أما خضاب اللحية وكذا غيرها فهو مستحب، وقد ثبت في الأحاديث

الصحيحة الأمر به؛ كحديث أبي هريرة في الصحيحين: (إن اليهود والنصارى لا

يصبغون فخالفوهم) وهناك أحاديث أخرى، وفيها تصريح بالخضاب بالحمرة

والصفرة والحناء والكتم وهو - بالتحريك - نبات بالبادية خضابه أصفر، وإذا مزج

بالحناء جاء لون الشعر بين السواد والحمرة. وخضب النبي صلى لله عليه وسلم كما

صححه النووي والحسن والحسين وكثير من كبراء الصحابة، وكره بعض

العلماء الخضاب؛ لما ورد من وصف الشيب بالنور، وقال بعضهم: يتبع عادة

بلده؛ لأن هذه المسألة من العادات لا من العبادات، ولكن آداب السلف أعلى،

فينبغي إيثارها.

قال علي القاري في الشمائل: ثم إن القائلين باستحباب الخضاب، اختلفوا

في أنه يجوز الخضب بالسواد والأفضل بالحمرة والصفرة، فذهب أكثر العلماء إلى

كراهة الخضاب بالسواد، وجنح النووي إلى أنها كراهية تحريم، وأن من

العلماء من رخص فيه للجهاد ولم يرخص في غيره، واستحبوا الخضاب بالحمرة

أو الصفرة؛ لحديث جابر قال: أتي بأبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

يوم فتح مكة، ورأسه كالثغامة بياضًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

غيروا هذا، واجتنبوا السواد أخرجه مسلم ثم قال: والثغامة بضم المثلثة وتخفيف

المعجمة نبات شديد البياض زهره وثمره، ولحديث أبي ذر رفعه (إن أحسن ما

غيرتم به الشيب الحناء والكتم) أخرجه الأربعة وأحمد وابن حبان وصححه

الترمذي، وتقدم أن الصبغ بهما يخرج بين السواد والحمرة. اهـ.

أقول: حديث مسلم في أبي قحافة رواه أحمد من حديث أنس بلفظ (ولا

تقربوا السواد) ، وزاد في الفردوس يعني أبا قحافة، فالنهي في الحديث خاص به،

والسواد للشيخ الهرم يستقبح. وفي الباب حديث ابن عمر عن الطبراني والحاكم

(الصفرة خضاب المؤمن والحمرة خضاب المسلم والسواد خضاب الكافر) .

والحديث منكر كما قال الحافظ الذهبي، وقال الهيتمي: فيه من لم أعرفه. وحديث

ابن عباس عند أبي داود والنسائي (سيكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا

السواد كحواصل الحمام لا يجدون رائحة الجنة) ، زعم العراقي أن إسناده جيد،

ولكن قال ملا علي القاري: في إسناده مقال، ولو كان مما يحتج به لجزموا

بالتحريم، وحديث أبي الدرداء (من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة)

قال علي القاري: إسناده لين اهـ. والصواب أن ضعفه أشد من ذلك، ولا يصح

في هذه الحنيفة السمحة، مثل هذا الوعيد فيما لا ضرر فيه في دين ولا نفس ولا

عرض ولا عقل ولا مال، وهي الكليات الخمس للمحرمات في الإسلام. على أن

هذه الأحاديث الضعيفة معارضة بمثلها، وبما هو أقوى كحديث الأمر المطلق

بالصبغ في الصحيح، وحديث صهيب عند ابن ماجه (إن أحسن ما اختضبتم به

لهذا السواد، أرغب لنسائكم فيكم، وأهيب لكم في صدور عدوكم) ؛ ولأجل

التعليل الثاني، قال بعض العلماء: إن كراهة الخضاب بالسواد، تنتفي بنية الجهاد

أي: لمن هو من أهله، وحملوا على ذلك ما روي عن بعض السلف من

الاختضاب به، ومنهم ابن عمر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، وما ورد

من تعليل كراهة السواد؛ لكونه كان من عادة الكفار، يفيد زوال الكراهية بانتفاء

اختصاصهم بذلك، وتتجه الكراهية الشديدة بل التحريم إذا كان في الخضاب غش

محرم.

وأما حلق اللحية فهو مكروه، فإن من آداب السنة قص الشارب وإعفاء اللحية،

وفي ذلك عدة أحاديث في الصحيحين والسنن، وقد علل ذلك فيها؛ بمخالفة

المشركين والمجوس واليهود والنصارى، وذلك أن الأمم تتميز بآدابها وعاداتها

وأزيائها، وإنما يتشبه الضعيف بالقوي، والواطئ بالعلي، وقد يفضي إسراف

الضعيف في التقليد والتشبه إلى ضياع استقلاله، وتمكين من يتشبه بهم ويقلدهم من

التصرف بجميع أمره، فلا يقولن قائل: إن هذا من أمور العادات لا من أمور الدين،

وقد فقه حكمته وفائدته للمتبعين، وأشهر الأحاديث في ذلك حديث ابن عمر

مرفوعًا (خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفروا اللحى) رواه الشيخان، وإذا

زال الاختصاص زال معنى التمايز، وقد صار بعض المسلمين يعفي لحيته تشبهًا

بالإفرنج. وأما سؤال السائل في هذا المقام عن العمل؛ بما لم يرد فيه كتاب ولا

سنة ولا إجماع، فقد أشرنا إلى جوابه بالإجمال في الجواب الأول، ويراه مفصلاً

في تفسير هذا الجزء من المنار وما قبله.

(ج 3 ضمان الحياة)

لم يذكر السائل كيفية هذا الضمان ولا عقده، والمشهور أن هذا عن العقود

التي تشبه الميسر (القمار) ؛ في كون الذي يعطي المال لشركة الضمان، لا

يعطيها إياه في مقابلة عمل تعمله له أو منفعة تسديها إليه، وإنما يرجو بذلك أن

تأخذ ورثته منها أكثر مما أعطى إن هو مات قبل المدة المعينة، وجمهور الفقهاء

يصرحون بأن مثل هذا العقد باطل ومحرم؛ لما فيه من إضاعة المال الواجب

حفظه، وعدم بذله إلا فيما فيه منفعة دينية أو دنيوية معلومة أو مظنونة، وليست

كل العقود التي يحكم الفقهاء ببطلانها محرمة دينيًا فإنهم قد يشترطون شروطًا

اجتهادية، لا يحكم قاضيهم ولا ينفذ أميرهم الحكم إلا إذا تحققت في العقد، وإلا لم

يكن في ترك الشرط منها مخالفة لأمر الله ورسوله، وقد صرح بعض الفقهاء بحل

جميع العقود والشروط التي يتعاقد الناس عليها، ويشترطونها إذا لم تكن مخالفة

للكتاب والسنة الصحيحة، وهذا هو الصواب. وقد ذكرناه في المنار غير مرة،

وربما نفصل القول فيه في وقت آخر تفصيلاً.

_________

ص: 29

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جمعية الدعوة والإرشاد

{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ

عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 46) .

أشهد الله وملائكته والصالحين من عباده؛ بأنني سعيت إلى إنفاذ مشروع

الدعوة والإرشاد في القسطنطينية، وأنا أعتقد اعتقادًا راسخًا لا زلزال فيه ولا

اضطراب؛ أنه أنفع ما يخدم به دين الإسلام في نفسه، وأنه أقرب الطرق لارتقاء

المسلمين في دينهم ودنياهم، وأن البلاد العثمانية ستكون هي التي تجني بواكر

ثمراته، وأن سيكون من هذه الثمرات ائتلاف الشعوب العثمانية وتعاونها على

ترقية البلاد في العلوم والآداب والثروة والعمران، وشدة الاتحاد بالدولة، ومنع

الفتن والثورات الداخلية؛ لأن المرشدين للعامة إذا كانوا من العلماء الأتقياء الخطباء،

يكون تأثيرهم أقوى من كل تأثير.

سعيت إلى إنفاذ المشروع هناك، فرأيت جميع العقلاء، حتى من غير

المسلمين متفقين على نفعه وفائدته، وكونه لا يحل محله سواه، حتى إن جريدة

صباح ولاتوركي أثنتا عليه وهما لغير المسلمين، ولكن تصدى لمقاومته رجلان من

المسلمين أحدهما من رجال الحكومة وجمعية الاتحاد والترقي والآخر من المبعوثين

قاوماه في الباطن، وهما يدعيان المساعدة عليه في الظاهر. فأما رجل الحكومة

والجمعية فلا أصرح باسمه الآن، ويعرفه جميع أعضاء جمعية العلم والإرشاد التي

أسسناها هناك، وأكثر أهل البصيرة في الآستانة من العلماء وغيرهم. وأما

المبعوث فهو عبيد الله أفندي مبعوث أزمير، وصاحب الجريدة المسماة بالعرب.

أقمت في الآستانة سنة كاملة كما علم قراء المنار، ومعظم أعمالي في مصر

معطلة، ثم عدت ولا زال يبلغني من بعض أصحاب الشأن في حكومتها أنهم

يريدون تنفيذ المشروع الذي وافقوا عليه فيها، وعن غيرهم أنهم لا يريدون ذلك،

وهذا ما حملني على السعي لتنفيذه هنا بأوسع وأكمل مما وافقوني عليه هناك.

لا يختلف اثنان في أن أول ما يبدأ به في مثل هذا العمل هو مكاشفة من

يرجى منهم القيام به؛ ودعوتهم إلى الاجتماع والتشاور فيه، وهذا ما بدأت به وقبل

أن يتم اختيار الأفراد الذين أحببت أن يكونوا هم المؤسسين. قامت جريدة العلم

التي هي لسان حال الحزب الوطني بمصر ترجف بالمشروع، وتلبس على الناس

أمره، وباتفاق محمد بك فريد رئيس الحزب والشيخ عبد العزيز شاويش رئيس

تحرير جريدة العلم على مقاومته، فكان مثل خذلان المسلمين لأنفسهم ولدينهم

بمصر والآستانة واحدًا.

كانت جريدة العلم زعمت أنه يوجد بمصر جمعية تدعى جمعية الاتحاد العربي

غرضها فصل البلاد العربية من الدولة العثمانية، وإقامة خليفة عربي فيها تحت

حماية الإنكليز، وأنها تعمل أعلامًا مطرزة لترسلها إلى البلاد العربية، ثم مزجت

مشروع الدعوة والإرشاد بتلك الأوهام، وأطلقت القول في ذم العرب.

خرق في السياسة وسعاية للإيقاع بين الشعبين الكبيرين المقومين للأمة

العثمانية؛ وهما العرب والترك، عن جهل أو علم، فالشعب العربي أكثر عددًا

وأوسع بلادًا، وقيمته وقيمة بلاده المعنوية في هذه الدولة أعظم من كل شيء،

وهذا الطعن فيه يتضمن الطعن في الدولة نفسها، كما نعلم ذلك من العهد الحميدي

المظلم الذي كان يروج فيه مثل هذه السعايات والوشايات الوهمية؛ التي كانت

جريدة اللواء ترجف بها.

ليس هذا المقام بمقام البحث في هذه المسألة، وإنما ذكرتها لأبين أن جريدة

العلم بنت عليها الطعن والإرجاف في مشروع الدعوة والإرشاد، وجعلته تابعًا لها

ووسيلة إليها، وهو المشروع المقدس من أدناس السياسة وأهلها المفسدين، وكان

المغرور بما أرجف به، كان يتوهم أنه بإرجافه يقضي على هذا المشروع ويقتله

وهو جنين حتى لا يطمع أحد في وجوده فيعمل له؛ وفاته أن المخلصين لا يبالون

من رماهم بالريبة، وأكل لحومهم بالغيبة، ولا يثنيهم عن عملهم الإفك والبهتان،

وإنما يزيدهم ذلك إيمانًا وعزمًا، ويقولون حسبنا الله ونعم الوكيل.

وها نحن أولاء نسجل ما كتب في جريدة العلم مع الرد عليه؛ ليكون من مادة

تاريخ هذا المشروع الجليل، وللزمان الحكم الفصل في إظهار الحقائق للعالمين،

وإبطال أباطيل المبطلين، وإلى الله المصير والعاقبة للمتقين.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 35

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المقالة الأولى لجريدة العلم

نشرت جريدة العلم بعد الذي أشرنا إليه في المقدمة المقالة الآتية في عددها

205 الذي صدر في 8 المحرم، وهذا نصها:

(مدرسة التبشير الإسلامي)

ما وراء الحجاب

إن فكرة إرسال مبشرين بالإسلام في أطراف الأرض؛ لنصح العامة،

وتمكين عقيدة التوحيد في نفوس أهل الشرك، قد عرضت في العهد الأخير للأستاذ

المرحوم الشيخ محمد عبده، ولقد سمعناه يقول: إنه لولا حكم عبد الحميد ووساوسه

لعرض على الدولة العلية اتخاذ الآستانة التي هي دار الخلافة مقرًّا لتلك المدرسة

الدينية.

مات الشيخ محمد عبده، ودالت دولة عبد الحميد، وحل الدستور والعدل

والعقل محل الفوضى والظلم والجنون، فخطر للشيخ رشيد فيما نظن تحقيق أماني

أستاذنا المرحوم، فذهب إلى دار السعادة، وأفضى بمشروعه إلى ذوي الحل والعقد

هناك، فرحبوا به لأنه من الضرورات اللازمة للعالم الإسلامي، وقد تمكنت

الجهالة بأصول الإسلام من نفوس عامة المسلمين وخاصتهم، حتى إن أحدهم ليسمع

آي كتاب الله أو شيئًا من سنة رسوله المصطفى، فلا يخيل إليه إلا أنها بدع أو

مفتريات تلصق بالدين!

رحب رجال الدولة بهذا المشروع، وأرادوا أن يحلوه محله الطبيعي، بجعله

تحت رعاية شيخ الإسلام الذي له دون سواه الإشراف على المعاهد الدينية، فأبى

ذلك صاحب المشروع، وزادهم نفورًا منه فيما يقولون ما اتصل بهم (إن صدقًا

وإن كذبًا) من إفراطه في الاشتغال بالمسألة العربية، وإغراقه في التحرش

بالأتراك، لقد كان يبلغهم ذلك فيظنون بالشيخ الظنون، ويخشون مغبة تسليمه مقاليد

تلك المدرسة، فأبوا إلا أن تلحق رأسًا بالمشيخة، وهم الآن فيما نعلم يشتغلون

بإقامتها واختيار المعلمين الصالحين لها، كما أنهم مشتغلون بوضع برامجها

وميزانيتها ونظامها، وربما افتتحت في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى.

ولقد نقل إلينا من الآستانة العلية أن الشيخ رشيد رضا لم يكد ييأس من

استقلاله بأمر تلك المدرسة حتى سارع إلى الاستعانة ببعض ذوي السلطان من

العرب؛ لينشئوا مدرسة للتبشير عربية، ويدور في الأندية من الإشاعات والأقاويل

ما لا يسعنا إلا استبعاده.

فمن ذلك أن جمعية الاتحاد العربي هي التي تسعى وراء ذلك في الخفاء،

وتريد أن توجد تلك المدرسة لتخرج في الظاهر مبشرين بالإسلام، وفي الباطل

مبشرين بدعوتهم الخصوصية إلى مناهضة الأتراك والاستبداد بالوظائف، ونحو

ذلك من الأغراض الحقيرة.

ومن الأقاويل أن الموعز بذلك هم الإنكليز، يردون أن يبلغوا بذلك ما يتمنونه

من تفويض دعائم المملكة العثمانية - خلَّدها الله - ليقيموا بدلها خلافة عربية،

يضعونها في أيدي عباد الشهوات والأموال، حتى يتم لهم الاحتكام المطلق في العالم

الإسلامي - لا قدر الله - كما تم لدولة المماليك، الذين سخَّروا الخلفاء في عهدهم

لبلوغ مآربهم، وقصورهم على الخطبة والصلاة على الجنائز، والتصدر في

المواكب والمجالس.

ولقد ظلت الخلافة الإسلامية في ذلك التعس والانحطاط، حتى قيَّض الله لها

آل عثمان فرفعوا من شأنها، وأعلوا من كلمتها، ودافعوا عن بيضتها. فالإنجليز

يريدون اليوم بتشجيع تلك العصبة الغوية الغافلة؛ أن يعيدوا للخلافة الإسلامية ذلك

العهد الذي كان شرًّا ووبالاً على العالم الإسلامي جميعه، فيتخذوا من تلك العصبة

خليفة، يقيمون به دولة سلطانها الأعظم وخاقانها الأفخم الملك جورج الخامس،

ويؤسسون ملكًا يكون حاكمه العامل السير إدوارد جرتي وكعبته المقدسة لندن.

ومن الإشاعات المتناقلة أيضًا أن القائمين بهذا المشروع مخلصون، لا

يريدون إلا الخير للعالم الإسلامي، ولكنهم مع ذلك يخطئون في عدم أخذهم بالحزم

من الأمور؛ إذ استهانوا بما يحف بعملهم هذا من الشبهات، وما يعتوره من الشكوك،

ويقول هؤلاء: إنه كان الأجمل أن يتربص بالأمر قليلاً حتى تقيم الدولة العلية

مدرسة الآستانة، فتلحق مدرسة القاهرة بها، أو أن يكتفى بتلقين تلاميذ الأزهر

جميع ما يلزم المبشرين من فنون الوعظ وأساليب الإرشاد، وإذا علمنا أن برنامج

الأزهر أمثل الأشياء وأشبهها بما يرمي إليه ذلك المشروع، نعلم أن زيادة مادة أو

مادتين على ما احتواه بالفعل كافية لجعل الأزهر تلك المدرسة التي يريدونها،

ويسعون إلى إقامتها، دون أن يكون من وراء ذلك مجلبة للظنون ومثار للتهم، وإذا

ارتأى بعض القائمين بهذا المشروع عدم كفاءة علماء الأزهر لتدريب طلاب التبشير

وتمرينهم على هذا الفن الجديد، فليتقدم بنفسه: إما متطوعًا أو مأجورًا ليقوم في

الأزهر بهذا الأمر، وليكون له في العاقبة جميل الشكر وجزيل الأجر.

هذا ما رأيناه أن نقدمه من النصائح للقائمين بهذه الحركة الجديدة، ناصحين

للمخلصين منهم أن يتجنبوا مواطن الشبه، وألا يساعدوا العاملين على التحرش

بدولتهم، المناهضين لإخوانهم العثمانيين، المساعدين للدسائس الأجنبية،

المروجين للفتن الداخلية، فليتقوا الله في دينهم، وليتقوا الله في جامعتهم، وليتقوا

الله في أنفسهم، فإنما هلك من قبلهم بهذا الطيش والرعونة، وبالكدح إلى نيل

مآربهم السافلة الحقيرة.

وإذا كان الأتراك فيما تزعمون؛ قد اغتالوا ما تسمونه بالوظائف واستبدوا بها،

فإنما هم إخوانكم في الدين وشركاؤكم في الجنسية.

وإذا كانوا أصابوكم بشيء من الأذى كما تتقولون، فقد قال المثل قديمًا: أنفك

منك ولو كان أجدع.

فاتقوا الله، واحذروا أن تنصب عليكم داهية ككسف الليل المظلم، لا تجدون

منها مخرجًا، ولا ترجون بعدها فرجًا.

إلا إنني لا أخاف على الدولة العلية من رعاياها البلغاريين ولا اليونانيين ولا

الأرمن ولا العربي المسيحي، وإنما أخاف عليها العربي المسلم يطمح إلى الوظائف،

ويعمد إلى كتاب الله، فيستفز العامة بما يؤول من آياته ويحرف من بيناته، ولولا

نزعات الشياطين، لكان العالم الإسلامي كما أمره الله أمة واحدة، ولقام بدل

المفرقين منهم أمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحفظ

حدود الله، وتصلح بين الناس، حتى لا يحب أحدهم لأخيه إلا ما يحب لنفسه،

ولكن {هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ

يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} (الأنعام: 65) .اهـ.

***

(المنار)

هذا أول ما كتبه الشيخ عبد العزيز شاويش في جريدة العلم، التي هي لسان

حال الحزب الوطني؛ إرجافاً بالمشروع من غير مشاورة أعضاء مجلس إدارة

الحزب ولا لجانه، ولكن بأمر محمد بك فريد. وقد جعل في الكلام منافذ لأجل

الخروج منها، إذا اضطر إلى الرجوع عن مقاومة هذا المشروع الإسلامي الجليل،

فبنى كلامه على (أقاويل) افتجرها، وقال: إنه يستبعدها، ورأيت بعدها بعض

أصحابه يقصدون إلى محادثتي في المشروع، ويمزجون كلامهم بالتعريض ثم

التصريح باستحسان دعوتي إياه؛ ليكون من المؤسسين، ويذكرون من الرأي في

الاستفادة منه ما يذكرون، وقد ذكر بعضهم من أمره وحاله في عمله الذي هو فيه ما

لا نذكره، فقلت لهم: إن هذا المشروع يجب أن يكون بعيدًا من السياسة والمشتغلين

بها، فلهذا السبب ولأسباب أخرى لا يمكن أن يكون الشيخ شاويش من المؤسسين

لهذا العمل والمديرين له الآن، وقد كنت عازمًا على استشارته فيه وطلب مساعدته

عليه، قبل أن يتهور في الإرجاف به وتشكيك الناس فيه. أما وقد فعل فعلته، فقد

أغنانا الله عن مساعدته.

بنى الشيخ شاويش إرجافه على الأقاويل المتفجرة، وهو يعلم أن جماهير

العامة لا يلتفتون إلى كلمة الأقاويل المستبعدة، وكلمة (إن صدقًا وإن كذبًا) وإنما

يأخذون من جملة الكلام أن هذا المشروع ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله

العذاب؛ لأنه سيفصل البلاد العربية من جسم المملكة العثمانية، ويؤسس فيها

خلافة لمملكة إنكليزية! ! بخ بخ لهؤلاء الزعماء الخادمين للدولة بمثل هذه الدسائس

التي كانت شر السيئات الرابحة في سوق السياسة الحميدية.

كتب الشيخ الشاويش ما كتبه، ونحن في ابتداء دعوة الفضلاء المخلصين

للإسلام إلى العمل، فعلمنا أن في الناس من ضعاف الرأي ومقلدة الجرائد الذين هم

أتباع كل ناعق، من يصدق كل ما ينشر فيها لعجزهم عن تمحيص الكلام، والتمييز

بين الممكن والمحال، فلأجل هذا كتبت المقالتين الآتيتين لأنشرهما في الجرائد

إبطالاً لإرجاف جريدة العلم، وبيانًا للمشروع في نفسه ليعلم حقيقته من لم يعلم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 37

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المقالة الأولى التي كتبت

ردًّا على جريدة العلم

التي يصدرها الحزب الوطني

(مشروع العلم والإرشاد في الآستانة)

(والدعوة والإرشاد بمصر)

] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ [[1]

ذكر هذا المشروع في بعض الجرائد محفوفًا بأوهام غريبة عنه، ونشرت

جريدة (العلم) مقالة افتتاحية في العدد الذي صدر في ثامن المحرم، أرجف كاتبها

فيها بالموضوع إرجافًا مبنيًّا على أقاويل لا يجزم بصحتها، وكان يسهل عليه أن

يراجعني أو يراجع المنار ويرى فيه ما كتبته عن المشروع، وأنا في الآستانة بين

أولي الأمر وأهل الحل والعقد، وكذا ما كتبته جرائد الآستانة التركية والعربية من

المقالات في إزالة سوء التفاهم بين العرب والترك، والتأليف بينهم بحجج الإسلام

القيمة، وآيات السياسة البينة.

فإن كان لم يتح له الرجوع إلى صاحب المشروع، ولا مراجعة ما كتبه فإن

صاحب المشروع يكتب بيانًا وجيزًا يعلم منه خطأ تلك الأقاويل التي بنى عليها كلامه،

لعله يرجع عنه، وينقض تلك الشكوك التي أقامها حول أفضل وأقدس عمل ديني

اجتماعي، يخدم به المسلمون دينهم وهو الدعوة إلى الإسلام، ودفع شبهات

المشككين فيه والمنفرين عنه، وهو فاعل- إن شاء الله تعالى - إن كان

حسن النية فيما أخطأ فيه من قبل.

ليست فكرة الدعوة وبث الدعاة إلى الإسلام بالفكرة التي حدثت عندي في هذه

الأيام، فيقال: إنني أريد أن أخدم بها جمعية سياسية جديدة؛ إن صح ما أذاعته جريدة

العلم ولم نسمعه إلا عنها من خبر هذه الجمعية، وإنما هي أمنية قديمة، صارت

رغيبة ثم اقترنت بها العزيمة بعد تمهيد طويل، وإليك البيان بالإيجاز:

كنت في أيام طلبي للعلم في طرابلس الشام، أتردد بعد الخروج من المدرسة

إلى مكتبة المبشرين الأمريكانيين، أقرأ جريدتهم الدينية، وبعض كتبهم ورسائلهم،

وأجادل قسوسهم ومعلميهم، وأتمنى لو كان للمسلمين جمعية كجمعيتهم، ومدارس

كمدارسهم، ولما هاجرت إلى مصر وأنشأت المنار، قويت عندي هذه الفكرة،

وأحببت أن أنبه المسلمين لها، فكتبت في جمادى الأولى من سنة 1318 مقالتين

عنوان إحداهما (الدعوة حياة الأديان)، وعنوان الثانية:(الدعوة وطريقها وآدابها)

ونشرتهما في المجلد الثالث من المنار، وكتبت مقالات أخرى في الرد على كتب

وصحف دعاة النصرانية الذين يطعنون في الإسلام، عنوانها العام: (شبهات

النصارى وحجج المسلمين) ، وكنت أقصد بذلك إعداد النفوس للقيام بهذه الفريضة؛

فريضة الاجتماع والتعاون على الدعوة، أي أنني بدأت بالكتابة في ذلك منذ عشر

سنين أو أكثر.

وفي سنة 1323 توجهت نفسي للسعي والعمل، فكتبت في المنار مقالة نوهت

فيها بالدعوة، وأشرت إلى ما تحتاج إليه من الاستعداد، وبحثت فيها عن دعوة

اليابانيين إلى الإسلام، وكان قد شاع أنهم يريدون عقد مؤتمر ديني للبحث عن أمثل

الأديان وأجدرها بالاتباع ليتبعوه، وبدأت بالسعي لتأسيس جمعية الدعوة، يكون أول

عملها إنشاء مدرسة لتخريج الدعاة، وجعلت تلك المقالة تمهيدًا لذلك، فكان لها

تأثير حسن في الأقطار الإسلامية شرقيها وغربيها، وبدأت المكاتبة في ذلك بيني

وبين أهل الغيرة من الصين إلى بلاد المغرب، وقد أشرت إلى ذلك في الجزء

الأول من المنار الذي صدر في المحرم سنة 1324 أي: منذ خمس سنين.

كاشفت يومئذ بهذا الأمر كثيرًا من أصدقائي بمصر، ورغبت إلى صاحب

الدولة رياض باشا أن يكون رئيس الجمعية التي تقوم بالاكتتاب لتنفيذ العمل، وإلى

محمود بك سالم أن يكون السر لها، وإلى حسن باشا عاصم - رحمه الله تعالى -

ومحمد بك راسم، وغيرهما من الفضلاء أن يكونوا أعضاء مؤسسين،

واجتمع بعض من دعوتهم للمذاكرة في ذلك مرارًا في إدارة المنار.

وشاورت يومئذ أحمد مختار باشا الغازي في العمل فاستحسنه هو وولده

محمود باشا، ووعدني ولده بالاشتراك بمائة جنيه في السنة عدا ما يدفعه من نفقات

التأسيس، ولكن عرض في أثناء السعي دعوة مصطفى كامل بك الغمراوي إلى

تأسيس مدرسة جامعة مصرية، وتلت ذلك العسرة المالية في مصر، فوقف

الاكتتاب للمدرسة الجامعة، ووقف أيضًا سعيي إلى مشروع الدعوة.

ثم حدث في سنة 1326 الانقلاب العثماني الذي كنا نسعى إليه في الخفاء، ثم

خلع السلطان عبد الحميد الذي كان مانعًا في بلاده من كل علم وعمل نافع يجب

على المسلمين القيام به مجتمعين، فعزمت أن أجعل مشروع الدعوة والإرشاد في

الآستانة لأسباب أهمها أمران: (أحدهما) أنني أرجو من نجاحه ومساعدته والثقة

به بالآستانة في ظل الدستور، ما لا أرجوه في مصر التي كنت أتوقع فيها مقاومة

الحزب الوطني، كما كنت أحذر مقاومته في طلب الدستور من السلطان عبد الحميد،

فاشتغل بذلك سرًّا. (وثانيهما) أنني رأيت بلاد الدولة تكثر فيها الفتن باختلاف

العناصر والأديان والمذاهب، وأنني أعلم أن لكل طائفة من النصارى العثمانيين

مدارس دينية تابعة لبطاركهم، على شدة إقبالهم على مدارس دعاة دينهم من الإفرنج،

وأعلم أن المسلمين هم المحرومون من ذلك، فقلت في نفسي: إن تأسيس

المشروع في الآستانة، تكون فائدته الأولى ترقية مسلمي الدولة العلية في دينهم

ودنياهم، والتأليف بينهم وبين أبناء وطنهم، ومنع أسباب الفتن والخروج على

الدولة من أقرب طرقها وهو الوعظ الديني، وبذلك يكون ارتقاء الأمة العثمانية

الاجتماعي والاقتصادي سريعًا، وبه تزيد ثروة الدولة وقوتها.

رحلت إلى الآستانة في أواخر رمضان من سنة 1327، بعد مكاتبة في

المشروع مع بعض معارفي فيها، ومع بعض رجال جمعية الاتحاد والترقي في

سلانيك، ظهر لي منها ميلها إلى مشروعي، حتى إنها سألت عن سفري بلسان

البرق، وتلقتني بالحفاوة في أزمير والآستانة، وقد أقمت في الآستانة سنة كاملة لا

عمل لي فيها إلا السعي لهذا المشروع، ولحسن التفاهم بين العنصرين المقومين

لهذه الدولة وهما العرب والترك اللذان شبهتهما بالعنصرين المكونين الماء أو الهواء،

وقد كتبت في هذه المسألة الأخيرة مقالات، نشرت أكثرها هنالك بالتركية

والعربية في جريدة إقدام، وجريدة كلمة الحق، ثم جريدة الحضارة، ويجدها

القارئ كلها في مجلدي المنار للسنتين الماضيتين.

عرضت المشروع هنالك على وزراء الدولة وكبرائها من رجال جمعية

الاتحاد والترقي وغيرهم، فاتفقت كلمتهم بعد البحث معي في لجنتين: إحداهما

علمية، والأخرى سياسية، على أن يصرف النظر عن البحث في مسألة تخريج

الدعاة إلى الإسلام، وإن تسمى المدرسة المراد إنشاؤها (دار العلم والإرشاد) ،

وجمعيتها (جمعية العلم والإرشاد) . وكان وصل المشروع في وزارة حسين حلمي

باشا إلى حيز التنفيذ؛ إذ قال لي: إن العمل قد تم نهائيًا، فألف الجمعية حالاً،

ونحن نصرف لكم الآن خمسة آلاف ليرة؛ لأجل الابتداء بالعمل، وفي أول السنة

المالية تزيد لكم بقدر الحاجة. ولكن استقالت وزارة حسين حلمي قبل أن نتمكن من

تأليف الجمعية.

ثم استأنفت العمل في وزارة حقي باشا، وقد عرض عليَّ ناظر الداخلية

وناظر المعارف فيها أن آخذ رخصة المدرسة باسمي، وأدع مسألة الجمعية إلى

فرصة أخرى، فلم أقبل، وقلت: يجوز أن أموت بعد مدة قليلة وحينئذ تصير

المدرسة لورثتي، وهم ليسوا أهلاً لهذا العمل، فلا بد من جمعية دائمة.

وقد فوضت إليهم اختيار أعضاء المؤسسين، فاختارهم ناظر المعارف مع

مدير شعبة الإلهيات والأدبيات في دار الفنون من صفوة رجالهم في المشيخة

الإسلامية ومجلس الأمة ونظارات الحكومة، وقد ذكرت أسماءهم في الجزء السادس

من المنار الذي صدر في آخر جمادى الآخرة سنة 1328، ومنهم شيخ الإسلام

الحال (وكان من أعضاء مجلس الأعيان والمدرسين) ومستشار المشيخة، واقترح

بعض الأعضاء أن يكون شيخ الإسلام رئيس شرف للجمعية، فقبلت.

* * *

قال صاحب مقالة جريدة (العلم) في مقالته التي أرد عليها بعد ذكر رحلتي

إلى الآستانة، وعرض المشروع على أولي الشأن ما نصه: (رحب رجال الدولة

بهذا المشروع، وأرادوا أن يحلوه محله الطبيعي بجعله تحت رعاية شيخ الإسلام

الذي له دون سواه الإشراف على المعاهد الدينية، فأبى ذلك صاحب المشروع،

وزادهم نفورًا منه فيما يقولون ما اتصل بهم (إن صدقًا وإن كذبًا) من إفراطه في

الاشتغال بالمسألة العربية، وإغراقه في التحرش بالأتراك، لقد كان يبلغهم ذلك

فيظنون بالشيخ الظنون، ويخشون مغبة تسليمه مقاليد تلك المدرسة، فأبوا إلا أن

تلحق بالمشيخة، وهم الآن فيما نعلم يشتغلون بإقامتها) .ا. هـ

أقول: (1) قول الكاتب إنهم رحبوا بالمشروع - يعني المشروع الذي عبر

عنه بالتبشير الإسلامي - غير صحيح، وإنما رحبت وزارة حسين حلمي باشا

بمشروع تربية المرشدين الذين يكونون وُعَّاظًا ومعلمين للمسلمين؛ لشدة الحاجة

إليهم في بلاد الدولة العلية، وأراد أن ينفذه كما اقترحت من غير أن يكون لشيخ

الإسلام رأي فيه، ولا إشراف عليه.

(2)

لما سقطت وزارة حلمي باشا، بقيت بضعة أشهر أراجع وزارة حقي

باشا، حتى اقتنعت بوجوب تنفيذ مشروع العلم والإرشاد، لا الدعوة والإرشاد،

بواسطة جمعية لا بواسطة شيخ الإسلام، وتأسست الجمعية، وصدقت عليها

الحكومة رسميًّا، وقانونها أو نظامها الأساسي مطبوع في المنار (ج6م13) .

(3)

إن كون المشروع في يد جمعية من خيار رجال العاصمة، ينافي أن

يكون بيدي، فلا محل لخوفهم مني إن صح أنهم سمعوا عني ما ينفرهم، فإن كان

جعل المدرسة تابعة للمشيخة مبنيًّا على عدم الثقة، فإنما ذلك عدم الثقة بالجمعية

التي ألفوها، لا بعضو واحد له فيها صوت واحد، وإن كان هو صاحب المشروع.

(4)

الحق الذي وقع هو أنه لم يقترح أحد من رجال الدولة جعل هذا

المشروع تابعًا للمشيخة، بل كانوا كلهم متفقين على جعل المدرسة من المدارس التي

يسمونها (المكاتب الخصوصية) وعلى أن فائدتها بأن لا تكون من مدارس

الحكومية الرسمية (ولا أزيد على هذا الآن) .

(5)

إننا بعد تأسيس الجمعية وتصديق الحكومة عليها، طلبنا من شيخ

الإسلام أن يستنجز الحكومة ما وعدتنا به من المال، فقال لنا بعد أن ذاكر الصدر

الأعظم واتفق معه على ذلك: اكتبوا ما تريدون من المساعدة، فكتبت صورة مذكرة،

وترجمها كاتب الجمعية العام بالتركية، وأعطيناه إياها، فأمر بتبييضها ثم ختمها،

وأخذها بيده إلى الباب العالي، وبقيت أنا ألح بعرضها على مجلس الوكلاء؛

لأجل تقريرها زمنًا طويلاً حتى عرضت، وبشَّرني شيخ الإسلام وناظر المعارف

بقبولها وصدور القرار الرسمي بمقتضاها.

(6)

كان هذا في شعبان من السنة الماضية، وفي الأسبوع الأول من

رمضان بلغنا شيخ الإسلام صورة القرار الذي قرره مجلس الوكلاء، فإذا فيه أن

المدرسة تكون لها لجنة تحت إدارة ومسؤولية شيخ الإسلام، ولم يطرق سمع أحد من

أعضاء الجمعية هذا الرأي إلا في أوائل رمضان، وهو الشهر المتمم للسنة من

سعيي للمشروع هناك.

(7)

لم أكن أنا الذي اعترضت وحدي على هذه الفقرة من القرار، بل

اجتمعت جمعية العلم والإرشاد بدار الفنون بعد ظهر يوم الجمعة 19 رمضان سنة

1328، وقررت باتفاق الآراء الاعتراض على قرار مجلس الوكلاء، وبلغوا شيخ

الإسلام قرارهم بالكتابة الرسمية، فقال - حفظه الله تعالى: إن الاعتراض في

محله (حقكز وار) أي معك الحق، وأنه سيراجع الباب العالي، ويقترح تعديل

قرار مجلس الوكلاء، وجعل المدرسة (دار العلم والإرشاد) خاصة بالجمعية التي

ألفت لأجلها، وكذلك قال ناظر المعارف ووعد، وقال لي أحمد نعيم بك بابان

العضو في مجلس المعارف وفي مجلس إدارة الجمعية: أظن أن الناظر كتب بالفعل

إلى الباب العالي يقترح تعديل القرار.

* * *

هذا نبأ وجيز من تاريخ المسألة، وهو يدحض جميع تلك (الأقاويل)

و (الإشاعات) التي بني عليها كلامه كاتب تلك المقالة في جريدة العلم، ومنه يعلم

كل من له مسكة من الاستقلال في الفهم والرأي أنه لا مجال للظنون والأراجيف في

هذا المشروع العظيم، ولا في سعي هذا العاجز الضعيف إليه، وهل يعقل أن أترك

عملي الكثير بمصر، وأقيم سنة كاملة في الآستانة، وأخسر من المال والوقت ما لا

غنى لي عنه، إلا لشدة إخلاصي في خدمة ديني ودولتي، كما سبق لي منذ قدرت

على خدمتهما.

أما ما قيل (إن صدقًا وإن كذبًا) من إفراطي في الاشتغال بالمسألة العربية،

فليعلم ذلك الكاتب أنه من الكذب والبهتان، وهو أغرب من اتهام الحزب الوطني

بخدمة الإنكليز في المسألة المصرية وتمهيده السبيل لامتلاكهم مصر. وذلك أن

كتاباتي في محاربة العصبية الجنسية في الإسلام، وفي أخوة المسلمين العامة،

وفي التأليف بين العرب والترك خاصة، منبثة في ثلاثة عشر مجلدًا ضخمًا من

المنار، وفي أربعة مجلدات من التفسير، ولا أطيل في هذه المسألة البديهية، فإنما

غرضي في هذا المقال بيان ما لا بد منه من أمر مشروع الإرشاد في الآستانة العلية،

ليعلم أنه لا مجال للاشتباه فيه، وأن ما تقرر هنالك لا يغني عن إنشاء مدرسة

للدعوة إلى الإسلام هنا.

وسأبين في مقال آخر جوهر المشروع المتفق على إنشائه هنا، وأنه لا مجال

فيه أيضًا للأراجيف والظنون، وأنه لا يعارضه ولا يناهضه إلا عدو للإسلام

والمسلمين، أو حاسد للعاملين، فاصبر إن الله مع الصابرين.

وما سكتنا عن بيان المشروع في الجرائد؛ لأنه سري أو لأن فيه شيئًا سريًّا، وإنما

هو طور التكوين، فمتى تم تكوينه بيناه للناس أجمعين، ولتعلمن نبأه بعد حين.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

فصلت: 33.

ص: 41

الكاتب: محمد رشيد رضا

المقالة الثانية

وهي المقالة التي أرسلتها إلى الجرائد في بيان المشروع ووجه الحاجة إليه

برأي الجماعة التي تسعى معي في تنفيذه.

(مشروع الدعوة والإرشاد في مصر)

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ

وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ

رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) ،

الدعوة إلى الإسلام فريضة، إذا تركها المسلمون يكونون كلهم عصاة لله تعالى

مستحقين لعذابه، وإذا قام بها بعضهم سقط الحرج عن الباقين.

والدفاع عن الإسلام عند ظهور الشُّبَه وإلقاء الشكوك في عقائده وأصوله

فرض أيضًا، فإذا سكتوا عنه حيث يظهر كانوا عصاة لله تعالى مستحقين لعذابه،

وإذا قام به بعضهم وحصلت بهم الكفاية سقط الإثم عن الباقين.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الحاجة من فرائض الكفاية أيضًا،

فإذا سكت المسلمون عنه حيث يترك المعروف من الفرائض والسنن ويظهر المنكر

من البدع والمعاصي، كان جميع المسلمين هناك آثمين مستحقين لعذاب الدنيا

بذهاب عزهم ومجدهم، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، وإذا قام به من

تحصل بهم الكفاية سقط الحرج عن الباقين.

هذه مسائل مجملة مجمع عليها بين المسلمين الذين يعتد بإسلامهم، ولها

تفصيل وجزئيات معروفة في مواضعها من كتب الدين بشروطها وأدلتها.

وقد أهملت هذه الفرائض في زماننا هذا إهمالاً لم يسبق له نظير، كما أن

الحاجة إليها قد اشتدت اشتدادًا لم يسبق له نظير في تاريخ الإسلام.

فشا الجهل بين المسلمين، وكثرت فيهم البدع والخرافات، وقل الوعاظ

والمعلمون الذين يتصدون لإرشاد العامة أو فقدوا (اللهم إلا الدجالين المحتالين على

التجارة بدينهم) ، وانبثت دعاة النصرانية في جميع شعوبهم، يشككونهم في دين

الإسلام، ويطعنون في كتابه المنزل، وفي نبيه المرسل، ويبثون مطاعنهم

بالخطب في المحافل العامة، والتعليم في المدارس الخاصة، والوعظ في الملاجئ

والمستشفيات، وبكتب ورسائل يطبعونها وينشرونها في الناس، وأكثر المسلمين

عوام أميون، لا يميزون بين الحق والباطل ولا بين الصادق والكاذب، مما يعزى

إلى دينهم وإلى علمائهم، ووراء ذلك أموال تبذل للمرتدين، تغر الطامعين الجاهلين.

فصار من الواجب المحتم عليهم في كل البلاد أن يقاوموا هذه الشكوك

والشبهات دفاعًا عن دينهم، وأن لا يكتفوا بالدفاع كما هو شأن الضعيف، بل

يزيدوا عليه تعليم عامة المسلمين حقيقة دينهم، ويدعوا غير المسلمين ولا سيما

الوثنيين إلى هذا الدين القويم، دين العقل والفطرة، المصدق لجميع الرسل،

الجامع بين مصالح الروح والجسد، المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة.

يجب أن تقاوم هذه القوة المهاجمة لهم بمثلها، وأنى لهم مع هذا التخاذل

والتواكل والتحاسد والتباغض أن يأتوا بمثلها.

إن لكل مذهب من مذاهب النصرانية جمعيات دينية غنية بالهبات والتبرعات

ولهذه الجمعيات فروع، كل فرع منها موجه لتنصير شعب من الشعوب؛ فمنهم

الموجهون لتنصير العرب يتعلمون العربية ويتقنونها أكثر من أهلها، يؤلفون الكتب

بها، ويعلمونها في مدارسهم، وهم منبثون في البلاد العربية والآسيوية والأفريقية،

ومنهم الموجهون لتنصير الفرس، والموجهون لتنصير الترك، والموجهون لتنصير

الهنود، ولتنصير الجاويين

إلخ.

يشعر المسلمون في مصر بالألم والامتعاض عندما يرون جريدة من جرائد

هؤلاء الدعاة، أو كتابًا من كتبهم، أو رسالة من رسائلهم، تطعن في دينهم.

يتألمون لأنهم يعدون هذا إهانة لهم، وقلما يخطر في بال أحد منهم؛ أن بعض

المسلمين ينخدع بها فيشك في دينه أو يخرج منه لأن ضروريات الإسلام معروفة

هنا بين العامة في الجملة، ومعرفتها كافية لرفض كل ما يخالفها والإعراض عنه،

ويزيدهم قلة مبالاة ما يرونه من المطاعن الجديرة بالسخرية؛ كالكتاب الذي نشرته

المكتبة الإنكليزية بمصر، لقسيس إنكليزي ذكر فيه سورة زعم أنها كانت سقطت

من القرآن أو كتمت، وما تلك السورة بسورة، وإنما هي كلام ركيك، تتبرأ منه

الصحافة والبلاغة؛ بل اللغة العربية.

إلا فاعلموا أيها الإخوة، إن هذه الجمعيات قد انتزعت في مصر نفسها أفرادًا

من المسلمين ونصرتهم، ولكنكم لا تشعرون بهم لقلتهم، فماذا ترونها تفعل في غير

مصر من البلاد التي لا يعرف فيها الإسلام كما يعرف بمصر، ولا يوجد فيها من

يدافع عنه كما يوجد في مصر.

جاءني في كتاب من سائح مسلم مشهور بسنغافورة بتاريخ 14 شوال سنة

1328 ما نصه: إني قد ترددت إلى جاوه ومتعلقاتها منذ ثلث قرن، وقد تبين لي

أن دعاة النصرانية قد أضروا بالإسلام وأهله؛ لتغلب الجهل عليهم لمنع الحكومة

الهولندية دخول الدعاة إلى الإسلام، وحجتها أنهم ليسوا علماء بل دجاجلة، وكل

من منعته أو طردته ليس من متخرجي المدارس، ولقد هالني جدًّا ما رأيته في

سياحتي هذه، فإن الداء قد تمكن وفتك بالأهالي فتكًا ذريعًا مهولاً، وبالجملة أقول:

إن المتنصرين سنويًّا من مسلمي جاوه ومتعلقاتها - هندينذرلند - لا يقلون عن مائة

ألف إنسان، وإذا دام هذا، عادت جاوه أندلسًا ثانية (إلى أن قال بعد لوم العرب

الذين هنالك على سكوتهم عن هذا الأمر) ولو وجد عالم له إلمام بفن الدعوة،

وبعض معرفة بلغة أورباوية، وكان ذا عقل واعتدال، وساح في هذه النواحي،

لأوقف هذا التيار الجارف. فكيف لو وجدت بعثة كالبعثات الأوربية.

ثم جاءني منه كتاب آخر جوابًا عن كتاب أرسلته إليه مبشرًا إياه بالسعي

لإنشاء مدرسة لتخريج الدعاة إلى الإسلام، وصل إليَّ في 11 المحرم الحال، وقد

كتب في 24 ذي الحجة الماضي، وفيه ما نصه:

(أما ما ذكرته لكم من فتك دعاة النصرانية بأهل هذه النواحي فصحيح لا

مرية فيه، بل الأمر أشد وأكبر ولا سيما في جزائر تيمور ويتووسليس وبندقيني

وفلفاني ولا قوة إلا بالله، إلى أن قال: أما ما عرفتموه عن عدم سريان سموم

أولئك الأدعياء في الأقطار التي عرفتموها فله أسباب، كلها لا توجد هنا من تصلب

الأهالي، ووجود شيء من العصبية، وقليل من العلماء وبصيص من نور التمدن،

وكثرة قراء المجلات ونحو ذلك) .

(ولو عرفتم ما عرفته عن حال من بهذه الجهات لعجبتم من بقاء عشرات

الملايين على الإسلام مع ما هم فيه من الجهل، وما يعرض عليهم من الإعانات إن

تنصروا) .

(وأسأل الله أن يمدكم بعونه وتوفيقه ليتم لكم إقامة جمعية الدعوة والإرشاد،

ويطيل عمركم حتى تروا ثمرتها ونفعها للإسلام وأهله، وأرى أن لو كاتبتم أهل

الهند ولا سيما رؤساء ندوة العلماء؛ ليمدوا لكم يد المعاونة لكان حسنا) .ا. هـ

لا يوجد قطر من الأقطار الإسلامية إلا وعنده من أنباء هؤلاء الدعاة في بلاده

ما يحرك غيرته الدينية، ويذكره بما يجب عليه لدينه من القيام بمثل ذلك. ولكن

المسلمين أصيبوا بأمراض اجتماعية، حتى صاروا على شدة تمسكهم بدينهم

وغيرتهم عليه أبعد أهل الملل عن التعاون والاجتماع لخدمته، وإذا قام فيهم من

يريد خدمة الإسلام، لا يلقى الخاذلين والمقاومين له إلا من المسلمين، إما من باب

السياسة وفتنها، وإما من باب الحسد، وهم يتهمون غيرهم ولا سيما الأوربيين

بالمقاومة التي كفوهم أمرها، والصديق الجاهل أضر من العدو العاقل.

ولكن حوادث الزمان وأحداثه قد نبهت المسلمين في جميع أقطار الأرض

وحفزت هممهم إلى التعاون على إحياء دعوة الإسلام والدفاع عنه، وإرشاد عامة

أهله إلى ما يجب عليهم في هذا العصر من الاستمساك بآدابه وأعماله، ومباراة

الأمم الأخرى في العلم والمدنية، مع الحكمة والمودة والسلام العام بين أهل الملل.

قد قطع الأوربيون حجتنا بمثل ما نقله السائح عن حكومة هولندة في جاوة،

وما قاله لورد كرومر في بعض تقاريره عن دعاة النصرانية في السودان [1] فلم يبق

لأحد منا حجة في تعصب الأوربيين. وأما من يخافون من حسد جهلة المسلمين

والمارقين منهم، فليعلموا أن هؤلاء لا قوة لهم إلا بالأراجيف وسفه القول، وليس

هذا بعذر شرعي يسقط هذه الفريضة، بل الفرائض التي بيناها في صدر المقال.

هذا العمل لا يمكن أن تقوم به الحكومات؛ لما يحدث فيه حينئذ من فتن

السياسة؛ ولأن الحكومات لا تربي أرواحًا بل عمالاً، ولا الأفراد لضعفهم،

والشرع قد أوجب علينا أن تقوم به مجتمعين بقوله: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى

الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 104) الآية، ولم

يوجد في دين من الأديان التصريح بمثل هذا في افتراض الاجتماع لهذا العمل، وما

يعضده في القرآن الحكيم من الأمر بالتعاون والاعتصام، وقد دلت التجارب على

ذلك في غيرنا من الأمم، فلهذه الأوامر الدينية والأسباب الاجتماعية استخار الله

جماعة من أهل الغيرة من المسلمين المقيمين بمصر، وشرعوا في التوسل إلى

إنشاء مدرسة؛ لتخريج الدعاة إلى الإسلام والمرشدين للمسلمين، وإقامة تلك

الفرائض، وسيعلنون الدعوة إلى التعاون على ذلك عن قريب.

* * *

(مدرسة الدعوة والإرشاد)

نبين للناس أهم ما تقرر بين الجماعة المشتغلة بتأسيس هذه المدرسة بادئ بدء

إلى أن يصدقوا على قانونها فننشره.

(1)

يختار طلاب هذه المدرسة من طلاب العلم الصالحين من مسلمي

الأقطار ويفضل الذين هم أشد حاجة إلى العلم على غيرهم؛ كأهل جاوه والصين،

وما عدا القسم الشمالي من إفريقية.

(2)

المدرسة تكفل لهم جميع ما يحتاجون إليه من الغذاء والمنام والكتب.

(3)

يعتنى بتربيتهم على آداب الإسلام وأخلاقه وعباداته، بحيث يطرد من

المدرسة من ثبت عليه الكذب أو إظهار العصبية الجنسية أو المذهبية أو ارتكاب شيء

من المعاصي، وعلى قيام الليل وصيام أيام من كل شهر، وعلى ذكر الله تعالى وتلاوة

القرآن مع التدبر.

(4)

يعلمون كل ما يحتاج إليه الدعاة من العلوم الدينية؛ كالعقائد والتفسير

والحديث والأحكام على الوجه المؤدي إلى القدرة على إقامة الحجة ودحض الشبهة،

وما يحتاجون إليه من العلوم الرياضية والكونية واللغات لأجل ذلك.

(5)

لا تشتغل المدرسة ولا الجماعة المديرة لها بالسياسة المصرية ولا

العثمانية، ولا سياسة الدول الأجنبية مطلقًا.

(6)

يرسل الدعاة والمرشدون الذين يتخرجون في المدرسة إلى أشد البلاد

الإسلامية حاجة إليهم؛ كجاوه والصين، ثم إلى الشعوب الوثنية، ثم إلى أمريكة

وأوربة من البلاد الكتابية، ولا يرسل أحد منهم إلى الولايات العثمانية؛ لما يترتب

على ذلك من اعتراض غير المسلمين وتهويشهم على الدولة، وإن كان لكل مذهب

من مذاهبهم دعاة في تلك الولايات، وللعلم بأنه سيوجد في الآستانة مدرسة لأجل

تخريج المرشدين لتلك دون الدعاة إلى الإسلام.

(7)

سيبدأ المؤسسون بجمع الإعانات للقيام بهذا العمل، ثم يفتحون باب

الاشتراك الدائم لأجل استمراره، ويرجون نجاح السعي بما يجود به أهل الخير

والبر من الاشتراكات والتبرعات والهدايا والوصايا، والأوقاف التي يرجى أن

توقف على هذا العمل.

(8)

نشرت هذا البيان بعد استشارة المتعاونين على تنفيذ هذا المشروع

واستحسانهم، وسينشر قانون المشروع الأساسي بعد التصديق عليه مذيلاً بأسماء

المؤسسين.

...

...

...

... محمد رشيد رضا

***

(إصرار جريدة العلم على الإرجاف)

أرسلنا المقالة الأولى من هاتين المقالتين إلى جريدة العلم، وعزمنا على أن لا

نرسلها إلى غيرها إذا هي نشرتها؛ لأنها رد عليها؛ أرسلناها مع صديق لنا

ولزعماء الحزب الوطني، فوعد الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس تحرير العربي

يوم الاثنين 15 المحرم بنشرها والتعقيب عليها، ثم أكد الوعد يوم الثلاثاء واعتذر

عن التأخير. ولكن بلغنا أنه حصل خلاف بينه وبين محمد بك فريد رئيس الحزب

الوطني في أمر نشرها، فكان رأي رئيس الحزب أن لا تنشر لأنها تفيد المشروع

قوة والمراد سحقه قبل أن يقوى، وكان رأي رئيس التحرير أن تنشر ويعقب عليها

بشدة تقوي الشبهة في المشروع وتزيده وهنًا على وهن، وقد انتظرت إلى يوم

الأربعاء، فلما رأيت جريدة العلم خلوًا منها، أرسلتها مع المقالة الثانية إلى جميع

الجرائد العربية في مصر والإسكندرية في مساء هذا اليوم.

***

(المقالة الثانية للعلم)

وفي صبيحة يوم الخميس 18 المحرم، صدر العلم وفيه المقالة، وفي فاتحة

باب الحوادث والأخبار منه ثلاثة أعمدة في سبي وشتمي، ووصفي بالعجز

والضعف، مع الإرجاف والإيهام بقوله: (ولو أن العلم شاء لبسط للناس، كيف

ذهب صاحب المشروع الذي هو (أقدس وأفضل عمل ديني) إلى السير غورست؛

ليعرض عليه مشروعه فيحظى برضاه، وينال إسعاده. ولو شاء العلم لبين للناس

ما في ذلك من المخازي والمآرب المكنونة.

لو كان في هذه الشتائم والأراجيف شبهة على الموضوع لنشرناها، كما نشرنا

مقالة العلم الأولى على وهنها وضعفها، ولكن فيها أمرين يحسن ذكرهما والجواب

عنهما، أحدهما: الإرجاف بعبارته التي نقلناها آنفًا، والثاني: تخطئة العلم إياي

بقولي: إنني كنت أتوقع مقاومة بعض رجال الحزب الوطني في هذا المشروع،

كما كنت أحذر مقاومتهم إياي في طلب الدستور من السلطان عبد الحميد.

أما الأول فأقول فيه: إنني لم أذهب إلى السير غورست لأحظي برضاه وأنال

إسعاده ومعونته على المشروع كما أرجف الكاتب، وأصرح بأعلى صوتي أن غاية

ما أرجوه وأتمناه من الإنكليز أن لا يقاوموا المشروع في مصر والهند؛ لأنني أرجو

من مساعدة المسلمين في هذين القطرين ما لا أرجوه من غيرهما، فإذا قاومه

الإنكليز فيهما، فلا شك في أنه يفوتنا من المساعدة ما لا غنى لنا عنه، على أنه لا

يوجد عاقل في الدنيا يقول إن طلب المساعدة على عمل نافع ممن لا نفع له فيه نفسه

ولا لقومه يخرج ذلك العمل عن وضعه، ولا سيما إذا كانت المساعدة المطلوبة سلبية

كعدم المقاومة، مثال ذلك الجمعية الخيرية الإسلامية طلبت المساعدة في السنين

الخالية من العميد الإنكليزي ومن غيره من الأجانب، وكانت ولا تزال تأخذ من

هؤلاء في كل سنة شيئًا من النقود فيما أعلم، فهل صارت الجمعية بذلك خادمة

للإنكليز وضارة بالمسلمين؟ ؟

ونحن لا نطلب من غورست ولا من غيره من الأجانب ولا غير المسلمين من

الوطنيين مساعدة مالية ولا أدبية، وإنما نطلب منهم أن لا يكونوا ضارين لنا ولا

مقاومين لمشروعنا كما يقاومه بعض المسلمين، ولا يبعد أن ننال هذه الأمنية

السلبية منهم، فقد قال الأستاذ الإمام وحلف على قوله بالله: إنه لم يقم بمشروع ينفع

المسلمين ووجد له مقاومًا فيه من الإنكليز، ولا من القبط، ولا من نصارى

السوريين، ولكنه لقي المقاومة في كل مشروع أراد به خدمة الإسلام من المسلمين

أنفسهم، أقول: ومن ذلك أنهم وشوا بالجمعية الخيرية إلى الإنكليز؛ بأنها تمد

مهدي السودان بالمال ليحارب به مصر والإنكليز، وهاجت جريدة اللواء عليه

وعليَّ اليهود عند تفسير بعض الآيات المتعلقة بهم في كتاب الله عز وجل.

إذا أثبتنا لرئيس تحرير العلم أن شيخ الأزهر أو بعض أعضاء إدارته زار

الوكالة البريطانية ولورد كرومر، فهل يعد هذا حجة على كون الأزهر صار خادمًا

للإنكليز، وقد علمنا ونحن في الآستانة أن بعض أعضاء جمعية الاتحاد والترقي

يختلفون إلى بعض السفارات؛ كاختلاف حسين جاهد بك وإسماعيل حقي بك بابان

إلى سفارة روسية، فهل يسمح لنا محرر العلم المنطقي أن نستدل بذلك على خيانة

الجمعية للدولة العلية؟ ؟

وأما الثاني فسببه أن مدير جريدة اللواء كان مقاومًا لي منذ سنته الأولى

وسبب ذلك أنني انتقدت عليه عند ظهوره أمرًا ضارًّا، فقلت في ص607 من مجلد

المنار الثاني ما نصه:

(وقد انتقدنا عليها أمرًا ذا بال، وهو الإرجاف بأن بعض الناس يسعون في

إقامة خلافة عربية، كأن الخلافة من الهنات الهينات، تنال بسعي جماعة أو

جماعات، ولا يمكن احتقار مقام الخلافة الأعلى بأكثر من هذا الإرجاف.

(مقام الخلافة أسمى من أن يتطاول إليه أحد، وقد سلم السواد الأعظم من

المسلمين زمامه لبني عثمان تسليمًا، والرابطة بين الترك والعرب هي (كما قال

المرحوم كمال بك الكاتب الشهير) موثقة بالأخوة الإسلامية والخلافة العثمانية، فإن

كان أحد يقدر على حلها فهو الله تعالى وحده، وإن كان أحد يطمع في ذلك فهو

الشيطان.

(ويعلم كل خبير بحال هذا الزمن أنه لا يرجف بالخلافة فيه إلا رجلان:

رجل اتخذ الإرجاف حرفة للتعيش وأكل السحت أو التحلي بالوسامات والألقاب

الضخمة، ورجل اتخذه الأجانب آلة لخداع بسطاء المسلمين؛ بإيهامهم أن منصب

الخلافة ضعيف متزعزع، يمكن لأي أمير أن يناله، ولأية جمعية أن تزحزحه عن

مكانه، ليزيلوا هيبته من القلوب، ويقنعوا نفوس العامة من الأغرار بإمكان تحويله

في وقت من الأوقات، وبأن المسلمين ليسوا راضين من الخلافة العثمانية جميعًا)

إلخ.

هذا ما كتبناه في الانتقاد على اللواء عند ظهوره أي: من إحدى عشرة سنة

وشهور، وإنه لم يظهر لنا في كل هذه المدة أن الأجانب اشتغلوا بهذه المسألة، بل

الذي ظهر أن الإرجاف والإفساد لم يكن إلا من الطامعين في دنانير السلطان عبد

الحميد وأوسمته ورتبه، المتوسلين إليها بدعوى الإخلاص له ولدولته، أو الانتقام

ممن يسلطون عليهم عقارب سعايتهم، ومن يريد بالمسلمين سوءًا من الأجانب، لا

يحتاج إلى سعي ولا عمل؛ فحمقى المسلمين يكفونه كل سعي.

كبر انتقادنا هذا على جريدة اللواء في ذلك الوقت، فصارت كلما سنحت

الفرصة، تنتقم منا ضروبًا من الانتقام، حتى إنها نشرت في سنة 1323 مقالة في

العدد ال1754، ثم بعد أسبوع نشرت مقالة أخرى في ع 1762، زعمت أنها

جاءتها من جاوه تؤيد المقالة الأولى وتستدرك عليها، توهم قراءها بذلك أن في

جميع البلاد الإسلامية أفرادًا يشايعونها على الطعن فينا، ولم يخطر لمديرها ولا

لمحرريها ولا لمصححيها أن البريد إلى جاوه غدوه شهر ورواحه شهر تقريبًا،

فكيف يصدق العارفون بتقويم البلدان من قراء اللواء؛ أن العدد الأول يصل إلى

جاوه، ويكتب الكاتب ما يكتب في استحسان تلك المقالة والاستدراك عليها، وتصل

رسالته إلى مصر، وتنشر، ويتم ذلك كله في أسبوع واحد! ! وزاد طعنها فينا

معاداتها للأستاذ الإمام ودفاعنا عنه كما هو مشهور.

هذا التحامل علينا من جريدة اللواء الذي استمر من أول إنشائه إلى سنة

1323 التي أردت فيها تنفيذ مشروع الدعوة والإرشاد، وتلك التهم التي كانت

تشيعها عن مسألة الخلافة العربية؛ لتنتقم بها لدى السلطان عبد الحميد ممن تتهمهم

بها، وذلك الإطراء الذي كان يطري به مدير اللواء ذلك السلطان المخرب للمملكة،

حتى إنه قال مرة ما معناه: إنه ينبغي لكل مسلم أن يضيف إلى الشهادتين بوحدانية

الله ورسالة خاتم النبيين شهادة ثالثة بخلافة عبد الحميد ذلك كله كان هو السبب في

حذرنا من مقاومة الحزب الوطني في مشروع الدعوة إلى الإسلام، وفي مقاومة

سياسة عبد الحميد ومطالبة بالشورى والدستور في (جمعية الشورى العثمانية) .

ولو شئت أن أشرح هذه المسألة وأنشر ما صار مطويًا في صحائف اللواء من

مدائح عبد الحميد وتقديسه، ومن الإرجاف بمسألة الخلافة العربية لأجل التزلف إلى

المابين، لأمكنني أن أكتب في ذلك مؤلفًا حافلاً، ولا سيما إذا أضفت إلى ذلك

بعض الوقائع؛ كإنكار محمد بك فريد على صاحب المؤيد نشره مقالاتي في إصلاح

الدولة العلية منذ ثنتي عشرة سنة؛ لأن ذلك يسيء السلطان و..

إن الذين كنت أحذر مقاومتهم وسميتهم الحزب الوطني؛ هم مدير اللواء

وبعض محرريه، ومحمد بك فريد وبعض مقلديه، ولا أعني أحدًا غيرهم ممن

اتصلوا بهم للمطالبة بجلاء الإنكليز عن مصر، ولجعل الحكومة المصرية دستورية

ولا يهمهم غير ذلك؛ كالانتقام الشخصي ومقاومة كل مشروع نافع يقوم به غيرهم،

ومن العجائب أن تطالبني جريدة العلم بالدليل على ما كان من حذري وتوقعي

مقاومة من ذكرت للمشروع في نفس العدد ونفس المقالة التي تقاومه هي فيه، فإذا

كان رئيس تحريرها ومن على رأيه من المحررين قد نسوا ما نشروه في جريدتهم

منذ أقل من أسبوع، كما نسي سلفهم الصالح المدة بين تينك المقالتين في اللواء

اللتين أشرنا إليهما آنفًا، فهل نسوا المقالة التي نزهوا فيها أنفسهم عن المقاومة؛

وهي ما أنشئت إلا للمقاومة! ! ! يقولون الآن: إن عندنا (أقاويل) أو (إشاعات)

أو شبهات على أن هذا يراد به غير ظاهر، وهذا عين ما كنت أحذره منهم من

قبل؛ إذ المقاومة لمثل هذا المشروع لا تكون إلا بمثل هذه (الأقاويل) والأراجيف

(شنشنة أعرفها من أخزم) .

على أنني كنت أظن في هذه المرة أن زعماء الحزب الوطني لا يقاومون هذا

المشروع؛ لأن لهم في شغل الحزب، وقد تكوّن ونمي ما يشغلهم عن انتقام هو في

الحقيقة جهاد في غير عدو، وقد مرت السنين وليس بيني وبينهم ما يسوء، ولأن

الشيخ عبد العزيز شاويش هو رئيس تحرير جريدتهم (العلم) وما كنت أظن أنه

يقدم على الإرجاف بهذا المشروع الجليل؛ بناء على الأقاويل والأوهام. فإذا كانوا

قاوموا في الحال التي حسن ظني بهم فيها، فكيف كان يكون شأنهم في الأيام التي

توفرت فيها الدواعي على المقاومة.

هذا، وإنني أبرئ كل عضو من أعضاء هذا الحزب عن مشايعة اللذين أو

الذين تصدوا للمقاومة، إلإ من كان إمعة لا روية له ولا استقلال، وأرجو - وقد بينا

لهم المشروع - أن يثوبوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى ربهم، فإن لم يفعلوا اليوم

فسيندمون بعد ظهور المشروع للوجود، وقيام حزبهم عليهم باللائمة والتفنيد، وما ذلك

من المستعجلين ببعيد.

ولا بأس أن نفكه القراء، وقد استولى عليهم الحزن من خذلان المسلمين

بعضهم لبعض بقول الشيخ عبد العزيز، وهو يكتب باسم الجريدة التي هي لسان

حزبه فإن كان الذي أغضب الأستاذ نسبتنا تلك الفكرة إلى أستاذنا المرحوم الشيخ

عبده، الذي كان لا يلقبه في حياته إلا بأمثال: (الأستاذ الحكيم والأستاذ الإمام،

وفيلسوف الإسلام) فليخفف عن نفسه قليلاً، فإنما أول من جاء بهذا الأمر منزل

القرآن) اهـ اقرءوا واسمعوا واضحكوا! ! ولا تعجبوا من قوله كان يلقبه في

حياته، وأنتم ترون هذا التلقيب في المنار بعد مماته أكثر ورودًا في المنار.

فمكابرة الحس لا تعد عجيبة من هؤلاء الناس، ولكن احمدوا الله معي، إن صاروا

يعترفون بأن الأستاذ الإمام أستاذهم، فالحمد لله على ذلك بعد أن كان معظم ما نالني

من آذاهم؛ سببه دفاع تهمهم عنه رحمه الله تعالى كما تعلمون من مجلدات المنار.

أنا لم أقل في ردي عليهم: إن الأستاذ الإمام لم يفكر في هذا الأمر ولا ذكرته؛

لأن الكلام كان مسوقًا لبيان أن هذا المشروع ليس جديدًا عندي، فيصدق أنني أريد

أن أخدم به الجمعية السياسية التي لم نسمع بخبرها إلا من العلم، ولكنني وأنا الذي

نشرت مناقب الأستاذ الإمام في الشرق والغرب أقول: إنني لم أسمع منه رحمه الله

تعالى كلمة تدل على أنه يريد تأسيس جمعية ومدرسة لهذا المشروع في مصر، ولا

على أنه يتمنى ذلك في الآستانة، وإنما كان يرجو أن يصلح الأزهر فيكون للمسلمين

منه كل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ومنه الاستعداد للدعوة إلى الإسلام، ولم

أسمع منه شيئًا في ذلك بعد تركه للأزهر.

وأقول: إنني لا أشك في تفكير كثير من مسلمي الأقطار في هذا المشروع كما

فكرت فيه، وقد أشرت في المقالة الأولى إلى تاريخ هذه الفكرة عندي، وإلى بعض

ما كتبته من التمهيد لها، وإنني لم أستقص في تلك الإشارات، وقد تذكرت الآن حديثًا

في ذلك دار بيني وبين شيخ الجامع الأزهر، وذكرته في عدد المنار الذي صدر في

شهر المحرم سنة 1319 أي منذ عشر سنوات كاملة، ذكرت فيه للشيخ شيئًا عن

الجمعيات الدينية في فرنسة وثروتها وأعمالها، وتوقف حفظ الدين الإسلامي على

مثل هذه الجمعيات المالية التي تجمع بين الدين والعلوم الكونية، وقلت له هذه العبارة

(وإن هذا ما يدعو إليه المنار) فليراجع ذلك من شاء في أول ص158 من مجلد

المنار الرابع.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) جاء في الفصل الذي عقده اللورد في تقريره عن السودان سنة 1904؛ أنه كتب إلى جمعية التبشير للكنيسة الإنجليزية كتابًا يدعوها فيه إلى التبشير في أقاليم السودان الجنوبية، ويخبرها أنه خُصص لها قسم كبير من تلك البلاد في الوقت الحاضر، كما خصصت أقسام أخرى للمبشرين النمساويين والأمريكيين وقال: إنه ذكر في كتابه إلى تلك الجمعية الجملة الآتية التي أوردها إفادة للقراء من المسلمين، وهي: (لم يطلب أحد حتى الآن رخصة لإنشاء مدارس في جنوب السودان على نفقته؛ تعلم فيها فرائض دين الإسلام، ولو طلب أحد طلبه لحل طلبه محل القبول، أقول ذلك إظهارًا لخطة الحكومة ودفعًا لكل وهم، فإن غرض الحكومة التعليم والتهذيب لا غير، فعلى الذين يتبرعون للدخول في هذا العمل على نفقة الجمعيات أو الأفراد أن ينتفعوا من مقاصد الحكومة، وينشروا معها تعاليمهم الدينية.

ص: 47

الكاتب: محمد رشيد رضا

مقالة العلم الثالثة

بعد نشر مقالتنا الثانية في بعض الجرائد اليومية، رجعت جريدة العلم عن

الإرجاف بكون مدرسة الدعوة والإرشاد تنشأ لهدم الخلافة العثمانية وتأسيس خلافة

إنكليزية، ونشرت في صدر عددها الذي صدر يوم الأحد 21 المحرم المقالة الآتية

بنصها، وهي:

(مدرسة الدعوة والإرشاد الإسلامي)

نشرنا في هذا الباب ما نشرنا، وكنا نحسب أنه غنية لمن كان مخلصًا من

رجال هذا المشروع، ولكننا نجد في كل يوم أفرادًا يكثرون من اللغط، ويطرحون

علينا أسئلة الاستنكار والاستهجان، زاعمين أننا أتينا بدعًا من الرأي، وزورًا من

القول، فلا بد لنا من كلمة ثالثة في الموضوع تزيده إيضاحًا وتبيانًا.

يعلم المفكرون أن أوربا كل يوم ترمينا بتلك التهمة الباطلة تهمة التعصب

الديني والجامعة الإسلامية.

طالما رمتنا بذلك، وكم جنت من وراء هذه التهمة التي تختلقها لتنال بها

مآربها من العالم الإسلامي، فتلزمه السكون والسكوت، وتقعده عن النشاط

والعمل، وتفرق بين أجزائه حتى لا يلتئم له شمل، ولا يرتق له فتق.

طالما رمتنا أوربا بذلك، وطالما جنت من وراء هذه التهمة المفتراه، فماذا

كنا ندرأ به عن أنفسنا هذه الويلات لا سيما في تلك السنين التي خضدت فيها شوكة

الحكومة الإسلامية، وأصبح الإسلام وأهله في أيدي الحكومات الصليبية.

وهل استطاع المسلمون أن ينجوا من آثار تلك التهم إلا بما كانوا يعلنونه

ويشهدون العالم عليه من أنهم أهل سلم لكل مسالم، وأرباب وفاء لكل معاهد، هل

استطاعوا أن يعدوا لأعدائهم مثل ما أعد هؤلاء لهم من مدافع مدمرة، وأساطيل

مصفحة، وكتائب سابغة الدروع تامة السلاح، هل استطاعوا أن ينافسوهم في

ميادين الاقتصاد، فيستغنوا عن مالهم، أو يزاحموهم في أسواق التجارة فيكفوا

الحاجة إليهم؟

إذًا، فماذا يبتغي أصحاب هذه المدرسة؟ قد يكونون - كما قلنا في أول كلمة

لنا - حسان القصد طاهري الضمير، ولكن إلى من يعدون خريجي مدرستهم؟ أَإلَى

أهل تونس والجزائر والمستعمرات الإسلامية الفرنسية، وهي تلك الدولة التي

لا تغفل عن مصالحها، ولا تكاد تبيح لأجنبي عنها التوغل في أعماق مستعمراتها

أو مخالطة أحد من رعاياها. أم إلى مسلمي جاوه، وتلك حكومة هولانده قد

أحاطتهم بنطاق من يقظتها، وحالت بينهم وبين العلم والنور والحرية والعوالم

الأخرى، فهي لا تسمح لأحد منهم بمقابلة أحد ولا معاشرته، إلا إذا كان هناك من

عيونها من لا يفتر عن مراقبته، ولا تأخذه غفوة عن سكونه أو حركته.

لعلهم يريدون أن يبعثوا بهم إلى أرجاء السودان؛ ليدخلوا أهله في دين

الإسلام، إذًا فهل أمنوا جانب إنجلترا ونسو مآربها هنالك، ألا والله لتعتبرن أولئك

الدعاة للإسلام أهل فتنة ودعاة ثورة، ولتقيمن لهم المحاكم المخصوصة ولتنصبن

لهم المشانق، ولتبطشن بهم بطش الجبارين، فهل أعددتم لوقايتهم ما أعدت دول

الصليب لمبشريها وحماة دينها من البأس والقوى، وهل سلكتم ما سلكه أولئك أيام

كانوا جهالاً ضعفاء من الدعوة من غير جلبة ولا ضوضاء.

أظننتم أن مريدي الشر للإسلام في غفلة عنّا، أو أنهم يسرهم أن تقوم على وجه

البسيطة مدرسة كهذه على النحو الذي يقوله أصحاب ابتداعها.

أأمنوا اتحاد دول الصليب علينا إذا علموا أننا نسعى لنشر كلمة الإسلام،

وهل غرَّهم ما يرونه من إحدى الدول العظمى التي تظهر الميل والعطف على العالم

الإسلامي، وكيف يغتر بها من يستقرئ خطواتها، ويدرس اضطرابها وتذبذبها،

وهي تلك التي لا تكاد تستقرعلى حال واحدة عدة أيام، فكم من عهد لم توف به؟

وكم من أمة خدعت بمعسول وعودها واطمأنت لزخارف أقوالها، ثم قطعت أناملها

ندمًا على ما فرط منها.

اعقلوا أيها القوم، وتدبروا الأمر قبل أن تجنوا في مغبته الخيبة، وتعجلوا

للمسلمين ما لا قبل لهم به، وإذا زعمتم أنكم تريدون دعوة غير المسلمين كما

صرحتم بذلك، فخير لكم أن تبدأوا بالجهال من بني دينكم وكثير ما هم، ثم إذا

وجدتم من أوقاتكم ومجهوداتكم متسعًا فثنوا بمن تشاءون من غيرهم، ولقد أسلفنا لكم

أنكم إذا ربحتم المسلمين، وأصلحتموهم، واكتفيتم بهم، فقد ربحتم كثيرًا وخسرتم

قليلاً.

إننا أيها القوم لسنا أعداء الإصلاح، ولا محاربي العاملين في سبيل

الإصلاح. ولكنا قد أدركنا مغبة مساعيكم، فروينا الذي رويناه، ولم ندع اعتقاد

شيء منه، وإنما بسطنا لكم القول وشرحنا لكم وعورة الطريق التي تسلكونها،

وأرشدناكم إلى أن أمامكم الأزهر الذي هو المدرسة الإسلامية العظمى، فأدخلوا فيه

ما شئتم من مواد الدراسة، وأعدوا طائفة منهم للوعظ والإرشاد، وهداية العامة من

المسلمين وغيرهم إلى الحق، والصواب من قواعد الدين الحنيف وأركانه، ولا

تستمسكوا بالألقاب والأسماء، ولا تقيموا معهدًا خاصًّا لما أردتم، فقد نمتم عن قوم

لا ينامون، وتجاهلتم أمر أعدائنا الذين لا يغفلون، وإذا لم يكن لكم بد من إقامة هذه

المدرسة فلا تدعوها بما يجلب عليها وعلى الإسلام الشقاء من الأسماء.

هذه كلمتنا للعقلاء المفكرين من المشتغلين بهذا المشروع، أما النفر المتعصب

لرأيه المتنطع في قوله، فما كان لنا أن نعنيه برد ولا نصيحة، فليأت العقلاء

المخلصون من الأعمال ما تحتمله الأحوال الحاضرة ولا تنافره الظروف السياسية،

وليقيموا ما شاءوا من المدارس على شريطة ألا يجروا بأسمائهم الضخمة وعنوانيها

الفخمة عليها شيئًا من البلاء والشقاء، وليتقوا الله في العالم الإسلامي، فلا يجلبوا

عليهم بتسرعهم وعدم تحوطهم أكثر مما نزل بهم، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم

محسنون.

(الرد على هذه المقالة)

بينت لنا هذه المقالة التي نشرت يوم الأحد 21 المحرم عدة أمور نذكرها مع

التعقيب عليها:

(1)

إن أصحاب جريدة العلم يجدون في كل يوم أفرادًا يكثرون اللغط،

ويطرحون عليهم أسئلة الإنكار والاستهجان، ويرمونهم بالبدع من الرأي والزور

من القول، كل هذا صرحت به العلم، وما سمعنا من أصحاب جريدة الحزب

الوطني قبل مثل هذا الاعتراف بإنكار الناس عليهم كل يوم شيئًا من الأشياء، بل

ما رأينا المسلمين بمصر اهتموا بمواجهة فرد من الأفراد فضلاً عن حزب من

الأحزاب بالإنكار والاستهجان، وناهيك استنكار واستهجان ما يكتب في جريدة العلم

التي يتحامى الناس الجهر بالإنكار عليها؛ تكريمًا لأنفسهم وصونًا لها من هجو

جريدة تكتب بمداد من السمّ، بل العادة الغالبة أن ينتقد الناس المخطئ في غيبته

ويسكتون في وجهه، ولو علم رئيس تحرير العلم كل ما يقول الناس فيه، لتبين له

أن مقامه لم يصل في مصر إلى درجة يقبل معها كلامه في تقبيح أفضل وأقدس

خدمة يخدم بها الإسلام لا عند الحزب الوطني ولا عند الجمهور، وإنما يمكن أن

يقبله بعض الملحدين المارقين من الإسلام دينًا وجنسية. ويغلب على ظني أن في

المنكرين على الشيخ عبد العزيز شاويش بعض أعضاء الحزب الوطني، ولولا ذلك

لما غير رأيه وناقض نفسه فيما كتبه أولاً وثانيًا.

(2)

تقول جريدة العلم اليوم: إن أوربا تتهم المسلمين بالتعصب الديني،

وما استطاعوا أن ينجوا من آثار تهمتها بما يعلنونه من سلمهم ومسالمتهم، وإن هذه

الخدمة تزيد في اتهامهم وعداوتهم للمسلمين، فلا ينبغي أن تكون. ونجيبها عن ذلك

بأنه إذا كانت أوربا لا يرضيها منا إلا ترك شعائر الإسلام وفرائضه أو حتى نتبع

ملتهم، أفتأمرنا جريدة العلم بأن نترك فرائض ديننا لأجل إرضاء أوربا أو

دفع تهمتها. قد بينا في مقالتنا الثانية التي أرسلناها إلى العلم كغيره من الجرائد أن هذا

المشروع قيام بثلاث فرائض إسلامية مجمع عليها، فكيف ينهانا أن نؤدي فرائض ديننا خوفًا من اتهام أوربة إيانا بالتعصب، وهو تحصيل حاصل؟ ؟

(3)

تسألنا جريدة العلم في معرض الإنكار؛ إلى أين نرسل خريجي هذه

المدرسة، وفرنسة وهولندا وإنكلترا لنا بالمرصاد في مستعمراتهن وفي السودان،

وأقسم الكاتب على أن الأخيرة منهن لا بد أن تقيم لهم في السودان المحاكم

المخصوصة، وتنصب لهم المشانق، وتبطش بهم بطش الجبارين. يريد الكاتب أن

يوهم قراءه أن الرحمة والشفقة الفائضتين من قلبه الشريف على الذين سيتخرجون

في مدرسة الدعوة والإرشاد ويرسلون إلى السودان؛ هما اللتان حملتاه على هذا

الإنكار الشديد لاستعداد المسلمين لأداء هذه الفرائض الدينية، فأبرز إنكاره أولاً

بزعم أن المراد من هؤلاء الدعاة إسقاط دولة الخلافة العثمانية وإنشاء خلافة

إنكليزية، وآخر بأن الإنكليز سيبطشون بهم بطش الجبارين، ويجعلوهم عبرة

للمعتبرين، ويكون مؤسسو المدرسة هم السبب في ظلم هؤلاء المساكين! ! ! ،

ونجيبه: أولاً - بأن الناصح الغيور على المسلمين، الذي لا يعادي الإصلاح

والمصلحين، لا يستحل مثل البهتان الذي أرجف به العلم في المسألة من قبل،

وثانيًا - بأن الخوف من إيذاء المسلم في سبيل الله في المستقبل، لا يبيح له

ترك الفرائض والاستعداد لنشر الدعوة.

ثالثًا - بأن المتعاونين على هذا المشروع ومن يربونهم ويعلمونهم ليسوا ممن

قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ

كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت: 10) فهل يرضي أصحاب العلم أن يكونوا منهم.

رابعًا - إن لورد كرومر قال في تقريره الرسمي عن السودان: إن الحكومة

هناك تسمح للمسلمين بنشر الإسلام وتعليمه، فإذا أرسلنا إلى هنالك من يطلب منها

الإذن له بهذا ولم تأذن له؛ فإنه يمكنه أن يرجع إلى مصر بحجة ناهضة لجريدة

العلم أو ما يخلفها تجاهد بها الإنكليز، ولا يعرض نفسه لبطش الإنكليز.

خامسًا - إن السبب في اتهام أوربا إيانا بالتعصب الديني؛ هو السياسة في

الغالب، وقد امتاز مصطفي كامل باشا وأتباعه في الحزب الوطني بدعوة الوطنية

على وجه ينافي الوحدة الإسلامية، ونرى أوربة وغير أهل أوربة كالقبط، يتهمون

هذا الحزب وجرائده بالتعصب الديني ولم نرهم يتهمون مجلة المنار بذلك وهي

دينية؛ تقيم حجج الإسلام، وتردد شبهات النصارى وغيرهم، وتقيم الحجة عليهم؛

لأنها لا تفعل ذلك لأجل السياسة، وقد قامت جمعية ندوة العلماء في الهند بعمل

قريب من العمل الذي شرعنا فيه أو مثله، ولم تلق من الإنكليز بطش الجبارين،

بل أعطوها قطعة أرض لتبني مدرستها فيها. وغاية ما نرجو نحن بعملنا الديني

العلمي المدني الخالي من كل شائبة سياسية أن لا تعرقله وتضطهده كل حكومات

أوربة في مستعمراتها عملاً بحرية الدين، وقد صرحت هولندا بأنها تأذن لعلماء

المسلمين بالإرشاد في جاوه إن وجدوا، ولا تمنع إلا مشايخ الطرق الدجالين،

وسيكون المتخرجون في مدرستنا أبعد المسلمين عن أهواء السياسة ومقاومة

الحكومات.

وسادسًا - إذا منعنا الأوربيون من مستعمراتهم الإسلامية في إفريقية وجزائر

المحيط والهند فأمامنا اليابان والصين، فإذا تيسر لنا ترقية مسلمي الصين

بالإرشاد، وأهل اليابان بالدعوة إلى الإسلام، نكون قد عملنا أفضل الأعمال.

وسابعًا - إذا كان ذلك الكاتب في العلم يخاف على هذا المشروع من اضطهاد

دول الصليب كما ادعى، فلماذا يختار إلصاقه بمشيخة الإسلام في الآستانة،

ويقول: إن ذلك محله الطبيعي؟ أيجهل أنه لا يقيم قيامة أوربة عليه شيء كإلصاقه

بالدولة العلية، إن كان يجهل هذا فساسة الآستانة لا يجهلونه، وليعلم أن هذا هو

السبب الذي حملني على إيذان شيخ الإسلام وغيره من رجال الآستانة بأنني لا

أشتغل بالعمل هناك، إلا إذا كان بعيدًا عن السياسة ظاهرًا وباطنًا، ولم يكن له

صبغة رسمية.

(4)

تسألنا جريدة العلم هل سلكنا ما سلكه أهل الصليب أيام كانوا مثلنا

اليوم جهلاء ضعفاء من الدعوة من غير جلبة ولا ضوضاء، ونجيبها نعم.. إننا

أردنا ذلك، ولكن مصاب المسلمين بوجود مثل ذلك الكاتب محررًا أو رئيس تحرير

في جريدة تنتمي إلى حزب يعتقد أنه يؤديها ولو بالباطل؛ هو الذي حال بيننا وبين

ما نشتهي من السكون والسكوت، فماذا نفعل إذا كان الذي أثار بيننا الجلبة

والضوضاء هو أقدر أهل بلادنا على الجلبة والضوضاء لأنه هجيراه في حياته،

ومورد رزقه وعنوان جاهه.

(5)

ينصح لنا ذلك الكاتب المفتات بأن نبدأ بالجهال من أبناء ديننا،

فنعلمهم ونرشدهم ثم نثني بغيرهم إن وجدنا من أوقاتنا ومجهوداتنا متسعًا، كتب هذا

بعد أن قرأ في مقالتنا الثانية التي أرسلناها إليه مع كتبًا خاص، فلم ينشرها وبعد أن

نشرها المؤيد، ونشر موضوع المدرسة منها غير المؤيد؛ كالأخبار والأهالي،

وعلم الألوف من الناس كما علم هو أن هذا هو غرضنا، وليس هذا ببدع من إرشاد

جريدة العلم، فقد كنت منذ عهد قريب تقترح من إصلاح قانون الأزهر ما هو

منصوص في ذلك القانون؛ لأن رئيس تحرير هذه الجريدة جعل نفسه بغروره

مرشدًا للحكومة والأمة، وإن كان ما يأمر به تارة من تحصيل الحاصل، وتارة من

الممتنع شرعًا أو عقلاً أو قانوناً أو عادة، وماذا يهمه أن تمتع بلذة الأمر والنهي،

أن يكون إرشاده من العبث واللغو.

(6)

أمرنا رئيس تحرير العلم عملاً بشنشنته؛ بأن ندخل ما نشاء في مواد

المدرسة في الأزهر، ونعد طائفة من طلابه للإرشاد والدعوة، ونبأنا أن نقيم معهدًا

خاصًّا لما أردناه! ! وهو يجهل أو لا يجهل (الله أعلم) أن امتثال أمره ليس في

أيدينا، ولا مما يدخل في استطاعتنا، إن الداعي إلى هذا المشروع هو العاجز

الضعيف صاحب المنار، وقد عيره هو بالضعف والعجز في جريدة العلم مرارًا،

وما فعل ذلك إلا إعجابًا وغرورًا بحوله وقوته، واعتزازه بحزبه، ولكنه نسي مع

ذلك انه هو قد عجز على قوته وعظمته عن تعبير شيء من مواد قانون الدراسة في

الأزهر، فكيف يقدر على ذلك هذا العاجز الضعيف الذي لا حزب له ولا حول ولا

قوة إلا بالله العلي العظيم، وإذا كان أمره لا يطاع فكذلك نهيه فليترك هذه الرياسة

العامة، في هذه المسألة الخاصة، أو ليكتف بالإرجاف والتشهير، إن كان مُصرًّا

على مقاومة هذا العمل الشريف.

(7)

ناقض العلم نفسه كعادته، فأذن في آخر مقالته للعقلاء المخلصين منا

بالأعمال لتي تحتملها السياسة، وأن يقيموا ما شاءوا من المدارس (على شريطة أن

لا يجروا شيئًا بأسمائها الضخمة وعناوينها الفخمة عليها من البلاء والشقاء) ،

ونهاهم (أن يجلبوا على العالم الإسلامي بتسرعهم وعدم تحوطهم أكثر مما نزل

به) ! ! ! وغرضه من هذا الأمر - إن أطيع فيه - أن يتلذذ بنفوذه في إبطال

المشروع أو عنوانه الدال عليه، وما رأينا في غرائب هذا الكاتب وبعده عن

المعقول أبعد عن الصواب من توهمه أو إيهامه أن البلاء والشقاء سينزلان بالعالم

الإسلامي بسبب كلمة الدعوة والإرشاد، وإن الأوربيين مثله يحفلون بالألفاظ دون

المعاني والحقائق. وأما المشتغلون بتنفيذ هذا المشروع فيريدون أن يكون ظاهرهم

كباطنهم وقولهم كفعلهم، يعلمون أنهم لا يقدرون على غش الأوربيين وخداعهم إن

أرادوا ذلك - وهم لا يريدونه كغيرهم - ولذلك يصرحون بأنهم يربون طائفة من

الطلاب ويعلمونهم ما يقدرون به على الدعوة والإرشاد والتعليم، يرسلونهم إلى أحوج

البلاد الإسلامية إليهم، ثم إلى البلاد الوثنية، ثم إلى غيرها كما بينا في المقالة الثانية

من تقديم الأهم على المهم بحسب الاستطاعة، وسيسيرون على سنة الله تعالى في

أمثالهم من المصلحين، وقد وعد الله تعالى بإظهار هذا الدين كله ولو كره

الكافرون، وكان وعده مفعولاً في كل حين.

وقصارى الكلام، أن جريدة العلم قد خرجت عن منهج الرشد، وأسرفت في

البعد عن الحق، بالغلو في مقاومة هذا المشروع المفروض، بما لا يقبله إلا من اتبع

كل ناعق فيما يقول، لحرمانه من حرية الفكر، وعطله من حلية استقلال

الرأي، فهاجمته أولاً بالإرجاف السياسي وإيهام الناس أنه سيكون من القوة، بحيث

يسقط دولة للمسلمين ويؤسس دولة للإنكليز، بإيهامهم بعد ثلاثة أيام أنه من

الضعف بحيث يجزم الكاتب، ويحلف بأن الإنكليز سوف يسومون أهله سوء

العذاب! ! ! حار الكاتب في هذا الأمر وحاص، وناقض نفسه عدة مرات، ثم

تنصل من عداوة المشروع ومقاومة أهله، وادعى أنه ناصح ولو كان ناصحًا لنشر

مقالتنا الثانية، وجعل النصيحة بيننا وبينه، على أننا ننصح له كما نصح لنا بأن

يحاسب نفسه فيما يكتب بينه وبين الله، ولا يقفو ما ليس له به علم؛ عملاً بكتاب

الله عز وجل، وليقل خيرًا أو ليصمت؛ عملاً بهدي المصطفى صلى الله عليه

وسلم، لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وأن يرجع إلى الحق فذلك خير من

الإصرار على الباطل، كما هي سنة السلف الصالح، فإن قبل النصيحة عاد

من التشنيع والتشهير والتشكيك والتهديد والوعيد إلى بيان محاسن المشروع والحث

عليه والترغيب فيه، ويكون عمل بحديث: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق

الناس بخلق حسن) رواه أحمد والترمذي عن أبي ذر ومعاذ. وحينئذ يجعل

النصيحة بينه وبين القائمين بإحياء هذه الفرائض التي يرجى بها تجديد دعوة

الإسلام - إن شاء الله تعالى - كما هو شأن المخلصين في نصحهم؛ الذين لا

يقصدون به الرياء والدعوى. وإن أخذته العزة بالإثم، ولم يعمل بهذه النصيحة

فحسبه غروره وتغريره، وعاقبة عدوانه ومصيره، وحسبنا الله فهو أغيرعلى

دينه من جميع عبيده المؤمنين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

_________

ص: 59

الكاتب: محمد رشيد رضا

إنذار للمرجفين

لئن لم ينته المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والمرجفون في مصر،

بمشروع الدعوة والإرشاد لنكشفن الستار عن السر الخفي الذي آلى على نفسه

ذلك الرئيس في الآستانة أن يحارب به الإسلام، وعهد باسم جمعيته السرية إلى

مندوبه في مصر أن ينصره فيه ظالمًا ومظلومًا باسم الانتصار للدولة العلية

ومحاربة أعدائها، فصديق الدولة الحقيقي من يخدم الإسلام، وأعدى أعدائها من

يخذل أي مشروع إسلامي في أي مكان، ولا خير لها في إصلاح يضع أساسه يهود

أوربا في سلانيك، ويؤيدهم فيه ملاحة الروملي والأناطول، وإن شايعهم عليه

المندوب الأخرق، ومحرره البذيء الأحمق، وتضافروا على نصر الباطل وخذل

الحق، نعم.. إننا نكشف الستر، ونفشي ذلك السر، الذي أشرنا إليه في فاتحة

هذه السنة، ولا نخشى في ذلك لومه لائم، ولا عذل عاذل، فإننا لم نحلف عليه يمينًا،

ولم نعاهد عليه أحدًا عهدًا، وإنما جاءنا من مصادر شتّى في الآستانة يتمنى رواتها لو

يعرفه المسلمون؛ ولكنهم لا يأذنون الآن بذكر أسمائهم، ولا الإشارة إلى سماتهم؛ بل

سمعنا بآذاننا، وشهدنا بأنفسنا في مقام الجهر لا في زوايا السر، ما لا يمكن دفعه

ولا يستطاع دحضه.

_________

ص: 67

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نهضة التعليم الإسلامي في سملك دابل

بعد حمد لله، والصلاة والسلام على المصلح الأعظم سيدنا محمد وآله وصحبه.

نقدم تحياتنا الخالصة لحضرة الإمام العلامة الداعي إلى الله على بصيرة الغيورعلى الملة الإسلامية، حضرة الأستاذ: محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار

الغراء.

سيدي، إنا لما نعلمه من تفانيكم في خدمة الإنسانية عمومًا والمسلمين

خصوصًا؛ الذي نرى أعظم شاهد عليه انتشار مجلتكم الغراء في أرجاء العالم وما

لها من التأثير العجيب في استنهاض همم المسلمين إلى ما يعلي شأنهم، ويأخذ بهم

إلى الطريق الأقوم، وتحسين حالاتهم الأدبية والمادية، ولما نعلم من شغفكم

بالاطلاع على ما يتجدد من حركات التقدم بين المسلمين في هذه الجهات، والطرق

التي يسلكونها للرجوع إلى أحوال دينهم القويم، وما جاء به سيد المرسلين، وما

كان عليه السلف الصالح من التخلق بأخلاق القرآن العزيز، والتأدب بآدابه،

والسير في حالاتهم الاجتماعية على ذلك الدستور الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا

من خلفه، الصالح لكل زمان ومكان، الموافق لحالة أي جنس من الأجناس البشرية،

إنا لما نعلم كل ذلك منكم أحببنا أن نبشركم أن حركة تقدم المسلمين في كل حالاتهم

بجهاتنا لا تزال في تقدم مستمر، وقد أدرك جميع العقلاء أن لا سبيل إلى نيل ما

يؤملون إلا بالعلم الذي به تتنور الأذهان، وتتثقف العقول، وقضية مسلمة تكاد

تكون مجمعًا عليها عند سائر الأمم؛ ولهذا لهجت الألسن، وقامت الخطباء، وكتبت

الكتاب التعليم التعليم العلم العلم، حتى أصبحت فكرة التعليم هي الشائعة

هنا، وقد أنشئت في المدن الكبرى عدة مدارس وكتاتيب، وهي وإن كانت لم تبلغ

الدرجة المطلوبة، إلا أنها الآن عاملة على إحداث حركة فكرية لا يستهان بها

يصحبها ترق في الأخلاق والآداب، وهي سائرة على سنة النمو الطبيعي، ولا بد

يومًا أن يكون لها شأن يذكر في العالم الإسلامي.

ونبشركم أيضًا، وهو ما جعلنا نتجاسر على مكاتبتكم من غير سابق معرفة،

أنا قد وفقنا بعونه تعالى إلى إقامة مدرسة بقريتنا المسماة (سملك دابل) التي لا

تبعد عن مدينة (سورت) إلا بمسافة قريبة بجهة الهند، هذه المدرسة تعاون على

إنشائها أعيان المسلمين في القرية المذكورة، وأول اكتتاب سمحت به أنفس أولئك

الكرام لإنشاء هذا المعهد العلمي يقدر بأربعين ألف روبية، ثم تعاونوا على أخذ

عقار تكفي غلته نفقات المدرسة، تأسست منها المدرسة منذ سنتين باسم (مدرسة

تعليم الدين) . أما العلوم التي تدرس فيها، فإنما هي العلوم الدينية والقرآن الشريف

والخط العربي والفارسي والأوربي والإنكليزي والقزاري مع تعليم هذه اللغات

الخمس، ويدرس فيها علم التاريخ الإسلامي بوجه خاص مع بقية التواريخ بوجه

أعم، وتدرس فيها أيضًا مبادئ العلوم الأخرى. أما المدرسون في هذه المدرسة

فكلهم من مسلمي الهنود، وتتكفل هذه المدرسة بتعليم أولاد الفقراء مجانًا، وتقوم بكل

ما يلزم لهم من السكنى والنفقة والكسوة وغير ذلك حتى من المكملات الغير

الضرورية، كل ذلك رغبة في نشر العلم، وتربية الناشئين تربية دينية تهذيبية

تزرع في قلوبهم حب الخير، وتقدح في صدورهم زناد الغيرة، وتحثهم على

النشاط والجد والسعي إلى كل ما يعلي شأنهم وبلادهم.

وقد أنشئت حتى الآن لهذه المدرسة فروع عديدة في نواحي القرية المذكورة،

وكلها عامرة بالتلاميذ، وترسل هذه المدرسة إلى نواحي القرية والأماكن النائية قليلاً

عنها المعمورة بالفلاحين المسلمين ترسل إليها بعثات تدعوهم إلى الدين الحق،

وتعلمهم واجباته الأولية، وتعود هذه البعثات يتبعها من أولاد المسلمين الفقراء

وغيرهم عدد غير قليل، كلهم يهاجرون من أماكنهم رغبة في التعليم، والمدرسة

تتكفل بكل ما يلزم لهؤلاء الغرباء، وكل تلميذ يدخل في هذه المدرسة لا يكون لوليه

أن يخرجه من المدرسة قبل أن يمضي عليه فيها ثلاث سنوات على الأقل.

وبالجملة فنحن - بتوفيق الله - سائرون بهذه المدرسة إلى طريق التقدم؛

راجين من كل من تجمعنا معه الجامعة الإسلامية والشريعة مد يد المساعدة إلينا

بالأفكار السديدة والآراء الحميدة، فالمرء كثير بأخيه، ولولا ضيق المقام لشرحنا لكم

من أخبار هذه الجهة ما ربما أحببتم الاطلاع عليه، وربما بعد هذا أرسلنا إليكم

الرسالة التي تطبع رأس كل سنة مبينًا فيها من تنجبهم مدرسة التعليم الديني، وفي أي

العلوم، وعدد التلاميذ، والمرسلين، وقدر المصروفات والتبرعات، وكيفية إخراج

ذلك ذلك، ولولا أنها مطبوعة باللغة الأوردية لأرسلنا إليكم منها نسخة الآن. لكن

عسى تحصل فرصة لنترجمها إلى العربية، فنرسلها إليكم أو نرسل إليكم رسالة

السنة القادمة لقرب موعدها.

وفي الختام نمد يد الفاقة إلى مساعدتكم، وذلك بأن تسعفونا بإرسال مجلتكم

المنار لهذه المدرسة مساعدة لإخوانكم في الدين، ولكم من الله مزيد الأجر، وفي

محلنا هذا قل أن توجد المجلات والجرائد العربية، ونحن كثيرو التلهف إلى

انتشارها هنا؛ لنطلع على ما عليه إخواننا بجهاتكم، وما هي المسافة التي قد

قطعوها في سيرهم العلمي، ونطلع على أحوال الدول الإسلامية بتلك الجهات، ولا

سيما ما يتجدد من أخبار دولتنا العلية، وما هو مركزها اليوم بين دول الأرض بعد

أن أصبحت حكومتها دستورية موافقة لروح العصر، وبناء على ذلك، فنحن نطلب

منكم أن تلفتوا أنظار أهل الجرائد المصرية والبيروتية والتي تصدر بالآستانة بأن

يمنّ علينا من شاء منهم بإرسال جريدته، وله منا مزيد الشكر والامتنان، وكذلك

المؤلفون والمتصدقون بالكتب العلمية، من سمحت نفسه منهم بإرسال كتاب أو كتب

لمكتب هذه المدرسة، فنحن له من الشاكرين، ويقلدنا بذلك منة لا نستطيع القيام

بحق شكرها، ويخدم بني ملته خدمة يحفظها له التاريخ.

أما مجلتكم، فلا تخيبوا آمالنا بتأخير إرسالها، كما أن ثقتنا بإخلاصكم في

خدمة المسلمين تجعلنا لا نشك في مساعدتكم، وإن تفضلتم بإرسال نسخة من تفسير

الأستاذ الإمام فحاجتنا إليها شديدة جدًا. أكتب لكم هذا وأنا الآن بسرباية جزيرة

جاوه، وأتيت إليها من مدة قريبة؛ لاستنهاض مواطني المهاجرين بهذه الديار،

وحثهم على مد يد المساعدة على إحياء العلم ونشره ببلادهم.

...

...

... محبكم: حسن أحمد منصور

...

...

... خادم مدرسة تعليم الدين

(المنار)

نشكر للكاتب ولسائر أهل الغيرة القائمين بأمر هذه المدرسة، والمتبرعين

لها حسن سعيهم، ونرغب إلى الكاتب أن يعجل بإرسال الرسالة التي وعد بها

مترجمة بالعربية، وأن يبين أسماء الكتب العربية التي تدرس في المدرسة؛

لنبدي رأينا فيها، وسنرسل المنار وغيره من الجرائد للمدرسة إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 68

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقريط المطبوعات الجديدة

(النسائيات)

كنا نقرأ في (الجريدة) مقالات في شؤون النساء، عنوانها العام (النسائيات)

بإمضاء (باحثة بالبادية) ، وكنت ظننت عند قراءة أول ما اطلعت عليه بهذا

الإمضاء أن كاتبه رجل، ثم علمت أنه من إنشاء الكاتبة الشاعرة الأديبة ملك

ناصف، كريمة صديقنا حفني بك ناصف وقرينة صديقنا عبد الستار الباسل الزعيم

في قبيلة الرماح العربية التي تقيم في جهة الفيوم، وكأن الكاتبة بدأت بما كتبته

للجريدة وأمضته بلقب (باحثة بالبادية) وهي في دارها التي هناك بجوار القبيلة،

وإن كانت دار مقامها عامة السنة في القاهرة.

تربت الكاتبة في حجر والدها، ومقامه في العلم والأدب والنظم والنثر

معروف، فهو من الرعيل الأول الذين تخرجوا في مدرسة دار العلوم بعد الدراسة

في الأزهر، وأخذ عن الأستاذ الإمام، ثم علم وصنف، ثم صار قاضيًا في المحاكم

الأهلية، فقتل الزمان علمًا وخبرًا، وآثار علمه وأدبه مدروسة غير دراسة،

وتعلمت في المدرسة السنية الأميرية حتى صارت من المعلمات، ثم اقترنت

بالرجل البدوي الحضري الذي عرف أوربا كما عرف القاهرة، وخبر الأحوال

الاجتماعية البادية والحاضرة، وهو من مؤسسي حزب الأمة، ولهذا خصت قرينته

(الجريدة) بمقالاتها. وغرضنا من هذا البيان أن يعرف القارئ بأن صاحبة

مقالات النسائيات جديرة بذكائها الفطري والوراثي، وبتربيتها المنزلية والمدرسية،

ثم صيرورتها ربة بيت وقرينة بعل يعرف قيمة العلم والأدب والإصلاح، جديرة

بأن تكتب ما ترجى فائدته في النسائيات التي هي أهم المسائل الاجتماعية في مصر

والعالم الإسلامي المدني في هذا العصر.

تغيرت حال الاجتماع في المدائن الإسلامية بقدر انتشار التعليم العصري فيها،

واختلاط أهلها بالإفرنج والمتفرنجين، فتجددت لكثير من الرجال آراء ورغبات

فيما ينبغي أن تكون عليه بيوتهم ونساؤهم، والنساء لا يشعرن بالحاجة إلي تغيير ما

في نظام البيوت ولا في معارفهن وآدابهم وعادتهن. واقتضت تلك الرغبات في

بعض الرجال أن يعلموا البنات كما يعلمون الصبيان في المدارس العصرية التي

أنشأتها الجمعيات النصرانية الإفرنجية، ثم المدارس التي أنشأتها الحكومة، ثم

الأهالي لمحاكاة مدارس الإفرنج وتقليدًا لهم فيها، ولما تعلم بعض البنات صار فيهن

من يرغبن فيما يرغب فيه بعض المتعلمين من التغيير، ولكن الراغبات في ذلك من

المتعلمات أقل من الراغبين فيه، على أن المتعلمات أقل من المتعلمين.

يختلف المفكرون في هذه المسالة اختلافًا كبيرًا، فمنهم من يرى أنه ينبغي لنا

تقليد الإفرنج حذو القذة بالقذة، ومنهم من يرى أن ذلك أضر علينا من جهل النساء،

وبين هذين الطرفين آراء كثيرة، والحق الذي لا ريب فيه هو أنه لا يمكن أن

ينتظم حال الحضارة الإسلامية إلا بتربية البنات وتعليمهن، ولذلك قلت في فاتحة

العدد الأول من منار السنة الأولى عند بيان مقاصد الصحيفة: (وغرضها الأول

الحث علي تربية البنات والبنين) ولكنني لم أشرح هذا المقصد كثيرًا كما شرحت

غيره من مقاصد المنار؛ لأنني أرى أن التربية والتعليم لا يفيدان الفائدة التي نحتاج

إليها إلا إذا قامت بهما الجمعيات الخيرية الملية دون الحكومة، ودون الأفراد الذين

ينشئون المدارس لأجل الكسب، فكنت لهذا أطالب الأستاذ الإمام المرة بعد المرة

بإنشاء معهد خاص لتربية البنات بالعمل وتعليمهن، يكون تابعًا للجمعية الخيرية

الإسلامية، وكان - رحمه الله تعالى - يقول: إن المال الخاص بالتعليم في الجمعية

لا يكفي لهذا العمل، فلا بد من انتظار فرصة لفتح اكتتاب لذلك، وكنا ننتظر هذه

الفرصة ونرجئ القول في الحاجة إلى هذا التغيير في حال نسائنا، وفي طريقه

وكيفيته إلى وقت الشروع في العمل، حتى لا يكون القول مثارًا للمراء والجدل.

ما فتحنا باب البحث والجدل في المسألة، ولكن سخر الله له قاسم بك أمين

ففتحه هنا بكتابه (تحرير المرأة) ؛ إذ كتب في مسألة الحجاب ما أسخط السواد

الأعظم من الناس، فردوا عليه في الجرائد والمصنفات الخاصة، وبينوا آراءهم

في التربية والتعليم النافعين لترقية النساء.

ثارت الرياح في ذلك عند ظهور كتاب تحرير المرأة، ثم كتاب (المرأة

الجديدة) الذي رد به قاسم على المعترضين، ثم سكتت زمنًا وكاد يغلق باب البحث

فيه، لولا أن فتحت (الجريدة) مصراعيه لغير واحد من الكتاب، وفي أثناء ذلك

دخلت صاحبة مقالات (النسائيات) في مضمار البحث مناضلة مناظرة للكاتبين من

الرجال، ومظهرة لهم مالا يعرفون من شؤون النساء، ثم دعت النساء مرتين إلى

سماع خطبتين لها: إحداهما في شؤونهن العامة، وما ينبغي أن يكن عليه في

البيوت. والثانية في المقارنة بين المرأتين المصرية والغربية، وبيان ما يصلح

العمل به، وأجابها إلى سماعهما المئات من المصريات. وقد نشرناهما في المنار.

الحق أقول: إن ما كتبته هذه الكاتبة في بدايتها خير مما كتبه الكثيرون من

الرجال عبارة ورأيًا، فأكثر الرجال جاءوا بالآراء النظرية والأهواء النفسية، أو

تقليد الإفرنج والمتفرنجين، وهي قد بنت كلامها على اجتهاد واستقلال، يرجع إلى

أصول ثلاثة: أحدها الدين، وثانيها الاختبار، وثالثها مصلحة المرأة المصرية،

ومن فروع هذا الأصل الأخير استنكارها تزوج المصريين بالإفرنجيات والتركيات،

وإنا لنقرها على هذه الأصول، وإن كنا نخالفها في بعض الفروع، ونشهد أن ما

كتبته مفيد للقارئين والقارئات، ونشكرها شكر المستزيد من هذه الفوائد، ونهنئ بها

بيت الزوج وبين الوالد.

طبع الجزء الأول من (النسائيات) في منتصف العام الماضي، فكان 146

صفحة، وطبع معه تقريظ من أرباب القلم المشهورين بلغت 20 صفحة وافتتح

بمقدمة حكيمة لأحمد لطفي بك السيد مدير الجريدة أحسن ما فيها مسألة (المرأة

والدين) ، وثمن النسخة من هذا الجزء عشرة قروش صحيحة، فعسى أن ترى

الكاتبة من رواج كتابها ما يبعث همتها إلى زيادة العناية، ويرغب غيرها من

الكاتبات في الكتابة والخطابة والتأليف.

(البرهان الصريح في بشائر النبي والمسيح صلى الله عليهما وسلم)

جمع هذا الكتاب من نصوص العهد القديم والعهد الجديد أحمد أفندي ترجمان،

وهو رجل واسع الاطلاع في كتب أهل الكتاب الدينية، كثير الحفظ منها، قوي

الاستحضار لها، وأعانه على تحريره وترجمة النصوص من الأصل العبراني

محمد أفندي حبيب صاحب مكتبة برج بابل (بموافقة عالمين من علماء الإسرائيلية

على صحة النصوص العبرانية والكلدانية) وفي الكتاب فوائد كثيرة دينية وتاريخية،

ومقارنات غريبة بين النصوص وتفسير بعضها ببعض، لا يستغني عنها من

تعنيهم هذه المباحث. وثمن النسخة منه قرشان، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.

(مصادر المسيحية وأصول النصرانية)

(رسالة لاهوتية تاريخية، تبين المصادر الأصلية للدين المسيحي القديم وما

ورد فيه من توحيد وتثليث واثنينية وتسبيع وتتسيع، ومقبول ومرفوض من

العناصر الدينية القديمة؛ كالمصرية والبرهمية والبوذية والبابلية والآشورية

والميثرايزمية لمؤلفها محمد أفندي حبيب، صاحب مكتبة برج بابل في مصر مؤسس

حزب الله، وهذه الرسالة مأخوذة من الكتب الدينية والتاريخية المكتوبة باللغة

الإنكليزية في الغالب، وثمنها خمسة مليمات وتطلب من مؤلفها.

(الدرة اليتيمة لابن المقفع)

طبعت هذه الرسالة الأدبية الطبعة الخامسة في مطبعة الرغائب بمصر، وتطلب

من مكتبتها، وهي غنية بشهرتها عن الوصف.

(دروس التاريخ الإسلامي)

كتاب مختصر مفيد في تاريخ المسلمين، يؤلفه الشيخ محيي الدين الخياط،

ويطبع في بيروت بنفقة المكتبة الأهلية، وقد صدر منه ثلاثة أجزاء أو ثلاثة

أقسام كما عبر المؤلف: الأول في مجمل من السيرة النبوية، والثاني في مجمل من

تاريخ الخلفاء الراشدين، والثالث في مجمل تاريخ دولة بني أمية، ويقرب الجزء

من 90 أو 100 صفحة مقسمة إلى دروس، في كل درس مسائل مختصرة،

لكل مسألة عنوان وفي آخره خلاصة وأسئلة، فيصلح هذا الكتاب أن يدرس في

المدارس الابتدائية؛ لسهولته وحسن ترتيبه، على أنه للعارفين كالمذكرات

الوجيزة التي تسمى بالأعجمية (النوتة) ، وثمن الجزء قرشان ونصف، ويباع

في المكتبة الأهلية ببيروت، والمكتبة السلفية بمصر.

(المشير)

الجريدة جديدة أسبوعية (إسلامية إصلاحية عمومية) ظهرت بتونس في

أوائل هذا الشهر، وقد كتب إلينا من نثق بعلمه ورأيه من الثناء على صاحبها

(الطيب بن عيسى) والثقة بحسن قصده، ما جعلنا نتمنى لها الثبات والنفع

العام، وعسى أن يعضدها أهل الغيرة والرأي.

_________

ص: 71

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أعظم رجل في العالم

اختلف أحرار الباحثين في أعظم رجل ظهر في العالم، وقد سبق لبعض

الجرائد الأوربية الاقتراح على قرائها أن يكتبوا إليها آراءهم في ذلك، وكان منهم

من صرح بأن رأيه أن أعظم رجل ظهر في البشر هو سيدنا محمد خاتم النبيين

والمرسلين، قد اقترحت هذا الاقتراح وآخر في معناه من عهد قريب جريدة الوطن

البيروتية وصاحبها مسيحي، وكان أول من أجابه كاتب من أحرار الطائفة

المسيحية، قالت الجريدة:

سألنا فريقًا من الفضلاء عمن هو أعظم رجل في العالم وفي سوريا، ولماذا؟

فوردتنا الأجوبة الآتية ننشرها بحسب ورودها:

(1)

من هو أعظم رجل في العالم، ولماذا؟

أعظم رجال العالم على الإطلاق؛ رجل وضع في عشر سنين دينًا، وفلسفة

وشريعة اجتماعية، وقوانين مدنية، وغير شريعة الحرب، وأنشأ أمة ودولة

طاولت الدهر، وكان أميًّا ذلك هو:

محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي العربي نبي المسلمين.

وقد تدارك النبي لمشروعه العظيم كل حاجاته، فوفر لأمته ولتابعيه وللملك

الذي أنشأه أسباب الانتشار والخلود، بحيث إذا انقطع المسلم إلى القرآن والحديث

وجد فيهما ما يهمه من أمور دينه ودنياه، وجعل للمسلمين مؤتمرًا ينعقد كل عام في

مكة، ومن تنبه إلى فرض الحج على من يملك الراحلة والنفقة وإسقاطه عمن لا

يملكها، أدرك أن الغاية من الحج اجتماع الموسرين والوجوه من الأمة للبحث في

شؤون جامعتهم وأمور سياستها واجتماعها وتعاونها. وتدارك أمر الفقير بالزكاة

المفروضة على كل مسلم، بحيث إذا أداها المسلمون على حقها لم يبق في الأمة فقير.

وجعل نواة أبدية للإسلام بكون القرآن كتابًا عربيًّا، يتحتم على كل مسلم أن

يتفهمه بلغة العرب، وإذا لم يكن في هذا غير أن فهم العربية حتم على كل عالم

وإمام، يكفي به جامعة لسان للمسلمين.

ومهد طريق النبوغ لأفراد الأمة بكون المسلم لا يفضل المسلم إلا بالتقوى،

فكان الإسلام جمهورية حقيقية، يختار المسلون رئيسها الذي هو الخليفة، وقد

ساروا على هذه السنة حينًا من الدهر، ولن تزال المبايعة بالخلافة رمزًا من

رموزها.

وسهل اعتناق الإسلام لغير العرب بقوله: لا فضل لعربي على عجمي ولا

لعجمي على عربي.

ويسر لغير المسلمين العيش برخاء في بلاد الإسلام بقوله:

(الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله) .

ونظر في أمر (العائلة) ، فرتب أمور الزواج والتناسل والتوارث، ورفع

من شأن المرأة، وعاد إلى الأمور المدينة، فوضع قوانين وقضاء للنظر في شؤون

الأفراد.

ولم يهمل مالية الدولة، بل وضع سننًا لبيت المال.

وكان للعلم من همه نصيب وافر، فجعل الحكمة ضالة المؤمن، وأوصاهم

بأن يطلبوا العلم ولو في الصين، فكان لهذه الوصية شأن عظيم في اقتباس

المسلمين العلم من كل أبوابه وازدهاره في أيامهم.

أفلا يكون الذي فعل كل هذا أعظم الرجال؟

من هو أعظم رجل في سوريا ولماذا؟

لو عرف التاريخ اسم الفينيقي الذي اخترع الكتابة بالحروف، لكان جوابي

اسم ذلك الرجل.

وإذا صح أن نعد صلاح الدين الأيوبي سوريًّا لموته في سورية، ولإقامة أبيه

فيها، فهو أعظم رجالها لأنه انتصر في تسعين موقعة، وكان أعدل الملوك وأكرمهم

خلقًا ويدًا، فقد مات ولم يخلف دارًا ولا عقارًا، ولم يكن في خزانته يوم توفي غير

47 درهمًا.

أما التاريخ لا يعرف ذاك، وللناس على سورية هذا اعتراض، فإني أرى أبا

العلاء المعري السوري القح الذي كان شاعراً كبيرًا، ومنشئًا بليغًا، وفيلسوفًا

عظيمًا، وإنسانًا حكيمًا، ونابغة في حدة ذهنه، وفي حرية قلبه ولسانه، أعظم

رجال سوريا.

...

...

...

...

داود مجاعص

_________

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اعتصام الفئتين الكبريين من المسلمين

جاء في بعض جرائد العراق ما نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين وآله

وصحبه المنتخبين، قد رأينا أن اختلاف الخمسة الفرق الإسلامية في بعض ما لا

يتعلق بأصول الديانة، والشقاق بين طبقات المسلمين؛ هو السبب الموجب

لانحطاط دول الإسلام واستيلاء الأجانب على معظم ممالكها، فلأجل المحافظة على

كلمة الجامعة الدينية والمدافعة عن الشرعة الشريفة المحمدية، قد اتفقت الفتاوى من

المجتهدين العظام الذين هم رؤساء الشيعة الجعفرية، ومن علماء أهل السنة

المقيمين بدار السلام على وجوب الاعتصام بحبل الإسلام، كما أمر الله به، فقال

عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)

وعلى وجوب اتحاد كافة المسلمين في حفظ بيضة الإسلام وصون جميع الممالك

الإسلامية من العثمانية والإيرانية عن تشبثات الدول الأجنبية، وهجمات السلطة

الخارجية، وقد اتحد الرأي منا جميعًا تحفظًا على الحوزة الإسلامية أن نبذل تمام

قوانا ونفوذنا في ذلك، ولا نكف عن كل إقدام يقتضيه المقام، واثقين بكمال اتحاد

الدولتين العليتين الإسلاميتين، وعناية كل منها بحفظ استقلال الأخرى وحقوقها،

وقد أعلن لعموم الملة الإسلامية وجوب السكون والتعاون في حفظ استقلال دولتها

العلية، وحماية مملكتها وصيانة ثغورها عن مداخلة الأجانب، فيكونوا كما قال الله

تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ونذكر عامة المسلمين

الأخوة التي عقدها الله تعالى بين المؤمنين، ونعلن لهم وجوب التحرز والتجنب عما

يوجب الشقاق والنفاق، وأن يبذلوا جهدهم في نواميس الأمة، والتعاون والتعاضد

وحسن المواظبة على اتفاق الكلمة، حتى تصان الراية الشريفة المحمدية ويحفظ

مقام الدولتين العثمانية والإيرانية - أدام الله تعالى شوكتهما بمحمد وآله وصحبه خير

البرية.

...

...

... الأحقر شيخ الشريعة الأصفهاني

...

...

الراجي إسماعيل بن الصدر العاملي

(المنار)

لكل عمل وحال أجل، ولكل أجل كتاب، وقد طال الأمد على التفرق

والتدابر بين المسلمين، وقد بح صوتنا وحفيت أقلامنا من كثرة الدعوة إلى

الاعتصام. ولكن كان المفرقون يهدمون ما نبني، حتى قام يوهم الناس بعض

المفتونين بالرياسة أننا غيرنا طريقتنا؛ لأننا نشرنا تلك الرسالة المعهودة لسائح في

العراق، وما كنا مغيرين، ولكن كانوا هم المفرقين، ولم ينس القراء خطابنا في

العام الماضي لعلماء الطائفتين، بالقيام بما يجب من جمع الكلمة في الدولتين،

ونحمد الله أن أجاب دعاءنا، وهذا أول صوت من الفريقين في تلبية طلبنا، وإنا

لنرجو فوق ذلك اعتصامًا واتحادًا.

_________

ص: 77

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌البابية البهائية

ضاق هذا الجزء عن متابعة الكلام في الباطنية سلف هؤلاء البهائية، وقد

جرى بيني وبين أحد كبار رجال القضاء في الإسكندرية حديث في شأن عباس

أفندي زعيمهم، وكنا بدار محمد سعيد باشا رئيس النظار بمصر وقد اتفق جلوسنا

في إحدى الحجرات ليلة احتفال الرئيس بعيد جلوس الأمير، وكان معنا بعض

العلماء الوجهاء.

افتتح محدثي الكلام بمعاتبتي على ما كتبت في شأن عباس أفندي، وأطراه

أشد الإطراء، وشهد له بالإسلام الكامل علمًا وحكمة وعملاً، فقال: إنه يؤدي

الصلوات الخمس وغيرها من الفرائض والنوافل، ويبين من فضائل الإسلام ما لا

يكاد يستطيعه سواه، ويسعى في نشره في أمريكة وسواها، ويحاول جمع الشعوب

عليه، فكان سبب دخول الملايين في هذا الدين المبين، قال: ولو سواك طعن في

إسلامه، وقال فيه ما قلت وأكثر مما قلت، لما كنا نبالي بقوله، ولكن لكلامك من

القيمة والاحترام ما ليس لغيره؛ ولذلك ساءني أن تتكلم في هذا الرجل العظيم وأنت

لم تعرفه معرفة اختبار، بما لعلك أخذته من غمر جاهل أو ذي غمر متجاهل، وإني

أدعوك إلى ضيافتي بالإسكندرية، وأجمع بينك وبين الرجل وأنا موقن بأنك تعجب

بدينه وعقله وعلمه وآدابه الجذابة وفصاحته الخلابة، هذا حاصل معنى ما قاله هذا

اللائم المعجب بالرجل.

ومما قلته له: إنني أسلم بما سمعته منك ومن سواك عن شمائل الرجل وأدبه

وفصاحته، ولم أكتب فيه إلا ما يدل على هذا، وهذا التسليم لا ينقض شيئًا من بناء

اعتقادي واختباري، وإن قواعد هذا الاعتقاد ليست مأخوذة عن أعداء الرجل

وأعداء قومه، بل منهم ومن كتبهم، فقد جرى بيني وبين داعيتهم هنا مناظرات

متعددة، وثبت عندي أنهم من الباطنية الذين كانوا يظهرون للمسلمين وكذا لغيرهم

أنهم منهم وعلى ملتهم، ولا يطلبون إلا الإصلاح فيها، وهؤلاء البهائية إذا دعوا

النصارى في أمريكة مثلاً إلى نحلتهم قالوا لهم: إنا نصارى مثلكم نؤمن بألوهية

المسيح وبمجيئه في يوم الدين- أو الدينونة كما تقول النصارى - وقد جاء المسيح

كما وعد في ناسوت البهاء وآمنا به واتبعناه، وكذلك يقولون للمسلمين: إنا منكم

ونطلب إصلاح حالكم باتباع المهدي المنتظر، والمسيح الموعود به، بل يقولون:

إن دين برهما ودين بوذه ودين زردشت حق، ويقولون لهؤلاء إذا لقوهم: إنا منكم،

وإن ربنا وربكم هو البهاء، أو بهاء الله دفين عكا من بلاد الشام، ولا يفصحون

عن عقيدتهم كلها لأحد دفعة واحدة، وإنما يرتقون به درجة بعد أخرى، وقد وضع

سلفهم الأولون هذه الدرجات وجروا عليها، وقلدهم الماسون فيها (أي الدرجات

فقط) وقصارى دعوتهم الرجوع إلى نوع من الوثنية ملون بلون جديد من ألوانها.

ولما بالغ محدثي بإنكار ذلك، قلت له: إنني لا أدعي معرفة الرجل والحكم

عليه بما ظهر لي منه نفسه، وإنما أحكم عليه من حيث هو زعيم هؤلاء القوم

باعترافهم واعترافه، وقد بلغني عنه نفسه أنه يدعي الإسلام ويجاري أهله في

عباداتهم عندما يكون معهم، ونحن لا نقول لمن أظهر الإسلام: إنك لست بمسلم

اتباعًا للظن، ولكننا نعلم من تاريخ هؤلاء الباطنية مثل هذا، فقد كان العبيديون

بمصر يدعون أنهم مسلمون ويبثون دعاتهم في الناس لتحويلهم عن الإسلام إلى

عبادة إمامهم المعصوم بزعمهم، فإذا كان عباس أفندي مسلمًا حقيقة لا بالمعنى الذي

تقوله الباطنية عادة، فليكتب لنا مقالة بخطه وإمضائه يصرح فيها بالنص الصريح

بأن سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب هو خاتم النبيين والمرسلين، لا دين

بعد دينه، ولا شرع ينسخ شرعه، وأن القرآن هو آخر كتب الله ووحيه لأنبيائه

ورسله، وأن معانيه الصحيحة هي ما دالت عليه مفرداته وأساليبه العربية.

فقال محدثي البارع: كيف يمكن أن تقول للبريء: إنك متهم بالجناية،

وينبغي أن تتبرأ منها وتدافع عن نفسك؟ إننا لا نطلب أن يكتب ذلك بأسلوب الدفاع،

وإنما نطلب أن يكتبه في مقال يبين فيه حقيقة الإسلام؛ إرشادًا للناس وتعليمًا أو

ردًا على المعترضين، ومثل هذا يقع كثيرًا، ولذلك اكتفينا منه بذلك، ولم نكلفه أن

يتبرأ مما سمعناه من أتباعه من القول: بألوهية والده، ونسخه للشريعة الإسلامية؛

كجعل الصلوات ثنتين بدل خمس بكيفية غير كيفية صلاة المسلمين، فإن كان لا

يكتب من تلقاء نفسه، فإننا نكتب إليه أسئلة ونطالبه بالجواب عنها، فهل يضمن لنا

ذلك المعجب بإسلامه أن يجيب عنها؟ ؟

_________

ص: 78

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الماسون في الدولة العثمانية

كان السلطان عبد الحميد عدوًّا للجمعية الماسونية؛ لاعتقاده أنها جمعية سرية،

وهو يخاف من كل اجتماع وكل سر، وإن غرضها إزالة الاستبداد وهو مستبد،

وإزالة السلطة الدينية من حكومات الأرض كلها وهو يفخر بالخلافة الإسلامية

ويحرص عليها، وقد تنفس الزمان للماسون بعد الانقلاب الذي كان لهم فيه أصابع

معروفة، فأسسوا شرقًا عثمانيًّا أستاذه الأعظم طلعت بك ناظر الداخلية، وأركانه

زعماء جمعية الاتحاد والترقي، وأنصارها من اليهود وغيرهم، ولأجل هذا نرى

طلعت بك لا يبالي بسخط الأمة ولا برضاها في إدارته التي استغاثت منها المملكة

بألسنة ولاياتها كلها إلا ولاية سلانيك وكذا أدرنة فيما أظن، وألسنة مبعوثيها حتى

بعض الاتحاديين، وسلانيك هي الآن مركز السلطة الحقيقية في المملكة، وإنما

الآستانة مركز التنفيذ، كأن حظ عبد الحميد أن تكون السلطة الحقيقية حيث يكون

ما دام حيًّا، وإن لم تكن في يده الخاطئة.

وإنا نتمنى أن لا يكون تصرف طلعت بك في الماسونية كتصرفه في نظارة

الداخلية، فإنني والله لم أسمع من أحد في الآستانة ولا في غيرها شهادة له بحسن

التصرف، ولا أحصي عدد الشهادات التي سمعتها عن سوء تصرفه الذي ظهر أثره

في اضطراب أكثر ولايات المملكة، فسوء تصرفه في مسألة الأرنؤد قد عرف الآن،

وإن لم تظهر عواقبه السيئة كلها. وأما سوء تصرفه في مسألة اليمن فقد ظهرت

عواقبه السيئة كلها، وأما سوء تصرفه في مسألة اليمن فقد ظهرت بوادره

ونعوذ بالله من أواخره.

نتمنى أن يكون تصرفه في الماسونية أحسن حتى لا يجني عليها ولا على

الملة والدولة، فإن الفرق بيننا وبين فرنسة والبورتغال بعيد جدًّا، وإن كان يراه

هو والدكتور ناظم بك وبعض الزعماء قريبًا، فليتدبروا ولا يغتروا بقوة الجمعية

ولا بغيرها فطبيعة الاجتماع أقوى من تدبير الجمعيات، وقد يكون مع المستعجل

الزلل.

_________

ص: 80

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الذكر بالأسماء المفردة

(س4) من صاحب الإمضاء بطوخ القراموص

حضرة الفاضل صاحب المنار المنير الأفخم:

اطلعت على ما جاء في جوابكم على سؤال في الطريقة الشاذلية الدرقاوية

المنشور في ج3 م13 ص 194 من المنار؛ من أن الذكر بالأسماء المفردة لم يرد

في الشرع الأمر به ولا العمل

إلخ.

وحيث إن هذا المذهب، وإن سبقكم إلى القول به العز بن عبد السلام وابن تيمية

الحنبلي وغيرهما ممن حذا حذوهما؛ مخالف للسنة ولإجماع الصوفية وجمهور

الفقهاء والمحدثين، رأيت أن أرسل إليكم بهذه العجالة؛ لتنشروها في المنار، فإن

الحقيقة بنت البحث وإليكم البيان.

(1)

في الجوهر الخاص للعلامة الغمري أن الذكر ما أتى قط مقيدًا بشيء،

فليس في الكتاب ولا السنة اذكروا الله بكذا، بل اذكروا الله مطلقًا من غير تقييد بأمر

زائد على هذا اللفظ.

وفيه أيضًا: هل قول الذاكر: الله الله، يحتاج إلى تأويل خبر أم لا؟ الجواب:

أما من حيث الأكمل فيحتاج إلى خبر ليتم المعنى لا من حيث إنه يسمى ذكرًا فإنه

يسمى ذكرًا بدون ذلك؛ لأن صيغ الذكر وضعت للتعبد بها، ولو من غير تأويل

خبر.

ونقل العلامة العسقلاني في شرحه على البخاري في الكلام على حديث: (إنما

الأعمال بالنيات) أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما

يتميز بنفسه فإنه يتصرف بصورته إلى ما وضع له: كالأذكار والأدعية والتلاوة؛

لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة.

(2)

مما يدل على الذكر بالاسم المفرد من السنة، ما ورد في الحديث

الشريف عن ثابت عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة

على أحد يقول: الله الله) ، وعن علي كرم الله وجه من حديث طويل، قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: (يا علي لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول: الله

الله) ، وفي رواية حميد عن أنس: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله

الله) ، وفي الأنوار السَّنِيَّة أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا قال العبد: الله -

خلق اللهُ من قوله ملكًا مقربًا لا يزال يصعد حتى يغيب في علم الله وهو يقول:

الله الله

) إلى آخر الحديث.

(3)

في ذيل الرسالة القشيرية: كان رجل يكثر أن يقول الله الله، فوقع يومًا

على رأسه جذع فانشج رأسه فقطر الدم فاكتتب على الأرض: الله الله. وذكر ابن

العربي أن هذا الذكر ذكر الخاصة من عباده الذين عمر الله بأنفاسهم العالم.

وقال اليافعي ذكر الأقطاب: الله الله الله بسكون الهاء وتحقيق الهمزة، كما في

شموس الآفاق. وكان العارف بالله تعالى سيدي أبو الحسن الشاذلي قدس الله روحه،

يقدمه في التلقين على لا إله إلا الله. وقال في رسالة القصد: يقول المريد: الله الله،

وكما تلقنا لقنا وعمل بها واختارها هو وجمع من الصوفية لا يحصون، واختار

الغزالي في كتاب الميزان الإكثار من ذكر الله، وذكر أنه تلقن عن بعض مشايخه: الله

الله، وقال: إنها متضمنة لمعنى الشهادتين، وفصل أخو الإمام الغزالي فقال:

للمبتدئ: لا إله إلا الله، فقال: وهو ذكر ينفي الحظوظ ويبقي الحقوق، ويسرع

ذهاب الأغيار بالأنوار، وللمنتهي هو هو، وصنف في ذلك كتابه. وذكر العلامة

العدوي على كفاية الطالب عند قول الرسالة: وليقل الذابح عند الذبح بسم الله والله

أكبر لا يشترط بسم الله، إلى أن قال: لو قال: الله مقتصرًا على لفظ الجلالة أجزأ

ولو لم يلاحظ له خبرًا؛ لأن الواجب ذكر الله، وفي بعض حواشي الخرشي: لو

لم يلاحظ له خبرًا لكفى، وإما بالصفة كالخالق والرازق فإنه لا يكفي اهـ.

هذا ما حضرني الآن على مشروعية الذكر بالاسم المفرد والعمل به، ولو

أردت أن أورد الشواهد من السنة وأقوال الأئمة على اختلاف درجاتهم ومنازعهم

لطال بنا المقام، وفي هذا القدر كفاية. وعليه ترون أن القول بخلاف ذلك

مردود بما ذكر. والله ولي التوفيق.

...

... خادم العلم الشريف أحمد محمد الألفي

...

بطوخ

(ج) استدل السائل على مشروعية الذكر بالأسماء المفردة بقول الغمري:

إن الذكر ما أتى قط في الكتاب ولا في السنة مُقَيَّدًا بشيء، وبقوله: إنه لا يحتاج

في صحة كونه ذكرًا إلى تقدير خبر، وقول الحافظ ابن حجر فيما تشترط فيه النية،

ثم ببعض الأحاديث، ثم بأقوال وحكايات عن بعض المتصوفة.

فأما كلمات المتصوفة وحكاياتهم فليست بحجة عند أحد من علماء المسلمين،

حتى تحتاج إلى إثباتها والبحث في دلالتها، ومن السهو أن يعبر السائل الفاضل عن

ذلك بإجماع الصوفية؛ إذ لا يمكنه إثبات هذا الإجماع، وهو ليس بحجة لو ثبت،

ومثل ذلك قوله جمهور الفقهاء والمحدثين، وإنما الفقهاء الذين يعتد بكلامهم فهم

المجتهدون، ولم يذكر كلام أحد منهم ولا من المحدثين في محل النزاع.

وأما قول الغمري فهو لا حجة فيه من حيث هو قوله ولا صحة له في نفسه

بل هو باطل، فقد جاء الذكر في كل من الكتاب والسنة مطلقًا ومقيدًا بذكر آلاء الله

ونعمته؛ كقوله تعالى في سورتي المائدة والأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (الأحزاب: 9)، وقوله في سورة الملائكة: {يَا

أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ

وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (فاطر: 3)، وقوله في سورة الأعراف:

{فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} (الأعراف: 69) ، وكل ما ورد في الكتاب والسنة

من أنواع الأذكار كالتهليل والتسبيح والتمجيد فهو من الذكر المقيد، والأمر بذكر

الله مطلقًا من غير ذكر الاسم ينصرف غالبًا إلى الذكر النفسي؛ كذكر الآلاء

والنعم أي: تذكرها والتفكر فيها، وحيث يذكر لفظ (الاسم) يراد ذكر اللسان

كقوله تعالي في سورة الأنعام: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: 118)

وقد حققنا هذا المبحث فيما زدناه أخيرًا في تفسير الفاتحة عند شروعنا بطبعها في

الجزء الأول من التفسير، وأما ما نقله عن الحافظ في مبحث النية فليس مما نحن

فيه.

بقي ما ذكره من الأحاديث وهي موضع البحث دون سواها؛ لأن المسألة

صارت من المسائل المختلف فيها بين المسلمين، فمثل العز بن عبد السلام من أكبر

علماء الشافعية وكان يلقب بسلطان العلماء، وابن تيمية من أكبر علماء الحنابلة،

يقولان بعدم مشروعية الذكر بالأسماء المفردة، وناهيك بسعة علمهما بالكتاب

والسنة، وقد شهد العلماء لكل منهما بالاجتهاد المطلق. ويقول غير واحد

كالذين ذكر السائل أسماءهم: إنه مشروع، فيجب أن يرد هذا الخلاف إلى الكتاب

والسنة لا أن يقال: إن كلام عز الدين مردود بكلام الغمري مثلاً.

السنة النبوية هي البيان الأجلى لكتاب الله تعالى، ولم نر في كتب الناقلين لها

من الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم المعتبرة؛ أن للنبي صلى الله عليه وسلم

وأصحابه كانوا يذكرون الله تعالى بالأسماء المفردة، كما يفعل أهل الطريق الله الله

الله أو هو هو هو (إن صح أن هذا اسم) ، أو حق حق حق، فهل يعقل أن يترك

النبي صلى الله عليه وسلم هذه العبادة إذا فهم أنها مرادة لله تعالى من إطلاق الذكر

في بعض الآيات، وأن يتركها أصحابه رضي الله عنهم إذا فهموا ذلك أو رأوا

النبي صلى الله عليه وسلم فعله؟ أم يصح أن تكون هذه عبادة قد مضت بها سنتهم

ولم ينقلها أحد من الرواة؟ ثم إننا روينا من أحاديث الأذكار الكثير الطيب؛ كالتوحيد

والتسبيح والتجميد والتكبير والاستغفار، ولم نرو فيها أمرًا بقول الله الله، أو حي

حي باللفظ المفرد.

أما حديث إذا قال العبد الله

إلخ الذي نقله عن كتاب الأنوار، فهو لا يصح

ولا يحتج به بل هو موضوع، وأما حديث: (لا تقوم الساعة

إلخ) ، فقد

رويناه عن مسلم في صحيحه من حديث أنس، وكذا عن أحمد في مسنده والحاكم

وابن حبان وغيرهم، وكان ينبغي للسائل عزوه إلى صحيح مسلم، وعبد بن حميد

من شيوخ مسلم، وقد رواه من طريق حماد عن ثابت عن أنس بلفظ (لا تقوم

الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله) ، ومن طريق معمر عن ثابت عنه بلفظ:

(لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله) ، ورواه عبد بن حميد وابن حبان عنه

بلفظ: (على أحد يقول لا إله إلا الله) ، وكذا ابن جرير والخطيب وزادا (ويأمر

بالمعروف وينهى عن المنكر) ؛ والظاهر أن المراد من الرواية الأولى ما هو

بمعنى الثانية أي: لا أحد يذكر الله وحده في إسناد الأمور إليه؛ بل يكون الناس

كلهم ملحدين أو مشركين، وهذا ما صح في الأحاديث عند البخاري ومسلم وغيرهما،

والرواية وردت برفع لفظ الجلالة لا بسكونه، واللفظ في العربية لا يكون مرفوعًا

ولا منصوبًا ولا مجرورًا إلا في الكلام المركب، وقد ذكر علماء البلاغة نكت حذف

المسند والمسند إليه من الكلام، والعمدة فيها كلها القرينة المبينة للمراد، وقد وقع

الحذف في القرآن كثيرًا، كقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ

لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25) أي خلقهن الله، وقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي

جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا

لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام: 91)

أي قل الله أنزله أي: كتاب موسى إن لم يقولوه، ولو علمنا ما كان يحتف بالحديث

من قرائن الأقوال والأحوال لجزمنا بالمحذوف كما نجزم به في الآيتين، ولكننا

نقدره، ولم نطلع على تلك القرائن بما يتفق مع رواية على أحد يقول لا إله إلا الله

وروايات غلبة الشرك والكفر على الناس الذين تقوم عليهم الساعة، فنقول المعنى

لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله فعل كذا، الله قدر كذا، ولا يظهر إرادة النطق

بلفظ الجلالة مفردًا، فإن المشركين والملاحدة يذكرون الاسم الشريف بمناسبات

كثيرة.

_________

ص: 99

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسئلة من الهند

(س5 11) من صاحب الإمضاء:

سيدي رأيت في حاشية كتاب العلو لابن قدامة المطبوع في مطبعة المنارالأغر

على القصة المروية عن عبد الله بن رواحة مع امرأته رضي الله عنها حيث رأته

مع جارية له قد نال منها، فلامته فجحدها، فقالت له: إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن،

فإن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال: شهدت

الأبيات، فقالت: آمنت بالله وكذبت

بصري، وكانت لا تحفظ القرآن. كلامًا ما نصه: لا شك عندي في أن الرواية في

هذه المسألة موضوعة

إلخ. مع أن الحافظ ابن عبد البر قال في الاستيعاب (كما

ذكر ذلك ابن القيم في الجيوش الإسلامية وأقره) : رويناها (يعني القصة) من

وجوه صحاح، فالمسئول إيضاح الصواب.

قوله صلى الله عليه وسلم كل قرض جر نفعًا هو ربا ما هو تفصيل هذا النفع،

ويفعل الغواصون عندنا أمرًا هو أن صحاب السفينة يقرض الذين يغوصون معه

في سفينته؛ بشرط أن لا يغوصوا مع غيره، وأمرين آخرين (وهما وإن لم يكونا

من باب القرض، لكن نحتاج إلى بيان الحكم فيهما) الأول: أن يبيع صاحب

السفينة من أحد رفقائه سلعة بثمن إلى أجل، على أن يغوص معه في سفينته،

والثاني: هو أن يبيع رجل من آخر صاحب سفينة سلعة بثمن إلى أجل، على أن

يأتي إليه بلؤلؤ ليشتريه، فإذا جاء إليه به (بعد الغوص) فهو بالخيار، إن

تراضيا على ثمن حينئذ باعه منه وإن لم يتراضيا باعه صاحبه حيث شاء، وأدى

ذلك الطلب الذي عليه إلى المذكور، فهل هذه الصورة من صور الرهن؟ وهل

يحرم شيء من ذلك؟ .

ما هي ضربة الغائص المحرمة شرعًا، هل هي كل غوصه، ويفعل

الغواصون عندنا أمرًا؛ هو أن صاحب السفينة يستأجر من يغوص له مدة معلومة (

لا مرات معلومة) بأجرة معلومة، فهل ذلك جائز أم لا، وما العلة في تحريم

ضربة الغائص، هل هي جهالة اللؤلؤ الذي في الصدف أم ما هي أرجوك الجواب

بما يبين به الصواب، وبيان الدليل بما يشفي العليل، أثابكم الله، داعيكم حرر هذه

السطور بطريق الاستعجال، فأرجوكم السماح وغض الطرف، وعلى كل حال

فلسيدي إصلاح ما وقع من خطأ إن كان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

...

... داعيكم

...

...

...

...

عبد الصمد الوهبي

* * *

(قصة عبد الله بن رواحة مع امرأته)

(ج5) إن العبارة التي قلتها ظاهرة في أنها إبداء رأي مني لا نقل عن

المحدثين، وقد بنيت هذا النقل على أصول الدراية، لا على نقد أسانيد تلك الرواية،

فإنني لم أطلع على إسناد ابن عبد البر لهذه القصة، وقد رأيت ما نقله ابن القيم

عن الاستيعاب في الاستيعاب نفسه، ولم يغير رأيي في القصة، وإنني أعلم أنه

ليس كل ما صحح بعض المحدثين سنده يكون صحيحًا في نفسه أو متفقًا على تعديل

رجاله، فكأين من رواية صحح بعضهم سندها، وقال بعضهم بوضعها لعلّة في

متنها أو في سندها، والجرح مقدم على التعديل بشرطه، وقد ذكروا من علامات

الوضع ما ردوا به بعض الروايات الصحيحة الإسناد؛ كرواية مسلم في صلاة

الكسوف بثلاث ركوعات وثلاث سجودات، وروايته في حديث (خلق الله التربة يوم

السبت) ؛ لأن الأولى مخالفة للروايات الصحيحة التي جرى عليها العمل، والثانية

مخالفة للقرآن.

من العبرة في هذا الباب حديث علي كرم الله وجهه في كون النبي صلى الله

عليه وسلم ما كان يقرأ القرآن جنبًا، صححه الترمذي وابن حبان وابن السكن

والبغوي وغيرهم، وقال الشافعي: أهل الحديث لا يثبتونه، وقال الخطابي: كان

أحمد يوهن هذا الحديث، وقال النووي: خالف الترمذي، أما الأكثرون فضعفوا

هذا الحديث، وعلته من عبد الله بن سلمة راويه، حكى البخاري عن عمرو بن مرة

الراوي له عنه أنه قال: كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر، وقال البيهقي

في قول الشافعي الذي ذكرناه آنفًا: إنما قال ذلك لأن عبد الله بن سلمة راويه

كان قد تغير، وإنما روى هذا الحديث بعدما كبر، قاله شعبة.

ومما يدلك على أن تصحيح ابن عبد البر لتلك القصة لم يعتد به جماهير

العلماء؛ عدم ذكرهم إياه في بحث تحريم القراءة على الجنب، حتى صرح بعض

المحدثين والفقهاء بأن أقوى ما روي في هذا الباب حديث علي الذي أشرنا إليه آنفًا،

والقصة تدل على أن هذا كان معروفًا مستفيضًا بين الصحابة، يعرفه النساء

والرجال، وما كان كذلك تكثر الروايات الصحيحة فيه. والمعروف الذي تداولوه

وبحثوا فيه حديث علي وقد علمت ما فيه، وحديث ابن عمر مرفوعًا: (لا يقرأ

الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وهو ضعيف

، وفي المعنى حديث جابر مرفوعا:(لا يقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئًا)

، رواه الدارقطني وهو واهٍ أو موضوع، وأقوى ما في الباب من الآثار ما صح

عن عمر بن الخطاب أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب.

لم يذكر الحافظ ابن حجر قصة عبد الله بن رواحة في ترجمته من كتابه

(الإصابة) ، وهي في كنز العمال تختلف عما في الاستيعاب، فقد عزاها إلى ابن

عساكر من رواية عكرمة مولى ابن عباس؛ وفيه أن امرأة عبد الله لما رأته مع

الجارية رجعت، وأخذت الشفرة فلقيها، فقالت: لو وجدتك حيث كنت لوجأتك بها (

أي بالشفرة) فأنكر أنه كان مع الجارية، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه

وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب، فقالت: اقرأه، فقال:

أتانا رسول الله يتلو كتابه

كما لاح مشهور من الصبح ساطع

أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا

به موقنات أن ما قال واقع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا اشتغلت بالكافرين المضاجع

قالت: آمنت بالله وكذبت بصري، قال عبد الله بن رواحة: فغدوت على

النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك، حتى بدت نواجذه، وكأن السيوطي

رجح هذه الرواية على اعترافه بضعفها على رواية ابن عبد البر فاقتصر عليها،

ويعلم السائل أن ابن قدامة أورد رواية أخرى في المسألة، وفيها أنه لما أنكر على

امرأته، قالت له: اقرأ القرآن؛ فأنشد:

شهدت بإذن الله أن محمدًا

رسول الذي فوق السماوات من عل

وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما

له عمل من ربه متقبل

وقد روى هذه الرواية من طريق أبي بكر بن شيبة عن أسامة عن نافع، وسنده

إليه ضعيف، فقد طعنوا في عبد العزيز الكناني وشيخه عبد الرحمن بن عثمان

وقالوا في شيخه عمه محمد بن القاسم: إنه قد اتهم في إكثاره عن أبي بكر أحمد بن

علي، فهذه ثلاث روايات في الشعر الذي قيل: إن عبد الله بن رواحة أنشده،

الثالثة منها ما أورده ابن عبد البر وهي:

شهدت بأن وعد الله حق

وإن النار مسرى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش رب العالمينا

ولم يستدل الفقهاء بشيء منها على تحريم التلاوة على الجنب على أنها

أصرح شيء فيه، وما ذلك إلا لعدم اعتمادها أو وضعها.

أما وجه حكمي بوضعها فهو ما فيها من نسبة تعمد الكذب من صحابي من

الأنصار الأولين الصادقين الصالحين، وتسميته الشعر قرآنًا أي نسبته إلى الله عز

وجل القائل فيه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِر} (الحاقة: 41) وإقرار النبي صلى

الله عليه وسلم له على ذلك بالضحك الدال على الاستحسان، كما صرح به في

بعض الروايات، وقد صرح العلماء بأن من نسب إلى القرآن ما ليس منه كان

مرتدًّا.

* * *

(حديث كل قرض جر نفعًا)

(ج6)(حديث كل قرض جر نفعًا فهو ربا) ضعيف، بل قال الفيروزآبادي:

إنه موضوع ولا عبرة بأخذ كثير من الفقهاء به، كما قال المحدثون وهم أهل هذا

الشأن، وقد بينا ذلك في ص362 وما بعدها من مجلد المنار العاشر في سياق

الفتوى في أمانات المصارف (البنوك) ، والنفع عندهم عام يشمل العين والمنفعة،

ولا يحرم إلا إذا اشترط في العقد، وقد بينا هناك في المنار جواز أن يؤدي المدين

أفضل مما أخذ.

* * *

(القرض بالشرط الفاسد)

(ج7) من أقرض الغواصين بشرط أن لا يغوصوا مع غيره، كان هذا

الشرط فاسدًا، فإنهم إذا لم يغوصوا معه لا يلزمهم إلا وفاء الدين، بل الظاهر أن

هذا وعد لا شرط، والوعد يجب الوفاء به ديانة لا قضاء عند جماهير الفقهاء، أي أن

الحاكم لا يجبر الواعد أن يفي بوعده، ولا يحكم للموعود بأن الموعود به حق له.

* * *

(البيع بشرط عمل أجنبي عن العقد)

(ج8) إذا باع صاحب السفينة للغواص سلعة بثمن مؤجل بشرط أن يغوص

معه فجماهير الفقهاء لا يعتدون بهذا الشرط، والقول فيه كالقول في مثله في المسألة

السابقة أي أن قبول المشتري له عبارة عن وعد منه، وهو لا يجب عليه للبائع

غير الثمن المسمى غاص مع غيره أم لا، نعم.. إنه يجب عليه الوفاء بالوعد ولا

سيما لمن تمتع بماله بهذا القصد.

(ج9) ومثل هذه المسألة ما بعدها؛ وهو أن يبيعه سلعة بثمن إلى أجل

على أن يأتيه بلؤلؤ ليشتريه منه بالتراضي، فإن لم يتراضوا باع لؤلؤه حيث شاء،

وأدى الثمن، وليس هذا من الرهن في شيء، فللمشتري أن يتصرف في السلعة

ويستهلكها، وليس عليه غير ثمنها إلا الوفاء بوعده ديانة.

* * *

(ضربة الغائص)

(ج10) ضربة الغائص التي ورد النهي عنها؛ هي أن يقول الغائص

للتاجر مثلاً: أغوص لك في البحر غوصة، فما أخرجته فهو لك بكذا، قالوا وقد

نهي عنه لما فيه من الغرر؛ ولأنه من بيع المجهول وهو يشبه القمار وهو غير

جائز، ومثله ضربة القانص - أي الصائد - يرمي شبكته في البحر مرة بكذا درهمًا،

والحديث في النهي عن ضربة الغائص ضعيف، رواه أحمد وابن ماجه والبزار

والدارقطني عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد قال: (نهى النبي صلى الله عليه

وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها إلا

بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء

الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص) ؛ وشهر بن حوشب مختلف فيه،

حسن البخاري حديثه، وقال ابن عدي: شهر ممن لا يحتج به ولا يتدين بحديثه.

وقد صرح الحافظ ابن حجر بضعف سند الحديث، ولكنهم قووا متنه بالأحاديث

الصحيحة في النهي عن بيع الغرر.

* * *

(استئجار الغواصين)

(ج11) استئجار الغواص للغوص مدة معلومة أو مرات معدودة جائز؛ لأن

كلا منهما استئجار لعمل معين بأجرة معلومة، والفرق بين ضربة الغائص

والاستئجار للغوص، أن الغواص في الحالة الأولى يبيع شيئًا مجهولاً لا يملكه،

وفي الحالة الثانية يعمل عملاً بأجرة، وليست الأجرة للغوص عدة مرات جائزة

لأجل تعدد المرات، ولا ضربة الغائص ممنوعة لأنها مرة واحدة، بل لما ذكرنا

من الفرق فالضربة والضربات سواء في ذلك البيع وفي هذه الإجارة، والأجير

يستحق الأجرة بمجرد العقد كما صرح به الحنابلة، ويجوز تأخيره بالتراضي،

ولأصحاب الأموال وأصحاب السفن الذين يقرضون الغواصين بتلك الشروط التي لا

علاقة لها بالقرض، ولا تقيم المحاكم لها وزنًا أن يستأجروهم للغوص قبل وقته،

ويعطوهم الأجرة كلها أو بعضها عند العقد أو بعده وقبل زمن الغوص بحسب

الحاجة، فهذه أمثل الطرق إن كانوا يخافون غدرهم وعدم وفائهم. وأما الذين

يقرضون المال لأجل أن يشتروا اللؤلؤ في موسمه، فخير لهم أن يطبقوا معاملتهم

على قواعد السلم إن أمكن.

هذا ما ظهر لنا في أجوبة هذه المسائل بناء على قواعد الفقه المشهورة المبنية

على المعاملات القضائية، وأشرنا إلى أن المتدينين يتعاملون فيما بينهم بالصدق

والوفاء بالوعود، فهم لا يختلفون إذا كان ما تعاقدوا أو تعاهدوا عليه صريحًا

مرضيًّا بينهم، وقد ثبت في الكتاب والسنة وجوب الوفاء بالعقود التي يتعاقد الناس

عليها برضاهم، وعمل المسلمين بشروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً،

والمحرم في العقود هو الغش والخداع والغرر وكل حيلة يأكل بها الإنسان مال

الآخر بالباطل، وقد شدد بعض الفقهاء كالحنفية في العقود والشروط، ووسع فيها

بعض الحنابلة وفقهاء الحديث، والذي حققه ابن تيمية بالدلائل القوية هو أن كل

عقد وكل شرط لا يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو

جائز، والوفاء به واجب سواء اقتضاه العقد أم لا، وهذا ما نراه ولا نحب أن نطيل

في المنار في مسائل المعاملات الفقهية؛ لأن غرضنا مما ننشره من الأحكام العلمية

في باب الفتاوى وغيره، هو بيان عدل شريعتنا وموافقتها لمصالح الناس في كل

زمان ومكان للرد على الطاعنين فيها وتمكين عقائد الجاهلين من أهلها، وبيان

المسائل الدينية المحضة وحكمها للعلة المذكورة آنفًا.

_________

ص: 103

الكاتب: محمد رشيد رضا

المسلمون والقبط

(1)

إنما بقاء الأمم والملل بمقوماتها التي تمتاز بها عن غيرها، فإذا قصر أفرادها

في التماسك والاعتصام بالمحافظة على تلك المقومات وما يتبعها من المشخصات،

زالت الأمة أو الملة بانقراض أهلها أو اندغامهم في أمة أخرى.

مضت سنة الله في البشر بمحافظة كل قوم على مقوماتهم ومشخصاتهم

وحرصهم عليها بقدر ارتقائهم في حياتهم الاجتماعية، فالأمة الحية المستقلة لا تتبع

أمة أخرى، ولا تقلدها في دينها ولا عاداتها ولا تقاليدها، ومثلها في ذلك كمثل

الأفراد، فالعالم المستقل لا يتقلد رأي غيره وإن كان مثله أو أعلم منه، وإنما يعمل

بما يظهر له أنه الصواب لا بما يظهر لغيره.

يتعصب بعض الشعوب لما هم عليه، وإن ثبت لهم أن المخالف لهم فيه أولى

بالصواب وأجدر بالاتباع، كما يتعصب الإنكليز لمقاييسهم ويأبون اتباع الفرنسيين

وغيرهم في المقاييس العشرية التي هي خير منها، فإذا ثبت لهم أن ما هم عليه

ضار بهم أو مقدم لغيرهم عليهم، تبدلوا به غيره بالتدريج البطيء لكيلا تتزلزل

مقومات الأمة أو مشخصاتها، فيضعف تماسكها وتشعر بعلو غيرها عليها.

كان المكونون للأمم يراعون هذه السنن فيها، حتى إن رؤساء النصارى لما

أرادوا فصل أتباع المصلح العظيم لليهودية (عيسى عليه السلام من قومه اليهود،

تركوا من تعاليم الناموس (التوراة) ما أقره المسيح، ولم ينقضه كالراحة في يوم

السبت والامتناع عن عمل الدنيا فيه، واستبدلوا به يوم الأحد بغير أمر من المسيح

ولا من حواريه، ووضعوا لهم غير ذلك من العبادات والأعياد، حتى صارت ملتهم

من أبعد الملل عن اليهودية، كذلك فعل المصلح الأعظم خاتم النبيين (صلى الله

عليه وعليهم أجمعين) بما كان يأمر به من مخالفة أهل الكتاب وغيرهم في عاداتهم

وتقاليدهم زائدًا ذلك عما جاء به الوحي من الإصلاح في أصول دين الله وفروعه،

والحكمة في ذلك تكون الأمة وامتيازها بما تكون به قدوة لغيرها لا تابعة مقلدة.

كذلك مضت سنة الله في البشر بتقليد الضعيف للقوي وتشبهه به فيما يسهل

التقليد، والتشبه فيه سواء ذلك في الأفراد والأمم، وإنما السنة فيه أن يكون

بالتدريج والانتقال من محقرات الأمور كالأزياء والعادات إلى ما فوقها، حتى ينتهي

بأعظم المقومات التي بها التمايز كاللغات والمذاهب والأديان، ولولا التعارض بين

داعيتي التقليد والاستقلال، لكان أمر البشر على غير ما نعهد الآن، فإما أن يكون

كل منهم مقلدًا لمن قبله فيكونون كالأنعام، وإما أن يكون كل منهم مستقلاً في كل

شيء، فلا يكادون يشتركون في شيء يجمع بينهم، ويرى بعض الحكماء أنه يجب

التأليف بين جميع البشر واتحادهم، وما هذا بالذي يتم، وغاية ما يرجى من الكمال

أن يتعارفوا ولا يتناكروا في اختلافهم كما أرشد القرآن.

كان أمر الناس في الزمان الماضي متروكًا إلى طبيعة الاجتماع، تعمل عملها

بسنن الله تعالى فيهم، وهم لا يشعرون بسيرها، فيساعدوها عليه أو يقاوموها فيه

بالطرق العلمية إلا ما كان من الحروب التي توقد نيرانها مطامع الأقوياء، وقد

اتسع نطاق علم الاجتماع في هذا العصر، فصارت الأمم العالمة المتحدة تفضل قوة

العلم على قوة السلاح في محاربة الأمم الجاهلة المتخاذلة، فتسطو على مقوماتها

ومشخصاتها من الدين واللغة والتقاليد والعادات فتزلزلها، وتزيل ثقتها بها بالتدريج،

وتزين لها أن تتبدل بها ما تخيل إليها أنه خير منه، فتزيدها بذلك ضعفًا ومرضًا

حتى تكون حرضًا أو تكون من الهالكين، إما بالاستبعاد وذهاب الاستقلال، وإما

بالاندغام والاضحلال.

هذا هو السبب في بث الإفرنج دعاة دينهم، وفي بنائهم المدارس في البلاد

الإسلامية وغيرها، وفي اتخاذهم الوسائل إلى بث لغاتهم وآرائهم وعاداتهم في

مدارسنا، حتى صارت نفوس نابتتنا في البلاد المقلدة لمدينتهم في تصرف الأساتذة

من الافرنج والمتفرنجين، ينقشون فيها من الأفكار، ويطبعون فيها من الملكات ما

يغير نظام الاجتماع في بلادنا، ويجذب أموالها وميولها إليهم حتى يكون أهلها عالة

عليهم أو خدمًا لهم في كل شيء، إلى أن تصير ملكًا خالصًا لهم في الحقيقة دون

الاسم أو في الأمرين معًا، وقد صرح لورد كرومر في بعض تقاريره عن مصر

بأن الغرض من مدارس الحكومة فيها فرنجة المصريين، فهل اعتبر بهذا القول أحد

من القارئين، أو نبه عليه أحد من السياسيين؟ وهو الذي ترتب عليه تقليد

حكوماتنا لأوربا بغير اجتهاد ولا استقلال.

لا أقول ما قلته ذمًا في الافرنج بل مدحًا لهم؛ فإن هذه الطريقة هي أرقى ما

وصل إليه البشر في الفتح والاستعمار، واستيلاء الأقوياء على الضعفاء الذي هو

من سنن الاجتماع، فلهم في شرع العمران والفلسفة أن يجدوا ويجتهدوا في جذب

جميع الأمم إلي دينهم ولغاتهم وعاداتهم، وفي تسخيرها لخدمتهم ومنافعهم، وإنما

يمكن أن تلومهم الفلسفة أنهم لا يرضون أن يساووا هؤلاء المجذوبين بأنفسهم، ولا

أن يرقوهم إلى درجتهم، فالشرقي عندهم لا يمكن أن يساوي الغربي وإن اتبعه هذا

في دينه ولغته وعاداته، والإسلام يفضلهم في هذه المسالة، فهو قد سبقهم إلى تلك

الطريقة السلمية في جذب الناس إليه مع تقرير المساواة التامة بين المنجذبين إليه

الداخلين فيه، لا فرق بين الملك العظيم كجبلة بن الأيهم والصعلوك الفقير. ولا

بين السيد الشريف الفاتح كخالد بن الوليد وبين العتيق الأسود كبلال الحبشي، بل

الإسلام يساوي بين المسلم وغير المسلم في الحقوق، كما ساوى أعدل أمرائه عمر

بن الخطاب بين أكبر سيد فيه علي بن أبي طالب وبين رجل من آحاد اليهود،

والانكليزي لا يساوي الهندي بنفسه، ولا الفرنسي يساوي الجزائري بنفسه، بل

ميزوا أنفسهم علينا في عقر ديارنا وأرقى حكومتنا.

الإفرنج أرقى منا في العلم والمدنية، فنحن في حاجة إلي أخذ الفنون

والصناعات منهم بالاجتهاد والاستقلال، مع المحافظة على مقوماتنا الملية والقومية

التي تحول دون فنائنا فيهم. ولكننا لم نأخذ منهم شيئًا مما نحتاج إليه بالشرط الذي

بيناه، وإنما سرى إلينا ما سرى منهم بالتقليد لا بالاستقلال؛ لذلك كان سببًا لضعف

استقلالنا أو ذهابه لا لرسوخه وثباته، اللهم إلا ما اقتبسته دولتنا العثمانية من فنون

الحرب، فلها استقلال واجتهاد ما فيه، لعلمها بتوقف حياتها عليه، ولم يكن استقلالها

فيه تامًّا؛ لأنها لا تزال عالة عليهم حتى في تعليم الجند، فما بالك بصنع الأسلحة

والآلات والبوارج والمدرعات، ولو تواطأت دول أوربا على منع بيع

السلاح وآلات الحرب للدولة لقضين على قوتها بغير مقارعة ولا مكافحة.

من آية استقلال الأمة فيما تأخذه عن غيرها، وما تدعه من عاداتها التي هي

عرضه لها، أن يكون ذلك رأي زعمائها وعمل جمعياتها، باسم الأمة ولمصلحتها

العامة، ولسنا معاشر المسلمين على شيء من هذا الاستقلال، بل نحن مقلدون

للأفرنج حتى فيما نحسب أننا نهرب به من سيطرتهم؛ كالدعوة الوطنية التي كان

الخسار فيها علينا والربح لغيرنا، ومن الشواهد المحسوسه على ما ذكرنا من

المقدمات ما يسمونه اليوم بالمسألة القبطية في مصر.

***

سكان القطر المصري اثنا عشر مليونًا منهم أحد عشر مليونًا ونيف من

المسلمين، ويزيد عدد القبط فيه عن نصف مليون والباقي من سائر الشعوب والملل،

ودخل بعض القبط في حماية الدول الأجنبية، فلم يعد لهم من الحقوق ولا عليهم

من التكاليف مثل ما للوطنيين وعليهم، والمشهور أن نسبة القبط إلى المسلمين في

هذا القطر هي نسبة ستة إلى مئة.

في هذه الفئة القليلة من الحياة الملية ما ليس في تلك الفئة الكثير العدد،

صاحبة الحق في الملك والسؤدد؛ لأن الحاكم العام منهم، وهو صاحب التصرف

المطلق في إدارة بلادهم التابعة في السياسة والسلطة لخليفتهم، ولغة الحكومة والأمة

هي لغة دينهم، ولم تغن عنها كثرتهم، ولا سلطتهم، ولا شكل حكومتهم، ولا

تبعيتهم لخليفتهم من شيء لما قامت القبط تنازعهم ما في أيديهم، فتنزعه شيئًا بعد

شيء على سنة الكون ونظام الاجتماع، فما أجدر القبط في سيرتهم هذه بالفخر

والإعجاب.

ليس لمسلمي مصر جمعيات دينية محضة ولا مجلس ملي إسلامي كما للقبط

وغيرهم، ليس لهم أندية إسلامية خاصة بهم من حيث هم مسلمون، ليس لهم

جرائد ولا مجلات دينية محضة كجرائد غيرهم ومجلاتهم، لا يوجد فيهم أفراد ولا

جماعات ينظرون في أمورهم الاجتماعية ونسبتهم فيها إلى غيرهم، ويعملون عملاً

ما لمسابقة غيرهم أو مزاحمته في أعمال الحكومة أو الأعمال المالية أو الأدبية،

الجرائد السياسية لغير المسلمين تروج عند المسلمين، وجرائد المسلمين لا تروج

عند القبط. والمسلمون يعلمون ذلك ولا تحركهم نعرة عصبية، ولا غيرة ملية،

وما ذلك إلا من بقايا ما ورثوا من أخلاق دينهم من صفاء القلب والتساهل.

أما القبط فإنهم يعملون كل شيء للقبط باسم القبط، ويعبرون عن أنفسهم بالأمة

القبطية، ويسمون البلاد المصرية بلادهم وبلاد آبائهم وأجدادهم، ولهم مجلس ملي

وجمعيات وأندية وجرائد ومجلات قبطية محضة، ويطلبون ما يطلبون من

المناصب والأعمال في الحكومة للقبط باسم القبط على أنها حق للقبط من حيث إنهم

قبط، ويتعاونون في جميع مصالح الحكومة، فيفضل القبطي أخاه القبطي على

غيره، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، ولا شيء عند المسلمين من هذا التعاون

والتكافل، على أن البلاد بلادهم وليس للقبط فيها مزية على غيرهم من النصارى

واليهود إلا بتمييز المسلمين لهم، ثم إنهم يتهمون المسلمين بالتعصب الذميم

والتحامل وهضم حقوقهم، فمرحى للقبط المتعاونين، ويا حسرة على المسلمين

المتخاذلين.

إن معظم أعمال الحكومة المصرية ومصالحها في أيدي القبط، ولا يمتاز

المسلمون عليهم إلا بقليل من المناصب الرئيسية التي لا حظ لهم منها غير الفخفخة

والتحلي بكساوى التشريف والأوسمة، فالمديرون على قلتهم من المسلمين وكثيرًا ما

يكونون من غير الأكفاء المختبرين، وينقلون من مديرية إلى أخرى، ورؤساء

الكتاب وأكثر العمال الذين تحت أيديهم من القبط ثابتون في أعمالهم عارفون

بقوادمها وخوافيها، متكافلون في الاستئثار بها؛ ولذلك يكون أكثر المديرين آلات

في أيديهم لا يقدر أعلاهم كفاءة أن يخالف رئيس الكتاب القبطي في شيء يريده؛

لأن العمال في المديرية وأكثرهم من القبط يتعصبون حينئذ على المدير، ويعرقلون

أعماله ويوقعونه في المشكلات مع نظارة الداخلية أو نظارة المالية، وينصرهم

إخوانهم في النظارة عليه؛ لأنهم كلهم يد على من عداهم، وعلى هذا القياس

تناصرهم في القضاء وسائر المصالح، ثم إنهم يزعمون مع هذا كله أنهم مظلومون

مهضومون، وأن المسلمين هم المتعصبون الظالمون، فمرحى للقبط المتحدين، ويا

حسرة على المسلمين المتفرقين.

هذا ما كانت عليه الفئة الكثيرة بالعدد القليلة بالتخاذل والغفلة، والفئة القليلة

الكثيرة بالتعاون والوحدة، وهذا هو الذي أطمع القبط في جعل حكومة مصر قبطية

محضة في يوم من الايام، وكان من حسن حظهم أن فتن الباحثون في الأمور العامة

من المسلمين بالسياسة، وجعلوا هجيراهم فيهم دعوة الوطنية، وصاروا يلهجون بهذه

الكلمات: إخواننا القبط، إخواننا القبط، نحن مصريون قبل كل شيء، لا دين في

الوطنية، إنما الدين في المساجد والكنائس، وبلغ من لهجم بالوطنية وإخلاصهم فيها

أن صار بعضهم يقول: لا فرق عندي بين أن يكون الخديوي مسلمًا أو قبطيًا،

وإنما المهم عندي أن يكون مصريًا، وقد سمعت مثل هذه الكلمة من بعض

المدرسين في مدارس الحكومة العالية، فقلت له: وهل تظن فيمن سمحت لهم

عاطفتك الوطنية بعرش الإمارة أن يسمحوا لك بوظيفة (قومسير) في مصلحة سكة

الحديد؟ ؟ أما وسر العقل والبصيرة إنهم لا يسمحون بذلك مختارين، وما هم على

ذلك عندي بملومين، فمرحى للقبط المتعصبين، ويا حسرة على المسلمين

المتساهلين.

***

سبق لي مدح القبط في المنار غير مرة، وتفضيلهم على المسلمين بالتعاون

والتناصر والرابطة الملية، وإن كانوا دون المسلمين في الكفاءة الشخصية إلا التملق

الذي يستميلون به الرؤساء، واتباعهم في ذلك طريق العقل والحزم وسنن الاجتماع

التي أشرنا إليها في فاتحة القول بترك المسلمين بين عامل خامل، وذكي يائس،

ونشيط مغرور شغله الكلام في مقاومة الاحتلال عن كل عمل تقوى به الأمة في

وجه الاحتلال (وهو عندي محصور في التربية الملية والأعمال الاقتصادية، كما

بينت ذلك مرارًا) وتوجيه همتهم في هذه الفرصة إلى التربية القبطية والتعليم،

وتنمية الثروة، والتغلغل في أعمال الحكومة، ولكنني أنكرت عليهم في هاتين

السنتين سيرتهم فرأيتهم قد تركوا ما عهدت فيهم من الهدوء والسكينة، واللين التملق،

وطفقوا يطعنون في جرائدهم طعنًا صريحًا في سلف المسلمين وخلفهم، ودينهم

وآدابهم ولغتهم، فعجبت من هذه الطريقة الجديدة، التي يخشى أن تعلم المسلمين

التعصب والمقاومة، فتكون كرة القبط هي الخاسرة، وصرت أقول في نفسي: ما

عدا مما بدا، وأقدح زناد الفكر لعلي أجد على النار هدى.

ولو صبروا على جدهم وتعاونهم، وتركوا المسلمين في غفلتهم وتخاذلهم،

لنالوا كل ما أملوا، ولساعدوهم باسم الوطنية على ما أرادوا، يريدون أن يثبوا

على الوظائف الإدارية العالية، كما وثبوا في القضاء، يريدون أن تترك الحكومة

العمل في يوم الأحد، يريدون أن تدرس الديانة المسيحية في الكتاتيب والمدارس

كلها، يريدون أن لا يكون للمسلمين في هذه الحكومة مزية ما، كل هذا كان سهلاً

إذا رضوا بسنة التدريج، والمسلمون أنفسهم يساعدونهم على كل ذلك؛ حتى إذا

نالوه سهل عليهم أن يجعلوا الحكومة وقفًا عليهم، ويمنعوا المسلمين منها ألبتة.

أليس بعض كتاب المسلمين يهينون في جرائد الأحزاب القوية كل من يرتقي

من المسلمين إلى منصب عال في الحكومة، ويعدونه خائنًا لوطنه، مشايعًا للإنكليز

فيه، بقدر ما يعظم القبط كبار الموظفين منهم، ويستعينون بهم على سعة نفوذهم في

الحكومة؟

أليس هذا تمهيدًا لنيل القبط هذه البقية القليلة من الوظائف؟ ألم يساعدهم

الوزراء المسلمون على ما طلبوا من تعليم دينهم في مدارس الحكومة (وهو ما لا

نظير له في حكومات الأرض) ؟ بلى، وكذلك يساعدهم المسلمون في فرصة

أخرى على كل ما يطلبون، وإذا هم نالوا بقية الوظائف الرئيسة وتمكنوا بها من

جعل تسعة أعشار الموظفين منهم، يكون لهم الوجه الوجيه في طلب إبطال الأعمال

يوم الأحد دون يوم الجعة، ولا يتجرأ مسلم يومئذ أن يفتح فمًا، أو يحرك قلمًا؛

خوفًا من تهمة التعصب الديني من جهة، ومن تحامل الحكومة القبطية عليه من

جهة أخرى.

هذا ما أقوله معتقدًا له ولا شك فيه عندي، ولذلك عجبت كيف خانهم الصبر،

وفاتهم إدراك هذا الأمر، وحرت في تعليل هذا المسلك الجديد، حتى كان مما خطر

في بالي أنهم ربما كانوا يريدون إحراج المسلمين لإحداث فتنة في البلاد، تكون

وسيلة لإعلان إنكلترا الحماية عليها أو ضمها إلى مستعمراتها، ولم أصدق ما يقوله

بعض الناس من أنهم أحسوا من المسلمين ضعفًا، ووجدوا فرصة لإخراج

أضغانهم، وشفاء غليل حقدهم، ففعلوا ذلك لمجرد اللذة بإيذاء من كان يستثقلون

اسم سيادتهم عليهم، لا أرى هذا القول ولا ذلك الخاطر بالمعقول، وإنما هناك سبب

آخر نشرحه في النبذة التالية، ثم نبين شكل هذه الحكومة الرسمي، وهل للقبط حق

فيها أم لا؟ ثم مسألة يوم الراحة الأسبوعية في الأديان الثلاثة، وما ينبغي أن يكون

عليه الحال في مصر.

(للمقال بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 108

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جماعة الدعوة والإرشاد

" يد الله على الجماعة "(حديث شريف)

النظام الأساسي للجماعة

اخترنا أن نوقع هذا النظام المبارك في ليلة المولد النبوي الشريف (وهي في

الحقيقة تسعة ربيع الأول) ؛ تيمنًا وتفاؤلاً، وأن نذيعه في صبيحة اليوم الذي

يحتفل فيه ليلته بتذكار تلك السعادة أي: 12 ربيع الأول، وقد تأخر هذا الجزء من

المنار، وهو جزء صفر إلى منتصف ربيع، فرأينا أن ننشر هذا النظام فيه.

***

أما أعضاء مجلس الإدارة المؤسسون الذين وقعوه فهم عشرة:

(1)

محمود بك سالم المحامي المشهور الذي كان يصدر مجلة عرفات

باللغة الفرنسية، وهو يعرف عدة لغات غربية، انتخب رئيسًا للجمعية.

(2)

السيد محمد رشيد رضا صاحب هذه المجلة، وقد انتخب وكيلاً

للجمعية وناظرًا لمدرستها الكلية (دار العلم والإرشاد) .

(3)

الشيخ حسين والي المدرس في الجامع الأزهر ومدرسة القضاء

الشرعي، وهو من المؤلفين، وقد انتخب كاتبًا لسر الجمعية.

(4)

محمود بك أنيس من وجهاء مصر، وكبار مزارعيها، وأرباب القلم

فيها، وقد كان يصدر مجلة زراعية، وانتخب أمينًا للصندوق.

(5)

الشيخ أحمد زناتي معاون الديوان الخديوي، وهو من المؤلفين، وكان

ناظر مدرسة العزبة المتمدنة.

(6)

الشيخ عبد الوهاب النجار المحامي الشرعي والمدرس بمدرسة

البوليس.

(7)

محمد أفندي سعودي من موظفي المحكمة الشرعية العليا.

(8)

محمد لبيب بك البتانوني من أدباء مصر ووجهائها، وأرباب القلم فيها.

(9)

الدكتور محمد توفيق صدقي صاحب كتاب الدين في نظر العقل

الصحيح.

(10)

الشيخ محمد المهدي الشهير، الأستاذ في مدرسة القضاء الشرعي.

* * *

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ

وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ

وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 104-105) .

الفصل الأول

(في الجمعية ومقصدها)

(الأصل الأول) تألفت في مصر القاهرة جمعية باسم (جماعة الدعوة

والإرشاد) .

(الأصل الثاني) مقصد هذه الجماعة إنشاء مدرسة كلية باسم: (دار الدعوة

والإرشاد) في مصر القاهرة؛ لتخريج علماء مرشدين قادرين على الدعوة إلى

الإسلام والدفاع عنه، والإرشاد الصحيح، وإرسالهم إلى البلاد الشديدة الحاجة إليهم

على قاعدة تقديم الأهم على المهم.

(الأصل الثالث) يرسل الدعاة إلى البلاد الوثنية والكتابية التي فيها حرية

دينية، ولا يرسلون إلى بلاد الإسلام إلا حيث يدعى المسلمون جهرًا إلى ترك دينهم

والدخول في غيره، مع عدم وجود علماء مرشدين يدفعون الشبهات عن الإسلام

ويبينون حقيقته لأهله.

(الأصل الرابع) لا تشتغل هذه الجماعة بالسياسة مطلقًا، لا بالسياسة

المصرية، ولا بسياسة الدولة العثمانية، ولا بسياسة غيرها من الدول.

***

الفصل الثاني

(في أعضاء الجمعية ومجلس إدارتها وشعبها)

(الأصل الخامس) كل مسلم يبذل للجمعية مقدارًا من المال في كل سنة أو

كل شهر، يكون عضوًا فيها، وأعضاؤها أربعة أقسام: أعضاء مؤسسون وأعضاء

عاملون، وأعضاء معاونون، وأعضاء شرف. فالمؤسسون: هم الموقعون على

هذا النظام، وكل من يدفع للجمعية عشرين جنيهًا مصريًّا فأكثر إلى مدة شهرين من

تاريخ نشر هذا النظام في القطر المصري، ومدة ستة أشهر منها لسائر الأقطار،

والعاملون هم الذين يقومون بالأعمال؛ كجمع المال في اللجان التابعة للمركز العام،

وفي الشعب الخارجية وغير ذلك. والمعاونون: هم الذين يشتركون بالمال فقط.

وأعضاء الشرف: هم الذين ينفعون الجمعية بمالهم أو مكانتهم نفعًا عظيمًا.

(الأصل السادس) يتألف مجلس الإدارة في المركز العام من عشرة أعضاء،

تنتخبهم الهيئة العامة فيما عدا المرة الأولى، وهم ينتخبون من أنفسهم الرئيس

والوكيل وكاتب السر وأمين الصندوق.

(الأصل السابع) ناظر مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) يكون من أعضاء

مجلس الإدارة، وهو الذي يعينه.

(الأصل الثامن) مدة مجلس الإدارة سنتان، وفي المرة الأولى فقط تكون

مدته أربع سنين؛ ليتمكن أعضاؤه المؤسسون من إحكام العمل، وفي نهاية الأربع

الأولى، وكل سنتين بعدها تقترع الهيئة العامة للجماعة على إبقاء خمسة من

الأعضاء مع ناظر المدرسة، وتنتخب بدل الستة الآخرين أو تعيد انتخابهم.

(الأصل التاسع) يجوز أن يكون للجمعية رئيس شرف، ويختاره أعضاء

مجلس الإدارة باتفاق الآراء.

(الأصل العاشر) المركز العام لجماعة الدعوة والإرشاد مدينة القاهرة

عاصمة القطر المصري، ويكون لها شعب في سائر الأقطار الإسلامية، لكل شعبة

منها مجلس إدارة، ولكل من مجلس الإدارة في المركز العام ومجالس الإدارة في

مراكز الشعب أن يؤسس لجانًا في قطره لجمع الإعانات.

(الأصل الحادي عشر) من أعمال مجلس الإدارة في المركز العام.

اختيار المؤسسين للشعب في الخارج والإدارة العامة، واستغلال أموال الجمعية

بالطرق المشروعة. والإنفاق منها في مصارفها، وإدارة مدرستها الكلية، ووضع

الميزانية السنوية، وتعيين العمال وتنفيذ قرارات الهيئة العامة.

(الأصل الثاني عشر) على الشعب جمع الإعانات والاشتراكات المالية

للجمعية، والنظر في شؤون الدعاة والمرشدين الذين يرسلون إلى بلادهم، واختيار

المندوبين لحضور الهيئة العامة السنوية.

(الأصل الثالث عشر) يتألف من الأعضاء المقيمين بالقطر المصري لجنة

من اثنين فأكثر؛ لمراقبة الأعمال المالية.

(الأصل الرابع عشر) تشرف لجنة المراقبة المالية على الدخل والخرج

وتقدم في كل سنة تقريرًا للهيئة العامة بما تراه، ولها حق حضور جلسة مجلس الإدارة

إذا أرادت؛ لمذاكرته فيما يتعلق بعملها، وليس لها حق الرأي والتصويت فيه، وعليها

أن تقدم نسخة من تقريرها إلى رئيس مجلس الإدارة قبل اجتماع الهيئة

العامة بشهر على الأقل، وعليه عرضه على المجلس حالاً.

(الأصل الخامس عشر) أعضاء مجلس الإدارة في المركز العام، يشترط

أن يكونوا من المقيمين في مدينة القاهرة أو ضواحيها.

(الأصل السادس عشر) إذا استقال أحد أعضاء مجلس الإدارة أو خلا مكانه

بسبب ما، فالباقون ينتخبون بدله بالاشتراك مع أعضاء لجنة المراقبة للمدة الباقية

لسلفه.

***

الفصل الثالث

(في الهيئة العامة للجمعية)

(الأصل السابع عشر) تتألف الهيئة العامة من كل عضو يدفع ثلاثة

جنيهات فأكثر كل سنة ومن مندوبي الشعب، وتنعقد بمن يحضر منهم، ورئيسها هو

رئيس مجلس الإدارة، ولمجلس الإدارة أن يدعو رئيس الشرف إلى رياسة الجلسة

العامة، ولأعضاء الشرف الحق في حضورها مع حق الرأي والتصويت كغيرهم.

(الأصل الثامن عشر) تجتمع الهيئة العامة كل سنة بالقاهرة في النصف

الأول من شهر ذي القعدة الحرام، وعلى مجلس الإدارة دعوة الأعضاء إليها بتذاكر

بريدية والإعلان في الجرائد.

(الأصل التاسع عشر) الهيئة العامة رقيبة على مجلس الإدارة، تبحث في

جميع أعماله السنوية وتحاسبه على تطبيقها على النظام الأساسي والنظام الداخلي،

وتنظر في الميزانية وتقرها، وتنتخب أعضاء مجلس الإدارة ولجنة المراقبة المالية،

ولها أن تقرر تعيين أعضاء الشرف.

***

الفصل الرابع

(في أموال الجمعية)

(الأصل العشرون) تتكون أموال الجمعية من الاشتراكات الموقوتة

والإعانات والتبرعات والهدايا والوصايا والأوقاف التي توقف عليها، أو ما تناله

من ريع أوقاف أخرى، ومن ريع رأس مالها.

(الأصل الحادي والعشرون) تودع أموال الجمعية مؤقتًا في مصرف من

المصارف الموثوق بها، ما عدا مقدارًا يقرره مجلس الإدارة، ينفق منه على

الإدارة والمدرسة، يكون بيد أمين الصندوق وطريقة إيداع المال في المصرف

والأخذ منه يبين في النظام الداخلي.

(الأصل الثاني والعشرون) يجب أن يضاف ربع دخل الجمعية السنوي إلى

رأس المال؛ لأجل الاستغلال، وهذا ما عدا المبلغ الاحتياطي الذي يبين في النظام

الداخلي.

(الأصل الثالث والعشرون) ليس لمجلس الإدارة أن يقرض من مال

الجمعية، ولا أن يقترض لها.

***

(أحكام عامة)

(الأصل الرابع والعشرون) تنفذ قرارات مجلس الإدارة والهيئة العامة

بالأكثرية المطلقة، فإن تساوت الآراء رجح من كان معهم الرئيس، ولا رأي لأحد

فيما يخالف نص الشارع.

(الأصل الخامس والعشرون) مجلس الإدارة في المركز العام هو الذي

يضع النظام الداخلي، الذي يبين فيه كل ما يحتاج إليه في تنفيذ النظام

الأساسي.

(الأصل السادس والعشرون) أعضاء مجلس الإدارة متبرعون بأعمالهم ما

عدا ناظر المدرسة.

(الأصل السابع والعشرون) تنشر الجماعة كل سنة كراسة في بيان:

ميزانيتها ومهمات أعمالها، وأسماء الباذلين ومقدار ما بذلوه لها، ومن لا يحب

إظهار اسمه يذكر بلقب (محسن) .

(الأصل الثامن والعشرون) يجوز تعديل ما عدا الفصل الأول من أصول

هذا النظام؛ إذا اتفق على ذلك ثلاثة أرباع أعضاء مجلس الإدارة ولجنة المراقبة،

وأكثر من نصف من يحضر الهيئة العامة من غيرهم.

...

صدر بمصر في 12 ربيع الأول سنة 1329

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 114

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أقوال الجرائد

في الجمعية ومدرستها

(مدرسة التبشير الإسلامي)

كتب الشيخ عبد العزيز شاويش في هدايته تحت هذا العنوان ما نصه:

عز على نفر لم يتح لهم التربع في دسوت المناصب في الحكومة العثمانية أن

لا تكون هذه المناصب وقفًا عليهم، يلونها دون أولئك الذين أهلهم لها ما عهد فيهم

من اختبار تام ونزاهة وافية فضلاً عن خلوص نفوسهم من شائبة الأغراض

وتمسكهم بأهداب الدستور الذي ركبوا في طلبه الأهوال ولم يضنوا عليه بإنفاق

الآجال. عز عليهم أن لا تكون مناصب الدولة وفقًا عليهم يلونه أو تراثًا لهم

يتقاسمونه فنقموا على الدستوريين أنهم أخفقوا سعيًا وأسروا ذلك في نفوسهم ثم

طفقوا يعالجون طلب الوظائف تارة بالدهان والملق وطورًا بالتهديد والوعيد، وقد

فطن رجال الدولة وأرباب الحل والعقد ثمت إلى ما يضمر أولئك النفر فما أجابوا

لهم مطلبًا ولا أنالوهم مأربًا.

عز على أولئك النفر أن يحال بينهم وبين شهواتهم وهالهم أن يفطن إليهم

رجال الدولة فجعلوا يبيتون لها الشر ويضمرون لها الكيد ناسين أو متجاهلين أن

منارها هو منار الإسلام القائم وذمارها ذماره المهيب وحرمها حرمه الممنوع وعلمها

علمه المرفوع.

زين لهم أمثالهم من الرجعيين الذين لا وازع لهم من وجدان أو دين أن يسعوا

في تمزيق شمل الجامعة العثمانية كل ممزق ويتراموا في أحضان أولئك الذين لا

يريدون بدولة الخلافة الإسلامية خيرًا انتقامًا لأنفسهم مما نالهم من الفشل ولو علموا

أنهم بذلك يحاربون الله ورسوله لما نقلوا لتحقيق مأربهم قدمًا ولا أجروا فيه قلما.

أراد أولئك النفر وهم خارجي ورجعي ودعي أن يكيدوا للدولة خلف ستار من

مشروع قبح باطنه بقدر ما حسن ظاهره وهو مشروع (مدرسة التبشير

الإسلامي) .

مرحبًا بالغيورين على الدين وهم أضر عليه من أعدائه؟ مرحبًا بأنصار

الدولة وهم ألدّ خصومها؟ ؟ مرحبًا بالذين أدنفهم الهوى بالخلافة الإسلامية وهم

أعداؤها المستترون؟ ؟

لبس أولئك الجماعة لمشروعهم لبوسه، وظهروا في مظهر من يغارون على

الإسلام، ويعنيهم ألا تقوم للفتنة قائمة، والله يعلم ونفوسهم عليهم تشهد أنهم دعاة

فرقة وفتنة وضلال.

وإلى أولئك النفر اجتماعهم خفية غير مبالين ما تجلب مقاصدهم السافلة من

الخطر على الإسلام، والويل على الدولة المؤيدة بعناية الله وقلوب المسلمين في

جميع بقاع الأرض، ثم أخذوا يهمسون بمشروعهم همسًا، ويعمون على الناس

تعمية، موهمين أنه لا يراد منه إلا أن يخرج للناس مبشرين يبشرون بالدين

الحنيف، والذي نعرفه وإن أنكروه، وقد قلناه قبل اليوم وإن جحدوه؛ إنهم أرادوا

أن يثيروا ثائرة القلوب الضعيفة إيمانها على دولة الخلافة المعتزة بآل عثمان،

ويعينوا الإنجليز على تفسير ذلك الحلم الذي طالما حلموه؛ وهو إقامة خلافة عربية

يختارون لها من يبغون؟ ؟

ذلك ما يبغونه وإن تظاهروا بإنكاره، وقد أراد الله تعالى أن يقرن سعيهم

الخبيث بالفشل الحثيث، ويقتله فكرة في الرؤوس، فما ظهر إلا في نطاق من

الشبه والريب التي لا تدفع. قد راب المسلمين أن يتسارّ من عرفوهم قبل اليوم

خارجًا على الدولة الدستورية، يقلب حسناتها سيئات، ورجعيًا ينتحب على فوات

عهد الاستبداد، وطامعًا لم ينل غرضًا فجعل الدولة غرضًا يصوب إليه السهام فترتد

إلى نحره سراعًا، نعم.. راب المسلمين أن يتسارّ أولئك النفر الذين يعرفون

بسيماهم، وقد أهاب بالأمة داعي الحق منذرًا بما يسعى إليه هؤلاء المفتونون،

محذرًا مما يضمرون ويبيتون، وقد جعلوا بعد أن كشفنا الستار عن مخبآتهم يكتبون

في - صحيفة النفاق - ما يظنونه ردًا علينا، ما هو إلا الخذلان على أنفسهم،

يجلبونه، والخزي على ذواتهم بأيديهم يسجلونه، وقد حاولوا أن يستنفروا العرب

المسلمين، ويستعدوهم علينا بدعوى أننا تهمهم جميعًا بالخروج على الدولة، وما

اتهمنا منهم إلا نفرًا في مصر يعرفون أنفسهم كما يعرفهم الناس.

يريدون أن يلقوا في النفوس بذرًا من الكراهية لدولة أعزت الإسلام، وجمعت

أمر المسلمين؛ ليشب المفتونون بهم على البغض لدولة الخلافة المعتزة بآل عثمان -

خلدها الله فيهم - ويتسنى لهم إذ ذاك فيما يزعمون أن يقيموا خليفة عربيًا يقلبه

الانكليز في أيديهم فيتقلب، ويتخذونه آلة لتنفيذ أغراضهم، وما تخفى على أحد تلك

الأغراض.

ثوبوا أيها المضلون إلى رشدكم، وأقبلوا على أنفسكم فحاسبوها، أشرًا تدبروا

للدولة أم خيرًا بها تريدون، وفتنة تلك التي تحاولون أن تثيروها أم هي خدمة

للدولة أنتم مزلفوها، وقربة تتقربون بها إلى خليفة رسول رب العالمين.

فكروا طويلاً أيها المقدمون على ما تجهلون خطره ولا تعرفون ضرره لقد

نقلنا لكم من قبل ما يحيط مشروعكم من الريب والظنون، وقلنا لكم لا ينبغي أن

يكون مثل هذا العمل الذي قدر له اثنا عشر ألفا من الجنيهات بلا كلفة، والذي

تزعمون أنه أعظم خدمة خدم بها الإسلام مما يدبر خلف ستار، ولا أن يكون

القائمون به من خصوم الملة والدولة، ولا أن يسبق الشروع فيه طوافكم ببعض

القصور، ولا أن تأبوا إشراف شيخ الإسلام عليه، ولا أن تنشأ مثل هذه المدرسة؛

لما نعلم من سيئ الأغراض وسافلها. فقلنا لكم ذلك كله، فما خشيتم لله حسابًا، وما

زدتم على أن جعلتم السباب جوابًا.

أتكيدون لدولة الخلافة أيها المضلون هذا الكيد على أعين المسلمين؟ وهل

ضعف إيمانكم ورشدكم إلى حد أن تعملوا على إيقاظ فتنة، وشق وحدة، وتمزيق

كلمة، وتفريق شمل مجموع؟ أليست هي دولة الخلافة تلك التي تحاربونها،

والرابطة العثمانية التي بالتمزيق تريدونها؟

ثم ألا تتقون الله أن تجمعوا على المسلمين كلمة دول الصليب؛ إذ توهمونها

أنكم متعصبون بالمعنى الذي تفهمه الدول لا بالمعنى الصحيح؟

اللهم أرشد بصائر عن سبيل الحق عميت، وألهم السداد قلوبًا إلى ما هو

شر نزغت، وزد المسلمين يقينًا بأن تلك النزغات محاربة لك ولنبيك ودينك

وخلافتك وأمتك، وأفض على الدولة العلية من عنايتك ورعايتك ما يمنعها من كيد

المفرقين وشر المضلين.

***

(وهنا نقل الشيخ شاويش عبارة في المشروع من جريدة الحقيقة البيروتية،

كتبها محرر مصري اغترارًا بما كتبه الشيخ شاويش في جريدة العلم، ولما علم

أصحاب الجريدة بأن جريدة العلم تعني مشروعنا، رجعوا عما كتبوا وأثنوا على

المشروع، وعلموا أن ما كتب في العلم إفك وبهتان. وسيأتي نص ما تنصلت به في

ص129. ثم قال) .

فعلى ما يظهر من هذا المشروع الجديد المستور بسجوف التعمية والدهاء؛ أن

صاحب المؤيد يريد اليوم أن يعمل على تأييد هذه الفكرة وإعلانها في ثوب التبشير

الإسلامي؛ ليتمكن هو وأنصاره من تنفيذ ما بيتوه في ضمائرهم السيئة، وذلك

بإعلان رغائبهم الممقوتة في طول البلاد العربية وعرضها تحت هذا الستار بطلاء

الخبث والحيلة، فينقلب كيان الدولة العلية من آثار التفريق الذي هو بيت قصيد

الخوارج المعروفين في مصر لكثير من الناس.

من في مصر من الأعيان وأصحاب الأموال يقدم على هذا المشروع ويرضى

بالاكتتاب فيه، مع كثرة الشكوك والظنون حوله، وإجماع الناس على أنه ما وضع

إلا لتمزيق الرابطة العثمانية، وتبديل وفاقها شقاقًا، وليجر عليها مالا يرضاه لها

من المغبة كل عثماني تجري في عروقه قطرة من الدم، وكل مسلم في قلبه ذرة من

الإيمان؟

اللهم، إنه لا يدفع مبلغ الاثني عشر ألف ليرة الذي قدر لهذا المشروع

المجهول برنامجه، المجهول رئيسه وأعضاؤه ورجاله العاملون غير (العابد)

وفائق المابينجي ووالخ؛ من رجال الدور السابق الذين تواطنوا مصر في هذه

الأيام الأخيرة، ممن لا يهدأ بالهم ولا يستقر حالهم إلا بالتفكير فيما يكدر سلام الدولة

ويوقعها في هوة المصائب والفتن، فيصطادوا بعد ذلك في الماء العكر، ويحققون

وعدهم لطالب الزعامة المنتظرة! ! !

نحن لا نقول غير ذلك ما دام هؤلاء القوم ينكرون مبادئ مشروعهم،

ويسترون عن الناس أغراضهم وحقيقة مقاصدهم من وضعه، وإلا فما معنى هذا

الكتمان إذا كان حقيقة نافعًا للعالم الإسلامي؟ ولماذا تجهل مقدماته وتغمض أسماء

القائمين به كما يقولون، والأعمال النافعة التي يراد تأييدها ونفع العالم بها، لا

يجوز أن تدغم تفاصيلها، وتطمس عن عيون الناس فوائدها؟ ؟ هذا ما نقوله الآن

ممسكين عن بقية ما لدينا من المعلومات حيت يتبين غث المشروع من سمينه؛ إلخ.

***

(المنار) تبين بهذه المقالة أن ما كتب في جريدة العلم عن هذا المشروع

الجليل، قد كان كله بقلم الشيخ عبد العزيز شاويش، ولا ندري أكتب هذه المقالة

بعد أن بينا له حقيقة المشروع، حتى اضطر إلى النكوص على عقبيه وتكذيب نفسه

في جريدة العلم أم كتبه قبل ذلك البيان، فإن كان كتبها بعد البيان، فهو مُصر على

الإرجاف حسدًا وتملقًا لمن لا يغني عنه من الله شيئًا، ولا يفسر حينئذ رجوعه في

العلم ثم سكوته إلا بإكراه أهل الغيرة الدينية من رجال الحزب الوطني إياه على ذلك،

وقد بلغنا أن هؤلاء قد ضاقوا ذرعًا بقلم شاويش الذي أهان الحزب بسبابه

وشتائمه، وفتح في وجهه أبواب السجون وهم يحبون إخراجه من حزبهم، ولذلك

لم ينتخبوه في هذه السنة لعضوية مجلس إدارة الحزب على طمعه في الرياسة أو ما

يقرب منها.

وإن كان كتبها قبل ذلك البيان، كما نحب أن نرجح تحسينًا للظن، فالواجب

عليه الآن أن يتوب ويتبرأ مما سجله على نفسه في صحيفته، وليتذكر يوم الحساب

إن كان يخاف الله تعالى أن يقول له فيه: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ

حَسِيباً} (الإسراء: 14) بل عليه أن يحاسبها قبل يوم الحساب على الجزم بهذه

الأباطيل التي ظهر بها مبلغ صدقه ورويته، ويكفر عنها بالرجوع إلى الحق

ومساعدته، كما نصحنا له في الجزء الماضي ولا يكونن من المستكبرين.

عني الشيخ عبد العزيز بمقاومة هذا المشروع الإسلامي الأكبر، وفكر في

طرق ذلك وقدر، فكان منتهى شوط ذهنه الوقاد، وفكره النقاد، أن يقضي على

المشروع بمقالة ومقالتين، يجمع فيهما من التهم والشتائم ما ينفر كل أحد من الإقدام

على المشروع فيه، وحينئذ يصدق الناس جميع ما قال، ويكفي الكافرين والمنافقين

أمر المقاومة والجدال.

لو وصل عقل الشيخ عبد العزيز إلى معنى المثل العامي (الذي يكبر الحجر لا

يضرب) واعتبر به لما كتب الذي كتب، فقد بنى كل ما قدره وزوره على شفا جرف

هار، فانهار به في مهواة الخزي والعار، بنى كلامه على اتهام الذين اجتمعوا

للتشاور في تنفيذ المشروع؛ بأنهم كانوا يريدون الاستئثار بمناصب الدولة وجعلها

وقفًا عليهم، وحرمان رجال جمعية الاتحاد والترقي منها، فلما عجزوا عن ذلك

أرادوا الانتقام من الدولة بإسقاطها، وأخذ الخلافة الإسلامية منها وإعطائها للإنكليز

(بخ بخ) ، وقد نبهنا إلى ما في هذا على ظهروه في الجزء الماضي، على أن

الشيخ شاويش قد رجع عن هذه التهمة في جريدة العلم.

ولو تركنا المشروع؛ خوفًا من سعاية الشيخ شاويش وإرجافه لصدق الجمهور

الغافل كلامه وإن كان غير معقول، ولكننا لا نترك ما فرض الله علينا من خدمة

ديننا لمثل ذلك البهتان البديهي البطلان، وإن إظهار أسمائنا كاف لنسف بنيانه،

وهدم أركانه، فإنه لا يوجد فينا أحد يتجرأ الشيخ شاويش أن يقول: إنه خطر في

باله أن يطلب منصبًا من الحكومة العثمانية أو يقبله إذا عرض عليه.

كتب الشيخ عبد العزيز ما كتب، وكانت الجماعة التي تبحث في تنفيذ

المشروع مؤلفة من عشرة رجال من المصريين الأصليين، وأكثرهم من الموظفين

في الحكومة المصرية، ليس فيهم عثماني بحت إلا كاتب هذه السطور، وليس فينا

أحد يعرف اللغة التركية التي هي شرط لنيل أقل خدمة في الحكومة العثمانية، دع

المناصب العالية التي اتهمنا الشيخ شاويش بأننا نريد أن نسلبها من أهلها ونجعلها

وقفًا علينا! ! !

أراد الشيخ شاويش أن يتزلف إلى جمعية الاتحاد والترقي بما كان يتزلف به

أمثاله إلى عبد الحميد من السعاية؛ ظانًا أنهم يقبلون في هذا الموضوع كل تهمة كما

كان يقبل عبد الحميد، وما كان عبد الحميد يصدق كل ما يقبله من تقارير أولئك

الجواسيس، وإنما كان يبني على الاحتياط، فيقبل أقوال الكاذبين على ظهور كذبها؛

رجاء أن يصدقوا في بعض الأحيان، وما عظم الاتحادين من يضعهم موضعه،

ويتجسس ويسعى لهم بمثل ما كان يتجسس ويسعى له، وكيف حاله ومقامه عندهم

وعند سائر العقلاء، وقد ظهر رجال المشروع، وعلم أن عزت العابد وفائق

المابنجي ليسوا منهم، بل كيف حاله بعد هذه الفضيحة في خاصة نفسه، وبينه

وبين ربه.

نذكر الشيخ شاويش بالله؛ لأنه نسب إلى علم الله ما ليس له به علم، فقال في

جماعة المشروع: (والله يعلم ونفوسهم عليهم تشهد؛ أنهم دعاة فرقه وفتنة

وضلال) ، وقال بعد أن زعم أن المشروع قدر له اثنى عشر ألف جنيه: (اللهم،

إنه لا يدفع مبلغ الاثني عشر ألف ليرة الذي قدر لها هذا المشروع المجهول رئيسه

وأعضاؤه ورجاله العاملون غير (العابد) وفائق المابينجي ووالخ) ، وهكذا يذكر اسم

الله ويفتات على علمه، فهل راقبه في ذلك مراقبة المؤمنين الصادقين، قال

الفقهاء: إن إسناد الشيء إلى علم الله تعالى أبلغ من الحلف به، وصرح بعضهم

بأن الكاذب في ذلك يكون مرتدًّا عن الإسلام؛ لأنه نسب الجهل إلى الله تعالى،

فهل علم ذلك الشيخ شاويش وفكر فيه.

يتكلم الشيخ شاويش ويجزم ويدعي أن ما قاله في هؤلاء العاملين هو ما يعلم

الله تعالى، ثم يعترف بأنه لا يعرف أحدًا منهم لا الرئيس ولا الأعضاء، وأنه

استنبط أنهم العابد وفائق استنباطًا؛ لأن عقله لم يستطع أن يتصورأكثر من ذلك،

فيا حسرة على قراء هذا الكاتب الذين يثقون به، كيف يحشوا أذهانهم بالأباطيل

والأكاذيب؟ ! ويا لله العجب، كيف صبر عليه الحزب الوطني إلى هذا اليوم.

***

(ما كتب في مجلة بيان الحق عن المشروع)

(والرد على جريدة العلم)

لما كتب الشيخ شاويش في جريدة العلم ما كتب من الإرجاف بالمشروع وقرأه

طلاب العلم في رواق الترك في الأزهر، كبر على غيرتهم الإسلامية ذلك، فكتب

أحد فضلائهم برأي إخوانه مقالة باللغة التركية، وأرسلها إلى مجلة بيان الحق

الغراء التي تصدرها في الآستانة العلية الجمعية العلمية المؤلفة من خيار علماء

الترك الأعلام في العاصمة وغيرها، فنشرتها وهذه ترجمتها:

(مشروع مهم)

قام في هذه الأمة الإسلامية رجال مصلحون كثيرون أرادوا أن ينقذوها من

الأدواء المادية والأدبية التي أصابتها منذ سنين كثيرة، فكادت تذهب بها إلى

حضيض التدني والانقراض، وقد باشر هؤلاء المصلحون إنفاذ مشروعاتهم بأنفسهم،

ولكنهم أخفقوا في ذلك ولم يثمر غرسهم.

وممن بذل جهده في هذا السبيل المقدس الأستاذ المحترم السيد رشيد رضا

أفندي صاحب (المنار) ، فنجح بمؤازرة كثيرين من رجال الفضل والعقل والدين

في تأسيس جمعية دعوها (جمعية الدعوة والإرشاد) ، وغايتها - كما يظهر في اسمها

أيضا - إنشاء مدرسة كبرى، يتخرج فيها العلماء والواعظون ممن درسوا

علوم الدين خاصة وغيرها من الفنون التي تتطلبها حاجة العصر.

أما قانون الجمعية الأساسي وبرنامج المدرسة فإنهما لم ينشرا بعد، ولكنا علمنا

من مقالات نشرها السيد رشيد أنهم سيقبلون في المدرسة كل مسلم من أقطار

العالم معروف بالصلاح والتقوى، ويرجح من أهل الأقطار مسلمو الصين

وجاوة وأمثالهم من سكان البلاد النائية؛ لأنهم أكثر حاجة للتنور بنور العلم،

والجمعية تضمن لطلاب مدرستها كل ما يحتاجون إليه من مأكل ومشرب ومبيت

وكتب وما أشبه ذلك، كما أنها تعنى بتربيتهم وتهذيب أخلاقهم بما ينطبق على

الآداب الإسلامية، وتقوم بمراقبتهم للمواظبة على العبادات والطاعات بكمال الدقة.

وعلى هذا، فإن المتخرجين في هذه المدرسة سيكون منهم الواعظون

والمربون في البلاد الإسلامية التي عمها الجهل؛ كالصين وجاوة، ودعاة في البلاد

التي عمتها الوثنية، فيدعون أهلها للتدين بدين الإسلام كما يدعون أهل الكتاب في

أوربا وأمريكا إليه؛ عملاً بقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّة} (آل عمران:

104) ؛ إلخ. وقوله جل وعز: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ} (النحل: 125) وقد وقعت فكرة السيد رشيد رضا أفندي وزملائه المحترمين

أحسن وقع في نفوس المسلمين، فارتاحوا لها، وشكروا القائمين بتنفيذها، وقد

بدأت الإعانات والهدايا والاشتراكات ترد عليهم من كل طرف.

ومن الغريب أن هذا المشروع بقدر ما سر المسلمين عامة، قد ساء جريدة

(العلم)، فجاءت بما يهيج أعصابهم في التنفير عنه. يقول أصحاب التجارب:

(إن مصر أم العجائب ومصدر الغرائب) ، وقد علمنا الآن أن هذا القول لم يقل عبثًا

فإن (العلم) وهي جريدة إسلامية في الظاهر، قد خيبت ما كان يظن فيها من

الترحيب بهذا المشروع الخيري؛ الذي يراد به ترقية العالم الإسلامي مادة وأدبًا،

وأخذت تشيع عنه الإشاعات الكاذبة والمفتريات المنوعة؛ لتضل عيون الأمة في

أمور لا يتحملها عقل ولا يقبلها عاقل. من ذلك ما تزعمه من أن القائمين بهذا

المشروع يريدون أن يتذرعوا به لاستقلال العرب وإعادة الخلافة. إلى غير ذلك

مما عزته إليهم، ولو قام رجل منصف لا غرض له، وسأل (جريدة العلم) فيما

لو قيل عن الحزب الوطني: إنه يسعى إلى استقلال العرب، بماذا تبرهن على أن

حزبك لا يسعى إلى ذلك؟ لا ندري بماذا يجيب.

ليقل أصحاب الأهواء الباطلة ما يقولون، فإن الأمة الإسلامية ستختص السيد

رشيد رضا أفندي وزملاءه الغيورين بمكان خاص من قلبها؛ ما داموا باذلين

لجهدهم في سبيل السعادة والسلام، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم وستزدان صحف

التاريخ بأسمائهم، وسيظل العالم الإسلامي مدينا بالشكر لهم إلى الأبد. والله ولي

التوفيق.

***

(مدرسة الدعوة والإرشاد)

وجاء في جريدة الحضارة المعروفة بلسان الصدق والاعتدال التي تصدر في

الآستانة أيضًا تحت هذا العنوان ما نصه:

يعلم القراء أن العلامة الكبير الأستاذ السيد محمد رشيد رضا، كان قد وفد

على الآستانة؛ ليدل الحكومة الجديدة على أمر كانت قد نسيته الإدارة السابقة؛ هو

تأسيس مدرسة لتخريج رجال جامعين بين العلوم الفنية والعلوم المسماة بالعصرية،

وقد وافقته الحكومة. ولكن بعد إقامتة عامًا تحولت في أثنائه الوزارة، واضطربت

النية، رأى أن مصر خير مجالاً لهذا العمل من الآستانة، فغادرها وقفل إلى مصر

التي هي مطلع مناره الزاهر، وهناك وجد المساعدين الطيبين على هذا العمل،

والآن جاءنا منه هذا البيان العام للنشر، ونرجوا أن ييسر الله له الإتمام عما

قريب.

(المنار: ثم ذكرت الجريدة ما بينا به مقاصد الجمعية ومدرستها في المقالة

الثانية من مقالتي الجزء الماضي) .

***

(قول جريدة الحقيقة البيروتية)

نقل الشيخ الشاويش ما كتب أولاً في جريدة الحقيقة من الإرجاف الذي تابعت

به جريدة العلم تحسينًا للظن بها، ولم ينقل ما كتب فيها بعد أن علمت من صحف

مصر الحقيقة، فرجعت إليها، وهو ما كتبته في آخر نبذة ثانية لها في العدد الذي

صدر منها في 25 المحرم، وإنما لم ننشر نحن طعنها الباطل؛ لأنها كانت

مخدوعه فيه بقول العلم، فلم نحب أن نسجله عليها مع رجوعها عنه، وهذا نص

ما قالته:

(بعد كتابة ما تقدم، وصلنا بريد مصر، فعلمنا عند مطالعة صحفه أن

صاحب مشروع مدرسة التبشير الإسلامي هو حضرة السيد محمد رشيد رضا منشئ

مجلة المنار، وأن ذلك المشروع هو الذي كان يريد حضرته مزاولة عمله في

الآستانة عند سفره إليها في الصيف الماضي، وكنا في مقدمة الذين رحبوا به

واستبشروا منه خيرًا؛ لعلمنا أن الرجل يغارعلى دينه وأمته، فلا مندوحة لنا من

مقابلته بالتهليل والتكبير؛ راجين أن يكون بالصبغة التي عهدناه عليها بعيدًا عن

ظنون جريدة العلم التي تفاءلت به شرًّا؛ عند زيارة صاحب المشروع للوكالة

البريطانية في مصر؛ لعرض الموضوع على السير غورست كما تقول، فلا

نجاريها في هذا التشاؤم؛ إذ ربما يكون غرض السيد رشيد من زيارة الوكالة

البريطانية لماجريات يضطره إليها نظام الحكومة هناك، وعلى كل حال نسأل الله

أن يحقق أمل الأمة في هذا العمل، ويبعد عنا دسائس الأشرار الفجار) .

(المنار) لا بد أن يكون أصحاب الحقيقة قد علموا بعد هذه الكتابة أيضًا؛

أن جريدة العلم لم تتشاءم بالمشروع لما زعمته من ذهابي إلى الوكالة لعرضه على

السير غورست، وإنما كان بهتانًا افتجرته افتجارًا، على أن الحقيقة قالت في هذه

المسألة نحوًا مما يقوله، بل ما قاله العقلاء هنا: وهو أن إعلام العميد بمثل هذا

المشروع من مؤسسة أحسن عاقبة من علمه به من قبل غيره؛ لاحتمال أن يصبغه

أولئك الأغيار بصبغة سياسية، تحمل العميد على مقاومته وليست مقاومته بالأمر

الذي لا يؤبه له.

***

(مدرسة العلم والإرشاد)

وجاء في جريدة (وكيل) الهندية الشهيرة، التي تصدر في (أمر تسر)

في العدد الذي صدر منها في 8 صفر تحت هذا العنوان ما ترجمه.

العلامة السيد محمد رشيد رضا؛ الذي هو التلميذ الشهير للمفتي الأعظم

المرحوم الشيخ محمد عبده، والمصلح العظيم لشتات المسلمين، يريد أن يؤسس

مدرسة عظيمة تكون حاوية لتعليم العلم وحقيقة الإسلام، وبعد التحصيل يرسل

طلابها لإشاعة فرائض الإسلام في أقطار الأرض؛ لهذا أقام حضرته في القسطنطينية

مدة سنة، شاور وباحث في هذا الموضوع كبار أهل الحكومة حتى أجابت الحكومة

التركية مطالبه، ووعدت بإعطاء خمسة آلاف جنيه في العام بشروط:

(أولها) أن يكون اسم الجمعية (انجمن علم وإرشاد) .

(ثانيها) أن تكون المدرسة تحت إدارة شيخ الإسلام.

(ثالثها) أن يكون التعليم فيها بالتركية، ولكن فخامته رد هذه الشروط وما

قبلها؛ لأنه يريد أن تكون الجمعية خالية من سلطة الحكومة، حتى لا تكون مريبة

عند أهل أوربا.

وما دامت تكون الجمعية والمدرسة مشتركة بين جميع المسلمين في الدنيا،

فأحرى أن يكون لسانها التعليمي العربي، وأن تسمى باسم عربي، وسعادته يسعى

الآن في مصر لهذا الموضوع ويجمع نفقاته، واسم المدرسة دعوة العلم والإرشاد

(الصواب دار الدعوة والإرشاد) .

***

(في سبيل الإصلاح)

نشرت جريدة المؤيد تحت هذا العنوان أربع مقالات بإمضاء محمد شكري

بالإسكندرية، ولعله كاتب مشيخة المعاهد العلمية هناك، وقد أفرع الكاتب مقالاته

الإصلاحية الإسلامية في قالب محاورة في جمعية إسلامية، وجعل الرابعة منها في

مشروع الدعوة والإرشاد وهذا نصها:

(مشروع الدعوة والإرشاد)

كان آخر المقال السابق نهاية الخطبة التي كلفني حضرة مولانا الشيخ الرئيس

بإلقائها على مسامع السادة الإخوان الموجودين بالجلسة المباركة التي انعقدت بهم

للنظر في شؤون المسلمين وأحوالهم، وكنت أرى علائم الفرح والارتياح لما ألقيه

على مسامع حضراتهم بادية على وجوههم، ظاهرة على محياهم، خصوصًا لما

كان دائرًا حول النقط الآتية التي لو نفذت لأمكن انتشال المسلمين من وهدة سقوطهم

وهوة خمودهم وجمودهم إلى أوج العز والسؤدد والسعادة والفخر الأثيل، وتلك النقط

هي:

(1)

رفع غياهب الجهل عن أذهان المسلمين، وتثقيف عقولهم بالعلوم

والمعارف.

(2)

ترك الخمول والكسل والجمود وضعف العزيمة جانبًا.

(3)

وجوب تصدر العلماء لقيادة الأمة الإسلامية بآرائهم وإرشاداتهم.

(4)

محاربة البدع بالسلاح الماضي المناسب للوقت الحاضر.

(5)

معاقبة من يخالف أوامر الدين، مهما كان مركزه معاقبة شديدة،

تجعله عبرة لغيره، حتى لا يتجارى الغير على إتيان فعله أو على الافتداء به

(6)

الدفاع عن الشريعة الغراء، ودحض قول كل معتد أثيم يتقول عليها

بالباطل، ويرميها بالبهتان.

(7)

القيام بالدعوة إلى إعادة عرى الألفة، حتى يكون المسلم لأخيه

كالبنيان، يشد بعضه بعضًا. هذا ، وما انتهيت من خطابتي ونزلت من على منبر

الخطابة، حتى صعد عليه خطيب مصقع من حضرات الأعضاء، فابتدأ وقال:

(بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله

الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: فلقد أجاد السيد وأفاد في خطبته،

وأطرب بأفكاره مسامعنا وأعجب. وإننا لنشكره على غيرته الدينية وجمعيته

الإسلامية التي من أجلها تكبد شأن السفر فجاءنا، وما جاء إلا واعظًا مرشدًا وبشيرًا

مذكرًا.

على أننا مع موافقتنا على ما جاء في خطبته من ذكر أسباب تأخر المسلمين،

وأدواء انحلال عصبيتهم، ووصف الدواء المعافي لهم من مرضهم والبلسم الشافي

لجسمهم من سقام تأخرهم وتفرقهم وانحطاطهم، الأمر الذي سنعمل به ونأخذه

نموذجًا نسير على دربه، وننسج على منواله.

إلا إننا مع هذا كله لا نوافقه على الطريقة التي يذهب إليها، ويحضنا على اتباعها لتأليف جامعتنا وتركيب وحدتنا، فإنه أثابه الله ذهب إلى أنه لبلوغ هذا الغرض، يلزمنا أن نقوم في مشارق الأرض ومغاربها لدعوة الناس لها.

وإني لأعجب؛ كيف يفوته ما ذكره في سياق كلامه في خطبته الفيحاء؛ من

أن الأكثرية في الأمة الإسلامية على ضلال عن الدين مبين، غير واقفة على أسرار

الشريعة السمحة وما تحويه من الفضائل التي يقف دون إحصائها العد والحصر،

فيذكر حضرته طلب تعميم هذه الدعوة بين عموم المسلمين، مع أنه لا يصح القيام

بالدعوة إليها وتعميمها بينهم إلا إذا كانوا على درجة من الرقي والتمدن والتقدم،

يمكنهم معها فهم معناها ومبناها وإدراك مغزاها ومرماها. أما وهم في الدرجة التي

وصفها من تمكن الجهل فيهم، وضرب أطنابه بين جموعهم، فإنني أرى - والحالة

هذه - أنهم الآن في أحوج ما يكون إلى قيام الخطباء والوعاظ والمبشرين والمرشدين؛

لوعظهم وإرشادهم وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم وإصلاح مرافق معاشهم ومعادهم،

حتى تتنور أذهانهم وتثقف عقولهم، فيصبحون في استعداد تام لمعاونته ومساعدة

نهضته عند المناداة بها، والعمل لإبرازها لأول مرة.

فالواجب علينا أيها السادة، إعداد العدد الكافي من الوعاظ والمرشدين

والخطباء والمبشرين على طريقة عصرية تؤثر في القلوب، وتملك عليها حواسها،

فتوجهها إلى ما يرمي إليه الخطيب وينادي به المبشر أو الواعظ، ثم بث هؤلاء في

بقاع الأرض، حيث يقومون بإرشاد المسلمين ووعظهم وغرس محبة إخوانهم في

قلوبهم، فإنه متى تمت هذه المهمة الأولية، كان من ورائها إبراز المهمة الثانوية؛

ألا وهي النهضة المدنية بأسهل مما يتصوره المرء وتتخيله الأذهان.

أمامكم أيها السادة النجباء والإخوان الفضلاء، مشروع يريد القيام به بعض

ذوي الغيرة الدينية والحمية الإسلامية بالديار المصرية؛ قيامًا منهم بما يفرضه

عليهم الواجب، ويحضهم على تحقيقه وإبرازه الغرض الديني، وهو ينطبق على ما

ندعو إليه ونرمي إلى السعي وراء إيجاده وإظهاره؛ ألا وهو مشروع الدعوة

والإرشاد على نحو ما يفعل المسيحيون، وغرضهم أيها السادة تخريج مبشرين

دينيين، يقومون بمهمة التبشير بالإسلام، ودعوة المسلمين إلى العمل بأوامر دينهم،

والتمكن من أصوله، والوقوف على أسراره وخفاياه الكافلة بإصلاح أحوالهم،

وفتح أبواب الرزق والرحمة أمامهم.

أمامكم تلك المدرسة، فقوموا عن بكرة أبيكم وعضدوها وأيدوها، وارفعوا

شأنها، وثبتوا قدمها، وانصروا لله بنصرها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ

يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) إنني أناديكم أيها السادة، وأنادي كافة

المسلمين الغيورين على دينهم بما ينادي به لسان حال الإسلام أبناءه الأمناء

المخلصين؛ من الأخذ بيده ورفع شأنه، وإعلاء كلمته؛ لإرجاعه إلى ما كان عليه

من علو الشأن ورفعة المقام في العصر السالف؛ عصر فتوته وشوكته بالأخذ بيد

تلك المدرسة التي هي طريق الوصول به إلى مبتغاه، والعامل الوحيد الذي

بواسطته يبلغ ما يتمناه.

إن الإسلام يا قوم يناديكم جميعًا: أن كدوا وجدوا واعملوا واكدحوا بكل ما في

طاقتكم ومكنتكم؛ لإبراز تلك المدرسة وإمدادها بالمال الوفير والعقار الكثير، حتى

تستمر في طريقها وتسير في الدرجة المرسومة لها، وتفي بالغرض المقصود منها،

فشمروا عن ساعد الجد، وأجيبوا نداءه بأن تتبرعوا بالتبرعات المالية اللائقة بتلك

المدرسة الجليلة، وقفوا الأراضي والعقار لها وتنافسوا في ذلك ما استطعتم، فإن

ذلك خير ما يتنافس فيه العاملون، واصرفوا عن أفكاركم وأذهانكم تشويش

المشوشين، وهتر الهاترين، ومكابرة المكابرين، ولا تقيموا لأقوالهم وزنًا، فإنهم

لا يبغون سوى عرقلة المسعى في إيجاد تلك المدرسة التي اتفقت الآراء على

تحبيذها، وأجمع الكل على ضرورة إيجادها، حتى لا يكون الغير قد سبقهم بها،

وهم الذين يودون أن يكونوا مصدر كل خير وأصل كل منفعة، ولو بغير حق

وبدون جدارة وكفاءة، حتى لا ينسب إليهم أحد التشدق بالكلام المزخرف، الذي لا

فائدة منه للمسلمين ولا عائدة تعود عليهم من ورائه، فيعيرهم بالمثل السائر (أسمع

جعجعة ولا أرى طحنًا) .

ليت هؤلاء المعارضين يثوبون إلى رشدهم بعد ما تبين لهم الحق، فيسيرون

مع هذا المشروع جنبًا لجنب، خصوصًا وإنهم من المسلمين الذين يهمهم شأن

الإسلام، فإننا معشر الإخوان، والحق يقال: لنحب ونود من صميم الفؤاد أن تكون

كلمة المسلمين في أي شأن من الشؤون التي تعود عليهم بالفائدة متحدة متفقة، فإن

ذلك أولى لهم ثم أولى وأنفع لمصلحتهم ثم أنفع، وفي الختام أدعو الله أن يكلل هذه

المدرسة بالنجاح والفلاح، وأرجو منه تعالى أن يحول حال المسلمين إلى أحسن

حال، آمين.

وبعد أن نزل الخطيب، قام الرئيس وقال: ما رأيكم أيها الأعضاء الكرام في

المدرسة التي أشار إليها حضرة الخطيب المتقدم. فقالوا جميعًا: إن إبراز تلك

المدرسة من الضروري اللازم الذي لا يمكن للمسلمين الاستغناء عنه، وإننا لنرى

أن يصدر من جمعيتنا قرار موجه إليهم؛ لحثهم على معاونة ومساعدة تلك المدرسة،

والعمل نحو إبرازها وإيجادها، ثم اتفق الجميع على نص القرار المشار إليه،

وكلفوني بإرساله إلى المؤيد الأغر لسان حال المسلمين في كافة أنحاء المعمورة،

وهاك هو القرار بنصه وفصه:

من (جمعية لا إله إلا الله) إلى كافة المسلمين الموحدين بالله أهل النخوة

والنجدة؛ إن من الواجب على كل مسلم أن يعمل كل ما فيه انتشار الإسلام وإعلاء

كلمة الإيمان، والتفاني في ذلك على قدر الإمكان، كما كان يعمل آباؤنا الذاهبون

الأولون في الصدر الأول من عهد نشأة الإسلام، وبزوغ شمسه المشرقة، ولذلك

اجتمعت جمعيتنا وقررت وجوب تعضيدكم لمدرسة الدعوة والإرشاد التي يراد

إنشاؤها بعاصمة الديار المصرية، بما يكفل لها الاستمرار والنمو، ويضمن لها

تنفيذ الغرض الذي يراد إنشاؤها من أجله؛ وهو تخريج مبشرين دينيين، ينتشرون

في جهات الأرض للتبشير بالدين الإسلامي، وحض الناس على اعتناق الإسلام؛

لتخليصهم من عذاب الآخرة الذي يشيب من هوله الولدان، ووعاظ يعظون

المسلمين ويحثونهم على اتباع أوامر الشرع الشريف، ولا يخفى ما في ذلك من

صلاح الحال وحسن المآل.

(فالبدار البدار أيها المسلمون؛ لمساعدة تلك المدرسة بالأموال الطائلة؛ لأن

المال هو حياة المشاريع والأساس الذي تقوم عليه وتظهر، والعمل العمل لإبرازها

في القريب العاجل، واعلموا أنكم إن تقدموا في الدنيا من حسنة فستجزون عليها في

الآخرة أضعافًا، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال. آمين) .

...

...

...

... عن رئيس الجامعة

...

...

...

...

محمد شكري

...

...

...

...

بإسكندرية

_________

ص: 121

الكاتب: سليمان الجادوي

‌حال المسلمين والمصلحين

أو هل إلى الرقي من سبيل [1]

لقد أسفر حديث مضى لنا، وكان لهذا الحديث صدرًا عن حقيقتين لا مراء

فيهما، بل مقدمتين لأقضية سنفيض الكلام فيهما، هما شعور عموم المسلمين بما

حاق بهم من سيئات ما كسبوا واختلافهم في الرأي، أي سبيل للنجاة يسلكون؟ ولقد

حدا بنا الحديث إلى الإفاضة في ولع المسلمين بالخلاف، حتى في أحرج المواقف

وأضيق الأوقات، وكذلك حقت عليهم الكلمة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك،

فإنهم يعلمون أن الرقي على ضربين: مادي وأدبي، وأن الرقي المادي نتيجة

السعي والأخذ بما أخذ به الأقوام، ولا يعصم من شروره إلا التحرز بحرز الآداب

الدينية التي أرشد لها الكتاب المبين. فهل بعد هذا لأحد هذين النوعين توقف على

الآخر أو بالحري: هل يكون نصيب كل منهما من الاهتمام في الوقت الحاضر

على السواء أو أن أحدهما الأحرى بالتقديم.

ألا لا يجادل أحد في أن الأفعال مهما كانت قيمتها، لا تصدر إلا عن وجدان

نفسي تابع للتربية العامة والتلقين بالتعليم، وإن التعليم ليجمع بين المختلفين في

أساليب التربية، فيجعلهم أشبه ببعضهم في كل شبيه، ولما كان المسلمون قد

أصابهم من سيئات الشقاق والتدابر ما أصابهم، وهم اليوم أحوج ما يكونون إلى

باعث يبعثهم على سلوك سبل الارتقاء الحق متحدين، فهل لذلك من واسطة غير

توحيد التعليم، وبذلك يتضح جليًا توقف أحد النوعين على الآخر وإن سلوك طرق

الرقي المادي قبل الوصول إلى غاية في الرقي الأدبي عسير إن كان ممكنًا،

وبعكس النتيجة إن لم يكن عقيمًا.

بقي النظر في هذه القضية وهي توحيد التعليم بين المسلمين، هل للنفس في

تحقيقها من طمع؟ وهل أسبابها مهيأة؟ وهل يقوم دون الوصول إليها من عائق

عتيد؟

لا أتوقف في الجواب عن جميع تلك الأسئلة بالإيجاب، وشرحها بيت القصيد،

ذلك بأن الله ورسوله يأمران جميع المسلمين بالائتلاف والاتفاق، وبحذرانهم

مزالق الفرقة، وقد جمع الله المسلمين في اليوم وما قبله على كتاب الله وسنة رسوله

صلى الله عليه وسلم، فهم وهم بضع وسبعون فرقة تدين بما ذكر، وتطأطئ

الرؤوس إذعانًا، وهذان هما جماع الخير ومنبع الرشد، وإذا وصل الفكر إلى هذا

الحد يرقص طربًا؛ إذ يرى فواق الناقة أبعد من رقي المسلمين، ولكن تجاوزه هذا

الحد يحدث له رد فعل، يخور معه عزمه، فيسقط في اليأس واهيًا حيث يقف أمامه

عائق عتيد، وذلك هو كثرة الأعداء وقوتهم الفائقة الحد وتيقظهم لكل بادرة، ينتج

عنها صلاح المسلمين.

إن المسلمين في سائر الأقطار قد تقاسمهم غيرهم، فهم بين استقلال مستبد أو

استيلاء غريب، وكل من هذين ضنين بما غنم منهم، فلا يغفل عن أقل شيء

يضعف ضغطه عليهم، حتى يستأصل شأفته، ولا يدع سببًا أوقعهم في يده، حتى

يحرص على استدامته حرصه على سيادته، وما المستبد إلا حافظ أمين على تلك

الغنيمة التي وقعت بين يديه، حتى يستلمها من يده الغريب، وهي على تربية

العبيد.

وهذه الحكومات بين مستبدة وغريبة، قد اتخذت لها أعوانًا قلدتهم أوسمة العلم

ونياشين المعارف، وأبرزتهم للعامة حتى يكونوا مقام التقليد، فكان هؤلاء حربًا

للمسلمين، ومانعًا من ائتلافهم، ومشنعًا على كل من جاهر بهذا القصد بأنه ملحد

عدو للمسلمين، فلا تلبث الحكومات أن تؤيدهم؛ لأنهم يؤدون لها أجل خدمة، ولا

تلبث العامة أن تزدري بما ألقي إليها؛ لأنه ضد إرادة سادتهم من أولي الأمر وأهل

الدين، وهكذا تذهب صيحات المرشدين ونصائح المصلحين دون صدى، ويذهب

جهدهم سدى، وما خصهم إلا من عرفت. وربما بحث الناظر عن سبب وقوف

هؤلاء سدًا في وجه كل إصلاح وهم أحق من قام بدعوى الإصلاح؛ لمكانهم من

الدين، فأقول: إن لذلك سببين: أولهما الاعتقاد بأن شكر المنعم واجب، وأن الذي

أجلسهم على الوثير، وألبسهم من الحرير، ورفع منزلتهم، وجلعهم يعيشون عيش

المترفين لخليق بأن يكونوا حراس عرشه الذي هو أصل عيشهم، ولعلهم

برجوعهم إلى الحق يرجعون إلى العيش الضيق، والشظف الذي كان يكابده

السلف، وذلك ما يرجفون لذكراه، وربما خرج بعضهم عن منصبه لسبب، فرأيت

منه من الأفكار ما سرك، وتمنيت أن يكون ذا منصب، حتى يكون للإصلاح خير

ظهير، هذا أضعف السببين. وأقواهما شعور أكثر هؤلاء بالقصور عن درجة العلم

الحقيقي وصعوبة اعترافهم بالحقيقة، ما داموا علماء رسميين، فغالطوا أنفسهم كما

غالطهم أولو الأمر، وأنفوا من ظهور ذي حجة مبين لقصورهم.

أقول ما أقول غير قاصد فردًا أو جمعًا خاصًا، ولكن هو وصف لمن اتصفوا

بالعلم قديمًا وحديثًا إلا أهل العلم من خير القرون، فلقد كان العلم على عهدهم رتبة

يمنحها الولاة للذوات، ولكنه حكمة يختص بها الله فريقًا ممن جاهدوا في سبيل

تحصيلها، وكانوا يطلقونه على أهل الرواية وأسرار التنزيل وكذلك كان العلماء

أحرارًا في الاستنباط والفهوم، وكان العوام أحرارًا في الاتباع والتقليد، ولكن ملوك

الاستبداد لما رأوا أن الدعاوي السياسية لم ترتكز إلا على أصل ديني، اضطروا

إلى إيجاد قوة تؤيد ما هم عليه من جليل الأشياء وحقيرها، فتجعله للدين أصلاً،

ويوفق بينها وبينه ولو بالتمحل في التأويل، ولن يرضى بهاته المنزلة الدنية إلا ذو

البضاعة المزجاة في العلوم، فإن العالم الذي أشربت نفسه عزة العلم لا يرضى

أن يخدم غرض جاهل تلقاء قليل أو كثير من الحطام، وأنه ليلقى أشد صعوبة إذا

رام أن يخالف ضميره ويأتي أمرًا نهاه عنه ما تلقاه. ولم يخل قرن من الأيام الخالية

من عالم يقوم بإنكاره ما يرى ويجهر لتلك الفئة أنهم على ضلال، وما هو إلا أن

يرى صدى مقاله في آذان الملوك الذين يضرهم قوله، فيجردون عليه جيشًا من

أولئك الذين ألبسوهم حيلة العلم وقلدوهم تاج المعارف؛ إذ كانوا يوقنون أنه لا يغني

عنهم في تلك الغارة سيف ولا سنان، ولا ينفك أولئك عن مطاردة الحق حتى يخفت

صوته، ويستقر في أذهان العامة أن أولئك العلماء يجاهدون في سبيل الدين، وهم

يجاهدون في سبيل شهوة الحاكمين، ويقوم لديهم في بعض الأحايين الباعث

الآخرعلى مطاردة أولئك المحقين، وهو خوف رجوع أولي الأمر، والعامة إلى

أولئك النابغين، فيفقدون منزلتهم التي تبوؤها عن غير حق، ويظهر جليًا عليهم

القصور، فأرهفوا الحد استعدادًا لتلك الطوارئ، ونصبوا الإسلام على أسنة أقلامهم،

وقالوا: أما التقليد لكل ما ترون أولاً فليس إلا إلحاد وزيغ وضلال دون أن يكلفوا

أنفسهم مشقة الاستدالال، ولئن سألتهم عما يقصدون عن إشهار تلك الحرب العوان

ليقولن: إنا حماة الدين، وإنه ليوجب علينا تغيير كل منكر رأيناه، ما لهم لا يغيرون

ما بين بأيدهم من المنكرات، بل بالعكس تراهم قائمين عليهم وبها يأمرون.

ألم تر أنهم يبصرون الشموس كالأساطين، والمصابيح الأولوف تسرج، ونور

السراج الوهاج يضيئ ما بين اللابتين. ألم تر أنهم يبصرون المباخر الفضية

توضع في مجالس أحاديث الرسول - صلوات الله عليه - وهو ينهى عنها وهم

بها راضون، ولكن هذه المنكرات الصريحة لا تسوءهم مثلما يسوءهم من ينادي بأن

الخلاف بين فرق المسلمين يمكن تسويته، وأنهم لو أحسنوا المناظرة لما اختلفوا، وأن

تنديد بعض هذه الفرق ببعض في غير محله، ولا ينبغي الإقرار عليه. من قام بهاته

الدعوة وقرع بها أسماعهم وهي كما رأيت أقصى ما يتمنى المسلمون، لا يكون

جزاءه منهم (أي من هؤلاء العلماء) سوى رميه بالاعتزال بل بالمروق والزيغ

والإلحاد، والاستدلال على ذلك لديهم هين؛ إذ لا يتجاوز حكاية منامية رآه فيها مسود

الوجه متغير الحال، كما بلي جمال الدين الأفغاني (بسميه) وكما بلي به الشيخ محمد

عبده وبمجنون بيروت، وكما بلي من قبله الغزالي بمن لا يصلح أن يكون شراكًا

لنعله، فرموا بالزندقة والإلحاد والكفر والاعتزال (لأن في عرفهم أن الاعتزال

منصفة) ويطلقون كل هاته الألفاظ على شخص واحد مع علمهم باختلاف معانيها،

ولكن حيث كان الباعث على قذفها الغيظ والعداء، لا يرون حرجًا في جمعها في

كنانة واحد؛ إذ جعبة الغضب أوسع من جعبة الحق، ويجرئهم على ذلك مركزهم

الذي يجعل كلامهم مقبولاً، ويأمنون به مناقشة الحساب.

ألا لقد سار القلم شوطًا بعيدًا في هذا الميدان، حتى أشفق الفكر على القارئ

السآمة والتشتيت، وما كان القصد سوى التعريف بأن السبب الذي يقف في وجه

رقي المسلمين هو قوة أعداء ذلك الرقي، وبيان أن أهل الأمر هم أصحاب الفائدة

من تقهقر الأمة، وهم الذين أوقفوا لسعيهم حدودًا ولأفكارهم جنودًا ممن ذكرنا، فهم

المؤاخذون الأصليون. وإن جندهم من أولئك ليعملون على قدرعقولهم، لم يصلوا

إلى مرتبة تعرفهم بالحق، حتى يكونوا إذا لم يأخذوا به مؤاخذين، بل ذلك مبلغهم

من العلم والحياة الدنيا جل ما يطلبون، وإن منهم لفريقًا يكتمون الحق وهم يعملون،

وما أولئك إلا القليل.

ذلك العائق الذي شرحناه هو الذي حجز بين المسلمين وبين ما يبتغون، فهل

من مطمع في زواله؟ وهل إلى الرقي من سبيل؟

...

...

...

...

سليمان الجادوي

(المنار) قلما رأيت في الجرائد كتابة في حال المسلمين أو في المسائل

الاجتماعية موزونة بميزان العقل، وصادرة عن روية واستقلال في الفكر كهذا

المقال، وإني أجيب الكاتب الفاضل بأن السبيل إلى رقي المسلمين واحدة؛ وهي أن

يكثر فيهم المصلحون من أهل العلم والبصيرة والتقوى، فيقوى حزبهم على حزب

الدجالين الجامدين، الذين حالوا بين المسلمين وبين الترقي في دينهم ودنياهم معًا،

ولا بد لهذا من سعي خاص، حتى لا يطول أمد الوصول إليه، وهو كائن بإذن الله

طالت المدة أم قصرت، ولا يهولنك كثرة أتباع الدجالين، فما ذلك تأثير دجلهم

الحادث، وإنما هي بقايا الداء الموروث، وقد يموت أكبر طاغوت منهم، فلا يشعر

الذين على رأيه بأنهم فقدوا شيئًا؛ فكثرتهم إلى قلة، وقلة المصلحين وأتباعهم إلى

كثرة، والعاقبة للمتقين.

_________

(1)

قرأنا في جريدة مرشد الأمة التي تصدر في تونس هذا القسم الثاني من مقال بإمضاء سليمان الجادوي عنوانه: (هل إلى الرقي من سبيل) فرأينا فيه من نور البصيرة ما بعثنا إلى نشره في المنار.

ص: 134

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية [

1]

جاء في كتاب الملل والنحل للشهرستاني تحت عنوان (الإسماعيلية) ما نصه:

قد ذكرنا أن الإسماعيلية امتازت عن الموسوية وعن الاثنا عشرية بإثبات

الإمامة لإسماعيل بن جعفر وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر، قالوا:

ولم يتزوج الصادق على أمه بواحدة من النساء، ولا اشترى جارية كسنة رسول الله

في حق خديجة، وكسُنَّة علي في حق فاطمة، وذكرنا اختلافهم في موته في حال

حياة أبيه، فمنهم من قال: إنه مات وإنما فائدة النص عليه انتقال الإمامة منه إلى

أولاده خاصة كما نص موسى إلى هارون عليهما السلام، ثم مات هارون في حال

حياة أخيه وإنما فائدة النص انتقال الإمامة منه إلى أولاده، فإن النص لا يرجع

قهقرى، والقول بالبداء محال، ولا ينص الإمام على واحد من ولده إلا بعد السماع

من آبائه، والتعيين لا يجوز على الإبهام والجهالة. ومنهم من قال: إنه لم يمت

لكن أظهر موته تقية عليه حتى لا يقصد بالقتل. ولهذا القول دلالات منها أن محمدًا

كان صغيرًا وهو أخوه لأمه، مضى إلى السرير الذي كان إسماعيل نائمًا عليه،

ورفع الملاءة فأبصره وهو قد فتح عينه ومضى إلى أبيه مفزعًا وقال: عاش أخي

عاش أخي. قال أبوه: إن أولاد الرسول كذا يكون حالهم في الآخرة. قالوا: وما

السبب في الإشهاد على موته، وكتب المحضر عليه ولم يعهد ميتًا سجل على موته؟

و (أجيب) عن هذا بأنه لما رفع إلى المنصور أن إسماعيل بن جعفر رؤي

بالبصرة مر على مقعد فدعا له فبرئ بإذن الله، بعث المنصور إلى الصادق أن

إسماعيل في الأحياء، وأنه رؤي في البصرة أنفذ السجل إليه وعليه شهادة عامله

بالمدينة.

قالوا: وبعد إسماعيل محمد بن إسماعيل السابع التام وإنما تم دور السبعة به

ثم ابتدأ منه بالأئمة المستورين الذين كانوا يسيرون في البلاد ويظهرون الدعاة جهراً،

قالوا: ولم تخل الأرض قط من إمام حي قاهر إما ظاهر مكشوف، وإما باطن

مستور. فإذا كان الإمام ظاهرًا يجوز أن تكون حجته مستورة، وإذا كان الإمام

مستورًا فلا بد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين، وقالوا: إنما الأئمة تدور أحكامهم

على سبعة كأيام الأسبوع والسماوات السبع والكواكب السبع، والنقباء تدور أحكامهم

على اثنا عشر، قالوا: وعن هذا وقعت الشبهة للإمامية القطعية، حيث قرروا عدد

النقباء للأئمة. ثم بعد الأئمة المستورين كان ظاهر المهدي والقائم بأمر الله وأولادهم

نصًّا بعد نص على إمام بعد إمام، ومذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات

ميتة جاهلية، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية، وكانت

لهم دعوة في كل زمان ومقالة جديدة بكل لسان، فنذكر مقالاتهم القديمة

ونذكر بعدها دعوة صاحب الدعوة الجديدة، وأشهر ألقابهم الباطنية.

وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنًا، ولكل تنزيل تأويلاً ولهم

ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم قوم، فبالعراق يسمون الباطنية والقرامطة

والمزدكية، وبخراسان التعليمية الملحدة وهم يقولون نحن إسماعيلية؛ لأنا تميّزنا

عن فرق الشيعة بهذا الاسم وهذا الشخص.

ثم إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنعوا كتبهم

على ذلك المنهاج، فقالوا في البارئ تعالي: إنا لا نقول هو موجود ولا لا موجود،

ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، وكذلك في جميع الصفات؛ فإن الإثبات

الحقيقي يقتضي الشركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقنا عليه، وذلك

تشبيه، فلم يكن الحكم بالاثبات المطلق والنفي المطلق، بل هو إله المتقابلين وخالق

الخصمين والحاكم بين المتضادين، ويقولون في هذا أيضًا عن محمد بن

علي الباقر: إنه قال لما وهب العلم للعالمين قيل: هو عالم، ولما وهب القدرة

للقادرين قيل: هو قادر، فهو عالم وقادر؛ بمعنى أنه وهب العلم والقدرة، لا بمعنى

أنه قام به العلم والقدرة أو وصف بالعلم والقدرة، فقيل فيهم: إنهم نفاة الصفات حقيقة

معطلة الذات عن جميع الصفات، قالوا: وكذلك نقول في القدم: إنه ليس بقديم ولا

محدث بل القديم أمره وكلمته، والمحدث خلقه وفطرته، أبدع بالأمر

العقل الأول الذي هو تام بالفعل، ثم بتوسطه أبدع النفس الثاني الذي هو غير تام،

ونسبة النفس إلى العقل، أما نسبة النطفة إلى تمام الخلقة والبيض إلى الطير، وأما

نسبة الولد إلى الوالد والنتيجة إلى المنتج. وأما نسبة الأنثى إلى الذكر

والزوج إلى الزوج. قالوا: ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى

حركة من النقص إلى الكمال، واحتاجت الحركة إلى آلة الحركة فحدثت الأفلاك

السماوية، وتحركت حركة دورية بتدبير النفس، وحدثت الطبائع البسيطة بعدها

وتحركت حركة استقامت بتدبير النفس أيضًا، فتركبت المركبات من المعادن

والنبات والحيوان والإنسان، واتصلت النفوس الجزئية بالأبدان، وكان نوع الإنسان

متميزًا عن سائر الموجودات بالاستعداد الخاص لفيض تلك الأنوار، وكان عالمه في

مقابلة العالم كله وفي العالم العلوي عقل ونفس كلي، وجب أن يكون في هذا العالم

عقل شخص هو كل، وحكمه حكم الشخص الكامل البالغ ويسمونه الناطق وهو النبي،

ونفس مشخصة هو كل أيضًا وحكمها حكم الطفل الناقص التوجه إلى الكمال أو حكم

النطفة المتوجهة إلى التمام، أو حكم الأنثى المزدوج بالذكر ويسمونه الأساس وهو

الوصي.

قالوا: وكما تحركت الأفلاك بتحريك النفس والعقل والطبائع، كذلك تحركت

النفوس والأشخاص بالشرائع بتحريك النبي والوصي في كل زمان دائر على سبعة

سبعة، حتى ينتهي إلى الدور الأخير ويدخل زمان القيامة وترتفع التكاليف

وتضمحل السنن والشرائع، وإنما هذه الحركات الفلكية والسنن الشرعية لتبلغ

النفس إلى حال كمالها، وكمالها وصولها إلى درجة العقل، واتحادها به ووصولها

إلى مرتبته فعلاً وذلك هو القيامة الكبرى، فتنحل تراكيب الأفلاك والعناصر

والمركبات، وينشق السماء وتتناثر الكواكب وتبدو الأرض غير الأرض، وتطوى

السماء كطي السجل للكتاب المرقوم فيه ويحاسب الخلق، ويتميز الخير عن الشر

والمطيع عن العاصي، وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلي، وجزئيات الباطل

بالشيطان المبطل، فمن وقت الحركة إلى وقت السكون هو المبدأ، ومن وقت

السكون إلى ما لا نهاية له هو الكمال.

ثم قالوا: ما من فريضة وسنة وحكم من أحكام الشرع من بيع وإجارة وهبة

ونكاح وطلاق وجراح وقصاص ودية إلا وله وزان من العالم عددًا في مقابلة عدد،

وحكمًا في مقابلة حكم، فإن الشرائع عوالم روحانية أمرية، والعوالم شرائع

جسمانية خلقية، وكذلك التركيبات في الحروف والكلمات على وزان تركيبات

الصور والأجسام، والحروف المفردة نسبتها إلى المركبات من الكلمات كالبسائط

المجردة إلى المركبات من الأجسام، ولكل حرف وزان في العالم وطبيعة يخصها

وتأثير من حيث تلك الخاصية في النفوس، فعن هذا صارت العلوم المستفادة من

الكلمات التعليمية غذاء للنفوس، كما صارت الأغذية المستفادة من الطبائع الخلقية

غذاء للأبدان.

وقد قدر الله أن يكون غذاء كل موجود مما خلقه منه، فعلى هذا الوزان

صاروا إلى ذكر أعداد الكلمات والآيات، وأن التسمية مركبة من سبعة واثني عشر،

وأن التهليل مركب من أربع كلمات في إحدى الشهادتين وثلاث كلمات في الشهادة

الثانية، وسبع قطع في الأولى ست في الثانية، واثنى عشر حرفًا في الثانية،

وكذلك في كل آية أمكنهم استخراج ذلك مما لا يعمل العاقل فكرته فيه إلا ويعجز عن

ذلك؛ خوفًا عن مقابلته بضده، وهذه المقابلات كانت طريقة أسلافهم، وقد صنفوا

فيها كتبًا، ودعوا الناس إلى إمام في كل زمان يعرف موازنات هذه العلوم، ويهتدي

إلى مدارج هذه الأوضاع والرسوم.

ثم أصحاب الدعوة الجديدة تنكبوا هذه الطريقة حين أظهر الحسن بن الصباح

دعوته، وقصر عن الإلزامات كلمته، واستظهر بالرجال وتحصن بالقلاع، وكان

بدء صعوده إلى قلعة الموت في شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربع ومئة، وذلك بعد

أن هاجر إلى بلاد إمامه، وتلقى منه كيفية الدعوة لأبناء زمانه، فعاد ودعا الناس

أول دعوة إلى تعيين إمام صادق قائم في كل زمان، وتمييز الفرقة الناجية من سائر

الفرق بهذه النكتة، وهو أن لهم إمامًا وليس لغيرهم إمام، وإنما يعود خلاصة كلامه

بعد ترديد القول فيه عودًا على بدء بالعربية والعجمية إلى هذا الحرف، ونحن ننقل

ما كتبه بالعجمية إلى العربية، ولا معاب على الناقل، والموفق من اتبع الحق

واجتنب الباطل، والله الموفق والمعين. فنبدأ بالفصول الأربعة التي ابتدأ الدعوة

وكتبها عجمية فعربتها.

قال للمفتي في معرفة البارئ تعالى أحد قولين: إما أن يقول أعرف البارئ

تعالى بمجرد العقل والنظر من غير احتياج إلى تعليم معلم، وإما أن يقول: لا

طريق إلى المعرفة مع العقل والنظر إلا بتعليم معلم صادق، قال: ومن أفتى بالأول

فليس له الإنكارعلى عقل غيره ونظره، فإنه متى أنكر فقد علم والإنكار تعليم ودليل

على أن المنكر عليه يحتاج إلى غيره، قال: والقسمان ضروريان فإن الإنسان إذا

أفتى بفتوى أو قال قولاً فإما أن يقول من نفسه أو من غيره، وكذلك إذا اعتقد عقدًا

فإما أن يعتقده من نفسه أو من غيره هذا هو الفصل الأول، وهو كسر على

أصحاب الرأي والعقل.

وذكر في الفصل الثاني أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم، أفيصلح كل معلم على

الإطلاق أم لا بد من معلم صادق؟ قال: ومن قال: إنه يصلح كل معلم ما ساغ له

الإنكار على معلم خصمه، وإذا أنكر فقد سلم أنه لا بد من معلم معتمد صادق، قيل

وهذا كسر على أصحاب الحديث.

وذكر في الفصل الثالث أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم صادق، فلا بد من

معرفة المعلم أولاً والظفر به ثم التعليم منه، أم جاز التعلم من كل معلم من غير

تعيين شخصه وتبيين صدقه؟ ؟ والثاني رجوع إلى الأول ومن لم يمكنه سلوك

الطريق إلا بمقدم ورفيق، فالرفيق ثم الطريق هو كسر على الشيعة.

وذكر في الفصل الرابع أن الناس فرقتان: فرقة قالت: يحتاج في معرفة

البارئ تعالى إلى معلم صادق، ويجب تعيينه وتشخيصه أولاً ثم التعلم منه، وفرقة

أخذت في كل علم من معلم وغير معلم، وقد تبين بالمقدمات السابقة أن الحق مع

الفرقة الأولى، فرأسهم يجب أن يكون رأس المحققين، وإذا تبين أن الباطل مع

الفرقة الثانية، فرؤساؤهم يجب أن يكونوا رؤساء المبطلين، قال: وهذه الطريقة

التي عرفتنا المحق بالحق معرفة مجملة، ثم نعرف بعد ذلك الحق بالمحق معرفة

مفصلة، حتى لا يلزم دوران المسائل، وإنما عنى بالحق ها هنا الاحتياج،

وبالمحق المحتاج إليه، وقال: بالاحتياج عرفنا الإمام وبالإمام عرفنا مقادير

الاحتياج، كما بالجواز عرفنا الوجوب إلى واجب الوجود، وبه عرفنا مقادير الجواز

في الجائزات، قال: والطريق إلى التوحيد كذلك حذو القذة بالقذة، ثم ذكر فصولاً

في تقرير مذهبه إما تمهيدًا وإما كسرًا على المذاهب وأكثرها كسر أو إلزام واستدلال

بالاختلاف على البطلان وبالاتفاق على الحق ، منها فصل الحق والباطل والصغير

والكبير. يذكر أن في العالم حقًا وباطلاً، ثم يذكر أن علامة الحق هي الوحدة ،

وعلامة الباطل هي الكثرة، وإن الوحدة مع التعليم، والكثرة مع الرأي، والتعليم

مع الجماعة والجماعة مع الإمام، والرأي مع الفرق المختلفة، وهي مع رؤسائهم،

وجعل الحق والباطل والتشابه بينهما من وجه التمايز بينهما من وجه التضاد في

الطرفين، والترتب في أحد الطرفين ميزانًا يزن به جميع ما يتكلم فيه، قال: وإنما

أنشأت هذا الميزان من كلمة الشهادة وتركيبها من النفي والإثبات أو النفي والاستثناء،

قال: فما هو مستحق النفي باطل وما هو مستحق الإثبات حق، ووزن بذلك الخير

والشر والصدق والكذب وسائر المتضادات، ونكتته أن يرجع في كل مقالة وكلمة

إلى إثبات المعلم، وأن التوحيد هو التوحيد والنبوة معًا حتى يكون توحيدًا، وإن

النبوة هي النبوة والإمامة معًا حتى تكون نبوة، وهذا هو منتهى كلامه.

وقد منع العوام عن الخوض في العلوم، وكذلك الخواص عن مطالعة الكتب

المتقدمة إلا من عرف كيفية الحال في كل كتاب، ودرجة الرجال في كل علم، ولم

يتعد بأصحابه في الإلهيات عن قوله: إن إلهنا إله محمد. قال أنا وأنتم تقولون:

إلهنا إله العقول أي: ما هدى إليه عقل كل عاقل، فإن قيل لواحد منهم ما تقول في

البارئ تعالى؛ وأنه هل هو (كذا) ، وأنه واحد أم كثير، عالم قادر أم لا؟ ؟ لم

يجب إلا بهذا القدر؛ أن إلهي إله محمد، وهو الذي أرسل رسوله بالهدى،

والرسول هو الهادي إليه، وكم قد ناظرت القوم على المقدمات المذكورة، فلم

يتخطوا عن قولهم أفنحتاج إليك أو نسمع هذا منك أو نتعلم عنك؟ وكم قد ساهلت

القوم في الاحتياج، وقلت: أين المحتاج إليه وأيش يقدر لي في الإلهيات، وماذا

يرسم في المعقولات، إذ المعلم لا يعنى لعينه وإنما يعنى ليعلم، وقد سددتم باب

العلم وفتحتم باب التسليم والتقليد، وليس يرضى عاقل بأن يعتقد مذهبًا على غير

بصيرة، وأن يسلك طريقًا من غير بينة، فكانت مبادئ الكلام تحكيمات، وعواقبها

تسليمات {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي

أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65)(للكلام بقية) .

(المنار)

هذا ما أورده الشهرستاني من دين الباطنية الإسماعيلية الذين كانوا يخادعون

الناس فيه زاعمين أنه مذهب إسلامي، وأن أهله هم الفرقة الناجية، وكانوا

يستدرجون الضعفاء بهذه السفسطة المموهة، ويستزلونهم بما يخيلون إليهم من

حجج العقل، فيستنزلونهم به عن العقل، ويسترضونهم بالخضوع الأعمى لكل ما

ينقلونه عن إمامهم، وقد هدم سفسطتهم العلماء الأعلام كالغزالي في كتابه القسطاس

المستقيم وغيره.

_________

(1)

تابع لما نشر في (ج12 م13) .

ص: 138

الكاتب: صالح علي

‌تقرير مرفوع إلى جناب صاحب الدولة

الأمير أحمد باشا فؤاد حضرتلري

رئيس مجلس إدارة الجامعة المصرية [1]

مولاي:

إن جامعة مصرية تدرس فيها آداب اللغتين الفرنسية والإنجليزية لجديرة بأن

تكون فيها حلقة لتعليم تاريخ الأدبيات العربية، فإن هذا التاريخ يا مولاي على تعدد

موارده وغزارة مناهله، لا يزال إلى وقتنا هذا شتيتًا، لم يقم بعد من يؤلف بين

أجزائه في رسالة يعول عليها سواء بالعربية أو بأية لغة أجنبية.

ما كان [2] لأحد من رجال الأدب في العالم الإسلامي على سعته أن يفكر

في جمع مثل هذا المؤلف، فبقيت هذه الثغرة مفتوحة من وقت أن كانت سوق

الأدب نافقة إلى وقتنا هذا.

نحن لا ننكر أن بين أيدينا كثيراً من أمهات الكتب الأدبية، ولكن ليس فيها يا

مولاي ما ينقع الغلة ويبرئ العلة. فإن كتاب الأغاني مثلاً ومعجم الأدباء لياقوت،

ووفيات الأعيان لابن خلكان على جلالة قدرها، ليست إلا كتب تراجم. كما أن

كتاب الفهرست لابن النديم، وكشف الظنون لملا كاتب جلبي وكتاب اكتفاء القنوع

بما هو مطبوع للأستاذ إدوارد فان ديك Dyck Van E أولى لها أن تسمى فهارس

من أن تعد في طبقة الكتب التي تبحث في تاريخ الأدبيات العربية.

أخذ المستشرقون في أوربا منذ صدر القرن التاسع عشر الميلادي يكتبون عن

آداب العرب كتبًا بعضها يكاد يفي بالحاجة وبعضها ناقص من كل وجه، فكتب من

يدعى يوسف برلنجتن Berligton goseph رسالة صغيرة بالإنجليزية ترجمت فيما

بعد إلى الفرنسية (سنة 1823) ، ثم جاء من بعده نويل ديفر جير الفرنسي

Dcsvergers Noel صاحب كتاب (بلاد العرب L'arabie) فاختص بعض

صحائف من كتابه بهذا الموضوع (سنة 1847) ، وحذا حذوه في ذلك سديو edillot

صاحب كتاب (تاريخ العرب Arabas des L'histoire) سنة1854، وفي سنة

1890 قام أربثنوت Arbuthnot المستشرق الإنجليزي فألف رسالة عنوانها

(المؤلفات العربية Authors Arabic) غير أنها لا تفي بالغرض؛ لما فيها من

النقض. أما روسية وإيطاليا فقام فيهما عالمان هما فلادمير جرجاس Guirgass. V

والكافالييري فيلبو دي باردي Bardi de Filippo Cav. كتب أولهما رسالته

المسماة (خلاصة الآداب العربية) وألف الثاني رسالته المسماة تاريخ الآداب العربية

في عهد الخلفاء (Storia della Litteratura Arape sotto il Califfato) سنة

1864 وكلتاهما على نفاستها لا تفي بالغرض.

أما اللغة اللمانية (الألمانية) فقد كتبت فيها بعض رسائل في الأدبيات العربية،

فقام المستشرق المجري همر برجبستال Purgstall - Hammer بتأليف رسالة

عنوانها (تاريخ آداب العرب der Araber Geschichte Litteratur) ظهرت في

مدينة ويانة بين سنة 1850 وسنة 1856 في ستة أجزاء، ولكن هذا العالم مع كثرة

بحثه في الكتب العربية، لم يخرج كتابه للناس تامًّا، فاستحق قول الشاعر.

ولم أر في عيوب الناس شيئًا

كنقص القادرين على التمام

ولكن جاء بعد العلامة بروكلمان Brokelmann الأستاذ بجامعة برسلاو

Breslau فأصدر أحدث كتاب في الموضوع سماه (تاريخ الآداب العربية

litteratur Arabischen der Geschichte) وهو يقع في جزئين اثنين، ظهر

أولهما في مدينة ويمار Weimar سنة 1897 و1898، وطبع الثاني في برلين

Berlin سنة 1902، ومما يؤسف عليه أن هذا الكتاب النفيس قد شوهت محاسنه

إغلاط كثيرة في الطبع من حيث التواريخ، وفوق ذلك فإن تبويبه ليس كما يجب أن

يكون، وعبارته جافية ليس عليها مسحة من العذوبة التي يرغب فيها الأديب، فهو

من هذا القبيل أشبه شيء بالفهارس منه بكتب التاريخ، غير أنه كتاب لا بأس به

في هذا الباب، جزى الله مؤلفه عنا خير الجزاء، هذا، ولا يفوتني يا مولاي أن

أذكر أنه قد ظهر بعد كتاب الأستاذ بروكلمان بقليل مؤلف آخر لمستشرق فرنسي هو

مسيو هيوار Huart الأستاذ بجامعة اللغات الشرقية الحية speciale ecole

vivantes orientales des langues عنوانه (الأدبيات العربية LaLlttcratute

Arabe) وهو على صغر حجمه، يكاد يكون أوفى ما ألف في هذا الفن إلى

اليوم.

إذا تقرر ذلك بان لنا أننا لا نزال مدينين لعلماء أوربا في تدوين تاريخ الآداب

العربية، وإن كان هذا التدوين لم يصل بعد إلى طور الكمال.

ظهر يا مولاي في مصر من عهد قريب كتاب صغير الحجم عنوانه (أدبيات

اللغة العريبة) ، ولكنه لم يتعرض لتاريخ الأديان، بل اقتصر على ذكر مقتطفات

يسيرة من الشعر والنثر العربي مرتبة على العصور؛ ليتيسر حفظها لطلبة المدارس

الثانوية المصرية، فهو من هذا القبيل كتاب مطالعة أدبي أو صورة مصغرة من

كتاب مجاني الأدب المشهور، لا علاقة له بتاريخ الأدبيات العربية، ذاك التاريخ

الجليل.

هذا، ومما لا نزاع فيه يا مولاي أنه بالرغم عن ضياع جزء عظيم من أمهات

الكتب العربية، لا تزال البقية لباقية على قلتها (سواء كانت من الآداب المحفوظة

أو المطبوعة في الشرق أو الغرب) كافية جدًّا؛ لإنشاء تاريخ كامل لأدبيات اللغة

العربية.

إن قيام العلماء المستشرقين بأوربا منذ القرن السادس عشر الميلادي بنشر

المتون العربية وترجمة بعضها إلى اللاتينية أولاً ثم إلى كثير من اللغات الأوربية

ثانيًا، وعنايتهم بجمع فهارس مضبوطة للمخطوطات العربية المحفوظة بخزائن

الكتب في أوربا (ذاك العمل الشريف الذي تم منه جزء عظيم للآن) وكذا نشر

فهارس الكتب المحفوظة في مساجد الآستانة وفي دار الكتب الخديوية بالقاهرة، كل

هذا يا مولاي قد ساعد علماء الإفرنج مساعدة عظيمة في درس الآداب العربية، ومن

السهل أن يساعدنا نحن أيضا على بناء هيكل بديع لتاريخ آدابنا إذا بعث الله فينا من

بين أدبائنا من يقوم بهذا العمل المجيد.

إن درس الآداب العربية منذ نشأتها، والبحث في أطوار نمائها ونهضتها ثم

سقوطها وعثرتها ثم بعثتها من رقدتها؛ إنما هو يا مولاي درس مفيد كله عبر،

وكيف لا يكون كذلك، ونحن نعرف بالبداهة أن تلكم المحاضرات النفيسة التي

يلقيها الشيخ الجليل العلامة جويدي في الجامعة المصرية، لا تخرج عن كونها بابًا

واحدً أو فصلاً من باب من أبواب تاريخ الأدبيات العربية، مقصورًا هذا الباب أو

الفصل على علمي التاريخ والجغرافيا.

إذا تقرر ذلك، علمنا أن درس هذه الأدبيات يجب أن يحل المحل الأول في

جامعة مصرية؛ إذ أن مما يؤسف عليه يا مولاي أن عدد من يعنى بهذه الأدبيات

بيننا معاشر المشارقة (سواء في مصر أو في سائر بلاد المشرق) لا يكاد يعدو

أصابع اليدين، وإذا تصفحنا أسباب هذا الجمود رأيناها ترجع إلى أمرين: ندرة

المؤلفات الكافية في هذا الفن من جهة، وانعدام المدارس الجامعة في بلادنا من

أخرى.

وبهذه المناسبة أورد هنا مسألة واحدة على سبيل الاستشهاد، ذلك أني لاحظت عند سماع المحاضرات الجليلة التي يلقيها الأستاذ جويدي أن معظم الطلبة

(إن لم يكونوا كلهم) كانوا يجهلون أسماء مشاهير المؤلفين؛ كالمقدسي وابن واضح

وابن خرداذبه وابن حوقل وغيرهم، وهي حقيقة تثبت أن ناشئتنا في حاجة كبرى

إلى تعلم تاريخ الآداب العربية على طريقة منتظمة. أليس مما يؤلم يا مولاي أن يكون

المصري المتعلم ملمًّا بآداب الإنجليزية والفرنسية قبل أن يعرف شيئًا من

آداب أسلافه؟

هذا، وإني أتشرف يا مولاي، أن أقدم في طي تقريري هذا ملحقًا يشتمل

على برنامج مختصر عن سلسلة محاضرات في تاريخ الأدبيات العربية، وهو

برنامج لا بأس من إدخاله في الجامعة هذا العام، من غير أن يحدث ضررًا أو ينشأ

عنه تهويش ما في النظام الحالي.

فبدلاً من أن يكون عدد المحاضرات واحدة فقط في أيام الآحاد، يحسن إبلاغه

إلى اثنتين: تختص أولا هما بالحضارة القديمة، وتكون الثانية للآداب العربية. ثم

لا بأس من تخفيض عدد المحاضرات النفيسة التي يلقيها العلامة جويدي إلى ثنتين

في الأسبوع، حتى يحصل هنالك فراغ يتسنى شغله بمحاضرة ثانية على تاريخ

الأدبيات العربية.

(هذا ومما تجب الإشارة إليه في هذا المقام أن تلكم المحاضرات الجليلة

التي يلقيها الأستاذ جويدي، لا تستغرق (على نفاستها) في الدفعة الواحدة أزيد من

ثلاثين إلى أربعين دقيقة؛ أعني أن هناك ثلاث محاضرات، مقدار كل منها أربعون

دقيقة، وهو ما يساوي مائة وعشرين دقيقة أو ساعتين في الأسبوع.

فلو جعلت محاضرات هذا العلامة ثنتين، مقدار كل منهما ستون دقيقة لما

اختل النظام في شيء، ولكان عدد المحاضرات مضروبًا في عدد الدقائق معادلاً

لمائة وعشرين دقيقة أي: ساعتين في الأسبوع وهو المطلوب) .

مولاي، إذا أتيح للجامعة أن تعثر على مدرس لتاريخ الآداب العربية، أصبح

عدد المدرسين ستًّا، يصيب كلاًّ محاضرتان في الأسبوع؛ أعني بذلك أيام العمل

الستة بعد استثناء أيام الجمع.

أنا يا مولاي، لا أعلم علم اليقين إذا كان ميزان دخل الجامعة، وخرجها في

استطاعته أن يحتمل مرتب هذا المدرس الجديد، غير أني أكاد أجزم أن هناك

بعضًا من الأدباء الضليعين بهذا الفن (على قلتهم في بلادنا) مستعد للتطوع في هذا

السبيل الوطني الشريف عند أول نداء، ثم هو لا يريد بعد ذلك جزاء ولا شكوراً.

مولاي، إنه ليس من الضروري أصلاً أن يكون انتقاء مثل هذا المدرس من

بين المتعممين، فإن مجرد حذق فني النحو والصرف والإلمام بكتابين أو ثلاثة من

كتب الأدب أو التاريخ، ليس كل ما يلزم توفره في هذا الباب. إنما يحب أن يكون

مدرس هذا الفن أديبًا بكل معاني الكلمة، وفوق ذلك فإنه ينبغي عليه أن يكون على

علم بالنهضة الأدبية القائمة سوقها الآن في أنحاء المشرق والمغرب، ولا يكون ذلك

كذلك حتى يكون عارفًا على الأقل بلغتين أجنبيتين الإنجليزية والفرنسية، كيما

يتمكن من تتبع خطى الحركة الأدبية في أوربا، ويطالع بإمعان أمهات الكتب التي

تكتب من آن إلى آخر بأقلام كبار العلماء المستشرقين، أولئك الذين وقفوا حياتهم

على إحياء آدابنا، بعد أن كاد يدركها العدم.

مولاي، لو كان هذا العاجز من أصحاب الألقاب الضخمة، أو ممن يتربعون

في دست الوظائف الكبرى في خدمة الحكومة لقدم نفسه طائعًا مختارًا جذلاً مرتاحًا

لخدمة الجامعة لا كأستاذ - فمعاذ الله أن أكون مغرورًا بنفسي أو مغرورًا بها إلى حد

أن تتطلع إلى ما لا تستحق - ولكن كخادم مخلص، أو بعبارة أخرى كوطني يقدم

نفسه، وما ملكت يمينه فداء للوطن المحبوب.

...

...

... القاهرة في 30 يناير سنة 1909

...

...

...

...

... صالح علي

...

... بمصلحة الري بنظارة الأشغال العمومية بمصر

(المنار)

أحسن الكاتب في اقتراحه وبيانه لوجه الحاجة إليه وترشيح نفسه له، ولعله

لم يكن يعلم أن هنا لجنة تؤلف كتابًا حافلاً في تاريخ الآداب العربية، وسيظهر

الكتاب بعد زمن قريب، إن شاء الله تعالى.

_________

(1)

التقرير لصاحب الإمضاء في آخره، وقد نشرناه تعزيزًا لأصل اقتراحه؛ ولما فيه من أسماء كتب الإفرنج عنا وفي لغتنا.

(2)

هذا التعبير خطأ فإن معناه ما صح لأحد، وليس من شأن أحد أن يفكر في ذلك.

ص: 144

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(نهج البلاغة)

هذا الكتاب أشهر من نارعلى علم؛ فهو غني عن التعريف به والتنويه

بفائدته، في تقويم النفس بالحكمة والتقوى، وتقويم اللسان بالبلاغة والفصاحة، وقد

كان كنزًا مخفيًّا في بلادنا السورية والمصرية؛ بل كان أهل السنة محرومين من

فائدته، وكادت الشيعة تفضلهم في البلاغة بمدارسته، حتى شرحه الأستاذ الإمام -

رحمه الله تعالى - فانتشر بذلك واشتهر، حتى طبع بشرحه عدة مرات في سورية

ومصر، وكانت الطبعة الاولى أصح تلك الطبعات، ويتفاوت ما بعدها في كثرة

الغلط وقلته.

وقد طبع في العام الماضي في مطبعة الحلبي الشهيرة مع شرح وجيز للشيخ

محمد حسن نائل المرصفي مدرس البيان بمدرسة (الفرير) الكلية، فأما الشارح

فأديب، ولكل مجتهد نصيب. وأما الأصل فيمتاز في هذه الطبعة بالشكل الكامل

وهي مزية، يعرف قيمتها من علم أنه يقل في أكثر قراء العربية من يحسن قراءة

مثل هذا الكتاب قراءة صحيحة، إذا لم يكن مضبوطًا، وناهيك بشدة حاجة طلاب

العلوم الذين يستعينون به على ملكة البلاغة مثل هذا الضبط، ولهذا يرجى أن ينتفع

بهذه الطبعة ما لا ينتفع به في غيرها.

* * *

(نهج البردة ووضح النهج)

نظم أحمد شوقي بك (شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية) قصيدة عارض بها

بردة البوصيري الشهيرة، وجعلها تذكارًا لحج الأمير الحاج عباس حلمي الثاني إلى

بيت الله الحرام في عام 1327، وقد عني شيخ الجامع الأزهر (الشيخ سليم

البشري) بشرح القصيدة؛ عناية بنشر مديح الممدوح الأعظم صلى الله عليه وآله

وسلم؛ وعناية بما جعلت تذكارًا له من حج الأمير المعظم، على حين ترك ملوك

المسلمين وأمراؤهم هذا الركن الديني المحتم، ثم عناية بالناظم نابغة الشعراء في

مصر، ولك أن تقول نابغتهم في هذا العصر، وقد طبعت القصيدة مع شرحها في

كتاب وضع له فاتحة في الشعر وضروبه محمد بك المويلحي نابغة الكتاب في هذا

القطر، فتم بذلك التناسب ومراعاة النظير بالجمع بين كلام أشهر العلماء والشعراء

والكُتاب، وإنها مزية قلما تجتمع في كتاب، وهاك نموذجًا من دراري القصيدة:

أخوك عيسى دعا ميتًا فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم

والجهل موت فإن أوتيت معجزة

فابعث من الجهل أو فابعث من الرجم

قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا

لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم

جهل وتضليل أحلام وسفسطة

فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم

لما أتى لك عفوًا كل ذي حسب

تكفل السيف بالجهال والعمم [1]

والشر إن تلقه بالخير ضقت به

ذرعًا وإن تلقه بالشر ينحسم [2]

سل المسيحية السمحاء كم شربت

بالصاب من شهوات الظالم الغلم [3]

طريدة الشرك يؤذيها ويوسعها

في كل حين قتالاً ساطع الحدم [4]

ولولا حماة لها هبوا لنصرتها

بالسيف ما انتفعت بالرفق والرحم [5]

إلى أن قال:

علمتهم كل شيء يجهلون به

حتى القتال وما فيه من الذمم

دعوتهم لجهاد فيه سؤددهم

والحرب أس نظام الكون والأمم

لولاه لم نر للدولات في زمن

ما طال من عمد أو قرّ من دعم

تلك الشواهد تترى كل آونة

في الأعصر الغر لا في الأعصر الدهم

بالأمس مالت عروش واعتلت سرور

لولا القنابل لم تسلم ولم تصم

أشياع عيسى أعدوا كل قاصمة

ولم نعد سوى حالات منقصم

هذا ما قاله في مسألة عصرية أي: من المسائل التي يكثر البحث فيها في هذا

العصر، وكنت أود لو كانت القصيدة كلهاعلى هذا النسق، ولكن أكثرها على

الطريقة القديمة في المدح، وقال في وصف الشريعة ما أجاد فيه وأفاد:

شريعة لك فجرت العقول بها

عن زاخر بصنوف العلم ملتطم

يلوح حول سنا التوحيد جوهرها

كالحلي للسيف أو كالوشي للعلم

سمحاء حامت عليها أنفس ونهى

ومن يجد سلسلاً من حكمة يحم

نور السبيل يساس العالمون بها

تكفلت بشباب الدهر والهرم

يجري الزمان وأحكام الزمان على

حكم لها نافذ في الخلق مرتسم

لما اعتلت دولة الإسلام واتسعت

مشت ممالكه في نورها التمم

وعلمت أمة بالقفر نازلة

رعي القياصر بين الشاء والنعم

كم شيد المصلحون العاملون بها

في الشرق والغرب ملكًا باذخ العظم

للعلم والعدل والتمدين ما عزموا

من الأمور وما شهدوا من الحزم

سرعان ما فتحوا الدنيا لملتهم

وأنهلوا الناس من سلسالها الشبم [6]

ساروا عليها هداة الناس فهي بهم

إلى الفلاح طريق واضح العظم

لا يهدم الدهر ركناً شاد عدلهم

وحائط البغي إن تلمسه ينهدم

نالوا السعادة في الدارين واجتمعوا

على عميم من الرضوان مقتسم

دع عنك روما وآثينا وما حوتا

كل اليواقيت في بغداد والتوم [7]

وخل كسرى وإيوانًا يدلّ به

هوى على أثر النيران والأيم [8]

واترك رعمسيس إن الملك مظهره

في نهضة العدل لا في نهضة الهرم

دار الشرائع روما كلما ذكرت

دار السلام لها ألقت يد السلم

ما ضارعتها بيانًا عند ملتأم

ولا حكتها قضاء عند مختصم

ولا احتوت في طراز من قياصرها

على رشيد ومأمون ومعتصم

من الذين إذا سارت كتابئهم

تصرفوا بحدود الأرض والتخم

ويجلسون إلى علم ومعرفة

فلا يدانون في عقل ولا فهم

يطأطئ العلماء الهام إن نسبوا

من هيبة العلم لا من هيبة الحكم

ويمطرون فما بالأرض من محل

ولا بمن بات فوق الأرض من عدم

خلائف الله جلوا عن موازنة

فلا تقيسنّ أملاك الورى بهم

من في البرية كالفاروق معدلة

وكابن عبد العزيز الخاشع الحشم

وكالإمام إذا ما فض مزدحمًا

بمدمع في مآقي القوم مزدحم [9]

الزاخر العذب في علم وفي أدب

والناصر الندب في حرب وفي سلم

هذا نموذج من أكرم درر القصيدة وأضوأ دررايها. وأما الشرح فأسلوبه أدبي

لا علمي أزهري، ولكل مقام مقال، وهاك نموذجًا من أفضل ما فيه وأنفعه، قال

الأستاذ في شرح بيت: (أشياع عيسى أعدوا كل قاصمة) ما نصه: عمد الشاعر

في هذا البيت إلى المقارنة بين أهل الديانة المسيحية وأهل الديانة الإسلامية: فذكر

أن المتشيعين اليوم إلى الدين المسيحي (دين الهدو والسلام) هم أهل القوة الحربية

الدائبون على إعداد المهلكات الصاعقات في الحروب، حتى كأنهم ولم يبق لهم في

شغل يشغلهم إلا استخراج الذهب من بطون الأرض وإنفاقه على مصانع الحديد

والفولاذ؛ لطبع آلات الحرب في بطون الأرض وعرض البحر، وقد أفتنوا في

أسباب الهلاك والتدمير، ولم يكفهم أن يدمدموا على الناس ويأخذوهم بالبلاء عن

أيمانهم وعن شمائلهم، ومن خلفهم ومن تحت أرجلهم، حتى قامواعلى تسخير

الرياح ليرموهم من فوق رؤوسهم بكل دهياء صيلم، على حين أن أهل الديانة

الإسلامية الذين يتهمهم الظالمون بحب الفتح والجهاد، ويشغون سمعتهم بحب الطعن

والجلاد، والولوغ في دماء العباد، هم اليوم أهل السكينة والسلام، وهيهات أن

يدانوا المسيحية في المباراة بحب الفتوح والحروب، أو يشاكلوهم في ادخار آلات

الحرب واستنباط معدات الكفاح.

وقال في شرح بيت (واترك رعمسيس إن الملك مظهره) : يقول: ما كان

لقدماء المصريين أن يفاخروا بمدينتهم التي أسمى مظاهرها هو هذا البنيان السامق،

على حين أمسى أكبر الأدلة على ظلمهم وجبروتهم، وأي مدنية هذه التي تزين

لرجل واحد أن يسوق من رعيته مئة ألف رجل أو يزيدون، فيحملهم الأثقال،

ويسخرهم في مشاق الأعمال، حتى إذا ما دقت أعناقهم، واختلفت أضلاعهم،

وفتت سواعدهم، التقط غيرهم من أمته التي أوشكت أن تفنيها ثلاثون سنة على هذه

الحال بلا أجر ولا جزاء؛ كل ذلك ليبني قبرًا لنفسه يطاول كيوان، وتبلى دونه

الأزمان.

ليس هذا بمظهر التمدن، إنما مظهره العدل الذي تصلح به أحوال الرعية،

وتستقيم به أمروهم، فتنهض بهم الدولة ويعلو شأن الأمة، والعدل أساس الملك.

* * *

(لباب الخيار في سيرة المختار)

مختصر وجيز في السيرة النبوية للشيخ مصطفي الغلاييني صاحب مجلة

النبراس ومعلم المكتب السلطاني ببيروت، سبق لنا تقريظ الطبعة الأولى منه، وقد

أعيد طبعه في العام الماضي بعد أن زيد في فوائده، وقد ختمه بطائفة من حكم

الأحاديث النبوية مرتبةعلى حروف المعجم لتحفظ، وشرحها في ذيول الصفحات،

وكنا وددنا لو أشار إلى مخرجيها أيضًا. وصفحات الكتاب 136، وثمنه قرشان

صحيحان، فنحث الجمهورعلى قراءته، ولا سيما للنساء في البيوت، والأولاد في

المدارس الابتدائية.

* * *

(الدورس العربية)

(وهي سلسلة كتب في الصرف والنحو وفنون البلاغة والإنشاء وقرض

الشعر والأدبيات واللغة، تأليف الشيخ مصطفي الغلاييني) أيضًا. وقد رتبه على

الطريقة الحديثة السهلة في التعليم، فقسمه إلى دروس صغيرة، لكل درس منها

أمثلة وتمرين وأسئلة، وطبع جزء منه طبعًا جميلاً، وقد قرأنا في جرائد بيروت؛

أن نظارة المعارف في الآستانة قررت تدريس هذا الكتاب في مدارسها رسميًّا،

فنهنئ صديقنا المؤلف بذلك.

* * *

(الجاذبية وتعليلها)

خلق الشيخ جميل صدقي أفندي الزهاوي الأديب البغدادي المشهور مستعدًّا

للفلسفة والعلوم الكونية، ميالاً إليها، فقرأ من كتبها المترجمة بالعربية والتركية ما

شاء الله أن يقرأ، استفاد من مجلة المقتطف ما شاء الله أن يستفيد، ولو تلقى هذه

العلوم في أوربة وعاش مع أهلها العاملين، لكان من المكتشفين والمخترعين، وقد

أهدانا كتابًا له سماه (الجاذبية وتعليلها) يؤيد رأينا هذا في استعداده، فقد خالف فيه

إجماع علماء العصر في الجاذبية العامة، وبحث فيه في المادة وقواها بحث المستقل

الفهم، فذهب إلى أن علة وقوع الأجسام على الأرض مثلاً؛ هو قوة الدفع من

جوانب السماء لا قوة الجذب من مركز الأرض كما يثبتون، وقد طبع الكتاب ببغداد،

ويباع بمطبعة الآداب فيها وثمنه ثلاثة قروش.

* * *

(ديوان السيد حسن القاياتي)

صدر الجزء الأول من هذا الديوان، وقد ذكر ناظمه في مقدمته أنه ليس

معجبًا بنفسه وشعره كما يعجب الشبان، ولكنه سمع الناس (يستحبون أن يعرض

المرء ببنات فكره، وهواجس صدره، ثم يتسمع فينظر أيسمع استحسانًا وشكرًا أو

استهجانًا ونكراً، فإن كانت الأولى أقدم ثم أقدم، وإن كانت الثانية أحجم ثم أحجم)

ونحن نقول: إن من كان هذا غرضه لا ينبغي له أن يحجم عن شيء يستهجن منه؛

لأنه وهو يقدر الانتقاد قدره، ويرى أن يكمل نفسه به، لا يلبث أن يتقي ما ينتقد،

حتى يبلغ الغاية من استحسان الناس لما يجيء منه بعد، ولا سيما إذا لم يغره

الاستحسان، ولو وجعل المحسن والمسيء ممن لا يصانعون سواء، بعد هذا قرأت

أبياتًا متفرقه من الديوان، فصادفت رشاقة في الأسلوب، وروحًا مؤثرة في الكلام،

فعسى أن تكون سائر أجزاء الديوان أرقى في معراج الكمال.

* * *

(شعراء العصر)

شرع أحد محبي الأدب والأدباء محمد صبري افندي من نابتة مصر المهذبة

في جمع مختارات شعراء هذا العصر في ديوان واحد يصدره جزءًا بعد جزء،

ويجمع إلى مختار كل شاعر منهم ترجمة وجيزة له ويطبع معها صورته ليجمع

للقارئ بين صورة النفس وصورة الجسم، وقد صدر الجزء الأول وفيه مختارات

من شعر البارودي وشوقي وحافظ ونسيم وبطرس كرامة وحفني ناصف وخليل

مطران وعائشة اليتمورية والأخرس وعبد الله فكري والبكري ومصطفى نجيب

ومصطفى صادق الرافعي والمنفلوطي وعبد الحميد المصري وفؤاد الخطيب وولي

الدين يكن. وفيه صور أكثر هؤلاء الشعراء المشهورين فعسى أن يروج هذا الجزء،

فيبتعث همة جامعه إلى تمام الكتاب، وثمن النسخة منه ستة قروش

صحيحة.

* * *

(ديوان نفحات الربيع)

صدر الجزء الأول من هذا الديوان لناظمه مرسي أفندي شاكر الطنطاوي وقد

أهداه إلى محمد أمين بك واصف مدير القليوبية، ووضع صورة المهدى إليه في

أوله، ويليها مقدمة طويلة في الشعر والشعراء، وهو يفضل غيره من الدواوين

بكونه ديوان معان أدبية اجتماعية، لا ديوان مدائح ومراثي شخصية، ولو كثر

الشعراء المجيدون عندنا في هذه المعاني لكان الشعراء أفعل في تربية الأمة من

أصحاب الجرائد أو مثلهم في تأثيرهم.

* * *

(الإحصاء السنوي العام للقطر المصري سنة 1910)

أهدتنا إدارة عموم الإحصاء في نظارة المالية كتابها الثاني في الإحصاء العام

عن السنة الشمسية الماضية، وهو مفصل إلى 17 فصلاً في المسائل الآتية:

(1)

تربة مصر ومناخها (2) الأرصاد الجوية (3) تعداد السكان (4)

الصحة العمومية (5) المدارس (6) القضاء (7) السجون (8) سكك حديد

الحكومة (9) تلغرافات الحكومة (10) البوسطة (11) الملاحة والتجارة

(12)

نتيجة استثمار قنال السويس (13) التجارة مع البلدان الأجنبية (14)

الزراعة (15) مالية الحكومة (16) الدين العمومي (17) العملة والموازين

والمكاييل والمقاييس، فنشكر لهذه الإدارة عنايتها، ونحث الأمة على الاستفادة من

هذا الكتاب، فإن الإحصاء الرسمي أصدق أصول التاريخ، وينبوع علمي الاجتماع

والعمران، وصفحات الكتاب 348 من القطع الكبير العريض، وثمن النسخة غير

المجلدة منه 20 والمجلدة 25 قرشًا.

_________

(1)

العمم بالتحريك: العامة.

(2)

سمي الجزاء شرًا باعتبار صورته وحده، وفسره الشارح بالبأس والقوة، وجعله من المشاكلة.

(3)

يريد بالسمحاء مؤنث الأسمح، وأما الوصف فسمح وسمحة كضخم وضخمة والعلم ككتف الهائج.

(4)

بالتحريك: شدة احتراق النار وحميها.

(5)

الرحم بضمتين: الرقة والمغفرة والتعطف قاله الشارح.

(6)

السلسال بالفتح في بيت سابق: الماء العذب والشبم البارد.

(7)

التوم جمع تومة وهي: الحبة من الفضة تعمل على شكل الدرة.

(8)

الأيم جمع أيام الدخان (ككتاب وكتب) .

(9)

الإمام أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه.

ص: 148

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(البعث والحياة الأخرى)

((تأييد القرآن بالعلم))

كان الذين ألفوا كتب الكلام على طريق فلسفة اليونان النظرية، يرون أن

الدليل على البعث لا يكون إلا سمعيًّا؛ إذ لا يمكن عندهم أن يستدل عليه العقل بأدلة

علمية، ولم يفهم هؤلاء قوله تعالى:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29)

وقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 104)

وغيرها من الآيات، وقد قرأنا في المقتطف الأخير تحت عنوان (يعيدكم مرة

أخرى) ما نصه:

ألف المستر كندي كتابًا عن الفيلسوف نتشه الألماني قال فيه: إن نتشه

ذهب إلى ما ذهب إليه غوستاف لوبون وهين وفلاسفة اليونان من قبلهم، وهو أن

القوى الطبيعية تتوالى وتعود إلى ما كانت عليه، فالعالم الذي يتم عمله تنحل

عناصره، ثم تعود تتركب وتتولد فيه مخلوقات مثل المخلوقات التي كانت فيه قبلاً؛

ولذلك لا يبعد أن يكون الإنسان قد وجد على هذه البسيطة قبل الآن وانقرض منها،

وأن النوع الموجود الآن سوف ينقرض ثم يعود مرة أخرى، وعناصر الشخص

الواحد تعود فتتجمع بعد قرون كثيرة، كما اجتمعت قبلاً ويتكرر ذلك إلى ما شاء الله

ا. هـ.

أما قوله: بوجود إنسان قبل هذا الدور، فقد قال به بعض المسلمين في تفسير

{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) أي ناسًا يخلفون من قبلهم، وأما

كون النشأة الأخرى تفنى بعد إتمام دورها الطويل ثم تعود ويتكرر ذلك أبدًا، فيقول

به بعض الصوفية

* * *

(الحريق في الآستانة، والإدارة فيها)

ما أدهشني شيء في مدة إقامتي بدار السلطنة إلا كثرة الحريق، وتقصير

الحكومة في تنظيم مصلحة المطافئ، فلا تكاد تمضي ليلة لا يروع الناس فيها

بنعاب الصائحين: (يا نغين وار، يا نغين وار) أي يوجد حريق، ويذكرون مكانه

ليعلم من كان له فيه دار أو لأحد أقاربه، فيبادر إليها لإخراج من فيها بما يقدرون

على حمله من نفائسهم وكرائم أموالهم، فإنه قلما وقع الحريق في مكان وسلم، بل

تأكله النار وتأكل كثيرًا مما يجاوره قبل أن يأتي الهادمون لهدم ما حوله، فالطريقة

المثلى هنالك لمقاومة الحريق هي هدم البيوت المجاورة للمكان الذي شبت فيه

النار، وقد صار لهم ضرب من المهارة في الهدم لطول المزاولة والإدمان. وأما

إطفاء النيران فما لهم فيه يدان، وإنما ترى عند حدوث الحريق زعنفة من الأحداث،

يعدون سراعًا حاسرين عن سوقهم، يحملون على أكتافهم أدوات، فيغيرون

وينجدون، ولا يسعفون ولا ينجدون، ولا أدري كنه ما يعملون.

يدعي أهل الآستانة أن العرب وغيرهم من العناصر العثمانية لا يقدرون على

الإدارة، كما يقدرون عليه هم ومن يتعلم عندهم من أهل عنصرهم، وأنهم هم

القادرون على ذلك دون غيرهم من العثمانيين، ويا ليت هذا كان صحيحًا، إذًا

لعمرت ديارنا لأنهم هم الذين يديرون حكومتها ولم تخرب ديارهم، بل تكون أرقى

عمرانًا. ولكن ليس في المملكة عمران يمكن أن ينسب إلى حسن إدارتهم، وهم

يقولون اليوم: إن كل ما حل بالمملكة من الخراب أو التقصير في العمران فسببه

شكل الحكومة السابق وهو الاستبداد وقد استبدلنا به شكلاً آخر، وهو ما يعبر عنه

بالدستور.

آمنا بتغيير شكل الحكومة بأخذه من الفرد وإعطائة لجماعة، ولكننا ما غيرنا

الأشخاص بتربية ولا تعليم، ولذلك لم تظهر ثمرة تغيير الشكل بالعمل، ولا في

الضروريات التي لا تتوقف على تخريج نشء جديد في التربية الدستورية والتعليم

الدستوري كإطفاء الحريق.

احترق قصر (جراغان) في العام الماضي، وهو أجمل قصور السلاطين

وأبدعها شكلاً ونقشًا وزخرفًا، بلغت نفقاته على السلطان عبد العزيز ملايين من

الليرات، احترق بعد أن سعى أحمد رضا بك ففاز بجعل مجلس الأمة فيه،

وخصصت الحكومة عشرات الألوف من الليرات؛ لأثاثه ورياشه وجعله صالحًا

لاجتماع المبعوثين والأعيان فيه، ومع هذا كله لم يستعدوا لإطفاء الحريق إذا وقع

فيه، فلما وقع التهمته النار كله، ولم يهتد أحد من خدمه ولا من عسكر الإطفاء

لإطفائها.

كان العقلاء يظنون أن حريق هذا القصر (السراي) البديع الذي أحرق

القلوب، سيكون هو المربي الأكبر لحكومة العاصمة في هذا الأمر، وسيحملها على

العناية بمصلحة الإطفاء عناية تقي جميع بيوت المدينة من تدمير الحريق، وامتداده

عند وقوعه لا معاهد الحكومة فقط، وقد رأينا الحكومة عقب هذه الحادثة تشتري

آلات الإطفاء الحديثة وأدواتها وتجربها، وحضرت تجربة منها في الرحبة الشمالية

من الباب العالي بمشهد الوزراء وغيرهم، بنوا هنالك بيتًا صغيرًا من الخشب،

وأعدوا المطافئ وأوقدوا فيه النار، وأمطروا عليه الماء فلم تغن التجربة، بل أكلت

النار البيت كله.

ثم صرنا أينما جلنا في الباب العالي وغيره من معاهد الحكومة، نرى مطافئ

موضوعة؛ لتستعمل في أي موضع وقع فيه الحريق قبل أن تمتد إلى غيره،

ولكنهم لم يعلموا أحدًا كيفية استعمالها فيما يظهر، فإن العام لم يكد يمر على حريق

قصر جراغان حتى وقع الحريق في قلب الباب العالي حيث مجلس الشورى ونظارة

الداخلية، وظلت النار تأكل فيه أيامًا لم يبق من الباب العالي إلا قليل من طرفيه،

وفي أحدهما مكان الصدر الأعظم وفي الآخر نظارة الخارجية، فكانت العبرة في

ظهور عجز الحكومة عن الإصلاح، وضعفها في الإدارة أقوى في هذا الحريق منها

في الحريق الذي سبقه، وكنا نظن أن اتقاء أسباب الحريق سيمنع وقوعه في معاهد

الحكومة بعد هذه العبرة ولكننا قرأنا في الجرائد قبل صدور هذا الجزء؛ أن الحريق

قد وقع في نظارة النافعة وأكلت النار بعض الغرف فيها.

أول ما يخطر في بال كل معتبر بهذه الحوادث؛ أن هؤلاء الحكام لا يرجى

منهم إحسان الإدارة في شيء، ما داموا عاجزين عن منع الحريق أن يدمر كل يوم

في عاصمتهم؛ لأن من عجز عن منع استمرار الخراب في داره كان عن تعمير

الدور البعيدة أعجز.

وأما أهل العبرة والبصيرة من علماء الأخلاق وطبائع العمران، فإن أفكارهم

تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك كاستبانة سبب العجز عن أمر سهل كهذا، يقول

بعض الناس: إن الشعب التركي شعب حربي، ليس له ملكة في الإدارة والعمران،

وإنما ملكته الموروثة هي الحرب فقط، وقد يقال: إن إطفاء الحريق قد صار في

هذا العصر من فنون العسكرية، فما بال القوم لا يتقنون هذا الفن منها! !

ومما تذهب إليه أفكار هؤلاء المستبصرين؛ أن رجال حكومتنا ليسوا مستقلين

أو مجتهدين فيما يأخذونه عن أوربا من نظام الإدارة والقضاء وغير ذلك، وإنما هم

مقلدون للأوربيين تقليدًا، وإنما يأتي الإصلاح من المستقل دون المقلد الذي يخطئ

في الفهم أكثر مما يصيب، ويخطئ في التطبيق أكثر مما يخطئ في الفهم، وقد

أشرنا إلى هذا المعنى في مقدمة مقال (المسلمون والقبط) في هذا الجزء، فليرجع

إليه من أحب التوسع في هذه العبرة، وهي الغرض الذي نرمي إليه في هذه النبذة.

وجملة القول: إننا لا نبشر أنفسنا بصلاح حال حكومتنا بالفعل إلا بعد أن

تتقن هذه المصلحة اليسيرة المضطرة هي إليها في عاصمتها؛ وهي مصلحة

المطافئ، فتكون في الآستانة متقنة كما نراها في مصر، وعسى أن يكون ذلك

قريبًا.

* * *

(الفتنة في اليمن)

اشتدت الفتنة في اليمن وطال عليها العهد، وقد أرسلت الدولة إلى اليمن

بالخميس العرمرم، وجعلت عزت باشا رئيس أركان الحرب في نظارة الحربية هو

القائد العام للجيش هنالك؛ لأنه قد سبق له الحرب في اليمن، وكان الإمام قد أسره

ثم أنقذه فيضي باشا، وقد اجتمع هذا القائد في جدة بأمير مكة المكرمة الشريف

حسين بأمر من الآستانة، واشتهر أنه اتفق معه على طريقة التعاون على إخضاع

اليمانيين للدولة، وذلك بأن يزحف الأمير بجيش من العرب وكذا العسكر المنظم

الذي في الحجاز كما قيل على عسير؛ لمحاربة الإدريسي وإخضاعه ليتمكن القائد

من توجيه جيشه الزاحف كله إلى محاربة الإمام يحيى، عسى أن ينتهي أمر الفتنة

في وقت قريب، وهذا هو الرأي بعد أن صارت الحرب ضربة لازب في نظر

الدولة.

كان قد أشيع أن بين الأمير والإدريسي عداء، وأن الأمير سيحاربه بعد

عودته من نجد في العام الماضي، ويظن بعض الناس أن هذا هو السبب في

استعانة الدولة بالشريف على الإدريسي؛ لأنها ترى أنه لا يدخر وسعًا في التنكيل

به متى قدر، كما يظنون أن سبب إرسالها عزت باشا إلى محاربة الإمام هو أنه أشد

من غيره كراهة له. ويرد عن هؤلاء الظانين ظن السوء بأن سبب اختيار عزت

باشا هو معرفته بأرض اليمن واختباره البلاد بالفعل، وسبب الاستعانة بالشريف هو

أن يكفيها إرسال العسكر الكثير وإنفاق المال الكثير، وهي تعلم كما علم كل الناس

الذين علموا ما كان منه في نجد أنه يفضل السلم على الحرب، والحلم والعفو على

الانتقام، والخير للدولة إنما هو في حل هذه العقدة حلاً مرضيًا لا دخن فيه، ولا

تحذر عقباه ومغبته، ونحن نرى أن هذا الأمر ممكن لمن أراده بصدق وإخلاص،

كما أنه كان ممكنًا بغير دماء تسفك، ولا قناطير من المال تبذل. ولكن هكذا كان،

والواقع ينسخ الإمكان، ويتمنى كل مسلم لو تنتهي هذه المسألة عاجلاً بسلام،

ويكفي الله المؤمنين القتال، والرجاء في حكمة الأمير كبير، والله أكبر، وله الأمر

من قبل ومن بعد.

* * *

(اليهود في المملكة العثمانية)

خبرنا الآستانة بإقامتنا فيها سنة كاملة، فرأينا أن نفوذ اليهود في جمعية

الاتحاد والترقي عظيم، وأن ناظر المالية إسرائيلي النسب، وأنه جعل كاتب سره

وكثيرًا من موظفي نظارته من اليهود، فعلمنا أن سيكون لليهود شأن أي شأن في هذه

المملكة، وآمالهم في القدس وفلسطين معروفة، ومطامعهم المالية في المكان يعظم

نفوذهم فيه غير مجهولة، وقد أشرنا إلى ما يخشى من مغبة ذلك في أجزاء من

السنة الماضية، ثم جاءت أنباء مجلس الأمة العثمانية في هذه الأيام مصدقة لما قلناه

ومثبتة ما توقعناه، فقد خطب بعض النواب المستقلين والمعارضين للحكومة خطبًا،

بينوا فيها خطر جمعية اليهود الصهيونية على المملكة العثمانية، وخطبًا أنكروا فيها

على ناظر المالية بيعه أحسن موقع عسكري في الآستانة لشركة أجنبية بثمن دون

ثمن المثل بسمسرة بعض اليهود، وهم يرون أنه يمكن بيع ذلك المكان بأضعاف

ذلك الثمن، وقد دافع الصدر الأعظم في المسألة الأولى عن الحكومة وعن اليهود،

ودافع جاويد بك عن نفسه في الثانية، ونحن لا نتعرض للمحاكمة والترجيح بين

المجلس والحكومة وحزبها، وإنما ننبه الناس للتأمل والاعتبار.

* * *

(المؤتمران المصريان القبطي والإسلامي)

يرى القراء مقالة في هذا الجزء عنوانها (المسلمون والقبط) ، سيتلوها

مقالات أخرى في موضوعها، وقد كان تأثير المؤتمر القبطي الذي اجتمع في

أسيوط أن أيقظ مسلمي مصر من نومهم الاجتماعي، ونبههم إلى ما كانوا غافلين

عنه، وفتح لهم بابًا لحفظ مصالحهم ودرء الضرر عنهم كان مغلقًا في وجوههم من

قبل؛ لأن القبط كانوا أوسع حرية منهم، وأكثر انتفاعًا بالحرية مطلقًا بإجماعهم

على تأييد الاحتلال، وكونهم نصارى وقليلي العدد لا يخشى المحتلون جانبهم،

ولذلك لم تمنعهم الحكومة من مؤتمرهم، ولم يكن يخطر لها ولا لهم ببال أن يقوم

المسلمون بعقد مؤتمر آخر على أنه نتيجة طبيعية لذلك المؤتمر، فلما أرادوا ذلك لم

يكن من الممكن أن تمنعهم الحكومة، وقد اختاروا رياض باشا رئيسًا له، وهو الثقة

الأمين المعروف عند الوطنيين والإفرنج بالاعتدال والإخلاص.

من العقل والحكمة أن يغتنم القائمون بأمر هذا المؤتمر الفرصة؛ لخدمة

المسلمين فيما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالشؤون الاقتصادية والأدبية، وأن

يكون كالمجلس الملي للقبط في البلاد مع المسلمين، بإحصاء المستخدمين منهم في

الحكومة وفي مصالح المسلمين ومزارعهم وسائر أعمالهم، ويظهر للمصريين

والأوربيين أن القبط رابحون على المسلمين، وأنهم إذا نالوا ما يطلبون لا يبقى

للمسلمين حظ في حكومة مصر، وأن ذلك يكون سيئ العاقبة، ولا سيما بعد جهرهم

بإيذاء المسلمين، وبعد هذا البيان يدعون القبط إلى الوفاق المعقول المبني على سنن

الاجتماع، فإن رضوا فبها ونعمت وإلا أعرضوا عنهم، وقالوا: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ

أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ} (الشورى: 15) .

ينبغي أن لا يشتغل هذا المؤتمر بالسياسة لا ظاهرًا ولا باطنًا، لا قولاً ولا

عملاً، ينبغي أن تكون اللجان التي تنتخب المندوبين له دائمة، وأن يكون أهم

أعمالها الدائمة إحصاء ديون المسلمين وأطيانهم المرهونة، وبيان تصرفاتهم المالية؛

لينظر المؤتمر آنًا بعد آن في طرق إنقاذهم من ضرر الربا وسوء التصرف

والإسراف الذي يكاد يذهب بثروتهم، ويجعلهم عالة على عدد قليل من الأغنياء

وأصحاب المصارف والشركات المالية، وفي ذلك من الخطر على البلاد ما فيه،

يجب أن يكون من عمله الدائم مساعدة الجمعيات الخيرية على عملها في التعليم

وإعانة المعوزين، وتعميم النقابات الزراعية في البلاد.

إن الأحزاب السياسية قد شغلت المسلمين عن الترقي الحقيقي بالعلم والتربية

الملية والمال، فاغتنمت القبط فرصة اشتغالهم بنطح صخرة الاحتلال ووجدوا في

التربية القبطية، وتوفير الثروة القبطية، إلى أن طمعوا بما أجمعوه في مؤتمرهم

هذا، فليشتغل هذا المؤتمر بهذين الأمرين ولا يعارضه أهل السياسة، فإن عمله

ينفعهم ولا يضرهم.

_________

ص: 155

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

فتحنا هذا الباب لإجابة المشتركين خاصة؛ إذ لا يسع الناس عامة، ونشترط

على السائل أن يبيّن اسمه ولقبه وبلده وعمله (وظيفته) ، وله بعد ذلك أن يرمز

إلى اسمه بالحروف إن شاء، وإننا نذْكر الأسئلة بالتدريج غالبًا، وربّما قدّمنا

متأخرًا لسببٍ؛ كحاجة الناس إلى بيان موضوعه، وربّما أجبنا غير مشترك لمثل

هذا، ولمن مضى على سؤاله شهران أو ثلاثة أن يذكّر به مرةً واحدةً، فإن لم

نذْكره كان لنا عذر صحيح لإغفاله.

(أسئلة من المحلة الكبرى)

(س12 15) من صاحب الإمضاء:

حضرة العالم العلامة المفضال السيد رشيد رضا

السلام عليكم ورحمة الله وبعد، فأرجو من فضيلتكم الإجابة عما يأتي، ولكم

منا الشكر ومن الله أعظم الأجر.

(س1) ما حقيقة الماسونية، ولم أنصارها يخفونها عن الناس، ومعلوم أن

الحق لا يخفى، فإن كان لِلَمِّ شعث أفراد متباينة عقائدهم الدينية والجنسية والوطنية

فهذا من المستحيل طبعًا، كما لا يخفى ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى

عَنكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120) وإن كان الغرض

(التساوي) كما يزعمون بين أفراد البشر في جميع أرجاء المعمورة، فهو أشد

استحالة من الأول.

إذ إن الدين هو الذي يؤلف بين الأفراد فقط، فإن كان هذا دينًا فلن يتحمل

القلب دينين الماسونية والنصرانية، وهي والإسلام مثلاً، أو هي مع اليهودية..

إلخ فيتعين أن يكون الداخل فيها مجردًا من غيرها، وعلى ذلك فكل دين غير

الإسلام باطل، قال تعالى:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل

عمران: 85) وإن كانت جارية على أحكام الإسلام، فلا معنى إذًا للتفريع

والتسمية بهذا الاسم.

(س2) على من اللوم؛ أعلى الحكومة التي بيدها الحل والربط أم على

الأمة التي لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا؟ وما هي التربية الصحيحة التي تعيد للدين

مجده وللوطن عزه؟ التربية في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية والإرساليات

التي تذهب إلى أوربا وتعود من غير دين بالمرة؟ أم التربية على مبادئ الدين،

وكيف يكون ذلك؟ ومتى يستطيع المصلحون وهل يمكن.

(س3) ما هي البلاد التي يعظم فيها دين الإسلام، ويقام فيها بالعمل وأهلها

أشد الناس شكيمة على أعدائه.

(س4) ماذا يصنع رجل أضناه حب العلم وما بلغ عمره الخامسة والعشرين،

وما ترك بابًا إلا طرقه ولا سبيلاً إلا سلكه إليه، ولم يجد من يساعده، وكلما ظن

في أحد عونًا تقاصرت همة المطلوب، ورجع الطالب بخُفَّيْ حُنَيْن.

...

...

...

... أفيدوني أثابكم الله

...

...

...

... عبد الظاهر محمد

...

...

...

... مدرس بمدارس الجمعية

...

...

...

... الخيرية الإسلامية

(الماسونية)

(ج1) الماسونية جمعية سياسية، وجدت في أوربا؛ لإزالة سلطة

المستبدين من رؤساء الدين والدنيا (كالبابوات والملوك) ولذلك كانت سرية، فإن

أهلها العاملين الساعين إلى مقاصدها كانوا على خطر من سلطة الأقوياء الذين تقاوم

الجمعية استبدادهم، وتعمل لسلب السلطة منهم وجعلها في يد الشعب، بحيث يكون

في يده التشريع والمراقبة على من ينصبه من الحكام للتنفيذ، فلهذه الجمعية الأثر

العظيم في الانقلابات السياسية التي حصلت في أوربة، ومنها الثورة الفرنسية

الكبرى من قبل، والانقلاب العثماني والبرتغالي الأخيرين من بعد، وقد كان

المؤسسون لها والعاملون فيها في أوربة من النصارى واليهود، واليهود هم

زعماؤها وأصحاب القدح المعلى فيها؛ لأن الظلم الذي كانوا يسامونه والاضطهاد

الذي يذوقونه كانا أشد مما ابتلي به ضعفاء النصارى من أقويائهم، وكذلك كان

اليهود أكثر الناس انتفاعًا من الانقلابات التي سعت إليها الماسونية في أوربة،

وسيكونون كذلك في البلاد العثمانية إذا بقيت سلطة الماسونية على حالها في جمعية

الاتحاد والترقي، وبقيت أزمة الدولة في يد هذه الجمعية، وهم يسعون مثل هذا

السعي في الروسية، ولكن الحكومة الروسية واقفة لليهود بالمرصاد، ولا يزالون

يتجرعون في بلادها زقوم الاضطهاد.

وأما الماسونية في بلاد الشرق كمصر وسورية وغيرهما من البلاد، فقد يصح

ما يقوله الكثيرون من أهلها أنها لا تعمل للسياسة ولا للدين وأنها أدبية اجتماعية،

وقد يصح من وجه آخر أن لعملها علاقة بالسياسة والدين، لكل قول وجه يصححه

فلا تناقض بينهما، هي لا تطعن في دين من الأديان ولا تبحث في ترجيح دين على

دين، ولا تدعو الداخلين فيها إلى ترك دينهم ولا إلى الإلحاد، ولا تعمل الآن في

مصر لتغيير الحكومة الخديوية، ولا في سورية لتغيير الحكومة العثمانية أو

مقاومتها، فهذا معنى كونها ليست مناصبة للدين ولا لسياسة البلاد.

وأما علاقة عملها بالدين والسياسة فمعروفة مما ذكرناه من مقصدها الذي

أنشئت لأجله، فإذا لم تشتغل بالمقصد مباشرة فهي تشتغل بالتمهيد له؛ كجمع كلمة

أهل النفوذ في كل بلد، وتكثير سوادهم وتقوية عصبيتهم وإضعاف رابطتهم الدينية

السياسية، والانتقال بهم في الإقناع من درجة إلى درجة، حتى يتم الاستعداد بهم

إلى تغيير شكل الحكومة وإزالة السلطة الدينية والشخصية، الذي هو مقصد الأخير

ولو بالثورة وقوة السلاح.

فالماسونية سياسية في الأصل، وتبقى سياسية في كل مملكة فيها سلطة

شخصية أو سلطة دينية إلى أن تزول صبغة الدين من الحكومة واستبداد الملوك

والأمراء، فحينئذ تكون الجمعية أدبية اجتماعية يجتمع أعضاؤها في المحافل؛

لإلقاء الخطب والمحاضرات والتعارف بالكبراء من الغرباء.

أما اتفاق المختلفين في الدين على هذا المقصد، فهو لا يكون عادة إلا

بالتدريج والاقتناع بأن المصلحة محصورة فيه، ومن طرقه الجرائد التي ينشر فيها

المرة بعد المرة بالأساليب المختلفة أن محل الدين المساجد والكنائس دون

الحكومات والمصالح الدنيوية، ومنها رابطة الوطنية وهي أن يكون أهل الوطن

سواء في الحكومة ومصالحها وفي جميع المصالح والمرافق، ولأجل هذا ترى

رجال الدين المسيحي كالجزويت يحاربون هذه الجمعية. وأما رجال الدين الإسلامي

من الفقهاء والمتصوفة فقلما يعرفون شيئًا من أمور العالم، فإذا علم السائل هذا

وعرف الواقع تبين له أن ما أورده من الآيات في غير محله.

***

(الحكومة والأمة)

(ج2) الحكومة ملومة على ما تقصر فيه مما يمكنها أن تعمله من الإصلاح،

والأمة ملومة كذلك، وقد يعذر كل منهما بالجهل، إذا عد الجهل عذرًا، وإنما

كانت الأمة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا؛ لجهلها بقوتها وكيفية الانتفاع بها، وقد

تجهل حكومتها ذلك مثلها، أو تعرفه وتراه مخالفًا لمصلحتها، فتحب أن تبقى الأمة

على جهلها، وإنما ترتقي الحكومات والأمم بالزعماء الذين يؤثرون العمل للمصلحة

العامة على كل شيء، وباستعداد الأمة للاستفادة منهم والعمل بما يرشدونها إليه،

والاستعداد إنما يكون بمجموع حوادث الزمان ووقائعه، وقد يتصدى للزعامة غير

أهلها فيزيد الأمة وهنًا على وهن، إذا آثرته بجهلها على الأهل، وأصحاب النفوذ

الباطل يناهضون كل من يرونه أهلاً للزعامة الحقيقية والنهوض بالأمة؛ لئلا

يضعف نفوذهم أو يشاركهم فيه، وقد وجد في مسلمي مصر زعيم مستوف لشروط

الزعامة التي ترتقي بمثلها الأمم، فلم يؤهلهم استعدادهم لاتباعه لينهض بهم، ووجد

في القبط زعيم، فاجتمعت عليه كلمتهم واستفادوا منه، فازدادوا ارتقاء.

***

(التربية الصحيحة والتعليم والإصلاح)

(ج3) سألتم عن التربية التي تجمع بين مجد الدين وعز الوطن، أهي

التربية التي في المدارس المصرية وتربية من يرسلون إلى أوربة؟ أم التربية

الدينية؟ ولا شك أنكم تريدون أن التربية الدينية هي التي تفيد تلك الفائدة، وأنكم

تعلمون أن المدارس المصرية من أميرية وأهلية ليس فيها تربية دينية ألبتة.

وسألتم كيف السبيل إلى التربية، ومتى تكون؟ وهل هي ممكنة؟ والجواب:

أنها ممكنة لا مستحيلة، وينبغي أن تكون مسعى الجمعيات الخيرية الدينية، ولا

ندري متي يكون ذلك، وها نحن أولاء قد أسسنا جمعية دينية خيرية؛ لأجل التربية

الدينية وتخريج المعلمين والمرشدين الذين يقومون بذلك على وجهه إن أمدنا أغنياؤنا

بالمال. ولكننا نريد أن نجعل إصلاحنا خاصًّا هذا بالدين، وعمران الدنيا من طريق

الأمة لا من طريق الحكومة، أعني أننا لا نريد بعملنا إصلاح حكومة من الحكومات

ولا تربية الموظفين لها، وحسبنا أن نربي مرشدين يعلمون العامة عقيدتهم وعبادتهم

وآدابهم الدينية، وينفرونهم من المعاصي التي تذهب بثروتهم وصحتهم، فتغتال

دينهم ودنياهم؛ كالسكر والزنا والقمار والحسد والتباغض بين أهل وطنهم، وما

أشبه ذلك من المعاصي الضارة، ودعاة يقيمون الحجة على حقية الإسلام، ويدفعون

شبهات الطاعنين فيه، ويزيدون عدد المهتدين به. وأما الحكومة بأشكالها ومذاهبها

وسياستها فإنا عنها مبعدون، ولها أحزاب من دوننا هم لها عاملون.

***

(أي البلاد تقيم الإسلام وتشتد على أعدائه)

(ج4) جميع البلاد التي يغلب فيها الإسلام تعظم فيها شعائره، وما يعد فيها

من شعائره، وإن لم يكن منها كالموالد والاحتفالات المبتدعة والقبور المشرفة،

ويعمل جمهور أهل الحضارة منها بأكثر ما يعرفون أنه لا بد منه من أعماله،

ويتركون أكثر الكبائر من محرماته، وقد ترك كثير منهم بعض أركانه وأقامها

آخرون؛ كالزكاة، فإن الذين يؤدونها في جزير العرب وبلاد فارس والتتار

وبخارى وتركستان هم الأكثرون، والذين يؤدونها في مصر هم الأقلون، أعني من

الذين تجب عليهم.

وربما كان أهل اليمن ونجد أشد المسلمين استمساكًا بالدين وشدة على من

يعاديهم، ولكن عمال الدولة الفاسقين قد نشروا الفسق في المدن الكبيرة التي يقيمون

فيها كصنعاء والحديدة، وأما الأشداء من المسلمين على من يعاديهم في دينهم فهم

الذين تغلب عليهم شدة البداوة، ولم يسر إليهم ترف الحضارة الغربية وأفكارهم؛

كأهل الغرب وجزيرة العرب والفرس والأفغان، ولكن أكثرهم لا يلتزم في شدته

أحكام الدين؛ لأنهم لا يعرفونها، ولا يعرفون كيف يحفظون شرف دينهم ولا دنياهم

بها على النهج الذي سار عليه الإفرنج من العقل والحزم والحكمة والنظام، حتى إن

الأجانب يسلطون بعضهم على بعض وهم لا يشعرون، فتراهم يوقدون نار الحرب

فيفتك بعضهم ببعض باسم الدين؛ لمخالفة عادة أو خرافة تنسب إلى الدين زورًا

وبهتانًا، وربما كانوا مدفوعين إلى ذلك من أعدائهم وأعداء دينهم؛ ليمكنوا له بذلك

من أرضهم وديارهم وأموالهم رقابهم.

وجملة القول: إنني لا أعرف قطرًا ولا بلدًا في الأرض يقام فيه الإسلام كما

أمر الله تعالى في كتابه، وعلى الوجه الذي مضت به سنة رسوله صلى الله عليه

وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين، ولا على ما كان عليه المسلمون في عصر الأمويين

والعباسيين والأيوبيين، فإن الفتن التي حصلت في القرون الأولى لم تفسد دين الأمة

ولا بأسها، بل كانت تدور حول السلطة العليا أي حفظها في أهل بيت معين، لا

تتعدى ذلك إلا قليلاً.

***

(ما يصنع عاشق العلم لا يجد المساعد)

(ج5) لا ندري أي علم يعشق هذا المتيم المضنى فنرشده إلى ما ينبغي له،

فإن من العلوم ما يمكن تحصيله في كل مكان، ومنها ما لا يمكن تحصيله إلا في معاهده

الخاصة كالعلوم والفنون التي يتوقف تحصيلها على الأعمال والتجارب بالآلات،

وقلما يصدق أحد في عشق العلم وتقوى عزيمته في طلبه، ولا يهتدي السبيل إليه،

ومن الناس من يسمي التنمي والتشهي عشقًا وعزمًا وهو غالط في ذلك، قال الشيخ

محيي الدين بن العربي في أول فصل من فتوحاته عقده لبيان ما على المريد الذي لا

يجد المرشد:

إذا لم تلق أستاذا

فكن في نعت من لاذا

وقطع نفسه والليـ

ـل أفلاذًا فأفلاذًا

فتأتيه معارفه

زرافات وأفذاذًا

يريد أنه ينبغي له أن يطلب الحق بالجد والاجتهاد وسهر الليالي.

وقل من جد في أمر يحاوله

واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر

ولو راجع المرء تاريخ النابغين من الأولين والآخرين، لوجد أكثرهم من

الفقراء والمساكين الذين لم يعتمدوا إلا على جدهم واجتهادهم دون المدارس والأساتذة

ويظهر أن العاشق في السؤال، ليس كذلك بدليل طروقه أبواب من كان يرجوا

مساعدتهم، ويعتمد على أموالهم.

نعم.. إن علوم المدارس الرسمية التي غايتها نيل شهادة تجيز لحاملها أن

يجلس على كراسي الحكومة، لا تكاد تنال في هذا العصر إلا بالمال، وطالب هذه

العلوم هو المضنى بحب الوظائف لا حب العلم، فإن المضنى بحب العلم أحد

رجلين: رجل يطلب العلم إرضاء لشهوة عقله، ومحاولة إشباع نهمة نفسه، ورجل

يحب أن يستعين به على إصلاح حال الناس، وكلا الرجلين يسهل عليه أن يجد ما

يطلبه بجده واجتهاده حيث كان، سواء وجد أم لم يجد المال، ومن يطلب العلم بهذا

القصد يحصل في الزمن القصير ما لا يحصله غيره في الزمن الطويل، ويكون ما

يحصله أنفع مما يحصله غيره؛ لأنه لا يعنى إلا بما ينفع، ومن ليس له مثل هذا

القصد يضيع زمنه بكل ما يلقى إليه، لا يفرق بين نافع وضار، ولا حق وباطل.

***

(أسئلة من (لنجه) في خليج فارس)

(س 16 19) من (أحد طلاب العلم بلنجه محمد بن عبد الرحمن بن

يوسف سلطان العلماء) .

جاءتنا الأسئلة الآتية في كتاب مطول، وكان لنا أن لا نجيب عنها؛ لأنها

جاءت على غير شرطنا في قبول الأسئلة، وهي أن تكتب في ورقة على حدتها

حتى لا نتكلف استخراجها من تضاعيف كلام آخر ونسخها، ولكننا نلخصها ونجيب

عنها عناية بمرسلها وبها، وقال السائل - زاده الله علمًا وفهمًا -: إن هذه الأسئلة

رفعت إلى والده وسيجيب عنها (ولعله فعل) وهي:

إلى حضرة من سما سماء المعارف، وأحاط بمقاصد الدين ومطالب العوارف،

قد أبديتم في المحفل الشريف (يريد موضع درس الأستاذ المستفتي أو مجلسه)

حسن سيرة المنار؛ وأنه يحيي السنة ويقمع البدعة، فلا يخفى على حضرتكم أنه

يأمر بعدم توقيف الذهن على ما ذكره المفسرون.

وعليه فلو ادعى مدع أن العدل بين الزوجتين غير واجب لوجوه:

(الأول) إخبار الله تعالى بأن العدل غير مستطاع، وأكد ذلك بالنفي بلن،

وهي وإن لم تفد التأبيد، فلا تنكر إفادتها التأكيد.

(الثاني) تقيد المنهي عنه بجعلها كالمعلقة أي: فلا بأس بما دون هذه الحالة.

(الثالث) جعله تعالى الأزواج قوامين، ولا يليق بالقوام أن يكون مذللاً مقادًا

بعنان من هو قوام عليها، والأحاديث ما فيها (من مال إلى إحدى امرأتيه) فالمراد

الميل المصير لها كالمعلقة. وما فيها (من لم يعدل) فهو بمعنى مال، فهل إذا ادعى

ذلك أحد يؤجر على ذلك أم ينكر؟ فإن قلتم يؤجر، فهو وإن قلتم ينكر عليه فما

وجه ذلك، مع أن المنار قد فسر آية التيمم بوجه لا يوافقه أحد، وأول أحاديث في

ذلك أوضح وأظهر من الأحاديث الدالة على وجوب العدل.

(سؤال آخر) كيف يؤمر بالمعروف وينهى عنه المنكر، مع قولكم إن كل

كائن بالتقدير، ولا تقولون كما تقول المعتزلة بالخلق، ولا كما تقول المجبرة، فهل

هذا إلا تناقض.

فيا سيدي إمام العصر ومقتدى المسلمين مولانا السيد محمد رشيد رضا صاحب

مجلة المنار، المرجو من ألطافكم أن لا تحقروا هذه الديار، ولا تنظروا إليها إلا

نظر الوالد إلى ولده، فإن أهل هذه الديار إلى الآن، كانوا على قدم الجد في إقامة

شعائر الدين. لكن منذ سنين قد حدث فيهم بعض المتفرنجين، فإذا هم على شفا

جرف هار لولا عناية الله ثم إرشاد العلماء الجامعين بين المعقول والمنقول، أجيبوا

جعلكم الله مجدد الملة. ا. هـ يتعلق بالاستفتاء من الكتاب.

(المنار) ههنا مسائل:

(1)

العدل بين الزوجتين.

(2)

تفسير المنار لآية اليتيم.

(3)

مسألة التزام أقوال المفسرين الميتين في فهم القرآن أو عدمه.

(4)

الأمر بالمعروف والقدر.

(العدل بين النساء)

الذي يؤخذ من مجموع الروايات في تفسير السلف لهذه الآية أن اللام في

العدل ليست للجنس بل للعهد، فالمراد بها عدل خاص لا مطلق العدل، فإن بعضهم

فسره بالعدل في الحب، وهو الذي يدل عليه التفريع بقوله:{فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ} (النساء: 129) وحديث: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا

أملك) رواه ابن أبي شيبة وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن المنذر من حديث

عائشة وإسناده صحيح، وفيه وردت الأحاديث التي أشار إليها السائل، وفسره

بعضهم بالوقاع، وهو وإن كان فيه من الاختيار ما ليس في الميل الذي هو سببه،

فالعدل فيه محال، وإذا كانت الآية دالة على أننا لا نكلف هذا العدل الخاص؛ لأنه

غير مستطاع ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فلا ينفي ذلك أن نكلف العدل المستطاع

في المبيت والفقه وحسن المعاملة في الحديث والإقبال ولو تكلفنا، ولا وجه لحمل

الآية على إثبات كون مطلق العدل غير مستطاع؛ لأن الآية لا يمكن أن تكون

مخالفة للواقع المعروف بالضرورة.

فالوجه الأول: من الوجوه التي ذكرها السائل مسلم، ولكنه يفيد أن العدل في

الميل غير واجب؛ لأنه غير مستطاع لا مطلق العدل، ولولا التفريع لكان الأظهر

أن يقال: إن العدل الذي لا يستطاع هو العدل التام الكامل الذي يشمل الحب وما

يترتب عليه؛ مما يعلم بالضرورة أنه لا يدخل في الاختيار مهما حرص المرء عليه

ولا ينفي هذا ولا ذاك أن يكون العدل المستطاع واجبًا، وقد تقدم معنى العدل في

التفسير من عهد قريب، وكونه من جعل الغرارتين على ظهر البعير متساويتين في

الوزن، وهذا غير ممكن على حقيقته في الأخلاق والأمور المعنوية؛ ولذلك قيل:

إن العدل التام الكامل هو صراط الحق الذي وصف بأنه أدق من الشعرة وأحد من

السيف. وهذا ما كان يحرص عليه المؤمنون طلاب الكمال كما تدل الآية.

وأما الوجه الثاني: فهو لا يدل على كونه مطلق العدل غير واجب كما هو

فرض السائل، وإنما يدل على أن بعض العدل في الميل مستطاع وواجب؛ لأن

الميل قسمان: ميل القلب وما يترتب عليه من ميل الجوارح بالالتفات والإقبال

والمؤانسة، فمن مال إلى إحدى زوجتيه كل الميل، فجعل الأخرى بذلك محرومة

من مقاصد الزوجية كلها، وهي: السكون والمودة والرحمة، كان آثمًا لأنه جعلها

كالمعلقة التي ليست متزوجة ولا أيمًا، ومن مال بعض الميل وهو ميل القلب فقط

الذي لا سلطان لاختياره عليه فهو غير آثم.

وأما الوجه الثالث: فليس بشيء، فإن العدل فيمن يقوم المرء بأمر الرياسة

عليهم، ليس ذلاً بل هو العز الحقيقي كالحاكم العادل، يكون عزيزًا بعدله ظاهرًا

وباطنًا.

هذا وإن العدل الذي يدخل في اختيار الإنسان واجب، حتى في معاملة

الأعداء كما هو منصوص في آيات كثيرة، فكيف يتعلق الاجتهاد بتفسير الآية،

فيما يخالف النصوص القاطعة المعلومة من الدين بالضرورة؟ .

فظهر بهذا أن من يستدل بالآية على عدم وجوب العدل بين الزوجتين مطلقًا

ينكر عليه؛ لأنه فسرها بما لا تدل عليه، وبما يخالف النصوص القطعية الكثيرة

المعلومة من الدين بالضرورة، وسيأتي تفسير الآية مفصلاً في موضعه.

* * *

(تفسير المنار لآية التيمم)

التنظير بين هذه المسألة وبين ما نقله المنار من تفسير الأستاذ الإمام لآية

التيمم، وإيضاحه له بالدلائل غير وجيه، فإن ذلك التفسير ليس مخالفًا لنص آيات

أخرى، وإنما هو موافق لما ورد في رخصة الفطر في رمضان، ولا مخالفًا لنص

حديث قطعي، ولم يضطر فيه إلى تأويل أحاديث تدل على خلاف ما اختاره في فهم

الآية كما قيل، بل خرجها على الأصول المعروفة على أنه إذا تعارض القرآن

والحديث ولم يظهر وجه للجمع، فالواجب ترجيح القرآن ورد الحديث إليه ولو

بالتأويل، ولا يرجح على القرآن شيء قط، ولا يعدل به عن ظاهره؛ لأجل اتباع

أحد من المفسرين أو غير المفسرين.

* * *

(التزام أقوال المفسرين الميتين والاستقلال دونهم)

المفسرون طبقات؛ منهم الصحابة والتابعون ومن بعدهم، ولم نر أحدًا منهم

التزم فهم أحد معين منهم، فمجاهد يروي التفسير عن ابن عباس، وينفرد هو

بأقوال يخالف فيها ابن عباس، وابن جرير يروي عن الصحابة والتابعين بأسانيده،

وينفرد هو بأقوال لم يقل بها أحد ممن صحت عنده الرواية عنهم، ويجزم أهل

السنة بأنه لا عصمة لأحد من أولئك المفسرين في فهمه، ولا حجة في قوله، ولا

عصمة للجمع منهم أيضًا. ومسألة إجماع المجتهدين مسألة أخرى، وفيها من

المباحث ما فيها، وحسب السائل منها ما تقدم في تفسير الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: 59)

إلخ.

وجملة القول: إنه لا يوجد مفسر إلا وقد انفرد بأقوال لم يقل بها غيره، ولولا

ذلك لم يكن مفسرًا ولا ممن يفهم التفسير بالاستقلال، والقرآن بحر لم يحط أحد بما

فيه من الدرر والجوهر، ولكل غائص نصيب (إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في

القرآن) ومن كان مقلدًا لا يعنيه ما يقوله المستقلون سواء وافقوا غيرهم أو خالفوه،

ومن كان مستقلاً يستفيد من بحثهم بصيرة ولا يقلدهم فيه، وإنما يعمل بما يظهر له أنه

الحق، فوجود المستقلين في فهم القرآن والسنة لا يضر أحدًا قط، ولكن فقدهم ضار؛

لأنهم حملة الحجة والبرهان، والمقلد لا حجة له وقصارى علمه أن ينقل حجة غيره،

فإذا طرأت شبهة على الدين، لا يجد لها جوابًا منقولاً عمن يقلدهم، بقي حائرًا ويكون

الدين حينئذ عرضة للزوال أو الزلزال إذا حار به أهل الشبهات الجديدة.

(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن آمن بالقدر)

بينا في المنار غير مرة مسألة القدر بما تدل عليه جملة آيات القرآن الواردة

فيها، وأنها ليست كما يقوله الفلاسفة والمتفلسفون من المتكلين، بل هي عبارة عن

إثبات النظام والحكمة في خلق الله تعالى، يجعل كل شيء بمقدار معين لا يعدوه،

فالمسببات تكون دائمًا بقدر أسبابها، ولا يكون شيء من الأشياء أُنفًا كما تزعم

القدرية المبني مذهبهم على قاعدة (الأمر أُنُف) أي إن الله تعالى يستأنف خلق كل

شيء يخلقه استئنافًا، كما يفعل الحاكم المستبد كل شيء، عندما يسنح له ويخطر

في باله استحسانه من غير بناء على نظام معين ولا التزام لمقادير مقررة من قبل،

وقد حدثت بدعتهم في العصر الأول، واتفق سلف الأمة ثم خلفها على ضلالهم في

هذه العقيدة، وأجمعوا أن كل شيء بقدر كما هو نص القرآن الحكيم، ومن شاء

التفصيل في بيان هذه المسألة فليرجع إلى الفتوى الثانية عشرة من فتاوى المجلد

الحادي عشر من المنار (ص 189، 200) .

أما فائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع جريان الأمور بمقاديرها

بحسب سنن الكون في ربط الأسباب بالمسببات، فهي لا تتجلى كمال التجلي إلا

لمن يعرف سنن الله تعالى في ارتباط الأعمال بأسبابها، وقد بينا ذلك في التفسير

وغير التفسير من أبواب المنار مرارًا كثيرة، ونشير إلى ذلك هنا بكلمة وجيزة.

جرت سنة الله تعالى بأن العمل الاختياري يصدر من الإنسان عند جزم إرادته به

، وأن جزم إرادته به لا يكون إلا بالعلم بأن فيه منفعة له أو دفع مضرة عنه في العاجل

أو الآجل، سواء كان العلم بذلك وجدانيًّا ضروريًّا أو كسبيًّا بالنظر في الأدلة. والأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر قد يفيد المأمور والمنهيّ علمًا يبعث إرادته إلى العمل به

فيكون نفعا مفيدًا، ولهذا كان واجبًا، وقد ثبتت فائدته بالتجربة فالمراء فيه مراء باطل

، ولا يعارضه الإيمان بالقدر بل يؤيده ويعد دليلًا عليه.

***

(البطالة يوم الجمعة)

(س20) من أحمد حمدي أفندي النجار الدمشقي بأم درمان (السودان) ،

سيدي الأستاذ العلامة الفاضل السيد محمد رشيد رضا دام فضله.

اجتمع منذ شهرين فريق من تجار هذه البلدة مؤلف من اليهود والنصارى

والمسلمين، وقرروا فيما بينهم بأن يكون لكل ملة يوم راحة من العمل بالثلاثة الأيام

المعروفة، وهي الجمعة للإسلام والسبت لليهود والأحد للنصارى؛ لمجاراة إخوانهم

النصارى بالخرطوم جارتهم، جعلوا غرامة على من يخالف ذلك بواسطة الحكومة،

ومن ذلك الوقت أصبح عموم اليهود والنصارى يبطلون الاشتغال باليومين

المذكورين، ونفر قليل من المسلمين باليوم الثالث، ورفض باقي المسلمين البطالة

بحجة أنه محرم أو مكروه؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} (الجمعة: 10)

إلخ، وأنه وردت بذلك أحاديث كثيرة بالبخاري وغيره من كتب

السنة، تحرم تفضيل أو تعظيم هذا اليوم على غيره، وحصلت بذلك مجادلات بينهم

كثيرة، وراجع بعضهم بعض العلماء هنا فأفتوهم بكراهة عدم الشغل بذلك اليوم

وتفضيله، وما زال بعضهم يعتقد وجوب تعظيم هذا اليوم والبطالة به، وأخيرًا

أجمع الكثيرون باستفتاء فضيلتكم بهذا الأمر فأفتونا بمعني الآية الكريمة، وبما ورد

بكتب السنة وبخلاصة ما ينبغي العمل به، فلا زلتم ملجأ لحل المعضلات

وضياء لهذه الأمة، وأطال الله بقاكم.

(ج) بُلِيَ المسلمون بالخلاف والجهل بآداب دينهم وبمنافعهم الدنيوية

ومصالحهم الاجتماعية، وقد رأيتم ما كتبناه في الموضوع في مقالات (المسلمون

والقبط) وفيه الإشارة إلى الأحاديث الصحيحة في فضيلة يوم الجمعة، وكونه عيدًا

للمسلمين كالسبت والأحد عند أهل الكتاب، ودعوى بعضهم وجود أحاديث تحرم

تفضيل يوم الجمعة على غيره باطلة وغريبة جدًّا، والأمر بالانتشار في الآية

للإباحة لا للوجوب، فهي كقوله تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (المائدة: 2)

ولم يقل أحد من العلماء بوجوب الصيد بعد انتهاء الإحرام، بل المراد إباحته بعد أن

كان محرمًا في الحرم، وكذلك الانتشار بعد صلاة الجمعة، فإن الأمر بعد النهي

يراد به رفع النهي السابق، والذي ينبغي للمسلمين أن يجعلوا هذا اليوم عيد

الأسبوع كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، وفضله على غيره وأن يجعلوه

للاستحمام والصلاة والعبادة وصلة الرحم وزيارة الأصدقاء، وإن كان البيع فيه لا

يحرم إلا في الوقت المخصوص، على أن البيع لا يحرم في يوم العيدين السنويين

عيد الفطر وعيد النحر مطلقًا، فمن احتاج أو اضطر إلى عقد بيع أو غيره في أيام

العيد أو الجمعة غير وقت صلاتها، وعقده يكون صحيحًا ولا يأثم المتعاقدان، وهذا

لا يمنع أن يجعل الجمهور هذه الأيام أعيادًا سنوية وأسبوعية، فالإسلام شرع لنا

كل ما فيه الخير لنا من غير تضييق علينا.

_________

ص: 178

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جماعة الدعوة والإرشاد

(2)

رئيس الشرف للجماعة صاحب الدولة

الأمير محمد علي باشا شقيق الجناب العالي الخديوي

لما علم صاحب الدولة الأمير محمد علي باشا شقيق سمو الأمير المعظم

بتأسيس هذه الجماعة سر سرورًا عظيمًا، لما حلاه الله تعالى به من الغيرة على

الدين، والعلم بشدة حاجة الإسلام إليه؛ لخبرته الواسعة بأحوال المسلمين،

واشتغاله بالمشروعات الإسلامية كالاكتتاب لتجديد بناء جامع عمرو بن العاص الذي

هو أول مسجد للإسلام في هذا القطر، صلى فيه كثير من الصحابة رضوان الله

عليهم، وما اطلع عليه من ذلك في سياحاته في الشرق الأدنى والأقصى، ولذلك

تفضل بكتاب يظهر فيه ارتياحه للعمل وتبرعه له بمئة جنيه مصري.

وقد قرر أعضاء مجلس إدارة الجماعة بإجماع الآراء اختيار دولته رئيس

شرف للجماعة، والتشرف بزيارته في قصره؛ لعرض هذا القرار عليه وشكره

على عنايته وفضله، وأنفذوا ذلك في ضحوة يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر، فقابلهم

الأمير - حياه الله تعالى - بما عهد فيه من الطلاقة والحفاوة، وقبل رياسة الشرف

للجماعة بالشكر والعناية، ونثر عليهم من درر الفوائد التي اقتبسها من رحلته في

اليابان والصين، ما زادهم بصيرة في عملهم العظيم، فخرجوا مودعين من دولته

أجمل وداع، وهم ما بين مثن وداع.

إنه ليسر كل عاقل مخلص في هذه البلاد وكل محب لها ولخير أهلها أن

يشارك الأمراء فيها سائر طبقات الأمة في الأعمال النافعة والمشروعات العامة؛

كالجمعيات الخيرية والعلمية والدينية وإنشاء المدارس؛ لأن هذا التعاون أرجى

للنجاح وأقرب إلى الحكم الذاتي طريقًا، وقد سرنا أن كان صاحب الدولة الأمير

حسين كامل باشا عم الجناب الخديوي رئيسًا للجمعية الخيرية الإسلامية، والأمير

أحمد فؤاد باشا رئيسًا للجماعة المصرية، فلا بدع أن نزداد سرورًا أن صار الأمير

محمد علي باشا رئيسًا للجامعة الدعوة والإرشاد، وندعو الله أن يوفقه دائمًا إلى

خدمة العلم والدين، وترقية شؤون المسلمين.

***

عضو الشرف الأول للجماعة

(الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم)

زار مصر في هذا الربيع الوجيه السري، الغني السخي، الكريم ابن الكريم،

الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم، وآل إبراهيم هؤلاء أكبر تجار العرب وأجودهم ومحل تجارتهم في بمباي ثغر الهند العظيم.

كان الشيخ قاسم علم بمشروع الدعوة والإرشاد وهو في الهند، فلما جاء

القاهرة كان همه الأول فيها لقاء كاتب هذه السطور؛ لأجل مساعدة المشروع،

فزرته في فندق شبرد فكان جل حديثنا في ذلك، وكاشفني برغبته في المساعدة،

وقال لي: إن آمالنا في خدمة الإسلام معلقة بكم، فعليكم العمل وعلينا المساعدة

بالمال، وسألني إلى أين انتهيتم في المشروع؟ قلت: لا يزال في طور التكوين،

وقد وضعنا له النظام الأساسي، فكان كالنظام الذي وضعناه لجمعية العلم والإرشاد

في الآستانة، وزدنا فيه ما يتعلق بالدعوة إلى الإسلام، وألفنا له مجلس إدارة من

خيار المصريين، وقد أقروا هذا النظام بعد مراجعة ومناقشة وتحوير كما هي العادة،

ولا يمكن أن نقبل التبرعات إلا بعد إصدار النظام الأساسي، وسيكون ذلك في يوم

المولد النبوي الشريف.

ولما رد لي الشيخ الزيارة في إدارة المنار، راجعني في مسألة تبرعه

واشتراكه فيه، فسألته عن مقدار ما يحب أن يجود به، فاقترح أن يقول ذلك لي

سرًّا حتى إنه لم يصرح به أمام كاتب سره المرافق له في سياحته وهو عبد الله

أفندي البسام، وبيت البسام يلي بيت إبراهيم في تجار العرب الكرام.

بحثت معه في سبب إخفاء ما يجود به وعدم الإذن في ذكر اسمه، فعلمت أنه

الإخلاص وابتغاء المزيد من الثواب، فأقنعته بالدلائل بأن إظهار اسمه لا ينافي

الإخلاص، وأنه قد يكون نافعًا من حيث يكون قدوة في الخير، وفرقت له بين

الصدقة على الفقير والصدقة في المصالح العامة، فسكت ولم يظهر ارتياحًا، ثم

حضر الاجتماع الذي عقده للدعوة إلى التبرع؛ لإنشاء مسجد للمسلمين في لندره

عاصمة إنكلتره وهنالك دعت الحال لخطبة وجيزة في إظهار الصدقات وإخفائها

ألقيتها هنالك وسيأتي ذكرها في باب الأخبار من هذا الجزء. فازداد الشيخ قاسم

اقتناعًا، وبعد ذلك كاشفت إخواني أعضاء مجلس جماعة الدعوة والإرشاد باشتراكه

وبتبرعه.

***

(مقدار ما تبرع واشترك به الشيخ قاسم)

2000 جنيه إنكليزي تبرع ناجز

0100 جنيه إنكليزي اشتراك سنوي

بلغت إخواني أعضاء مجلس إدارة جماعة الدعوة والإرشاد ما تبرع واشترك

به هذا المحسن العظيم، وكان له به فضيلة السبق والمسارعة إلى هذا الخير،

فأجمعنا على عقد جلسة خاصة للمذاكرة في الشكر له، وأجمعنا في تلك الجلسة على

تسمية (عضو الشرف الأول لجماعة الدعوة والإرشاد) ، وعلى أن يكون باسمه

مكافأة سنوية توزع على تلاميذ (دار الدعوة والإرشاد) وعلى أن نبلغه ذلك في

كتاب شكر نحمله إليه بأنفسنا، وأننا نذكر ذلك الكتاب بنصه:

(كتاب جماعة الدعوة والإرشاد إلى الشيخ قاسم إبراهيم)

(بسم الله الرحمن الرحيم)

الحمد لله الذي قدر فهدى، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، وجعل إنفاق

المال في سبيله، أول آيات صدق الإيمان به، فقال عز وجل: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ

الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) والصلاة والسلام على إمام المصلحين،

وخاتم النبيين والمرسلين، سيدنا محمد النبي العربي الذي أرسله الله رحمة للعالمين،

وأتم به النعمة وأكمل الدين، وعلى آله وأصحابه الذين نشروا دعوته، وأقاموا

سنته، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

من جماعة الدعوة والإرشاد بمصر، إلى السابق إلى الخيرات بإذن الله،

المسارع إلى المغفرة ورضوان من الله، المساعد على إحياء الدعوة إلى الله،

السخي الكريم، المحسن العظيم، الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم التاجر العربي

في بمباي من الهند، ونزيل مصر الآن، زاده الله نعمة وتوفيقًا.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

وبعد، فقد بلغ الجماعة وكيلها السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار ما وفقكم

الله تعالى له من التبرع لها بألفي جنيه ناجزة، والاشتراك فيها بمئة جنيه مسانهة،

فاجتمع مجلس إدارتها اجتماعًا خاصًا للمذاكرة في كيفية الشكر لكم لأن النبي صلى

الله عليه وسلم قال: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) .

وقرر باتفاق الآراء تسميتكم (عضو الشرف الأول) في هذه الجماعة، وأن

يجعل باسمكم مكافأة سنوية لطلاب مدرستها الكلية (دار الدعوة والإرشاد) لتكون

ذكرى دائمة؛ لسبقكم إلى المشاركة في تأسيس هذا العمل الذي يراد به خدمة العالم

الإنساني، بنشر الدين الإسلامي، دين الفطرة والمدنية، الجامع بين أسباب

السعادتين الدنيوية والأخروية، وقرر تبليغكم ذلك في كتاب شكر يوقع عليه أعضاء

المجلس، ويحملونه إليكم بأنفسهم، وها هو ذا فتقبلوه محمودين مشكورين، ولا

زلتم موفقين لما ينفع الناس ويرضي الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله.

وكتب في القاهرة لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وثلاث

مئة وألف من هجرة الداعي إلى طريق الحق.

***

عناية مولانا الأمير أيّده الله تعالى بالشيخ قاسم آل إبراهيم

بلغ مولانا العزيز أيده الله تعالى أن هذا السري العربي، الكريم الغيور على

الملة والدولة، قد زار مصر في هذه الأيام سائحًا، وأنه هو الذي أعطى وجمع

المال الكثير لسكة الحجاز الحديدية وللأسطول العثماني، وأنه قد تبرع الآن لجماعة

الدعوة والإرشاد بمبلغ كبير واشترك فيها، فارتاح سموه لذلك وسر به، وأجدر

بسموه أن يرتاح لخدمة دينه القويم ونجاح المشروعات العلمية الخيرية في البلاد

العثمانية وفي قطره السعيد، ومن أجدر من سموه بمعرفة قيمة كبار الرجال العاملين،

وكرام الأجواد المحسنين؟ وقد أظهر الارتياح للقاء ضيف مصر الكريم، وعين

الوقت لذلك فتشرف الشيخ قاسم بمقابلة سموه مقابلة خاصة في قصر القبة، وكان

بصحبته كاتب هذه السطور، فمكثنا زهاء ثلثي ساعة في حضرته، لقي فيها ضيف

مصر الكريم من حفاوة عزيزها العظيم وإقباله وعطفه، ما ملأ قلبه غبطة وسرورًا،

وقد كرر له الأمير عبارات الشكر البليغة المؤثرة، ورغب إليه أن يبلغ سموه كل

ما يريد من مساعدة، حتى قرأت في وجه الشيخ آيات تأثير كلام الأمير وتواضعه،

وسأله عما رآه من آثار مصر، فعلم أنه لم ير القناطر الخيرية، فقال: إنني سآمر

بإعداد باخرة من بواخر النيل الخديوية لكم، تركبونها إلى القناطر للنزهة ورؤية

هذا العمل المصري العظيم الذي هو ركن من أركان ترقي الزراعة والثروة في هذه

البلاد (وسموه حقيق بأن يفخر بهذه القناطر التي هي من أفضل ما عمل جده

الأعلى؛ من أسباب عمران هذه القطر) ثم انصرف الشيخ من حضرة الأمير وهو

يردد الدعاء والثناء.

***

(الحفاوة بالشيخ قاسم آل إبراهيم)

كان يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر موعد زيارة أعضاء مجلس (جماعة الدعوة

والإرشاد) للشيخ قاسم، وموعد النزهة النيلية في الباخرة الخديوية، اجتمع إخواننا

الأعضاء في إدارة المنار بعد الظهر، وكان كتاب الشكر الذي نشرنا نصه آنفًا قد

كتب بخط جميل فوقعوه بأيديهم، وتخلف منهم محمد لبيب بك البتنوني فقط؛ لأنه

كن منحرف الصحة. ثم قصدنا فندق شبرد، فلقينا الشيخ ينتظرنا في بهو الحجرات

التي يقيم فيها من الفندق، فقدمت له أخانا الرئيس محمود بك سالم وهو عرفه بسائر

الأعضاء، وتلا أحدنا كتاب الشكر وأعطاه للرئيس، وقدمه الرئيس للشيخ، ثم

ذكرنا للشيخ قاسم أن هذا الوقت هو موعد النزهة النيلية التي أكرمه بها الأمير،

وأنه أذن للشيخ أحمد زناتي أن يبلغ إخوانه أعضاء جماعة الدعوة والإرشاد أن

يكونوا معه في هذه النزهة، فأجاب شاكرًا.

ركبنا السيارات الكهربائية (الأتموبيلات) من أمام الفندق إلى ساحل روض

الفرج، حيث كانت السفينة الخديوية راسية، فركبنا فيها باسم الله مجراها ومرساها،

ولما توسطت المسافة بين روض الفرج والقناطر، نصبت مائدة الشاي وما يتبعه

من اللبن وأنواع الحلوى والفطير والمثلوجات، فأصاب كل من الضيف الكريم

والجماعة ما شاء منها.

وأرست السفينة أصيل ذلك النهار الجميل عند حديقة منتزه القناطر، فخرجنا

وطفنا بالضيف الكريم القناطر كلها، ودخلنا الدار التي فيها مثل ونماذج أعمال

الري في القطر المصري، ثم عدنا إلى السفينة عند الغروب، فعادت بنا إلى ساحل

البلد.

وقد رغب الشيخ قاسم إلى الشيخ أحمد زناتي عند وداعه أن يبلغ الأمير شكره

ودعاءه على هذه العناية به، ونحن أولى بالشكر والدعاء، فنسأل الله تعالى أن يديم

التوفيق لأميرنا، وأن يحسن جزاء هذا المحسن إلى جماعتنا.

***

الرابطتان الإسلامية والوطنية

(وجماعة الدعوة والإرشاد)

أتى على المسلمين حين من الدهر وهم أعلى أهل الأرض حياة، وأشدهم قوة

ومنعة، وأكثرهم خيرًا ونائلاً، وأوسعهم كرمًا وفضلاً، ثم قضت سنن السكون أن

يكون من بعد تلك القوة ضعف، كاد يكون موتًا زؤامًا، وقد دبت فيهم الآن حياة

جديدة، تتنازع رابطة الإسلام فيها روابط أخرى كالجنسية الوطنية واللغوية.

من آيات هذه الحياة الجديدة تبرع الشيخ قاسم إبراهيم بألفي جنيه لجماعة

الدعوة والإرشاد، استكبر هذا السخاء كبراء المسلمين بمصر وغير مصر

واستكثروه، استكبروا أن يعطي مسلم مالاً كثيرًا لخدمة دينه في بلد غير بلده،

ووطن غير وطنه، لا يرجو به رتبة ولا وسامًا، ولا الزلفى من الملوك والأمراء،

ولا الجاه والشهرة عند الدهماء، وقد طال عليهم العهد، ولم يسمعوا بمثل هذا

العطاء.

لو تأمل مسلمو هذه البلاد فيما بين أيديهم لرأوا من مدارس جمعيات الإفرنج

الدينية ومستشفياتهم وجرائدهم ما ينفق عليه مئات الألوف من الجنيهات في كل عام؛

من تبرع الأسخياء الغيورين على دينهم، المجتهدين في نشره وتحويل الناس كلهم

إليه وإدخالهم فيه، وهم يقرؤون في الصحف تبرعهم بالملايين لإحياء العلم والدين،

فكيف يستكبرون أن يكون في المسلمين من له غيرة على دينه كغيرتهم، وحرص

على نشره كحرصهم، أو ما يقرب منه؟

ولو نظر المسلمون إلى ما وراءهم لرأوا من آثار سلفهم وأوقافهم في أيام

حياتهم الأولى ما يستصغر دونه كل كبير، ويعد ما يستكثرونه اليوم غير كثير،

فإن معظم بلاد المسلمين وأرضهم قد وقفت على الخير، ولكن ضاعت وقفيات أكثرها

فعادت ملكًا، وما حفظ منها ليس بقليل، ولكن ما سلم من تلك الأوقاف من

اغتصاب الأهالي ضبطته الحكومات. ولو أن مجلس العثمانية أحصى الأوقاف،

وأعاد إليها ما أكلته الحكومة منها وما تصرف به عبد الحميد وأعوانه، وفصلها من

الحكومة وجعلها بأيدي الأمة بنظام يكفل وضع ريعها في مواضعه، وصرفه على

المنافع العامة؛ كالتعليم والتربية وإصلاح شؤون الأمة لأغنى مسلمي المملكة

العثمانية عن تبرعات المعاصرين الذين غلب على أكثرهم البخل إلا على شهواتهم.

الشيخ قاسم إبراهيم رجل مسلم، أمته هي الأمة الإسلامية أينما وجدت وحيثما

حلت، ولم يترب على بدعة الوطنية المفرقة التي يعد بها المسلم من أهل بلد دخيلاً

بين المسلمين في بلد أخرى، ليس له عليهم حق الإخاء ولا المساواة، لم يترب

على هذه البدعة التي فتن بها بعض المسلمين في هذه البلاد، ولهذا جاد لجماعة

الدعوة والإرشاد مما جاد به، ووعد بأن يجمع لها أكثر من ذلك، فأين منه ذلك

الرجل المفتون بنزعه الوطنية التي رجحت بها كفة القبط في مصر على كفة

المسلمين؛ إذ قال: كيف نبذل المال لجمعية تربي الدعاة والمرشدين لأجل إحياء

الإسلام ونشره في غير مصر! !

إن سرى هذا الشعور الوطني إلى جمهور المسلمين، فأنذرهم بطشة الله تعالى

الانحلال والزوال، ونسأل الله تعالى أن يقي المسلمين شر هذا الشعور المتدفق على

مثال هذا المغرور، وشر دعاة هذه الوطنية الخاطئة الكاذبة التي كانت من أكبر

المصائب على المسلمين، على أنها لم ترض غيرهم من الوطنيين.

إن سم هذه الوطنية لم يدخل بنية مسلمي جزيرة العرب، ولا مسلمي الهند؛

لذلك نرجو أن يتبرع كثير من أغنياء تلك البلاد لجماعة الدعوة والإرشاد، كما

يتبرع الإنكليز والأمريكان والفرنسيس لجمعياتهم الدينية في الشرق الأدنى والشرق

الأقصى، ولا يضر هذا العمل بخل المفتونين بالوطنية عليه، ولا تنفيرهم عنه.

هذا، وإننا نرجو من سخاء مسلمي مصر ما لا نرجو مثله من غيرهم، فهذا

العمل عملهم، لهم من شرفه وثوابه ما ليس لغيرهم، وهم من أوسع المسلمين ثروة

وأبسطهم يدًا، والرابطة الإسلامية عند السواد الأعظم منهم أقوى من الرابطة

الوطنية، ولا قيمة لأولئك الأفذاذ الشذاذ الذين يرون الوطنية والدين ضدان،

ويرون أنه يجب أن تنسخ الوطنية آية الدين وتحل محله في ارتباط أفراد الأمة

بعضهم ببعض، حتى لا يبقى له تأثير إلا في المعابد.

هؤلاء الغلاة في الوطنية، لا يزالون قليلي العدد عندنا وأكثرهم لا يتجرأ على

إبداء رأيه كله، بل يدهن للناس حتى يوهمهم أحيانًا أنه يغار على الدين ويؤيده،

وأن وطنيته نافعة للمسلمين أو خاصة بهم، وأنه لا يريد بها إلا خدمتهم، وأنه

يخادع الإفرنج وغيرهم بذلك، حتى لا ينسبوه إلى التعصب الديني.

الإسلام والنفاق هما الضدان اللذان لا يجتمعان، فنحن لا نخادع ولا ندهن ولا

نقول بهذه الوطنية الخاطئة الكاذبة التي تحل عرى الإسلام وتقطع أخوته العامة،

وتحل محلها أخوة وطنية بين المسلمين وغيرهم. ولكنها أخوة نفاق وخداع يمقتها

الدين، ويكون الغبن والخسار فيها على المسلمين، كما نشاهد في البلاد من ارتباط

المسلمين بالقبط، وقد شرحنا القول فيه بمقالات خاصة.

حاربت القبط الحزب الوطني ما لم تحارب غيره من الأحزاب، واتهمته

بالتعصب الديني بما لم تتهم بمثله سائر المسلمين، فعلم من ذلك أن دعوة الوطنية

بمصر قد أضعفت الأخوة الإسلامية، ولم تستبدل بها أخوة وطنية حقيقية.

وقد جنت هذه الوطنية الخاطئة الكاذبة على الدين نفسه، لم تقف جنايتها عند

حد رابطته الجنسية وأخوته العامة. ذلك بأن الفضيلة والكمال والمزايا التي يتفاضل

بها أهلها، ويكونون من الزعماء والرؤساء ليست من فضائل الدين، ولا مما يعده

الدين كمالاً، فيجوز في عرفها أن يكون الزعيم الذي يقود الأمة، وتبذل له أموالها،

وتطلب منه حياتها فاسقًا عن أمر ربه، يخاصر في حله وترحاله الأخدان من

المومسات الإفرنجيات، ويألف في كل مكان ينزل فيه المواخير ويهجر المساجد.

حدثني بعض المصريين الذين التقوا ببعض زعماء الوطنية في الآستانة منذ

سنتين؛ أن هذا الزعيم المليم كان يقول: إنه مل النساء الإفرنجيات، وإنه يريد أن

يتمتع بالتركيات، ولا يدري كيف يصل إلى الفاسقات منهن، نعم.. ليس كل الذين

يلهجون بالوطنية ويرفعون كلمتها مثل هذا الزعيم، ولكن الأمة التي يشرف فيها

مثله، تكون أخلاقها وآدابها وعقائدها على شفا جرف هار، فإذا انهار بها، وقعت

في الخزي والعار، ولها في الآخرة عذاب النار.

غلاة الوطنية يمقتون الإصلاح الإسلامي وأهله؛ لأنهم يرون أن المسلمين إذا

صلح شأنهم بدينهم لا يمكن أن يسود فيهم عباد الشهوات، ولذلك كانوا للأستاذ الإمام

رحمه الله بالمرصاد، حتى إنهم حرضوا اليهود عليه عند تفسيره للآيات التي

وبخهم الله تعالى بها في كتابه، فلا عجب إذا وجد فيهم من يقاوم مشروع الدعوة

الإرشاد، وينفر الناس عنه بضروب من الكذب والإفك والزور والبهتان والعضيهة

والغيبة والنميمة والمحل والسعاية، وأن يجعلوه - وهو أجل ما يخدم به الإسلام -

آفة على الإسلام، فإنهم يعبرون بالإسلام عن وطنيتهم وشهواتهم وحظوظهم

وأهوائهم.

يا أهل الوطنية، لا تغلو في دينكم، ولا تقولوا على دعاة الدين غير الحق،

اتركوا لنا خدمة ديننا نترك لكم ما أنتم عليه، إن إسلامنا الصحيح يعطي غير

المسلمين في بلاد الإسلام من الحقوق ما لا تعطيه وطنيتكم التي جنت على الإسلام

وعلى الوطن. ألم تروا أن غير المسلمين لم يعارضوا المشروعات الإسلامية ولا

أهلها، ولكنكم كنتم أنتم المعارضين. فإن أبيتم إلا الطعن والمعارضة، فاعلموا أن

وطنيتكم الباطلة لا بقاء لها إذا عارضها إسلامنا الحق، فإنما بقاء الباطل في نوم

الحق عنه، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

لا أقول هذا بلسان جماعة الدعوة والإرشاد ولا بالوكالة عنهم، وإنما أقول

قولي هذا باسم الإسلام، فكل من يقاوم الإسلام يقاومه أهل الاستمساك به والغيرة

عليه.

جماعة الدعوة الإرشاد بمعزل عن السياسة وأحزابها، تطلب التعاون من كل

حزب، وتقبل المساعدة من كل أحد، وأبوابها مفتوحة لكل مسلم، وأبغض الأعمال

إليها وشر السيئات في نظرها الخصام والتعادي والتخاذل والتخاصم؛ لأنها جماعة

توحيد واعتصام، لا حزب تفريق وخصام، وقد وسعتها الحرية التي وسعت

الجمعيات المسيحية والإسرائيلية، ووسعت كثيرًا من الخيرات والشرور في هذه

البلاد، فلماذا ثقلت على قلوب أولئك المرجفين، وطفقوا ينفرون عنها حتى باسم

الدين؟

لماذا لا ينفر ذلك المرجف المسلمين عن الصحف الدينية التي تطعن في دينهم

وتشككهم فيه، وكثير منهم مشتركون فيها، ولماذا لا يرد عليها، ولا يرجف

بالجمعيات التي تنشرها؟ ؟

وجملة القول: إن المسلمين يتنازعهم في البلاد التي دب إليها التفرنج

عاملان من عوامل الارتقاء: عامل الإسلام الجامع لكل أسباب الارتقاء، وعامل

الجنسيات الجديدة التي أحدثها التفرنج، ورأينا أن المسلمين لا يرتقون ولا يرتقي

سائر أهل وطنهم إلا باتباعهم هم هدى الإسلام نفسه، وكم أقمنا على ذلك

من البراهين، ونحن مستعدون لإثبات ذلك في كل حين.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 191

الكاتب: محمد رشيد رضا

المسلمون والقبط

(النبذة الثانية)

عجبنا من الحركة القبطية الأخيرة وحق لنا العجب، وأن نبحث عن العلة

والسبب، شرذمة قليلة في أمّة كبيرة تأكل من ثمراتها زهاء ثلاثين من المئة، وهي

زهاء خمسة أو ستة في المئة، ثم تتصاعد زفراتها، وتتعالى نبآتها وهيعاتها: قد

ظلمنا المسلمون في وطننا، وهضموا حقوقنا لأجل ديننا، وتستنجد جرائد أوربة

وقسوسها ليلزموا الدولة الإنكليزية أن تنصر الفئة القليلة لأنها مسيحية، على الفئة

الكثيرة الإسلامية، أليس خطبها من أهم ما يبحث عنه، ويبين وجه الصواب فيه؟

ليعلم لماذا لم ترض بما كانت تأكله من حقوق غيرها بالهدوء والسلام، حتى اختارت

هذا اللدد في الخصام.

***

(بطرس باشا غالي)

بلى.. كان لهذه الفئة زعيم عظيم يأخذ بحجزها، ويمسكها إذا هبت رياح

الطيش فهمت أن تطير بها، ويحل جميع مشاكلها، ويقودها بالحكمة إلى أمانيها

ومقاصدها، مراعيًا سنن الاجتماع التي أشرنا إليها في صدر النبذة الأولى من هذا

المقال، فلما اخترم ذلك الزعيم العظيم، لم يكن له خلف في عقله وحكمته، ورويته

وحنكته، فتصدى للزعامة مثل جندي إبراهيم وشنودة وأخنوخ فانوس ممن لا

بضاعة لهم إلا شقشقة اللسان، والقدرة على إثارة الأضغان، وكانت العاصفة بفقد

الزعيم شديدة فطارت بالقوم، ولم تقع بهم على ما يستقرون عليه إلى اليوم.

ذلك الزعيم هو بطرس باشا غالي الذي كان صخرة القبط التي ترتد عنها

قرون الوغول واهية، وتبنى عليها كنيسة مصالحهم فتكون ثابتة راسخة، وكان

أكبر ما أعده من آيات ترقيتهم، معرفتهم قيمة زعيمهم وخضوعهم لزعامته،

وإعلاؤهم لكلمته.

بلغ من دهاء هذا الزعيم القبطي أن جمع بين الضدين، ووضع نفسه موضع

الثقة من السلطتين، فكان - والأمير والعميد راضيان عنه - يقدم ما يشاء غير هياب

ولا وجِل، فإذا أراد أمضى، وإذا قال فعل.

كانت سهام متحمسي الوطنية من المسلمين تسدد إلى المسلمين من نظار

الحكومة وكبار رجالها دونه، على علمهم بعصبيته لطائفته وتقديمه إياهم على

المسلمين، منذ كان وكيلاً لنظارة الحقانية إلى أن صار رئيسًا للنظار.

وهو الذي أمضى وفاق السودان بعد أن امتنع عنه مصطفى باشا فهمي، وقال:

إنه حق الدولة العلية دوننا، وهو الذي رأس محكمة دنشواي؛ لأنه كان نائبًا عن

ناظر الحقانية، ولم يحدث في مصر منذ كان الاحتلال إلى اليوم ما آلم المسلمين

وهيج قلوبهم مثل هذين الأمرين، ولم تكتب أقلامهم أشد مما كتبته فيهما.

وكان من عجائب سيرة بطرس باشا أنه سلم من أسنة أقلامهم، وأسلات

ألسنتهم، فبقي عرضه وافرًا لم يكلم، وشرفه مصونًا لم يثلم، على حين وزراء

المسلمين وكبراؤهم يفرى أديمهم، وتؤكل بالغيبة والغميزة لحومهم.

يحفظ المسلمون على بطرس باشا أمورًا كثيرة في الاهتمام بطائفته وتقديمها،

وقد سألت مرة صديقًا لي من كبراء الإنكليز الذين كانوا موظفين في الحكومة

المصرية؛ أيتعصب بطرس باشا للقبط ويؤثرهم على المسلمين كما يقال؟ قال:

نعم.. قلت: أيفعل ذلك غيره من النظار المسلمين والرؤساء فيقدمون المسلم على

غيره، قال: لا.. ولكن أيهم أحسن؟ ؟

لما كانت واقعة المحاكم الشرعية، وأرادت الحكومة أن تجعل في المحكمة

الشرعية العليا عضوين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية، هاج المسلمون

في مصر، وحملوا على الحكومة حملة منكرة في الجرائد، واجتمع علماء الأزهر

أول مرة للإنكار على الحكومة، وكان من المتحمسين المشهرين بالحكومة من يتهم

الأستاذ الإمام بالرضى بالمشروع وتأييد الحكومة فيه، فسألته عن ذلك، فعلمت منه

أنه سعى في مقاومته سرًّا جهد طاقته؛ لأنه يضر ولا يفيد المطلوب، وقال: إن

الواضع الحقيقي له هو بطرس باشا لا ناظر الحقانية الذي يلعنه الناس، ومن

مقاصد بطرس باشا فيه التمهيد لإلغاء المحاكم الشرعية، وجعل الحكم في الأمور

الشخصية من خصائص المحاكم الأهلية؛ لأن طلبة الحقوق يتعلمون الفقه الإسلامي،

فهو يريد أن يتعود المسلمون بالتدريج حكم لابسي الطرابيش في القضايا الشرعية،

حتى لا يبقى للمسلمين في الحكومة المصرية شيء من المشخصات الملية. قاوم

الشيخ الباشا في ذلك بمثل سيعه إليه، وكان كل منهما صاحبًا للآخر عارفًا لقيمته.

على ذلك كله، كان بطرس باشا آمنًا في سربه، عزيزًا في قومه، محترمًا

من المسلمين، يزوره حتى كبار علمائهم ورجال الدين فيهم، ولم يعلم أحد ما خبأه

له القدر، حتى حمي الأمر وقضي الأجل.

بينا فيما سبق أن الإفرنج يعنون بفرنجة غيرهم ليجذبوهم إليهم، وأن

الضعيف يقلد القوي فيما يسهل التقليد فيه أولاً ثم في غيره، وأن نغمة الوطنية في

مصر هي من هذا الباب، وأن المتحمسين فيها صاروا لا يفرقون بين الوطنيين

لأجل الدين، حتى كان منهم من يرضى أن يكون أمير البلاد قبطيًّا، وكان من

هؤلاء الوطنيين المتفرنجين شاب عصبي المزاج اسمه إبراهيم الورداني، تعلم في

أوربة، فكان من حظه في التفرنج قراءة أخبار الفوضويين الذين يجعلون أنفسهم

فدية لوطنهم، ولما صار بطرس باشا رئيسًا للنظار، وكان أهم ما حدث في

وزارته مشروع تجديد امتياز قنال السويس، وقامت الجرائد الوطنية تشرح ضرر

المشروع وغبن مصر فيه، وفائدة الشركة منه، اندفع إبراهيم الورداني بما اقتبسه

من تعاليم أوربة وتربيتها لا الأزهر الذي ربما كان لم يدخله قط، ورصد خروج

بطرس باشا من نظارته، وأطلق عليه الرصاص جهرًا فأصابه، ولم يلبث أن

قضى نحبه، ولم يفر الجاني ولا أنكر بل صرح بأنه تعمد قتله؛ لأنه اعتقد أنه

جان على وطنه بوفاق السودان ومحكمة دنشواي المخصوصة من قبل، وأنه يريد

أن يجني عليه الآن بمشروع قنال السويس.

فعل الورداني فعلته، فحكم عليه بالإعدام فأعدم شنقًا، كبر الخطب على القبط

وحق لهم ذلك. ولكن المسلمين لم يقصروا في مشاركتهم في كل شيء من تشنيع

الجناية، وتشييع الجنازة، وتأبين الفقيد ورثائه، بما لم يرثوا ولم يؤبنوا بمثله

وزيرًا مسلمًا من قبله، اشترك في ذلك أمراؤهم وعلماؤهم، وكتابهم وشعرائهم، دع

رجال الحكومة من جميع الطبقات؛ فقد كان الفقيد رئيسًا لهم.

كل ذلك لم يرضِ القبط، بل أرادوا أن يأخذوا مسلمي القطر كافة بذنب

الورداني، فطفقوا يكتبون ويستكتبون بعض المتعصبين من المشاركين لهم في الدين

باتهام المسلمين بالتعصب الديني، وجعل الجناية اعتداء من الدين الاسلامي على

الدين المسيحي وأهله؛ لاعتقادهم أن هذا هو محل الضعف من المسلمين، وموضع

التأثير في تهيج الإنكليز وسائر الاوربيين عليهم؛ لاتفاق الجميع على أن لا يتركوا

للمسلمين شيئًا من المقومات ولا من المشخصات الملية، لما بيناه في فاتحة النبذة

الأولى من الأسباب الاجتماعية.

قابل المسلمون كل هذا العدوان بالحلم، فاستضعفهم القبط وأسرفوا في الطعن

والقدح في جرائدهم، وأوفدوا إلى إنكلترة من ينوب عنهم في إقناع الجرائد

الإنكليزية والنواب الإنكليز ورجال الدين والحكومة في لوندرة؛ بأن القبط مظلومون

مغبونون في مصر لأجل دينهم ووالوا ذلك، وأدمنوه سنة كاملة، احتفلوا في

خاتمتها بذكرى فقيدهم العظيم، وكان يظن أن المسلمين لا يشاركونهم في هذا

الاحتفال بعد تلك الغارة الشعواء في جريدتي الوطن ومصر على الكتب العربية

والآداب العربية والديانة العربية (الاسلامية) ، ولكن المسلمين كذبوا الظن، فهرع

علماؤهم وكبراؤهم الى مدفن الفقيد وكنيسة طائفته، وأبنوه بالنثر والنظم وأطروه

أشد الإطراء، فكان من اللائق المعقول أن تقف القبط عند هذا الحد من الظفر،

وتواتي طلاب الصلح من المسلمين الذين اعتذروا عما كتبه القبط من سوء القول؛

بأنه رأي أفراد منهم لا يؤخذونهم بشذوذهم فيه.

***

(المؤتمر القبطي وتأثيره)

لو كان للقبط زعيم عاقل كذلك الزعيم الذي فقدوه، لما سمح لهم بذلك التقحم

الذي تقحموه، ولو كان لهم زعيم له نصف عقله وحكمته، لأوقفهم عند الحد الذي

انتهى به الحول بعد مصرعه، عملاً بتحديد لبيد لمدة الحزن والرثاء ولكنهم بعد

انتهاء الحول، وبعد تلك المجاملة من المسلمين في الاحتفال التي عدها المتزاحمون

على الزعامه فيهم ضعفًا ومهانة، انبروا إلى تصديق أقوال جرائدهم بالعمل، فألفوا

مؤتمرًا قبطيًّا عامًّا في أسيوط التي سماها بعضهم (عاصمة القبط) ؛ لإثبات الغبن

الذي أصابهم وبيان المطالب القبطية التي يريدون بها مساواة المسلمين، وأولها: أن

تسمح الحكومة للموظفين منهم بترك العمل يوم الأحد، وتسمح للتلاميذ منهم في

مدارسها بترك الدراسة فيه أيضًا؛ لأن دينهم يحرم عليهم العمل فيه، وقد تقدمت

الإشارة إلى غير ذلك من مطالبهم التي يسمونها حقوقًا لهم، وليس من غرضنا شرح

ذلك وبيان حقه من باطله بالتفصيل، وإنما مرادنا بيان هذه المسألة الاجتماعية

بالإجمال.

توالى الوخز والطعن على جسم الشعب الإسلامي مدة سنه كاملة، فلم يكد

يشعر به ولا استيقظ من منامه، فلما سمع صيحة المؤتمر القبطي الشديدة المؤلفة

من أصوات الألوف من الشاكين، هب من نومه مذعورًا، فرأى أن الجسم الصغير

الذي كان يعده عضوًا منه قد انفصل وصار حيًّا بنفسه، ممتازًا بمقومات

ومشخصات خاصه به، سماها (قبطية) ، وسمى ما بقي للجسم الكبير من

المقاومات والمشخصات (إسلامية) ، وهو يريد أن ينتزعها كلها منه، ويجعله تابعًا

له عملاً بقاعدة {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} (البقرة: 249) فعز عليه

ذلك، واستعد للدفاع عن نفسه.

نعم.. رأى المسلمون أن البلاد بلادهم، والحكومة حكومتهم، والشريعة

شريعتهم، وأن غيرهم لم يكن له في مصر وجود حتى يكون له حقوق يؤبه لها؛

لأن هؤلاء الأغيار كالنقطة السوداء في الثور الأبيض أو النقطة البيضاء في الثور

الأسود. ولكنهم بتساهلهم وإهمالهم قد شاركوا هؤلاء الأغيار في حكومتهم وفي

جميع مصالحهم العامة والخاصة، حتى صارت إدارة أملاكهم وعقاراتهم وأوقافهم

الأهلية كلها بأيدي أولئك الأغيار.

ثم أرادهم أولئك الأغيار على أن لا يذكروا اسم الإسلام والإسلامية في أمور

الحكومة ولا غيرها من المصالح العامة؛ لأن ذلك ينافي المدنية العصرية، فرضوا،

وصاروا يترنمون باسم الوطنية والمصرية، ويقولون: نحن مصريون قبل كل

شيء، ويعدون المسلم غير المصري دخيلاً بينهم.

بل رأوا أنهم قد انجذبوا إلى القبطية، وصاروا يفخرون في جرائدهم وخطبهم

وأشعارهم بفرعون الذي لعنه الله تعالى على لسان موسى وعيسى ومحمد صلوات

الله عليهم أجميعن، وأخبر تعالى أنه استخف قومه فأطاعوه، واستعبدهم واستذلهم،

وكان من أغرب ما وقع في هذا الباب أن شاعرًا مسلمًا نظم قصيدة في عيد السنة

الهجرية، وأنشدها في احتفال عظيم، فافتخر فيها بأنه هو وقومه من آل فرعون،

ولم يفتخر بالنسبة إلى صاحب الهجرة الشريفة، ولا بآله وأصحابه الذين يفتخر بهم

الوجود صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، فكيف تجمعون أيها

المفتخرون بآل فرعون بين هذا الفخر وبين قول ربكم فيكم: {النَّارُ يُعْرَضُونَ

عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِياًّ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} (غافر:

46) .

بل رأى هؤلاء الذين استيقظوا من المسلمين أن مقومات حياتهم المعنوية التي

هم بها أمة؛ قد تزلزل بعضها وزال بعض، فصارت السلطة التشريعية في بلادهم

بأيدي الأغيار والنفوذ الأدبي في أيديهم، حتى إن مجموع جرائدهم أكبر تأثيرًا في

الأمور العامة من جرائد المسلمين، وكذلك النفوذ السياسي والمالي، فثروة المسلمين

كل يوم في نقصان كما يعلم كل يوم من إعلانات الحجز وبيع الأملاك المرهونة،

رأوا هذا وأمثاله مما لا يحل لإحصائه هنا، فعلموا أن الذي أطمع هذه الشرذمة من

القبط فيهم ليس بالشيء اليسير، وإنما هو انحلال جميع روابطهم، وزلزال أو

زوال جميع مقوماتهم ومشخصاتهم، حتى إنه لم يعد أحد منهم يجسر على أن يقول

حكومة إسلامية أو مصلحة إسلامية، وتذكر العالمون بسنن الاجتماع ما ذكرناه من

القواعد في فاتحة النبذة الماضية، فعلموا أنهم صاروا عرضة للعدم والانقراض، أو

الاندغام في القبط، كما اندغم القبط فيهم من قبل، بل رأوا أن القبط قد غلوا

وأسرفوا في الطمع فيهم، حتى لم يرضوا بما كانوا سائرين إليه من الفناء فيهم باسم

مصريين، وأبوا إلا أن يكون لهم كل شيء بلقب قبط، والأمم تهتم في طور

الضعف بالألقاب والأسماء ما لا تهتم بالمعاني، فقد يمرق المسلم أو النصراني من

دينه بالفعل، ويبقى محافظًا على الاسم، لذلك حكمنا بأن القبط قد غلوا وأسرفوا في

حركتهم الأخيرة، وأنهم لو صبروا لنالوا في غفلة المسلمين وتخاذلهم كل ما يؤملون،

وإن سبب ذلك هو فقد الزعيم وإعواز خلف له، فهذه الحركة لا يعقل أن تكون

مؤدية إلى المطلوب إلا إذا كانت مبنية على وعد قاطع من السلطة الإنكليزية الفعالة،

وهو ما يظنه بعض الناس، وإن قال فيهم العميد وقالوا فيه ما يدل على خلاف

ذلك، وأما مساعدة قسوس الانكليز والأمريكان، فليست كافية إذا استيقظ المسلمون،

وعارضوا بالحكمة والعقل.

***

(مطالب القبط كلها دينية)

يقول بعض المموهين: إن هذه الحركة القبطية ليست دينية، بل هي طائفية

جنسية، يختلبون المسلمين بهذا، والمسلمون يردون عليهم من كلامهم (من فمك

أدينك) فإنهم يقولون: إن السواد الأعظم من المصريين قبط، فما الذي تمتاز به هذه

الخمسة أو الستة من المئة على الباقي وأكثره من القبط، كما يقولون؟ هل هنالك غير

الدين؟ ألم يصرحوا بأنه هو علة حرمانهم مما يطلبون؟ ألم يحرضوا قسوس إنكلترة

وجرائدها، ويطلبوا نجدتها باسم الدين؟ ألم يكن أول مطالبهم ترك أعمال الحكومة في

يوم الأحد عملاً بالدين؟ إلا أنه من سوء الحظ أو حسنه أن كان القبط ليس لهم لغة،

وإذاً لحاربوا المسلمين بلغتهم، وكانوا بحزمهم ومساعدة الإفرنج وغيرهم هم

الغالبين، ولم يكن لأحد عذر في كلمة إسلام أو مسلمين.

إذا كانت القبطية جنسية للقبط المسيحين خاصة، فأجدر بالإسلام أن يكون

جنسية للمسلمين عامة، فإن المسيحية قد فصلت الحكومة من الدين كما يقولون،

وأمرت أن يعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله، والإسلام ذو شريعة وسياسة، فما

بال الذين يأمرهم دينهم بالخضوع لكل حاكم وإن كان وثنيًّا كقيصر الروم في زمن

المسيح عليه السلام، قد أصيبوا بهذا الشره في السياسة، فلا يتبعون حاكم مصر

المسلم في بطالة يوم الجمعة دون يوم الأحد وما بال المسلمين قد أجابوا دعوة غيرهم،

فرضي حاكمهم ومحكومهم بأمور كثيرة مخالفة للشريعة في حكومتهم؟

إذا كان القبط لا يشتغلون يوم الأحد في حكومة الحاج عباس حلمي المسلم،

فيلتركوها ويستغنوا عنها تنسكًا وتعبدًا، وإلا فالمسلمون أجدر منهم بطلب جعل كل

شيء في هذه الحكومة موافقًا لدينهم؛ لأن الحاكم العام منهم؛ ولأن أكثر الأحكام تقع

عليهم؛ لأنهم أكثر من تسعين في المئة من الأمة، فلهم أن يقولوا: إننا لا نخضع

لحكم يحرم علينا وجداننا الخضوع له، ولماذا ينكر الأغيار عليهم ذلك ويسمونه

تعصبًا، وإنما أولئك الأغيار هم المتعصبون الذين يفتاتون على أمة مسلمة حاكمها

العام مسلم، ولا يسمحون لها أن توفق بين دينها وحكومتها.

يقول بعضهم: إن هذه حكومتنا وحكومة آبائنا وأجدادنا، ويقول بعض آخر:

إن لنا حق مساواة المسلمين فيها، والصواب أن الحكومة ليست حكومتهم وأنه لا

حق لهم فيها ألبته ولا لغيرهم، ولماذا؟ إن هذه البلاد عثمانية سيدها الحقيقي

سلطان المسلمين وخليفتهم، وقد فوض أمر إدارتها إلى محمد علي باشا وذريته على

قاعدة مخصوصة، اعترفت بها دول أوربا الكبرى، وهي كما قال اللورد كرومر لم

تكن محل خلاف ولا نزاع قط، وقد كان يكتب على أوراق الحكومة (الحكومة

المصرية) ، وأخيرًا صار يطبع عليها بالعربية (الحكومة الخديوية) نسبة إلى

شخص الخديوي، وبالانكليزية حروف معناها (في خدمة سموه) ، فهذه الحكومة

إذًا شخصية تابعة لشخص الخديوي، ليس لأحد من رعيته عليه حق فيها،

والمسلمون هم الذين قاموا يطلبون منه أن يمنح البلاد الدستور الذي يجعل للأمة حق

الشركة معه في حكم البلاد، والقبط لم تطلب ذلك، فكل ما ناله القبط من الوظائف

الكثيرة هي فضل وإحسان من أمير مصر المسلم المتساهل ولم يكن مؤديًا لحقوق

واجبة عليه فيه.

وأما المسلمون، فإذا لم يكن لهم حقوق عليه بحسب شكل الحكومة الشخصي

الذي أقرته الدولة الكبرى، فيمكن أن يقال: إن لهم أن يطالبوه بحقوق يوجبها عليه

دينه، فيكون الرجاء في إجابتها منوطًا باعتقاده ووجدانه.

هذا هو الحق الذي يزهق به كل باطل، وسنبين في النبذه الثالثة ما ينبغي أن

يكون عليه الأمر في مصر من السلام والتساهل، والاتفاق بين جميع المقيمين فيها.

***

(النبذة الثالثة)

(الإسلام دين وجنسية)

الإسلام دين وجنسية اجتماعية وسياسية للمسلمين، هذا هو الواقع، وإن

كرهه أقوام يودون أن يكون دينًا فقط لا رابطة بين أهله في الأمور السياسية ولا

الاجتماعية؛ لما لأولئك من المصلحة في ذلك؛ وجنسيته واسعة تشمل المنافقين

الذين يظهرون الإسلام ويسرون الكفر والإلحاد، وتتسع لكل من يرضى بحكمه

الذي هو رابطته السياسية، فجيز استخدامهم في أكثر مصالح حكومته، وقد ارتقى

فيها غير المسلمين إلى منصب الوزارة في دوله العزيزة القوية التي لم يكن في

الأرض من يقف في وجه قوتها كأبي إسحق الصابئ في الدولة العباسية، فمثل

شريعته في ذلك كمثل قوانين دولة النمسة مثلاً، كل منهما جنسية سياسة يخضع لها

شعوب مختلفون في اللغات والمذاهب والأديان، ولكن بينهما فروقًا أهمها أن الفئة

الغالبة في الجنسية الإسلامية السياسية، وهي التي تدين بالإسلام تعتقد أن أصول

شريعتها وبعض فروعها منزلة من عند الله، وبعضها الآخر من اجتهاد الناس.

لا يضر من يشارك المسلمين في الخضوع لشريعتهم أن كانوا يدينون الله بهذا

الخضوع وهو لا يدين لله به، فإن حقوقه على المسلمين المكفولة بها تكون حينئذ

مضمونة بقوة الحكومة في الظاهر وقوة الاعتقاد في النفس، وحقوقهم عليه لا تكون

مضمونة إلا في الظاهر فقط، فالمسلم المتدين لا يأكل حق غيره وإن أمن عقاب

الحكومة، وغير المسلم قد يأكل حق المسلم المحكوم به إذا أمن العقاب؛ لأن وجدانه

لا يعارضه في ذلك، إذا اعتقد أن الحكم لا يجب الخضوع له.

وتمتاز هذه الشريعة على جميع الشرائع والقوانين بأنها تخير من لا يدينون

بها بين التحاكم إلى أهلها إن رضوا بذلك وبين التحاكم إلى أهل دينهم، فهي

باحترامها الحرية لا تكره أحدًا على عقيدتها وأعمالها الدينية، ولا على أحكامها

الشخصية ولا المدنية.

***

(حال المسلمين مع أوربة)

غلب على المسلمين الجهل بحقيقة الإسلام من حيث هو دين، ومن حيث هو

جنسية، حتى رضوا بحكم الجاهلين والمارقين منهم، فارتخت روابطهم كلها،

فسهل على ساسة أوربة الافتيات عليهم، والنفث اللطيف في بقايا العقد التي تربط

بعضهم ببعض، وتنكيث قوى حبلهم من غير جلبة ولا ضوضاء كجلبة المؤتمر

القطي والجرائد القبطية.

ذلك بأنها فتحت أقفال قلوبهم وأفكارههم، وزينت لهم آدابًا غير آدابهم،

وشرائع غير شريعتهم، وجنسيات غير جنسيتهم، وسلطت بعضهم على بعض؛

ليجذبه إلى ذلك من حيث لا يشعر المسلط ولا المسلط عليه. فهذه التعاليم التي تبثها

فيهم تستل من نفوسهم كل شيء إسلامي برفق ولذة، كما تستل الراح عقل شاربها،

ولو سلكت مسلك جرائد القبط وخطباء القبط في التوسل إلى ذلك لما زادت المسلمين

إلا استمساكًا واعتصامًا بكل ما تريد أن يتركوه.

اللوم إغراء، والمنازعة مدعاة المشاحة، والتعصب مثار التعصب، فكيف

تصورت القبط أن تنال بهذه الجلبة على ضعفها، ما تعلم أوربة أنها تعجز أن تناله

بمثل ذلك على قوتها؟ ؟

أما علموا أن من استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه، إلا أنني أعتقد

أنهم كانوا على مقربة من كل ما يطلبون، وإن هذه الجلبة ما زادتهم إلا بعدًا عنه،

ولهذا قلت: إنهم لو صبروا واتبعوا منهاج الحكمة وسنن الاجتماع (كما كان يفعل

زعيمهم ونابغتهم) لنالوا من المسلمين بالمسلمين كل ما أرادوا ولكن أبوا إلا أن

يذكروا المسلمين بغبنهم، ويدعوهم إلى الاجتماع والتشاور في أمرهم، بتأليف

مؤتمر يتبينون فيه من هم، وما هي نسبتهم إلى غيرهم، وما كانوا لولا هذه

الحركة القبطية ليقدموا على ذلك.

قال بعض كتاب فرنسة: إن قطرًا إسلاميًّا قد انفصل برمته من مكة وهو

تونس، يعني أن جنسيته الإسلامية قد زالت، لا أن أكثر مسلمي تونس قد خرجوا

من الإسلام، وتركوا الحج إلى البيت الحرام. وأنا أقول: إن الجنسية الإسلامية

بمصر أضعف منها في تونس، وقد بث دعاة الوطنية رأي الجنسية المصرية في

طلاب جميع المدارس المصرية من أميرية وأهلية وأجنبية، وهم الذين سيتولون

جميع الأعمال العامة والوظائف، فكان المنتظر أن تمحو نابتة المسلمين بأيديها ما

بقي في ذلك من صبغة الإسلام، حتى لا يبقى إلا اسم مصري ومصرية: الشارع

المصري، القانون المصري، الحكومة المصرية، المصلحة المصرية

إلخ.

ولكن القبط أبوا إلا أن يقولوا (قبطي وقبطية) ولم يحسبوا حسابًا لمقابلة المسلمين

لهم على ذلك بقول: إسلامي وإسلامية.

أليس من المعقول أن يقول المسلم المصري: إننا قد تركنا جنسيتنا الإسلامية،

ونحن أكثر من أحد عشر مليونًا؛ لأجل الاتحاد بنصف مليون من القبط لم نستفد

ولن نستفد بالاتحاد شيئًا لم يكن لنا، بل خسرنا وسنخسر كثيرًا مما كان لنا وحدنا،

فكيف رضي المغبون الخاسر، ولم يرض الرابح الظافر؟ أليس من الذل والهوان

أن نرضى بالانتقال من إسلامية إلى (مصرية) ؛ ليكون ذلك مدرجة إلى الانتقال

من (مصرية) إلى (قبطية) ، وإذا كانت هذه الجنسية المصرية التي انتحلناها

تبعدنا عن سائر إخواننا المسلمين وهم يعدون بمئات الملايين، ولا تقربنا من

جيراننا القبط وهم نصف مليون، فكيف تكون جنسية جديدة لنا ولم يتجدد لنا بها

شيء؟ صرنا نعد المسلم الشامي والحجازي دخيلاً فينا، لا نسمح أن يدخل حكومتنا،

أو يشاركنا في مصالحنا لأجل أن يكون القبطي أخًا لنا، له ما لنا وعليه ما علينا،

فأبعدنا ذاك ولم نستطع أن نقرب هذا، فمن نحن إذًا وما هي جنسيتنا؟

كان الأمير محمد إبراهيم قد عني باللغة العربية من دون سائر هذه الأسرة

الخديوية، فدخل عليه بعض أقاربه الأمراء، فرآه ينظر في بعض الكتب العربية

فلامه على ذلك وسأله عن سبب هذه العناية، فأجابه: هل نحن إفرنج وهل يعدنا

الإفرنج منهم؟ قال اللائم: لا.. قال: هل يعدنا الترك منهم؟ قال: لا.. قال:

فهل الأفضل لنا أن لا يكون لنا جنس؟ كلا.. إننا قد صرنا عربًا مصريين،

فالواجب علينا أن نعرف لغة أبناء جنسنا.

هذه هي الحكمة التي نطق بها الأمير محمد إبراهيم فحج بها لائمه. أفلا يسع

القبط ما وسع الأسرة المالكية، فيكونوا عربًا مصريين؟ ويتركوا كلمة قبط في كل

ما يتعلق بالحكومة والمصالح الدنيوية، ويجعلوها خاصة بمجلسهم الملي وشؤونهم

الدينية فيكونوا هم المفلحين، فإن القبطية تصلح أن تكون جنسية دينية لهم إن أحبوا

أن لا يمتزجوا بغيرهم من النصارى المتمصرين، ولكنها لا تصلح جنسية سياسية

دينية معًا ولا سياسية فقط؛ إذ لا يمكن أن يرضى المسلمون أن يعودوا في مصر

قبطًا، ولا في بلاد الأعاجم وثنيين ومجوسًا وبوذيين، فإذا كانوا يطلبون المساواة

حقيقة لا تمويهًا، فليتركوا العصبية القبطية والجنسية القبطية والمطالب القبطية،

فإن كل شيء ينالونه بهذه النسبة وهذا اللقب يدفع المسلمين إلى الرجوع إلى

الجنسية الإسلامية، ويخشى حينئذ أن يخسروا بحق بعض ما ربحوه بغير حق.

لا يغرنكم أن المتعلمين منكم عددهم النسبي أكثر من عدد المسلمين كما

تزعمون، فالعبرة في المقاومة للكثرة الحقيقية لا للكثرة النسبية، والمتعلمون من

المسلمين أكثر من المتعلمين منكم على كل حال، لا يغرنكم أن ثروتكم النسبية

أوسع من ثروة المسلمين كما تقولون، لا لأجل ما قلته في عدد المتعلمين بل لأن

المسلمين إذا تعصبوا عليكم لا تستطيعون أن تزرعوا أرضكم إلا إذا جعلتم أكثر

غلتها لهم؛ لأنكم لا تجدون الزراعين والعاملين فيها إلا منهم، فإذا علمتوهم

التعصب والتكافل، فإنهم يستطيعون أن يفقروكم بالاغتصاب الذي بدأ التفرنج ينفخ

روحه في مصر.

إذا كنتم لا تدركون مغبة هذه الحركة التي قمتم بها، فكيف خفي هذا الأمر

الطبيعي عن أصحاب الجرائد السورية والإفرنجية، وهم أعلم منكم بطبيعة

الاجتماع وأخلاق الأمم، فلم ينهوكم عن هذه الثورة القبطية التي تهدم ما بنوه في

السنين الطوال من محاربة التعصب والانقسام الديني والطائفي في هذه البلاد،

فبفضل جهادهم وطبيعة التفرنج الذي ينصرونه، قد صار كل ما للمسلمين في هذه

البلاد متحركًا بحركة الاستمرار لا بالحركة الطبيعية الحقيقية التي لا يفضلون بها

القبط، بل القبط تفضلهم فيها.

نعم.. كان المسلمون يتحركون بحركة الاستمرار في كل ما هو إسلامي

فأحدثت القبط لهم حركة طبيعية جديدة. ولكن الباعث عليها من الخارج لا من

النفس؛ لذلك ينتظر أن تكون قوة الدفع فيها ضعيفة، وأن لا يطول عليها الأمد،

حتى تعود إلى حركة استمرارية لا قوة فيها ولا تأثير لها إلا إذا تجدد المحرك الدافع،

فمن مصلحة غير المسلمين أن يمنعوا تجدده لينالوا كل ما يؤملون بهدوء وسلام،

وإن كلمة واحدة من لجنة مؤتمر القبط التنفيذية تحل الإشكال، وهي (قررنا أن لا

نطلب من الحكومة شيئًا للقبط، بل ندعها تختار الأكفاء لأعمالها برأيها واجتهادها،

وأن لا يذكر لفظ قبط ولا مسيحيين في المصالح الدنيوية) .

إنني أعتقد أن هذا الحل خير للقبط ولجميع المسيحيين في هذا القطر؛ لأنهم

يكونون هم الرابحين فيه، وأن الأربح للمسلمين أن يحافظوا على جنسيتهم

الإسلامية، ولكنهم يرضون بإيثار غيرهم عليهم بمساواته بهم في بعض المصالح،

ورجحانه عليهم في بعض المرافق، إذا هو ترك لهم بعض الخصائص التي صارت

أعضاء أثرية أو كادت، ولا يضره تركها لهم، وهو يعلم أنها ستزول بالتدريج.

يظن كثير من القبط وغيرهم أن المسلمين لا يستطيعون أن يتحركوا حركة

إسلامية؛ خوفًا من أوربة المسيحية أن تسمح حينئذ للإنكليز بضم مصر إلى

مستعمراتهم، والتعجيل بمحو هذه الصبغة الإسلامية الحائلة التي أوشكت تزول من

نفسها، وأن يتركوا سنة التدريج في إزالتها، وقد يصدق هذا الظن إذا هاج

المسلمون على المسيحيين، فاعتدوا على أموالهم وأو أنفسهم، وهذا ما لا يكون من

مسلمي مصر، فإن كانت القبط تحرك النعرة الإسلامية؛ لظنها أن المسلمين بين

أمرين لا ثالث لهما: إما السكوت فتنال القبط بجبنهم العلو عليهم، وإما الثورة

فتقضي إنكلترة القضاء الأخير على حكمهم، فلتعلم القبط أن هنالك أمرًا ثالثًا أعدل

وأقرب؛ وهو أن يتعصب المسلمون لجنسيتهم الإسلامية كما يتعصب القبط سواء،

بلا ثورة ولا اعتداء، وكيف يكون ذلك؟

يحصون المستخدمين من القبط في دوائرهم ومزارعهم، فيخرجونهم منها

ويستبدلون بهم أبناء جنسهم ودينهم، يقدم رجال الحكومة منهم المسلم على القبطي

بمثل الطريقة التي امتلأت بها مصلحة سكة الحديد ومصلحة البريد وغيرهما بالقبط،

يؤلفون الجمعيات الاقتصادية والاجتماعية لمباراة القبط ومسابقتهم في الزراعة

وغيرها من طرق الكسب، وحمل الفعلة والعمال من المسلمين على الاغتصاب عند

الحاجة، يفعلون هذا وأمثاله من غير ذكر للقبط ولا لغيرهم من المسيحيين إلا بخير،

فماذا تفعل إنكلترة المسيحية وأوربة المسيحية بهم في مثل هذه الحال، وما هي

من المحال، ألا يكون هذا ربحًا للمسلمين وخسارًا على القبط من غير خطر ولا

سوء عاقبة؟ بلى.. فالخير للقبط وغيرهم أن يعلموا بما ارتأيته، ولو خرج

زعيمهم النابغة من قبره الآن لما أشار عليهم بغيره، اللهم إلا أن يكونوا مدفوعين

من الإنكليز إلى ما عملوا، آخذين منهم ميثاقًا غليظًا على إجابتهم إلى ما طلبوا،

وهذا لا يعقل أن يصدر من الحكومة الإنجليزية، وإنما يقال: إن بعض القسيسين

والسياسين وعدوهم لينفذن لهم ذلك، فإن ظهر له أثر عملي اضطر المسلمون أن

يعتصموا برابطتهم الإسلامية؛ لئلا يصيروا بعد سنين قليلة أجراء وفعلة، ليس لهم

في البلاد التي كانت لهم وحدهم شأن، لا في الحكم ولا في غير الحكم.

ها أنا ذا؛ قد حللت المسألة تحليلاً، وفصلتها بسنن الاجتماع البشري تفصيلاً،

واضطررت أن أكرر بعض المعاني؛ لأجل أن تستقر في الأذهان، والنتيجة

الطبيعية محصورة في أحد أمرين كما علم من كلامنا آنفًا: إما استمرار القبط على

مطالبهم القبطية، ورجوع المسلمون إلى جنسيتهم الإسلامية، ومقاومة القبط

بالوسائل الاجتماعية والأدبية. وإما رجوع القبط عن هذه النزعة الدينية وسكوتهم

منذ اليوم عن مطالبهم، وحينئذ يبقى المسلمون على ما كانوا عليه من التساهل

والدعوة إلى الوطنية والجنسية المصرية التي يفضلون بها القبطي على المسلم غير

المصري وإن تمصر، والأمر الثاني: هو الذي يفضله الإفرنج وجميع المسيحيين

واليهود في هذه البلاد؛ لأنه غرس أيديهم وغرضهم من جهادهم، ومثلهم في ذلك

جميع المتفرنجين من المسلمين، وسنبين في النبذة الرابعة مسألة يوم العطلة

بالدلائل والبراهين.

***

(النبذة الرابعة)

(العيد الأسبوعي في الملل الثلاث)

لكل أمة من الأمم الثلاث -الإسلامية واليهودية والنصرانية- يوم في الأسبوع،

تجتمع فيه للعبادة وصلة الرحم وزيارة الأصدقاء ما لا تجتمع في غيره، فهو عيد

ملي لها في كل أسبوع، وشعار من شعائرها الدينية والاجتماعية التي يمتاز به

بعضها عن بعض، فلا تترك الأمة منها شيئًا من خصائص يومها للأخرى إلا إذا

رضيت أن تكون منها مكان التابع من المتبوع والمقتدي من الإمام، وينقص بما

تتركه من مقوماتها ومشخصاتها الملية بقدر ما تتركه، فيضعف ارتباطها

واعتصامها الذي به كانت أمة واحدة، ومتى سهل على الأمة ترك ما به كانت أمة،

فاحكم عليها بالفناء والزوال، ولا سيما إذا كانت بجوار أمة قوية تتعمد سلب

استقلالها، وتتوخى تسخيرها لمنافعها أو جعلها غذاء لها.

للمسلمين يوم الجمعة ثبتت خصوصيته بنص كتابهم القرآن وسنة نبيهم عليه

الصلاة والسلام وعمل سلفهم الصالح، ولليهود يوم السبت بنص كتابهم التوراة

وعمل سلفهم من عهد موسى صلى الله عليه وسلم، وللنصارى يوم الأحد برأي

بعض رؤساء الكنيسة لا بنص من المسيح عليه الصلاة والسلام ولا من حواريه في

الإنجيل، ولا في الرسائل التي يطلق على مجموعها العهد الجديد، وإن العهد

الجديد مبني على أساس العهد العتيق الذي هو مجموع كتب اليهود من الأسفار

المنسوبة إلى سيدنا موسى، والكتب المنسوبة إلى أشهر أنبياء بني إسرائيل عليهم

السلام، وفي الإنجيل أن المسيح عليه السلام قال: ما جئت لأنقض الناموس وإنما

جئت لأتمم، والناموس هو شريعة موسى، ولكن النصارى نقضوه بالتأويل لجمل

قالها بولس في رسالته لأهل غلاطية ورسالته لأهل رومية.

قال بعض علماء البروتستانت: إن الناموس يطلق على شريعة موسى الأدبية

والطقسية والسياسية، أما الشريعة الأدبية فمختصرها الوصايا التي أنزلها الله على

موسى في لوحين من حجر، وأما الناموس الطقسي أو ناموس الشعائر الدينية،

فكان دستورًا لعباده العامة والخاصة، وبه تعرف كيفية الذبائح والصيام والتطهير

والصلاة والأعياد، ويتدرج إلى الناموس السياسي الذي أفرز شعب الاسرائليين من

جميع الشعوب المجاورة، ولما كان ناموس الشعائر هذا يشير إلى المسيح؛ فلذلك

ألغي عند إتيانه. اهـ المراد بحروفه. والعبرة فيه أن الوصية في التوراة بحفظ

يوم السبت من الشريعة الأدبية المقارنة لتوحيد الله تعالى وعدم الشرك به، وللنهي

عن القتل والزنا والسرقة، فهي لم تنسخ بمجيء المسيح. وكيف تنسخ به هذه

الوصية وهي ركن من أركان الدين وقواعده الاساسية، ونطق العهد العتيق بتقديس

يوم السبت في الكلام عن مبدإ الخلق والتكوين.

جاء في الفصل الثاني من سفر التكوين (2 وفرغ الله في اليوم السابع من

عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل 3 وبارك الله

اليوم السابع وقدسه؛ لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقًا) ثم أكد

على لسان موسى تأكيدًا، وشدد في حفظه وتقديسه وترك العمل فيه تشديدًا.

جاء في سفر الخروج (16: 23 فقال لهم (موسى) هذا ما قال الرب: غدًا

عطلة سبت مقدس للرب. اخبزوا ما تخبزون واطبخوا ما تطبخون، وكل ما فضل

ضعوه عندكم ليحفظ إلى الغد - إلى أن قال - لا يخرج أحد من مكانه في اليوم

السابع 30 فاستراح الشعب في اليوم السابع) .

(وفيه من الوصايا) (20: 8 اذكر يوم السبت لتقديسه 9 ستة أيام تعمل

وتصنع جميع عملك. وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك. لا تصنع عملاً ما

أنت وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي دخل أبوابك 11 لأن في ستة أيام

صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع لذلك

بارك الرب يوم السبت وقدسه) ونحوه في 23: 12 و34: 21 منه.

وفي تثنية الاشتراع من الوصايا أيضًا (5، 12) احفظ يوم السبت لتقدسه،

كما أوصاك الرب إلهك 13 ستة أيام تشتغل وتعمل جميع أعمالك 14 وأما اليوم

السابع فسبت للرب إلهك، لا تعمل فيه عملاً ما أنت وابنك وبنتك وعبدك وأمتك

وثورك وحمارك وكل بهائمك ونزيلك الذي في أبوابك؛ لكي يستريح عبدك وأمتك

مثلك.

وفي الفصل الرابع من أرميا تأكيد عظيم الوصية بيوم السبت، ووعد لهم

بالجزاء على ذلك في الدنيا بدخول ملوك ورؤساء مدينة أورشليم وتسكن إلى الأبد،

وتجلب إليها الذبائح والمحرقات واللبان، ثم قال في آخر الفصل: (27 ولكن إذا

لم تسمعوا لي لتقدسوا يوم السبت؛ لكيلا تحملوا حملاً ولا تدخلوا في أبواب أورشليم

يوم السبت، فإني أشعل نارًا في أبوابها فتأكل قصور أورشليم ولا تطفئ) ا. هـ

وأرميا بقوله حكاية عن الرب.

وأما الوعيد في الأسفار المنسوبة إلى موسى على مخالفة هذه الوصية فشديدة

جدًا، ففي الفصل الحادي والثلاثين من سفر الخروج ما نصه: (12 وكلم الرب

موسى قائلاً: وأنت تكلم بني إسرائيل قائلاً 13 سبوتي تحفظونها؛ لأنه علامة بيني

وبينكم في أجيالكم لتعلموا أني أنا الرب الذي يقدسكم 14 فتحفظون السبت؛ لأنه

مقدس لكم، من دنسه يقتل قتلاً، إن كل من صنع فيه عملاً، تقطع تلك النفس من

بين شعبها 15 ستة أيام يصنع عمل، وأما اليوم السابع فيه سبت عطلة مقدس للرب،

كل من صنع عملاً في يوم السبت يقتل قتلا 16 فيحفظ بنو إسرائيل السبت؛

ليصنعوا السبت في أجيالهم عهدًا أبديًّا 17 هو بيني وبين بني إسرائيل علامة إلى

الأبد؛ لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض، وفي اليوم السابع استراح

وتنفس) ا. هـ.

وفي أول الفصل الخامس والثلاثين منه (1 وجمع موسى كل جماعة بني

إسرائيل وقال لهم هذه الكلمات التي أمر الرب أن تصنع 2 ستة أيام عمل يعمل،

وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدس للرب، كل من يعمل فيه عملاً

يقتل 3 لا تشعلوا نارًا في جميع مساكنكم يوم السبت) .

وفي الفصل الخامس عشر من سفر العدد؛ أنه وجد رجل في البرية يحتطب

(35 فقال الرب لموسى قتلاً يقتل الرجل، يرجمه بحجارة كل الجماعة خارج

المحلة) فرجموه.

هذه هي النصوص التي عليها مدار تقديس يوم السبت في العهد القديم، وكان

عليها المسيح والمؤمنون به، كما يؤخذ من العهد الجديد، ففي قصة الصلب أن

المؤمنين والمؤمنات لم يخرجوا لأجل سيدهم الذي تركوه مساء الجمعة مصلوبًا

حسب رواية الأناجيل الأربعة، ولكن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة

ذهبن صباح الأحد للبحث عنه.

إن المسيح عليه السلام جاء مصلحًا في اليهود، مزحزحًا لهم عما كانوا عليه

من الجمود، ولذلك أباح الأعمال الضرورية والخيرية في يوم السبت فقط، ولم

يأمر بتقديس يوم الأحد ولا غيره، في أول الفصل الثاني عشر من إنجيل متى؛ إن

التلاميذ لما جاعوا وأكلوا السنبل يوم السبت، قال الفريسيون للمسيح: إن تلاميذك

يفعلون ما لا يحل فعله في السبت 3 فقال: أما قرأتم ما فعله داود حين جاع هو

والذين معه 4 كيف دخل بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لم يحل أكله له ولا للذين

معه، بل للكهنة فقط

إلخ ما ذكره، وفيه ذكر مثل يفهم منه أن الضروريات

كانت تحل عندهم وهو (أي إنسان منكم يكون له خروف واحد، فإن سقط هذا في

السبت في حفرة، أفما يمسكه ويقيمه

) ثم قال: إذاً يحل فعل الخير في السبوت.

والقصة مذكورة في آخر الفصل الثاني من إنجيل مرقص أيضًا، وفيها أن

داود أكل وأطعم الذين كانوا معه، وأن المسيح قال: (السبت إنما جعل لأجل

الإنسان لا الإنسان جعل لأجل السبت) وتتمتها في أول الفصل الثالث منه وفي أول

الفصل السادس من إنجيل لوقا بنحو ما تقدم، وفي الفصل الثالث عشر منه؛ أنه أبرأ

في السبت امرأة كان فيها روح ضعف، فأنكر ذلك عليه رئيس المجمع

فأجابه المسيح (15 وقال: يا مرائي ألا يحل كل واحد منكم في السبت ثوره أو

حماره من المذود ويمضي به ويسقيه 16 وهذه وهي ابنة إبراهيم قد ربطها الشيطان

ثماني عشرة سنة، أما كان ينبغي أن تحل من هذا الرباط في يوم السبت) .

وفي الفصل الخامس من إنجيل يوحنا أنه شفي مريضًا وأمره بالذهاب، فحمل

سريره وذهب، فأنكرت اليهود عليه، ولما علموا أنه هو الذي أبرأه عزموا على

قتله؛ عملاً بحكم التوراة، قال يوحنا: (18 فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون

أكثر أن يقتلوه؛ لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضًا: إن الله أبوه معادلاً نفسه

بالله) .

فقد صرح يوحنا بأنه نقض يوم السبت، ولكن في عمل الخير، فالذي يتبع

المسيح حقيقة يترك عمل الدنيا يوم السبت إلا ما كان ضروريًا، ويجعل كل عمله

برًّا وخيرًا، وأما استحلال كل عمل يوم السبت وتحريم العمل يوم الأحد فهو من

تقاليد الكنيسة؛ لأجل مخالفة اليهود في شعائرهم وتقاليدهم، ويعللون ذلك بأن يوم

الأحد قد صارت له مزية، ليست ليوم السبت بقيام المسيح فيه، وسماه بولس

وغيره يوم الرب، ويمكن أن يجابوا بأن هذه المزية لا تقتضي تحريم العمل فيه،

ولم لا تقولون: إن ليوم الجمعة مزية بوقوع الصلب فيه على حسب اعتقادكم، وبه

كان فداء البشر وخلاصهم واحتمال اللعنة عنهم، فهو أجدر بأن يترك العمل فيه.

روت الجرائد أن القس أخنوخ فانوس خطيب الحركة القبطية أثبت في

المؤتمر القبطي؛ أن من يعمل يوم الأحد عملاً يقتل، وكأنه ذكر ما قلناه آنفًا عن

العهد العتيق في تقديس يوم السبت وحوله إلى يوم الأحد، والنصوص لا تقبل

التحول، فإن لفظ السبت قد تكرر مراراً وتكرر ذكر علته، وهي علة لا توجد في

غير السبت، وقد جعلها العهد العتيق عهدًا أبديًا بين الرب وبين عباده المخاطبين

بها، والأبدي لا ينسخ ولا ينقض، ولنا في هذا المقام مسائل:

(1)

أن العقوبة المترتبة على ترك تقديس يوم السبت وهي القتل والرجم

هي من الناموس الطقسي أو السياسي، وقد قلتم: إن هذا قد نسخ بظهور المسيح.

(2)

إذا كان هذا العقاب لم ينسخ، وإنما نسخ يوم السبت بيوم الأحد،

فصار له حكمه، فلماذا لا نرى حكومة من الحكومات المسيحية تقتل من يعمل يوم

الأحد رجمًا بالحجارة كما فعل موسى، هل تركت جميع الحكومات المسيحية هذا

الحكم، وتريد أن تقيمه أنت يا أخنوخ في مصر.

(3)

إن القتل جزاء دنيوي، فإذا تركه الحكام في الدنيا، فهل يكونون

تاركين لنصوص دينهم فاسقين منه أم لا.

(4)

إذا ترك هذا العقاب في الدنيا، فهل له بدل في الآخرة أو يوم الدين

(أو الدينوية كما تعبرون) أم لا، فإذا لم يكن له بدل، فلماذا يهول به أخنوخ أفندي

في خطبته.

(5)

إذا كان العمل في يوم الأحد جريمة، يستحق صاحبها القتل بالرجم

كالزاني عند اليهود، وقد نسخت النصرانية رجم الزاني ولم تنسخ رجم العمل في

يوم الأحد؛ لأنه أقبح عندها، فهل جهل ذلك بطارقة القبط وغيرهم من رؤساء

الديانة النصرانية أم علموه؟ وإذا كانوا علموه، فلماذا تركوا النهي عن هذه

المعصية الكبرى، وسمحوا لأبناء دينهم بالعمل في الحكومة المصرية وبغير ذلك

من الأعمال.

(6)

إذا كان جميع حكام النصارى في ممالكهم، وجميع رؤساء الدين

المسيحي في مصر وما يشابهها من البلاد، قد تركوا هذه النصيحة الدينية عن علم

أو غير علم كما يفهم من كلام الخطيب المفوه أخنوخ أفندي، فلماذا ترك هو ذلك

أيضًا، وقد خصه الله بهذا العلم وهذه الغيرة على الدين، فلم يظهر علمه ونصحه

إلا في هذه الأيام؟ ؟

إن مجال القول في هذا الباب واسع ولا فائدة في التطويل فيه، والأمر الذي

لا مراء فيه هو الواقع؛ وهو أن لكل ملة من الملل الثلاث يومًا، وأن المسلمين

واليهود من النصوص الدينية على يومهم في كتبهما ما ليس للنصارى مثله، ولا

يتحول أحد عن يومه إلا في بعض الأمور التي يضطر فيها إلى اتباع من هو أقوى

منه، وقد اتبع النصارى المسلمين في الحكومات الإسلامية؛ كحكومة مصر في

ترك العمل يوم الجمعة، كما اتبع المسلمون حكومات النصارى في ترك عمل

الحكومة يوم الأحد في مثل روسية. وقد أحست القبط بأن الاحتلال أخرج حكومة

مصر عن كونها حكومة إسلامية، بل جعلها مسيحية أو كاد؛ ولذلك طلبوا أن يترك

فيها العمل يوم الأحد.

ليس سعي هذه الطائفة الحية المعتصمة بمقوماتها الملية إلى هذا من مبتكرات

مؤتمرها الجديد، بل هو سعي قد صار قديمًا، وكادوا بإلحاحهم فيه على المحتلين،

يذهبون بحلمهم، ويرفعون درجة الحرارة في دمهم البارد إلى درجة الغليان.

استأذن بعض وجهائهم مرة على مستر دنلوب وكان كاتب السر لنظارة

المعارف، فظن دنلوب أن له شغلاً يتعلق بالمعارف، فلما أذن له، طفق يتكلم عن

وجوب ترك الحكومة العمل في يوم الأحد دون الجمعة، ويحثه على السعي لذلك

حتى غضب، وقال له: بأي حق أم بأية صفة غير نظارة الحكومة الأساسي، قم

فاخرج من هنا.

إن ما عجز عنه هذا الوجيه الغيور، كاد يظفر به ذلك النابغة المشهور، فقد

كان أقنع مستر سكوت المستشار القضائي ولورد كرومر بالابتداء بذلك في نظارة

الحقانية، وأمر المستشار بترك العمل في المحاكم يوم الأحد، فترك أيامًا ثم عاد

الأمر كما كان بسعي الأستاذ الإمام وإقناعه اللورد ومستر سكوت بسوء مغبة هذا

التغيير، كما كان دأبه في أمثال هذه الأمور.

وفي العام الماضي كثر خوض الجرائد الأوربية المصرية وبعض جرائد

المسيحيين العربية في هذا المسألة، وتحدثت بوجوب تقرير الحكومة المصرية للعيد

الأسبوعي وجعله إجباريًّا للحكومة والأمة، وكانت تحوم حول يوم الأحد لترجحه

على غيره، فتدندن وتجمجم تارة وتبين تارة أخرى، وكانت جريدة الأخبار الغراء

تختار صفوة أقوال تلك الجرائد في ذلك، وهي هي الجريدة التي تنصر ببراعتها

دينًا على دين، وحزبًا على حزب، وطائفة على طائفة وأمة أو دولة على أخرى،

من غير أن يكتب صاحبها كلمة واحدة بإمضائه، أو يصرح بأن ذلك من مذهبه

وآرائه، وإنما ينال ما يريد بعناوينه ومختاراته (كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود) .

إنني أرفع صوتي مشيدًا بالثناء على جريدة الأخبار وجرائد القبط والإفرنج

وسائر جرائد النصارى التي تؤيد ترجيح يوم الأحد على يوم الجمعة وترجيح كل ما

ينسب إلى ملتهم على غيره، أثني على أصحاب هذه الجرائد وكتابها بالارتقاء الملي،

والجهاد الأدبي الذي يجعلون به ملتهم قدوة الملل، وقومهم سادة الأقوام، وأي

ارتقاء أعلى من ارتقاء العدد القليل، يطلب فينال ما لم يكن له من العدد الكثير،

وإذا شعر خصمه بأنه قد هوجم لإزالة مقوماته ومشخصاته القومية، ونسخ شعائره

وتقاليده الملية، وأراد الدفاع عن نفسه، والمحافظة على دينه وجنسه، جعل

متعصبًا مذمومًا بمدافعته ومهاجمته، متساهلاً محمودًا في مهاجمته.

كان الغالب على المسلمين أن لا يشعروا بما يناله غيرهم منهم؛ لأن ذلك

يجري بالهدوء ولطافة النسمات، وهيمنة العاشقين في الخلوات، والنائم المستغرق

لا توقظه إلا الصيحات والصاخات. ألم تر أن المسيحيين الغيورين قد أقنعوا كثيرًا

من تجار المسلمين بترك العمل في يوم الأحد والاشتغال في يوم الجمعة؟ وهل

يستطيع جميع المسلمين أن يقنعوا مسيحيًّا واحدًا بترك العمل في يوم الجمعة

والاشتغال في يوم الأحد لا لا ولماذا؟ أليس لأن المسيحيين أعرف من المسلمين

بقيمة المحافظة على الشعائر والمقومات الملية، وأقدر في ميدان المجاهدة

الاجتماعية والأدبية، بلى وليكونن الظفر لهم في كل ما يريدون إلا أن يقتدي

بهم في ذلك المسلمون فحينئذ تكون العزة في كل مكان للكاثر.

يظن بعض الجاهلين منا أن أمر عمل الحكومة في يوم الجمعة سهل، وأنه لا

ينافي الدين في شيء، إذا أمكن للمسلم أن يؤدي فرض الجمعة، لذلك أختم هذه

النبذة ببعض ما ورد في الجمعة.

(1)

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ

فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9)

فأوجب الله تعالى السعي إلى الصلاة، وترك البيع في وقتها. ومثل البيع غيره من

الكسب والأعمال التي تحول دون هذه الفريضة، وإن كانت من أعمال البر، وورد

في الأحاديث من التغليظ على ترك الجمعة ما لم يرد في عبادة أخرى؛ ومنه: (إن

من تركها ثلاث مرات طبع الله على قلبه) ، وفي رواية: (فقد نبذ الإسلام وراء

ظهره) .

(2)

ورد في غسل الجمعة أحاديث متعددة صحيحة وحسنة، من أشدها

تأكيدًا حديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) رواه مالك وأحمد والبخاري

ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وحديث غسل يوم الجمعة واجب

كوجوب غسل الجنابة؛ رواه الرافعي عن أبي سعيد الخدري بسند صحيح.

(3)

التبكير إلى المسجد، قال صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم

الجمعة غسل الجنابة) أي غسلاً تامًا مثل غسل الجنابة لأجل الجمعة (ثم راح) أي

إلى المسجد (في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنه) أي كأنما تصدق عليه بجمل أو

ناقة. (ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة. ومن راح في الساعة

الثالثة، فكأنما قرب كبشًا. ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة. ومن

راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة. فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة

يستمعون الذكر) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وفي فضيلة البكور أحاديث وآثار

كثيرة.

ولا يتيسر الغسل والتبكير إلى المسجد مع الاشتغال في دواوين الحكومة فلا

شك أنها عائق عن هذه الأعمال الدينية المؤكدة.

(4)

يوم الجمعة عيد ملي لنا في مقابلة يومي السبت والأحد لأهل الكتاب

ففي حديث الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نحن

الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم

فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع؛ اليهود غدًا والنصارى بعد غد)

وفي معناه أحاديث أخرى، وفي بعضها التصريح بتسمية عيدًا. وفي مسند الشافعي

وغيره أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (هذه الجمعة فضلت بها أنت

وأمتك، فالناس لكم فيها تبع؛ اليهود والنصارى) ، وفي رواية لابن أبي شيبة أن

جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (تكون عيدًا لك ولقومك من بعدك ويكون

اليهود والنصارى تبعًا لك) ، فهل يرضى مسلم جعله الله ورسوله متبوعًا في

الجمعة أن يتركها ويكون تابعًا لغيره في يوم عيده الديني؟ وهذا أمر مشهور عند

المسلمين، حتى قال الشاعر:

عيد وعيد وعيد صرن متجمعة

وجه الحبيب ويوم العيد والجمعة

ولولا خشية السآمة على القارئين لأطلت في هذه المسألة، وقد ظهر بهذه

الإشارات الوجيزة أن يوم الجمعة عيدنا الملي، فلا نعدل به غيره ولا نستبدل به

سواه، وإلا كنا تاركين لشعائرنا، جانين على ديننا وجامعتنا، وأما علة تمييزه؛ فقد

ورد من بيانها في الأحاديث الصحيحة أن الله تعالى خلق فيه آدم، وفيه تقوم الساعة،

أي ينبغي لنا أن نشكر الله في هذا اليوم على خلقه إيانا، ونستعد فيه ليوم لقائه.

إن أهل كل ملة من الملل الثلاث، يحافظون على يوم عيدهم الأسبوعي

جهدهم، يقول بعض الناس: إن من مصلحة الأمة أو البلاد أن يتفق أهلها على يوم،

يتركون فيه الكسب والعمل في الحكومة والمصالح؛ لأجل اتحاد الأمة وتقوية

الروابط الاجتماعية بينها، نقول: نعم.. وإن البلاد المصرية مؤلفة من المسلمين

وهم الأكثر، ومن النصارى واليهود وفيها بعض الوثنيين والبابية، والجميع لا

يزيدون على ثمانية في المئة، فهل من العدل ترجيح يوم الأحد عشر مليونًا أم

ترجيح يوم من أيام الملل التي يتألف منها بقية المصريين، وهم لا يكادون يعدون

مليونًا واحدًا.

الأمر ظاهر، والصواب واضح. ولكن بعض الفئات القليلة حسب أن الفئة

الكبيرة قد مات شعورها الملي، وتقطعت روابطها الاجتماعية، فصار يسهل أن

تكون تابعة لا متبوعة، وقد يقوم الدليل على صحة هذا القول من أفعال الكثيرين

الذين قطعوا الروابط القديمة؛ ليستبدلوا بها الرابطة الوطنية، فهدموا بناءهم القديم

ولم يقدروا على إقامة هذا البناء الجديد (الوطنية) إلا في مخيلات بعض الشبان،

السواد الأعظم من الأمة المصرية لم يفهموا حقيقة هذه الوطنية إلى اليوم، فالتعجيل

بالقضاء على شعائرها الملية، بمثل هذه الصيحة القبطية، مما يزيد استمساكها بها

كما تقدم.

هذا ما أحببت بيانه في هذه المسألة، وسأبحث في النبذة الخامسة من هذا

المقال في مسألة التعليم الديني. إن شاء الله تعالى.

***

(النبذة الخامسة)

(التعليم الديني في مدارس الحكومة)

لجميع الحكومات المدنية مدارس، ولا نعرف حكومة منها تعلم في مدارسها

دينين فأكثر أو أديان رعيتها، ولا مذهبين فأكثر من مذاهب الدين الواحد فيها.

في البلاد الروسية أكثر من عشرين مليونًا من المسلمين، وفيها كثير من

اليهود، ولا يلقن في مدارس حكومتها إلا المذهب الأرثوذكسي من مذاهب

النصرانية؛ لأنه مذهب الحاكم العام وأكثر الأهالي، بل الحكومة الروسية تضيق

على المسلمين في مدارسهم الدينية، فلا تسمح لهم أن يعلموا فيها كما يحبون

ويعتقدون، وقد رأينا بعض العلماء الذين نفتهم من بلادهم وأخرجتهم من ديارهم

وأقوامهم، ولا ذنب لهم إلا التعليم الذي يرقي التلاميذ المسلمين.

وفي الجزائر البريطانية كثير من الكاثوليك، ولا تسمح الحكومة لهم بأن

يلقنوا مذهبهم في مدارسها، بل المذهب الذي يدرس فيها هو مذهب البرتستانت الذي

عليه ملك الإنكليز وأكثر الشعب الإنكليزي، فهل تسمح هذه الحكومة الحرة بأن

يدرس في مدارسها دين اليهود من رعاياها، وهي لا تسمح بتدريس مذهب

الكاثوليك من مذاهب دينها؟ ولا نشرح ما يشترط على ملك الإنكليز أن يقوله عند

تتويجه من الطعن في الكاثوليكية والبراءة منها، ولا منع الحكومة الإنكليزية

الكاثوليك من إظهار بعض شعائر مذهبهم في عيد الفصح أو غيره، وقس على

ذلك سائر دول أوربة.

وفي البلاد العثمانية من الأديان والمذاهب، ما لا يوجد في غيرها، ولكن دين

الدولة الرسمي هو الإسلام ومذهبها هو الحنفي، فهي لا تسمح أن يدرس في

مدارسها غير المذهب الحنفي من المذاهب الإسلامية دع الأديان الأخرى، ولم يكن

الحنفية هم أكثر مسلمي البلاد العثمانية، وإنما كثرتهم في البلاد العربية الدولة

نفسها.

كانت البلاد المصرية ولا تزال بلاد عثمانية، لم تتنازع إنكلترة ولا غيرها

من الدول في ذلك. وإنما فوضت الدولة أمر إدارتها إلى محمد علي الكبير وذريته

بشروط منصوصة في الفرمانات التي يولي بها السلطان العثماني كل خديوي من

هذه الذرية، وكان مذهب محمد علي وذريته هو المذهب الحنفي، فلما صار

للحكومة المصرية مدارس رسمية كسائر الحكومات المنظمة، جعلت تعليم الدين

فيها خاصًّا بالمذهب الحنفي على قلة الحنفية في هذا القطر، فإن أكثر أهله شافعية

ويليهم في العدد المالكية والحنفية العدد الأقل، ولولا الحكومة وحصرها الوظائف الدينية في الحنفية، لكان وجود الحنفي في هذا القطر أندر من وجود الشافعي أو المالكي أو الحنبلي في بلاد الترك، إلا من يرحلون إلى الأزهر لتلقي

العلوم الإسلامية فيه ثم يعودون إلى بلادهم.

من المعقول أن يرجح دين الحاكم العام ومذهبه على غيره، فيكون هو الذي

يدرس في مدارس حكومته دون سواه، ومن المعقول أيضًا أن يرجح مذهب السواد

الأعظم من الأمة على مذهب الحاكم العام، وأن يترك هو مذهبه إلى مذهب

الجمهور، وإذا اتفق أن استولى حاكم على شعب مخالف له في الدين، فمن المعقول

أن يترك للشعب حريته الدينية ولا يصادره فيها، ولا يعقل أن يرضى الشعب

بإتباع دين الحاكم المتغلب باختياره، كما يرضى باتباع مذهبه إذا كان موافقًا له في

أصل الدين، إلا إذا كان الخلاف في المذهب قويًّا، يتناول ما يعد من الأصول

كمذاهب النصرانية وبعض المذاهب الإسلامية.

وأما الذي لا يوزن بميزان العقل، ولا يقاس بمقياس المصلحة، ولم ينص في

شرع ولا قانون، ولم يقل به فيلسوف ولا مجنون، ولم تفعله حكومة من حكومات

الأرض، فهو ما يطالب به مؤتمر القبط الحكومة المصرية. حكومة شكلها إسلامي،

حاكمها العام مسلم، تعترف الدول كلها أنها تحت سيادة خليفة المسلمين رعيتها

أكثر من تسعة أشعارهم من المسلمين، والباقون لهم عدة أديان ومذاهب. تطالب

هذه الحكومة بأن يدرس في مدارسها دين غير دين الحاكم العام، والسواد الأعظم

من أهل البلاد! !

إذا كان هذا من الحق والعدل والمساواة كما تدعي القبط، فالواجب على

الحكومة الخديوية أن تدرس في مدارسها كل دين ومذهب، يتبعه فريق من أهل

بلادهم كاليهودية بمذهبيها الكبيرين والنصرانية بمذاهبها الثلاث. والإسلامية

بمذاهبها في الأصول والفروع: مذهب السنة ومذهب الشيعة ومذهب الإباضية،

والمذاهب الأربعة في الفروع، وإلا فما هي مزية القبط على اليهودية؟ وأي مذهب

من مذاهبهم يرجح على الآخر، إذا لم تدرس المذاهب كلها؟ .

تقول القبط: إن لنا من الحقوق في هذه الحكومة ما ليس لغيرنا؛ لأننا سكان

البلاد الأصليين، ويجيبهم المسلمون على هذا بأربعة أجوبة:

(1)

إننا لا نسلم أنكم سكان البلاد الأصليين، وسلالة الفراعنة المستكبرين،

وقد صرح المسلمون بهذا، وأيدوه بأقوال مؤرخي الإفرنج.

(2)

إذا سلمنا أنكم من سلالة قدماء المصريين، فإن لنا أن نتبع فيكم سنة

أرقى الحكومات المسيحية علمًا وعدلاً وحرية في سكان بلادها الأصليين، وهي

حكومة الولايات المتحدة، فهل ترضون أن تكون حقوقكم في هذه البلاد كحقوق

هنود أمريكة في حكومتها الآن، وهم أهلها الأصلاء بغير خلاف؟

(3)

إنكم تقولون: إن أكثر مسلمي هذه البلاد منكم وأقلهم من العرب

والترك والشركس، فلا مزية لكم في هذا النسب الشريف على جمهور المصريين

المسلمين، ولهم المزية عليكم بكثرتهم، وكون الحاكم العام من أهل دينهم، وذلك

سبب للترجيح متبع في الحكومات المسيحية الراقية.

(4)

إن طول زمن الإقامة في بلد لا يقتضي التفضيل في الحقوق، وقصره

لا يقتضي الحرمان من شيء منها، متى كان القوم الذين طالت مدتهم أو قصرت

من أهل البلاد المقيمين فيها خاضعين لشريعتها وقوانينها، نعم.. إن الحكومات قد

حددت في هذا العصر الزمن الذي يكون فيه الغريب عنها وطنيًا داخلاً في جنسيتها

السياسية. وقد بالغت مصر في ذلك مالم تبالغ الحكومات الراقية، فجعلت المدة

التي يصير فيها الغريب مصريًا خمس عشرة سنة. فهذه الحكومة الإسلامية تجعل

لأدنى أجير قبطي من الحقوق في بلادها ما لا تجعله لأعظم أمير من شرفاء

المسلمين يقيم فيها خاضعًا لحكومتها، قبل أن تتم له تلك المدة (15سنة) فيها،

ومن نال هذه الجنسية بشرطها كان له من الحقوق مثل ما لغيره من المصريين، سواء

كانوا من آل فرعون الذي لعنه الله، أم كانوا من قوم موسى الذي كلمه الله.

كان بنو إسرائيل دخلاء في مصر وفضلهم الله تعالى في كتبه على آل فرعون

، ثم فضل الله تعالى العرب واصطفاهم بإرسال رسوله منهم، مثلما اصطفى إخوتهم

بني إسرائيل من قبلهم بإرسال رسوله منهم، كما أشار إلى ذلك في سفر تثنية

الاشتراع، فكيف تطالب حكومة مصر التي تدين الله تعالى بتفضيل الشعب

الإسرائيلي والشعب العربي في النسب على الشعب الفرعوني؛ أن تميز الشعب

المفضول في كتب الله على الشعب الفاضل بل الشعبين الفاضلين، على أن الأنساب

في دين هذه الحكومة وشرعها، لا تقتضي التفضيل في الحقوق على

قدر الفضل في النسب.

فعلم مما بيناه أن النسب الفرعوني الذي تدل به القبط غير مسلم لهم، وإذا

سلم جدلاً فهو لا يقتضي تفضيلهم على اليهود، بل اليهود أشرف منهم نسبًا؛ لأنهم

ينتسبون إلى أنبياء الله تعالى، والقبط تنتسب إلى الفراعنة الوثنيين أعداء الله تعالى،

وإذا لم يكن لهم صفة تقتضي تميزهم على غيرهم من المصريين، فقد هدم الأساس

الذي بنوا عليه طلب تعليم دينهم في مدارس الحكومة. نعم.. إن القبط لا يدينون

دين الفراعنة، بل دينًا يرجحه الإسلام على ذلك الدين، ولكن دينهم ودين اليهود

سواء في نظر الإسلام، ولما كان تعليم كل الأديان والمذاهب المعروفة في مصر

متعذرًا في مدارس حكومتها، كان من العدل والمصلحة المتبعين في الحكومات

الراقية أن لا يدرس في مدارس هذه الحكومة إلا دين الحاكم العام الذي هو دين

أكثر الشعب، ولا بأس بما جرت عليه من ترجيح مذهب الحاكم على مذهبي

جمهور الشعب، وإذا فتح باب التعدد، فإن أصحاب المذاهب الإسلامية كلها

يطلبون تدريس مذاهبهم لأولادهم في مدارس الحكومة.

حدثني الثقة أن ناظرة من ناظرات المدرسة السنية الإنكليزيات، كتبت تقريرًا

لنظارة المعارف على عهد فخري باشا، قالت فيه ما حاصله: إن الغرض من تعليم

البنات وتربيتهن على الفضيلة والتقوى لا ينال إلا بالدين، فيجب أن يكون الدين

هو الأساس الذي يقوم عليه بناء تعليم البنات وتربيتهن في هذه المدرسة، والفائدة

تتم بأي دين من الأديان الثلاثة الموجودة في هذه البلاد. ولا يجوز أن يكون في

مدرسة واحدة أكثر من دين واحد؛ لأن ذلك مفسد للتربية، فيجب أن يكون الدين

الإسلامي إجباريًا عامًا في هذه المدرسة - ومثلها غيرها أو غيرها مثلها - لأنه دين

الحكومة وأكثر الأهالي.

أهمل هذا التقرير في النظارة، وكان جزاء الناظرة الفيلسوفة التي كتبته:

إخراجها من المدرسة، وإعادتها إلى بلاد الإنكليز التي تسع فلسفتها العالية وأفكارها

السامية، بخل مستر دنلوب بها على هذه البلاد، واستبدل بها ناظرة أخرى لا

تصل إلى حل سيور حذائها، ثم بدلت الأخرى. ولكن لم تر المدرسة بعد تلك ولا

قبلها مثلها؛ لأنها كانت من أرقى نساء الإنكليز أخلاقًا وأدبًا وأفكارًا.

لو أجبرت الحكومة الخديوية أولاد القبط الذين يدخلون مدارسها على تلقي

دروس الدين الإسلامي والعمل بها، لكان لها قدوة في الإفرنج الذين تقلدهم في أكثر

أعمالها، ولا أعني بالإجبار إكراه التلاميذ بقوة على ذلك، وإنما أعني أن يكون ذلك

شرطًا لا يقبل في المدارس إلا من يلتزمه، ولكن هذه الحكومة لم تفعل ذلك لا في

عهد الاحتلال ولا قبله، لا لأن أمها الدولة العثمانية لم تفعله، بل لأنه لم يعهد في

الإسلام الذي يرمى أهله بالتعصب، وإنما عهد عند المسيحيين الذين يفخرون علينا

بالتسامح والتساهل.

في هذه البلاد معاهد للتعليم تديرها الحكومة، وينفق عليها من أوقاف

المسلمين المحبوسة على تعليم أولادهم خاصة، والحكومة تقبل في هذه المعاهد

أولاد القبط فتعلمهم على نفقة المسلمين، مخالفة في ذلك شرط الواقف لأجلهم. فهل

تسمح القبط بإنفاق قرش واحد من أوقافها على تعليم مسلم؟

إن أمر المسلمين في تسامحهم مع القبط، وترجيحهم لهم على أنفسهم لغريب،

لم يعهد له نظير في الأرض، وقف الخديوي الأسبق إسماعيل باشا واحدًا

وعشرين ألف فدان على تعليم أولاد المسلمين، وهي الأرض التي تسمى (تفتيش

الوادي) ، ووقف جده من قبله ثلاثة آلاف فدان على تعليم أولاد القبط، فكان

عطاؤه للقبط أكثر؛ لأنهم لا يبلغون ثمن المسلمين، فاستأثرت القبط بما وقف عليها

وشاركت المسلمين فيما وقف عليهم، ثم ترفع جرائدها عقيرتها مستغيثة بأوربة

المسيحية من ظلم المسلمين لهم في التعليم، ويصدقها مؤتمرها على ذلك.

من هذا القبيل؛ مساعدة أوقاف المسلمين للجامعة المصرية بخمسة آلاف جنيه

في كل سنة، وهي مفتحة الأبواب للقبط وغيرهم، وطلبتها من غير المسلمين لا

يقل عددهم عن المسلمين.

بلغ من طمع القبط في المسلمين أن طلبوا تعليم أولادهم في بعض مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية على نفقة الجمعية، فلم يقبل ناظر المدرسة، فشكوه إلى

رئيس الجمعية قائلين: إن لهم الحق في التعليم في هذه المدارس؛ لأنهم مصريون قبل

كل شيء! ! وقد جعل أعضاء مجلس إدارة الجمعية هذه الشكوى محل النظر، ومال

بعضهم إلى إجابة الطلب، لولا أن قامت الحجة عليهم؛ بأن قانون الجمعية الأساسي

قد صرح بأن الغرض من هذه الجمعية إعانة فقراء المسلمين وتربية أولادهم لا فقراء

المصريين.

اشتهرت مصر بأنها بلاد العجائب وحق لها أن تشتهر بذلك، فمسلموها يقفون

أرضهم حتى على أديار القبط، وينفقون من ريع أوقافهم الخاصة بهم على تعليم

القبط، وحكومتهم تسمح للقبط بأن يعلموا دينهم في مدارسها، وهو مالا نظير له في

الحكومات الأوربية التي تقتدي بها، والقبط تشكو من ظلمهم وتستغيث بأوربة منهم،

وتُدل عليهم بنسبها، وتدعي أنها صاحبة البلاد، وأنها أجدر بحكمها، وتسخر من

المسلمين وتدعي أنها أكبر منهم كفاءة، وأن ما أخذته من الوظائف في الحكومة وفي

المصالح والمزارع، حتى أوقاف المسلمين الخاصة بهم، فقد أخذته بحق، وهي

أولى به وأحق، وما بقي في أيدي المسلمين وهو أقل هذه الوظائف والأعمال،

فليس لهم فيه حق، بل هم هاضمون به حقوق سلائل الفراعنة وأصحاب البلاد

الأصلاء، فيجب أن يرد إليهم أو أن يأخذوا الآن نصيبًا منه.

قد علمنا بالقياس المطرد المنعكس؛ أن القبط لا يأخذون شيئًا إلا ويطلبون ما

بعده، فلا يجاب طلب إلا ويعقبه طلب، ولا ينتهي أرب إلا إلى أرب، ولا يقنع

هذه الفئة القليلة العدد، الكثيرة النشاط، الكبيرة الطمع، إلا أن يكون الحلم والنفوذ

في هذه البلاد خالصًا لها من دون المسلمين. وهذا شأن الشعوب التي تحيا وتنم مع

الشعب التي تموت وتفنى: الحي يتغذى دائمًا بما يتصل به من الأغذية، والمشرف

على الموت تنحل عناصره وتتفرق، فتكون غذاء للأحياء الأخرى، والحياة قسمان:

حياة مادية وحياة معنوية، وسنة الله تعالى في نظامها واحدة.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 201

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(الرحلة الحجازية)

(لولي النعم الحاج عباس حلمي باشا الثاني خديوِ مصر)

في سنة 1327 حج إلى بيت الله الحرام عزيز مصر عباس حلمي الثاني،

وقد أخذ في صحبته طائفة من العلماء والأدباء والكتاب، منهم صديقنا محمد لبيب

بك البتنوني الشهير صاحب (الرحلات) المشهورة، فكتب في ذلك (الرحلة

الحجازية) وأودعها من الفوائد، ووصف الآثار والمشاهد، وتاريخ الأماكن

والمعاهد، ونظام القوافل والمسالك، وأحكام وحكم المناسك، ما لا تجده مجموعًا

في كتاب، ورتب ذلك في الرحلة أجمل ترتيب، وفصل الكلام فيه أحسن تفصيل،

وجعل فيها من رسوم المعاهد المقدسة ما زادها حسنًا وجمالاً، وزاد ما فيها من

الوصف والبيان إيضاحًا، ففيها بعد رسم الأمير الذي وضع قبل الديباجة رسم ميناء

جدة، فرسم صلاة الجمعة في الحرم المكي ترى الألوف فيه مستديرين حول الكعبة

المشرفة، ثم رسم جبانة المعلى، وباب الصفا من أبواب الحرم، ورسم آخر للكعبة

والحرم في وقت الصلاة وغير وقت الصلاة، ورسم قافلة الحجاج بين منى وعرفة،

والحجاج بخيامهم في عرفة، ورسم جبل عرفات ومنظر رمي الجمار، ومسجد

الخيف بمنى، وموكب الخديوي ذاهبًا لزيارة الشريف، ورسمه بين حاشيته من

رجال الملكية والعسكرية، ومنظر المدينة المنورة، وباب السلام بالحرم النبوي من

داخل الصحن، والقبة النبوية وباب الرحمة فيه، وغير ذلك من الرسوم الشمسية،

وفيها رسوم غير شمسية وعدة خرائط للبلاد المقدسة وغيرها؛ كخريطة العالم

الإسلامي، وخريطة مكة، والحرم المكي، وعرفات ومنى والطرق إلى الحرمين،

ومساكن المدينة، ومنظر المدينة المنورة نفسها.

ومن مباحث الكتاب المهمة بحث كسوة الكعبة، والمحمل، واحترام الأحجار

وتقديسها في الأمم، والحج عند الأمم المختلفة، ومنع الأجانب من دخول الحرمين،

ومشاعر الحج قبل الإسلام، وأصل لباس الإحرام، وماضي المدينة وحاضرها،

والكلام على المحاجر الصحية، وسكة الحديد الحجازية، والآثار القديمة بالشام،

ومدينة بطره. وجملة القول أن هذه الرحلة جديرة بأن تكون ذكرى وتاريخاً لحج

أمير مدني كعزيز مصر، التي هي في مقدمة البلاد الإسلامية مدنية وارتقاء، وقد

طبعت طبعًا نظيفًا يليق بها.

ويجدر بنا ههنا أن نقول كلمة في حج الأمير، فقد سبق لنا أن أنكرنا في المنار

على ملوك المسلمين وأمرائهم ترك فريضة الحج إلى بيت الله الحرام. والظاهر من

حالهم أنهم قد تركوا هذا الركن من أركان الإسلام عمدًا، وأنهم وطنوا أنفسهم على

تركه لا أنهم ينوون أداءه، ويتساهلون فيه بالتراخي حتى يدركهم الموت، وإلا لاتفق

لبعضهم أداؤه. وأكثرهم يعرفون أن ترك الحج عمدًا فسق واستحلاله كفر.

وإن للسياسة السوءى تأثيرًا في ذلك. وقد كان من مزايا أمير مصر عباس حلمي

الثاني تشوقه إلى الحج، وكان استأذن عبد الحميد في أيام سلطنته بذلك فلم يأذن له،

ولم يكن من المستطاع أن يحج بدون إذنه، فلما زالت دولة عبد الحميد، وصارت

الدولة دستورية لا يمكنها منعه من الحج، بادرإلى أداء هذه الفريضة.

كان نبأ حج أمير مصر في عاصمة الدولة عظيمًا، حتى إنه كان مما يخطر

على بال المطلع على ما هنالك أن الحكومة لو وجدت سبيلاً لمنعه منه لسلكتها،

والظاهر أنه لم يحفل بالأمارات ولا بالإشارات التي علم منها كراهتها لذلك، وكان

حجه حديث الآستانة وموضع بحث وتعريض في جرائدها حتى الهزلية المصورة

منها، وقد سمعت هنالك حديث الوزراء وغيرهم في ذلك، وسألني الكثيرون عن

رأيي فيه، بعضهم صرح بالسؤال واكتفى بعضهم بالتلويح والتعريض، وقال لي

الصدر حسين حلمي باشا يقولون لي كلامًا كثيرًا عن حج الخديوِ، وأنا لا أصدق

أن له مقصدًا سياسيًّا. فذكرت له وكذا لناظر الداخلية وغيرهما أنني أعتقد أنه

ليس له غرض سياسي، وأعلم أنه كان ينوي الحج منذ سنين، وأنه استأذن

السلطان عبد الحميد في ذلك فلم يأذن له، وأنني قد ذكرت هذا في المنار وفي تفسير

القرآن قبل الدستور، وسألني غير واحد هنالك هل الخديو متدين حقيقة يحج تدينًا؟

فأجبت بأن المعروف المشهور أنه يصلي ويصوم ولا يشرب الخمر قط، وهل

الحج إلا فريضة كالصلاة والصيام؟

صفحات الرحلة 266، وثمن النسخة خمسة وعشرون قرشًا ما عدا أجرة

البريد.

(كتاب التوحيد)

يشتغل صديقنا الشيخ حسين والي المدرس في الأزهر ومدرسة القضاء

الشرعي بتأليف كتاب في علم الكلام سماه (كتاب التوحيد) ، وقد تم الجزء الأول

منه وطبع على ورق جيد، افتتح مقدمة الكتاب ببضع آيات من أول سورة التغابن

جامعة لأصول العقائد وهي: الإيمان بالله والوحي إلى الرسل واليوم الآخر، ثم قال:

أما بعد فهذا (كتاب التوحيد) الذي رأيت أن أكتبه لتلاميذي الكبار في مدرسة

القضاء الشرعي، أخذت في تأليفه درسًا درسًا، فكان كتابًا منجمًا، وسلكت فيه

سبيل المؤمنين، وهي سبيل ِالجمهور من أهل السنة. ولكني نظرت إلي خصمهم

من ستر رقيق، واطلعت على حجج الفريقين، ووزنتها بميزان النصفة والعدل،

فثقلت موازين قوم وخفت موازين آخرين، وكنت على أريكة الحكم مع اليقظة

والاستقلال، وذلك أشرف المناصب. وما كنت بدعًا في هذا الأمر، فقد سبقني إليه

مثل القاضي البيضاوي فنزعت منزعه. ولكن على قدر حاجة التوحيد ومساغه،

وذلك رأي مدرسة القضاء الشرعي؛ لأنها لم تجد خيرًا من ذلك في الحالة الراهنة،

بيد أنه شعب الطرق كثيرًا وما شعبتها، ولما سار فيها أخذته الحيرة أحيانًا وما

أخذتني، وهاب من يصدون عن السبيل وما هبت؛ لأني أعددت لذلك عدتي،

والعدة في هذا الزمان أكمل منها في الزمان الماضي، وتلك سنة الله في الأشياء،

فإن الأشياء تتقدم إلى الصلاح والكمال بتقادم الزمان، والحازم من ركب لكل حال

سيساءها، ولبس لكل حرب لبوسها.

إن كل طائفة من (كتاب التوحيد) تشرح صدرك، وتترك في نفسك أثرًا

صالحًا، لا يعقبه مرض في القلب، ولا غشاوة على البصر، وتؤذنك بأن الذي

خلق الأول خلق الآخر، وأن العقول جنس واحد، وأن الهالك فيما مضى لم يشهد

الزمن الذي بعده، وأن الحي الآن قد شهد الزمنين، فهو أوسع علمًا، وأسد رأيًا.

قد خلت من قبلنا أمم، وأصبحنا في جيل غير جيل، وعدوّ غير العدوّ،

فاتركونا أيها الجهلاء نقاتل عدونا بمثل سلاحه، وإلا فادعوا آبائكم الأولين.

{إِن تَدْعُوَهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ

بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14) .

هذا كتاب الله يقيم الشهادة إلى يوم القيامة، فينصفني في قوله، ويؤيد حجتي،

وعما قليل يفاجئ نوره الأبصار، ويقرع وعظه الأسماع، ويسكن يقينه الأفئدة ،

ثم تكون له السيطرة التامة، فيرجع الناس إليه في العلم وغيره.

{وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81)

ا. هـ.

هذا ما بين به المصنف غرضه من الكتاب وطريقته التي يسلكها، وحبذا

الطريقة وحبذا البيان، وخير منه الوفاء به، ولما نقرأ الكتاب. ولكننا نشير إلى

ملخص فهرسه.

جاء بعد تلك الفاتحة بفصول وجيزة في (أطوار التوحيد) يعنى تاريخ العقائد،

ثم بفصول في (مبادي التوحيد) يعنى مبادي هذا العلم كموضوعه ومسائله

واستمداده، ثم بفصول في (النظر) ، والمسائل العامة عند المتكلمين، فتكلم عن

الممكن والوجود، والعدم والحال، والوجوب والامتناع، والإمكان والقدم،

والحدوث والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول، والدور والتسلسل والماهية. هذه

أمهات مسائل الجزء الأول الذي صدر من هذا الكتاب، وهو مرتب ترتيبًا حسنًا،

ومطبوع على ورق جيد، وصفحاته365 من قطع رسالة التوحيد، وثمن النسخة

منه خمسة عشر قرشًا.

(كلمة التوحيد)

عقيدة للشيخ حسين والي صاحب كتاب التوحيد، ألفها لتلاميذ السنة الأولى

من القسم الأول من طلاب مدرسة القضاء الشرعي، كما ألف ذلك الكتاب المطول

لتلاميذ القسم الثاني. وقد بدأ هذه العقيدة بكلام وجيز في تاريخ التوحيد وأمهات

العقائد وكتبها وعقائد العوام، والحديث المتواتر فيها، وأحكام العقل الثلاثة، وأهل

السنة والمعتزلة والدور والتسلسل، ثم تكلم في الصفات وتعلقها، والنبوة والإمامة،

وذكر الإسراء والمعراج والرؤيا، ثم السمعيات والكلام في هذه العقيدة على

الطريقة المعروفة في كتب المتأخرين من السنوسي ومن بعده، ولكن الترتيب أحسن

والعبارة أجلى.

***

(تمرين الإملاء، في الخلق والأدب واللغة والإنشاء)

للشيخ حسين والي كتاب اسمه الإملاء في علم الرسم سبق لنا تقريظه، وقد

قرر تدريس ذلك الكتاب في الأزهر وفي مدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم

وكلية غردون. ولكن ينقص ذلك الكتاب كثرة الشواهد والأمثلة التي يتمرن بها

الطلاب جريًا على الطريقة الحديثة في التعليم، لهذا وضع مؤلفه كتابًا خاصًّا لذلك؛

إنجازًا لما وعد في آخر كتاب الإملاء، ولم يجعل تمرينه كلمات مفردة ولا جملاً

منثورة مختصرة، بل جاء بنبذ في الأخلاق والآداب من مختار الشعر، فجمع فيه

بين الفائدتين، وقد طبع على ورق جيد وصفحاته 304.

(مذاهب الإعراب وفلاسفة الإسلام في الجن)

توجهت همة صديقنا الشيخ جمال الدين القاسمي عالم الشام المشهور إلى جمع

ما تفرق في الأسفار العربية الكثيرة من الأقوال في الجن، فجمعها من عشرات من

المصنفات، ورتبها ترتيبًا حسنًا، فذكر آراء علماء اللغة، ونقولهم في مواضع

الجن ومراتبها، والغول والهاتف والاستهواء والعزيف والصرع والطاعون، وما

نسب إلى الجن من الأعمال، ثم ذكر أقوال المتقدمين والمتأخرين من الفلاسفة

والمتكلمين في الجن، وختم الكلام في تمثل الأرواح، وكون الجن من الأرواح،

وما جاء من علماء الإفرنج في ذلك مترجمًا من معجم لاروس الفرنسي ودائرة

المعارف البريطانية، وفي مسألة التعزيم ودعوى سكنى الجن في الخرائب وغير

ذلك. وقد نشر ذلك كله في مجلة المقتبس، ثم طبعه على حدته وهو مفيد في بابه

لا يستغني عنه من يريد تمحيص هذا المبحث، وفي هذه الرسالة من الفكاهة

والأدب وغرائب الروايات عن الجن ما يلذ لكل قارئ، فهي رسالة قد جمعت بين

اللذة والفائدة.

_________

ص: 226

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(مسجد في لوندره)

لوندره عاصمة دولة إنكلترة أكبر مدينة في الأرض، وأكثرها ساكنًا، وهى

لا تخلو من عدد كبير من المسلمين؛ ما بين مقيم وزائر، ومتعلم ومتظلم ومتجر،

فإن زهاء نصف مسلمي الأرض تحت سلطان هذه الدولة ونفوذها، منهم في الهند

وحدها تسعون مليونًا من النفوس بحسب إحصاء هذه السنة.

اجتماع المسلمين وتعارفهم في تلك العاصمة له فوائد كبيرة، ولا يتيسر لهم

ذلك في مدينة سكانها ستة ملايين أو يزيدون، إلا إذا كان لهم معهد معروف

يؤمونه من كل جهة، ولهذا رأى بعض المفكرين أنه ينبغي للمسلمين أن يبنوا لهم

مسجدًا هنالك، ويبنوا بجانبه ناديًا للاجتماع والخطابة، ويجعلوا فيه مكتبة للمطالعة.

سبق أذكياء المسلمين إلى هذا الرأي من ليس منهم، وأنفذه لمنفعته لا لمنفعتهم

وأراد غيره أن يعمل مثل عمله في باريس، فقد ذكرنا في ص479 من مجلد المنار

الثامن (سنة1323) أن الخواجة ليون لامبير كان رغب إلينا أن نقنع الأستاذ الإمام

رحمه الله تعالى بأن يجعل (مشروع بناء مسجد بباريس) تحت رياسته، وكان

الأستاذ مريضًا فلم نحدثه بذلك، وبعد وفاته بلغنا أنه التمس من شيخ الأزهر أن

يجعل هذا المشروع تحت رياسته، فقبل ولم نعلم ماذا كان بعد ذلك.

ذكرنا هذا الخبر في ذلك المكان أي منذ ست سنين، وعقبنا عليه بأننا نرجو

أن لا يكون مسجد باريس كمسجد لوندره الذي حدثنا الأستاذ الإمام عنه بما يأتي،

قال رحمه الله تعالى:

خطر لرجل يهودي كان مستخدمًا في الهند أن يجمع من المسلمين مالاً، يبني

به مسجدًا في لوندره، فجمع خمسين ألف جنيه، ثم جاء لوندره فبنى مسجدًا في

خارجها على مسافة ساعة في السكة الحديدية، وهو مكان لا يصل إليه أحد من

المسلمين في لوندره، فهو مغلق دائمًا لا يصلي فيه أحد، وقد اشترى الرجل أرضًا

لنفسه عند الجامع، وبنى فيها بيتًا لنزهته، فإذا علم أن بعض أمراء المسلمين أو

أغنياءهم زار لوندره، يبحث عنه ويدعوه إلى داره وإلى رؤية المسجد، ولما زار

نجل أمير الأفغان عبد الرحمن خان لندره في عهد والده، أجاب دعوة هذا اليهودي

إلى داره ومسجده، وبعد الطعام أعطاه خمس مئة جنيه، ولا يخالنَّ أحد أن الأمير

كان مبسوط الكف لكل أحد يتصل به أو يخدمه، فقد كان خالد أفندي أستاذ اللغة

التركية في مدرسة كمبردج (مهندارا) للأمير في لوندره لزم خدمته، وأعد له كل

وسائل الراحة، وهو لم ينعم عليه إلا بجنيه واحد لم يقبله. ا. هـ

ما نقلناه عن الأستاذ الإمام وقد عقبنا عليه في المنار بالتنبيه إلى افتتان

المسلمين بالأجانب، حتى في أمور دينهم، فهم يبذلون لهم من أموالهم حتى باسم

الدين ما لا يبذلونه لمن يخدم الدين منهم.

خليل خالد بك الذي ذكره الأستاذ في هذا السياق؛ هو الذي بذل وقته مع

جماعة من المسلمين رئيسها القاضي مير علي الهندي العالم المشهور، للسعي في

إنشاء مسجد في لوندره نفسها، يكون مثابة للمسلمين فيها، وقد بدأ الدعوة إلى

التبرع له في العام الماضي بالآستانة، فلم يتبرع له فيها إلى الآن إلا بنحو أربعة

مئة ليرة، وقد جاء مصر في هذه الأيام لأجل جمع الإعانات منها، فعني به بعض

أهل النجدة وألفوا له لجنة تحت رياسة رياض باشا الذي هو عدة مصر وعتادها في

أعمال الخير والمصالح العامة، وقد أعد خليل بك خالد خطبة تركية للدعوة إلى

المشروع، ترجمت بالعربية، ودعت اللجنة جمهور الوجهاء والفضلاء إلى

الاجتماع في قبة الغوري ضحوة الجمعة؛ لسماع الخطبة باللغتين فاجتمعوا، وبعد

أن قرأ بعض الحفاظ آيات من القرآن الكريم فيها ذكر عمارة المساجد، ألقى خليل

خالد بك خطبته، وتلاه الشيخ عبد الوهاب النجار فتلا ترجمتها، ثم رفيق بك أحد

أعضاء اللجنة بخطاب وجيز، تكلم فيه عن أول مسجد أسس في الإسلام، وهو

مسجد قباء، وعن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون، ثم دعي أحمد زكي بك

الكاتب الأول لأسرار مجلس النظار، فألقى خطابًا ذكر فيه ما كان من عناية

المسلمين في العصور الأولى ببناء المسجد أينما وجدوا، حتى في بلاد الأجانب،

وذكر من الشواهد على هذا المسجد الذي بناه بعض الصحابة في غلطة من الآستانة،

وحث الناس على التبرع للمشروع، وقال: إنه هو يتبرع بعشرة جنيهات على

قدر حاله، واعتذر عن إظهار ذلك مع نهي الدين عن إظهار الصدقات.

***

(إظهار الصدقات وإخفاؤها)

بعد أن أتم أحمد ذكي بك خطابه المفيد، قام كاتب هذه السطور فألقى خطابًا

وجيزًا في الاستدراك على ما قاله الخطيب في مسألة إظهار الصدقات وبيان الحق

في ذلك؛ لأجل الحث على التبرع للمسجد، قلت بعد الثناء على الخطيب ما مثاله.

لم يكن يخطر في بالي أن أقوم خطيبًا في هذا الجمع، ولكن ما قاله الخطيب

في الصدقات يحتاج إلى استدراك وإيضاح لا بد منهما؛ لئلا يظن بعض الناس أن

الدين الإسلامي يحرم الصدقات الجهرية أو يكرهها، فيقبضون أيديهم أن تجود في

مثل هذه المحافل على ما تدعى إليه من البر.

قال الله تعالى: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ

فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 271) فمدح إبداء الصدقات وإظهارها مطلقًا، وفضل

إخفاءها فيما يعطى للفقراء منها بما يدل على أن مقابله جائز، بل محمود أيضًا.

إخفاء الصدقة على الفقراء خير من إظهارها؛ لما في الإظهار من كسر قلوب

الفقراء المتجملين، وما في الإخفاء من الستر عليهم والتكريم لهم. وأما وضع

الصدقة في المصالح العامة، فليس فيه هذا المعنى وإبداؤها قد يكون حينئذ خيرًا من

إخفائها؛ لما فيه من حسن القدوة والترغيب في التعاون على الخير، وما زالت

القدوة الصالحة مصدر البركات وسببًا في كثرة الأعمال الصالحات، وقد أمرنا الله

تعالى أن ندعوه بأن يجعلنا أئمة في الخيرات، بمثل قوله:{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) .

إن من يطلب المال ليضعه في مصلحة عامة، يسره أن يجاب جهرًا، كما

يسر كريم النفس أن يجاب إلى ما يطلبه لنفسه سرًّا، والإخلاص موضعه القلب،

ولا ينافيه أن يحب المؤمن ظهور فضله بالحق، وإنما المذموم في كتاب الله أن

يحب المرء أن يحمد بغير حق، قال تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا

وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العَذَابِ} (آل عمران:

188) والإسلام دين الفطرة، فليس فيه ما يمنع المسلم أن يظهر كل ما يميل إليه

استعداده من الحق والخير، ولا سيما إذا تعدى نفعه، وكان فيه قدوة لغيره.. إلخ.

بعد هذا افتتح رياض باشا الاكتتاب بمئة جنيه، وتبرع الشيخ قاسم آل إبراهيم

نزيل مصر بمئة جنيه، وتبرع غيرهما من الأغنياء بما دون ذلك من الآحاد

والعشرات إلى الخمسين، وكان مجموع التبرعات في تلك الجلسة زهاء ست مئة

جنيه، وستبلغ الألوف في وقت قريب إن شاء الله تعالى.

* * *

(قانون الأزهر في مجلس الشورى، والاحتفال بالمتناقشين فيه)

سبق لنا ذكر قانون الأزهر الجديد، وقد نظر فيه مجلس الشورى، ونفخ

بعض مواده وأقر أكثرها، وقد كان من رأي محمود باشا سليمان رئيس حزب الأمة،

وعلي شعراوي باشا وفتح الله بك بركات وأحمد بك حبيب؛ أن لا يكون حق

تعيين شيخ الأزهر للخديوي، واقترحوا أن يكون بالانتخاب وألا يعزل، وكذلك

أنكروا أن ينعقد مجلس الأزهر الأعلى برياسة الخديوي عند الاقتضاء، وكانت

المناقشة في المادتين الناطقتين بهذين الحكمين شديدة في المجلس، وكان أشد

المعارضين لهؤلاء في رأيهم محمد باشا الشواربي وكيل مجلس الشورى.

رأى حزب الأمة هذه المناقشة فرصة لتأسيس حزب شعبي في المجلس،

يسميه الحزب الديمقراطي أو الحزب الحر، يكون أبطاله هم الذين اقترحوا أن

ينتخب كبار علماء الأزهر الشيخ له، فلا يكون للأمير تعيين من شاء ولا عزل

الشيخ الذي يختاره العلماء، وأن يكون شيخ الأزهر هو رئيس المجلس الأعلى دائمًا

فأطلقوا على الأعضاء الخمسة اسم الحزب الديمقراطي الحر، ودعوا كثيرًا من

الوجهاء إلى حفلة شاي في فندق (كونتيننتال) إكرامًا لهم، حضرها زهاء مئتي نسمة،

وألقيت فيها الخطب في المعنى المقصود.

عبرت الجرائد عن هؤلاء بحزب الأقلية، وقد قابلهم حزب الأكثرية باحتفال

آخر، كان الداعي إليه حسن باشا زايد باسمه ونيابته عن جمهور من سراة القطر

المصري، أقيم هذا الاحتفال في فندق (سفواي) وأجاب الدعوة إليه قاضي مصر

وشيخ الأزهر وكبار علمائه، وزهاء مئة وخمسين رجلاً من وجهاء القطر ورجال

الصحافة الوطنيين والأجانب، وكنت ممن دعي من الصحافيين وإن لم أبد رأيًا،

ولم أكتب كلمة في موضوع الخلاف. ونصبت للمدعوين موائد الطعام وبعد الفراغ

من العشاء، قام في القوم الشيخ حسن السرهويتي من علماء المنوفية، فشكر

الحاضرين بالنيابة عن حسن باشا زايد، ثم خطب في المعنى المقصود سيف النصر

باشا وحسين بك هلال وموسيو كولرا محرر القسم الفرنسي من جريدة الأيجبت،

ومستر منسفيلد محرر القسم الإنكليزي فيها، ثم الشيخ علي يوسف مدير المؤيد

وموسى باشا غالب.

هؤلاء هم الخطباء الذين كانوا مندوبين للخطابة، ثم اقترح الشيخ علي يوسف

على فارس أفندي نمر أحد أصحاب المقطم أن يقول شيئًا، فتكلم بعد الشكر لحسن

باشا زايد كلامًا وجيزًا في الاتفاق بين أهل القطر، وقال: إنه لا يحق له أن

يتعرض لمسائل الأحزاب، وأنه يوافق موسيو كولرا على رأيه الذي أبداه، وهو

استحسان ما جاهر به الفريقان من المختلفين في الرأي في قانون الأزهر، وهو

جعل مقام الجناب الخديوي فوق الأحزاب.

ثم اقترح عليّ الشيخ علي يوسف أن أتكلم بعد أن سألني؛ هل يوجد عندي

مانع من الكلام؟ فقلت: لا.. وهذا ما وعيته من خطابي:

أيها العلماء الأعلام. أيها السراة والفضلاء الكرام:

إنني بعد حمد الله تعالى، والصلاة والسلام على رسوله، أقول كلمة في حالنا

العامة الآن، تعلمون أننا الآن في دور انقلاب ودور انتقال من حال إلى حال، وفي

هذا الطور تكون الأمم على خطر، إذا هي طفرت إلى التقدم طفورًا، ولم تسر

على سنن الكون بالتدريج، فإن ضرر التحول السريع ولو من حال إلى أعلى منها،

ضرره أكبر من نفعه، والخوف منه أقوى من الرجاء فيه.

في هذا الطور يكثر المقلدون الذين يميلون إلى اقتباس ما عند الشعوب القوية

من خير وشر وحسن وقبيح. وفيه تكثر الاقتراحات التي يمكن تنفيذها والتي لا

يمكن تنفيذها، فكل ما نسمعه بمصر من طلب تغيير القديم طبيعي لا بد منه. يطلبون

الدستور ولهم أن يطلبوه، ولكن الوصول إلى المطلوب إنما يكون بالسير على سنن

الكون التدريجية، كذلك ميل الكثيرين إلى المحافظة على القديم طبيعي، ولا بد منه

في هذا الطور، سواء كان ذلك لتفضيل القديم على الجديد، أو للعلم بعدم إمكان

الجديد أو بعدم مجيء وقته لعدم استعداد الأمة له.

لا ترتقي الأمم إلا بطلب استبدال ما هو أدنى من قديمها بالذي هو خير منه،

ولو مقتبسًا من غيرها، ولا تبقى الأمم إلا بالمحافظة على قديمها، والتريث في

التحول عن الضار منه، حتى لا يكون طفرة تُخشى عاقبتها. وإن هذه البلاد سائرة

على طريق التحول بالتدريج، والخطر عليها عظيم من العجلة والطفور، ولكنه لا

يقع إن شاء الله تعالى.

أمامنا مثال ظاهر على هذا وهو الجامع الأزهر. كان هذا المعهد العلمي العظيم

إلى عهد قريب كأنه بمعزل عن سائر طبقات الأمة، يجري أهله فيه على ما تعودوا

من طرق التعليم بغير نظام مدوّن ولا قانون متّبع، ولم يكن أحد يعرف طريقتهم

وحالهم إلا من جاور فيه معهم. وقد وضع له في هذا العصر عدة قوانين، كان كل

منها مناسباً للوقت الذي وضع فيه، كما تقتض سنة التدريج في التحول، حتى

وصلنا إلى الحالة التي نحن فيها اليوم.

ها أنتم أولاء، ترون أمامكم في هذا الفندق المدني العصري أكابر علماء

الأزهر الأعلام، يحضرون احتفالاً جمع بين الكثيرين من طبقات الأمة المختلفين

في الدين والجنس وبعض الأفراد من الأجانب، وقد عقد هذا الاحتفال لأجل الأزهر

فإنه احتفال بالذين أقروا قانون الأزهر الجديد الذي هو أوسع وأعلى من قوانينه

السابقة.

أليست هذه خطوة واسعة في التحول عن القديم إلى الجديد، تكاد تكون وثبة

غير تدريجية؟ أليس وجود هؤلاء العلماء الأعلام بينكم، وهم الذين يعد أمثالهم في

كل الأمم أقوى المحافظين على القديم؛ آية من آيات الاستعداد لما يسمونه

الديموقراطية في لغة أهل السياسية؟

لا أقول: إن قانون الأزهر الجديد الذي تحتفلون بتقرير مجلس الشورى له

هو منتهى الكمال المطلوب لهذا الجامع ولكنه إذا تيسر تنفيذه يكون من الارتقاء

التدريجي المطلوب بل أخشى أن يكون فوق التدريجي.

قلت: إنه يخشى على الأمة في طور الانتقال من التحول السريع، ولكنها إذا

تركت إلى سنن الكون ونواميسه في الترجيح بين طلاب الجديد والمحافظين على

القديم، فإنها تسلك طريق التدريج الذي لا خطر فيه، وإنما يكون التحول الفجائي

بالقوة القاهرة التي يلجأ إليها طلاب الجديد في بعض الأمم، وهذه القوة غير

موجودة في مصر، فلا خطر على هذه البلاد من طلب ما لا حاجة إليه، ولا من

طلب الشيء قبل أوانه، فعلينا إذًا أن نحترم حرية رأي غيرنا، كما نحب أن يحترم

رأينا ولكننا نجتهد في تنفيذ ما نراه نحن هو الأصلح.

هذه كلمتي الأولى في هذا المقام، ولي كلمة أخرى في هذا الاحتفال،

والاحتفال الذي قبله. قال الأستاذ الشيخ علي يوسف في خطبته: إنه بدأ بالشكر

للذين احتفلوا بالعدد القليل من أعضاء مجلس الشورى؛ لأنه كان سبب الاحتفال

بالجمهور الكثير من أعضائه، وقال: إن المجلس حصل فيه وكذا في الجمعية

العمومية خلافات كثيرة؛ في مسائل أهم من المواد التي اختلفوا فيها أخيرًا من

قانون الأزهر، وأدل على الشجاعة الأدبية، ولم يكن أحد يحتفل بالمخالفين لرغبة

الحكومة ولا بالموافقين.

وأنا أشاركه في الشكر لهؤلاء وأولئك المحتفلين، وأعده من آيات ارتقاء هذه

البلاد وأعمالها النافعة، إننا لم نكن نبالي من قبل بالأمور العامة، والآن صرنا

نبالي بها، إن اجتماع العدد الكثير من طبقات الأمة في محفل واحد لأجل المصلحة

العامة، يرى بعضهم وجوه بعض، ويسمع بعضهم حديث بعض هذا الاجتماع

يقوي في نفوسهم حب المصلحة العامة والاهتمام بها والحديث فيها، ويسري ذلك

منهم إلى غيرهم، فيكون وسيلة إلى انتشاره في الأمة كلها، وذلك من أسباب

الارتقاء السريع الذي لا خطر فيه.

حق لي بعد هذا البيان أن أشكر لحسن باشا زايد وإخوانه العناية بهذا الاحتفال

النافع، سمعت أنه قيل: إن حسن باشا زايد لم يتعلم في الأزهر ولا في غيره من

المدارس العالية أو غير العالية، فيعرف صواب الرأي في قانون الأزهر، فيحتفل

لأجله عن بصيرة، وأنا أقول: إن الأمم لا ترقى بالمتعلمين في المدارس وحدهم.

إن عماد ارتقاء الأمم هم أصحاب المواهب الفطرية والاستعداد العالي الذي يزجي

هممهم للقيام بالمصالح العامة. حسن باشا زايد لم يتعلم في المدارس، ولكنه

باستعداده الطبيعي ومواهبه الفطرية يدير ثروة واسعة، وينفق منها على المصالح

العامة: كالجامعة المصرية ومؤتمر تحسين العميان وغير ذلك.

لو تعلم حسن باشا زايد في المدارس العالية ونال شهادتها وألقابها وهو عاطل

من هذه الحلية الفطرية، لكان لنا منه واحد من المتعلمين الكثيرين الذين لا حظ

لأمتهم منهم غير شقشقة اللسان وتنميق الكلام، ولكن حسن باشا زايد يعلم الآن بماله

كثيرًا من النابتة، فهو إذًا ليس فردًا متعلمًا ولكنه أمة معلمة.

التعليم يحتاج إلى المال، وإنما يكون ارتقاء الأمة بالأغنياء الذين يبذلون

أموالهم لترقية الأمة ورفعة شأنها، لا بالذين يدعون خدمتها بالقول فقط، أولئك

الباذلون المحسنون هم زعماء الأمة ومربوها، فنسأل الله أن يكثر فينا من أمثالهم.

***

(عقد قران صاحب المنار)

في يوم الجمعة سادس عشر ربيع الأول الأنور، احتفل في ددّه من أعمال

الكورة الشمالية بجبل لبنان؛ بالعقد لصاحب المنار على الأميرة أمينة كريمة

المرحوم الأمير (هدى) درويش الأيوبي، والأمراء الأيوبية؛ كانوا حكام هذا القسم

الشمالي من كورة لبنان، وهم ينتسبون إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي. وكان

وكيلي في العقد شقيقي السيد حسن، ووكيل الفتاة شقيقها الأمير أحمد هدى، وتولى

صيغة العقد الأستاذ السيد الشيخ عبد الفتاح الزغبي الجيلاني نقيب الأشراف في

طرابلس الشام، وحضر الاحتفال كبار العلماء والوجهاء والسادة من طرابلس

والقلمون والكورة، وكان الاحتفال أرقى ما عهد من نوعه. وقد نصبت فيه موائد

الطعام للمئين من المدعوين، وأديرت كؤوس المرطبات على جماهير الحاضرين،

وتوفرت فيه أسباب السرور، فلم يشب صفوها كدرعلى كثرة الشبان الذين يحملون

السلاح من أهل القريتين وغيرهما، وقد طير البرق خبره إلى مصر في حينه،

فنشر في الجرائد الكبرى كالمؤيد والمقطم والأهرام، فنسأل الله التوفيق في هذا

الطور الجديد في الحياة.

***

(الوطنية والإسلام)

نشرت جريدة (العلم) لسان حال الحزب الوطني بمصر في (ع 279 الذي

صدر في 11 ربيع الآخر) ترجمة كلام لمجلة (العالم الإسلامي) الفرنسية التي

تصدر بباريس، ذكر صاحبه الحركة الوطنية المصرية وعزاها إلى مصطفى كامل

باشا وخطأها بمثل قوله: وإنما كنا نعتقد فقط بأن ارتباط الإسلام بالنهضات الوطنية،

يكون سببًا لتشتيته وانقسامه على نفسه، فيفقد القوة التي اكتسبها إياه (؟) مدنيته

العمرانية، ونحن نهنئ مصر الإسلامية المولعة بالتقدم والرقي العقلي والاجتماعي،

وننتظر لها مستقبلاً سياسيًّا باهرًا، بحيث تسترد مركزها الإسلامي، وذلك بناء

على انتشار الحركة الإسلامية لا الحركة الوطنية المقيدة في دائرة من الدوائر.

(وإننا مع عدم إنكار الخدمات العظمى التي قام بها الحزب الوطني للأمة

المصرية، نخاف أن يسير بها في مأزق ضيق؛ لأنه لم يتبع الطريق الذي نراه

صالحًا) ا. هـ المراد بنص ترجمة جريدة العلم الركيكة.

وقد عقبت جريدة العلم على ذلك بهذه الجملة (يريد الكاتب أن يقول: بأن

الحزب الوطني أخطأ في عدم جعل الدين قاعدة لحركته، والجامعة الإسلامية وسيلة

لتحقيق مقاصده، وهذا هو مبدأ المجلة (أي مجلة العالم الإسلامي) التي نعرب

عنها مقال اليوم، كما أشرنا إلى ذلك سلفًا وهو ما لا نوافق عليه) .

(المنار)

إن صاحب مجلة العالم الإسلامي لم يذكر الجامعة الإسلامية، وإنما يعني أن

مصر لا ترتقي إلا بارتقاء المسلمين الذين هم السواد الأعظم بحركة إصلاح إسلامية

لا بدعوة وطنية، والحزب الوطني على خلاف ذلك؛ فإنه يفضل الحركة الوطنية

على الإسلامية.

ويقال: إن بعض أصحاب النفوذ في الحزب الوطني، سيظهرون الميل إلى

الاتحاد بالقبط وعدم مؤاخذتهم على ما كان منهم ولا غرو، فالوطنية الصحيحة التي

لا شائبة للدين فيها؛ تقتضي أن لا يمتاز وطني على وطني بسبب دينه، فإذا

قصرت القبط في حقوق الوطنية بتفضيل القبطي على غيره، فذلك لا يقتضي أن

يعاملهم زعماء الوطنية من المسلمين بعملهم؛ لأن الزعيم قدوة في الإيثار، ويجب

على القبط أن لا يعودوا بعد إلى مثل ما كانوا عليه من التحامل على الحزب الوطني

فإنه كان في هذه الأيام أقرب إليهم من سائر الأحزاب، ولم يرفع صوته الجهوري

المعروف في الدعوة إلى المؤتمر الإسلامي، بل جارى سائر الأحزاب بقدر

الضرورة.

***

(رأي مجلة الشرق والغرب، في جماعة الدعوة والإرشاد)

لدعاة النصرانية عدة صحف في مصر منها مجلة الشرق والغرب لقسوس

الإنكليز، ويكنون بالشرق عن الإسلام وبالغرب عن النصرانية، وقد بلغني أن

رأس مال هذه المجلة الصغيرة ستة آلاف جنيه، وهي من تبرعات الإنكليز

الحريصين على نشر دينهم ومذهبهم في هذه البلاد، فهل يعتبر بذلك المسلمون.

هذه المجلة أقرب إلى الأدب من أخواتها، وقد أرسلنا إليها النظام الأساسي

لجماعة الدعوة والإرشاد، فكتب أصحابها عنه خيرًا مما كتبه بعض المسلمين الذين

يدعون السبق في خدمة دينهم، كتبوا ما معناه أن الدين الحي لا بد له من الدعوة،

وأنه لا يسوءهم أن يدعو المسلمون إلى دنيهم، وأنه أعجبهم من نظام الجماعة عدم

الاشتغال بالسياسة، وههنا أدخلت المجلة شيئًا من التعريض الذي يغري الأوربيين

بمقاومتنا، فقالت: إنهم لا يستطيعون أن يفهموا أن شيئًا من الإسلام يخلو من

السياسة؛ لأن الإسلام مزج بينهما.

ونحن نجيب عن هذه التهمة التعريضية بجواب بديهي، ونرجو من إنصاف

أهل هذه المجلة نشره بالعربية والإنكليزية، كما نشروا الشبهة وهو:

إننا نعترف بأن السياسة في الإسلام قرينة الدين؛ بمعنى أن الإسلام جاء

بأحكام دينية وأحكام دنيوية سياسية ومدنية، ولكنه فرق بين الأحكام الدينية المحضة

وغيرها، ومن أحكامه أن المعاملات الدنيوية تكون عبادة دينية بإخلاص صاحبها

وتحريه الحق والعدل والمصلحة، كما يكون عاصيًا بضد ذلك، فحكام المسلمين

مأمورون بمراعاة أحكام الدين فيها، فإذا فعلوا يكونون أقرب إلى الحق والعدل،

ويجب عليهم حفظ الإسلام والدعوة إليه، فالسياسة إذًا تستلزم الدين في الإسلام.

وأما القسم الديني المحض من الإسلام، فلا يحتاج فيه إلى الساسة، بل لا

يكون إتقانه والإخلاص فيه إلا بتركها، فالذي يشتغل بالعقائد الإسلامية وإقامة

الدلائل عليها ورفع الشبهات عنها، وبآداب الإسلام وأخلاقه وعباداته علمًا وعملاً

وتعليمًا ودعوة إليها ودفاعًا عنها، لا ينبغي أن يشتغل بالسياسة ولا لأجل السياسة

بل الواجب عليه شرعًا أن يعمل ذلك لوجه الله وابتغاء مرضاته بالتقوى والهداية،

فإذا قصد مع ذلك التقرب من الحكام أو إرضاءهم، كان مرائيًا مذمومًا، وإذا عمل

لأجل السياسة فقط، كان عمله معصية لا طاعة، وكان مستحقًّا للعقاب عليه دون

الثواب، وقد أطلق في الكتاب والسنة اسم الشرك على مثل هذا الرياء.

فجماعة الدعوة والإرشاد تريد أن تخدم الإسلام، من حيث هو دين جاء لهداية

الناس وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا؛ بالتقوى والفضيلة والخير والبر،

وسعادتهم في الآخرة بالنجاة من عذاب الله والدخول في دار كرامته ورضوانه، ولا

تريد مطلقًا أن تشتغل بالقسم السياسي ولا القضائي منه، فلا تقصد أن تعد طلاب

مدرستها للقضاء الشرعي ولا للأعمال السياسية، وإنما تريد أن تعدهم لإرشاد عامة

المسلمين إلى حقيقة دينهم ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام من غير تعرض

لحكوماتهم ألبتة، أليس هذا مما يسهل على كل أحد أن يفهمه؟ كان الصالحون من

سلف الأمة والصوفية أبعد خلق الله عن الساسية وأهلها، حتى إنهم كانوا يفرون من

الحكام، ويكرهون لقاءهم إلا لحاجة دينية؛ كالحث على الخير والأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر، فهل يضيق فكر الأوربيين الواسع عن التصديق باتباع جماعة

من المسلمين لسلفهم الصالح في الدين الخالص من شوائب السياسة وأهواء الحكام،

مع وجود ذلك في جميع الأمم والأقوام؟

***

(المؤتمر المصري)

اقترحنا على المؤتمر المصري أن يكون له خمس لجان دائمة في المركز العام

بالقاهرة: لجنة للإدارة، ولجنة للتعليم والتربية، ولجنة للوعظ والإرشاد وإصلاح

حال العامة في دينها ودنياها، ولجنة مالية اقتصادية لحفظ الثروة وتنميتها، ولجنة

خيرية لإعانة المنكوبين والمعوزين، وبينا كيفية تأليف هذه اللجان وعلمها،

وسننشر ذلك في الجزء الآتي.

_________

ص: 231

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

فتحنا هذا الباب لإجابة أسئلة المشتركين خاصة؛ إذ لا يسع الناس عامة،

ونشترط على السائل أن يبيّن اسمه ولقبه وبلده وعمله (وظيفته) ، وله بعد ذلك أن

يرمز إلى اسمه بالحروف إن شاء، وإننا نذْكر الأسئلة بالتدريج غالبًا، وربّما

قدّمنا متأخرًا لسببٍ؛ كحاجة الناس إلى بيان موضوعه، وربّما أجبنا غير مشترك

لمثل هذا، ولمن مضى على سؤاله شهران أو ثلاثة أن يذكّر به مرةً واحدةً، فإن

لم نذْكره كان لنا عذر صحيح لإغفاله.

(سؤال عن فتوى)

(س21) من السيد عبد الله بن عبد الرحمن العطاس بسنغافوره

أرسل السائل إلينا السؤال الآتي مع جواب السيد عثمان بن عقيل عليه،

وكتب عليه ما يأتي:

هذا جواب عن ذلك السؤال، هل المجيب مصيب في تأصيله ما ذكر في

السؤال بما ذكر في الجواب أم مخطئ، وعن الأحاديث المذكورة فيه، هل هي

صحيحة مروية عن سيد السادة أم لا. وعما هو الحق في هذه المسألة، أفيدونا به

على صفحات المنار إحقاقًا للحق وإزهاقًا للباطل، فالله يديمكم ويرعاكم ويحفظكم.

وهذا نص السؤال والجواب المسئول عنه.

(هذا السؤال صدر من جماعة من المسلمين)

(من بندر سنغافوره)

ما قولكم فيما يعمله الناس في ليلة النصف من شعبان من قراءة سورة يس

المعظمة ثلاث مرات بنية مخصوصة، والدعاء المعروف بعد كل مرة هل هو

سنة وله أصل من الكتاب أو السنة أم لا؛ فإن بعض الناس يقول: إنه بدعة ليس

له أصل من الكتاب ولا من السنة، بينوا لنا حكم هذا العمل، وما هي البدعة

وأقسامها بيانًا شافيًا أثابكم الله، آمين.

(الجواب)

نسأل الله تعالى التوفيق للصواب، اعلموا وفقني الله وإياكم لمرضاته، أن هذا

العمل الذي ذكرتم له أصل من السنة، وقد عمل به الخاص والعام من العلماء

والصلحاء وعامة المسلمين في الأمصار والأعصار من غير إنكار، ممن يعتبر قوله

أما أصله فقد قال العلامة الشيخ علي بن محمد الخازن في تفسيره لباب التأويل في

معاني التنزيل في قوله تعالى: {فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان: 3) إلى قوله تعالى:

{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) وروى البغوي بسنده أن النبي صلى

الله عليه وسلم قال: تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان. وعن ابن عباس رضي الله

عنهما أن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة

القدر. انتهى. وقال العلامة السيد علي بن عبد البر الونائي في رسالته المتعلقة

بفضائل ليلة النصف من شعبان، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم قال: يكتب الآجال من شعبان إلى شعبان. اهـ. وقال

العلامة الشيخ سليمان الجمل في حاشيته على تفسير الجلالين، وعن ابن عباس

رضى الله عنهما أن الله يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها

في ليلة القدر. اهـ.

وأما قول أكثر المفسرين: إن قوله تعالى: {فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان:

3) هي ليلة القدر، وقال الشيخ الجمل في حاشيته ما معناه: إن المراد منه ظهور

تلك الأمور التي قدرها المولى عز وجل في قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) أي ظهورها للملائكة في ليلة القدر، وليس المراد أن تلك الأمور لا

تحدث إلا في تلك الليلة، فقد جاءت الأخبار الصحيحة بأن الله تعالى قدر تلك

الأمور في ليلة النصف من شعبان وسلمها للملائكة في ليلة القدر، انتهى.

ثم قال: وهذا يصلح أن يكون جمعًا بين القولين، وقال أيضًا: وإذا تقاربت

الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى انتهى. وقال السيد علي

الونائي في رسالته المذكورة: وعن عثمان ابن العاص أن النبي صلى الله عليه

وسلم قال: إذا كان ليلة النصف من شعبان نادى منادٍ هل من مستغفر فأغفر له هل

من سائل فأعطيه، فلا يسأل أحد إلا أعطاه إلا زانية أو مشركة وفي رواية: ما لم يكن عشارًا أو ساحراً أو صاحب كوبة أو عطربة وفي رواية عن

عائشة رضي الله عنها: إن الله يطّلع على عباده في ليلة النصف من شعبان، فيغفر

للمستغفرين، ويؤخر أهل الحقد بحقدهم، ثم أورد أحاديث كثيرة في فضل ليلة نصف

شعبان إلى أن قال: ومما ينبغي ليلة النصف من شعبان أن يقرأ الإنسان بين

صلاتي المغرب والعشاء سورة يس بتمامها ثلاث مرات: الأولى بنية طول العمر

له ولمن يحبه، الثانية بنية التوسعة في الرزق مع البركة في العام، الثالثة بنية أن

يكتبه الله من السعداء، ويأتي بالدعاء المشهور وهو: اللهم يا ذا المن

إلى آخره.

انتهى.

وأما تعريف البدعة وأقسامها فهي تعتريها الأحكام الخمسة منها واجبه، وهي

كل ما يتوقف فعل شيء من الواجبات الشرعية به فهو واجب أيضًا؛ للقاعدة

المقررة، ومنها مندوبه كبناء الرباطات والمدارس ونحوها، ومنها مباحة كالتوسع

في لذيذ المأكل، ومنها مكروهة كزخرفة المساجد، ومنها محرمة ومكفرة كبدعة

الرافضة والوهابية، وعليها قول الإمام الشافعي رضي الله عنه: ما أحدث وخالف

كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا فهو البدعة الضالة، انتهى. فيما ذكر من الأحاديث

ونصوص هؤلاء الأئمة يعلم أن قراءة يس في هذا السؤال له أصل وأي أصل، وأن

القائل بأنها بدعة؛ لعله متمسك بالعلم الجديد، أو أنه من قسم الخامس من المبتدعة؛

لأنهم يضعفون الحديث الصحيح إذا خالف هواهم، ويصححون الحديث الموضوع إذا

وافق هواهم، فمن أراد الاطلاع على هذا فعليه برسالتنا الآتية -إن شاء الله تعالى-

المسماة بإعانة المرشدين على اجتناب البدع في الدين، وإلى هنا انتهى الجواب.

(المنار) اعلم يا أخي قبل الجواب عن هذه الفتوى أن مصيبة الدين بالتقليد

الذي ذمه علماء السلف كافة وأهل البصيرة من الخلف، ليست هي عبارة عما

أجازه بعض المؤلفين من رجوع الجاهل إلى الإمام المجتهد، فيما لا يعلم حكمه من

أمر دينه وأخذه بفتواه، وإن لم يذكر له دليلها من الكتاب والسنة، وإنما مصيبة

التقليد السوءى؛ هي أنها صرفت المسلمين عن الكتاب والسنة، وعن كتب الأئمة

المجتهدين في الفقه وغيره، وعن الثقات الأثبات السابقين إلى تحقيق كل علم،

صرفتهم عن هؤلاء إلى أناس من الجاهلين المقلدين لأمثالهم، المتهجمين على

الفتوى والتأليف والاجتهاد بغير علم، وإنما يأخذ الناس بأقوالهم لثقتهم بهم وثقة

العامي قريبة المنال، فإننا نرى في كل بلاد أناسًا من أدعياء العلم تثق بهم العامة؛

لأنها تراهم أمثل من تعرفهم في ظاهر الصلاح أو قراءة الكتب، وهي لا تميز بين

الكتب التي يعتمد عليها والتي لا يعتمد عليها، ونعرف أن كثيرًا من هؤلاء الموثوق

بهم دجالون من أهل التلبيس، ومنهم من قرأوا قليلاً من مبادئ العلم، وولعوا بكتب

من لا ثقة بدينهم ولا بعلمهم، ودرسوا وأفتوا بها، وهم لا يميزون بين ما فيها من

حق وباطل، وصحيح وسقيم، وإنما تعجبهم هذه الكتب المحشوة بالأحاديث

الموضوعة والخرافات والبدع؛ لسهولتها وعدم توقف فهمها على معرفة

الاصطلاحات العلمية، كاصطلاحات علماء الحديث والأصول في نقد الحديث وما

يحتج به منه، وما لا يحتج به.

نعرف في بلادنا كثيرًا من الشيوخ الذين وثقت بهم العامة، حتى في المدن

التي فيها كثير من العلماء الذين يعتد بعلمهم ونقلهم، وأنهم ليكونون أكثر في البلاد

التي تقل فيها العلماء وفي القرى، ومما يؤكد هذه الثقة حسن السمت ومظهر

الصلاح والانتساب إلى بيوت العلم والشرف، فهؤلاء هم مثار الجهل والبدع في

هذه الأمة، ولا سيما في هذه القرون الأخيرة، وقد ذكر بعض أخبارهم ابن الجوزي

وغيره من العلماء.

يدعي هؤلاء أنهم علماء مقلدون للأئمة، ولا يعرفون من كلام الأئمة شيئًا،

ولا يقفون عند حدود ما أفتى به المشهورين من الفقهاء المنتسبين إلى أولئك الأئمة

رضي الله عنهم، وهم مع هذا يحاربون متبعي الأئمة بحق إذا دعوهم إلى الحق

بدلائل الكتاب والسنة، بل يحاربون الكتاب والسنة باسم أولئك الأئمة، قائلين:

إن فهمهم لهما أصح من فهم فلان الذي يدعوكم إليهما الآن، سلمنا أن فهمهم أصح،

فليأتنا هؤلاء الجاهلون بنصوصهم في تفسيرها، وليحاربونا بها، إنهم إنما يجيئون

بكلام أمثالهم من العوام الذي تجرءوا على التأليف ويلصقونها بالأئمة، والأئمة برآء

منها، وماذا تفعل بثقة الجاهلين بهم، وقد انسد في وجههم باب التمييز بين الحق

والباطل.

من هؤلاء الشيوخ في بلاد جاوه الشيخ عثمان بن عبد الله بن عقيل، شيخ له

سمت ونسب واطلاع على كثير من الكتب التي لا يعتد بها ولا تصلح للفتوى منها.

يقول هذا الشيخ الوقور: إنه شافعي المذهب، وإن عمدته من كتب فقهاء

الشافعية المتأخرين كتب ابن حجر الهيتمي، (أفلح الأعرابي إن صدق) ابن حجر

يقول في فتاواه الحديثية: إن الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب

ليس مؤلفه من أهل الحديث لا يحل. ومن فعله عذر عليه التعذير الشديد، وذكر

أن أكثر الخطباء كذلك، وأنه يجب على الحكام أن يمنعوهم من ذلك (راجع ص32

من هذه الفتاوى المطبوعة بمصر) فلماذا لم يأخذ الشيخ عثمان بهذه الفتوى؛ فهو

يسئل عن مسألة هل لها أصل في الكتاب والسنة، فيورد أحاديث من رسالة الونائي

ويقرها وهي لا تصح، وليست نصًّا في المسألة، ثم ينقل رأي هذا الرجل ويقره،

ويجعل ذلك فتوى بأن للمسألة أصلاً في الكتاب والسنة، وهذا الونائي ليس إمامًا

مجتهدًا ولا محدثًا حافظًا يعتد بنقله، وما نقله ليس نصًّا فيما ارتآه، فكيف جاز

للشيخ عثمان بن عقيل أن يفتي برأيه، لعل هذا الونائي مثل ابن عقيل هذا،

وستكون فتاوى السيد عثمان ورسائله مما يفتي به مثله من بعده، وتعارض بها

نصوص الكتاب والسنة بناء على ادعائه الانتساب إلى الإمام الشافعي، وإن لم

يعرف قوله ولم يفت به، هذه مقدمة لم نر بدًّا من بيانها.

***

(أقوال المحدثين والثقات في عبادات ليلة النصف من شعبان)

روي في الموضوعات والواهيات والضعاف التي لا يحتج بها أحاديث في

كثير من العبادات منها؛ صلاة ليلة الرغائب من رجب وليلة نصف شعبان، ولكن

هذا الشعار الإسلامي المبتدع المعروف الآن لم يرد فيه شيء من ذلك، ولكنه

عمل به في الجملة منذ القرون الأولى، ولهذا اغتر بصلاة رجب وشعبان بعض

الفقهاء والصوفية كأبي طالب المكي وأبي حامد الغزالي على جلالة قدرهما،

وسبب ذلك قلة بضاعتهما في نقد الحديث، وقد بين خطأهما المحدثون والفقهاء

كالإمام النووي الذي هو عمدة الشافعية، وأطال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث

الإحياء في بيان ذلك، وقد نقل كلامه شارحه السيد مرتضى الزبيدي ثم قال:

وقال التقي السبكي في تقييد التراجيح: صلاة ليلة النصف من شعبان وصلاة الرغائب

بدعة مذمومة. اهـ.

وقال النووي: هاتان الصلاتان بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان، ولا تغتر

بذكرهما في القوت والإحياء، وليس لأحد أن يستدل على شرعيتهما بقوله صلى الله

عليه وسلم: الصلاة خير موضوع، فإن ذلك يختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه

من الوجوه، وقد صح النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة. اهـ.

ثم قال الزبيدي: وقد توارث الخلف عن السلف في إحياء هذه الليلة بصلاة

ست ركعات بعد صلاة المغرب كل ركعتين بتسليمة، يقرأ في الركعة منها

بالفاتحة مرة والإخلاص ست مرات، وبعد الفراغ من كل ركعتين يقرأ سورة يس

مرة، ثم يدعو بالدعاء المشهور بدعاء ليلة النصف، ويسأل الله تعالى البركة في

العمر، ثم في الثانية البركة في الرزق، ثم في الثالثة حسن الخاتمة. وذكروا أن

من صلى بهذه الكيفية أعطي ما طلب، وهذه الصلاة مشهورة في كتب المتأخرين

من السادة الصوفية، ولم أر لها ولا لدعائها مستندًا صحيحًا في السنة إلا أنه من

عمل المشايخ، وقد قال أصحابنا: إنه يكره الاجتماع على إحياء ليلة من هذه الليالي

المذكورة في المساجد وغيرها، وقال النجم الغيطي في صفة إحياء ليلة النصف من

شعبان بجماعة: إنه قد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز منهم عطاء وابن

أبي مليكة وفقهاء المدينة وأصحاب مالك، وقالوا: ذلك كله بدعة، ولم يثبت في

قيامها جماعة شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وممن قال

ذلك من أعيان التابعين خالد بن معدان وعثمان بن عامر ووافقهم إسحق بن راهويه،

والثاني كراهة الاجتماع في المساجد للصلاة، وإليه ذهب الأوزاعي فقيه الشام

ومفتيهم. اهـ.

(المنار) الخلاف الذي ذكره في قيام ليلة النصف من شعبان بما ذكر قد

صرح بكراهة أصحابهم له أي الحنفية، والكراهة إذا أطلقت عندهم تنصرف إلى

التحريم، ونقل مثل ذلك عن الشافعية والمالكية، فالنجم الغيطي من فقهاء الشافعية،

وقد رأيت قبله قول السبكي والنووي الشافعيين في صلاتها، وأما الحنابلة فهم أشد

من غيرهم نبذًا لما لم يثبت في السنة، ومن استحبها من علماء الشام كانوا

مجتهدين، وليس لهم أتباع الآن، ومذاهبهم ليست مدونة، ونص الفقهاء على أنه لا

يفتى بها.

وقد بيّن المحدثون في كتب الموضوعات كل ما ورد في صلاة شعبان وقيامها

وهو مما لا يعمل به ولو في الفضائل، قال في الفوائد المجموعة بعد إيراد شيء

منها واغترار بعض الفقهاء كالغزالي وبعض المفسرين بها ما نصه: (وقد رويت

صلاة هذه الليلة - أعني ليلة النصف من شعبان - على أنحاء مختلفة كلها باطلة

موضوعة، ولا ينافي هذا رواية الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها

لذهابه صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، ونزول الرب ليلة النصف إلى سماء الدنيا،

وأنه يغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب) فإن الكلام إنما هو في هذه الصلاة

الموضوعة في هذه الليلة، على أن حديث عائشة رضي الله عنها هذا فيه ضعف

وانقطاع، كما أن حديث علي الذي تقدم ذكره في قيام ليلها، لا ينافي كون هذه

الصلاة موضوعة على ما فيه من الضعف حيثما ذكرناه. اهـ.

أما (حديث)(تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان) فقد رواه ابن جرير

والبيهقي عن عثمان بن محمد بن المغيرة وهو ابن الأخنس بن شريق الثقفي قال:

في الميزان حدث عن محمود القزاز مجهول، وقال ابن المديني روى عن سعيد بن

المسيب مناكير.

وأما قول ابن عباس المذكور، فإن صح عنه لا يفيد في الباب شيئًا، وقد نقل

عن الجمل أن هذا المعنى ثبت في الأحاديث الصحيحة، وليس قوله بشيء، فهذه

كتب الصحاح في أيدينا ليس فيها ذلك، والجمل ليس بمحدث بل يغتر بما يرى في

كتب التفسير التي لا تميز بين صحيح وسقيم، وقد قال المحدثون: إن بعض

المفسرين والفقهاء اغتروا بما ورد في هذه الليلة، على أنه إن صح لا يفيد في تأييد

فتواه، وقد صرح ابن العربي بأنه لا يصح مما ورد في هذه الليلة شيء، وهو ما

قاله الزبيدي في شرح الإحياء.

وأما حديث: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان) فقد ذكروه بألفاظ مختلفة،

وهو حديث عليّ الذي قال في الفوائد المجموعة بضعفه، وقد رواه ابن ماجه من

أصحاب السنن عن ابن أبي سبرة وهو ضعيف كما صرح محشي هذه السنن نقلاً

عن الزوائد، بل نقل عن الإمام أحمد وابن معين أنه كان يضع الحديث، وروى

ابن ماجه حديث عائشة أيضًا، وقد علمت أنهم صرحوا بضعفه وانقطاع سنده عن

الترمذي. وهو أمثل ما ورد في هذه المسألة، وروى ابن ماجه أيضًا حديث: (إن

الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)

وهو عن الوليد بن مسلم المدلس عن عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف. ورواه غيره

أيضًا.

ويعارض هذه الروايات في خصوصية ليلة النصف من شعبان أحاديث

الصحيحين في نزول الرب كل ليلة إلى سماء الدنيا وقوله: هل من مستغفر هل من

تائب، وحديث مسلم في عرض الأعمال كل اثنين وخميس، والمغفرة لغير

المشركين والمتشاحنين.

وجملة القول أن الشعائر التي تقام في ليلة النصف من شعبان ليس لها أصل

صحيح في الكتاب ولا في السنة، وأن الروايات التي ذكرها ابن عقيل غير

صحيحة، وهو لجهلة بالحديث لم يرجع فيها إلى كتب المحدثين، بل نقلها عمن لا

يعتد بهم، ثم أنها لا تدل على مشروعية ما سئل عنه وهو قراءة يس والدعاء

بالصفة التي ذكرها، وإن هذه العبادات في تلك الليلة وليلة الرغائب قد حدثت في

القرون الأولى فقبلها كثير من العباد والمتصوفة، وأنكرها المحدثون والفقهاء؛

لعدم ثبوت أصلها ولأن الله تعالى قد أكمل الدين، فمن زاد فيه كمن نقص منه؛

كلاهما مبتدع.

وقد أنكر عثمان بن عقيل على الذين يصححون أو يضعفون الأحاديث بالهوى

وهو منهم، فإنه يتكلم في الأحاديث بغير علم، ولو كان من أهل العلم بها لما اعتمد

في نقلها على الونائي والجمل وترك البخاري ومسلمًا وأصحاب السنن الأربعة

وأضرابهم، كما ينكر على الذين يفتون بالدلائل من الكتاب والسنة بعلم،

ويفتي بها بغير علم، ولو كان في بلاد لها حكومة إسلامية لمنع من الفتوى وعوقب

عليها، ولكن جاهه وقوته في الاستناد على حكومة غير إسلامية في بلاد ليس فيها

علماء ومحققون.

وأما ما ذكره في مسألة البدعة، فلا يصح على إطلاقه، وقد ثبت في الحديث

الصحيح أن كل بدعة ضلالة، ولذلك صرح بعضهم بأن البدعة الشرعية لا تكون

إلا ضلالة، وأما البدعة اللغوية فهي التي تعتريها الأحكام الخمسة، فكل ما لا دليل

عليه في الكتاب والسنة من أمر الدين كالعبادات والشعائر الدينية فهو بدعة سيئة

وضلالة محققة، وعليها تحمل الكلية في الحديث، وما في معناه من الأحاديث

الكثيرة، وأما ما سوى الأمور الدينية المحضة؛ وإن كانت نافعة في الدين؛ كالعلوم

والفنون المسهلة لفهمه والتفقه فيه - فهي التي تعتريها الأحكام الخمسة فيحكم فيها

بحسب ما فيها من النفع أو الضرر أو عدمها.

مثال ذلك: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يتم الجهاد في هذا

الزمان إلا بالعلوم والفنون العسكرية التي لم تكن في العصر الأول، ولا دليل

عليها بخصوصها فهي واجبة حتمًا، وإن كانت من العلم الجديد الذي يجهله فيعاديه

الشيخ عثمان بن عقيل، فقد قال في آخر فتواه: (فيما ذكر من الأحاديث ونصوص

هؤلاء الأئمة، يعلم أن قراءة يس في هذا السؤال له أصل وأي أصل، وأن القائل

بأنها بدعة لعله متمسك بالعلم الجديد أو أنه من قسيم الخامس - كذا - من

المبتدعة)

إلخ، وأنت ترى أن الأحاديث التي ذكرها ليس فيها ذكر لقراءة يس،

فهل يكتب مثل هذا من يعقل ما يكتب، وإذا كان يفتي بالشيء ويعزوه إلى أحاديث الرسول - صلى تعالى عليه وسلم - ولا ذكر له ولا إشارة فيما أورده منها على كونه مما لا يحتج بمثله، فهل يلتفت إلى قوله: لعل القائل بأنها بدعة متمسك بالعلم

الجديد

إلخ، ثم ما هو العلم الجديد الذي يعاديه ويعرض بأهله، وماذا عرف هو من العلم القديم، ومن قال: إن الونائي من الأئمة الذين يؤخذ بأقوالهم، وتجعل

آراؤهم أحاديث نبوية! !

(تتمة لا بد منها) إن الذين يقرءون سورة يس في ليلة النصف من شعبان

يذكرون قبل قراءتها كل مرة حديث (يس لما قرئت له) وقد قال الحافظ السخاوي:

إن هذا الحديث لا أصل له، كما في كتاب (تمييز الطيب من الخبيث) وكتاب

(اللؤلؤ المرصوع) فهل يدلنا الشيخ عثمان على أحد من أصحاب العلم القديم قال إن

هذا الحديث صحيح، وإلا فلماذا لا ينكر على الجماهير كذبهم على النبي صلى الله

عليه وسلم، وقد ورد فيه من الوعيد ما ورد؟

***

(استقبال القبلة عينها أو جهتها، والفتوى بالقول المرجوح)

(س 22 و 23) من صاحب الإمضاء في مكة المكرمة.

أفيدونا يا مولانا وسيدنا بيانًا شافيًا:

في قول الإمام الغزالي في إحيائه وقول الأذرعي باعتماد الاكتفاء في استقبال

القبلة في الصلاة بجهتها في البعد؛ مستدلاًّ بالكتاب والسنة وفعل الصحابة والقياس،

هل يجوز للشخص أن يعمل ويبني المسجد عملاً به أو لا؟ فإن قلتم بالجواز، فما

قولكم في قولهم: لا يجوز الإفتاء إلا بالقول الراجح؟ وإن قلتم لا يجوز لذلك، ويفهم

منه أنه لا يجوز الإفتاء بالقول المرجوح، كما لا يخفى على المشمرين في تحصيل

العلم وعدم جواز الإفتاء به، هل هو على الإطلاق أو مقيد بما إذا لم يختره جماعة

ممن يعتمد في كلامه ونقله، وقد أخبرني من به ثقة بأن هذا القول قد اختاره جماعة

من الفقهاء، وما ذكره الفقهاء من أنه يجوز العمل بالقول الضعيف ما لم يشتد ضعفه

وأنه لا يجوز الاستدلال بالحديث الضعيف، إذا لم يكن فيه مقوى من طرق متعددة

تؤيد ذلك التقييد، وفي فوائد المكية يجوز القضاء والإفتاء بالقول المرجوح لحاجة

أو مصلحة عامة، وفيها أيضًا أن الأصح من كلام المتأخرين كالشيخ ابن حجر

وغيره أنه يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب من المذاهب المدونة، ولو بمجرد

التشهي، سواء انتقل دوامًا أو في بعض الحادثة، وإن أفتى أو حكم أو عمل بخلافه

ما لم يلزم منه التلفيق ا. هـ.

فعند الإمام مالك وأحمد وأتباعهما رضي الله عنهم أنهم لا يبطلون الصلاة عند

استقبال الجهة، وكذا هو قول عندنا معاشر الشافعية فقد قال: الغزالي والأذرعي

-رحمهما الله تعالى- بجواز ذلك، كما يؤخذ من شرح البهجة بزيادة، وصرح به

في التنبيه. اهـ، وفي الأصول قاعدة معتبرة؛ وهي أن المعلول يدور مع علته،

وعلته هنا وجود المشقة من حيث الأبعد عن بيت الله العظيم، مع أن القاعدة: المشقة

تجلب التيسير، والأمر إذا ضاق اتسع، فإن كان المصلي يشترط في استقبال عين

القبلة، وكذلك المسجد يشترط مبناه أن يسامتها بجميع مركوزه، وهما في مسافة البعد

كأرض الجاوي والهندي وغيرهما من سائر المملكة، فما تقول؟ فإن قلتم: يشترط

على كل واحد منهما أن يحتاط مع بيت الإبرة المعروف ليعلم عينها، فماذا يستحق

الذي أفتى من الجم الغفير باعتماد الاكتفاء بالجهة؛ لأنه فهم منها أنه صادق بمحاذاة

عين القبلة أولاً، كما يؤخذ من الغاية التي ذكرها العلامة البيجرمي على فتح

الوهاب ا. هـ.

فمنوا بالإعانة، فلكم الفضل الظاهر والشكر الباهر، ودام فضلكم، وعلا

قدركم، ولا زلتم مأجورين بجاه جدكم الأمين؛ سيدي.

...

...

...

...

السائل

...

...

...

... أحمد جاوي

(ج) قد اضطرب كلام أصحابنا الشافعية في مسألة القبلة، وما كان ينبغي

لهم ذلك، فالحق واضح فيها، وكلام الشافعي نفسه صريح جدًّا.

من كان في الحرم يرى الكعبة يستقبلها قطعًا، ولا تصح صلاته إذا خرج عن

محاذاتها، ومن كان بعيدًا عنها لا يراها، فإنه يستقبل الجهة التي هي فيها ويتعرفها

بالاجتهاد، فمن علم أن الكعبة في هذه الجهة لم يكن له أن يتحول عنها، فإن كان

عنده من وسائل الاجتهاد ما يعلم به أن البيت يحاذي خطًّا معينًا لم يكن له أن يتعداه،

وإلا جاز له التيامن والتياسر في الجهة كما يؤخذ من حديث الصحيحين: (شرّقوا أو

غرّبوا) وما يؤيده. والعمدة أن يعتقد أنه متوجه تلقاء البيت بما عنده من أسباب

الاجتهاد، لا يكلف غير هذا؛ لأن غير هذا لا يستطاع ولا يدخل في الوسع.

فسّر الشافعي في رسالته شطر المسجد الحرام بتلقائه، ثم قال ما نصه: فالعلم

يحيط أن من توجه تلقاء المسجد الحرام ممن نأت داره عنه على صواب بالاجتهاد،

فللتوجه إلى البيت بالدلائل عليه؛ لأن الذي كلف العباد التوجه إليه وهو لا يدري

أصاب بتوجهه قصد المسجد الحرام أو أخطأ، وقد يرى دلائل يعرفها فيتوجه بقدر

ما يعرف، ويعرف غيره دلائل فيتوجه بقدر ما يعرف وإن اختلف توجههما. اهـ.

وتلقاء الشيء: تجاهه ونحوه كما ذكر في مادة (وجه) من لسان العرب.

والتجاه: الجهة التي تستقبلها بوجهك، ومنه قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام:

{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} (القصص: 22) أي سار في الجهة الموصلة إليها

ونحا نحوها.

وقال كما رواه عنه المزني في مختصره ما نصه: (ولا يجوز لأحد صلاة

فريضة ولا نافلة ولا سجود قرآن ولا جنازة إلا متوجهًا إلى البيت الحرام، ما كان

يقدر على رؤيته إلا في حالتين، وذكر صلاة النافلة على الراحلة، وصلاة شدة

الخوف رجالاً أو ركبانًا، ثم قال: فلا يصلي في غير الحالتين إلا إلى البيت إن

كان معاينًا فبالصواب، وإن كان مغيبًا فبالاجتهاد بالدلائل على صواب جهة

القبلة) . اهـ. وكلامه في كتاب الأم على طوله، لا يخرج عن هذا المعنى

الذي اختصره المزني عنه، وقد صرح فيه بلفظ الجهة تصريحاً.

وذكر الشيرازي في التنبيه قولين في البعيد، لم يرجح واحدًا منهما على

الآخر، فقال: (والفرض في القبلة إصابة العين، فمن قرب منها لزمه ذلك بيقين،

ومن بعد منها لزمه الظن في أحد القولين، وفي القول الآخر لمن بعد

الجهة) . اهـ.

أقول: لم أر في كلام الشافعي قولين في المسألة، وعندي أن ما صرّحوا فيه

عنه بلفظ الجهة، وما لم يصرحوا فيه به واحد، والمراد أن يعرف سمت الكعبة

بالاجتهاد، فمتى عرفها واستقبلها كان معتقدًا أنه متوجه تلقاء الكعبة في الجملة،

وأنه مول وجهه شطرها؛ لأن الذي يعرف جمهور المكلفين بالاجتهاد في حالة البعد

هو الجهة، وكلما بعد الإنسان عن الشيء الذي يستقبله، تتفرج المسافة التي بينه

وبينه وتتسع.

ولو كان في المسألة قولان مختلفان لكان الفرق بينهما في العمل أن من علم أن

الكعبة في جهة الشمال، كان له على القول الثاني أن يتوجه في صلاته إلى القطب

الشمالي، وأن ينحرف عنه يمينًا أو يساراً، وإن علم بالدلائل أنه لو خرج خط

مستقيم منه إلى الكعبة لأصابها في حال استقباله، ولو خرج من حيث توجه منحرفًا

عنه لم يصبها. وهذا هو الذي يترتب على عبارة التنبيه دون عبارة مختصر

المزني. ولذلك اضطربت أقوال المتأخرين من الشافعية والحكم واضح كما قلنا،

فإن جماهير المكلفين لا يعرفون في حالة البعد بالاجتهاد إلا الجهة التي فيها الكعبة،

وذلك كاف عند الشافعي، ولا يفهم من كلامه غيره، وهو لا ينافي أن الواجب على

من كان عنده علم خاص بتحديد نقطة معينة من الجهة أن يعمل بعلمه، ولا يجوز له

التيامن والتياسر، إذا اعتقد أنه يخرج به عن محاذاة الكعبة، وهذا التفصيل يؤخذ

من تصريح الشافعي بأن على كل مجتهد في القبلة أن يتوجه بقدر ما يعرف، ولا

حرج في هذا ولا مشقة على أحد.

فعلم من هذا أن المعتمد أن للشافعي قولاً واحدًا في المسألة، وهو ظاهر

الكتاب والسنة ومقتضى القياس، والذي عليه عمل الناس، وتلك الفلسفة التي

اضطرب فيها المتأخرون إنما أخذها بعضهم من عبارة بعض، ولا يحتاج من

يقول بالجهة في موافقة الشافعي - رحمه الله تعالى - إلى الإفتاء بالقول المرجوح.

فالعمل الذي يوافق مذهب الشافعي هو أن يجتهد المصلي في تعرف جهة

الكعبة بالشمس والكواكب والرياح والجبال ويعمل باجتهاده، ومن كان على علم

بتقويم البلدان (الجغرافية) ، وكان معه بيت الإبرة، فإن علمه بسمت القبلة يكون

أقوى مما يصل إليه المجتهد بالعلامات التي ذكروها، فيجب عليه بقدر ما يعرف،

ويعتمد في بناء المسجد علم أوسع أهل البلد علمًا بذلك.

وأما الفتوى بالقول المرجوح، فقد قيل ما قيل مما عرفه السائل، والحق أن

العالم المجتهد لا يكون له في المسألة الواحدة قولان مختلفان: أحدهما راجح والآخر

مرجوح، وهو يجيز العمل بهما، ولكنه قد يقول القول فيظهر له خطؤه، فيرجع

عنه بقول آخر، فلا يبقى الأول قولاً له، وقد يتردد في المسألة فلا يكون له فيها

قول، وإن نقل عنه قولان مختلفان كان أحدهما مرجوعًا عنه أو مكذوبًا، فإن وجد

المرجح وإلا تساقطا. فمن سئل عن قول عالم مجتهد في مسألة، وجب عليه أن

يرجع إلى كتبه، وينظر قوله فيها ويجيب به، فإن لم يجد كتبه بحث عن ذلك في

كتب أقدم أصحابه، وتحرى وميز بين ما يعزونه إليه تصريحًا، وما يطلقون القول

فيه أو يذكرونه ترجيحًا أو استنباطًا، فإذا لم يظهر له نقل عنه يطمئن قلبه له

فعليه أن يمسك عن الفتوى معزوة إليه، وكتب الفقهاء المنتسبين إلى المذاهب

مملوءة بالأقوال التي لم ينقل عن أئمة تلك المذاهب فيها شيء.

قال ابن القيم: قد اختلطت أقوال الأئمة وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم

واختياراتهم، فليس كل ما في كتبهم (أي الفقهاء المنتسبين إلى الأئمة) منصوصًا

عن الأئمة، بل كثير منها يخالف نصوصهم، وكثير منهم لا نص لهم فيه، وكثير

منه تخرج على فتاويهم، وكثير منه أفتوا به بلفظه أو بمعناه فلا يحل أن يقول: هذا

قول فلان ومذهبه إلا أن يعلم يقينًا أنه قوله ومذهبه. اهـ.

وبناء على هذا تضاربت أقوال أهل المذهب الواحد واختلفت، واحتيج إلى

الترجيح بينها، فالراجح والمرجوح إنما هما من كلام أولئك المنتسبين الذين لم

يعرفوا قول الإمام قطعًا، ومن كان من أهل الترجيح أفتى بالراجح عنده، وليس

لغيره أن يفتي. وقد بينا في الفتوى السابقة أن الناس صاروا يفتون بأقوال الجاهلين

الذين يتجرءون على التأليف؛ لما وقع فيه المسلمون من الفوضي في العلم والدين

بترك الأدلة، ويجعلون أقوال هؤلاء من المذهب، ويقدمونها على ما يعرف من

نصوص الكتاب والسنة، بإلصاقها بالأئمة، لا دعاء أولئك الجاهلين أتباعهم وما هم

لهم بمتبعين.

وما أفتى به الغزالي وأمثاله مخالفًا للمعروف من مذهب الشافعي، فإنما أفتوا

بما ظهر لهم بالدليل أنه الحق لا بمذهب الشافعي، وقد كان بعضهم يلصق مثل هذه

الفتاوى بالشافعي، لا على معنى أنها قوله وفتواه، بل عملاً ببعض أصوله كقولهم:

قد صح الحديث بهذا، وهو يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقولهم: إن في

هذا سعة، وهو يقول: إذا ضاق الأمر اتسع، والحق أن الاتباع الحقيقي للشافعي

وغيره من الأئمة رضي الله عنهم إنما هو تقديم الكتاب والسنة على أقوالهم وأقوال

جميع الناس، وقد عمل بهذا كثير من المنتسبين إلى الشافعي وغيره، كما بيناه

مرارًا في مواضع من المنار، وإنما صار الناس يلتزمون تقليد الفقيه الواحد في كل

ما يعزى إليه بعد القرون الثلاثة التي هي خير القرون بشهادة الصادق المصدوق

صلى الله عليه وسلم، وما نسب كبراء الفقهاء المتقدمين إلى الأئمة إلا لجريهم على

أصولهم وطريقتهم في استنباط الأحكام دون اتباع أقوالهم في الفروع، ذكر هذا

المعنى ابن الصلاح وأقره عليه النووي بقوله: هذا موافق لما أمرهم به الشافعي ثم

المزني في أول مختصره وغيره بقوله (أي المزني) : (مع إعلامية نهيه عن

تقليده وتقليد غيره) أي نهي الشافعي عن تقليده فيما ينقله من علمه في ذلك

المختصر.

وجملة القول: أن من سئل عن حكم الله ورسوله في مسألة بينها من كتاب الله

وسنة رسوله إن علم، ومن سئل عن رأيه واعتقاده فيها بينه بدليله إن استبان له،

ومن سئل عن قول إمام بينه من كتبه أو نقل صريح عنه يعتد به إن علمه، فإن

أفتى بالدليل على أصله صرح بذلك، وإلا أمسك عن الفتوى، وقال: لا أدري والله

أعلم.

***

(قول شيئًا لله والاستمداد من الأولياء)

(س24 - 26) من مكة المكرمة

من المعترف بالتقصير عبد القادر ملا قندر البخاري إلى رفيع مقام أستاذه

الأجل العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامية حفظه رب البرية.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فقد كلفني بعض الإخوان

المخلصين في صاحب المنار؛ أن أرفع وأقدم لرفيع مقامكم السؤال الآتي؛ راجيًا

إجابة سؤاله على صفحات المنار وفي أقرب عدد يصدر منه، أثابكم الله جزيل

الثواب ورفع أعلامكم المنيرة.

هذا هو السؤال:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد، فما قولكم أيها العلماء الكرام في هذه الأبيات.

شيئًا لله يا عبد القادر

محيي الدين في القلب حاضر

جيلاني بالله بادر

المدد يا عبد القادر

أيكفر قارئها أم لا؟ وهل يلزمه تجديد النكاح أم لا؟ وهل يجوز الاستمداد من

الأولياء الكرام بعد الممات، كما يجوز الاستمداد في الحياة؟ وهل يسمع الأولياء

نداءً أم لا؟ بينوا لنا الأحكام بالتفصيل، ولكم عند الله أجر جزيل، والسلام عليكم

ورحمة الله وبركاته.

(قول: شيئًا لله)

(ج) صرح بعض الفقهاء بتكفير من يقول مثل هذا القول؛ لأنه دعاء لغير

الله تعالى و (الدعاء هو العبادة) ، كما رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في

الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه مرفوعًا، ومن

ذلك قول بعض فقهاء الحنفية في سرد المكفرات من منظومة له (ومن قال شيء

لله بعض يكفر) .

ومن الفقهاء من لا يطلق القول في تكفير صاحب هذا القول، بل يفضل فيه

باحثًا عن قصد القائل واعتقاده، فإذا كان يعتقد أن عبد القادر الذي يدعوه (ومثله

كل من يدعى من دون الله ولو نبيًّا أو ملكًا) قادر على إجابة دعائه؛ لأن له سلطة

وراء الأسباب العادية والسنن الإلهية التي تجري عليها أعمال الناس، أو يعتقد أن

له (أي للمدعو من دون الله) تأثيرًا في الإدارة الإلهية؛ بأن يريد الله تعالى بدعائه

والتوسل به ما لم يكن يريده قبل ذلك، إذا كان يعتقد أحد هذين الأمرين يظهرالقول

بردته والحكم بشركه؛ لأنه بالأول جعل من دعاه شريكًا لله تعالى في التصرف

المطلق والامتياز على سائر المخلوقين بالخروج عن سنة الله تعالى في ارتباط

الأسباب بالمسببات، وبالثاني جعل البارئ سبحانه وتعالى محلاًّ لتأثير

الحوادث.

القول الأول شديد جدًّا ولكنه هو الأحوط للناس، حتى لا يقولوا مثل هذه

الأقوال التي صرح بعض العلماء بكفر صاحبها. والثاني هو الأحوط للمفتي لئلا

يخرج من الملة من هو من أهلها بقول تلقفه من غير أن يعلم أنه يعتقد ما ينافي

التوحيد.

والذي أراه هو أنه ينبغي العالم المستفتى في مثل هذا أو الذي يأمر بالمعروف

وينهى عن المنكر أن يبين للمستفتي أو لمن يعلم أنه يقول هذه الأقوال حقيقة التوحيد

ومعنى العبادة وحقيقة الشرك الجلي والشرك الخفي؛ ليحكم وجدانه واعتقاده في مثل

هذا القول الذي يدل على ضرب من الشرك بنوع ما من أنواع الدلالة قد يكون هو

الباعث على القول، وقد يجري اللسان بالكلمة مع عدم تصور ما تدل عليه مطابقة أو

التزامًا.

إذا فهم من ينطق بتلك الأسجاع حقيقة التوحيد والعبادة وحقيقة الشرك، وكان

يعلم من نفسه أنه لم يقصد بها معنى من معاني الشرك الجلي، ولا ما ينافي التوحيد

أو يدخل في معنى العبادة، فيكفيه أن يتوب عن القول الذي اختلف فيه، ولا يجدد

عقد نكاحه، وإن ظهر له أن قوله من الدعاء الحقيقي الذي هو العبادة، كما في

الحديث الصحيح أو مع العبادة كما في رواية أخرى ضعيفة السند، وأنه تسرب إليه

الشرك، فعليه أن يتوب ويجدد إسلامه على مذهب الشافعية القائلين بأن المرتد إذا

تاب قبل انقضاء عدة امرأته عادت إلى عصمته بغير عقد، وإذا تاب بعد انقضائها

احتاج إلى عقد جديد، عمل بذلك.

(الاستمداد من الصالحين)

مسألة الاستمداد من الصالحين في الحياة وبعد الممات مشتبهة، لا يتجلى

الحق فيها إلا بيان حقيقة الاستمداد، وقد يأتي فيها التفصيل الذي ذكرناه في المسألة

الأولى.

الاستمداد: طلب المدد، وهو ما يمد الشيء أي يزيد في مادته الحسية أو

المعنوية، فمن طلب من مخلوق مددًا جسمًا؛ كالزيادة في ماله ورزقه، والنماء في

زرعه بغير الأسباب التي جعلها الله شرعًا بين خلقه، فقد طلب ما لا يطلب إلا من

الله تعالى، وهذا ينافي التوحيد؛ لأنه عبادة لغير الله تعالى.

ومن طلب من المخلوق مددًا معنويًّا فهو على نوعين: نوع يعد شركًا كطلب

الزيادة في العمر، فإن هذا مما لا يطلب إلا من الله تعالى، فمن طلبه من غيره فقد

أشركه معه، ونوع لا يعد شركًا؛ لأنه داخل في دائرة الأسباب، وهو ما يطلبه

المتصوفون من أهل العلم بزيارة الصالحين وقربهم أو ذكر مناقبهم وسيرتهم،

وتصور أحوالهم من الزيادة في حب الخير والصلاح والتقوى، ويعبرون عن هذه

الزيادة التي يجدونها في نفوسهم بالبركة والمدد، ولكنهم لا يدعونهم من دون الله،

ولا يفعلون ما لم يفعله السلف.

وإنما كان هذا ممّا لا بأس فيه لأهل، ولا حرج في طلبه بلسان الاستعداد

وتوجه القلب - إن شاء الله تعالى - لأنه منتظم في سلك الأسباب، فإن الإنسان

يتأثر بأحوال غيره إذا رآها أو تصورها أو سمعها، فإن كانت تلك الأحوال حسنة

صالحة ازداد رغبة في الصلاح، وإن كانت بالضد زاد ميله إلى مثلها، فالذين

يعاشرون الظلمة المستبدين أو الفساق المستولغين تقوى في نفوسهم داعية الظلم أو

الفسق والانغماس في الشهوات، وتصور وقائعهم وقراءة أخبارهم لا تخلو من مثل

تأثير معاشرتهم، ولا سيما إذا كانت أخبارهم مكتوبة بمداد الثناء والتعظيم في قسم

الظالمين، والاستحسان وتمثيل الغبطة ورغد العيش في قسم الفاسقين.

كل هذا مجرب معروف، وإنك لتجلس إلى الحزين الكئيب، فيسري إلى

نفسك شيء من امتعاضه وكآبته، وتجلس إلى المغبوط المسرور فتجد في نفسك

أثرًا من السرور وانشراح الصدر، وتعاشر أهل الجد والنشاط فينالك نصيب من

نشاطهم وتعاشر أهل الخمول والكسل فيصيبك سهم من خمولهم.

وقد رأينا أثر الخير والصلاح في أنفسنا من بركة بعض مشايخنا، كما رأيناه

ولله الحمد في أنفس تلامذتنا. كنا إذا نمنا عند شيخنا الناسك أبي المحاسن القاوقجي

-رحمه الله تعالى- نزداد رغبة في العبادة من صيام وقيام؛ إذ نرى ذلك الشيخ الكبير

في السن والقدر يصوم الأيام الفاضلة، ويقوم طائفة من الليل لا يجيء الثلث الأخير

منه إلا ونستيقظ، ونحن رقود في حجرة بجانب حجرته على صوت تكبيره

وقراءته وبكائه، وأما شيخنا الأستاذ الإمام فكان إذا قام من الليل، لايسمع له صوت

ولا يشعر له بحركة، وكنا نرى أثر مجالسه الخاصة في زيادة الإيمان بالله عز وجل،

والثقة به جل ثناؤه، والغيرة على الدين، وعلو الهمة في الخير.

_________

ص: 250

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أمير الألاي صادق بك

وجمعية الاتحاد والترقي

يتساءل الناس في هذه الأيام من هو صادق بك، وما هي مكانته، وما شأنه

في هذا الإصلاح الذي حصل في حزب الاتحاد والترقي في مجلس المبعوثين.

في هذه الأيام عرف في مصر وفي كثير من البلاد اسم صادق بك، والناس

واقفون في الحكم له أو عليه، وأصحاب الجرائد قد أمسكوا عن التعريف به، سواء

منهم المتشيع للاتحاديين والمتتبع لعوراتهم والمعتدل في كلامه عنهم، وقد ذكرت

على مسمع غير واحد من محرريها شيئًا من فضل الرجل الذي يعرفه كل الخواص

في الآستانة، فكتب بعضهم جملة صالحة، ولكني أرى الناس لا يزالون يتساءلون

فأحببت أن أكتب في المنار كلمة أخرى في التعريف بهذا الرجل الذي يقل مثله في

الرجال.

اشتهر أن الانقلاب العثماني كان بتدبير جمعية الاتحاد والترقي في سلانيك

ومناستر، وعرف الخاص والعام أن الانقلاب كان من عمل الجيش، بهذا علا مقام

كل ضابط عثماني، ورفع اسم نيازي بك وأنور بك على كل اسم، ولكن خفي اسم

صادق بك وهو أجدر بالظهور، وصار كل من ينسب إلى جمعية الاتحاد والترقي

يفخر ويسمو بأنه رب الدستور وحاميه، فتزاحم على أبوابها طلاب الشهرة ورواد

المنفعة وعباد القوة. وانفض من حولها الكثيرون من العاملين المخلصين، وانبرى

لمعارضة حزبها في مجلس الأمة حزبان، كان خيار رجالهما من الاتحاديين، ومن

بقي في حزبها أزواج ثلاثة:

(1)

بعض الزعماء (كالبكوات رحمي وطلعت وجاويد) ومن استعذب

مشربهم وأذعن للسري والجهري من أحكام جمعيتهم؛ لأنه يرى فيها رأيهم، وهم

الأقلون.

(2)

طلاب المنافع، واتباع كل ناعق.

(3)

المستقلون المخلصون الذين يرون أن بقاءهم في الجمعية خير من

خروجهم منها وأرجى لتقويم عوجها.

ورد في الحديث الشريف: (إن لكل شيء شرة [1] ولكل شرة فترة، فإن

صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه) رواه

الترمذي بسند صحيح.

وقد جرت سنة الله أن الشيء إذا كان في شرة إقباله يقبل الجمهور كل مدح فيه

وإن كان ظاهر البطلان، ويرد كل انتقاد عليه وإن كان كالشمس في رابعة النهار،

وكان يظن أن شرة إقبال الاتحاديين يطول زمنها، فكذب الظن بسوء تصرف الزعماء

وقلة كفاءتهم وبمجافاة بعض مقاصدهم لمصلحة المملكة وتقاليدها، ولما تقتضيه

طبيعة العصر في سياسة الشعوب المختلفة في الملل واللغات، ولاستعجالهم في حب

الظهور والاستئثار بجميع الأمور، فما سددوا وما قاربوا وقد أشير إليهم

بالأصابع، فلم يلبثوا أن سقطوا، وصدقت عليهم الحكمة النبوية في هذا

الحديث الشريف.

رفعت الأمم اسم (الاتحاد والترقي) بعمل صادق بك الخفي وإخلاصه العظيم،

فتدفق الثناء على الاتحاديين في أنهار صحف الشرق والغرب، حتى صار بحرًا

زاخرًا، طفت فوقه أسماء كثيرة فرآها الناس سابحة في الثناء، منها ما له قيمة

كالفلك ومنها ما هو كالغثاء، ورسب في قاعه اسم صادق بك كما يرسب الدر في

أعماق البحار، فلم تهتف باسمه الجرائد، ولم ينوه به في تلك الخطب والأغاني

والقصائد، كما نوه باسم نيازي وأنور اللذين كانا سيفين من سيوفه تحركهما يده العاملة

وتصرفهما أوامره النافذة، ألا إن صادق بك هو (قومندان) الانقلاب العثماني وموجد

الدستور.

واسأل عن ذلك كتاب (خاطرات نيازي) فهو يخبرك اليقين، {وَلَا يُنَبِّئُكَ

مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14) فصادق بك أجدر رجال الدستور بالظهور وأحقهم

بالثناء، وكلهم يعرف له هذا الفضل، ولكنه هو الذي أحب الخمول وترفع عن

الثناء والمكافأة على عمله من الجمعية أو الحكومة، فهو الزعيم الذي لم يأخذ مالاً

ولا وسامًا، حتى إن شوكت باشا رغب إليه أن يقبل يوم عيد الدستور من السنة

الماضية وسامًا مرصعًا، تقرر إنعام السلطان به عليه فلم يقبل، زرت صاحبًا لي

من الاتحاديين قبل ذلك العيد بيوم واحد، فقال لي: لو جئت قبل ربع ساعة لوجدت

صادقًا هنا، وقد أخبرني بكذا وكذا. وذكر مسألة الوسام ومسائل أخرى.

إنني لما جئت الآستانة في عام 1327 كان صادق بك لا يزال عميد الجمعية

المسئول (أي رئيسها ويسمونه المرخص العام؛ لأن من نظامها أنه ليس لها رئيس،

ويشبه الخلاف أن يكون لفظيًّا) ولما عرضت مشروع الدعوة والإرشاد (أو العلم

والإرشاد كما سميناه هناك) على الصدر الأعظم، قال لي: هذا مشروع نافع لا بد

منه، ولا يتم هنا شيء إلا إذا رضيت به جمعية الاتحاد والترقي، وسأكلم صادق

بك في المشروع ثم أخبرك هل يمكن تنفيذه أم لا، ودعا حاجبه وقال له: اذهب

غدًا إلى صادق بك، وقل له: إنني أحب أن أراه، ثم أخبرني الصدر أن صادقًا

اقترح تأليف لجنتين للبحث معي في المشروع: إحداهما علمية دينية والأخرى

سياسية إدارية. وبرأيه تألف اللجنتان وبعد البحث الطويل أقرتا المشروع، فقال

لي الصدر الأعظم: إن المشروع قد تم نهائيًّا، فألف الجمعية وتعال أخصص لك

المال اللازم للتفنيذ، وقد علم قراء المنار من قبل أن وزارة هذا الصدر (وهو

حسين حلمي باشا) قد استقالت قبل أن يتم لنا تأليف الجمعية، وأزيدهم الآن ما هو

المقصود هنا؛ وهو أن صادق بك ترك العمل في الجمعية، ولماذا؟

كان من رأي صادق بك بعد أن استقر أمر الدستور وتألف مجلس الأمة؛ أن

تترك الجمعية للحكومة الحرية في عملها، وتكتفي بالمراقبة عليها، فلا تتعرض

لشيء إلا إذا رأت الدستور مهددًا بالزوال، وقد اتفق مع محمود شوكت باشا على

منع الضباط من الاشتغال بالسياسة، ولما كان لا مندوحة له عن الاستمرار في

خدمة الجمعية، عول على الاستقالة من الجيش، وبعد هذا الاتفاق خطب محمود

شوكت باشا خطبتيه الشهيرتين في الفيلق الأول بالآستانة والفيلق الثاني بأدرنة،

وصرح في الخطبة الثانية بقوله: إن أخانا صادق بك لما كان يريد البقاء في جمعية

الاتحاد والترقي فسيقدم لي استقالته.

كان الذين تواطئوا على الاستقلال بزعامة الجمعية والسيطرة على الحكومة،

قد استمالوا إليهم قبل هذا الاتفاق كثيرًا من الضباط بضروب من الاستمالة، فصار

لهم عصبية منهم. ولما صار طلعت بك ناظر الداخلية كان أقدر من غيره على هذه

الاستمالة، فأدخل في الوظائف الإدارية كثيرًا من الضباط، وقد كنت مدعوًّا عنده

في بعض الليالي، فجاء اثنان منهم ونحن سامرون معه في الليل، فكان الواحد منهم

يجلس في مكانه ويعبث بمكتبه ويبحث في أوراقه، ورأينا أن حديثه معنا قد تلجلج،

وأن من حسن الذوق أن ننصرف ليخلو لهما وجهه، وندع الحديث إلى وقت آخر،

فاستأذنا وانصرفنا.

كان ارتباط زعماء الجمعية بالضباط واشتغال الضباط بالسياسة من أعظم

الأخطار التي تهدد الدولة، وقد انتقدته الجرائد الأوربية بأشد مما انتقدت غيره من

أعمال الجمعية بعد ظهور الخلل فيها، وانتقده الجم الغفير من الضباط كما سمعت

بأذني من بعض أركان الحرب منهم وعنهم، حتى كان يخشى أن يقع الشقاق في

الجيش نفسه بالتنازع بين أنصارها والساخطين عليها من الضباط، وقد وافق

صادق بك محمود شوكت باشا على تلافي هذا الأمر، ولم يقدرعلى تنفيذه بالفعل.

كتب صادق بك استقالته من الجيش، وكتب مذكرة للجمعية المركزية اشترط

فيها لبقائه عاملاً في الجمعية باسم المرخص أو المدير المسئول شروطًا منها أن

يترك طلعت بك نظارة الداخلية، وجاويد بك نظارة المالية، وأحمد رضا بك

رئاسة المجلس؛ لأنه لا يعني على رأيه أن يكون زعماء الجمعية من رؤساء

الحكومة؛ لما لهم من القوة التي تمكنهم من الاستبداد، فكبر ذلك على هؤلاء

الزعماء بعد أن مكنوا لأنفسهم في الأرض، ورأوا أنهم صاروا في هذه الدولة هم

الأئمة الوارثين، وكان قد ظهر من رياستهم تنفير جميع العناصر العثمانية من

إخوانهم الترك. وتقدم اليهود في نظارة المالية على غيرهم، وإعلاء كلمة الماسونية،

والإسراف في نشرها، وتقديم المقدمين فيها على غيرهم في جميع المناصب

والأعمال، وجعل مقام الخلافة كالمجرد من كل سلطة ونفوذ.

كبرت شروط صادق بك على أولئك الزعماء، فكانوا منها في أمر مريج لأن

ترك السلطة والدولة بعد التمكن منها لا تسمح به النفس، ومخالفة صادق بك ليست

بالأمر السهل، فرأوا بعد الروية والتفكير أن يجتهد في إقناعه بالتنازل عن بعض

تلك الشروط؛ وأهمها عندهم ترك السلطة وحرية الحكومة بعدم سيطرة الجمعية

عليها، وقد بلغني يومئذ ممن أثق به من الاتحادين أن طلعت بك قصد دار صادق

بك غير مرة في الليل، ولم يأذن له صادق بلقائه، ولما رأى أنه لا يسهل عليهم

إجابته إلى ما طلب وأنهم خائفون منه أن يحاول تنفيذ مطالبه بالقوة، وعلم - كما

قيل لي يومئذ - أنهم يراجعون من استمالوه من الضباط لتأييدهم، أمنهم من اعتماده

على السيف في ذلك؛ لأن هذا هو الذي ينكره ويخشاه، فكيف يكون هو البادئ به،

وآذنهم بأنه يترك لهم جمعيتهم ويسترد استقالته من الجيش وكذلك فعل، وكان هذا

آيات إخلاصه الكثيرة.

ترك لهم هذا الصادق كلا من الجمعية والحكومة، فبعد أن قلبوا وزارة حسين

حلمي باشا؛ لأنه لم يستطع الصبر على أن يكون آلة معدنية في يدي طلعت وجاويد،

جاءوا بحقي بك فجعلوه صدرًا والناس مختلفون فيه، فظهر بعد الاختبار أنه

أصبر الناس على ما لم يطق قبوله كامل باشا، ولا الاستمرار عليه حسين حلمي

باشا، وتفاقمت الخطوب من سياسة طلعت وجاويد حتى ضج مجلس الأمة بالشكوى،

وبلغت أصوات المعارضين عنان السماء بعد أن أزعجت سكان الأرض، حتى

اضطر طلعت بك إلى الاستقالة من نظارة الداخلية، فصوبت سهام المعارضة بعده

إلى جاويد بك خاصة وإلى رجال الوزارة عامة، وإلى جاهد بك صاحب جريدة

(طنين) الذي هو المحامي عن جمعية الاتحاد والترقي بقلمه المسموم الذي سماه

بعض أدباء الآستانة من الترك (سفيه القوم) .

إنني أقمت في الآستانة سنة كاملة، وقفت فيها على غوامض سياستها

ومخبآت صناديق أسرارها، ووردت في ذلك موارد قلما تتيسر كلها لأحد، فقد

عاشرت كثيرين من العلماء والوجهاء والأدباء والضباط والمبعوثين والأعيان

ورجال الحكومة وغيرهم، ومنهم من لهم صلة بالأسرة السلطانية، ومنهم الاتحادي

وغير الاتحادي، وقد استفدت من مجموعهم الجزم بعدة مسائل أذكر منها ما يفيد في

هذا المقام:

(1)

إن مولانا السلطان متبرم من القوم وغير راض من الحال العامة،

وينتظر أن تغيرها الحوادث إلى أحسن مما هي عليه، ولا أزيد على هذا في هذه

المسألة.

(2)

إن بعض زعماء جمعية الاتحاد والترقي يريدون أن تبقى الدولة في

أيديهم، يديرونها كما يقررون فيما بينهم بزمامي حزبهم في مجلس الأمة ورجالهم

في وزارات الباب العالي وسائر المصالح، ويؤيدهم في ذلك طائفة من ضباط

الجيش.

(3)

يجب على كل وزير أو رئيس عمل منهم أن ينفذ كل ما تقرره اللجنة

العليا للجمعية في الحكومة.

(4)

يديرون نظام حزبهم في المجلس بطريقة تجعله آلة في أيدي من فيه

من زعماء الجمعية؛ كطلعت بك ورحمي بك وجاويد بك وخليل بك، ومن يليهم في

النفوذ؛ كمجاهد بك وإسماعيل حقي بك، فإذا اتفق هؤلاء مع لجنة سلانيك على

أمر جمعوا حزبهم للمذاكرة فيه، وهو متفق عليه بين الزعماء ومن يقنعون به قبل

الاجتماع ممن يسهل إقناعهم، ومن نظام حزبهم أنه إذا أقر الثلثان من حاضري

الجلسة فيه أمرًا، وجب على الباقين اتباعهم بغير مناقشة، فكان إذا حضر الجلسة

ستون وهم نصف أعضاء الحزب، واتفق أربعون منهم على المسألة تبعهم الباقي

هم 120، فينفذ في المجلس على أنه رأي أكثر أعضائه، وإنما هو رأي الأقلين

من حزب واحد من أحزابه.

(5)

إن هؤلاء الزعماء كلهم من شيعة الماسون، يجتهدون في نشرها

وجعل رجال الحكومة من أعضائها، كما ينشرونها في ضباط الجيش، وقد يكون

هذا تمهيدًا للفصل بين السياسة والدين، وتجريد السلطان من صفة الخلافة

الإسلامية.

(6)

إن من لوازم تشيعهم للماسونية قوة نفوذ اليهود فيهم وفي الدولة؛

وذلك يفضي على فوز الجمعية الصهيونية في استعمار بلاد فلسطين الذي يراد به

إعادة ملك إسرائيل إلى وطنهم الأول، وإلى ابتلاع أصحاب الملايين من اليهود

لكثير من خيرات البلاد.

(7)

من أهم مقاصد هؤلاء الزعماء، جعل السيادة والسلطة في المملكة

العثمانية للشعب التركي، والتوسل بقوة الدولة إلى إضعاف اللغة العربية وإماتتها

في المملكة، وتتريك العرب مع إبقائهم ضعفاء بالجهل والضغط وذبذبة اللسان،

ومنع الألبانيين والأكراد من تدوين لغتهم وجعلها لغة علمية. وهذا من المقاصد

السرية التي لا يعترفون بها على استعجالهم بتنفيذه بالعمل وبكتابة جريدة طنين.

ومن آثار هذه السياسة هذه الحرب الطحون في اليمن والبلاد الألبانية، وقد

كان من أسهل الأمور تنفيذ الإصلاح المعقول في هذين القطرين في ظل السلام

والأمان.

قد وقفنا في الآستانة على كل هذا، ورأينا أهل الرأي والغيرة من سكان

هذه العاصمة يتوقعون الفتن ويخافون العواقب من سياسة هذا الرهط من زعماء

الاتحاديين، ولم أحب أن أشرح تلك الأمور وأبين ما فيها من الخطر؛ بل سعيت

إلى الإصلاح هنالك ما استطعت، فلم يغن نصحي لهم شيئًا، ولما عدت إلى مصر

أشرت بلطف إلى ما يخشى من خطر اليهود والماسونية في هذه المملكة الإسلامية،

وتركت الشرح والتفصيل والتشنيع والتقريع؛ لأنني لم أر ذلك من الحكمة.

كان صادق بك كل هذه المدة بالمرصاد، يراقب الحوادث من بعد لا يحرك

فيها قلمًا ولا لسانًا، ولا يجرد لها سيفًا، حتى إذا ما رأى قوة المعارضين

للاتحاديين ووزارتهم من أحزاب المجلس قد عظمت، ورأى أن أهل الاستقلال

والإنصاف من حزب الاتحاد نفسه متبرمون من الحكومة من تأييد أولئك الزعماء لها

ومن سياستهم الماسونية ولوازمها، حتى إذا ما رأى ذلك خانه الصبر، وعز عليه

أن يدع الدستور الذي أخذه بقوة يمينه والجمعية التي شرفها بعمله وإخلاصه آلة في

يد هؤلاء الرهط الذين لم يحسنوا التصرف ولم يقيموا الميزان، فمد يده إلى

المستقلين المنصفين من حزب الاتحاد، وبذل لهم مظاهرته فيما يقيمون به عوج

أولئك الأفراد، ويحولون بينهم وبين الاستبداد، ويصلحون ما حدث في الأمة

والدولة من الفساد، فاشتدت عزائمهم، وصاحوا في وجوه أولئك الزعماء تلك

الصيحة المزعجة، واقترحوا عليهم تلك الاقتراحات المنصفة، فارتفعت أصوات

التأييد والتفنيد، فكانت أصوات طلاب الإصلاح أجهر، وعددهم أكثر، فأظهر

الزعماء الرضا واجمين، وذلت أعناقهم لها خاضعين، ثم ولوا إلى أنصارهم

مدبرين، ورجعوا إلى ضباطهم مستنصرين، فإذا ليث الغاب قد انكشف عنه

الحجاب، ففزع حقي باشا إلى مولانا السلطان، وقال: إنه لا يكون في العاصمة

صدران، فإما قبول استقالتي وإما دفع صادق بك بالتي، وإخراجه من المدينة

ريثما تعود إليها السكينة، فأوحى إلى محمود شوكت باشا أن يخرج صادقًا ففعل وما

كاد، ونبأنا البرق أن صادقًا أبى أولاً ثم أجاب.

كان أول ما طرق مسامعنا في هذه الحادثة قول البرقيات العامة: إن الأمير ألاي

صادق بك (وذكرها بعضهم صدِّيق) أبى أن يطيع الأمر بالخروج فاستكبرت الأمر،

واستعظمت الخطب، ورأيت الناس حولي غير مبالين، فقلت: إن هذا هو البلاء

المبين، ولابد أن ننتظر تفسيره إلى حين، فإن الدولة لم يظهر فيها بعد الانقلاب إلا

رجلان عسكريان: أحدهما صادق بك موجد الدستور، وثانيهما حامي بيضته وهو

محمود شوكت باشا فاتح إستانبول، ولكل منهما مكانة في الجيش عظيمة، فإذا

تصادما وقع الخلل في الجيش وذهبت الثقة بالدولة، ولا يعلم العاقبة إلا الله تعالى،

وإني لا أصدق أن صادقًا الضابط المخلص الكامل يعصي أمر رئيسه، وأحمد الله

أن صدق ظني، ولم تلبث البرقيات أن شهدت بصحة قولي، ثم جاءت صحف

الآستانة ورسائلها بالتفصيل، وعلى الله قصد السبيل.

(مطالب المصلحين في حزب الاتحاد)

جاءت مطالب المصلحين مصدقة لجميع ما كنا علمناه في الآستانة من حقيقة

ما عليه زعماء الاتحاد، ومن تأثير سياستهم، وقد حدثنا به خواص أصحابنا،

وأشرنا إلى المهم منه في المنار، وهاك مطالبهم العشرة التي قرروها وأعلنوها:

1 -

أن لا يسعى المبعوثون إلى الامتيازات والمنافع لأنفسهم ولا لغيرهم.

2 -

أن لا يقبل المبعوثون وظائف الحكومة وأعمالها.

3 -

أن يكون قبول أحد المبعوثين نظارة من النظارات بقرار الثلثين من

فرقة الأكثرية، ويكون إعطاء الرأي بالطريقة السرية.

4 -

أن يعتني بتنفيذ القوانين وبالمراقبة على النظار.

5 -

أن يعتني بمسألة اتحاد العناصر (كما كان) وأن يبذل الجهد في سبيل

ترقي الزراعة والصناعة والتجارة والمعارف على نسبة الاحتياج.

6 -

أن يحافظ على الآداب والأخلاق العمومية الدينية مع الاقتباس من

المدنية الأوربية.

7 -

أن يحافظ على عادات السلف ضمن دائرة القانون الأساسي.

8 -

أن يعجل بقانون نصب وعزل عمال الحكومة الموظفين.

9 -

أن يعدل في القانون الأساسي بعض المواد المتعلقة بحقوق الخلافة

والسلطنة.

10 -

أن تقاوم مقاصد الجمعيات المؤسسة على السّر.

كل مطلب من هذه المطالب حجة على الاتحاديين الذين كانوا يصفون جمعيتهم

بالجمعية المقدسة، وعلتهم سياسة أولئك الرهط من الزعماء، دع أخذ الامتيازات

والسمسرة لطلابها، ودع التوسل بالمبعوثية إلى المناصب وهو ما يعيبون به غيرهم

بالتهمة، ودع عدم تنفيذهم القوانين والحكومة في أيديهم، وحمايتهم للنظار

ونصرهم على كل حال، ودع عدم وضعهم قانونًا للعزل والنصب؛ ليكون الأمر

كله تابعًا لمشيئة الأفراد، ودع تنفيرهم عناصر الدولة كلها من الحكومة ومن

العنصر التركي الذي لا ذنب له سواهم، وتأمل مسألة المحافظة على الآداب

والأخلاق الدينية وعادات السلف، فإن اقتراحها يدل على أنه يراد بها درء مفاسد

هي أشد خطرًا على الأمة ولا سيما على العنصر التركي من جميع تلك المفاسد

السياسية والإدارية، فإنما الأمة بمقوماتها ومشخصاتها من العقائد والشعائر والآداب

والأخلاق، وقد كانت كلها عرضة للفساد، بجعل الصلاة في مدارس الحكومة ولا

سيما الحربية أمرًا اختياريًّا، ومن إباحة تهتك النساء، بل الأمر أعظم من ذلك فقد

سمعت بأذني بعض الزعماء يجادل معممًا من رفاقه الاتحاديين فيما ترتقي به الأمة،

فالمعمم يقول: إننا نرتقي بالمحافظة على آدابنا وأخلاقنا وشعائرنا، وسائر مقومات

حضارتنا الإسلامية، وباقتباس الفنون والصناعات من أوربة، والزعيم يقول:

بل يجب أن نمشي وراء فرنسة في كل خطوة، ونتبع سننها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع

في الأمور المادية والمعنوية جميعًا، وأن نعصر رجال الدين عصرًا.. إلخ.

ثم تأمل مسألة الخلافة الإسلامية والجمعيات السرية، وتذكر مقاصد الماسون

في الحكومات ومقاصد الصهيونيين في فلسطين، وقل رب احكم بالحق وأنت أحكم

الحاكمين.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الشرة، بكسر الشين وتشديد الراء: الحدة والنشاط، وهي ضد الفترة.

ص: 265

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المسلمون والقبط

(النبذة السادسة)

(إنما نطلب حفظ حقوقنا لا إضاعة حق للقبط)

إذا كنت أكتب لأجل ِإيذاء القبط أو التحريض على إيذائهم، أو لأجل محض

مدافعتهم، ومنعهم مما لا أراه حقًّا لهم، فلا حملت بناني قلمًا، ولا حفظت كما

أمرني الرسول صلى الله عليه وسلم ذمة ورحمًا، بل أشهد الله أنني لا أكتب إلا

لأجل الخير والمصلحة دون الإيذاء والمفسدة، ولفوائد إيجابية لا لأغراض سلبية،

وإذا كان المؤتمر المصري يجتمع ليأتمر بتخطئة القبط في مطالبها فقط، فلا خير

في هذا المؤتمر، وأجله أن يكون عمله سلبيًّا فقط.

إنني منذ خبرت حال مصر، رأيت أن للقبط روابط ملية. دون الرابطة

العامة المصرية بها يتعاونون ويتناصرون، وعليها يجتمعون ويتحدون، ولها

يتعلمون ويتربون، وإليها يرجعون. فهم بها أمة كما يقولون. وليسوا عضوًا من

جسم الأمة المصرية، إذا اشتكى عضو من سائر الأعضاء تألموا له بل هم جسم

تام مستقل بمقوماته ومشخصاته القومية. وإنما يتصل بما يجاوره؛ ليتغذى منه

ويمد حياته لا ليمده ويغذيه.

هذا ما رأيت عليه القبط، فأكبرته وحمدتهم عليه.

ورأيت المسلمين على غير ذلك، رأيتهم يتخاذلون ويتفرقون، ويمتص

غيرهم مادة حياتهم ولا يشعرون، تتعادى أحزابهم ويصفون أكثر النابغين فيهم

بخيانة الأمة والوطن. وهو وصف لا ينطبق على أحد منهم، وإنما علتهم الضعف

وأقتل سببيه تخاذل أمتهم، ليس لهم تربية ملية تجمعهم، ولا وحدة في التعليم

تضمهم، وثروتهم عرضة للزوال بإسرافهم، لا يشعر بعضهم بمصاب بعض،

وليس لمجموعهم شرايين ولا أوردة يكون به جسمًا واحدًا يمد بعض أعضائه

بعضًا بالغذاء ودفع الأذى.

هذا ما رأيت عليه المسلمين، وفيهم من النابغين ما ليس في القبط. ليس

عندهم قضاة كقضاتنا، ولا محامون كمحامينا، ولا إداريون كإدارينا، ولا أطباء

كأطبائنا، ولا كتاب ككتابنا، ولا شعراء كشعرائنا. أعني أن النابغين فينا أكثر

وأرقى من النابغين فيهم. ولكنهم أرقى منا في الحياة الملية، والمقومات القومية،

التي يكون بها أفراد الشعب كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسم الواحد إذا اشتكى

له عضو تداعى له سائر البدن بالحمى والسهر، كما وردت الأحاديث في وصف

المؤمنين، وقد فقد المسلمون قوة هذه الصفات التي جعلها الله سر دينهم وآية إيمانهم

فلم يغن عنهم النابغون شيئًا.

هذا التفاوت بين شعبين يشارك أحدهما الآخر في جميع مرافق الحياة تحذر

عواقبه، ولا تؤمن مغبته، أحدهما قوي بالاتحاد والتكافل، والآخر قوي بالكثرة

ضعيف بالتخاذل دأب المتحدين الطمع في سلب مرافق المتخاذلين، وبذلك ساد

بعض الشعوب على بعض، وكثيرًا ما كانت الفئة القليلة هي التي تسود الفئة

الكثيرة، والطامع قد يوغل في حقوق الغافل بغير رفق، والعنف في الإيغال قد

يفضي إلى العنف في الدفاع، فيكون من ذلك ما لا خير فيه للبلاد، فأحببت منذ

سنين أن أنبه المسلمين على ما تصان به حقوقهم، مع حفظ المودة بينهم وبين من

يعيش معهم، فكتبت في ذلك كثيرًا. ولكن المسلمين كانوا في شغل عن ذلك، فيقل

فيهم من قرأ ما كتبت، ويقل فيمن قرأ من فهم، ويقل فيمن فهم من اعتبر، ويقل

فيمن اعتبر من حدث غيره بما أصاب من العبرة. وهكذا شأن الغافلين المغرورين

ينتبهون بالحوادث لا بالأحاديث.

إنني مؤمن، والمؤمن لا ييأس من روح الله، ولا يقنط من رحمة ربه، ولو

يئست من حياة المسلمين، لما رأيت شيئًا من الخطر على البلاد في استمرار غفلتهم

إلى أن تصير وظائف الحكومة وثروة البلاد في غير أيديهم، سواء أوغلت القبط

في ذلك برفق أو بعنف، فإن الأمراض التي تموت بها الأمم تكون كداء السكتة،

يذهب بحياة المرء وهو لا يشعر بأنه يموت. ولكنني أعتقد أن في مسلمي مصر

حياة ضعيفة، لم تصل إلى درجة التكافل والتضامن، وأن الخير في تقويتها بالدعوة

إلى حفظ المصالح، لا بالدعوة على دفاع المهاجم، وأن هذا لا يكون إلا قبل أن

يغلبوا على مصالحهم، ويروا أنفسهم مسخرين لمن كانوا دونهم، يومئذ يخشى أن

لا يروا في أيديهم إلا سلاح الكثرة، فيستعملونه للضرورة فيما يضر البلاد من

الاعتصابات والفتن، فتلافي ما يخشى في المستقبل مذ الآن هو الذي يحملنا على

هذا البيان.

ما رأيت استحسانًا عامًّا لشيء نشر في الجرائد بعد رد الأستاذ الإمام على

هانونو كاستحسان ما كتبته في هذه الأيام من المقابلة بين المسلمين والقبط. يذكر

لي لك كل من أراه. وكتب إليّ وإلى المؤيد غير واحد يشكرون لي ذلك ويطلبون

المزيد منه، أذكر هذا تمهيدًا لقول بعض هؤلاء الحامدين الشاكرين: لماذا لم تنبهنا

من غفلتنا بمثل هذه المقالات قبل اليوم؟

ولهؤلاء أقول: إنني قد فعلت، وقلما قررت حقيقة في هذه الأيام إلا وقد بينتها من قبل

في المنار أو في بعض الجرائد اليومية، ولكن المسلمين كانوا في غمرة ساهين، لا

يعنون بما يكتب ولا يحلفون به إلا ما يكون عند الحوادث المؤلمة، والصيحات

المزعجة، ثم لا يلبثون أن ينسوا ويعودوا إلى سابق لهوهم وسهوهم، حيث خشيت أن

نكون كما قال شاعرنا من قبل في مثله الذي يشبهنا فيه بالغنم الراعية، تظل غافلة

متمادية في رعيها، حتى إذا ما سمعت نبأة صائح ترتاع وترتفع رؤوسها تاركة

الارتعاء، فإذا سكت الصائح عادت إلى سابق شأنها، أعني بهذا القول ابن

دريد في مقصورته:

نحن ولا كفران لله كما

قد قيل في السارب أخلى فارتمى

إذا أحس نبأة ريع وإن

تطامنت عنه تمادى ولها

صاحت القبط منذ ثلاث سنين مثل صيحتهم في هذه السنة، فكتبت مقالة في

المنار عنوانها (المسلمون والقبط) كان لها باعتدال الرأي والأدب في العبارة أحسن

الوقع، فنقلها بعض أصحاب الجرائد اليومية، ولخصها بعض آخر، فلم تلبث

القبط أن سكتت صيحتها، وسكنت في الظاهر دون الباطن ثورتها، فنسي

المسلمون ما كان، حتى تجددت الصيحة في هذا العام، بأقوى وأدوم مما كان في

سابق الأعوم.

افتتحت تلك المقالة بهذه الجملة:

(سبق لنا قول في هاتين الطائفتين بمصر بينا فيه أن المسلمين من حيث هم

أفراد أرقى من القبط في كل علم، وأن القبط من حيث الاجتماع والتعاضد الملي

أرقى من المسلمين، فلهم مجلس ملي وجمعيات وجرائد دينية تبحث دائمًا في

مصالحهم العامة من حيث هم قبط، وهم يتعاونون ويتحدون في المصالح. وهذا ما

حمدتهم وأحمدهم عليه، وأتمنى لو يوفق المسلمون لمثله، وإن كنت أعلم أنه لو

أنشأ المسلمون جمعية للرابطة الإسلامية كجمعية الرابطة المسيحية، لما وجدوا في

القبط مثل أحمد بك زكي يقوم فيها خطيبًا، ويجعل عنوان خطابته (مصريون قبل

كل شيء) بل يخشى أن يقوموا كما تقوم أوربة، ويقول الجميع: إن المسلمين

في مصر يحيون التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية، ويدعون إلى ارتباط

بعضهم ببعض؛ لمقاومة النصارى في مصر بل في جميع الأرض) .

ثم بينت نسبة القبط إلى المسلمين في العدد وفي أعمال الحكومة، وأنهم أكثر

فيها من المسلمين، وهم يدعون على ذلك أنهم مظلومون مهضومون، ويطلبون

لأنفسهم سائر أعمال الحكومة التي في أيدي المسلمين، وأنهم يسمون أنفسهم أهل

البلاد، ويُدلون ويفخرون على المسلمين بالانتساب إلى آل فرعون ذي الأوتاد،

الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، ويجهرون بأن المسلم فيها أجنبي محتل،

وأتاوي معتد، وينكرون أن يكون للمسلمين فيها حق من حيث هم مسلمون فاتحون،

على ادعائهم الحقوق فيها من حيث هم قبط مسيحيون، وبينت فيها مواثبتهم

للمسلمين من أضعف جانب يرونه فيهم، وهو تهييج الإنكليز وسائر الأوربيين

عليهم بتهمة التعصب الإسلامي، وكون هذه المواثبة قد تفضي إلى ندم المسلمين

على ما قاموا به من دعوة الوطنية، واعتقاد أنها كانت خسارًا عليهم وربحًا وفوزًا

للقبط، وأنهم إذا خسروا مودة المسلمين، فلا يمكن أن يجدوا عوضًا خيرًا منها؛

فإنهم لا يقدرون على استغلال أرضهم بعد ذلك.

وبينت هنالك أن القبط لا يمتازون على غيرهم من نصارى المصريين

ويهودهم، وإنما ميزهم المسلمون عناية بهم، وبحثت في دين الحكومة الرسمي،

وذكرت مساعدة بعض رجال الدين من الإنكليز لهم، وأن المساواة التي يطلبونها

هي امتياز على المسلمين من وجه آخر.

نصحت للقبط في تلك المقالة نصيحة لو عقلوها وعملوا بها ما وقعوا في

السيئة التي ندموا الآن أن اجترحوها، وقد سبني في هذه الأيام كتابهم في جرائهم

ولو عقلوا قولي لاستبدلوا الثناء بالهجاء، فقد بينت لهم الآن كما بينت لهم من قبل؛

أن المسلمين يغلب عليهم النسيان والتواكل، وأنه لا شيء يحول دون سلب القبط

منهم كل ما في أيديهم إلا هذه الجعجعة بالقبطية والمسيحية التي تدفعهم بالرغم

منهم لمقابلتها بالجنسية الإسلامية، وهذا نص نصيحتي لهم منذ ثلاث سنين:

فالرأي عندي للقبط أن لا يغتروا بترجيع بعض الجرائد الإفرنجية لأصواتهم

في الشكوى من المسلمين والقول بتعصبهم، ولا من سرور بعض الإنكليزية إن كان

ما قيل حقًّا فإنهم مهما أصابوا من تعضيد في مشاقة المسلمين، فهو لا يكون خلفًا

صالحًا لمودتهم فيما أرى. فأنصح لهم أن يتوبوا مما فعلوا، ويعتذروا عنه،

ويعودوا إلى سابق شأنهم، أو إلى خير منه إن استطاعوا. والمسلمون تغلب عليهم

سلامة القلب، فلا يلبثون أن يغفروا لهم، وينسوا ما كان منهم، ففي حديث أبي

هريرة عند أبي داود والترمذي: (المؤمن غر كريم) أي ليس بذي نكر ولا مكر ولا

خدّاع.

ولولا أنني أحب الوفاق، لما نصحت لهم بهذا. فإنني أعلم أن هذه المشاقّة لا

تزيد المسلمين إلا قوة في رابطتهم الإسلامية التي أدعو إليها، وحفظًا لحقوقهم التي

أغار عليها، ولكنني أفضل أن يكون تنبيهي لهم بغير هذا:

(أحب أن يعتصموا بحبل الله جميعًا ولا يتفرقوا، وأن يكونوا مع ذلك على

وفاق ووئام مع من يعيش معهم، وأنصح للمسلمين أن لا يكتبوا شيئًا في الرد على

القبط، ولو لم يكتبوا في الماضي ما كتبوا لكان خيرًا لهم وأحسن؛ إطفاء لتلك الفتنة

وخذلانًا لموقظيها. ولكن لا بأس ببيان عدد الموظفين منهم في كل مديرية، وذكر

الوقائع في تعصب بعضهم لبعض، وتعاونهم الملي المحض من باب بيان الحقيقة

والاعتبار بها، بشرط أن يتحرى الصحيح، ولا تمزج الرواية بشيء من التأنيب

والتجريح، فضلاً عن الهجر والتقبيح) .

لم تعمل القبط بهذه النصيحة؛ لاعتقادها أن المسلمين قد قضي عليهم، وأنهم

أمسوا مشلولين لا حراك بهم، وزادها غرورًا أن رأت المسلمين نسوا تلك الغارة

الشعواء، ولم يأخذوا حذرهم من مثلها، ولا سمعوا نصيحتي بإحصاء الموظفين؛

لبيان أن القبط غابنون غير مغبونين، فها هم أولاء قد استدركوا في هذه المرة ما

فاتهم في الغابرة، فكانت كرة القبط كرة خاسرة.

إنني على تنبيهي للمسلمين، وحرصي على حفظ مصالحهم ومرافقهم،

ورغبتي في ترقيتهم، أجري على ما تعودت من المحافظة على مودة كل من يعيش

معهم، ويشاركهم في أوطانهم، ولهذا قلت: إنني أحب نصحهم بغير هذه الوسيلة؛

ولذلك أشرت عند الحركة الأولى إلى ما يسكنها، وقد سكنت وأبت القبط إلا أن

تعود إلى تحريكها، وثبت لنا أن المسلمين لا ينتبهون إلا بمثل هذه الصيحات

المنكرة في وجوههم.

نبهت قبل هذا على النسبة بين المسلمين والقبط في مصر، وبينهم وبين

غيرهم في الأقطار الأخرى بمقالات اجتماعية شخصت الحال تشخيصًا، وذكرت

بما يجب تذكيرًا. وأنَّى للغافل الذكرى؟ كتبت في الجزء الأول من مجلد المنار

الثامن الذي صدر في المحرم سنة 1323 (مارس سنة 1905) مقالاً عنوانه

(حياة الأمم وموتها) ، عرفت فيه حياة الأمة بأنها أثر روح يسري في أفرادها،

فيشعرهم بأن مكان كل واحد منهم من مجموع الأمة مكان أحد أعضائه من جسده،

فهو يلاحظ في كل عمل منفعة نفسه ومنفعة أمته معًا، كما أن عمل كل عضو في

البدن يكن سبب حفظ حياته من حيث هو سبب لحفظ حياة البدن كله، وقارنت بين

حياة الأفراد وحياة الأمم، وبين حياة الأجسام وحياة النفوس، وضربت المثل لأمة

تموت بالوارث المسرف، ولأمة تحيا بالتاجر المقتصد، ذلك ينقص ماله الكثير كل

يوم، وهذا يزداد ماله القليل كل يوم. وأول ما يخطر في بال المصري في هذا

المقام ورثة شريف باشا وأجراؤهم وخدمهم من القبط، أولئك أضاعوا ثروتهم

الواسعة فصاروا فقراء، وهؤلاء امتصوا تلك الثروة فصاروا أغنياء.

قلت في تلك المقالة: (معرفة شؤون الأمم والشعوب أخفى على الأكثرين من

معرفة حال الأفراد والبيوت، فكم من جاهل يفضل أمة على أخرى؛ لأنها أصح

دينًا وأعدل شريعة، أو لأنها أشرف أرومة، وأعرق في المجد جرثومة، أو لأن

تراثها من سلفها أكثر، ومزاياها الجنسية أشهر، أو لأنها أكثر عددًا ومددًا، وأعز

عشيرة ونفرًا، وإذا صح أن يكون هذا كله أو بعضه للأمة التي تموت زمنًا من

الأزمان. فإنه لا يبقى إلا ريثما تتصل بها أمة حية، فترى هذه تمتص جميع مزايا

تلك ومقوماتها الحيوية، وتلك تتحمل آفات هذه وعللها البشرية، حتى تكون

إحداهما في عليين، والأخرى في أسفل سافلين.

(يسهل على القارئ في الشرق القريب أن ينظر فيما بين يديه من الشعوب

التي تضمها جنسية سياسية أو لغوية، وتفصل بينها روابط نسبية أو ملية، فإنه

يرى شعبين يمتاز أحدهما بكثرة العدد وكثرة المال وقوة الحكم وقوة العلم، ثم يجد

نفسه تفضل قليل المزايا منهما على كثيرها؛ لأنه يرى الشعب الكثير المزايا يتمزق

ويتفرق، فتذهب مزاياه بذهاب الأعوام. والشعب القليل المزايا ينمو ويسمو

ويجتمع ويتألف فيعتز ويشرف بإقبال الأيام، يرى الشعب الكبير يتخاذل فيتضاءل،

والشعب الصغير يتلاءم ويتعاظم، وما ذلك إلا أن في أحدهما نسمة حياة تدفع عنه

الأعراض الضارة بالشعوب فيقوى ويزكو، وتغذيه كل يوم بغذاء جديد فينمو

ويسمو، وليس في الآخر شيء من هذه الحياة، فهو كجسم العاشق يذوب ويضمحل

ويحقر ويذل) .

ثم بعد مقارنة أخرى بين شعبين يحيى الكبير منهما ويموت الصغير، فندت

رأي من يجعل للصغر والكبر دخلاً في الحياة والاتحاد بما نصه:

(لا يغرنك ما ترى من آيات الحياة في أمة تقطعت روابطها، وانفصمت

عروة الثقة بين أفرادها، وبغض إليها النظام، وفقدت التلاحم والالتئام، وإن كان

ما نراه أخلاقًا كريمة، ومعارف صحيحة، وثروة واسعة، وسلطة نافذة، مع العلم

بأن هذه الأشياء كلها هي آثار الحياة توجد بوجودها وتذهب لذهابها، فقد يكون

ذلك من بقايا إرث قديم، يعبث به الفساد الحديث، إلا أن ترى العلم والأخلاق

تقرب البعيد، وتجمع الشتيت، وتزيد في الثقة بين الناس، وتدعو إلى التعاون

على البر والإحسان، وترى الثروة تجمع مع ملاحظة مصلحة الأمة، وينفق جزء

منها على المنافع العامة)

إلخ.

وقد كتبت في تلك السنة (1323) مقالة أخرى عنوانها (المسلمون والقبط

أو آية الموت وآية الحياة) كان سببها ما كتبه المؤيد وكتبته جريدة الوطن في مسألة

(التعليم الديني والحكومة) وما طلبه القبط من مساواتهم بالمسلمين، فيما يشترط

في إعفاء حفاظ القرآن من خدمة العسكرية. وذكرت في هامشها أنني (طالما

عزمت على كتابة مقالات في المقابلة بين مسلمي مصر وقبطها وبين المسلمين

والنصارى عامة ثم أرجأتها) ، وسبب الإرجاء؛ انتظار الفرص التي تنبه الأذهان

إلى ما يكتب والنفوس إلى العبرة به.

وجملة القول أننا نرى أن القبط يطلبون ما ليس بحق شرعي لهم، وإنما

يطلبونه بقوة الاتحاد الملي وضعف المسلمين وتخاذلهم، ونرى المسلمين تضيع

حقوقهم الشرعية وهم غافلون. ونرى أن القبط قد أيقظوا المسلمين ونبهوهم قبل

الوصول إلى حد اليأس الذي تخشى عاقبته.

ونرى أن بيان حق كل ذي حق ومكان كل من الآخر؛ هو الذي يمكن أن يبنى

عليه الصلح الثابت، والوفاق الدائم، وسنبين في النبذة التالية مكان كل من هذه

الحكومة، وهل هي حكومة إسلامية أم لا؟

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 273

الكاتب: محمد رشيد رضا

النبذة السابعة

هل الحكومة المصرية إسلامية أم لا؟

إنني بحثت وأبحث في مقالي هذا عن الحقيقة الكائنة لا عن الرغيبة التي أحب

أن تكون، والعاقل هو الذي يحب جلاء الحقائق، وبيان الواقع الكائن، ويستفيد

منه عبرة، ويزداد بصيرة، فيسلك إلى مقاصده في طريق النور لا طريق الظلمة.

ولو تدبرت القبط هذا لكافأتني جرائدها بالحمد والشكر، لا بما جاءت به من السب

والهجر.

من هذه الحقائق التي أبينها في هذه النبذة وقد أشرت إليها من قبل أن

المسلمين يعدون أنفسهم أمة جنسيتها الإسلام، وأنه يجب أن يكون لهم حكومة

إسلامية، وأن جنسيتهم هذه واسعة عادلة لا تفرق في العدل بين المسلم وغيره،

وذات سماحة وحرية، لا تمنع أهلها أن يشاركوا غيرهم فيها وفي جميع مرافق

الحياة، كما ولوا القبط في القديم والحديث إلى هذا اليوم أكثر أعمالهم في الحكومة،

وكذا في عقارهم وأرضهم وأوقافهم.

بالغوا في التسامح وأسرفوا في الجود والسماحة في أيام قوتهم، وقنعوا من

السلطة باسم السيادة وكونهم هم المعطين وغيرهم هو المعطى، حتى إذا ما حل بهم

الضعف صار ما أعطوه للأجانب حقوقًا وامتيازات يستعملون بها عليهم، ويزيدون

فيها بقوتهم ما شاءوا، ويفسرونها كما أرادوا. وقد كان هذا بتكافل الدول القوية

واتحادها بالتدريج، فأذاقوا المسلمين مرارة تفريطهم لقمة بعد لقمة، وجرعة في إثر

جرعة، فتجرعوه كارهين مكرهين، كما بذلوه من قبل راضين مرضيين.

وأرادت القبط أن تقيس نفسًا على الدول الكبرى، فتسمي ما سمح لها به

المسلمون حقوقًا واجبة، وتزيد فيها ما تشاء، فأنشأت تطلب لنفسها الزيادة فيما

سمته حقوقًا وإزالة ما بقي للمسلمين من امتياز إسلامي بمشاركتها لهم فيه. وقد كان

هذا مما يسيغه المسلمون المساكين جرعة بعد جرعة، كما أساغوا تلك الامتيازات

مع الاعتراف لهم بأن الحكومة حكومتهم. ولكن أبت جرائد القبط ومؤتمر القبط إلا

أن تنازع المسلمين اسم السلطة كما نازعتهم معناها. وأنها لإحدى الكبر التي لم يئنْ

للمسلمين في مصر أن يسيغوها مختارين.

مضت سنة الله في أهل السيادة الذين يضيعون سيادتهم بسوء تصرفهم أن

يكون آخر ما يهتمون به الأسماء والألقاب والرسوم والشارات الظاهرة، كما هو

معروف في تاريخ الشرق والغرب.

دع ذكر ملوك الطوائف وأمراء المسلمين من الأندلس إلى فارس والهند،

واعتبر بحال أمراء جبل لبنان من مسلمي الشيعة، تجدهم في آخر عهدهم بعد أن

ملكت النصارى حتى من خدمهم وإجرائهم معظم ما كان لهم، كانوا يقنعون من

الامتياز باللقب ولبس الأحذية الحمر التي كانت خاصة بهم من دون الفلاحين، حتى

كان الشيخ منهم يكون له الحقل أو الكرم الواحد من الأرض والعقار، فيهدي إليه

الفلاح النصراني حذاء أحمر (جزمة) ويظهر له أنه جيء به، فلم يرد أن يلبسه

تأدبًا معه فيهبه الشيخ إياه، وربما كان آخر ما يملكه.

أصابت القبط موضع التأثير من قلوب المسلمين بقولها: إن حكومة مصر

ليست إسلامية (أو حركت الوتر الحساس من نفوسهم كما تقول الإفرنج) وقد جعل

هذه الدعوى خطيبهم في مؤتمر أسيوط قضية مسلمة، فحمد الله وحمد نية

المصريين أن كان الذين يقولون منهم: إن هذا البلد إسلامي لا يتجاوزون عدد

الأصابع، وهذا ألطف ما قالوه في هذا الباب؛ لأنهم قالوه بعد العلم بأن المسلمين

تألموا من مؤتمرهم وعزموا على إنشاء مؤتمر إسلامي.

نعم إن المسلمين مفتونون بالحكومة في كل مكان، وهذا هو الواقع وإن أضر

بهم في هذا الزمان، فإنه صرفهم عن ترقية أنفسهم، والاعتماد على

استعدادهم ومواهبهم، ألم تروا أن المسلمين بمصر قد أهملوا أمر الأمة، وتركوها

للمرابين والمقامرين والقوادين والخمارين يغتالون ثروتها، ويجنون على دينها

وعرضها وصحتها، وجعل أصحاب الجرائد وغيرهم من المتصدين والمتصدرين

للأمور العامة يجاهدون الحكومة والاحتلال المسيطر عليها، وقد ترك للأمة حريتها

تعمل ما تشاء فلم تعمل شيئًا يذكر، ولماذا؟ لأن الزعماء شغلوها بفتنة السلطة عن

نفسها، حتى إنهم كانوا يعدون من يجب أن يكون همّ الأمة الأكبر في ترقية نفسها

بالتعليم والتربية والثروة خائنًا للأمة خادمًا للاحتلال؛ لأن الواجب عندهم

قبل كل شيء هو إزالة الاحتلال ثم إصلاح الأمة بالحكومة المستقلة.

مقاومة الاحتلال بالسهل الممكن وهو الكلام طبيعي لا اعتراض عليه،

والانتقاد على الحكومة - والحرية واسعة - طبيعي لا بد منه، وإنما المنتقد هو جعل

المسلمين همهم كله في ذلك، وإهمالهم أمر تربية الأمة وتكوينها، وقد سلم من هذا

الانتقاد القبط، فكوّنوا أنفسهم حتى صاروا على قلتهم يقولون (الأمة القبطية) بحق،

وإنما أخطأوا أخيرًا بما نازعوا المسلمين في شكل الحكومة وتصريحهم بأنها غير

إسلامية.

الحق الواقع أن جمهور المسلمين يرون أن حكومة مصر إسلامية وشعورهم

في هذا رقيق جدًّا، يجرحه القول اللطيف؛ ولهذا كان لورد كرومر وهو ذلك

الشجاع الجبار، يتحامى أن يلمس أي شيء له علاقة بالدين، وهذه هي سنة

السياسة عند الفحول المقرمين من أهلها، وعليها جرى الكثيرون في إبقاء بعض أمراء

المسلمين في البلاد التي ملك الإفرنج أمرها كله؛ كسلاطين جزائر جاوه

وباي تونس وبعض النواب في الهند؛ لتتوهم العامة أن حكامها من أبناء دينها.

هذا هو شعور الجماهير، وإني لأعرف من المسلمين من يرى أن الخير

للمسلمين أن تعلن هذه الحكومة رسميًّا أنها غير إسلامية، وأن تترك للمسلمين جميع

شؤونهم الملية يديرونها بأنفسهم كما تركت مثل ذلك للقبط وغيرهم؛ كالمحاكم

الشرعية والأوقاف والمعاهد الدينية كلها.

يرى هؤلاء أن هذا الإعلان إذا حصل، يذهب بغرور المسلمين بهذه الحكومة

التي لا حظّ لهم من عنايتها، ويبد لهم من بعد اتكالهم استقلالاً واعتمادًا على عملهم،

ومن بعد كسلهم نشاطًا وإقدامًا على ترقية أنفسهم، حتى إذا ما ارتقوا وتكونوا

بتوحيد التربية الملية والتعليم الحر، فصاروا أمة واحدة تكون حكومتهم تابعة للرأي

العام المستقل في الأمة؛ لأن هذه هي عاقبة جميع الأمم المرتقية.

تقول القبط: إن هذه الحكومة مصرية لا إسلامية وحاكمها العام حاكم مدني لا

حاكم ديني، وقد يحتج من يرى هذا بأنها تشرع ما لم يشرعه الإسلام من القوانين،

وتبيح ما لم يبحه من الفسق. وقد يرد عليهم الجمهور بأن خطأ الحكومة في هذه

المسائل كخطأ الأفراد، فكما يخالف أفراد المسلمين هداية دينهم فيزنون ويسكرون،

تخالف حكومتهم هذه الهداية فلا تمنع الزنا والسكر، وحكم الفقه أن المعصية لا

تخرج صاحبها من الإسلام إلا إذا جحد تحريمها، وكان مجمعًا عليه معلومًا من

الدين بالضرورة. وكما تكون الأمة يكون أولياء أمورها لأنهم منها. وقد عرض

لهذه الحكومة من سلطة الأجانب ما جعلها غير مختارة ولا مستقلة في كل شيء

إسلامي، لكن السلطة الأجنبية لم تمح منها كل ما هو إسلامي.

إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تستولي على مال من يموت من

المسلمين عن غير وارث، ولا تستولي على مال من لا وارث له من القبط وغيرهم

من النصارى واليهود؟

إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تتولى هي القضاء الشرعي

الإسلامي في الأحكام الشخصية، وتدع مثل ذلك لغير المسلمين يحكمون فيه بما

يعتقدون؟ إن القاضي الأكبر الذي يتولى السلطة الشرعية العليا من قبل خليفة

المسلمين، يحكم بين الناس بمذهب الخليفة والأمير وكذلك سائر القضاة. ولا يحكم

أحد منهم بين المتخاصمين بأحكام المذهب الذي يتقلدونه، بل جعلوا قضاء مصر

حنفيًّا محضًا كالقضاء في بلاد الترك الحنفية، وأهل مصر شافعية ومالكية إلا

القليل.

إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا لا تترك للمسلمين أوقافهم كما

تركت للقبط وغيرهم أوقافهم، فإذا كان الخديوي كما تقول القبط حاكمًا مدنيًا فقط،

ونسبة المسلمين والقبط إليه من حيث هو حاكم واحدة، فهل يرضون بكل ما يتفرع

على هذا الأصل، ويجعلون له الحق أن يعطي من أوقاف القبط للمنافع المشتركة

(كالجامعة المصرية) كما يعطي من أوقاف المسلمين.

إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تضع هي القوانين للمعاهد الدينية

التعليمية كالأزهر وغيره من جوامع العلم الديني، وتولي هي المشايخ عليه ومشايخ

المذاهب، وترفع بعضه في الرتب العلمية الدينية على بعض. ولماذا تولي أئمة

الصلاة وخطباء الجمعة، ولا ترى لها مثل هذا الحق في معاهد الديانة النصرانية

من الأديار والكنائس وقسوسها ورهبانها وسائر رجال دينها، وإنما تكتفي ببعض

الرسوم الدالة على أن هذه الديانة من الديانات التي أقرتها الحكومة في بلادها، ولها

عليها حق الحماية وحفظ الحرية الدينية. وليس لكل أهل دين هذا الحق في كل

حكومة، فالبابية ليس لهم حقوق دينية في بلاد الدولة العثمانية كالنصارى مثلاً.

إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تترك العمل في الأعياد الدينية

الإسلامية، وتحتفل بها احتفالاً رسميًّا كما تحتفل بالمولد النبوي الشريف دون أعياد

القبط وغيرهم، ودون مولد سيدنا عيسى عليه السلام، ومثل ذلك الاحتفال بمحمل

الحج وكسوة الكعبة المعظمة.

لست أعني بهذه الأمثلة والشواهد أنها كلها من الفرائض أو السنن في أصل

الإٍسلام، أو من الأحكام التي فرضها الدين على الحكام، فالصحابة والتابعون

والأئمة المجتهدون لم يحتفلوا بذكرى المولد ولا المعراج، كما تحتفل الحكومات

الإسلامية الآن، وإنما أعني أن هذه الخصائص من آثار كون الحكومة إسلامية.

تريد القبط أن تمحو هذه الخصائص، ومن وسائلها على ذلك طلب ترك

العمل في يوم الأحد، وطلب جعل أموال الحكومة المصرية شرعًا بينهم وبين

المسلمين، لا يتفق شيء منها في مصلحة إسلامية إلا ويتفق مثله في مصلحة قبطية،

وهذا أصل عام، يتفرع منه إذا قبل محو جميع خصائص المسلمين في هذه

الحكومة. وتحتج القبط على حقيقة هذا الطلب بأن هذه الحكومة مصرية لا إسلامية،

فهذا هو الأصل عندها، فإذا قبلته الحكومة ترتب عليها ما طلبوا أو أكثر مما

طلبوا من الفروع.

وإذا محصنا المسألة وبينا حقيقتها ترى أن المطلوب هو إخراج هذه الحكومة

عن كونها إسلامية بإزالة كل اختصاص للمسلمين فيها، ولكن أبوا أن يعترفوا بهذا

الأصل ويطلبوا هدمه، ورجحوا أن يهدم بهدم ما بني عليه. وهذا من الدهاء والحكمة

؛ لأن طلب إبطال الفروع أخف على النفوس من طلب إبطال الأصول، فإنه من قبيل

الدعوى بالدليل، ولأن من اعترف بالأصل لزمه الاعتراف بالفروع. فما جروا عليه

هو الأقوى والأنفع لهم، وهو أشد على المسلمين في باطنه وحقيقته، وأخف في

ظاهره وصورته.

إن الدولة العثمانية أمّ الحكومة المصرية واقفة أمام مثل هذه المسألة في بلادها،

فقد قام النصارى بعد الدستور يطالبون بنحو ما تطالب به القبط. ولكنهم لا

يزالون يخفون أكثر مما يظهرون، وليس موضوع كلامي إبداء رأيي أو ميلي في

تخطئة هذا أو ذاك ولا تصويبه، وإنما رأيت الأمر غمة على المسلمين والنصارى

كافة، وما رأيت أحدًا يتجرأ على بيان الواقع فأحببت أن أبينه كما هو لا كما يجب

أن يكون.

الواقع أن الحكومة العثمانية حكومة إسلامية قبل الدستور وبعده، وأن الحكومة

المصرية مثلها وتابعة لها في كونها إسلامية، وإنما تختلف في شيء واحد وهو أنها

مستقلة في إدارتها الداخلية بعهد (فرمان) من السلاطين. وأن الاحتلال الأجنبي

مسيطر عليها.

وقد صرّح القانون الأساسي للدولة بأن دينها الرسمي هو الإسلام، وأن

سلطانها هو خليفة المسلمين. والدين في حكومتها أظهر منه في الحكومة المصرية

التي هي تحت سيادتها. فإن شيخ الإسلام هنالك هو العضو الأول في مجلس

النظار وباب المشيخة الإسلامية من أكبر نظارتها. وإذا تناقش مجلس الأمة من

المبعوثين أو الأعيان في مسألة، وقال أحد منهم: إنها مخالفة للدين؛ لا يستطيع أحد

أن يقول: لا ضرر في ذلك، بل يدفعون ذلك بعدم التسليم له، فلو كان جميع

المبعوثين من المسلمين عالمين بالشرع الإسلامي، وأرادوا أن يطبقوا جميع

القوانين على أحكامها لفعلوا بلا معارض.

هذا هو الواقع هنا وهناك، وهو يثقل على القبط وسائر النصارى، وإن كان

إنجيلهم يأمرهم أن يخضعوا لكل حاكم، وأن يعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله،

ويفخرون بأن دينهم فصل بذلك بين الدين والحكومة، ولكنه لا يثقل على اليهود

الجامع كتابهم بين الدين والحكومة، بل يكتفي هؤلاء من الحكومة بأن تمنحهم

الحرية في دينهم وكسبهم، وقد وجدوا من هذه الحرية في بلاد المسلمين أيام قوتهم

وأيام ضعفهم ما لم يجدوه في بلاد أخرى في الحالتين.

النصارى أحرص الناس على السلطة والحكم، وللتربية الإفرنجية في نفوسهم

تأثير عظيم في ذلك، فهم لا يرضون من الحكومتين العثمانية والمصرية تمام الرضى

إلا بالانسلاخ التام من الإسلامية، ولكن هذا الانسلاخ مما لا يستطاع إلا بالتدريج

البطيء في الزمن الطويل، فإن الأشخاص والأقوام والحكومات تتكون كطبقات

الأرض بفعل الزمن الطويل، وما كان كذلك لا يمكن تغييره دفعة واحدة كما قلنا،

ولهذا بينت من قبل أن القبط قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، ومنعهم

بغضهم للعرب أن يهتدوا فيه بحكمة شاعرهم التي سيرها مثلاً وهي:

قد يدرك المتأني بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزلل

قلت: هذا لأن ما يطلبونه هم وإخوانهم من سلخ الحكومتين من الإسلامية لا

يمكن أن يحصل إلا بالتدريج وبموافقة المسلمين لهم عليه. وقد وجد من المسلمين

الجغرافيين (أي الذين يعدون من المسلمين في إحصاء الجغرافية، وإن لم يعرفوا

ما هو الإسلام) من يرون هذا الرأي، ويسعون هذا السعي بالدعوة إلى حل

الرابطة الإسلامية، والاستعاضة عنها بالرابطة الوطنية أو الجنسية.

وقد صار لأصحاب هذا الرأي أحزاب وزعماء يقودون المسلمين إلى حيث

يجهلون، وترك رجال الدين زعامة الأمة وقيادتها لهم، وهم يعلمون أن منهم الملحد

ومنهم الفاسق الذي يشرب الخمر ويزني ويلوط، ومنهم الذي يحل الربا، وأمثال

هؤلاء الزعماء أحرص على سلخ الحكومة من الدين من النصارى؛ لأنه يتعذر عليهم

أن يجمعوا بين شهواتهم وأهوائهم والزعامة في قومهم وبين الحكومة الإسلامية.

لو صبرت القبط والنصارى في البلاد العثمانية لكفاهم هؤلاء المسلمون

الجغرافيون الأمر، كما بينته من قبل، ألم يروا أنه لا يوجد مشروع إسلامي إلا

ويكونون هم المقاومين له؛ لأنهم يخشون قوة الدين على زعامتهم ووطنيتهم، وإن

كان من قوم لا عناية لهم بالزعامة، ولا يحبون أن يقربوا من نار السياسة، ولكنهم

إذ لم يصبروا، يخشى أن يجيء الأمر على ضد ما طلبوا.

يحسن أن يقنعوا الآن بما لهم في الحكومتين من الحرية الواسعة، وجواز

مشاركة المسلمين في أكثر أعمال الحكومة، أو كل ما لا يختص بالدين منها،

والقبط أجدر بهذه القناعة من غيرهم؛ لأن أكثر أعمال الحكومة الخديوية في أيديهم

وليتدبروا حال الحكومات الأوربية العريقة في الحكومة النيابية، كيف لا تزال على

ندرة المخالفين لشعوبها في دينها تفضل مذهب الجمهور والحكومة على غيره،

حتى إن فرنسا وهي الجمهورية التي صرحت بأنه لا دين لحكومتها، لا يمكن أن

تجعل من اليهود المالكين على أزمة القوة المالية فيها قوادًا للجيش ولا للأساطيل ولا

رؤساء للجمهورية، دع معامتلها لمسلمي الجزائر وتونس.

إن لتصريح القبط وغيرهم بهذه المسألة عواقب تتوقع؛ ولا سيما إذا أجيبوا

إليها:

(منها) تنبيه غيرة المسلمين الغافلين إلى وجوب إقامة حكومتهم لشريعتهم،

ولا يمكن للحكومة العاقلة أن تخالف رغبة الجمهور العظيم من رعيتها إلى رغبة

النزر اليسير ولو فيما ترغب هي فيه.

(ومنها) تصدي الدولة العلية للمداخلة في الأمر باسم الخلافة والسيادة، إذا

أجابت الحكومة بعض المطالب تفريعًا على الأصل الذي تقرره القبط، وهو أنها

غير إسلامية.

وقد سمعنا هذه الأيام صوت مجلس المبعوثين في الآستانة يبحث عن

القاضي الأكبر والقضاء في مصر، ويطالب بالمحافظة على الشرع فيها، وعهد

إلى شيخ الإسلام بالبحث عن ذلك وإيضاح ما يقف عليه للمجلس، وما نظن أن

الحكومة الإنكليزية تحب فتح هذا الباب في هذا الوقت.

(ومنها) أن المسلمين في جميع الأقطار يعدون مصر باب الحرمين

الشريفين ومعهد علوم الدين، فإذا علموا أن حكومتها خرجت عن كونها إسلامية،

يألمون بالطبع، وتتفرج مسافة الخلف بينهم وبين النصارى، وذلك لا يرضى به

محب للإنسانية.

(ومنها) أن الإنكليز يحسبون لسخط رعاياهم المسلمين في الهند وغيرها

حسابًا إذا هم وافقوا القبط على ذلك جهرًا، والمسلمون أشد أهل الهند إخلاصًا لهم

في هذا الوقت.

(ومنها) أن هذا يذهب بكل أمل المسلمين في هذه الحكومة، فيكون علة

لرجوع المسلمين إلى استعدادهم الذاتي واعتمادهم على أنفسهم، وحينئذ يخشى أن

تخسر القبط منهم أكثر مما تربح من الحكومة، وأن يعود الأمر إلى نصابه بقوة

الاتحاد التي فقدها المسلمون باتكالهم على حكومتهم.

(ومنها) أن القبط ترجح على المسلمين رجحانًا ظاهرًا، يخشى أن يترتب

عليه مع تعصب بعضهم لبعض فتن كثيرة، وهذا مما لا ترضى به حكومة في

الدنيا ولا يعقل أن يرضى به الإنكليز.

وصفوة القول أن فتح باب هذه المسألة كان من الخطأ الذي يضر القبط دون

المسلمين، فإنه أيقظ هؤلاء، فإذا استمروا على يقظتهم كان فيه الخير العظيم لهم،

وإذا عادوا إلى غفلتهم كان ضرره على القبط تأخير مطالبهم، وبعدما كان قريبًا

منها عنهم.

نعم.. إن القبط يستفيدون من هذه الحركة اكتناه استعداد المسلمين، فإذا فاز

المؤتمر المصري اضطروا إلى معاملة المسلمين معاملة جديدة، ورضوا أن يكونوا

منهم مكان الأخ الصغير من الأخ الكبير الذي يكون رئيس العشيرة أو بما دون ذلك،

وإذا خاب المؤتمر بسعي المفرقين من المسلمين، علموا أن السيادة في هذه

البلاد ستكون لهم ولو بعد حين.

وسيكون المؤتمر المصري موضع النبذة الثامنة من مقالنا هذا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 279

الكاتب: محمد رشيد رضا

النبذة الثامنة

المؤتمر المصري

إن بركات هذا المؤتمر قد سبقت وجوده فإن القبط لما علموا بالعزم عليه

اضطروا إلى سلوك سبيل الأدب في التعبير، وتنكب السبيل التي سار عليها كتابهم

في الجرائد، وهي سبيل الغميزة والتعيير، ولكنهم لم يرجعوا عن مقصد من

مقاصدهم، وأهمها إنكار كون حكومة مصر إسلامية، وادعاء أنهم أعلى كفاءة من

المسلمين، وأنهم أخذوا معظم وظائف الحكومة بحق الكفاءة، ويطلبون ما يطلبون

من سائرها بحق الكفاءة.

غرهم اتحادهم وتخاذل المسلمين، وطعن بعض أفرادهم وأحزابهم ببعض ولا

سيما بالنابغين منهم في الحكومة، فادعوا ما هو بديهي البطلان في مسألة الكفاءة

الشخصية، وما يكاد يكون حقًّا ظاهرًا في كفاءة العصبية الملية لولا أن انبرى

أولئك الأكفاء الفضلاء إلى تأليف هذا المؤتمر الإسلامي المصري، وكل ما هو

مصري فهو إسلامي إذا عرف المسلمون أنفسهم، وتعاونوا على القيام بمصالح

قطرهم؛ لأن غيرهم قليل، فيكون بالضرورة مدغمًا فيهم، وليس له وجود مدني

خاص بدونهم، ولكن وجودهم المدني وقد اجتمعوا وتعاونوا لا يتوقف على وجود

غيرهم.

لولا غرور القبط باتحادهم، وتخاذل المسلمين وتفرقهم لما طلبوا الرياسة

الإدارية بدعوى الكفاءة. وكيف تعرف كفاءة المرء في أمر ليس له فيه عمل، ولم

تسبق له فيه تجربة، ومن ذا الذي يشهد لهم بهذه الكفاءة وشهادة المرء لنفسه باطلة

ولم يشهد بها المسلمون ولا المحتلون وهم أبناء دينهم، فإذا كانوا يعتدون بشهادة

أولياء الأمور فليتركوا الأمر إليهم، وإلا فليأتوا بشهدائهم إن كانوا صادقين.

أما أنا فأقول: إن هذا المؤتمر هو الذي يشهد لهم أو عليهم. ولا أعني

بشهادته ما يأتي به خطباؤه من البينات والحجج فقط، وإنما أعني شهادة الحال دون

شهادة المقال، فإن لسان المقال قد يكذب وقد يختلب لب السامع بالشعريات المتخيلة،

فيبرزها في صور الحقائق المقررة، كما فعل خطباء القبط في مؤتمرهم. وأما

لسان الحال فهو الصدوق الذي لا يعرف الكذب، والمحق الذي لا يأتيه الباطل

فنجاح المؤتمر المصري بالثبات والنظام والعدل والإنصاف والاتحاد والتعاون هو

الذي يشهد للمسلمين على القبط، وشهادته لا تكون بذلك إلا حقًّا؛ لأن تلك الصفات

هي روح الحق.

أبطأ مسلمو مصر في هذا المؤتمر، كما أبطأ إخوانهم مسلمو الهند في مثله

من قبل، سبق وثنيو الهند مسلميها في عقد المؤتمر السنوي والجمعية الملية،

والمسلمون هنالك أقل من الوثنيين عددًا، وسبق قبط مصر مسلميها في إنشاء

المجلس الملي وفي عقد مؤتمر قبطي، والمسلمون في مصر هم الأكثرون عددًا،

فما هو سبب ذلك، ههنا وهنالك.

كان المسلمون هم أصحاب العزة والسلطان الغالب في الهند كمصر، فعاش

الفريقان الزمن الطويل بعد دخول الأجانب في بلادهم، مغرورين بسابق عزهم

وسلطانهم، ولم يشعروا بحاجتهم إلى حياة اجتماعية جديدة في هذا العصر الجديد

كما شعر الهندوس هناك والقبط هنا لعدم غرورهما، وإنما استيقظ مسلمو الهند قبل

مسلمي مصر؛ لأن الغرور بالحكومة الإسلامية قد زال من نفوسهم من قبل، وإن

أبقت لهم إنكلترة بعض النواب الأمراء كالتماثيل الأثرية أو المومياء في متاحف

العاديّات، وبقي مسلمو مصر مغرورين متكلين على حكومتهم مشغولين بسلطة

الاحتلال المسيطرة عليها، حتى زلزلت القبط هذا الغرور باتحادها وتكافلها، وفغر

أفواهها لابتلاع الحكومة كلها، كما أيقظ مسلمي الهند اتحاد الهندوس وتكافلهم

وتقدمهم عليهم بعد أن كانوا دونهم، فليس لقلة المسلمين النسبية في الهند ولا لكثرتهم

في مصر دخل في هذه المسألة الاجتماعية، وإنما هي فتنة السياسة والغرور بشكل

الحكومة، قد أذهلا الأمة عن نفسها، وصرفاها عن استعمال مواهبها، حتى كادت

تفقد نفسها ومواهبها.

إن الأمم الأوربية التي يجب أن تعتبر بحالها هي التي أصلحت حكوماتها،

ولم تكن حكوماتها هي التي أصلحتها، فإذا ارتقت الأمة ترتقي الحكومة بالضرورة،

وقد قال السيد الأفغاني الحكيم: العاقل لا يُظلم ولا سيما إذا كان أمة.

يجب على زعماء الأمم أن يوجهوها إلى قواها الذاتية، وثروتها الطبيعية،

وأن ينموا هذه القوى والثروة، حتى تكون مصدر سعادة الأمة، وأن يحولوا دون

افتتان العامة بالسياسة، والاشتغال بأمر الحكومة، فإن ذلك يشغلها عما تحسنه

وتقدر عليه بما لا تحسنه ولا قبل لها به، وقد ورد في الحديث الشريف: (اعملوا

فكل ميسر لما خلق له) رواه الشيخان في صحيحيهما.

يعني أنه ينبغي للإنسان أن يعمل ويشتغل بما يميل إليه استعداده، فإنه هو

الذي يرجى أن يتقنه، ومن حكمة الله في اختلاف الاستعداد أن يتقن مجموع

البشر جميع الأعمال، فمسألة الحكومة والسياسة فتنة عظيمة في كل الشعوب ولا

سيما في دور الانقلاب الاجتماعي والانقلاب السياسي.

إن للأمة حقوقًا على العلماء والكتاب والأغنياء الذين يهتمون بالأمور العامة

ويتصدون لها. منها خدمة مصلحتها الدينية والأدبية، ومنها خدمة مصلحتها

الاجتماعية، ومنها خدمة مصلحتها الاقتصادية، فإذا حصروا عملهم في السياسة أو

جعلوه كله باسم السياسة أضاعوا عليها هذه المصالح والمنافع التي لا قوام لها ولا

بقاء إلا بها، ولا سيما في مثل هذه البلاد التي ليس لها من أمر سياسة نفسها إلا

الكلام بقدر ما تسمح به حرية الحكومة. وإني أعتقد أن الأمة لا ترتقي إذا كان همها

كلها موجهًا إلى شيء واحد، وناهيكم إذا كان ذلك الشيء هو السياسة التي لا يشتغل

بها في كل الأمم إلا القليلون، ولا يحسنها ممن يشتغل بها إلا الأقلون.

أمرنا الكتاب العزيز أن نسير في الأرض ونعتبر بأحوال الأمم، فإذا نحن

بلونا أخبار الشعوب الغربية وسبرنا غور ترقيهم، نرى أنهم ما وصلوا إلى ما

وصلوا إليه من العزة والثروة إلا باهتمام النابغين منهم بترقية الأمة، والاستعانة

على ذلك بالجمعيات والشركات وتوزيع الأعمال بحيث يشتغل بكل نوع منها

طائفة لا تشتغل بغيرها حتى تحسنها.

إذا اختبرنا حالهم في التربية وخدمة الدين نظن أنه لا هم لهم من الحياة غير

دينهم، ذلك بأن لهم جمعيات دينية كثيرة قد تبرعوا لها بالأموال، ووقفوا لها

الأوقاف حتى صارت تملك الملايين من الجنيهات، وقد عمت التربية الدينية عندهم

ثم فاض طوفانها على جميع شعوب الأرض، فأنشأوا فيها المدارس والملاجئ

والمستشفيات، وطفقوا يبثون فيها دينهم وينشرون كتبهم مترجمة بجميع اللغات،

وإن الفقراء منهم ليساعدون هذه الجمعيات على قدر حالهم، حتى إن منهم من يحرم

نفسه من شرب الشاي أو من سكره أو من اللحم شهرًا أو شهورًا أو سنة، ويجعل

ما كان ينفقه في ذلك للجمعيات الدينية، كما يعلم ذلك من كتبهم وجرائدهم.

أذكر مثالاً صغيرًا من ذلك وقع في هذه البلاد: كتب قسيس إنكليزي يقيم في

شبين الكوم في جريدة دينية؛ أنه يريد أن يطوف القرى في الأرياف للتبشير

بالإنجيل، وأنه يحتاج إلى دراجة (بيسكلت) لذلك ولا يملكها. فما لبث أن أمطرت

عليه بلاده الدراجات الجيدة، حتى صار بيته مخزنًا لها لا يكاد يسعها، وتبع هذا

من الدراهم والهدايا ما لا حاجة بنا إلى عده.

وإذا دققنا النظر في أعمالهم المالية نظن أنه لا هم لهم من الدنيا إلا المال

والاحتيال على جمعه، وتصريف أمور العالم كله به، وناهيكم بمصنوعاتهم التي

يعيش العالم كله بها، ولا تكاد تقع عين أحد منا إلا عليها.

وإذا بحثنا في العلوم والفنون كل منها على حدته، فإنه يسبق على أذهاننا عند

الوقوف على عنايتهم بكل علم وحده أنهم لم يشتغلوا بغيره، ولا يحفلون إلا ببلوغ

الغاية منه، حتى إنهم جعلوا لكل فرع من فروع العلم الواحد جمعيات خاصة لأجل

إتقانه.

فإذا أردنا الاعتبار بحالهم مع الاستضاءة بنور العقل، فعلينا أن ننظر في

حاجات أمتنا ومصالحها العامة، ونختص بكل منها طائفة تشتغل بها دون غيرها؛

لأن إتقان العمل الذي هو سلم الترقي لا يكون إلا بذلك.

عندنا جمعيات خيرية وتعليمية ودينية ونقابات مالية وزراعية وشركات

تجارية وصناعية، وتألفت عندنا مجالس المديريات لأجل تعميم التعليم، وهذه

المصالح كلها لا تزال ضعيفة ونفعها محصورًا في دائرة ضيقة، فهي الآن

كالأعضاء المتفرقة يجب اتصالها؛ ليكون عمل كل منها متممًا لعمل الآخر، أو

كالشرايين المنفصلة يجب اتصالها بالقلب لتستمد منه وتمده، أو كالأسلاك البرقية

التي يصل كل منها بين بلدين أو أكثر من المملكة، ولا تتصل بالمركز العام الذي

يصل بعضها ببعض، وما دامت مصالحنا متفرقة على هذا النحو لا نكون أمة

متحدة، فيجب أن يكون لجميع مصالح الأمة العامة سمط واحد تنتظم فيه حباتها

ويزاد عليها، حتى تكون عقدًا كاملاً، يجب أن تتصل هذه الأعضاء العاملة فتكون

جسمًا واحدًا، يعمل كل عضو منها عمله الخاص به؛ لأجل منفعة سائر الأعضاء.

فالسمط الذي نحتاج إليه لتكوين عقدنا الاجتماعي، بل الدماغ أو القلب الذي

نحتاج إليه ليمد جميع أعضاء الأمة بالحياة هو هذا المؤتمر.

ما سرني شيء في مصر كما سرني تأليف هذا المؤتمر، وإنما يتم السرور-

إن شاء الله تعالى - بنجاحه ودوامه، وإني أقترح عليه ما يغلب على ظني أن

غيري يقترحه، والحق يزيد قيمته ويعلو شرفه بكثرة طلابه، ولكن لا ينقص شرفه

بقلتهم، فإن الحق كالجوهر الخالص، شرفه ذاتي له، وإنما يعلو ويغلو بمعرفة

الناس لهذا الشرف وتنافسهم فيه أي: بأمر عارض غير ذاتي.

كفاني قانون المؤتمر أمر اقتراح سلبي لابد منه، ولا يرجى بقاء المؤتمر

ونفعه إلا به، وهو عدم الاشتغال بالسياسة؛ فالسياسة ما دخلت في شيء إلا أفسدته

كما قال الأستاذ الإمام، فيجب أن تترك لنفسها ويفوض أمرها على أحزابها، وأن

يشتغل المؤتمر بما دونها من مصالح الأمة فيجمع متفرقها، ويكمل ناقصها، ويوحد

وجهتها؛ ليكون عمل الكل موجهًا إلى غاية واحدة.

للمؤتمر عمل عارض مؤقت وأعمال دائمة مقصودة لذاتها، فالعمل العارض

الموقت هو تمحيص مطالب المؤتمر القبطي، وبيان حقه من باطله.

يقول الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) الآية. ولا أحسن من بيان الوقائع وإثبات الحق بالإحصاء

الصحيح، وبذلك يثبت المؤتمر أنهم طلبوا من أعمال الحكومة ما لو أعطوه

لأضحت الحكومة قبطية خالصة، ويسهل على المؤتمر أن يثبت ما يعترف به

بعض القبط من تعصب رؤسائهم لهم في جميع المصالح، وتقديمهم على المسلمين،

ومن كان هذا شأنهم فإسناد الوظائف الرئيسية إليهم يخشى أن يفضي إلى ما لا تحمد

عقباه من التعصب والغلو في الخلاف، حيث تكون الحكومة كلها في أيديهم.

وليس فيما قاله القبط في مؤتمرهم وما يكررونه كثيرًا في جرائدهم أمر ذو

بال إلا تصريحهم بأن هذه البلاد ليست إسلامية وحكومتها ليست حكومة إسلامية.

إن القبط على احتراسهم في مؤتمرهم وتحاميهم الألفاظ التي تكبر المؤاخذة

عليها، صرحوا بأنه لا يقول: إن هذه البلاد إسلامية، للمسلمين فيها ما ليس

لغيرهم إلا أفراد لا يجاوزون عدد الأصابع، صرح بذلك خطيبهم توفيق بك دوس

المحامي، ولجريدتيهم كلام كثير في ذلك، أوضح مما قاله خطيب مؤتمرهم. وعلى

هذا بنوا وجوب تعليم الدين المسيحي في مدارس الحكومة وبطالة يوم الأحد.

فيجب على المؤتمر أن يبين ما يترتب على هذه الدعوى، وهو أنه إذا كانت

الحكومة الخديوية تعترف من نفسها أنها غير إسلامية أو يكرهها المحتلون على ذلك

فإن المسلمين لا يرضون أن تكون محاكمهم الشرعية تابعة لها، ولا أوقافهم

ومدارسهم الدينية تحت إدارتها، ولا وضع تركات من يموت منهم عن غير وارث

في خزينتها، بل يطلبون حينئذ أن يستقلوا بجميع أمورهم الدينية كالقبط وغيرهم.

فأما الحكومة فلا تعترف بهذا، وأما المحتلون فلا يتحملون تبعته.

لا أحب أن أطيل في المسألة القبطية أصولها وفروعها، وإنما كتبت ما كتبته

من قبل لتنبيه المسلمين إلى ما هم في أشد الحاجة إليه، وهو أن يعرفوا أنفسهم ممن

معهم، ويعرفوا ما لهم وما عليهم، وأنا واثق بأنه يسهل على المؤتمر المصري أن

يبين للمنصفين من شعوب المدنية وغيرهم أن القبط غابنون لا مغبونون، وأن

المسلمين مغلوبون بتساهلهم لا غالبون، وأن الخير للقبط أن يقنعوا بما هم فيه من

النعم، وأن لا يطلبوا شيئًا باسم القبط، ولا ينازعوا في صبغة الحكومة الإسلامية،

وأن يعودوا عما تجرءوا عليه من تهمة المسلمين بالتعصب الديني عليهم لنصرانيتهم

ومن تحريض أوربة عليهم، وعن اللهجة البذيئة التي سنتها لهم جرائدهم.

كل هذا مما يسهل على المؤتمر بالبراهين، ولكن القبط لا تذعن له إلا إذا

رأت من المسلمين الحزم، ومجاراتها في توثيق الرابطة الملية والتعاون الديني على

الترقي. فإذا هم عرفوا حدهم واعترفوا بحق غيرهم، فإني أحب للمسلمين أن

يستوصوا بهم خيرًا، ويعطوهم أكثر مما يستحقون، كما كانوا من قبل يفعلون،

ولا أحب للمسلمين أن يرجعوا بصفقة المغبون الذي لا هو محمود ولا هو مأجور.

***

(أعمال المؤتمر الدائمة)

أما أعمال المؤتمر الدائمة فكثيرة، لا يمكن شرحها في هذا المقال، وإنما

نشير فيما نقترحه في خاتمته إلى أصولها وقواعدها.

وأما فائدته فأكبرها عندي ما أشرت إليه آنفًا؛ من توحيد المصالح والأعمال

العامة التي تقوم بها الأمة دون الحكومة ومساعدتها عليها وتوجيهها إلى المقصد

الصحيح الذي ترتقي به الأمة في معارج الكمال المادي والمعنوي، ويدور ذلك كله

على أربعة أقطاب

(1)

التربية الملية والتعليم.

(2)

إرشاد العوام إلى تحسين معيشتهم في آدابهم وأعمالهم وصحتهم

ومعاملتهم لمن يعيش معهم من موافق ومخالف.

(3)

حفظ ثروة الأمة وتنميتها بالوسائل الحديثة، والتوقي من الغوائل التي

تغتالها.

(4)

مواساة العاجزين والبائسين وإعانة المنكوبين والغارمين.

سيشرح خطباء المؤتمر هذه المقاصد كلها أو بعضها، ويبينون وجه الحاجة

على ما يتكلمون فيه، وما ينبغي أن يقرره المؤتمر ويقوم به، وإنما يقرر المؤتمر

المطالب العامة بالإجمال. وأما التفصيل الذي يترتب عليه التنفيذ، فيتوقف على

تأليف لجان تختص كل لجنة بعمل من الأعمال، ويكون روح الأعمال كلها تكوين

الأمة وتوحيد وجهتها في حياتها الاجتماعية.

فإذا بحثنا في مقصد التربية والتعليم، نرى أن تربية أبنائنا وبناتنا مفرقة

لأجزاء أمتنا، ممزقة لأعضائها، حائلة دون أن نكون أمة متحدة، لا مكونة للأمة.

أي أن التربية والتعليم اللذين نتنافس فيهما، ونبذل النفيس لأجلهما، ونظن أن

فيهما عزتنا وارتقاءنا، هما حائلان دون كل ما نطلبه من وحدة الأمة وارتقائها.

***

المدارس والتربية والتعليم

ما هو المقصد العام من المدارس، ومن يدير هذه المدارس ويحقق لنا ما

نقصد منها، وهل الذين تخرجوا في هذه المدارس متحدون في أفكارهم ومقاصدهم،

متوجهون إلى توحيد الأمة وجعلها مثلهم.

لا بقاء للأمة إلا بالمحافظة على عقائدها وآدابها وشعائرها الدينية وأخلاقها

وعاداتها ولغتها، وهي مقوماتها ومشخصاتها التي تكونت بها بالوارثة وفعل القرون

كما تتكون المعادن في الأرض، فإذا طرأ على هذه المقومات والمشخصات بفعل

الزمن ما يعيبها ويشوهها، ويجعل الاستفادة منها قليلة، كان الواجب على المربين

والمعلمين أن يزيلوا تلك العيوب كما يزال الصدأ عن الحديد، لا أن يزيلوا الجوهر

نفسه ويضعوا مكانه جوهرًا آخر.

قال صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس معادن فخيارهم في الجاهلية

خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) رواه الشيخان. والأمم معادن كالأفراد، وعمل

المربين فيها كعمل الصنّاع في المعادن، وبعملهم تظهر مزاياها ومنافعها، فمهرة

الصناع يصقلون الحديد الأسود؛ حتى يكون أبيض لامعًا كالمرآة، حتى تفضله

بلونه على الفضة المهملة في المكان الرطب، يتغير لونها ويزول بهاؤها.

كذلك الأمم تظهر محاسنها ومنافعها في زمن دون زمن بالتربية والعلم،

وجوهرها هو جوهرها، لا يتغير في نفسه إلا بزواله وفنائه أو إدخاله في جوهر

آخر، كما يمزج قليل من المائع في غيره، فيغيب عن العين ويزول ذلك الوجود

الخاص به. فقد كان كل من الشعبين الإنكليزي والفرنسي جاهلاً لا مزية في عالم

المدنية ثم تعلما وارتقيا، وبقي كل منهما ممتازًا بمقوماته ومشخصاته، فمنها في

الأول الرصانة والثبات والبطء في التحول عن الشيء ولو قبيحًا، وفي الثاني

الذكاء والخفة وسرعة التحول، ولكل من الخلقين المتضادين منافع ومضار، ولكن

المنافع هي التي تغلب على طور الحياة والارتقاء، والمضار هي التي تغلب في

طور الضعف والانحطاط.

غرضنا من هذا المثل أننا محتاجون إلى تربية تزيل الصدأ الذي طرأ على

جوهر أمتنا حتى يظهر جوهرها نقيًّا ويسهل الانتفاع به، وإلى تعليم نعرف به

طرق استعمال مواهبنا الفطرية وخيرات بلادنا فيما يرقينا ويرفع شأننا، ولكن أمر

تربيتنا وتعليمنا ليس في أيدينا، فلا رأي لسراتنا ولا لأهل العلم والبصيرة منا في

أكثره.

نلقي بناتنا في مدارس الراهبات ومدارس الأمريكان، فهل يتعلمن فيها آداب

ديننا وأحكامه، ويتربين على عبادته وأخلاقه؟ ألا إننا نعلم أنهن لا يتعلمنها ولكن

يتعلمن ما ينفر منها، ويبعد عنها، فيخرجن لا نصرانيات على آداب النصرانية،

ولا مسلمات على الآداب والفضائل الإسلامية، وهل يرجى صلاح بيوت هذا شأن

رباتها؟ أم يرجى أن تكون الأمة المكونة من هذه البيوت أمة متحدة مرتقية؟

عندنا مدارس أهلية ابتدائية للبنات، فهل نجد فيها من الفضيلة وآداب الإسلام

وعباداته ما نفقده في مدارس الإفرنج؟ لا لا.

إن أمثل المدارس مدارس الحكومة ولا غناء فيها، فجميع مدارس البنات في

هذا القطر غير صالحة للتربية التي نحن في أشد الحاجة إليها، ولا يرجى أن توجد

المدارس الصالحة، ونحن في هذه الفوضى بالمصادفة، ولكننا إذا خرجنا بهذا

المؤتمر من هذه الفوضى، فإننا نجد ما نرجو كما نحب؛ لأنه يكون برأي الأمة

وتدبيرها.

إن جميع المدارس المصرية من إفرنجية وأهلية وأميرية غير صالحة للتربية

الملية التي ترتقي بها الأمة بتزكية جوهرها الفطري وحفظ مقوماتها الملية، كل هذه

المدارس تجذب المتعلمين والمتعلمات فيها إلى التفرنج، فتفتنهم بلغة غير لغتهم،

وآداب غير آدابهم، وعادات غير عاداتهم، كما تخفض مقام ملتهم وقومهم في

أنفسهم، وتعلي فيها مقام أقوام آخرين، كلها آلات محللة بل سيوف مقطعة لمقومات

الأمة ومشخصاتها، لا همّ للمتخرجين والمتخرجات فيها إلا أن يجدوا مالاً يبذلونه

للأجانب ثمنًا لما عندهم من الملذات والزينة، بل يبذلون القناطير منه في القمار

والمضاربات، وما لا لذة فيه إلا الهوس والخبل وفنون الجنون.

فعلى المؤتمر أن يتدارك هذا الفساد قبل أن يعم، ويتعذر تداركه بفشوه في كل

الطبقات والإجماع على استحسانه.

تلك إشارة على وجه الحاجة إلى المؤتمر في أحد تلك المقاصد العامة

والأقطاب التي تدور عليها مقاصد الأمة، فقس عليه سائرها.

وجملة القول أن المرجو من المؤتمر أن يكون سلك النظام للأعمال الحرة

التي تقوم بها الأمة من الجمعيات والنقابات والشركات، يوحد وجهتها ويساعد كلاًّ

منها بقدر الطاقة.

ليس المراد من ذلك أن تكون الجمعيات جمعية واحدة، ولا الشركات شركة

واحدة، ولا النقابات كذلك، ولا أن تتغير قوانينها ونظاماتها، ولا أن يكون المؤتمر

مسيطرًا عليها، فإن ذلك ينافي توزيع الأعمال، ومباراة العاملين، ولا ترتقي الأمم

إلا بهذا التوزيع الذي هو وسيلة الإتقان.

وإنما المراد أن هذه المصالح كأعضاء البدن: العينان تبصران، والأذنان

تسمعان، واليدان تعملان، والرجلان تسعيان، وكذلك الأعضاء الباطنة كالمعدة

والكبد تعمل أعمالها، كل هذه الأعمال الاختيارية وغير الاختيارية تجري على

نظام واحد غايته حفظ البدن كله، والقلب يمدها كلها بالدم الذي يعينها على أعمالها،

وبالنظام المقدر، والقدر المعين، والنظام قوام الوجود، ومعيار الأعمال، ووسيلة

الكمال.

_________

ص: 287

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اقتراح صاحب المنار على المؤتمر المصري

بسم الله الرحمن الرحيم

] وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ [[1]

أحيي رجال هذا المؤتمر الكرام الذين هم موضع الرجاء في ترقية أهل هذا

القطر السعيد وإعلاء شأنه، وأكاشفهم بما عندي من الرأي، وإن كنت أظن أن

غيري سبقني إليه كله أو بعضه.

إن هذا المؤتمر هو الذي يمثل حياة مسلمي مصر الاجتماعية ودرجة ارتقائهم

وما يرجى لهم من المزيد، وقد سبقهم إلى مثله مسلمو الهند. وإنما نجاحه بثباته

ودوامه، ولا يثبت ويدوم إلا بما تقرر من جعله بمعزل عن السياسة، وحصر

أعماله في ترقية الأمة بالتربية والتعليم والكسب والاقتصاد والتكافل والتضامن في

المصالح والمرافق. وأما تمحيص مطالب القبط وبيان ما هو الحق في هذه المسألة،

فهو أهون أعمال المؤتمر العارضة.

فأقترح على المؤتمر أن يكون له خمس لجان دائمة، تعمل وتسعى لتحقيق

مقصده العالي:

(الأولى اللجنة الإدارية)

يناط بهذه اللجنة كل ما يتعلق بالنظام والإدارة العامة، ويكون أعضاؤها

مختارين من جميع الأحزاب والطبقات.

* * *

(الثانية لجنة التربية والتعليم)

يناط بهذه اللجنة النظر في التربية الدينية العملية والتعليم في جميع المدارس

الأهلية التي للجمعيات والأفراد، وما كان وسيكون لمجالس المديريات لتوحيد

نظامها وموادها وتوسيع دائرتها، فإنه لا شيء يضر البلاد ويفرق كلمة الأمة

كاختلاف التربية والتعليم، ويتألف أعضاء هذه اللجنة من أعضاء تلك الجمعيات

والمجالس ومن نظار المدارس الشخصية. والجمعيات التعليمية عندنا هي الجمعية

الخيرية الإسلامية، وجمعية العروة الوثقى، وجمعية المساعي المشكورة.

وأقترح أن يكون من أعمال المؤتمر التي تنظر فيها هذه اللجنة أولاًّ ثم تحوله

إلى اللجنة الإدارية، مساعدة الجمعية الخيرية الإسلامية على إنشاء مدرسة كلية

إسلامية للبنات، يتربى فيها البنات على عبادات الإسلام وآدابه وأخلاقه، ويعلم

فيها تدبير المنزل، وكل ما تحتاج إليه ربات البيوت بالعمل، وما يعلي أفكارهن

ونفوسهن من العلوم، فإن البيوت لا تصلح إلا بالتقوى والفضيلة والنظام والعلم

والأدب التي تتحلى بها النساء، ويفضن منها على أولادهن.

* * *

(الثالثة لجنة الوعظ والإرشاد)

تناط بهذه اللجنة العناية بأمر العامة في القطر كله بتعيين وعاظ في كل جهة،

يطوفون البلاد والقرى، يعلمون الناس أمر دينهم، وما لا بد منه من أمر دنياهم؛

كالمحافظة على الصحة والألفة والمودة بينهم وبين من يعيشون معهم على اختلاف

مللهم ونحلهم؛ وكالحذر من المرابين والغاشين والمقامرين والدجالين الذين يأكلون

أموالهم بالباطل، وينفرونهم من البدع والخرافات والعادات الضارة في الاحتفالات

والأفراح والأحزان وغيرها، ومن المعاصي الفاشية في الأرياف كالاعتداء على

الأموال والأعراض والنفس والثمرات والزروع وغير ذلك؛ كشرب المسكر

والحشيش، ويكون أعضاء هذه اللجنة من الأزهريين، ومتخرجي دار العلوم،

وجماعة الدعوة والإرشاد.

* * *

(الرابعة اللجنة المالية الاقتصادية)

يناط بهذه اللجنة النظر في ديون الأهالي، وبيان طرق الإرشاد والمساعدة

على وفائها بقدر الإمكان، وفي حفظ الثروة مما يغتالها بجهل أربابها وسفاهتهم؛

كالربا الفاحش الذي أهلك الفلاحين، وفي ترقية الزراعة والتجارة والصناعة في

البلاد. ويكون أعضاء هذه اللجنة من رجال النقابات الزراعية والشركات المالية

على اختلاف موضوعها، ومن كبار المزارعين والتجار. وأظن أن الكثيرين من

أعضاء المؤتمر يبينون هذه المسألة بالإيضاح الذي ليس وراءه غاية يصل إليها مثلي

* * *

(الخامسة اللجنة الخيرية)

يناط بهذه اللجنة النظر في أحوال العجزة والبائسين المستحقين للإعانة على

ضروريات المعيشة، أو على الكسب، أو التربية والتعليم. وتتألف هذه اللجنة من

بعض أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية، وجمعية الملاجئ العباسية، وجمعية

الإسعاف، وجمعية رعاية الأطفال، ومن غيرهم من أهل الفضيلة والفطنة.

ويكون من أهم أعمالها جمع ما يمكن من مال الزكاة وصدقات التطوع وجلود

الأضاحي وغير ذلك؛ وصرفها في مصارفها الشرعية بلا محاباة.

وإني أعرف من الناس من يحار في البحث عن المستحقين للزكاة الشرعية، فإن

أكثر المستجدين الذين يتكففون الناس في الطرق لا يوثق باستحقاقهم؛ لاتخاذهم

الشحاذة حرفة وكسبًا، فإذا وجدت في المؤتمر لجنة من أهل العدالة والتقوى والعلم

يضعون الزكاة في مصارفها الشرعية، فأهلها يسرون بدفع زكاتهم إليها وتوكيلهم

بصرفها للمستحقين لها. وبقيام المؤتمر بهذه وظهور فائدته للناس بسعيه - يقيم هذا

الركن الإسلامي الذي هدم في هذه البلاد، حتى لم يبق منه إلا أثر دارس، وهو ما

امتاز به الإسلام على جميع الأديان.

أقترح على المؤتمر تأليف هذه اللجان ووضع النظام لأعمالها، وأن يكون هو

الصلة بين الجمعيات والنقابات والشركات والمجالس التي تخدم البلاد، فيمدها

بالرأي والمال، ويستمد منها ما يساعده على توحيد المصلحة وتوجيهها إلى المقصد

من ترقي الأمة المادي والمعنوي مع محافظة كل منها على الاستقلال في العمل،

فتكون كأعضاء الجسم، كل عضو يعمل عمله لمصلحة البدن كله.

ويكون المؤتمر كالقلب الذي يمد كل عضو بالدم النقي الذي يقوى به على

عمله.

وأقترح أن يكون للمؤتمر مركز عام في القاهرة، تجتمع فيه اللجان في

الأوقات التي يعينها النظام في أثناء السنة، وتضع كل لجنة منها تقريرًا ينظر

فيه المؤتمر في وقت انعقاده كل سنة، وينفذ ما يمكن تنفيذه إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الطلاق: 6.

ص: 295

الكاتب: محمد توفيق صدقي

‌كيف خلق الإنسان [*]

بينا في بعض مقالات نشرت في الصحف اليومية أن مذهب داروين؛ وإن

كان من أحسن المذاهب العلمية الآن لتفسير المسائل الطبيعية، إلا أنه لم يبلغ درجة

اليقين، فهو لا يزال ظنيًّا لا قطعيًّا، ويجب على أتباعه أن يعرفوا عنه هذه الحقيقة،

وقد أوردنا عليه فيما نشر بعض احتمالات تقوض أهم أركانه، وتدك أكبر أسس

بنيانه، حتى إن كبيرًا من أعظم أنصاره في الشرق لم يقدر على الرد علينا. وقد

سألني بعض الإخوان قائلاً: إذا كنت تشك في صحة مذهب داروين، فكيف تفسر

لنا علميًّا خلق الإنسان أولاً من طين؟ فأردت أن أجيبه في هذه المقالة على هذا

السؤال. وقد رأيت أن أبدأ بسرد تلك الاحتمالات التي أوردتها على هذا المذهب،

ثم أتبعها بالجواب، فأقول:

أما الاحتمالات فهي:

(1)

إذا قلنا: إن بعض الأعضاء الأثرية في نوع ما من الأنواع كان

مستعملاً في هذا النوع بعينه من قديم الأزمان، ولاختلاف الظروف والأحوال التي

أدت إلى إهمال هذا الاستعمال فيما مضى من الأجيال، ضمرت هذه الأعضاء

وصارت آثارًا للدلالة على أصولها في نفس هذا النوع لا على أنها كانت أعضاء

في نوع غيره، فبماذا يا أنصار هذا المذهب تثبتون تغير الأنواع وانتقالها من نوع

إلى آخر؟ ؟

مثال ذلك عضلات الأذن الظاهرة للإنسان والجسم الصنوبري

(Body Pineal) الذي في مخه، وتقولون عنه: إنه كان عينًا ثالثة في

الحيوانات التي ارتقى عنها الإنسان. فلماذا لا نقول: إن هذه العضلات وتلك

العين الثالثة كانت للإنسان نفسه في أول الأول، خلقت ابتداءً معه لمنفعة لها إذ ذاك،

ولتغير الظروف والأحوال فيما بعد أهمل استعمالها لتلك الأسباب التي تزعمونها،

فضمرت حتى صارت آثارًا دلت على ما كان له في قديم الزمان لا على أنه انتقل من

نوع إلى نوع؟ ومثل ذلك يقال في سائر الحيوانات التي توجد فيها مثل

هذه الأعضاء الضامرة؛ أي أن كثيرًا من الحيوانات كانت لها هذه العين الثالثة ثم

زالت أو ضمرت؛ لعدم الاحتياج إليها وإهمال استعمالها، وكذلك تجدها في

الحيوان المسمى بالإفرنجية هاتريا (Hatteria) ؛ وهو نوع مخصوص من

الأورال (جمع ورل)(Lizards) كانت له هذه العين فأهمل استعمالها، فضمرت

فيه وبقيت إلى الآن مغطاة بالجلد، وبمثل هذا التعليل يمكننا أن نعلل ضمور

الحوض والطرفين السفليين في الحيات؛ أي أن بعض هذه الأعضاء الأثرية

المشاهدة الآن في أنواع الحيوانات كانت في قديم الزمان أعضاء نامية في نفس هذه

الأنواع لا في أنواع غيرها، كانت موجودة قبلها، أما باقي الأعضاء الأخرى

الأثرية فيمكن تعليلها بعلل أخرى كما سيأتي:

(2)

إذا سلمنا أن بعض الأنواع ارتقى عن البعض الآخر، واستدللنا على

ذلك بمثل الأسنان التي تظهر في الفك الأعلى لأجنة الحيتان والحيوانات المجترة،

ثم تذهب وتزول قبل أن تولد، وقلنا: إن ذلك دليل على ارتقائها من نوع غير

نوعها، فبماذا نثبت ارتقاء جميع الأنواع بعضها من بعض؟ مع أن مثل هذا

البرهان لا يوجد إلا في بعض الأنواع دون البعض الآخر؛ أي أننا إذا سلمنا أن

الأنواع كانت أقل مما هي عليه الآن بقليل، فلا يمكننا أن نسلم أنها جميعًا كانت

قليلة جدًّا (أي نحو أربعة أو خمسة مثلاً) كما ذهب إليه داروين أو واحدًا فقط كما

ذهب إليه غيره ممن اتبعه، فإذا سلمنا أن الحمار والحصان من أصل واحد، فلا

نسلم أن الكلب والإنسان كذلك.

ومثال ذلك في اللغات: أننا إذا قلنا: إن بعض الكلمات في بعض اللغات مشتق

من اللغات الأخرى؛ لوجود تشابه في حروفها ومخارجها، فلا يمكننا أن نقول: إن

كل كلمة في أي لغة مشتقة من كلمة أخرى في لغة أخرى قبلها، بل إن كثيرًا من

الكلمات قد وضع في اللغات وضعًا وخلق خلقًا، ولم يكن له سابق في لغة قبله، فكيف

إذًا نثبت أن الإنسان - أو غيره من بعض الأنواع الأخرى - لم يخلق نوعًا مستقلاًّ

عن غيره من الأنواع، وأي برهان صحيح نقيمه على ذلك سوى الظنون والأوهام،

مع ملاحظة أن مثل البرهان السابق (أي ظهور الأسنان بعض أجنة الحيوانات ثم

زوالها) إن صح في بعض الأنواع فلا يصح في نوع الإنسان، ولا في

أكثر الأنواع الأخرى. وإلا فما هي الأعضاء الأثرية التي تثبت ذلك فيه؟ ؟

(3)

لنا أن نقول: إن سنة الله في الخلق هي أن يخلق أجنة الحيوانات

المتماثلة على طريقة واحدة، ثم ينوعها بحسب أنواعها المختلفة؛ أي أن أجنة

بعض الحيوانات المختلفة في نوعها تكون في مبدأ الأمر متشابهة كل الشبه، ثم

تتنوع شيئًا فشيئًا، حتى يختلف بعضها عن بعض، فكما أن جنين الذكر والأنثى

هو في الأصل واحد، ومنه يشتق الذكر والأنثى، فكذلك أجنة كثير من الحيوانات

هي في الأصل واحدة؛ لأنها خلقت في مبدأ الخلق من شيء واحد كما سيأتي

بيانه، ثم اشتقت منها الحيوانات المختلفة. وكما أنه لا يصح أن يقال: إن الذكر

كان أنثى وارتقى لوجود آثار الأنثى فيه، وبالعكس كذلك لا يصح أن يقال: إن

الإنسان كان حيوانًا آخر وارتقى؛ لوجود آثار من الحيوانات الأخرى فيه؛ كالزائدة

الدودية التي هي عبارة عن أعور طويل في الحيوانات الأخرى ذوات الثدي،

وكالأقواس الخيشومية (arches Branchial) في جنين الإنسان التي تقابل

خياشيم الأسماك، فإن هذه الأشياء الأثرية وجدت في الإنسان، كما وجدت آثار الأنثى

في الذكر، وبالعكس لأن الجنين لكل من هذه الحيوانات المختلفة كان أصله واحدًا في

شكله ومادته وخواصه، ثم تنوع فوجدت آثار بعض الحيوانات في البعض الآخر؛

لتشابه أجنتها في مبدأ الأمر ولتكونها على طريقة واحدة ومن مادة واحدة. ومثل ذلك

أيضًا الجلد والعضل والعصب والعظم، فإنها خلقت جميعها من خلايا (بروتوبلاسمية)

واحدة في أصلها وشكلها، ثم تنوعت أثناء نشوئها، وحافظت خلاياها على خواص

الخلايا (البرتوبلاسمية) الأولى وصفاتها بدرجات متفاوتة، بحيث صار بعض هذه

الخواص في بعض هذه الخلايا أصليًّا، وفي البعض الآخر أثريًّا مثل خاصية

الانقباض التي توجد في الخلايا العضلية ظاهرة واضحة وفي غيرها طفيفة غير

خافية، وإن كانت في الخلايا الأصلية متساوية.

ويلحق بهذا الوجه وجه رابع وهو أن تقول:

(4)

إن بعض هذه الآثار يمكن تعليله بأنه من بقايا التكون التدريجي؛ أي

مما يتخلف عنه، وذلك أننا أثناء تكون الجنين نشاهد بعض أشياء توجد ثم تزول أو

تبقى آثارها، ولا فائدة منها بحسب علمنا، ولا يمكن تعليلها بما يعللون به

الأعضاء الأثرية الأخرى. مثال ذلك:

(1)

غشاء الحدقة (membrane Pupillary) فإنه يظهر في الجنين

طامسًا العين ثم يزول قبل أن يولد ببعض شهور، ولا يمكن أن يقال: إنه كان

مستعملاً في حيوانات سابقة، وإلا لكانت عمياء وضاعت فائدة أعينها بوجوده.

(2)

غشاء البكارة؛ فإنه بقية من بقايا التكون التدريجي، وهو منتهى ما

يقولونه عنه. وكذلك.

(3)

الحاجز المهبلي الذي يوجد في بعض النساء، وهو ينشأ من اتحاد

إحدى أنبوبتي ملر (Ducts Mullerian) بالأخرى.

(4)

جفون العينين؛ فإنها تتكون ثم تلتحم ثم تتفتح في الجنين، ولا يعلم

أحد حكمة هذه التقلبات، فكذلك يمكن أن يقال: إن ظهور الشعر في جميع جسم

الجنين الإنساني مثلاً ثم ضموره من أغلبه بالتدريج، هو من هذا القبيل؛ أي أنه لا

يدل على أن الإنسان كان أولاً حيوانًا ذا شعر طويل كغيره من الحيوانات، ولما

ارتقى ضمر شعره.

وما يقوله أنصار داروين في تعليل هذه المسائل الأربعة المذكورة هنا، نقوله

نحن في تعليل وجود الأعضاء المتخلفة عن التكون التدريجي، وهذا أيضًا وجه

آخر في تعليل مثل الزائدة الدودية في الإنسان. وإن اعترفوا بالعجز عن تعليل

بعض هذه المسائل، وأقروا بجهلهم حكم كثير من أعضاء الجسم: كالثيموس

(Thymus) والجسم السباتي (Carotid) والجسم العصعصي (Coccygeal

Body) وغيره، اعترفنا نحن أيضًا بجهلنا حكمة بعض الأعضاء الأثرية، وحينئذ

فلا فرق بين مذهبنا ومذهبهم سوى أنهم أكثر جرأة منا على التهجم على دعوى معرفة

أسرار الكون والاغترار بما عرفوه، وإن كان كل يوم يظهر أنهم فيما يزعمون كاذبون

عاجزون.

وأما كيفية خلق الإنسان؛ فالجواب القطعي عنها لا يعلمه إلا الله. وأما الظني

فيمكننا أن نقول: لا يخفى أن أجنة الحيوانات بعضها يتكون في الرحم والبعض

الآخر خارج الرحم؛ كالتي تتكون في التجويف البطني في الإنسان وغيره، وفي

بيض الطيور وفي مياه البحار: كالقنافذ (hedgehogs or Seaturchins) وغير

ذلك. والذي يظهر فيها كلها أن اللازم للتكوين هو حيوان منوي غالبًا [1] وبويضة

ووسط مغذ، سواء كان ذلك الوسط جدر الرحم، أو غشاء البريتون، أو زلال

البيض، أو مياه البحار، أو غير ذلك.

وعليه فيحتمل أن الله تعالى خلق أولاً حيوانات منوية وبويضات من مادة

واحدة [2] وهما خلايا حيوانية كما خلق الأميبا (Amoeba) وغيرها من الحيوانات

ذات الخلية الواحدة، ولاختلاف الوسط والظروف صارت هذه الحيوانات

المنوية والبويضات مختلفة متنوعة، فمن بعضها خلق الإنسان الأول (آدم وحواء)

ومن البعض الآخر خلقت الحيوانات الأخرى.

وذلك بأن تلقحت البويضة بالحيوان المنوي، ثم التصقت ببعض المواد

البروتوبلاسمية الأولى التي كانت توجد في البحار وعلى شواطئها، ومن هذه المادة

البروتوبلاسمية صارت البويضة تمتص غذاءها كما تمتصه أحيانًا من البريتون في

الحمل خارج الرحم، وصارت تنمو وتكبر الآن في بطون الأمهات، ولما تم نموها

انفجرت وخرج منها الإنسان كما يخرج من الكيس الأمنيوسي. ولعل الله تعالى

ساق له إذ ذاك بعض الحيوانات الأخرى؛ كالدببة المشهورة بهذا الأمر فأرضعته،

أو كان يوجد مواد زلالية مغذية في البحار فصار يشرب منها، أو كان يمتص

عصيرًا يسيل من بعض أشجار قريبه كان عصيرها مغذيًا، أو كان يشرب ماء فيه

حيوانات دقيقة جدًّا فيتغذى بها. وما يقال فيه يقال في الحيوانات الأخرى الشبيهه

به التي يجوز أن يقال في كيفية تغذيتها الأولى أيضًا: إنها وجدت بعض نباتات

طرية هلامية مغذية. فازدردتها في مبدأ نشأتها، حتى كبرت وصار يمكنها أن

تأكل غيرها من النباتات أو الحيوانات الأخرى.

فإن قيل: وكيف يوجد ذكر واحد وأنثى واحدة، مع أنه يحتمل أن الحيوانات

المنوية والبويضات كانت كثيرة. قلت: ذلك هو عين ما يحصل الآن في الإنسان

وغيره، فمع وجود حيوانات منوية تعد بالملايين، وكذلك بويضات في كل جماع،

فلا يتكون منها غالبًا إلا ولد واحد.

وإن قيل: لم لم يخلق الآن حيوانات بهذه الطريقة من جديد، قلت: ولم لم

يتولد الآن من الجمادات أحياء جديدة؟ أليس ذلك لاختلاف حال الزمان وطبيعة

الأرض الآن عما كانت عليه في مبدأ الخليقة؟ أما إذا وجدت تلك الأحوال الأولى،

فلا يبعد أن يتكون فيها حيوانات جديدة، كما لا يبعد أن يتكون فيها أيضًا بطريق

التولد الذاتي خلايا بروتوبلاسمية جديدة.

أما مسألة التذكير والتأنيث، فما يقال فيها الآن يقال نحوه أو ما يقرب منه في

الخلايا البروتوبلاسمية الأولى التي صار بعضها حيوانات منوية ملقِّحة (بالكسر) ،

والبعض الآخر بويضات ملقَّحة (بالفتح) . والله تعالى أعلم بأسراره في خلقه.

_________

(*) للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي.

(1)

حاشية للكاتب - تكون المسيح بدون أب؛ أي بدون حيوان منوي له نظير في عالم الحيوانات الصغيرة ولا نعلمه الآن بالتحقيق في الحيوانات الكبيرة كما يزعم بعضهم ففي بعض الحيوانات الصغيرة يوجد ما يسمى بالتولد البكري (prathenogenesis) أي إن الأنثى بعد أن يلحقها الذكر مرة تلد عدة أجيال (generations) بدون احتياج للذكر فابنتها أو ابنة ابنتها تحبل وتلد بدون أن يمسها ذكر ومن ذلك قمل النبات. ومن المعلوم أن ما يحصل في بعض الحيوانات على سبيل القاعدة قد يحصل مثله على سبيل الشذوذ في الحيوانات الأخرى فالقاعدة في الأرانب مثلاً أن تلد كثيرًا وقد وجد في النساء من ولدت ستة أولاد ولا ينافي ذلك كون مريم وابنها آية للعالمين فإن في كل ما خلق الله آية للعالمين {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: 4) .

(2)

المنار: أي خلق ذلك في الطين اللازب من الحمأ المسنون.

ص: 303

الكاتب: ملك حفني ناصف

‌النسائيات [*]

(30)

حرية المرأة في الإسلام

يود بعض النساء المسلمات التشبه بالغربيات في زيهن وأنماط معيشتهن؛ ظنًّا

منهن أن الحرية إنما ألقت مراسيها عند الغربيات، وأنهن أي المسلمات محرومات

منها شرعًا. ولو تدبرن أمور دينهن، وبحثن في القوانين التي يتبعها الغرب،

لرأين أن نصيبهن من الحرية الحقيقية أوفر من نصيب الغربيات. ولا يخلبهن زي

الغربية وكثرة تجوالها في الشوارع والبلاد، فإنما حريتها هذه كمن يعطيك درهماً

ويأخذ منك دينارًا؛ لأن ركن الحرية الأقوى أن يكون الإنسان حرًّا في التصرف

بماله، حرًّا في معاشرة غيره. والإسلام يعطي هذه الحقوق للمرأة فضلاً عن أن

يبيح لها السفور والسفر، وإن كان مع الاشتراط.

كانت المرأة قبل ظهور الإسلام مزدرأة إلى الدرجة القصوى، ففي بلاد

العرب كانت تحسب كبعض أمتعة البيت، حتى أنها كانت تورث كما يورث العقار

والأنعام، وللوارث حق إبقائها لنفسه أو بيعها لمن يشاء، وكانوا يئدون بناتهم خشية

العار أو الفقر، وكان تعدد الزوجات فاشيًا فيهم بغير حد محدود، وكذلك كانت

الحال في بلاد الفرس وعند اليهود. هذا في الشرق، وأما في الغرب فلم تكن المرأة

بأسعد حظًّا، إذا كانت كمية مهملة عاطلة من التربية والتعلم معدودة كالبهيمة، حتى

إن مجامعهم المقدسة كانت تبحث في: هل للمرأة نفس كالرجل؟ وقام بينهم خلاف

شديد من أجل ذلك، وحتى لعب بعض مقامري الإنجليز بامرأته بعد أن خسر ماله.

انتهى بتصرف من كتاب الإسلام دين الفطرة لمؤلفه الأستاذ: عبد العزيز جاويش.

ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في:

(1)

كل التكاليف الشرعية إلا النادر، وذكر القرآن المرأة بجانب الرجل

في كثير من آياته.

(2)

في الحقوق المدنية؛ فللمرأة أن تبيع وتشتري، وتهب وتقف، وتعقد

ما شاءت من العقود بغير إذن أو سيطرة، مع أن قوانين الغرب لا تبيح للمرأة شيئًا

من ذلك، وتشترط أن يكون لرجل المرأة حق التصرف في أموالها بغير قيد ولا

سؤال. وقد ضايق هذا الأمر النساء هنالك، فهببن في بعض الممالك يطالبن بحقهن

فأعطينه ولكن اللاتي لم يطالبن لم يعطين شيئًا.

(3)

يتضح من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يبيح للمرأة

حرية الرأي، فقد بايعه المؤمنات مع المؤمنين مرارًا، وإهمالنا هذا الأمر ليس

بدليل على أن الإسلام يحرمه كما تحرمه قوانين الغرب. ولا يزال يرن في آذاننا

صدى ضوضاء المطالبات بحق الانتخاب ووقوف النواب في وجوههن وإرجاعهن

بخفي حنين، وقد لقين من السجن والضرب عذابًا أليمًا.

(4)

يبيح الإسلام للمرأة الراشدة أن تزوج نفسها بنفسها، وأن توكل من

شاءت في العقد.

(5)

يعطي المرأة حق الطلاق إذا اشترطته في العقد. أما إذا لم تشترطه

هي أو وليها فكأنها تنازلت عنه لبعلها.

(6)

ومن أعظم نعم الإسلام على الزوجين المتباغضين الطلاق. ولا حاجة

لبيان الشقاء المقيم إذا تعاشر الزوجان على غير ألفة، أو افترقا على غير إباحة

الزواج ثانية، أو أصيب أحدهما بما يكره الآخر معاشرته عليه؛ كالجنون أو

البرص أو غيره، ويرشد الدين الحنيف أن لا يستعمل الطلاق إلا في الضرورة

الشديدة، وقد حرمه بعض الأئمة إذا كان بلا سبب، قال ابن عابدين: (وأما

الطلاق فالأصل فيه الحظر أي الحرمة، والإباحة للحاجة إلى الخلاص فإذا كان بلا

سبب أصلاً لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص، بل يكون حمقًا وسفاهة رأي، ومجرد

كفران النعمة وإخلاص الإيذاء بها وبأهلها وأولادها؛ ولذا قالوا: إن سببه الحاجة

إلى الخلاص عند تباين الأخلاق، وعروض البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله

تعالى، فحيث تجرد عن الحاجة المبيحة له شرعًِا يبقى على أصله من الحظر؛

ولذا قال الله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} (النساء: 34) أي لا

تطلبوا الفراق) . اهـ. وقال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ

تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229) وقال أيضًا: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 19) وقال جل من قائل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ

وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35)) ولم يقل:

إن يريدا طلاقًا؛ لأن الأصل في الزواج دوام العشرة، ولكن إذا لم يفلح الزوجان أو

أحدهما في إدامة العشرة فلا مناص من الطلاق. قال النبي صلى الله عليه وسلم:

أبغض الحلال إلى الله الطلاق.

(7)

يوجب الإسلام تعلم العلم على كل مسلم ومسلمة، وقد كانت نساء

النبي رضي الله عنهن يفتين الرجال والنساء، ويلقين عليهن دروس الحكمة ومكارم

الأخلاق، ولم يهمل تعليم النساء قط إلا بعد سقوط دولة العرب، وترك الناس تعليم

الدين الحنيف، ألم يشتهر النساء أيام العباسيين والأمويين بالعلم والفضل؛ حتى

برعن في الفقه والأدب والغناء بما لم يبق بعده زيادة المستزيد. ولم يكن تعلم العلم

مقصورًا على النبيلات منهن وبنات الخلافة، بل شمل الجواري والعامة.

(8)

لو اتبع المسلمون دينهم كما يجب؛ لعلموا أن من فروض الكفاية أن

يكون من نسائهم لنسائهم من يكفي من المعلمات والطبيبات، حتى لا يحتجن لغير

النساء في أمس الأمور بهن كالتعليم والاستشفاء.

(9)

يبيح الإسلام للمرأة السفور عند أمن الفتنة. والظاهر أن هذا السفور

هو الغاية التي يسعى إليها أكثر النساء الشرقيات الآن، ويتخذن تقليد الغربيات في

اللبس والمأكل وشكل المعيشة وسيلة إليه، ويزعمن أن ليس لهن من الحرية ما

لأخواتهن الغربيات، مع أن الإسلام لم يجعل علينا في الدين من حرج، وقد كانت

النساء يخرجن سافرات إلى أن عم الجهل، فمنع بعض الخاصة نساءهم من

الخروج، فصارت عادة قلدهم فيها غيرهم، وقد تغالى فيه بعضهم حتى كانت

المرأة لا فرق بينها وبين السجين، قال أبو الطيب المتنبي في رثاء أخت سيف

الدولة بعد قوله:

صلاة الله خالقنا حنوط

على الوجه المكفن بالجمال

على المدفون قبل الترب صونًا

وقبل اللحد في كرم الخلال

وقال في أخت سيف الدولة الأخرى رثاء أيضًا:

وهل رأيت عيون الإنس تدركها

حتى حسدت عليها أعين الشهب

وعادة الحجاب ليست قاصرة على النساء فقط، فإن في صحراء أفريقية

الكبرى قبيلة اسمها قبيلة الملثمين، كل رجالها يضعون اللثام على وجوههم، ولا

تفعله نساؤهم.

(10)

لم يبق بعد ذلك عند الغربيات أمر يفضلن به نساءنا إلا تحريم تعدد

الزوجات عند المسيحيات منهن (لأنه مباح عند اليهود) . ومن المسلمين من يحرم

التزوج بأكثر من واحدة، ولا يبيح الطلاق إلا إذا حكم به قاض يفصل في الدعوى،

فسلام على الإسلام، وسلام على حريته الحقة، وسلام على متبعيه حق الاتباع.

...

...

...

...

(باحثة البادية)

_________

(*) مقالة جديدة للأديبة المعروفة بلقب باحثة بالبادية.

ص: 308

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مذكرة عن أعمال

المبشرين المسيحيين

في السودان

(أرسلها إلينا صديق عارف خبير عندما أسسنا جمعية الدعوة والإرشاد)

(1)

ليس للمبشرين عمل في الجهة البحرية من فاشوده إلا في الخرطوم.

أما قبلي فاشوده، فلهم فيه أربع نقط على النيل الأبيض، وهي: تنجه والكنيسة وبور

والمنجلة، كما أن لهم مركزًا في واو عاصمة مديرية بحر الغزال، ولا يؤذن

لهم الآن في التبشير في غير العاصمة من هذه المديرية.

(2)

إن الطريقة الوحيدة التي يعتمد عليها المبشرون في تنصير الأهالي

تنحصر في فتح المدارس التي يلقنون فيها أصول الدين المسيحي لأولاد الأهالي

الذين يدخلون تلك المدارس.

(3)

يعتمد المبشرون في حمل الأهالي على إرسال أولادهم إلى مدارسهم

على الإحسان إلى الآباء والتودد إليهم. ففي واو مثلاً يعطون لآباء التلامذة 3

أرطال ذرة يوميًّا، كما يعطونهم أيضًا بعض الأقمشة أو بعض الحلي المستعملة

عندهم، ومن طرق الإحسان التي يستعملونها لهذه الغاية التطبيب، فهم يداوون

كثيرين من مرضى الأهالي الذين يكونون عن مقربة من مركزهم.

(4)

يعلم المبشرون في مدارسهم أصول الدين المسيحي، والقراءة والكتابة

بلغة إفرنجية، ومبادئ العلوم الضرورية كالحساب، وعدا هذا فهم يقسمون التلاميذ

إلى جماعات يختص كل جماعة منهم بتعليم صنعة من الصناعات؛ كالتجارة

والحدادة والبناء.

فيبدءون عملهم بتشييد مسكن لهم وبجواره كنيسة ومدرسة، ثم يأخذون قطعة

أرض ويجرون فيها تجارب زراعية، والذين يعملون لهم فيها هم الأهالي

المجاورون لهم في مقابلة مكافأة تعطى لهم والتلامذة أنفسهم.

وقد يوجهون همتهم إلى تجارب في كل ما يظنونه يعود على الأهالي

والحكومة بالربح والرفاهية، فيربون النحل ويعملون له الخليات على الطرز

الأوربي، ويستخرجون منه الشمع إلى غير ذلك من التجارب على مقدار ما تسمح

به قوتهم المالية ومعارفهم العملية.

(5)

إن أشد القبائل استعدادًا للتدين بما تدعى إليه هي قبائل النيام نيام.

هذه القبائل ليس لها تقاليد دينية تصدهم عن اعتناق أي دين يدعون إليه، ويقابل

هؤلاء في سهولة انقيادهم (الدنكا) في شدة تمسكهم بعوائدهم، وهؤلاء الدنكا لهم بعض

معتقدات دينية أذكر أن اللورد كرومر فصل بعضها في أحد تقاريره.

* * *

(مساعدة الحكومة للمبشرين)

إذا صرفنا النظر عما يحصل من بعض أفراد الموظفين الإنكليز، ونظرنا

إلى أعمال الحكومة العمومية وإلى أعمال الأكثرين من رجالها، صح لنا أن نصف

الحكومة السودانية بالنزاهة في هذا الباب. بل إن الحكمة قد تفعل أحيانًا ما لا

يرضي المتعصبين من المسيحيين. ففي بحر الغزال وغيره من البلاد الوثنية

تحتفل الحكومة بالأعياد الإسلامية احتفالاً شائقًا تدعو إليه مشايخ القبائل ورجال

قبائلهم، كما أنها تبطل يوم الجمعة أشغالها، وفي رمضان لا تشتغل بعد الظهر،

ولعل هذا بعض ما دعا أحد زعماء المرسلين الأمريكان إلى لوم الإنكليز في خطبة

ألقاها في العام الماضي.

على أني قد شعرت في آخر الأمر بأن الحكومة تريد أن تظهر مجاملتها

لهؤلاء المبشرين، فقد ساعد أحد مديريها إحدى الإرساليات على إحضار أولاد

الأهالي إلى مدارسها بنفوذ الحكومة.

عرفت ذلك من مصدر يوثق به، ولكن لست أدري هل كان هذا العمل بناء

على رغبة المدير خاصة أم رغبة الحكومة الرئيسية؟ والحكومة تمنع الآن

المرسلين من التبشير في داخل بحر الغزال، ولكن سبب هذا المنع إداري محض.

فالحكومة تستعمل الأهالي في حمل بضائعها، وفي حمل عفش ضباطها

ومستخدميها، فهي تخشى من أقلام المبشرين إذا اطلعوا على هذه الحقيقة،

خصوصًا إذا شاهدوها بأعينهم.

(مقدار نجاح المبشرين في مهمتهم)

(7)

للآن لم ينجح المبشرون في عملهم، وعدم نجاحهم هذا قد يغر قصار

النظر من المسلمين فيجزمون بعدم نجاحهم في المستقبل، ولكن المرجح عندي أنه

إذا طال زمن إهمال المسلمين، فالمبشرون ناجحون في المستقبل. أتاحت لي

المصادفة مقابلة بعض أهالي أوغندا واستطلعت منهم حالة بلادهم، ففهمت منهم أن

البلاد صارت مسيحية أو كادت؛ وذلك للمجهودات التي يبذلها المبشرون، حتى لقد

نشروا كتبهم المقدسة كلها هناك مترجمة بلغة الأوغنديين، ومكتوبة بحروف

إنكليزية؛ يعني أن القارئ يقرأ كتابة انكليزية، ولكنه ينطق بكلمات أوغندية.

لست أجهل أن هناك بعض عبارات تستوجب وجود الصعوبات في سبيل

هؤلاء المبشرين في السودان المصري مثل: وجود العساكر السودانية المسلمين بين

هؤلاء الوثنيين، وأن هذه الأصقاع هي مجال واسع لتجار السودان وغيرهم من

المسلمين، ولكن المتأمل في طريقة هؤلاء المبشرين في تنصير الأهالي، لا يسعه

مع علمه بكل هذا إلا الحكم بترجيح نجاحهم، وإلا فما هي قوة هؤلاء الأطفال الذين

يلقى بهم بين أيدي هؤلاء المبشرين، الذين يلقنونهم أصول الدين المسيحي كأنها

حقائق لا نزاع فيها؟ أليس الأجدر بالمتأمل أن يحكم بأن هؤلاء الأطفال يصيرون

رجالاً مسيحيين كالمسيحيين المولودين من أبوين مسيحيين؛ لأن ما يتلقاه هؤلاء

الأطفال من أصول الدين المسيحي لا يجد له مزاحمًا ولا معارضًا في نفوسهم

فيزعزعه، كما أنه ليس هناك رجال دين آخر يبثون أصول دينهم في نفوسهم كي

تغالب ما ألقي إليهم.

_________

ص: 311

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(سمير الليالي)

جمع أمين أفندي صوفي السكري من أدباء طرابلس الشام مسائل وفوائد كثيرة

من الكتب والصحف التي طالعها، فكانت كتابًا كبيرًا يدخل في بضعة أجزاء. وقد

طبع الجزء الأول منه في 1327 على نفقة الشيخ عبد الله الرفاعي الكتبي في

طرابلس وهي الطبعة الثانية له. وهذا الجزء زهاء مئتي صفحة، أكثرها في

جغرافية المملكة العثمانية، وأقلها في جغرافية الممالك الأوربية، فيجد قارئه كلامًا

مفصلاً في وصف الولايات العثمانية لا يجده في غيره من الكتب العربية المتداولة،

وليت المؤلف وقد أضاف إلى هذه الطبعة فوائد كثيرة لو صحح ما فيه من الإحصاء

بمراجعة الإحصاءات الأخيرة، فهو يذكر أن مسلمي مصر تسعة ملايين؛ أخذًا من

إحصاء سنة 1897 م وهم في إحصاء 1907 زهاء 11 مليونًا، وذكر أن نفوس

السودان المصري 11 مليونًا، ولعله يعد من السودان المصري جميع ما انفصل منه

حتى زيلع ومصوع، كما هو مقتضى سياسة الدولة العلية، ثم إنه لم يلتفت إلى

ما حل به من الأوبئة والحروب. وإنني لم أراجع من الكتاب إلا إحصاء المسلمين،

فنبهت إليه وإلى سببه؛ لئلا يكون منفرًا عن الكتاب صادًّا عن فوائده، وأهمها

وصف الولايات العثمانية. والكتاب يطلب من المكتبة الرفاعية بطرابلس الشام.

* * *

(كتاب النصائح الكافية والردود عليه والانتصار له)

يتذكر القراء أنه ذكر في المنار كتاب (النصائح الكافية لمن يتولى معاوية)

للسيد محمد بن عقيل المقيم في سنغافورة، الذي أحدث عند طبعه وانتشاره ضجة

عظيمة، فأعجب به جماهير العلويين في الأقطار المختلفة، وأنكره آخرون وعدوه

ميلاً عن السنة إلى التشيع، ورد عليه بعض وانتصر له بعض.

أما السيد محمد بن عقيل فهو رجل سني من حزب المصلحين حسن النية وقد

كان كتب إليّ بعزمه على تأليف كتاب، يجمع فيه ما ورد في كتب المحدثين

والمؤرخين من جرح معاوية بن أبي سفيان، وتخطئته في خروجه على أمير

المؤمنين علي كرم الله وجهه، وما تبع ذلك من الفتن والسيئات، وكان الذي وجه

عزمه إلى ذلك خلاف وقع في مسألة جواز لعن معاوية وعدم جوازه، واستفتيت

يومئذ في الواقعة وأفتيت بعدم اللعن، فكتب إليّ هذا الصديق أنه مخالف لي في هذه

الفتوى، وأنه سيبين حجته في هذا الكتاب الذي توجه إلى تأليفه، فكتبت إليه يومئذ

بأنه لا ضير في مخالفته إياي، ولكنني أرى أن يترك وضع هذا الكتاب لما يترتب

عليه، إذا وضع بهذا السبب وبعد هذا الخلاف من القيل والقال، واتباع الهوى في

التفرق والخلاف، فلم يقتنع بصحة رأيي، وقد ظهر له صدقه بعد ذلك، ولكنه لا

يزال يرى أن نفع الكتاب أرجح من ضرر ما كان من الخلاف.

* * *

(الرقية الشافية)

كان أول من غلا في التشنيع على كتاب (النصائح الكافية) رجل من

العلويين اسمه السيد حسن بن شهاب، يظهر لي أنه كان يحسد السيد محمد بن عقيل

على ما آتاه الله من المكانة العلمية الأدبية في قومهم (الحضارمة) ، وغير قومهم

في مهاجرهم (سنغافورة) وغيرها، فأراد وقد سنحت له الفرصة أن يرفع من قدر

نفسه، ويضع من قدر محسوده، فألف رسالة سماها (الرقية الشافية من نفثات

سموم النصائح الكافية) وصار يكتب إلى من يعرف من علماء الأقطار يستنجدهم

بحماسة وشدة؛ للرد على هذا الكتاب، وقد كتب إليّ بإمضائه وغير إمضائه في

ذلك.

كان من رأيي - وأنا شديد الحرص على التأليف بين المسلمين، شديد النفور من

الخلاف والتفرق - أن لا أقرأ كتاب (النصائح الكافية) حتى لا أحكم له ولا عليه،

فلم أنجد ابن شهاب وحزبه فيما استنجدوني فيه، فاتخذوني عدوًّا لأجل ذلك، وما زال

أهل الأهواء يحدثون العداوة بين المسلمين؛ بمعاداة من لا يتبع أهواءهم ولا يعدل

آراءهم.

وقد رد على كتاب الرقية الشيخ أبو بكر بن شهاب المدرس بمدرسة دار

العلوم بحيدر آباد الدكن، وهو أشهر علماء الحضارمة في هذا العصر بكتاب سماه

(وجوب الحمية عن مضار الرقية) قرأت عدة مباحث منه، فظهر لي تهافت حسن

بن شهاب وضعفه، وأن الجهل وحده لا يهبط بصاحبه إلى مثل تلك الشتائم

والدعاوى والتمويهات لولا مساعدة الحسد واتباع الهوى، وأين السيد حسن بن

شهاب من السيد محمد بن عقيل.

وأين الثريا وأين الثرى

وأين معاوية من علي

* * *

(نقد النصائح الكافية)

يظهر لك الفرق بين من يكتب ما يمليه عليه الهوى، ومن يكتب ما يمليه

عليه العلم والهدى، إذا قابلت بين ما كتبه السيد حسن بن شهاب وما كتبه الشيخ

جمال الدين القاسمي الدمشقي، فقد كتب رسالة سماها (نقد النصائح الكافية) ، انتقد

بها النصائح معتصمًا بحبوة الأدب، متحليًا بحلية الثناء على المؤلف والاعتراف

بفضله، وكان الإمام مالك رحمه الله تعالى، يقول: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد

عليه إلا صاحب هذا القبر. ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

قسم القاسمي نقده إلى مقدمة و 14 مبحثًا وخاتمة، أكثرها في مسائل علمية؛

في أصول الفقه، وأصول الحديث والمناظرة والأحكام التي تتعلق بموضوع الكتاب؛

ككون التفسيق والتضليل لا يكون إلا بمجمع عليه، وكون أخوة الإيمان لا ترتفع

بالمعاصي، ومنها ما يتعلق بمعاوية خاصة؛ ككون الوقيعة فيه تستلزم رفض

مرويه ومروي من من أقام معه من الصحب (وهذا غير مسلم على إطلاقه) ،

وكونه بلغ رتبة الاجتهاد (وما كل مجتهد يعمل دائمًا بما أداه اجتهاده إلى كونه هو

الحق، وإلا لزم أن يكون كل مجتهد معصومًا من المعصية عامدًا عالمًا) .

ومن مباحثه أن من عدل المؤلف إذا ذكر لأحد ما عليه أن يشفعه بماله. أي

والعكس، ولا نزاع في هذا إذا أريد بالمؤلف المؤرخ والمحدث الذي يحكم بالجرح

والتعديل، ويريد أن يبين حال من يترجمه لمن يقرأ كتابه. وقد يكون لبعض

المؤلفين غرض من ذكر ما للمرء فقط أو ما عليه فقط؛ كتحقيق مسألة معينة أو

العبرة ببعض الخطآت والخطيئات، أو التأسي ببعض المناقب والحسنات، وقد

جمع صديقنا الناقد أحسن ما قيل في معاوية من الحقائق ومن الشعريات، ولم يذكر

في مقابلتها ما عليه، وما نكب به الإسلام والمسلمون على يديه، فإن كان غرضه

من هذا البحث أن ابن عقيل قد قصر؛ إذ ترك أحد الشقين، فهذا مشترك الإلزام؛

لأنه هو قد قصر أيضًا بترك الشق الآخر، والصواب أن كل واحد منهما قد ذكر ما

يرمي إلى غرضه.

وجملة القول أن كل واحد من الكاتبين في هذه المسألة وغيرها يؤخذ من

كلامه ويترك، ويقبل منه ويرفض، وليس من غرضنا تحرير المسألة بما يصل

إليه اجتهادنا، وإنما نود لو يكون كل ناقد كالقاسمي في أدبه وإخلاصه وتحريه ما

يرى أنه الأنفع للناس، فما فرق كلمة المسلمين إلا أهل الجدل والمراء بالهوى.

_________

ص: 313

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جماعة الدعوة والإرشاد

طلع الصباح وبرح الخفاء، وعلم الخاص والعام أن جماعة الدعوة والإرشاد

ليس لها مقصد سياسي؛ لأن الجمعيات السياسية لا تكون جهرية عمومية، يقبل

فيها كل من أراد أن يدخل فيها بحسب قانونها. وهذه هي الحجة التي دحضت كل

شبهة حتى من نفوس الأحداث، وعوام الناس الذين هم أتباع كل ناعق، لا يفرقون

بين معقول وغير معقول.

قد يصدق الواحد من هؤلاء أنه يمكن إنشاء مدرسة لإنشاء دولة، وهو ما لا

يصدقه العاقل المفكر الذي يميز بين الممكن والمحال من الأمور العادية، فإذ قيل له:

إن هذه المدرسة ليست لشخص معين ولا لأفراد معينين، وإنما هي لجماعة مكونة من

كل من يدفع ثلاثة جنيهات في السنة؛ لمقصد الجمعية العلني المجرد من السياسة،

وهؤلاء هم أصحاب الرأي في هذه الجماعة، فلهم أن يعزلوا جميع أعضاء مجلس

الإدارة ويولوا غيرهم، فهل تصدق أو تعقل أن يسمح أصحاب المقصد السياسي

الخطير بدخول كل من شاء في عملهم، وجعله من أصحاب الرأي والنفوذ فيه، وأن

يكون له إخراجهم من مجلس إدارته وتوسيد أمر الإدارة إلى من شاءوا؟ لقال من يقال

له هذا القول: إن هذا لا يصدق ولا يعقل، فمن يتوهم بعد ظهور نظام جماعة الدعوة

والإرشاد أن لمن أسسوه غرضًا سياسيًّا فهو منسلخ من العقل، قد استهواه شيطان

الوهم، ولا قيمة لتوهم مثله ولا لقوله، ولا لرضاه ولا لسخطه، ومن أظهر آيات

الجهل والانحطاط أن يوجد في المخلوقين بصورة البشر من يصدق الطعن في مثل هذا

العمل، حتى يحتاج إلى الدفاع عنه.

وليس يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

***

(الاشتراك في جماعة الدعوة والإرشاد)

علم كل من قرأ النظام السياسي لهذه الجماعة أن من اشترك فيها بثلاثة

جنيهات فأكثر في السنة ودفعها، يكون من أعضاء الهيئة العامة فيها الذين لهم حق

الانتخاب والمراقبة على أعضاء مجلس الإدارة. ونزيدهم علمًا بأن قيمة الاشتراك

يجوز أن تدفع أقساطًا كما يشاء المشترك. ومن يشترك بأقل من ثلاثة جنيهات في

السنة، يعد عضوًا من أعضاء الجمعية المعاونين، ولا يكون له حقوق أعضاء

الهيئة العامة.

وكل من دفع للجماعة شيئًا من المال على سبيل التبرع أو على سبيل

الاشتراك، يعطى وصلاً مطبوعًا مختومًا بخاتم الجماعة وخاتم رئيسها أو وكيلها

(وقسائم الوصول المستعملة الآن مختومة بخاتم الوكيل) ويزاد على ذلك توقيع

المتسلم الذي يقبض النقود، وتوجد الآن دفاتر قسائم للتبرعات وللاشتراكات بيد

الوكيل (صاحب هذه المجلة) وسائر الدفاتر بيد أمين الصندوق محمود بك أنيس،

وقد أذن مجلس الإدارة لكل منهما بالقبض. ومتى تألفت اللجان تعطى قسائم

أخرى، ويعلن ذلك في الجرائد.

***

(جمعية الرابطة الإسلامية)

كانت شبهة الشيخ عبد العزيز جاويش إذ طعن في مشروع الدعوة والإرشاد

في بدء السعي؛ لتكوينه أنه عمل سري لا يعرف أعضاؤه ولا قانونه. وقد راجت

هذه الشبهة في سوق من لا يميزون بين الشبهة والحجة، ولا بين البرهان

والسفسطة، إلى أن ظهر قانون الجماعة، وعرف أعضاؤها. ثم علمنا أن للشيخ

عبد العزيز جاويش جمعية اسمها جمعية الرابطة الإسلامية، ينشر دعوتها في

تلاميذ المدارس المصرية، وتجبى نقودها منهم في كل شهر، ولا يعرف لها قانون،

ولا أعضاء، ولا أمين صندوق، فما هو مقصدها وأين تذهب الأموال التي

تجبى لها؟ وكيف يكلف أولئك التلاميذ بذل أموالهم، وهم لا يعلمون أين تذهب تلك

الأموال ولا على أي شيء تنفق؟ ومن أعطى منهم ما فرض عليه في كل شهر لا

يعطى وصولاً موقعًا باسم أحد ولا يختمه، وإنما يعطى ورقة صغيرة كبطاقة الثوب

عليها خاتم الجمعية، فإذا كان هذا المال يجبى لغرض صحيح شرعي، فلماذا

يستخفي مؤسس الجمعية به (إن كان هنالك جمعية) ؟ ولماذا جعل موردها خاصًّا

بالولدان الذين يسهل أن يقادوا إلى حيث لا يعلمون، دون الرجال الذين يبحثون

ويحاسبون؟ ولماذا يجعل نفسه غير مسؤول عما يأخذه من المال بعدم إمضاء

الأوراق والبطائق على الأقل؟ فعسى أن تكشف للجمهور هذه الغوامض.

* * *

(الماسون في جمعية الاتحاد ومجلة دين ومعيشت)

ذكر في الجزء الأول من هذه السنة أن زعماء جمعية الاتحاد والترقي

المشهورين من الماسون، وأن الماسونية قد راجت بسعيهم، وأنهم أسسوا لها شرقًا

عثمانيًّا رئيسه طلعت بك الذي كان ناظر الداخلية، وهو الآن رئيس فرقة الاتحاد

والترقي في مجلس المبعوثين، وتمنينا لو يكون تصرف طلعت بك في الماسونية

أحسن من تصرفه السيء في نظارة الداخلية، وأشرنا عن بعد إلى ما في رواج

الماسونية في رجال هذه الدولة الإسلامية من الخطر، ولم نشأ أن نشرح ذلك؛ لئلا

يلصق الناس عمل طلعت بك وأوليائه من زعماء جمعيته بالدولة العلية بسوء فهم أو

سوء نية؛ لما لهم من النفوذ في الحكومة الحاضرة.

وقد ترجمت مجلة (دين ومعيشت) الروسية ما كتبناه، وزادت عليه بسوء

النية أو سوء الفهم - الله أعلم - أن أركان الدولة والقائمين بأعمالها (جميعًا من

الخفير إلى السلطان) ماسونيون، وجعلت الماسونية في رجال الدولة مفضية إلى

هدم الدولة الإسلامية وتأسيس دولة ماسونية، وأظهرت الريب في خبرنا، وتكهنت

في استنباط الباعث عليه، وذكرت احتمال أن يكون غليان الدم العربي والعصبية

الجاهلية، ثم ذكرت ما يرد هذه التهمة التي لا موجب لذكرها مع حسن النية بقولها:

(إنها مخالفة لمسلكه وخطته وهو الجامعة الإسلامية) ثم قالت ما ترجمته:

فإن كان في أعضاء الاتحاد والترقي وعلى الأخص طلعت بك حمية إسلامية،

فليردوا وليكذبوا أقوال المنار، وإن سكتوا يكون المنار صادقًا بالطبع.

(المنار)

إننا نبادل مجلة دين ومعيشت، وإن كنا لا نقرأها ولا نعرف لغتها؛ لما في

المبادلة بين أرباب الصحف من الفوائد والصلة المعنوية باستمداد بعضهم من بعض،

كما نبادل الجرائد الهندية لأجل ذلك.

وقد ذكر لنا بعض أصحابنا وتلاميذنا الروسيين بعض تهافت هذه المجلة في

المسائل الدينية، والرد على المنار في بعضها، وأن غايتها تعويق إخواننا مسلمي

التتار عن الترقي المدني والديني، ولم نكن نرى أن هذه المجلة مما يعنى بالرد

عليها؛ لأن وجود مثلها في هذا العصر مما تقتضيه طبيعة الاجتماع، وصدها

المسلمين عن الترقي، ومحاولتها إبقاءهم على الجمود، وحبسهم في مضيق أوهام

بعض المؤلفين في القرون المتوسطة والأخيرة المظلمة، لا يخلو من فائدة؛ لأن من

طباع البشر أن ينقسموا في كل أمر عام يدخلون فيه إلى ثلاثة أقسام: قسم يغلو في

طلب الانسلاخ من القديم والإيغال في الجديد؛ وهم أهل الإفراط. وقسم يغلو في

مقاومة كل جديد والمحافظة على كل قديم؛ وهم أهل التفريط. وقسم يسددون

ويقاربون، فيهدون إلى ترك الضار من القديم واقتباس النافع من الجديد بالتدريج؛

وهم الأمة الوسط. ومجلة دين ومعيشت لسان حال أهل التفريط في مسلمي روسية،

وفائدتها مقاومة أهل الإفراط؛ ليكون كل منهما ممهدًا لأهل العدل والاعتدال فيما

يدعون إليه من الأمر الوسط الذي هو خير الأمور.

كنا نظن أن أصحاب هذه المجلة يكتبون ما يكتبون من خطأ وصواب بحسن

النية، ولكن لم يظهر لنا شيء من حسن النية في خوضهم بذكر مسألة العصبية

الجاهلية، وهم يعلمون أنهم لا يقدرون أن يجمعوا من كل ما عرفوه من الكتب

والصحف في إنكار هذه العصبية والتشنيع على أهلها مقدار ما يوجد في مجلد

واحد من مجلدات المنار الأربعة عشر، ولا في إيهامهم قراء مجلتهم أننا قلنا: إن

رجال الدولة كلهم من الماسون من السلطان إلى الخفير (سبحانك هذا بهتان عظيم)

وإنما عزونا ذلك إلى بعض زعماء الجمعية، ونعني بهم طلعت بك ورحمي بك

وناظم بك وجاويد بك وجاهد بك وأضرابهم.

ما أجهل أصحاب هذه المجلة بأحوال الآستانة وتلك الجمعية؛ إذ اقترحوا على

طلعت بك تكذيب المنار، قد يسهل على طلعت بك أن يكذب الصحف فيما هي

صادقة فيه من الأمور التي لا يعرفها كل أحد في العاصمة، كما كذب وقوع الشقاق

في حزب الاتحاد والترقي أخيرًا، ثم عرف عالم المدنية كله أن ذلك حق لا ريب

فيه، ولكن لا يسهل عليه أن يكذب خبر المنار في مسألة الماسونية؛ لأنه أشهر من

نار على علم؛ ولأن طلعت لا يرى رأي أصحاب تلك المجلة في وجوب البراءة

من الماسونية.

قالوا: إذا لم يكذب طلعت بك أو جمعيته المنار في هذا الخبر، تعين أن

يكون صادقًا، فها هم أولاء لم يكذبوه، بل قد صدقه طلاب الإصلاح منهم

المقاومون لأولئك الزعماء، فقرروا إبطال المحافل الماسونية من العاصمة، فما

يقول أصحاب (دين ومعيشت) بعد هذا؟ ألا فليعلم أصحاب هذه المجلة أن

صاحب المنار مسلم، قد ربى نفسه على الصدق، حتى كان في أيام طلب العلم

يقول لأشد إخوانه صحبة له: إذا حفظت علي كذبة واحدة في جد أو هزل، فلك

حكمك في {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} (النساء: 9) ولا يكونوا ممن قيل

فيه:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدق ما يعتاده من توهم

* * *

(دار السلطنة)

يحسب الناس للفتن الداخلية في دار السلطنة حسابًا، ويظنون أن زعماء

جمعية الاتحاد والترقي الذين غُلبوا على زعامتهم بفوز المصلحين بمطالبهم العشرة،

لا بد أن يجمعوا كيدهم، ويكروا على المخالفين لهم كرة شديدة بدعوة حماية

الدستور مما يسمونه الارتجاع. أما نحن، فنرجو أن تكون هذه العاصمة آمن ما

كانت من الفتن الداخلية، وأبعد عن المخاوف الاستبدادية والارتجاعية، ذلك بأن

زعماء جمعية الاتحاد والترقي المغلوبين على زعامتهم ومقاصدهم، أولو ذكاء وفهم،

واستفادوا بمصارعة الحوادث وتكرار التجارب خبرة وعبرة، فلا بد أن يكونوا قد

عرفوا خطأهم كله أو بعضه، وأقله أن يكونوا قد اعتقدوا أن دولة عريقة في

الإسلام وارثة لمقام الخلافة الإسلامية، لا يمكن أن تدور رحاها على قطب

الماسونية، وأن العناصر العثمانية لا يمكن إدغامها في العنصر التركي. وإنما

الممكن هو ائتلافها معه بإقامة الدستور، فإن لم يكونوا قد علموا هذين الأمرين،

فهم يعلمون أن إخوانهم الذين قاموا بأمر الإصلاح في حزب الجمعية وأنصارهم

والموافقين لرأيهم من الضباط وغيرهم، لا يمكن اتهامهم بمقاومة الدستور، إذا

وكل الأمر إلى جاهد بك، فهو لا يخجل من اتهام صادق بك أبي الدستور ومثل

طاهر بك المبعوث بالارتجاع، وقد علم القراء أن صادق بك أبو الدستور،

وليعلموا أيضًا أن طاهر بك هذا هو صاحب العدد الأول (برنجى نومرو) في

جمعية الاتحاد والترقي، ولكن رحمي بك ذا الروية والأدب العالي، والدكتور ناظم

بك ذا الدهاء والتدبير الدقيق، وطلعت بك وجاويد بك صاحبي الذكاء والفطنة؛

هؤلاء الرؤساء العاملون لا يقدمون على ما يقدم عليه مثل جاهد بك ولا نظن فيهم

أنهم يرضون بتعريض الدولة للخطر؛ لأجل استعادة زعامتهم والإصرار على

مقاصدهم، فالعاصمة في أمان، والدستور على أحسن ما كان إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 316

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقدمة مقالات المسلمون والقبط

اقترح علينا أن نطبع مقالات (المسلمون والقبط) في كتاب على حدتها؛

ليسهل تعميم الذكرى بها، ففعلنا وجعلنا لها هذه المقدمة.

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا

آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46) .

الإسلام دين الرحمة والعدل، والعلم والعقل. فأما حكومته الإسلامية المحضة

كحكومة الخلفاء الراشدين، ومن كان أقرب إلى سيرتهم كعمر بن عبد العزيز

وصلاح الدين، فهي حكومة لم ير البشر لها مثالاً بأعينهم، ولا في تواريخ من قبلهم

في الجمع بين الرحمة والعدل وحرية الدين والعلم والعمل لمن فتح المسلمون

بلادهم.

وأما حكومات من دون أولئك الكملة من المسلمين التي نشكو نحن من بعض

ملوكها ونصفهم بالظلم، فقد كان ظلمهم وشرهم فيها دون ما عرف من ظلم غيرهم

من فاتحي الملل الأخرى، ولهذا انقرضت جميع الملل والأديان من البلاد التي غلب

النصارى أهلها كأوربة، وبقيت الملل والمذاهب في الممالك التي فتحها المسلمون

إلى هذا الزمن الذي تغيرت فيه طبيعة العمران، وصار من المتعذر على الأقوياء

إكراه أهل الدين على ترك دينهم بالقوة القاهرة، أو إبادتهم كما عامل مسيحيو

أوربة الوثنيين في عامة البلاد والمسلمين في الأندلس وفرنسة.

كان المسلمون في كل أيام قوتهم وسلطانهم، ينوطون الكثير من أعمال

حكومتهم بغيرهم من أهل البلاد التي فتحوها، مع السماح لهم بأن يتحاكموا إلى

رؤسائهم في جميع القضايا التي لا يحبون أن يتحاكموا فيها إلى المسلمين، فكان لهم

حكومة خاصة بهم في البلاد الإسلامية وحكومة مشتركة بينهم وبين المسلمين. كل

هذا من فضل الإسلام وتسامحه، ولا يزال يعترف بذلك المخالفون لنا: بعضهم

يعترف به عملاً باستقلال فكره واحترام اعتقاده [1] ، وبعضهم لإقامة الحجة علينا

في بعض الأوقات كما وقع من بعض القبط في هذه الأيام.

وكان المسلمون يبذلون المعاملة الحسنى لمن يدخل بلادهم من المخالفين،

ويعبرون عنهم بالمعاهدين والمستأمنين، ويعبرون عن الداخلين في حكمهم بأهل

الذمة؛ أي الذين حفظت حقوقهم بذمة الإسلام، والوصايا النبوية بالجميع كثيرة

مشهورة.

لولا الدين الإسلامي لما عرفت العرب الفاتحة تلك الرحمة والعدل والتسامح

التي هي زينة التاريخ، فللدين الإسلامي الفضل في ذلك، ولم تكن تلك القسوة من

الأوربيين (ولا سيما في أسبانية التي جعلها المسلمون جنة أوربة) خالية من حجة

دينية لرؤساء الدين، فإنهم كانوا يرجعون إلى التوراة التي هي أصل المسيحية في

مثل هذه الأحكام دون ظواهر بعض نصوص الإنجيل في الرحمة.

جاء في الفصل العشرين من سفر تثنية الاشتراع (10 حين تقرب من مدينة

لكي تحاربها استدعها إلى الصلح 11 فإن أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك، فكل

الشعب الذي فيها يكون للتسخير ويستعبد لك 12 وإذا لم تسالمك بل عملت معك

حربًا فحاصرها 13 وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد

السيف 14 وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغتنمها

لنفسك، وتأكل غنمية أعدائك التي أعطاك الرب إلهك 15 هكذا تفعل بجميع المدن

البعيدة عنك جدًّا، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم 16 وأما مدن هؤلاء الشعوب

التي يعطيك الرب إلهك نصيبك، فلا تستبق منها نسمة ما) .

ههنا تأمرهم التوراة بإبادة جميع الأحياء المغلوبة حتى النساء والأطفال والبهائم، وفي الفصل 33 من سفر العدد الأمر بطرد سكان الأرض التي يقدرون عليها، حتى

لا يبقى منهم أحد. كأن هؤلاء هم الذين يعجزون عن إبادتهم بالسيف. كل ما سمح به

المسلمون ومنحوه لغيرهم في أيام قوتهم فضلاً وإحسانًا صار في أيام ضعفهم حقوقًا

وامتيازات للأقوياء من الأجانب، يميزون به أنفسهم على المسلمين في ديارهم،

ويؤيدونه بالقوة ولا يعدونه فضلاً للمسلمين، ولا تسامحًا من الإسلام.

هذا شأنهم فيما بقي للمسلمين من البلاد، وأما ما أخذوه من المسلمين فصار

ملكًا لهم أو جعلوه تحت حمايتهم، فلم يبقوا لهم شيئًا فيه من النفوذ ولا المشاركة في

السلطة ولا الحرية. ولكنهم أبقوا في بعض البلاد أشباحًا، حفظوا لها لقبها الأول،

وجعلوها رقية لنفوس العامة الجاهلة، حتى لا يشعروا بأنهم فقدوا ملكهم كما تشعر

الخاصة التي تسهل مراقبتها والسيطرة عليها، وليس لأمير منهم ولا سلطان ولا

نواب أن يستقل بالأمر في شيء ما.

ومنهم من لا يسمح له أن ينظر في ورقة ترسل إليه ولو من أقاربه إلا بعد

أن يقرأها الرقيب الأجنبي السائد على بلاده أو الحامي لها، ولا أن يجتمع بأحد

قريب ولا غريب إلا بحضرة الرقيب، وناهيك بتصرفهم في الأموال والأوقاف

والمساجد في بعض تلك البلاد.

ليس هذا بعجيب ولا غريب، فإن للقوة أن تتحكم في الضعف كما تشاء.

ولكن العجيب الغريب هو ما جرى عليه قبط مصر في هذه السنين الأخيرة، وما

وصلوا إليه في هذا العام من استضعاف المسلمين أشد من استضعاف الدول الكبرى

لهم.

أحسن المسلمون معاملة القبط من عهد الفتح إلى هذا اليوم إحسانًا لم يروا

هم ولا غيرهم مثله من فاتح قط، حتى إنهم على شكواهم من المسلمين في هذه

الأيام يقولون بألسنتهم ويكتبون بأيديهم: أن عمال الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، قد

جعلوا كل أعمال الحكومة في أيديهم، وأنهم كانوا كذلك في عهد محمد علي باشا

ومن بعده، وأن أكثرها لا يزال في أيديهم، ثم أنهم الآن يدعون أنهم مهضومو

الحقوق؛ لأنهم محرومون من بعض الوظائف العالية التي هم أحق بها وأهلها، وأن

المسلمين ممتازون عليهم بها وبأمور أخرى؛ كتعليم الدين الإسلامي في المدارس،

وترك الحكومة العمل يوم الجمعة، وإنفاقها على المحاكم الشريعة. فيطلبون أن لا

يكون للمسلمين مزية ما في الحكومة الخديوية؛ لأنها في رأيهم ليست حكومة

إسلامية، وإنما هي حكومة مصرية فهم أحق بها؛ لأنهم أعرق في الجنسية

المصرية من سائر المصريين، فما هو في أيديهم منها يجب أن يبقى لهم؛ لأنهم

أخذوه بحق. وما بقي في أيدي المسلمين يجب أن يشاركوهم فيه؛ لأنهم احتكروه

بغير حق. وهذا الذي بقي في أيدي المسلمين من الوظائف هو منصب المديرية

ومأمورية المركز.

سمحت لهم الحكومة بتعليم دينهم في مدارسها، وهو ما لم تعمله حكومة في

أوربة ولا غيرها، فإذا جعلت يوم عيدهم الأسبوعي الديني (الأحد) شعارًا لها في

ترك العمل، وجعلت منهم مديرين ومأموري مراكز؛ عملاً بهذه الحجة التي يدلون

بها وهي أنها ليست إسلامية، فإنه يخشى أن يترتب على ذلك ما تخشى مغبته

وتسوء عاقبته من تعرض السلطان للدخول في ذلك باسم الخلافة، ومن مطالبة

المسلمين للحكومة برفع سيطرتها عن محاكمهم الشرعية، وأوقافهم ومعاهدهم

الدينية. ومن تهيج مسلمي الهند على الحكومة الإنكليزية إذا اعتقدوا أنها هي التي

أزالت الصبغة الدينية من حكومة مصر التي هي سياج البلاد المقدسة ومدخلها؛

ولذلك استنكر رجال الاحتلال مطالب القبط مع عطفهم الديني عليهم، كما استنكرتها

الحكومة.

أما مسلمو مصر وهم السواد الأعظم من أهلها، فكانوا غافلين عن سعي القبط

وتعصبهم غير مبالين به؛ لأنهم مغرورون بكثرتهم، وإن كانت كثرة تشبه القلة أو

تضعف عنها؛ لتخاذلهم وانحلال الرابطة التي توحد بينهم. وهذا هو الذي أطمع

القبط، فظنوا أنهم ينالون كل ما يطلبون من جعل السيادة في هذه الحكومة خالصة

لهم من دون المسلمين. ولا أضرب لهم المثل الذي ضربه لهم بعض الناس (لا

تطعم العبد الكراع فيطمع في الذراع) بل أقول: هذا شأن الأقوياء بالاتحاد مع

الضعفاء بالتفرق والانقسام.

رأت القبط أن تهاجم المسلمين من أضعف جانب فيهم، وهو رميهم بالتعصب

الديني وبغض القبط وسائر المسيحيين، وظلمهم وهضم حقوقهم، واتباع خلفهم في

ذلك إثر سلفهم.

جردوا هذا السلاح في وجوه المسلمين، فذعروا وصبروا على ما لم يتعودوا

من إهانة القبط لهم جهرًا بما ينشر في الجرائد، فقالت القبط: إنهم ماتوا فلا خوف

من مدافعتهم، فلتظهر وحدتنا في مطالبنا وقد فعلوا.

ألف المؤتمر القبطي فحضره 1150 مندوبًا عن القبط، يحملون 10500

توكيلاً عن إخوانهم في القطر المصري كله، وافتتح المؤتمر مطران أسيوط التي

سماها بعضهم عاصمة القبط، فأحدث هذا المؤتمر دويًّا في مصر أيقظ المسلمين

ودعاهم إلى تأليف مؤتمر مصري حقيقي؛ للنظر في الحال الاجتماعية العامة،

وتمحيص مطالب القبط وتحسين أمور المسلمين أو المصريين.

ما كان يخطر في بال القبط أن المسلمين يتجرءون على عقد مؤتمر لهم، ولا

أن الحكومة تسمح لهم به إذا شاءوه، فصرحوا بأن الحكومة هي التي أوحت إليهم

بعقده، وأرادوا أن يخيفوا الحكومة بمثل ما أخافوا به الأمة، فأنشأوا يطعنون في

الوزارة ويرمونها بالتعصب الديني وتحريض المسلمين عليهم، ويرجفون بأن

(المسيحية تتعذب) ؛ ليحرضوا كل من في مصر من النصارى على المسلمين،

وحاولوا أن يحملوا نصارى السوريين على عقد مؤتمر لهم فخابوا؛ لأن القبط

يعجزون عن العبث بالسوريين واستخدامهم لأهوائهم.

وأما دسائسهم في إنكلترة فقد ظهرت لكل أحد، ولكن لم تغن عنهم شيئًا؛

لأنها مبنية على التهم الباطلة التي كذبتها سيرة المسلمين الهادئة الساكنة.

لقد سرتني هذه الحركة القبطية؛ لأنها وسيلة لاختبار حياة المسلمين،

وسيكون المؤتمر المصري هو الذي يظهر هذه الحياة ودرجتها، فإذا نجح المؤتمر

وانجلى عن حياة في المسلمين، فلا يسوءني أن تنال القبط ما يقول بعض المعتدلين:

إنه هو الحق الوحيد من مطالبها؛ وهو جواز أن يكونوا رؤساء إدارة كما صار

رؤساء للمحاكم ولغيرها من المصالح. وإذا خاب الأمل (لا سمح الله) في هذا

المؤتمر فلا أسف على شيء آخر يفوت.

كتب الناس في المسألة؛ لأنها أهم ما يكتب فيه بمصر الآن، فألقيت دلوي

بين الدلاء وكتبت مقالاً طويلاً في فصول متعددة نشرتها في المؤيد والمنار. قصدت

بها مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن كما أمر الله عز وجل، ولا أحسن من بيان

سنة الاجتماع في هذه المسائل والتمييز بين حقها وباطلها؛ ليزداد الباحثون بصيرة

في بحثهم، وتنبيه المسلمين إلى الاجتماع والتعاون على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم

ولا يضر سواهم، ولأجل أن تكون مقدمة لبيان رأيي فيما يجب أن يقوم به المؤتمر

من الخدمة العامة لهذه البلاد.

بلغ هذا المقال من التأثير في نفوس المسلمين فوق ما كنت أظن، واقترح

علي كثير من الكبراء والدهماء أن أطبعه في رسالة على حدته فأجبت، وها هو ذا

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

(1)

راجع كتاب الإسلام والنصرانية، وخطبة موسيو رينيه ميليه في مؤتمر أفريقية الشمالية بباريس في (ص 818) من مجلد المنار الحادي عشر.

ص: 295