الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد الخامس عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم وأنت ولي الحمد، والهادي إلى سبيل الرشد، ولك الأمر من
قبل ومن بعد، لكل شيء عندك قدر، ولكل قدر أجل و {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ *
يَمْحُواللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 38-39) ونصلي ونسلم
على محمد نبيك المصطفى، ورسولك المجتبى، الذي أرسلته كافةً للناس بشيرًا
ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وآتيته الحكمة وفصل الخطاب،
وأنزلت في محكم الكتاب {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ
أوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأوْلَئِكَ هُمْ أوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) .
وبعد، فقد دخل المنار في هذا العام في السنة الخامسة عشرة من عمره وهي
سن بلوغ الحلم الغالب في الإنسان، وبدء الرشد في عرف شريعة الإسلام، فنسأل
الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا فيه رشدنا ويبلغنا قصدنا، وينفعنا بما نطلبه في هذه
الفواتح من نصح الناصحين، ونقد الناقدين ومن آيات الفوز والرشاد، أن وفقنا عزَّ
شأنه للشروع على رأس هذه السنة في تنفيذ مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) التي
نرجو أن تكون خير ما أنشئ في البلاد، لإصلاح ما استشرى من الفساد.
قطع المنار هذا الطور الأول من حياته وحده، فدرج درجان الطفل غادر مهده،
إلى أن بلغ رشده، فلا أخذ بيده أمير، ولا أعانه وزير، ولا أمده غني كبير،
اللهم إلا أن مصطفى رياض باشا - تغمده الله برحمته - وكان نسيجًا وحدَهُ في
كبراء هذه البلاد، في إعانة الصحف ومساعدة أرباب الأقلام، وكذا سائر ما يعتقد
نفعه من الأعمال، أرسل إلي مرةً قيمة الاشتراك مضاعفة أضعافًا، فقلت لرسوله
إنني لا أقبل من أحد مالاً لا مقابل له مني، فعاد إليه بها فاشترك بعد ذلك بعشر
نسخ من المنار، ثم جعلها خمس عشرة نسخة، وجعلها نجله محمود باشا من
الباقيات الصالحات له، وإني أعلم كما يعلم كثير من الناس، أن المنار لو صدر
على عهد وزارة رياض، للقي من مساعدته بنفوذه، أضعاف ما لقي من مقاومة
غيره، فإنه كان مغرمًا به، كثير الذكر له والثناء عليه في مجالسه، وكان مثل هذا
أمرًا مفعولاًَ في عهد وزارته، وإذا كان رياض باشا قد حسن قوله في المنار وعمله،
فما لي لا أذكر بالخير من حسن قوله ونيته، ذلك إبراهيم باشا فؤاد الذي كان
ناظر الحقانية رحمه الله تعالى، كان يرى أن المنار أنفع الصحف للمسلمين، ويود
لو يعم انتشاره بين طلاب العلوم وجميع الطبقات، وقد سمعت منه منذ السنة الأولى
ما يدل على رأيه هذا، وأخبرني بمثل ذلك عنه أحمد فتحي زغلول باشا، وقال:
إنه ذاكره في وضع مشروع لتوزيع المنار على طلاب العلم والفقراء من القراء
بثمن قليل جدًّا لا يثقل على أحد منهم أو جعل ثمنه قليلاً لكل قارئ بجمع مال
بالاكتتاب يرصد لذلك. فكر رحمه الله تعالى في ذلك وقدَّر، وذاكر وشاور، ثم لم
يعمل شيئًا، فجزاه الله على نيته خيرًا.
أشرت في فواتح السنين الماضية إلى ما كان يلقى المنار من المقاومة
والمعارضة، والمناصبة والمناهضة، وذكرت في بعضها شيئًا من تاريخه
الإصلاحي والسياسي، وأحببت أن أذكر في فاتحة هذه السنة ما فيه العبرة من
تاريخه المالي، إذ يظن بعض الناس أنه أصاب كِفْلاً من المساعدة والإمداد المعتاد
مثله في هذه البلاد، فلم أجد فيه إلا ما ذكرته لرياض باشا من قول وعمل،
ولإبراهيم باشا فؤاد من قول ونية، ورياض باشا هو الذي أخذ بأيدي أصحاب
الصحف الكبرى بمصر في أيام وزارته، سواء كانوا من نصارى السوريين، أو
القبط أو المسلمين، فهو صاحب الفضل الأول على الأهرام والمقتطف وجريدتَيْ
الوطن فالمؤيد، ساعد هذه الصحف مساعدة الوزير النافذة إرادته، المسموعة كلمته،
المطاع أمره وإشارته، الطويل باعه المبسوطة يده، فمساعدته للمنار لا تقرن
بمساعدته لتلك الصحف، وإنما أقول هذا مزيدًا في تكبيره في نفسه وتمييزه بين
أبناء جنسه، لا لتصغير معروفه والتقصير في شكره.
لعله لولا مثل تلك الموازرة لما نبتت تلك الصحف في أرضنا نباتًا حسنًا ولما
استغلظ نباتها واستوى على سُوقه، ولمَا أينعت ثمرتها وآتت أكلها، ذلك بأن الجهل
وضعف الأخلاق وفساد نظام الاجتماع جعل بلادنا كالأرض السبخة، لا تنمو فيها
شجرة العلم إلا بعناية خاصة من الخاصة ، وها نحن أولاء قد تعودنا قراءة الصحف
اليومية عشرات من السنين وصرنا نعدها من حاجات الحضارة والمدنية، ولكن
هيئتنا الاجتماعية لا تزال قاصرة أو مقصرة في القيام بما يجب من حقها، لما ذكرنا
من ضعف النفوس ومرض الأخلاق فيها، حتى إن كثيرين من رجال الطبقة العليا
فينا كالمدرسين والمؤلفين والقضاة يمطلون ويسوفون فيما يجب عليهم من اشتراك
الجريدة أو المجلة، ومنهم من يهضم هذا الحق ويستحل أكله، ومن الوقائع القريبة
في ذلك أن بعض المعروفين بشرف النسب والثروة والعلم والتأليف قال لوكيل
المجلة بعد أن أرجأه طويلاً: إنني لا أدفع قيمة الاشتراك؛ لأنني من العلماء! !
فإذا كان أكل أموال الناس بالباطل، مما يجهر به الشريف الغني العالم، ويعده من
ثمرات العلم ومزايا العلماء، فممن ننتظر الوفاء؟ دع التعاون على المصالح العامة
والإصلاح لا أقول: تقطعت من هذه الأمة جميع أسباب الوفاء والتعاون، وانبتَّت
سائر حبال التكافل والتضامن، وإنما أقول: إن ذلك قد قل فيها وضعف، على نحو
ما أصف، وكان من أثره ضياع ملكها وهوان أمرها، وهذا ما نعنى بعلاجه،
ونسعى لتلافيه، والله لو كان هذا المنار يراد للكسب لما بلغ سن الرشد.
الخير والكمال للمرء أن يعمل باستقلاله، وأن لا يكون لأحد عليه فضل ولا
منة، بألا يأخذ منه مالاً بغير مقابل ولا جزاء لمنفعته الخاصة، وإن كان يستعين
به على المصلحة العامة، وأما قبول المال لإنفاقه في صالح الأعمال، فهو لا ينافي
الفضيلة والكمال، كأن يشترك مريد الإعانة المالية للصحف الدورية، أو الكتب
العلمية، بنسخ من الكتاب، توزع على من شاء هو أو شاء المؤلف من القراء،
كما قبلنا اشتراك المرحوم رياض باشا بخمس عشرة نسخة من المنار، واشتراك
ذلك المحسن المستتر في العام الماضي بست نسخ منه، واشتراك (مولوي محمد
إنشاء الله) صاحب جريدة (وطن) في مدينة (لاهور) بمائة نسخة من كل جزء
يصدر من تفسير المنار، توزع على خطباء المساجد في بعض الأقطار، وكان
اقترح علينا هذا الفاضل أن يجعل لنا راتبًا شهريًّا مدة الاشتغال بإتمام التفسير،
بشرط إتمامه في زمن قريب، فلم نقبل هذا منه؛ لأنه جزاء على عمل نعمله لله
عز وجل، لا ترويج له كالاشتراك، ولنا بذلك أسوة بنبينا صلى الله عليه وسلم،
وصاحبه الصديق الأكبر، فقد ورد أن أبا بكر رضي الله عنه قد أنفق جميع ماله في
سبيل الله ورسوله، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه الراحلة يوم
الهجرة إلا بثمنها، وورد أن أبا بكر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئًا
قط، وإنما قبل النبي صلى الله عليه وسلم مالاً لإنفاقه في نشر دعوة الإسلام لا
لنفسه ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى النفقة على أهله أحيانًا فيقترض من
اليهود، وكان يجزي على الهدية، ولا يقبل الصدقة ألبتة؛ لأن الله أكرمه بتحريمها
عليه وعلى أهل بيته ليكونوا قدوةً للناس بعزة النفس ورفعتها.
تلك هي الفضيلة وذلك هو الكمال، ولمثل هذا هدانا الإسلام، ولكن العمل بما
دون هذه الدرجة العليا من الكمال الإسلامي صار عسرًا جدًّا لقلة المُوَاتي والمُشارِك
فيه، والمعين عليه، وأما ارتقاء تلك الدرجة، بل العروج إلى تلك الذروة، فأوشك
أن يكون من خوارق العادات، التي قد ينالها بعض أهل العزلة والانفراد، دون
أصحاب الأعمال العامة التي تصلح بها أحوال الناس.
علمنا من كتاب الله تعالى ومن الاختبار المصدَِق له أن الناس أزواج ثلاثة
في كل شأن، كما كانوا في كتاب الله عز وجل {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر: 32) وإنما تسعد
الأمم وتشقى بحسب النسبة العددية في كثرة هذه الأزواج وقلتها ، فالأمة التي يكثر
فيها الظالمون لأنفسهم [1] بترك ما يجب عليهم، ويقل المقتصدون الذين هم
للحقوق يؤدون، فلا يلوون ولا يمطلون، ويندر أو يُفقد السابقون بالخيرات،
الذين لا يقفون عند حدود أداء الواجبات، بل يزيدون عليها ما شاء الله من النوافل
والتبرعات، وينهضون بالمصالح العامة، ويقومون بالمنافع المشتركة، فتلك هي
الأمة التي يتهدم بناء مجدها، ويزول عزها وملكها، وتصير مستعبدة لغيرها،
وتخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
وأما الأمة التي يقل فيها الظالمون، ويكثر فيها المقتصدون، ويكون زعماؤها
والقائمون بمصالحها من السابقين بالخيرات، المتعاونين على أنفع الأعمال، فتلك
هي الأمة التي ترث الأرض، وتستمتع بنعمة السيادة والملك، وتتسابق مع من
يشاركها في صفاتها إلى غايات المجد المؤثل، ويكون السبق للأمثل فالأمثل.
نحن ولا كفران لله من المتخلفين المقصرين وقد سبقتنا الأمم كلها بعد أن كنا
نحن المقتصدين والسابقين، والظالمون لأنفسهم وأمتهم منا فريقان: فريق يجعلون
علته ما جهلوا أو تركوا من هدي الدين، وهو ما عمل به سلفهم فكانوا هم الأئمة
الوارثين، ويحاولون أن يقطِّعوا هذه الأمة أممًا، ويسلكوا بها إلى المدنية طرائق
قِددًا، وهم ما عرفوا حقيقة المدنية الفاضلة وكنهها، ولا ما يصلح للمسلمين ويتفق
مع طبائعهم منها، ولكنهم في طلب قشورها مقلدون، هذا تركي يقول: يجب أن
تكون السيادة والسلطة للترك، وهذا عربي يقول: إذا لم تكن المساواة فالعرب أولى
بالملك، وهذا مصري يقول: مصريون قبل كل شيء، وهذا فارسي يقول: إننا
فارسيون قبل كل شيء، والأمم الظالمة من ورائهم تقول: إنكم مسودون قبل كل
شيء، ومستعبدون بعد كل شيء؛ لأنكم لستم بشيء، فأولئك هم المتفرنجون،
الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا
إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 9) .
ومن دونهم في الجناية على الأمة وإطالة أجل الغمة فريق آخرون، لا
يسيرون بالناس ولا يدَعونهم يسيرون، وهؤلاء هم الذين يُدْعَوْن أهل الجمود،
الذين رُزئوا بالخمول أو القنوط، ويعتذرون بقرب الساعة وفساد الزمان،
وخروج الإصلاح من محيط الإمكان، وفُسوق أرباب الملك والسلطان، وإنك
لتجدهم على ما لبسوا من ثياب الدين أذلةً على المفسدين والظالمين، أعزةً
على الصالحين المصلحين، فهم يجذبون الأمة من ورائها لتصبر على المكث في
جحر الضب، كلما جذبها أولئك من أمامها لتخرج إلى باحة الفسق، يضيعون على
الأمة دنياها، ويعجزون أن يحفظوا عليها دينها، ذلك بأنهم في دينهم من المقلدين،
فلا يستطيعون إقامة حجته على المستقلين، ولا دفع الشبهات التي ترد عليه من
المعارضين، وقد وعد الله بنصر من ينصره وما هم بمنصورين، وكتب الغلب
لحزبه وما هم بغالبين ونراهم قد غلب عليهم الذل {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) .
هذه حالنا التي ننذر أمتنا سوء مغبَّتها في كل عام، فيتمارون بالنذر
ويتبارون في الآثام، ويزدادون في التفرق والانقسام، إلى أن شعروا بزوال
ملكهم في هذه الأيام، صخت سمعهم صيحة سقوط الدولتين اللتين لهم في الشرق
والغرب، وتلتها صيحة الدولة العلية، وهي في مكان القلب فعسى أن
يكون الوقر قد زال من أسماعهم والغشاوة قد انقشعت عن أبصارهم، والرين قد
انكشف عن قلوبهم، وأن يدركوا بعد هذا كله أن المصلحين فيهم هم الأمة الوسط،
التي تجمع بين مطالب الروح والجسد، وتقيم أمر الدنيا والدين، كما هدى إليه
الكتاب المبين، والمنار هو لسان حال هذا الحزب، الذي يزداد أهله نموًّا في
الأرض، وقد وفقهم الله في عام الرشد لتأسيس دار الدعوة والإرشاد، وستفتح
أبوابها لجميع المسلمين من جميع العناصر والبلاد، ويتلو لسان الحال على رؤوس
الأشهاد،] يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [ {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ
أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: 44) .
…
...
…
...
…
منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا الحسيني
…
...
…
...
…
... ناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر
_________
(1)
إن الذي يمنع الحق الذي عليه للناس يكون أشد ظلمًا لنفسه ممن يمنع حق الله؛ لأن الله لا يغفر له حقوق عباده؛ ولأنه يكون قدوة سيئة مغريًا لغيره بظلمه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ذكرى الهجرة النبوية الشريفة
وجعلها تاريخًا عامًّا للبشر
بسم الله الرحمن الرحيم
الله أكبر، هذا هلال العام الجديد عام 1330 للهجرة النبوية الشريفة. هذا
هو الهلال الذي يذكرنا في كل سنة بذلك النور الذي كان خفيًّا في مكة المكرمة،
فأشرق بالهجرة في المدينة المنورة، ثم امتد منها إلى جميع أرجاء العالم، فدخل به
العالم الإنساني في عصر جديد، فكان تاريخًا للإنسانية جديدًا.
الله أكبر، هذا هو الهلال الذي يذكرنا في فاتحة العام بذلك الإصلاح العام،
الذي جاء به الإسلام، فاستفاد منه جميع الأنام، ثم حالت الأحوال، فصار حظ
المسلمين من سعادته دون حظ غيرهم، حتى آل أمرهم في العام الذي ودعناه إلى ما
يعرفه كل أحد، من وقوع خطر وتوقع خطر، فعسى أن يكون حظ هلالنا السياسي
الاجتماعي في هذا العام الجديد خيرًا منه فيما قبله، ولا يكون كذلك إلا بالرجوع إلى
تلك الهداية العليا: هداية التوحيد والاعتصام بعد الشقاق والخصام، {وَلَا
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) وبالسير على سنن الله في خلقه
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (آل عمران: 137)
وبتغيير ما بأنفسنا من الأخلاق والأفكار، التي خالفنا فيها سلفنا الأخيار {إِنَّ اللَّهَ لَا
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) .
دخل العالم بالهجرة النبوية في عصر جديد لم يسبق له نظير في التاريخ فكان
جديرًا بأن يكون تاريخًا للبشر كافةً، لا للمسلمين خاصةً.
قضى الإسلام قضاءه المبرم على الوثنية التي أذلت البشر واستعبدتهم للملوك
المستبدين، والرؤساء الروحانيين، ولمظاهر الطبيعة وما يمثلها في الهياكل من
الأصنام والأوثان، وقرر حرية الاعتقاد والوجدان، والاجتهاد الاستقلالي في العقائد
والأعمال، والشورى في السياسة والأحكام، وأبطل امتيازات الأنساب والأجناس،
التي كان يستعلي بها الناس على الناس، بغير علم نافع، ولا عمل رافع، وجعل
قاعدة الإنسانية العامة قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) .
هذا درس عام في حقوق الإنسانية العامة، علمه الإسلام لجميع البشر بالقول
والفعل، فاستفادوا منه بقدر استعدادهم في كل عصر من الأعصار، فإذا كانت
العرب قد سبقت غيرها إلى الاستفادة منه؛ لأنه ألقي بلغتها وظهر فيها، فأزالت
ظلم الرومان وغيرهم من المتغلبين القاهرين للإنسانية، وأحيت العلوم والمعارف،
وأنشأت جنات المدنية في الشرق والغرب، - فرب لاحق يبذُّ السابق، كما رأينا
الشعوب الإفرنجية قد أخذت المدنية عن أجدادنا أهل الأندلس وغيرهم وبرزت علينا
فيها، فكل هذا مما يجب أن يذكرنا به تاريخ الهجرة فنعلم أن البشر لو أنصفوا
لجعلوه التاريخ العام لهم.
كان البشر قبل الإسلام متقاطعين ليس بينهم صلة عامة، وكانت المدنية تظهر
في قطر من أقطارهم، ثم تخفى وتزول قبل أن تتصل بسائر الأقطار، بل كانت
الأديان ذات السلطان الأعلى على البشر تشرع وتنسخ فلا يمر زمن قليل إلا ويذهب
أصلها وينقطع سندها، وما اتصلت حلقات سلسلة العلم الإلهي والبَشري، وسلسلة
المدنية والأعمال البشرية، إلا بهذا الانقلاب الإسلامي الذي جدد تاريخ البشر،
فصار جميع ما يؤلف في بغداد وسمرقند وخراسان وغيرها من مدن الشرق،
ينسخ ويقرأ في عصر مؤلفيه بقرطبة وغرناطة وسائر مدن الأندلس في أقصى
الغرب، (واحكم على العكس بحكم الطرد) فبهذا كانت الهجرة أجدر حوادث الكون
بأن تكون مبدأ تاريخ عام للبشر - كذلك أشرعت مذ ذلك العصر طرق التجارة
بين الخافقين في البر والبحر، وصار يتحقق بالتدريج ما هدى القرآن البشر إليه من
حكمة التعارف بين الشعوب والقبائل، الذي يمهد السبيل إلى الأخوة الإنسانية
العامة.
ولولا ذلك الروح الإلهي الذي بثه الإسلام في الناس لما تيسرت له تلك
المواصلة في ذلك العهد الذي لم تكن تُعرف فيه الكهرباء ولا البخار، وإنما كانت همة
المسلمين نائبةً عن قوى الطبيعة التي عرف منها تلاميذهم من بعدهم، ما كانوا أعدوا
عدته ومهدوا طريقه لهم، فكما سرت جميع شعوب المدنية في ذلك
وغيره على طريقهم، كان ينبغي أن يشاركوهم في تاريخهم.
أحيا المسلمون ما كان أماته الزمان من علوم اليونان، فإذا هي علوم أكثرها
نظري وأقلها عملي، وكان من هداية الإسلام لهم أن يقرنوا العلم بالعمل، فكانوا هم
الذين وضعوا قواعد التجربة والعمل للعلوم الطبيعية، فجعلوا الكيمياء الخرافية
كيمياء عملية، وعلى هذه القاعدة بنى تلاميذهم الإفرنج علومهم التي قامت بها
المدنية الحديثة، فبهذا كان الإسلام فاتحة عصر جديد أيضًا، وكان تاريخ الهجرة
الشريفة جديرًا بأن يكون تاريخًا عامًّا للبشر كلهم.
إن فيما شرعه الإسلام من الهجرة تربية عالية للبشر، الذين قرن الله تكريمهم
في كتابه بتعظيم شأن السفر، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ
وَالْبَحْرِ} (الإسراء: 70) فالهجرة عبارة عن فرار الإنسان بحريته في فكره
ووجدانه وعمله من الأرض التي يُضطهد فيها ويُظلم إلى الأرض التي يكون فيها
حرًّا عزيزًا.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء: 97) ولما اشتد إيذاء المشركين للمؤمنين في مكة أمر النبي صلى الله
عليه وسلم المسلمين بالهجرة إلى الحبشة، وعلل ذلك بأن ملكها النجاشي لا يظلم
عنده أحد، فثبت بالكتاب والسنة أن الهجرة قد شرعت لتكريم البشر، وتعظيم شأن
الحرية، وإباء الظلم والذل والضعف، وقد كان المسلمون أعز الناس وأكرمهم
نفوسًا، وأشدهم إباء للذل والظلم، عندما كانوا عالمين بأسرار هذا الإصلاح الذي
جاء به دينهم عاملين به، ثم سرى هذا الإباء والعز منهم إلى غيرهم، بعد ما ضعف
فيهم، فكان خيره عامًّا منتشرًا في البشر، فما أجدر الهجرة الشريفة بأن تكون تاريخًا
عامًّا لهم.
أشرق نور النبي صلى الله عليه وسلم على مدينة يثرب عند دخول الشمس
في برج الميزان أول الاعتدال الخريفي، (23 سبتمبر) فكان ذلك إشارة إلى ما
دخل فيه العالم من عصر العدل والاعتدال، فكان ينبغي للمسلمين أن يجعلوا ذلك
مبدأ للتاريخ الشمسي للهجرة الشريفة عند حاجتهم إليه لأجل المعاملات المالية، كما
جعلوا التاريخ القمري للمعاملات الدينية، فإذا كنا قد دخلنا اليوم في عام 1330
الهجري القمري فقد دخلنا منذ ثلاثة أشهر في عام 1290 الهجري الشمسي، فهل
لمصر أن تكون السابقة إلى استعمال هذا التاريخ الشمسي، كما كانت هي السابقة
للعالم الإسلامي كله إلى الاحتفال بذكرى التاريخ القمري، بعد أن كاد يُنسى فيها
باستعمال التاريخ الإفرنجي الذي أخذناه عن الإفرنج في هذا العصر وما كنا
لترجيحه على تاريخنا بمحتاجين.
لولا أن انحلت روابطنا، وسحلت مرائرنا، لما استبدلنا بتاريخنا تاريخ غيرنا
ولقد كان يوم تقرير الحكومة المصرية جعل التاريخ الإفرنجي رسميا يوم فرح
وسرور في أوربة؛ لأن ما تقلد به أمة أمة في أمر من الأمور الملية العامة يكون
دليلاً على ضعف المقلِّدين (بكسر اللام) وعلو شأن المقلَّدين (بفتح اللام) ومقدمةً
لاستيلاء المتبوع على التابع والسيطرة عليه.
يقول المقلدون منا: إنه لا بد لنا من التاريخ الشمسي وإن التاريخ الإفرنجي
قد اشتهر فهو أولى من إحياء تاريخ الهجرة الشمسي الذي لا يفهمه أحد. وكذلك
ينصح بعض الناس للدولة العثمانية أن تختار هذا التاريخ في معاملاتها المالية
والرسمية. وهذه حجة الضعيف في استقلاله الشخصي والملي ، ويرد هذا بأن
الاستعمال يجيء بالشهرة ويجعل المجهول معروفًا، فقد كان بدء جعل الميلاد أساسًا
للتاريخ في سنة 464 هجرية ولم يكن مشهورًا ولا معروفًا، ثم ظهر لهم الخطأ فيه
فحرروه وصححوه ولا يزال مبنيًّا على خطأ استقلال رأي الأكثرين فيه على قاعدة
(الخطأ المشهور خير من الصواب المهجور) فما هو الموجب لترك ما عندنا من
الصواب وتقليد غيرنا في الخطأ؟ وتاريخنا أحق بالتعميم وأجدر، وتقدم المرجوح
في الزمن لا يجعله راجحًا، فالقِدم أمر نسبي كما قال الشاعر:
إن ذاك القديم كان حديثًا
…
وسيبقى هذا الحديث قديمًا
لا يكفي في تعظيم الهجرة وإحياء ذكرى تاريخها أن نحتفل في هذا اليوم بإلقاء
الخطب، وإنشاد القصائد، وإنشاء المقالات في الجرائد، وإنما يجب علينا تعظيمها
بالعبرة والعمل، والمقابلة بين ماضينا وحاضرنا، لا لأجل التلذذ بذكر الماضي
الجميل، والغرور بما مضى وانقضى من ذلك التاريخ المجيد، ولا لأجل الشكوى
من الضعف العتيد، واليأس من المستقبل القريب أو البعيد، بل لأجل أن نتذكر
ونتدبر، فنعلم أنه لا يصلح آخرنا إلا بما صلح به أولنا، كما قال أحد أئمة العلم من
سلفنا، وإن في تاريخ الهجرة من دروب العبرة وآيات الحكمة {لَذِكْرَى لِمَن
كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) .
نودع عامًا ونستقبل عامًا فلا تطوى صحف عامنا الغابر على عمل يذكر، ولا
ينشر في صحف العام الحاضر مشروع للأمة يُشكر، إلا ما يرى في بعض البلاد
من الحركة الضعيفة، ودروج كدروج الأطفال وراء الشعوب القوية، التي تسير
أمامنا بقوة البخار والكهرباء، فتسبق الأرقام على الأرض والطيور في الهواء،
وإننا لنرى حولنا في كل عام فتنًا كقطع الليل المُظلم، كلما غشيتنا قطعة منها وجمنا
وتألمنا، وصحنا ونُحنا، فإذا هي انجلت عدنا كما كنا. لا نحسب لما بعدها حسابًا
ولا نعمل لها عملاً، أرضينا أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ
يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .
كلا إنا إلى ربنا تائبون، ولما هدانا إليه من الجمع بين العلم والعمل متوجهون،
بهذا تبشرنا الحوادث، وإلى هذا تدعونا الكوارث، ورب مصيبة أفادت عبرة
خير من نعمة أحدثت غرورًا وفترة، وإننا نهنئ إخواننا المسلمين على رأس هذا
العام، بما تجدد لهم من شعور الأخوة العام، ونبشرهم بأن جماعة الدعوة والإرشاد
قررت تنفيذ نظام مدرستها الكلية (دار الدعوة والإرشاد) من غرة هذا الشهر فاتحة
العام الهجري المبارك إن شاء الله تعالى، وسينشر هذا النظام في الجرائد فيرون فيه
أنه هو الضالة التي ينشدها المصلحون، والرغيبة التي ينتظرونها المحسنون
{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61) .
…
...
…
...
…
...
…
... ناظر دار الدعوة والإرشاد
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
علاوة للمقالة
كتبت هذه المقالة في سلخ ذي الحجة سنة 1329 في إدارة المؤيد؛ إذ كلفت
ثمة أن أكتب مقالة افتتاحية لعدد المؤيد الذي يطبع في ذلك اليوم، ويصدر في
صبيحة المحرَّم افتتاح سنة 1330 أو ليلتها، كتبتها على عجل ومرتبو حروف
المؤيد يأخذون مني كل ورقة قبل أن يجف حبرها ويستعجلونني بما بعدها، فلم
يسمح ضيق الوقت واستعجال العمل بشرح مسألة إحياء التاريخ الهجري الشمسي
والتوسع فيها، لهذا رأيت أن أجعل لها هذه العلاوة الآن، وأن أطبعها على حدتها
وفي المنار.
من اختبر أحوال المسلمين في هذا العصر يرى في أخلاقهم وأحوالهم تناقضًا
عجيبًا إذ يراهم من أشد خلق الله غيرة على دينهم وحرصًا على جامعتهم الإسلامية،
ومن أشد خلق الله تهاونًا وإهمالاً في أمر دينهم، وعدم المبالاة والاكثرات بما يحفظ
جامعتهم ويقوي رابطتهم، وإذا بحث في اختلاف الوجوه بين هذه الأمور المتناقضة
يرى شواهد كثيرة تدل على أن ما ذكرنا من حرص السواد الأعظم وغيرتهم
محصورة في حب استبقاء الموجود، وأما تهاونهم وإهمالهم وعدم مبالاتهم فلا
تنحصر في تركهم السعي لاسترداد ما فقدوا من علم وعمل، ونور وهدى، ومجد
تليد، وسيادة قديمة، بل تتناول مع هذا ضعف الهمة في طلب المجد الطريف،
وعدم العناية في البناء والتجديد.
ولو كان هذا التفصيل الذي يدل عليه الاختبار، ويثبته التمحيص والاعتبار،
عامًّا شاملاً لجميع المعروفين من أهل الرأي والعمل من المسلمين (على قلتهم)
لكان دليلاً على أن المسلمين يموتون موتًا طبيعيًّا، وأن أعداءهم لا يحتاجون إلى
أدنى سعي في الإجهاز عليهم، ومبادرة ما يخشونه من يقظتهم وانتباههم؛ لأن
أخص صفات الأحياء الذين يزدادون حياة وقوة هو أن يطلبوا ما يمد حياتهم وينميها،
وأخص صفات الموجودات المشرفة على الموت والفناء أن تنحل وتنقص يومًا
بعد يوم فتتألم لما ينقص منها، ولا تطمع في زيادة تمد حياتها ولا تطلبها.
نرى بعض الشعوب تحيا بعد موت لتجدد ما كان اندرس من مقوماتها
ومشخصاتها، كاليونان والأرمن على تفرقهم، والقبط على قلتهم، ونرى المسلمين
على كثرتهم، واتصال أقطارهم، قد صاروا طُعمة لكل آكل، ونهبة لكل طامع،
وأكثرهم راضون بسوء ما هم فيه، ومنهم من يطلب تغييره بالانسلاخ من ماضيه،
والاندغام في شعب غريب لا يرتضيه، وهؤلاء هم الذين يسمون أنفسهم المجددين،
وطلاب المجد والحضارة، ومكوني الوطنية، وخالقي الشعور بالحياة المدنية،
والحق أنهم شر من الراضين بما وصلنا إليه من الضعف والخمول؛ لأن هؤلاء
الخاملين قد رضوا بهذه الحالة التي لا نجد لها تفسيرًا إلا أنها مما يسمونه (الموت
صبرًا) وأما المقلدون الذين رضوا بانحلال رابطتهم الملية، وعفاء مقوماتهم
ومشخصاتهم الموروثة، وانتحال جنسية لغوية أو وطنية جديدة، لا اضطلاع لهم
بها، وليسوا إلا مقلدين في انتحالها، فإنما رضوا أن يبخعوا أنفسهم، وينحروا
أمتهم، ويجعلوها غذاء لأعدائهم.
هنالك حزب ثالث وسط بين ذينك الحزبين، وهم حزب الله المفلحون إن شاء
الله، الذين يطلبون المجد الطريف، ليكون متحدًا بالمجد التليد، الذين يريدون
الحياة بمقوماتهم ومشخصاتهم الخاصة بهم، لا بانتحال ما هو من ذلك لغيرهم،
الذين يريدون صقل جوهرهم لتظهر خواصه ومزاياه في أكمل ما يمكن أن يكون
عليه، لا تحويله ولا تمويهه بما ليس منه.
إن ما يُرى من ظواهر الحياة على حزب الجمود إنما هو الذماء الباقي لهم من
الحياة القديمة، وإن ما يرى من أعراض الحياة على حزب التقليد إنما هو صناعي
مستعار من الأمم الغريبة، والذماء لا يلبث أن يزول، والمستعار مهما طال زمنه
مردود، وأما حزب الوسط فهم شهداء على الفريقين، ولكنهم لا يزالون غرباء في
ديارهم، والرجاء كما قلنا متعلق بهم أو محصور فيهم، وهم المخاطَبون بإقناع أهل
الإخلاص بإحياء ما اندرس من السنن: وسن ما يعد من النافع الحسن، عملاً بقول
النبي صلى الله عليه وسلم (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من
عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء) وقد سن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه ووافقه المسلمون كافة - سنة التأريخ بالهجرة في الحساب القمري،
ثم اشتدت الحاجة إلى إحياء التأريخ بها في الحساب الشمسي، فما لنا لا نستعمل
كِلا التاريخين، وقد هدانا الله تعالى في كتابه ونظام خليقته إلى الحسابين {الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5) .
إننا نرى أهل الملل كافة والنصارى منهم خاصة يحافظون على تواريخهم
الملية، ولا يكادون يستعملون معها غيرها، حتى إننا نراهم ينقلون الشيء عن
غيرهم كالمسلمين ويكون فيه تاريخ بعض الوقائع والحوادث فيحولونه في أثناء
النقل إلى تاريخهم حتى لا يفكر قراء ما يكتبونه أو يقولونه - ولو نقلاً - في غير
ما هو لهم.
بل نرى الملايين من الروم الأرثوذكس لا يتركون ما اعتادوا من الغلط في
تاريخ الميلاد الذي يعبرون عنه بالحساب الشرقي، ونرى القبط يقدمون تاريخهم
الخاص بهم الذي يسمونه تاريخ الشهداء على تاريخ الميلاد العام بين أهل ملتهم،
ولو تركوا تاريخ الشهداء إلى تاريخ المسيح الذي يقولون: إنه رب الشهداء وإلههم
لم يكونوا قد تركوا شيئًا من شئونهم الملية إلى ما ليس منها. فما بالنا نحن المسلمين
نرغب عن تاريخنا الذي هو أجدر جميع التواريخ بالتعميم إلى تواريخ الأغيار من
الروم والإفرنج والقبط وغيرهم؟ إن ديننا يهدينا إلى أن نكون أئمة متبوعين، فلماذا
ذللنا حتى رضينا أن نكون مقلدين تابعين، ونحن نرى الذين جعلناهم أئمة لنا
يسخرون منا ويدعوننا متعصبين.
إلا أن من الذل والخسف الذي سنته الحكومة المصرية ما نراه في كثير من
أوراقها الرسمية وأعداد البيوت والمركبات وغير ذلك من تشريف الكلم والأرقام
الإفرنجية على مثلها العربي، فإما أن تجعل ما يكتب بالإفرنجي هو الأعلى وإما أن
تجعله هو الأيمن، ومن طَمَسَ التفرنج نور بصيرته، أو طبع الذل على قلبه، فعدّ
هذا مما لا يبالى به، ولا يُؤبه له، يقال له إذًا: كيف اهتم به سادتك الإفرنج
ونفذوه في بلادك؟ وأنَّى ينفع القول، ومن هان عليه الذل في الأمر الصغير، لا
يأبى حمله في الأمر الكبير، وقد قلت في المقصورة.
من ساسه الظلم بسوط بأسه
…
هان عليه الذل من حيث أتى
إذا أردنا أن نحيا فعلينا أن نهتم بكل ما نحفظ به مقوماتنا ومشخصاتنا الملية
الموروثة، وأن نقتبس كل ما نراه نافعًا من حضارة هذا العصر، بهذه النية وهذا
القصد، وأن نهتم بالصغير والكبير من ذلك على السواء، وأن نجتهد لنكون رءوسًا
لا أذنابًا، وأئمة لا أتباعًا، وما دمنا لا نستغني عن التاريخ الشمسي في معاملتنا
المالية ونحوها، فلا مندوحة لنا عن جعله هجريًّا كالتاريخ القمري في المعاملات
الدينية.
إذ أردنا أن نسنَّ هذه السنة فالطريق قد أشرع، والحساب قد وضع، فقد
صنف أحمد مختار باشا الغازي كتابًا فيه سماه (إصلاح التقويم) وطبع بالعربية
والتركية سنة 1307 تكلم فيه عن تواريخ الأمم والشعوب المشهورة وبيَّن وجه
الحاجة إلى العمل بالتاريخ الهجري الشمسي وضع له جدولاً مطولاً بيَّن فيه السنين
الشمسية الهجرية مع المقارنة بينها وبين السنين القمرية والسنين الشمسية الميلادية
من ابتداء السنة الشمسية الهجرية الأولى إلى سنة 1591 التي توافق آخر سنة
1639 القمرية وسنة 2212 الميلادية، وقد استحسن أن تسمى الشهور بما هو نص
في الدلالة على المسمى في تحديد الفصول، فالسنة الهجرية الشمسية تبتدئ من أول
الخريف فتسمى شهورها هكذا: الخريف الأول، الخريف الثاني، الخريف الثالث
الشتاء الأول الشتاء الثاني الشتاء الثالث
…
إلخ.
وسمَّى الربيع بهارا وهو لفظ تركي - وذكر وجهًا ثانيًا نذكر بقية الشهور به
وهو: أول الربيع، أوسط الربيع، آخر الربيع، أول الصيف، آخر الصيف،
أوسط الصيف. ويمكن أن يقال: الربيع الأدنى، الربيع الأوسط، الربيع الأقصى
وهكذا، ولعل هذا هو الأولى، وأي التعبيرات اختير فكل من سمع اسم الشهر يفهم
معناه من لفظه.
وأخبرني أحمد مختار باشا الغازي في القسطنطينية أنه كتب تقريرًا يطلب فيه
من مجلس الأمة العثمانية العمل بهذا التاريخ وجعله رسميًّا للدولة. ولكن ما دامت
الغلبة في المجلس للمتفرنجين المعروفين، فلا تُرجى إجابة هذا الطلب، إلا أن
تطالب الأمة به من كل ولاية.
وإذا سبق مسلمو مصر إلى استعمال هذا التاريخ والدعوة إليه، فالمرجو أن
يعم انتشاره في أقرب وقت، والله الموفق.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نقل كلام المخالفين أو المبطلين
(س1) من صاحب الإمضاء في دمشق حضرة مولانا أوحد الأعلام نفع الله بعلمه الأنام.
اطلعت على كتاب لأحد علماء فاس ينتقد فيه ما جاء في مقدمة شرح نهج
البلاغة لابن أبى الحديد (صحيفة 4 من طبعة الحلبي الجديدة) من نقله مذهب
البغاة والخوارج، ومقالة أبى القاسم البلخي في عبد الله بن الزبير (فى الصفحة
نفسها) يقول الفاسي: سبحانك هذا بهتان عظيم، فقبح الله قائله فكيف يليق نقل
هذه العبارة ونشرها بين أهل الإسلام والزمان كما ترى، وأهله إلى ورا (ثم قال
الفاسي) ولما ذكر العلامة الأبي في شرح صحيح مسلم ما ذكره أهل السير من
الأمور التي نقمت على سيدنا عثمان رضي الله عنه في خلافته. قال العلامة
السنوسي في اختصاره ما نصه: قلت وقد نقل الأبي هنا كلامًا في عثمان رضي الله
عنه لا يحل له أن يفوه به، ولا أن يكتبه، وأخاف أن لا يفي بسيئته حسنة ما تعب
في تأليفه كله فنعوذ بالله من سوء الأدب في حق الطاهرين المطهَّرين، وأسأل الله
لي وله العفو والصفح والمغفرة، والواجب على من نسخ تأليفه هذا أن لا يكتب فيه
هذا المحل، ومن اطلع عليه فلا يحل له أن يفوه به ولا أن يعتقد صدقه بلا شك،
وبالله التوفيق اهـ كلام السنوسي.
فهل من ملام على إمام ينقل مذاهب الفرق وأقوالها ومعتقداتها وما تدين الله به
مما تراه حقًّا وصوابًا وطاعة مشيًا مع اجتهادها وما أداه إليه نظرها؟
وهل يلام من ينشرها ويعد مسيء الأدب مع أنه أوردها إيقافًا على المذاهب
والآراء، وإراءة لوجوه الخلاف، وإرشادًا لمواضع الشبه التي منها أتى من أتى.
وهل للسنوسي مستند في حظر التفوه به وكتابته وعده سيئة وجريمة تُحبط
عمل المؤلف في تأليفه كله؟
وهل يسلم له دعواه وجوب حذف مثل ذلك من التآليف حتى يفتح باب
التلاعب في مؤلفات الأعلام بالحذف والزيادة والنقص؟ وكان السنوسي لم يرَ كتب
المقالات والمؤلفات في الملل والنحل لمثل الإمام أبي منصور البغدادي وللإمام ابن
حزم والشهرستاني وأمثال ما جاء في آخر المواقف للعضد ، فما سبب هذا الجمود
ونبذ مشرب سلفنا المحققين؟
وهل هذا يؤيد ما يرمى به القطر المغربي من التعصب الذي سبب له ما سبب
مما حاق به ويحيق.
وقد اطلعت على جواب كتبه بعض الأساتذة عندنا إلا أني رغبت أن أزداد من
العلم فيما يهم الوقوف عليه من ذلك لذا أرجو شرح هذا والتفضل بجوابه -لا زلتم
مظهرًا للإفادة-، وكوكبًا في أفق الفضل.
حامد بن أديب الشهير بالتقي.
(ج) تختلف آراء الناس باختلاف معارفهم ومشاربهم، وحال الذين يعيشون
معهم، حتى إن الرجلين ليحكمان في مسألة واحدة بحكمين مختلفين، أو يريان فيها
رأيين متضادينٍ، وكل منها صحيح القصد، متوخٍّ للمصلحة والنفع، وربما يرد كل
منهما على الآخر ويقع التعادي بينهما أو بين أنصارهما فيصدق على كل من
الفريقين أنه يجاهد في غير عدو ، ومن هذا الباب وضع بعض علماء السلف
الصالحين لعلم الكلام وردهم على المبتدعة، وإنكار آخرين عليهم وعد علمهم بدعةً
ضارةً، حتى قال بعضهم لبعض: ويحك ألست تحكي بدعتهم ثم ترد عليها؟ أي
أن ذلك كافٍ في ذم علم الكلام وتحريم التأليف فيه لئلا يرى البدعة من لم يكن
يدري بها.
إنني أرى ما قاله العالم المغربي المشار إليه في السؤال، وما نقله عن
السنوسي يدخل في هذا الباب، على أن السنوسي من المصنفين في علم الكلام الذين
نقلوا عقائد الكفار والمبتدعة وردوا عليها.
لو كان ذلك المغربي عائشًا في مصر أو الشام أو الأستانة أو تونس يرى كتب
الملاحدة والنصارى في مدح دينهم والطعن في غيره، ويرى جرائدهم منشورة
متداولة أيضًا لما تهيج عصبه وتبيغ دمه لجملة أو جمل قرأها في شرح نهج البلاغة
لبعض فرق المسلمين. وسيرى في بلاده، وقد أوقعها الجهل والتعصب للمألوف في
قبضة فرنسة ما يهون بالإضافة إليه كل ما رآه في شرح نهج البلاغة مخالفًا لرأيه
ومذهبه، سيرى الكتب الكثيرة في الطعن في نفس القرآن العظيم، والنبي الكريم،
عليه الصلاة والتسليم، والكتب الداعية إلى الإلحاد، المؤلفة لهم كل اعتقاد،
وسيرى أن شبهات هذه الكتب ومشاغبات دعاة النصرانية من جهة ودعاة الإلحاد
والتفرنج من أخرى قد راجت في أذهان بعض قومه، وأن كشفها بالتسليم لقول
أمثاله من العلماء المعاصرين، أو التقليد لما في بعض كتب الميتين، غاية لا تدرك،
وأمنية لا تُنال.
إن اطلاع العوام والطلاب المبتدئين على العقائد الباطلة ومقالات المبتدعة، لا
ينكر ضرره، ولا تؤمن فتنته، كاطلاعهم على سيرة أهل الفسق والفجور، وطول
استماعهم لما يزينها للنفوس، كالأشعار والأغاني المشتملة على المجون، فإذا كنا لا
نستطيع منع افتتان أولادنا وعَوَامَّنا بالباطل إلا بإزالته وإزالة أهله من الأرض، ولا
منعهم من الفسق إلا بإعدام كل مبذولة العِرض، فما نحن بحافظيهم من الكفر ولا
من الفسق.
إن الله تعالى - وهو العزيز الحكيم - قد حكى في كتابه المجيد كفر الكافرين
وإلحادهم في آياته: وطعنهم في كتابه ورسوله، ولم يمحهم بقدرته من الأرض
ليحمي المؤمنين من أباطيلهم، ويحول بينهم وبين شرورهم، وهكذا فعل حماة الدين،
وحراس عقيدة الموحدة، نقلوا عقائد المخالفين ومقالاتهم وردوا عليها بالدلائل.
إنما يُشدِّد النكير على من يكتب ما يخالف عقيدته أو مذهبه أحدُ رجُلين رجُل
شديد التعصب لما هو عليه، يرى أنه يجب على جميع الناس موافقته فيه، وأن
يتبعوا من اتبعهم، ويقلدوا من قلدهم، ورجل حريص على عقيدته ومذهبه، وهو
على غير بصيرة منه، ولا ثقة به، فهو يخاف أن تطير به كل ريح، وأن تذهب
به كل شبهة، ولا يليق هذا الضيق في الذرع، والحرج في الصدر، بالمسلم
البصير في دينه، المعتصم بيقينه، وهو يعتقد أن الحق يعلو ولا يُعلى، وأنه متى
جاء الحق زهق الباطل، وأن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق،
وأن بقاء الباطل في نومة الحق عنه، وإنما اللائق بصاحب هذا الحق واليقين أن
يقذف بحقه على باطل غيره ليدمغه، لا أن يشكو منه ويلعن من قاله أو كتبه،
ويوجب تحريفه والتصرف فيه.
من الصواب أن نمنع أولادنا وتلاميذنا من قراءة كل ما نعتقد أنه ضار أو
باطل إلى أن نكمل تربيتهم وتعليمهم ونثق بمعرفتهم للحق، واستقلال عقولهم في
الحكم، وإذًا نبيح لهم أن يقرءوا ما أحبوا فلا خوف من الباطل الضعيف اللجلج
على الحق القويِّ الأبلج؛ لأن الحق هو صاحب السلطان والفلج، ومن الصواب أن
ننصح للعوام بأن يتحاموا كتب الكافرين والمبتدعين حفظًا لأذهانهم من الاضطراب
ونأيًا بنفوسهم عن مهابِّ الأهواء، وأن نرشد محبي المطالعة منهم إلى الكتب
النافعة لهم، التي لا تفسد عليهم نعمة الطمأنينة، وهي النعمة التي لا تساميها نعمة.
لنا أن نُعْنَى بهذا وذاك، وأن نجعل لما نكتبه أو نطبعه حواشي ننبه بها على
مواضع الخطأ والصواب، وليس لنا أن نطلق القول في تحريم قراءة كل ما يخالف
اعتقادنا وحرمة كتابته وطبعه، ولا أن ننقل كلام مؤلف فننقص منه أو نزيد فيه،
فإن هذا من الكذب والخيانة، وإن قومًا يأتونه أو يستحلونه لا يثق أحد بنقلهم، ومن
زعم أن هذا جائز في الشرع فقد أهان الشرع، وصد عنه جميع العقلاء من الخلق،
وجعله دينًا خاصًّا ببعض البلداء، ووقفًا على من تلقنه من الجهلاء، وإن كان لا
يقصد شيئًا من هذه المفاسد، ويا لله العجب من شدة جرأة المتحمسين على التحريم،
والافتيات على الدين بقصد حماية الدين.
لو جرى المتكلمون والمؤرخون ونقلة اللغة ورواة الأخبار والآثار على فتوى
السنوسي والمغربي لبطلت ثقتنا وثقة جميع الناس بجميع العلوم النقلية لجواز أن
يكون كل ناقل قد حذف من منقوله شيئًا مما يخالف اعتقاده أو يرى نشره ضارًّا
ببعض أهل مذهبه ونحلته، أو حرفه واستبدل به غيره، وحينئذ لا يبقى عند
المسلمين شيء يمكن أن يحتج به أحد على آخر إلا القرآن الكريم، وما عساه يوجد
من حديث متواتر مجمع على تواتره. فظهر مما تقدم أن السنوسي مخطئ في
تحريمه التفوه بما قاله أهل السِّيَر في عثمان وكتابته، وفي إيجابه على من نقل
كتابًا فيه شيء من ذلك أن يحذفه منه، فإننا نقرأ في كتاب الله مثل قوله تعالى:
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} (مريم: 88-89) ، وقوله جل
ذكره: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان: 5) وقوله تبارك اسمه:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا
ظُلْمًا وَزُورًا} (الفرقان: 4) وقوله - صدق وعده -:
{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَاّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) والشواهد على هذا كثيرة ، وليست
حكاية الطعن في عثمان - وهو غير معصوم - بأعظم من حكاية هذه الأقوال ،
والمسألة واضحة، وهذا ما رأينا في كتابته من العبرة والفائدة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة من الهند
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة مرشد الأمة ورشيدها الفيلسوف الحكيم صاحب المنار المنير دام
إقباله ثم سلام الله عليك ورحمته ورضوانه. وبعد فقد اطلعت على الجزء الرابع
من المجلد الثاني عشر لمناركم المنير، ورأيت في باب الفتاوى السؤال الذي هو
لأحد أبناء البلاد العربية في صدد (الرقص والتغني والإنشاد في مجلس الذكر)
والجواب عليه من علماء الأزهر الشريف مع تذييلكم عليه بما فيه من التشديد
والنكير على الإطلاق وتكفير فاعله ومن حضره [1] . فعجبت جدًّا لهذا الجواب
الذي لا يشوبه أدنى ريب؛ لأن أمثال هذا في نواحينا كثير، والعلماء أكثر، وكلهم
من شافعي وحنفي ومالكي وحنبلي يجوِّز ذلك ويعده من الشعائر الدينية.
والحقيقة يا سيدي أن الإنسان لَيحار جدًّا وتكاد تُشكل عليه أمور دينه من حيث
إن الأزهريين ومن أشرت إليهم من علمائنا كل منهم مقلد لمذهب من هذه المذاهب
ومع ذلك نرى الفرق كبيرًا بين ما يقوله هؤلاء وأولئك من جواز وتحريم، فلَيْت
شِعري ما هذا الخلف وما هذا الإشكال؟ وليت شعري كم لمالك من مذهب وكم
للشافعي وأخويه من مذاهب؟ أرشدونا إلى الطريق القويم أرشدكم الله إلى خير
الدارين. ثم يقول الأساتذة الأزهريون (وأما نشيد الأشعار بتلك الألحان المحدثة
والنغمات المطربة فهو حرام لا يفعله إلا أهل الفسق والضلال -إلى قولهم- قال
الإمام الأذرعي: إني أرجح تحريم النغمات وسماعها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:
(إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل) إني أسلم بتحريم النغمات
إذا كان يراد منها الأشعار المحدثة والنغمات المطربة، ولكن ما قول سيدي الأستاذ
في خطبة الجمعة وتلاوة القرآن الكريم حيث إن الاثنين لا يتلوان إلا بالألحان كما لا
يخفاكم، فهل هذا الفسق والنفاق والكفر يتناول هذين أم لا؟ وإذا كان ذلك فما هو
ذنب من حضره -أعني السامع- وما هو إلا متبع ومقلد، كما أن الخطيب في
نواحينا وسائر الأقطار الإسلامية إلا القليل لا يُدعى خطيبًا إلا إذا كان ذا صوت
جميل وكذلك تالي القرآن الحكيم فما هو قولكم في ذلك؟ وما هو معنى قوله تعالى:
{وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزمل: 4) أجيبونا عن ذلك وسامحني يا سيدي إذا
أخذت جانبًا من وقتكم النفيس أدامكم الله سراج هدى يهتدي به من ضل عن محجة
الصواب واقبلوا في الختام فائق احترام المخلص ناصر مبارك الخيري.
(أجوبة المنار عن هذه الأسئلة)
المذاهب واختلاف فقهائها
اعلم يا أخي أن المجتهد لا يكون له في المسألة إلا رأي واحد ومن نُقِلَ عنه
قولان أو أكثر في مسألة واحدة فإما أن يكون قد قال أحدهما في وقت ثم رجع عنه
فقال القول الآخر في وقت آخر، وإما أن يكون النقل عنه غير صحيح، والمسائل
التي يتردد فيها ليس له فيها رأي.
والمذهب له في عرف الناس إطلاقان، عامي وخاصي (فالأول) هو نقل
الأحكام التي قررها أو أفتى بها المجتهد، فمن عرفها وعمل بها من غير وقوف
على دليل المجتهد عليها واقتناعه به يسمى مقلدًا له، وهذا هو معنى المذهب الذي
يدعيه الآن جميع المنتسبين إلى المذاهب؛ لأنهم يظنون أن ما يقوله فقهاء مذاهبهم
وما هو منقول في كتبهم كله مروي عن أئمتهم، وأن هؤلاء الفقهاء لا حظ لهم منه
إلا نقله وتفسيره، وعلى هذا بنيتم تعجبكم من تناقض فقهاء كل مذهب في المسألة
الواحدة. والصواب أنه يقل في هؤلاء الفقهاء من اطلع على كتاب للإمام الذي
يدعي أنه درس فقهه أو قرأ شيئًا مما نقله عنه تلاميذه ككتاب الأم للشافعي والمدونة
لمالك وكتب أبى يوسف ومحمد صاحبي أبى حنيفة رحمهم الله ورضي عنهم،
وإنما قرءوا بعض كتب المتأخرين التي سنذكر لها وصف أصحابها، وما فهموها
حق فهمها، وكلهم يتجرأ على الفُتيا فتختلف فتاواهم، وتتناقض آراؤهم، وفي كل
قطر أفراد منهم، يثق بهم عوام بلادهم، كما هي عادة جميع العوام من جميع
الملل مع رؤسائهم، يقلدونهم كيفما كانوا ومهما كانت درجة علمهم أو جهلهم، فإن
قاعدة التقليد والاتباع هي أن يثق الأدنى بمن هو أرقى منه ولو في القراءة والكتابة
مطلقًا، فالأمي يرى متعلم القراءة أو الكتابة أرقى منه، وإن كان عاميًّا مثله. وكل
هؤلاء المفتين عاميهم ومثقفهم وفقيههم (إن وجد) ينسبون كل ما يفتون به إلى أئمة
المذاهب ويتعززون بأسمائهم ويتخذون هذه الأسماء أتراسًا ومجانَّ يدافعون بها كل
من يتصدى لإرشاد العامة وينهاها عن البدع والخرافات، بل يتخذونها سلاحًا
يحاربون به السنة وأنصارها.
الإطلاق الثاني هو بمعنى ما يسمونه الآن بالمسلك والمبدأ وهو طريقة المجتهد
في استنباطه للأحكام وأصوله التي يفرع عنها كما بين ذلك في علم الأصول، وهذا
هو المعنى الذي كان يقصده أصحاب أولئك الأئمة من الانتماء إليهم في عصرهم.
ولم يكن أصحابهم مقلدين لهم يأخذون كلامهم قضايا مسلَّمة بغير دليل بل تعلموا منهم
الاستدلال، ونقلوا عنهم علمهم ليكون مثالاً يُحتذى في استنباط الأحكام، كما صرح
بذلك المُزَني صاحب الشافعي في أول مختصره إذ قال: (اختصرت هذا الكتاب
من علم محمد بن إدريس الشافعي ومن معنى قوله لأُقرِّبه على من أراده مع إعلامية
نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه) .
ثم جرى على ذلك من بعدهم من العلماء ووسعوا دائرة الاجتهاد والاستنباط
على ذلك النحو والمذهب، ثم خلف من بعد هؤلاء خلف رضوا أن يكونوا عيالاً
على من قبلهم واستنبطوا الأحكام من عباراتهم، وفشت بدعة التقليد والأخذ بقول
من يوثق بشهرته من غير دليل، وما زال الناس يتدلون إلى أن وصلوا إلى قرار
الهُوة التي تعجب السائل من اضطرابهم واختلافهم فيها. وسننشر إن شاء الله تعالى
في جزء تالٍ جملة مفيدة في هذا البحث عن كتاب الإرشاد للعماد السكري رحمه الله
تعالى.
وجملة القول أن سبب اختلاف من يسمونهم الفقهاء من أهل المذهب الواحد،
هو أنهم ليسوا ملتزمين للنقل عن إمام أو عالم معين كما هو مقتضى التقليد الذي
يدَّعونه ولا جارين على أصول واحدة في الاجتهاد الذي يأتونه وينكرونه، فلا
عجب إذًا في اختلافهم واضطرابهم، ولا عبرة في دعواهم الانتساب إلى أولئك
الأئمة رضي الله عنهم.
وهاهنا مسألة ينبغي التفطن لها وهي دعوى المقلدين أن فائدة التقليد منع
تشعب الخلاف في عامة الأمة، وخاصة إذا حصر في عدد قليل كالأربعة. وهذه
الدعوى ممنوعة لا في مجموع المذاهب فقط بل في مقلدة كل مذهب مذهب أيضًا
كما بين السائل، وكما هو مشاهد لكل ناظر، وسبب ذلك أنه لم يتفق للمنتمين إلى
مذهب من المذاهب المشهورة، المنتشرة في أقطار كثيرة، أن يتفقوا على دراسة
كتاب أو كتب معينة ويعملوا بها على سواء، سواء كانت كتب إمام ذلك المذهب أو
كتب بعض المؤلفين المنتمين إليه، وإنما يتبعون في كل قطر من تصدروا فيهم
للتعليم والفتوى فيحرمون ما حرموا عليهم، ويحلون ما أحلوا، ويجرون على ما
أقروهم عليه من البدع، ويتركون ما تركوا من السنن، وهؤلاء المتصدرون
يتفاوتون في علمهم واجتهادهم - وكل منهم يجتهد في الوقائع التي تحدث في عصره،
وإن أنكر الاجتهاد بلسانه وقلمه، وإنما ينكره على غيره إذا خالف هواه فيه؛
ولذلك تتفاوت أعمال المتبعين لهم.
وثَمَّ مسألة أخرى يغفل عنها الناس وهي أن علم الفتوى عند كثير من المتفقهة
في أكثر البلاد الإسلامية لا صلة له بالعمل، فترى أحدهم يحضر الدعوات
والاحتفالات، التي تؤتى فيها البدع والمنكرات، ويهنئ أهلها ويدعو لهم، ولا ينكر
عليهم شيئًا من عملهم، ولكنه قد يقرر في الدرس أو يكتب في الفتوى أو المصنفات
أن هذه الأشياء من البدع والمنكرات، وربما يصفها بأنها مما عمت به البلوى،
ومنها ما يحلونه بالتأويل، ومنها ما لا يجدون له تأويلاً، فإذا فطن السائل لما ذكرنا
يذهب تعجبه ويزول استغرابه مما ذكره. وسيرى في الفتوى السادسة بعد هذه أن
بعضهم أحل أكل أموال المعاهدين والمستأمنين ولو بالخيانة والسرقة، وهذا من
أغرب شواهد المسألتين.
ويدلنا ما ذكر على أن الهداية التي يجب الرجوع إليها إذا اختلفت الأدلاء،
وعمي الأمر على الناس، هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وسيرة السلف الصالح في العمل بها {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً} (النساء: 59) .
إنشاد الشعر بالنغمات
إذا حكَّمنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة لا نجد
فيهما دليلاً على تحريم إنشاد الشعر بالنغمات والحديث الذي ذكروه لا يصح فقد رواه
أبو داود والبيهقي عن ابن مسعود وفي إسناده شيخ لم يسمَّ، وفي بعض طرقه ليث
بن أبي سليم قال النووي: إنه متفق على ضعفه. وقد فصلنا القول في هذه المسألة
تفصيلاً في الجزء الأول وما بعده من مجلد المنار التاسع وفيه أن الغناء قد يحرم
حرمة عارضة ويكره الاستكثار منه ولكن الأصل فيه الإباحة. ويستحب في الزفاف
والعيد وعند قدوم المسافر كما بيناه هنالك فلا هو فسق ولا كفر ولا نفاق.
الخطبة بالألحان والسنة فيها
روى مسلم وابن ماجة عن جابر رضي الله عنه أنه قال (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر
جيش يقول: صبحكم مساكم) الحديث فهذه هي السنة في كيفية أداء الخطبة، وهذا ما
يُرجى به التأثير والاتعاظ بها التي شرعت لأجله، وكل أداء يخالفه فهو مكروه وأشده
كراهة تكلف الألحان والنغمات فيها كما يفعله بعض الترك وغيرهم، وإذا قيل بحرمة
هذه الألحان والنغمات الموسيقية في الخطبة لم يكن بعيدًا؛ لأنه على مخالفته للسنة
الصحيحة تشبُّه بالكفار في خطبهم الدينية وعبادتهم، ولو من بعض الوجوه فإن لم يكن
تشبهًا؛ لاشتراط القصد في معنى التشبه كان تركًا لما أمرنا به من مخالفتهم في أمثال
هذه الأمور، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء وقيل له: إن
اليهود تصومه أمر بمخالفتهم بصيام يوم قبله أو بعده؛ ولأنه مفوت لحكمة الدين في
الخطبة وهو الزجر المؤثر في القلوب، والوعظ الذي يزع النفوس، وهذه النغمات
من اللهو الذي ترتاح إليه النفوس وتستلذه، وترويح النفوس بالمباح غير محظور
ولكن الخطبة لم تُشرع له والمساجد لم تبن لأجله.
وقد صارت الخطبة في أكثر البلاد الإسلامية رسومًا تقليدية مؤلفة من أسجاع
متكلفة كسجع الكهان، وتؤدى بنغمات موقعة كنغمات القسوس والرهبان، وقد قارب
السنة فيها بعض الخطباء المصريين والسوريين، ولم أر خطيبًا ذكَّرني خطبة النبي
صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة. زارني سيد عراقي مثَّل لي تحريض العرب
على القتال بخطبة تضطرب لها القلوب، وتثير كوامن الحمية والنجدة من قرارات
النفوس.
تلاوة القرآن بالألحان
قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن) رواه البخاري
عن أبي هريرة وأحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وأبو داود عن أبي لبابة
بن عبد المنذر والحاكم من حديث البراء بن عازب وصححه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسنًا) .
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن التغني بالقرآن معناه الاستغناء به عن غيره،
وهذا غير صحيح بدليل حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيحين ومسند أحمد
وسنن أبي داود والنسائي (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى
بالقرآن) فأي علاقة للاستغناء بحسن الصوت. ودليل قول أبي موسى الأشعري
للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره أنه استمع ليلة لقراءته: لو كنت أعلم أنك
تسمعه لحبَّرته لك تحبيرًا.
على أن علماء السلف قد اختلفوا في هذه المسألة فأنكر قراءة الألحان بعضهم
وعرفها آخرون. وقد أورد حجج الفريقين ابن القيم في (زاد المعاد) وجمع بينها
بأن المنكر هو تكلُّف الألحان الموسيقية، والتطريبات غير الطبيعية، والمعروف
هو ما اقتضته الطبيعة من التطريب والتحزين والتشويق إلى ما يشوق إليه،
والتنفير مما ينفر منه، وهذا هو الصواب الذي يتفق مع حكمة الشرع ومقصد الدين،
أعني الاهتداء بالقرآن وتدبره والاتعاظ به. ومن شاء التفصيل في ذلك فليراجع
كتاب زاد المعاد، وربما ننقله في فرصة أخرى، إذا اقتضته الذكرى.
ترتيل القرآن
الترتيل من الرتَل (بالتحريك) وهو انتظام الشيء واتساقه وحسن تنضيده
يقال: ثغر رتِل ومرتَّل إذا كانت الأسنان حسنة النظام والتنضيد. فترتيل القرآن
عبارة عن تجويد قراءته وإرساله من الفم بالسهولة والتمكث وحسن البيان {لَا
تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (القيامة: 16) {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ
عَلَى مُكْثٍ} (الإسراء: 106) والغرض من الترتيل الذي ينافي العجلة ويقتضي
المكث والتأني هو أن يفهمه السامع كالقارئ ويتمكن كل منهما من تدبره وفهمه،
ويصل تأثيره إلى أعماق قلبه، وحَسَن الصوت أقدر على إتقان الترتيل، وفصيح
اللسان أملك لحسن البيان والتجويد، وأجدر بقوة الإفهام والتأثير، وإنما كرهت
النغمات المتكلفة، والألحان المتعملة؛ لأنها تشغل القارئ والسامع بالصوت
والصناعة فيه، عن تدبر الكلام والاتعاظ به، فالفرق بين التغني المحمود والتغني
المذموم، والتلحين المعروف والتلحين المنكر، هو أن المحمود المعروف ما يشغل
نفسك بالفهم والتدبر، والاتعاظ والتأثر، والمذموم المنكر ما يشغلها بالصوت،
وإتقان الصناعة في اللفظ، والله أعلم وأحكم.
_________
(1)
ليس في تلك الفتوى تكفير كما قال، وتذييلنا هناك فيه تخفيف ما وعبارته توهم أن التشديد والتكفير في تذييلنا تبعًا أو استقلالاً.
الكاتب: محمد رشيد رضا
أموال الشركات الأجنبية في بلادنا
وحقوق المعاهدين
(س6) من محمد جمال أفندي سبط الفواردي بدمشق الشام سؤال موجه إلى
العالم العامل والمحقق الكامل منار الفضل والعرفان الشيخ رشيد أفندي رضا حرسه
الله وحفظه آمين.
ما قولكم - ساد مجدكم - في مس حقوق الشركات الأجنبية وأرباب الامتيازات
المعطاة لهم من الخليفة الأعظم هل هم معاهدون مستأمنون مصونو الحقوق أم
حربيون؟ وهل يجوِّز الشرع لأحد هضم حقوقهم بدعوى أنهم دخلوا بلادنا وأخذوا
الامتيازات من حكومتنا قهرًا، وإن كان بالصورة الظاهرة بأمان ورضى، أفيدونا
الجواب، ولكم الشكر والثواب.
(ج) إن احترام الأجانب المعاهدين أو المستأمنين واحترام أموالهم وحرمة
التعدي عليهم أو عليها من المسائل المجمع عليها بين المسلمين المعلومة من الدين
بالضرورة فليست مما يُسأل عنه أو يستفتى فيه، لولا تأويل المضلين. وقد كتب
إلينا هذا السائل الفاضل كتابًا خاصًّا يعتذر فيه عن سؤاله هذا ويبين سببه وهو أن
شيخًا من شيوخ الدجل معروفًا بمخادعة العامة واستمالتهم إليه بذم النصارى والتنفير
منهم، وتلفيق كتب الأوراد والصلوات والكرامات قد أفتى من يظنون أنه من أهل
العلم والتقوى بأن أموال الأجانب الذين في بلادنا مباحة للمسلمين فيجوز لمن قدر
على أكل مال شركة الترام أو سكة الحديد أو غيرهما من الشركات الأجنبية أو
الأفراد أن يأكل ما استطاع أكله سواء كان مستخدماً فيها أو غير مستخدم ، ويتأول
الحكم الشرعي المجمع عليه بأن هؤلاء الأجانب معاهدون أو مستأمنون في الظاهر
ولكنهم حربيون في الواقع؛ لأنهم أخذوا الامتيازات بهذه الشركات من حكومتنا
بالجبر والإكراه، لا بالرضى والاختيار. وهذا هو باطل التأويل، ومحض الكذب
وقول الزور، فالامتيازات أخذت باختيار الدولة والسلطان الذي كان يقدسه مفتي
الإباحة ويضلل مطالبيه بالإصلاح أو يكفرهم، والمعاهدات بين دولتنا ودول
أصحاب هذه الشركات لا شك فيها، وإلا كانوا محاربين، ولا حرب بيننا وبين أحد
منهم (إلا الإيطاليين الآن) والمصلحة في هذه المعاهدات لنا ظاهرة، وإذا نقض
بعضهم شيئًا من شروط العهد فليس لأحد من أفراد الرعية أن يعده محاربًا ويستحل
ماله ودمه، وإنما ذلك حق السلطان وأولي الأمر، ولولا ذلك لم يستقم نظام ولم
تثبت مصلحة، ولو كان شرعنا العادل يبيح مثل هذا لما وثقت دولة من دول
الأرض بعهودنا وأماننا، ولكانت معذورة في الاتحاد على استئصالنا، سبحان الله!
جعل الشارع ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، ولعن من أخفر ذمتهم، كما
ورد في حديث علي كرم الله وجهه في الصحيحين والمسند وكتب السنن الثلاثة
وغيرها ومن حديث غيره أيضاً. ومعنى (يسعى بها أدناهم) أن العبد أو الأجير
من المسلمين إذا أمن بعض الحربيين وجب على كل مسلم أن يحترم أمانه ويحرم
عليه أن يتعدى على من أمَّنه، أو يؤذيه في نفسه أو ماله.
وقال الحافظ ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة إلا شيئًا
ذكره عبد الملك بن الماجشون صاحب مالك قال: إن أمر الأمان إلى الإمام (الخليفة)
ورد قوله بالحديث، واشترط أبو حنيفة في العبد أن يكون مقاتلاً ليصح تأمينه.
وأما تأمين آحاد الصناع والزراع فلا خلاف فيه، ولكن دجال سورية ومفتي الإباحة
فيها لا يعتد بتأمين السلطان نفسه ولا بعهده وعهد دولته بل يبيح السرقة والخيانة في
الإسلام، وهما لا يباحان في حال من الأحوال.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدخول في الماسونية
(س7) من السيد أحمد بن يوسف الزواوي في (مسقط) .
غب إهداء مراسم السلام، والتجلة والاحترام، لحضرة الماجد الهمام،
والأستاذ الإمام، السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المنير، نهرع إلى بابه،
ونلتمس من سماحة جنابه، كشف ما يحوك في صدورنا عن هذه الجمعية، المدعوة
بالماسونية، فقد تضاربت فيها الأقوال، واستحكمت حلقات الجدال وفشى الخلف
في شأنها بين العلماء والأعلام، فمن مادح وذامّ، ومبيح الانتظام، ومفتٍ بأنه حرام،
إلا أننا نرى القائلين بالحظر يكيلون جزافًا، ويقتضبون اقتضابًا، على حين
استناد المبيحين إلى أصل الحل، ولما كان الناس لا يقتنعون إلا بجوابكم المؤيد
بالحجة المتكئ على البراهين، تيممناكم، ولنا وطيد الأمل وأكبر الرجاء بأن تثلجوا
غلتنا بالجواب الضافي الذيول، الكاشف عن موضوع تلك الجمعية وبُروغْرَامها
نِقاب الخفاء، حتى نقدم رافعين الرءوس على الانتظام في سلكها، أو نرفضها
رفض السقب غرسه ونحمل النفوس على فركها، ولا شك أن يكون كلامكم فصل
الخطاب وحاسم النزاع.
(ج) قد بينا من قبل أن هذه الجمعية سياسية أنشئت في أوروبة لإزالة
استبداد الملوك وسلطة البابوات، وفصل السياسة عن الدين بأن يكون التشريع من
حقوق الأمة غير مقيدة فيه بدين، وقد فعلت في أوروبة فعلها وأدت وظيفتها.
والذين ينشرونها في الشرق لهم أهواء مختلفة، ومنافع متعددة، والرياسة العامة
التي يرجعون إليها أوروبية، وإذ قد عرفتم حقيقتها وغرضها، فقد عرفتم حكم
الدخول فيها، وما سبب اختلاف الأقوال في حكم الانتظام في سلكها إلا اختلاف
العلم بحقيقتها، ولا يتسنى لأهل بلادكم أن يعرفوا هذه الحقيقة؛ لأن الذين يدعونهم
إليها لا يبينونها لهم، وإنما يرغِّبونهم فيها ترغيبًا إجماليًّا ويعدونهم بكشف الستار
عن الأسرار، بعد الترقي في الدرجات، ولم يقرءوا ما كتب فيها دعاتها وناشروها
من المدائح، وما يلطخها به خصماؤها - ولا سيما رجال الدين - من الفضائح،
ورُب مدح يمدحها به قوم يراه آخرون ذمًّا، وقد نشرها الإفرنج وأعوانهم
المتفرنجون في مصر والمدن العثمانية منذ عشرات من السنين فلم يكن لها من ثمرة
إلا إعداد النفوس لفصل السياسة والحكومة من الدين، والاستغناء عن الشرع
بالقوانين، والمؤاخاة بين المسلمين وغيرهم، وموالاتهم لهم، ولعله تبين لكم بهذا
الشرح كنه ما يمنونكم به من النفع، كما عرفتم ما يحكم به الشرع، وعسى أن
يزيل ما بينكم من الخلاف، الذي هو أول ثمراتها في تلك البلاد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المسألة الشرقية
سلسة مقالات لنا نشرنا ستا منها في المجلد الرابع عشر
(7)
الجهاد في الإسلام
يقع الخلاف والنزاع والعداء بين البشر بسوء الفهم أكثر مما يقع بسوء القصد،
وأعم أسباب سوء الفهم والتفاهم اختلاف المواضعة والاصطلاح: يطلق زيد
القول بمعنى فيفهمه عمرو بمعنى آخر فيؤاخذ زيد عليه، ويرى زيد أن قوله لا
يقتضي المؤاخذة وهو مصيب في هذا الرأي، وأن عمرًا ما آخذ، عليه إلا لسوء
أراد به، ونية رديئة أضمرها له، وإلا لم يؤاخذه على الصواب، وهو مخطئ في
هذا الرأي لأن عمرًا إنما آخذه؛ لأنه فهم من قوله ما لم يرد هو به.
واختلاف المواضعة والاصطلاح الذي قلنا: إنه أعم وأكثر أسباب سوء الفهم
له مناشئ متعددة، فإن اللفظ الواحد يكون به معنى أو عدة معانٍ في أصل اللغة،
ومعنى آخر في اصطلاح الشرع، ومعنى آخر أو أكثر في اصطلاح بعض العلوم
والفنون، ومعنى آخر في العُرف العام، ومعنى آخر في العُرف الخاص ببلد من
البلاد أو طائفة من الطوائف كالكتاب أو الفقهاء مثلاً. وقد قال علماؤنا (لا مشاحة
في الاصطلاح) وهذه الكلمة تجري دائمًا على ألسنتنا وأقلامنا ولكن لا يكاد يعامل
بها أحد منا غيره. فنحن في مشاحات وملاحاة لا تنقضي. وقد يكون غير معذور
ولكن البيان هو الذي يقطع التعلات والأعذار.
من الألفاظ التي من هذا القبيل لفظ (الجهاد) في الإسلام والظاهر لنا أن
بعض النصارى يفهمون أن المراد به اتفاق المسلمين كافة على قتال أو قتل كل من
ليس بمسلم سواء كان محاربًا لهم أم لا ، وهذا المعنى ليس مدلولاً له في اللغة
العربية ولا في عرف القرآن والسنة ولا اصطلاح الفقهاء، وربما سرى فهمهم هذا
إلى بعض المسلمين الذين يجهلون اللغة والشرع ويأخذون المسائل الدينية من
المعاشرين لهم، وإن لم يكونوا من أهل دينهم، وكذا من جرائدهم.
ومنهم من يفهم من الجهاد القتال باسم الدين أو لأجل الدين ويقسمون الحرب
إلى دينية ومدنية ويفرقون بينهما بالتسمية وإطلاق لفظ الجهاد على الحرب الدينية
فقط، ويخصونها بالذم والتشنيع والتنفير. كأنهم الحرب التي يسمونها مدنية من
طرق الكسب والتجارة المحمودة، ويرون أنه لا حرج على من يحارب قومًا
يستضعفهم ليزيل استقلالهم ويجعلهم كالعبيد المسخرين لأبناء جلدته.
نشر أحمد لطفي بك السيد مدير (الجريدة) مقالاً فيها ذكر فيه أن الحركة
الحاضرة بمصر الموجهة لإعانة الدولة العثمانية على حرب إيطالية قد ظهرت
بشكل الجهاد الديني أو الدعوة إلى الجهاد الديني، وأن هذا خطأ ضار بمصر ،
فساء قوله هذا جميع من ذكره أمامي من المسلمين، وسر جميع من ذكره من
النصارى. وما رأيت الكُتَّاب والباحثين في السياسة من هؤلاء حمدوا لمدير هذه
الجريدة غير هذا المقال. وقد اجتمعت في بعض السُّمَّار بطائفة منهم وخضنا في
هذه المسألة وكان مما ذكرته أن الجهاد ليس بالمعنى الذي يفهمونه، ولا أدري أي
معنى قصد به مدير الجريدة ولكنني أجزم بأن اتهام المصريين بالتأليب على
النصارى كافة والدعوة إلى قتالهم باطل، ويمكنني أن أحلف على أنني لا أعرف
أحدًا من المسلمين على هذا الرأي ولا سمعت الدعوة إليه ولا استحسانه بل ولا ذكره
من أحد منهم. ثم ذكرت معنى الجهاد في اللغة والقرآن، وورود ذكره في كتب
النصارى، فاقترح عليَّ بعضهم أن أكتبه وأنشره في المؤيد فقبلت الاقتراح ولم أُتم
ما بدأت بشرحه في السامر.
الجهاد والمجاهدة مصدر جاهد، وهو بناء مشاركة من مادة الجهد أي التعب
والمشقة (ومن هذه المادة الاجتهاد أيضًا) وصيغة المشاركة تُشعر بأن الجهاد عبارة
عن احتمال الجهد والمشقة في مقاومة خصم أو عدو، فلا يدخل في معناه حرب مَن
لا يحارِب وقتل من لا يقاتل إذ لا مشاركة في ذلك.
قال الراغب في مفرداته التي شرح بها غريب القرآن أدق الشرح ما نصه:
(الجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو (تأمل قوله: مدافعة)
والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر ومجاهدة الشيطان ومجاهدة النفس،
وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: 78) ،
{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 41) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنفال: 72) {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنفال: 72) وقال
صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم) المجاهدة تكون
باليد واللسان قال صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم) اهـ
كلام الراغب، ولا أذكر من أخرج هذين الحديثين، ولكن روى الإمام أحمد وأبو
داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(وجاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) وقد ذكر لفظ الجهاد في القرآن
بمعنى المعالجة والمكابدة في مواضع لا تحتمل معنى الحرب كقوله تعالى:
{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي
الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: 15) يعني الوالدين ، وأكثر أحكام الحرب ذُكرت في
القرآن بلفظ القتال؛ لأن لفظ الجهاد ليس نصًّا في معنى الحرب والقتال، ولم تذكر
مادة الحرب فيه إلا قليلاً ولم تسند إلى المسلمين. وكل ما ورد في أحكام القتال في
القرآن كان المراد به مدافعة الأعداء الذين يحاربون المسلمين لأجل دينهم منها ما هو
صريح في ذلك كقوله تعالى في سورة الحج وهو أول ما نزل في القتال:
} أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [ (الحج: 39) وقوله
في سورة التوبة، وهي آخر ما نزل في أحكام القتال:] أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ
وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [ (التوبة: 13) قوله] أَيْمَانَهُمْ [بفتح
الهمزة ومعناه عهودهم، وذلك كما فعلت إيطالية الآن فهي من الدول المعاهدة، وقد
نكثت العهد وبدأتنا بالقتال. ونزل فيما بين هاتين الآيتين آية البقرة
] وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ [ (البقرة: 190) .
وما ليس بصريح مثل هذه الآية يمكن أن يحمل عليه بقرينة الحال فإن النبي
صلى الله عليه وسلم كان مع من حوله في حرب هم المعتدون فيها وكان يعاهد كل
من يقبل معاهدته على ترك الحرب مهما ثقل احتمال الشروط، وما عاهده أحد من
المشركين أو اليهود إلا من عَلِمَ منهم بأنهم أضعف من المسلمين، ثم هم الذين كانوا
ينكثون عندما يشعرون بقدرة، ويصادفون غرة، كما فعلت اليهود غير مرة، وكما
فعلت قريش بعد صلح الحديبية.
ويحمل على ذلك أيضًا ما ورد من النهي عن اتخاذ الكفار أولياء والإلقاء إليهم
بالمودة سواء ورد ذلك في المشركين وأهل الكتاب أو عامًّا كما صرح بذلك في
سورة الممتحنة فقد قال تعالى في أولها:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ
وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [ (الممتحنة: 1) أي يخرجونكم من وطنكم مكة
ويطردونكم منها بسبب أنكم آمنتم بالله ربكم، فهذه علة أولى للنهي عن ولايتهم أي
نصرتهم وعن مودتهم، والعلة الثانية بينها في الآية الثانية فقال:] إِن يَثْقَفُوكُمْ
يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [ (الممتحنة: 2) ثم قال بعد آيات:] لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي
الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا
عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ (الممتحنة:8،7)
فلم يكتفِ بنفي النهي عن موالاة ومودة غير المقاتلين المعتدين، وحصر الوعيد
فيمن يتولاهم، فإن كلمة] إِنَّمَا [للحصر وجملة:] أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [تفيد الحصر
أيضًا.
هذه جملة أحكام القتال في القرآن المتعلقة بمن يقاتلون، وهي في منتهى العدل
والحكمة، وبينا أن لفظ الجهاد فيه ليس مرادفًا للحرب والقتال، ولكن الفقهاء
اصطلحوا على تسمية القتال جهادًا، وهذا اللفظ ألطف وأخف من لفظ القتال ولفظ
الحرب؛ لأن معناه يتحقق ببذل الجهد في مقاومة لا يقتل فيها أحد أحدًا، والقتال
ليس كذلك إذ لا يتحقق معناه إلا بسفك الدم.
كل هذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، وقد زال من دونها كل
سحاب، فمن أين صار لفظ الجهاد الإسلامي هو المخيف الدال على الظلم والبغي
والوحشية وذبح الأبرياء من أهل السلم والولاء؟ أليس هذا من تعصب غير
المسلمين على المسلمين بتشويه محاسن دينهم وتحريف آياته عن مواضعها، وقلب
معانيها وتغيير أوضاعها، أو من الجهل بها على الأقل.
هذا وإن لغير المسلمين مع المسلمين أربع حالات ينقسمون بها إلى أربعة
أقسام:
1-
أهل الذمة: وهؤلاء يساويهم الإسلام بأهله في الحقوق ويوجب حمايتهم
والدفاع عنهم إذا اعتدي عليهم وسد ضروراتهم، فإذا وجد فيهم من لا يقدر على
قوته كفوه أمره، وكذا غير القوت من الضروريات.
2-
أهل عهد وميثاق كجميع الدول الآن بعضها مع بعض ما عدا إيطالية مع
دولتنا، فهؤلاء تجب مسالمتهم والوفاء لهم بعهدهم كما هو، حتى إنه إذا حاربهم
بعض المسلمين غير الداخلين في جماعتنا العامة التي عاهدتهم واستنصرونالا
ننصرهم كما في الصورة التي بيَّنها الله تعالى في أواخر سورة الأنفال بقوله:
] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ
اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَاّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [ (الأنفال: 72) .
3-
أهل أمان وهم الذين يكونون أو يدخلون في بلادنا من المحاربين لنا
بالأمان على أنهم لا يعتدون على أحد ولا يعتدي عليهم أحد، ويسمون المستأمنين،
ويجب الوفاء لهم بالأمان.
4-
أهل حرب أو محاربون وأحكامهم طويلة، وكل ما ثبت منها في الكتاب
والسنة فهو مبني على قواعد العدل والرحمة. ومنه أن لا يقاتل إلا من يباشر القتال
فيمتنع قتال الشيوخ والولدان والنساء ورجال الدين المنقطعين للعبادة.
ومما ورد في ذلك الآية التي أساء في تفسيرها لورد كرومر وكأنه تبع في ذلك
بعض القسوس أو السياسيين الذين يحرفون الكلم عن مواضعه عمدًا، تعصبًا منهم
وبغيًا، وهي قوله تعالى:] فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا
أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ
يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [ (محمد: 4) فهذه الآية من
آيات الرفق والرحمة في الحرب، والمسلمون متفقون على أن المراد بقوله تعالى:
] فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [ (محمد: 4) لقيتموهم في المحاربة، وحاصل معنى
الآية أنكم تقتلون من تقدرون على قتله إلى أن تظهروا عليهم بالإثخان فيهم فعند ذلك
اتركوا القتل، واكتفوا بالأسر، وأنتم مخيرون بعد ذلك بين أن تمُنّوا على الأسرى
بإطلاقهم فضلاً وإحسانًا، وبين أن تأخذوا منهم فداءً. هكذا يكون شأنكم حتى تضع
الحرب أوزارها أي أثقالها أو آثامها. قال:] وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ [ (محمد: 4) فأمركم بجعل القتل على قدر الضرورة، وهو أن تأمنوا شرهم بالظهور
عليهم] لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [ (محمد: 4) أي: ليختبر بعضكم ويجربه
بمعاملة الآخر بما يخالف هواه ويوافق المصلحة، ويتفق مع العدل والرحمة، بجعل
الحرب ضرورة تقدر بقدرها. هذا هو معنى الآية التي يشوهون بها جهاد الإسلام،
وهي شرف يفتخر به بين منصفي الأنام.
إذا محاسني اللاتي أدل بها
…
كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
طال المقال فزاد على ما قدرت له ويمكنني أن أؤلف في هذه المسألة كتاباً
حافلاً يفتخر به كل مسلم، ويخذل به كل متعصب سيئ النية والقصد، وحسبك من
القلادة ما زين النحر.
فإذا كان هذا هو الجهاد والقتال في الإسلام، وكان كل ما خالفه من حروب
ملوك المسلمين خروجًا عن هدي الدين في حروب كلها مدنية لم تقصد بها حماية
دعوة الإسلام إذا تركوا الدعوة بعد عصر السلف، فلماذا تقوم القيامة على المسلمين
كلهم إذا ذكر واحد منهم لفظ الجهاد أو حرفًا مما اشتق منه، ويعد هذا خطرًا على
النصارى أصحاب الدول الحربية القوية التي تحميهم وتنتصر لهم أينما كانوا ولو
بالباطل؟ ولماذا يحرض غير المسلمين بعضهم بعضًا على سلب مُلك المسلمين
والتنكيل بهم، وينفذون ذلك بالفعل، ولا يعدونه إثمًا ولا حرجًا، وإنما ينحصر
الإثم والحرج في الشكوى منه، حتى صار المسلمون أنفسهم يحجر بعضهم على
بعض أمثال هذه الألفاظ، التي لا ضرر فيها ولا ضرار، ولا تدل على جواز ذرة
من الظلم والعدوان؟
لو كان في كتابنا الإلهي من القسوة في أحكام الحرب مثل ما في التوراة التي
في أيدي أهل الكتاب لما كتمناه ولما تبرأنا منه كقوله في سِفر تثنية الاشتراع:
(20: 16 وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تَسْتَبْقِ
منهم نسمة ما) بل يوجد في أناجيلهم من النصوص القاسية ما لا يوجد في القرآن
مثله كرواية لوقا عن المسيح عليه السلام في الفصل التاسع عشر ونصها (أما
أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) ولفظ
الجهاد الممقوت عند القوم ومقلدتهم؛ لأنهم يعدونه إسلاميًّا يوجد أيضًا في كتبهم
كقول مقدسهم: بولس (2 تيم 2: 5 لا ينال أحد الأكاليل إلا ويجاهد جهادًا شرعيًّا)
وقوله (تيم 6: 12 جاهد جهاد الإيمان الحسن، وأمسك بالحياة الأبدية التي
إليها دعيت) يقولون: إن المراد بهذا جهاد النفس والشيطان، ونحن قد قال علماؤنا
مثل هذا في جهاد القرآن كما تقدم، وكان سلفنا يسمون جهاد النفس الجهاد الأكبر،
وجهاد العدو الجهاد الأصغر، وروي هذا عن الصحابة رضي الله عنهم.
إني أختم مقالي هذا بذكر شيء مما يقال فينا، وما يحرض به علينا، وأعيذ
المسلمين منذ وجدوا إلى اليوم وإلى آخر الزمان من مثل ذلك.
جاء في العدد 843 من جريدة (وقت) الروسية التي صدرت في 18 سبتمبر
(أيلول) بالحساب الشرقي ما ترجمته:
جاء في برقية من بودابست أن فمبري المستشرق المشهور كتب مقالة في
جريدة (بودابست هيرلاب) قال فيها: إن حماية الإسلام بعد الآن خطأ لا يفيد فائدة
ما، وهو سيفنى ألبتة ولا يستحق غير الإفناء، المدنية توجب أن تنقرض من
ممالك الإسلام عدوة المدنية. المسلمون قوم لا طبيعة لهم ولا يعرفون كلمة الطبيعة
هم يعبدون ولكن لا يعملون، ولا شيء فيهم من الحياة غير شعورهم الديني،
وليس لهم مسلك (مبدأ) ولا مقصد ، ولا ينبغي أن تهتم جد الاهتمام بدستور تركية
فإن حالها الآن شر مما كانت عليه، واحتمال حياة ثلاثمائة مليون مسلم خيال باطل
لا شائبة للحقيقة فيه اهـ.
وقد تعجبت جريدة وقت من قول فمبري هذا؛ لأنه مشهور بمحبة الترك
والمسلمين وقالت: إنه يجب التأمل فيه، ونحن نقول إذا كان هذا قول من يحبنا
منهم فهل يقول أحد من المتهمين منا بالتعصب وبعض الأغيار مثله أو قريباً منه.
يقولون يجب إعدام هؤلاء الملايين من المسلمين باسم المدنية وفي روسية
ملايين من النصارى هم أبعد عن المدنية من مسلميها ومسلمي العثمانيين فلماذا يجب
لهم البقاء؟ إذا كان مثال المدنية ما فعلته إيطالية فالصلاة والسلام على التوحش
والهمجية.
بل قال بعض أساطين السياسة مثل كلام هذا المستشرق أو أشد، منهم الأستاذ
مكسيليان هاردن صاحب جريدة (زنكفت) النمسوية قال في خطبة له أرسل
ملخصها مكاتب التيمس في فيينا إلى جريدته فنشرت فيها (أنه لا توجد دولة تقدر
أن تساعد الحركة الحاضرة التي تسوق الإسلام إلى الوراء، ثم قال: إن الإسلام
دين خطر وبقاؤه خطر، وإني على رأي أن كل ولاية أخذت من الإسلام فهي غنيمة
للدول الأوروبية) .
هكذا يقولون جهرًا في خطبهم وجرائدهم ولا نزال نغش أنفسنا بقول الذين
يسخرون منا من الإفرنج والمتفرنجين بزعمهم أن هذه الحرب لا علاقة لها بالدين
ولا يقصد بها المسلمون لأجل دينهم.
يقولون المنكر ويفعلونه ويمدحون أنفسهم عليه، ونقول الحق فنلعن عليه
ونهدد. ولا ندري ماذا بقي عندهم من التهديد فنخافه، أولئك عبيد القوة القاهرة،
ولو أنهم أقوياء لما سموا حقنا باطلاً، بل كانوا يسمون ما ربما تدفعنا إليه القوة من
الباطل عين الحق ولباب الفضيلة، والإسلام نفسه هو المظلوم المهضوم بيننا وبينهم،
نحن تركنا هدايته وجنينا عليه، وهم جعلونا حجة عليه، حتى أقنعوا أبناءنا الذين
تولوا تربيتهم المادية الشهوانية وتعليمهم الفاسد في مدارسنا ومدارسهم بأن يلصقوا
ذنوبهم بالإسلام ويصدون عنه على علم أو جهل.
إذا عوقب جناة النصارى أو تعقبت عصاباتهم الثورية في مكدونية قامت
أوروبة لهم وقعدت، وأرغت وأزبدت، وإذا أظهرنا التألم من تدمير مدافعهم لبلادنا
وحصدها لإخواننا، نلعن على تعصبنا، فإلى متى يبغي الأقوياء، وينخدع
الأغبياء، ربنا افصل بيننا بالحق وأنت خير الفاصلين.
…
...
…
...
…
...
…
فى 2 ذي القعدة سنة 1329
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ما يجب من إعانةالدولة العلية بإنجادطرابلس الغرب
(9)
تابع
المسألة الشرقية
سيرت دولة إيطالية أساطيلها كلها وجيشًا عرمرمًا من جنودها المنظمة إلى
طرابلس الغرب، لمحاربتها في البر والبحر، والاستيلاء عليها بالبغي والقهر،
وإلباسها لباس الخوف والجوع، وأهانت الدولة العلية صاحبة ذلك القطر بمساومتها
في بيعها وحملها بالتهديد والوعيد على الإذعان لاحتلال الجيش الإيطالي فيها.
طمعت دولة إيطالية المغرورة في تلك البلاد لإهمال دولتها أمرها، وتقصيرها
في إقامة المعاقل والحصون في برها، ووضع الحامية القوية فيها، وفي بث الألغام
وأنابيب التدمير في بحرها، فانقضت عليها بأساطيلها وجنودها، وصبت عليها
جحيم قهرها، وقطعت عنها موارد الرزق، في عام وباء ومجاعة وقحط، فأصبح
أهل تلك البلاد يحاربون دولةً عاتيةً، باغيةً قاسيةًً، لا ترحم امرأةً ضعيفةً ولا شيخًا
كبيرًا، ولا طفلاً صغيرًا، ويصارعون جوعًا ديقوعًا دهقوعًا، ويصابرون وباءً
مريعًا، فهم أحق خلق الله بعطف الكرماء، ورحمة الرحماء، وإعانة الواجدين،
وإغاثة القادرين.
نعم: إن الدولة العثمانية هي صاحبة هذه البلاد المرزوءة بقسوة الطامعين،
وهي التي يجب عليها إغاثتها وإمدادها قبل كل أحد، ولكن حيل بينها وبين إنجادها
إن أرادته، فلا أسطول قويّ تنجدها به بحرًا، ولا أوربة تمكنها من إنجادها برًّا،
وإذا كانت الدولة عاجزة عن القيام بهذا الواجب انتقل الوجوب إلى من قدر عليه،
وأقدر الناس عليه أهل مصر فصار متحتمًا عليهم بحق الجوامع الست التي تتعاطف
بها الجمعيات البشرية لا بجامعة واحدة منها، وإننا نبين هذه الجوامع الست ونبدأ
بالأعم منها فنقول:
الجامعة الأولى الإنسانية
خلق الناس ليعيشوا بالتعاون فهو معيار ارتقائهم، وميزان مدنيتهم، فكلما عم
كانت المدنية أعم، والارتقاء أشمل، و (خير الناس أنفعهم للناس) كما ورد،
وللتعاون أسباب أعمها التعارف، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن
ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: 13) وأن سهولة طرق
المواصلة وتعدد وسائلها زاد في تعارف الناس وتعاونهم، فلا تقع الآن نكبة كبيرة
في قطر من الأقطار إلا ويسارع أهل الأقطار الأخرى إلى إعانة أهله وتخفيف
مصيبتهم، ومن الشواهد القريبة العهد على ذلك عطف المصريين على الإيطاليين
الذين نكبوا بالزلازل والبراكين في صقلية ومسيني [1] فقد نظمت في ذلك القصائد
العربية المؤثرة، وجمعت الإعانات المالية، وأرسلت إلى الحكومة الإيطالية.
لو حكمنا العقل المجرد من الهوى في أحق الناس أن تبذل لهم المعونة، وتمد
إليهم سواعد المساعدة الذين نكبوا بالجوائح الطبيعية، أم الذين نكبوا بظلم إخوانهم
البشر لهم، وقهرهم إياهم، واعتدائهم على حريتهم واستقلالهم؟ لحكم حكمًا عادلاً
بأن هؤلاء المظلومين أحق بالمعونة، وأجدر بالمساعدة، ولرأينا من أسباب هذا
الحكم (حيثياته) أن مساعدة المظلوم وإعانته على ظالمه أكبر خدمة للإنسانية
وأعظم نفعًا للبشر؛ لأن فائدتها مزدوجة، ونفعها يتعدى من المظلوم إلى الظالم
بكفه عن ظلمه ومؤاخذته عليه، وبذلك يقل الظلم والعدوان بين الناس حتى يكونوا
إخوة في الإنسانية، وفي هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك
ظالمًا أو مظلومًا إن يك ظالمًا فاردده عن ظلمه، وإن يك مظلومًا فانصره)
رواه بهذا اللفظ الدارمي وابن عساكر عن جابر، وفي رواية أحمد والبخاري
والترمذي عن أنس أنه قال (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) فسئل قبل إتمام
الحديث: (كيف أنصره ظالمًا؟ قال: (تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره) .
فبحق هذه الجامعة يجب على كل إنسان يؤثر حب الإنسانية على العصبية
المفرقة والهوى والطمع المفسدين للأخلاق أن يساعد أهل طرابلس ودولتهم، على
كف ظلم إيطالية وبغيها عنهم، أو على تخفيف مصيبتهم على الأقل، ولولا
المطامع، والمبادلة والمعارضة في المنافع، لما أقرت أوروبة هذه الدولة على بغيها
وظلمها، مع اعتراف المنصفين من جميع شعوبها ببغيها وطغيانها، وإنه ليوجد في
كل شعب أوروبي كثيرون من أهل الإنصاف وحب الإنسانية، ولولا أن حكومتها
وجرائدهم تخادعهم لما كانوا يسكتون عن الانتصار لأمثال هؤلاء المظلومين، على
أنه وجد في إنكلترا كثيرون قد عرضوا أنفسهم على السفارة العثمانية للتطوع في
جيشها الذي يحارب إيطالية، ومع هذا نرى فينا من ينكر مثل ذلك منا نحن
المشاركين لأهل طرابلس في الجوامع الست كلها.
الجامعة الثانية الشرقية
الناس كلهم إخوة في الإنسانية والإخوة قد يختلفون على المنافع، ويغلب طمع
القوي منهم على ما تطالبه به الفطرة وعاطفة الأخوة من التسامح والإيثار، بل من
العدل والإنصاف، فيتفرقون ويختصمون، ويستعين بعضهم على بعض، ويقع
الخصام والعدوان بين الجماعات كما يقع بين الأفراد، وهذا هو السبب في تكوين
عصبية الجامعات المختلفة فقد كانت وما زالت الشعوب والقبائل والأمم والدول
تتخالف وتتحالف، وتتنازع وتتصارع، والأصل في هذه العصبيات الاشتراك في
الصفات والمقومات التي تقتضي التآلف ومقاومة المخالف فيها كالنسب والوطن
واللغة والحكومة والدين والعادات والآداب، وكلما كان ما به الاشتراك أكثر، كان
التآلف والتعاطف أعم وأشمل، فالمشتركون في النسب قد يخاصمون الغريب عن
نسبهم من أبناء لغتهم ووطنهم ودينهم، وكذلك أهل الوطن واللغة مع الغريب عنهما
المشارك في غيرهما مثلاً، وعلى هذا المنهج تصغر العصبيات وتكبر.
كثر ما به الاشتراك بين أهل أوروبة، فهم مشتركون في الدين والعادات
العامة، والأحوال الأهلية والاجتماعية، وطرق الكسب، وفنون الحرب، ونظام
الحكومة، وأكثر خواصهم يعرفون من لغاتهم الكبرى ما يتخاطبون بها مع الآخرين
ويقرءون جرائدهم وكتبهم، وينقل بعضهم عن بعض في كل يوم كل أمر ذي بال،
وينشرونه للجمهور في جرائدهم، فيشعر كل شعب منهم مما يشعر به الشعب الآخر
من مؤلم أو ملائم، فهم بهذه الأمور كلها عصبية واحدة على من يخالفهم فيها، وقد
اتحدوا بها على المخالفين فصار العالم كله (أو ما يعبر عنه بالعالم القديم إذا استثنينا
أميركة) عصبتين يعبر عن إحداهما بالغرب، ويراد به أوربة الطامعة، وعن
الأخرى بالشرق، ويراد به آسية وأفريقية المطموع فيهما. وكان الأولى أن يقال:
والشمال مكان الشرق والغرب، ولكن لا مشاحة في الإصطلاح كما يقال.
يرى كثير من الكتاب والمؤرخين أن المراد بالشرق الإسلام وبالغرب
النصرانية ولكن المختبرين من علماء نصارى الشرق الذين عرفوا كنه سياسة
أوربة ورأوا سيرتها في مستعمراتها يعلمون أن أوربة تحتقر جميع الشرقيين ولا
تعد النصارى منهم أهلاً لمساواة الأوربيين في شيء، وأن أية دولة من دولها
تستولي على بلاد شرقية تحتقر جميع أهلها، وتستعلي عليهم بعظمتها الجنسية؛
لأنها ترى أن الأوربي يجب أن يكون سائدًا؛ لأنه أوربي، وأن الشرقي يجب أن
يكون مسودًا؛ لأنه شرقي.
لا يزال الشرق ضعيف التماسك جاهلاً أنه مضطهد من الغرب كله، وأنه
يجب عليه التناصر لدفع سيل الغرب الآتي وعدوانه المخشي، وقد رأينا الخبيرين
بكُنْه هاتين الجامعتين من شبان النصارى الأحرار في مصر وسورية يميلون
كالمسلمين إلى انتصار اليابان الوثنية، على روسية النصرانية، يوم وقعت الحرب
بينهما، فإذا مال هؤلاء الأذكياء إلى ظفر طرابلس الغرب الشرقية المظلومة،
وانتصارها على إيطالية الغربية الظالمة، فذلك أولى، بل لا يكفي أن يميلوا
ويعطفوا، دون أن يساعدوا وينصروا، فالأقربون أولى بالمعروف.
الجامعة العثمانية
أهل الولايات العثمانية البحتة والممتازة والمستقلة في إدارتها مختلفون في
الأجناس والأديان، واللغات والعادات، وليس في استطاعة أهل ولاية منها أن
يكونوا دولة قوية تحمي نفسها من أوروبة إذا صالت عليها بجيشها وأساطيلها،
ومصر في ذلك كغيرها، فإن كانت أغنى وأعلم، فهي أضعف في الحرب وأعجز،
فمن مصلحة الجميع تأييد الجامعة العثمانية، وإصلاح حال الدولة العلية، وهذا
الإصلاح يتوقف على شكل الحكومة الذي يعبرون عنه باللامركزية، وهو ما
ستصير الدولة إليه، ولا بقاء لها بدونه، إذا هي سلمت من كيد أوروبة لها،
وحالت سياسة التنازع دون التعجيل عليها -سلمها الله تعالى وكفاها كيد الكائدين-
وحينئذ تكون الولايات العثمانية كالولايات الجرمانية أو الولايات المتحدة كل منها
داخل في إدارتها الداخلية ومشتركة مع سائر الولايات في السياسة العامة وقوة
الجيش والأسطول إلخ.
فعلى العثمانيين في جميع الولايات من جميع العناصر والملل أن يستمسكوا
بعروة العثمانية ويبذلوا النفس والنفيس في حفظ كيانها، وتأييد سلطانها، والفرصة
الآن سانحة فينبغي اغتنامها، وما ذاك إلا بمساعدة أهل طرابلس العثمانيين على
حفظ أنفسهم وبلادهم وبقائهم عثمانيين مثلنا، متصلين في ظل هذه الجامعة بنا،
وأخص غير المسلمين من العثمانيين بتأييد هذه الجامعة، واغتنام هذه الفرصة
السانحة، فإنهم بذاك يوثقون عُرى الاتحاد بينهم وبين إخوانهم في الوطن والعثمانية
توثيقًا لا تجهل فائدته.
أين العقلاء الأذكياء من نصارى السوريين والقبط ومن اليهود؟ أين الذين
يقولون منهم: إننا نود أن نجعل الرابطة الوطنية أو السياسية أقوى في أمور الدنيا
من الرابطة الدينية، ألا يعلمون أن إيجاد هذه الرابطة وتوثيقها وتقويتها من نتائج
الأعمال، لا من نتائج الأقوال، إن كُتاب المقطم والأهرام في مصر وبعض كُتاب
اليهود في جريدتهم (جون ترك) قد أظهروا ميلهم إلى الدولة وضلعهم على إيطالية
فشكرنا لهم ذلك، ولكن لماذا نطق بعض أرباب الأقلام، وسكت أرباب الأموال، فلم
يسمع لهم صوت بكلمة التبرع لإعانة الحرب يذكر، ولا لمساعدة جمعية الهلال
الأحمر.
قال بعض غلاة التعصب الديني من السوريين: إن النصارى لا يدفعون إعانة
في حرب سماها بعض كتاب المصريين جهادًا دينيًّا مع دولة مسيحية، ولست أرى
هذا عذرًا صحيحًا لمن لم يصل إلى درجة الشيخ يوسف الخازن صاحب جريدة
الأخبار في بغض المسلمين والتعصب عليهم، وإغراء الإفرنج بهم، فإن دفاع أهل
طرابلس الغرب عن أنفسهم يسمى في اللغة العربية وفي اصطلاح الشرع جهادًا
يوجبه الدين. فإذا كنتم لا تساعدون أهل طرابلس في مصابهم إلا إذا غيرنا وضع
اللغة وعرف الشرع فما أنتم بمساعدين؛ لأن هذا التغيير ليس في استطاعة أحد من
العالمين، على أن إعانة جمعية الهلال الأحمر ليست إعانة لمسلمي طرابلس على
مدافعة نصارى إيطالية، بل هي إنقاذ كل من يمكن إنقاذه من الجرحى والمصابين
بنكبات هذه الحرب ولو كان إيطاليا باغيًا، ولكنها باسم العثمانية وتحت هلال علمها
فما بالكم تقبضون أيديكم عنها.
إن نصارى السوريين المقيمين بمصر وأمريكة هم أرقى السوريين علمًا وأدبًا
وأكثرهم فضة وذهبًا، وأوسعهم مروءة وكرمًا، وأشدهم نجدة وشممًا، وإني
لأنتظر منهم البرهان الناصع على تأييد الجامعة العثمانية، وتوثيق الرابطة الوطنية،
بل سمعت هنا حسيس همساتهم، وخفي مناجاتهم، يأتمرون بينهم، ويتحفزون
للمكرمة اللائقة بهم، وكأني بها وقد ظهرت في مصر، وإن ظهورها في أمريكة
لأدل على الفضل والنبل.
جامعة اللغة العربية
الإنسان حيوان ناطق، فالنطق أظهر مقوماته التي بها امتاز على سائر أنواع
الحيوان، وارتقى في مدارج العلم والعرفان، وإن صُحبتك لمن لا تعرف لغته لا
تبعد عن صحبة الحيوان الأعجم، فأنس الإنسانية والاستفادة من مزاياها بالتعاون لا
يتم إلا بالكلام فلهذا كانت اللغة أقوى الروابط بين البشر في المصالح والمنافع
والترقي الصوري والمعنوي.
رابطة اللغة تشبه نعمة الهواء والماء في كونها لا يشعر المرء بقيمتها ومنفعتها
في حال التمتع بها، ولا أقول لك تصور فضلها، بتخيل فقدها، بل أقول لك:
تخيل أنك هبطت بلدًا لا تعرف لغة أهله، وأحاطت بك الحيرة من كل جانب في
كل معاملة تعاملهم بها، ثم ظفرت فيه بمن يعرف لغتك، ماذا يكون قدر سرورك
واغتباطك به وحنينك إليه، واستفادتك منه، ولاسيما إذا كان من أهلها غير دعيٍّ
فيها؟
إن أهل طرابلس الغرب، لهم على أهل البلاد التي تحيط بهم من الشرق
والغرب حق جامعة اللغة التي يبذل الأوربيون الملايين لنشرها في جميع بقاع
الأرض، وما هي هذه اللغة التي يشاركنا فيها أهل طرابلس؟ ومن هم أهلها؟ وما
أشهر صفاتهم؟ تلك اللغة هي اللغة العربية الشريفة، وأهلها هم العرب الكرام الذين
اشتهروا في العالم كله بالسخاء والكرم، حتى صار السخاء العربي والكرم العربي
مما يضرب به المثل، وقد كان من سخاء بعض أجوادنا أن أعطى سيفه لخصمه في
الحرب إذ طلبه منه، واختار تعريض نفسه للقتل، على الإمساك والبخل، ومنا من
قيل فيه بحق:
فلو لم يكن في كفه غير نفسه
…
لجاد بها فليتقِ الله سائله
فهل يليق بأمة هذا شأنها في الجود والسخاء، أن يرى أغنياؤها المدافع تحصد
إخوانهم، وتهدم بنيانهم، والجوع يغتال أطفالهم ونسوانهم، ولا يواسونهم ببعض ما
أنعم الله عليهم من الرزق الواسع، والمال الكثير؟
الجامعة الخامسة جامعة الجوار
للجوار حقوق كحقوق القرابة قضت بها الفطرة البشرية، وأيدتها الشريعة
الإلهية، فمن شأن الجار أن يشعر بكل ما يشعر به جاره ويشاركه فيما يسر منه وما
يسوء، فإذا فرح أطربه صوت غنائه، وإذا حزن أحزنه نشيج بكائه، وإن وقع
الحريق في داره، أصابه شواظ من ناره، وقد أوصى الله بالجار في كتابه، وفي
حديث الصحيحين والسنن (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه
سيورثه) .
ألا وإن جوار الشعوب والبلاد، كجوار البيوت والأفراد، وإننا نرى الدول
الطامعة قد تواطأت على إعطاء الجار القوي حق سلب جاره الضعيف، فكانت
إنكلترة والروسية، هما السالبتين لاستقلال الدولة الإيرانية، وفرنسة وأسبانية هما
السالبتين لاستقلال الحكومة المراكشية.
ألا وإن لطرابلس الغرب حق الجوار على مصر وتونس، ومصر أقدر على
إعانتها من تونس؛ لأنها أوسع ثروة وحرية، ومن مصلحتها السياسية أن لا تستقر
قدم إيطالية الغادرة في أرض جارتها وأختها طرابلس؛ لأن الإيطاليين جيران سوء،
وأصحاب بغي وغدر، فإذا قُدِّر لمصر أن تخرج من سيطرة الإنكليز لا تأمن على
نفسها والإيطاليون في طرابلس من اعتدائهم عليها بمحض البغي والعدوان، ودعوى
أنها أحق بها لمصلحة الجوار.
الجامعة السادسة الجامعة الدينية
الدين هو صاحب السلطان الأعلى على الأرواح، والحاكم المتصرف في
العزائم والإرادات، ورابطته أقوى الروابط وجامعته أعم الجامعات، فالمسلم الهندي
الذي لا تجمعه بالمسلم العثماني جامعة نسب، ولا لغة ولا وطن، ولا منفعة مادية
أو سياسية، يغار عليه ويألم لألمه ويحزن لمصابه، ما لا يغار ويألم المشارك له
فيما عدا الدين من الجامعات، فلا عتب إذًا على المسلم إذا فضَّل أخاه البعيد في
الإسلام على أخيه القريب في الوطن أو اللغة أو الجنسية السياسية، وهو يراه أشد
حبًّا له وحدبًا وعطفًا وحنانًا عليه من هذا الأخ القريب ولكن تفضيل ذاك لا يقتضي
التقصير في حق هذا.
روى أحمد ومسلم في صحيحه عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى
له عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) وفي حديث الصحيحين عن أبي
موسى الأشعري (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) وهذان الحديثان
وأمثالهما تفسير لقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:10)
وقوله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) .
غلب على المسلمين الجهل بدينهم وترك جماهيرهم هدايته، ومزق نسيج
اتحادهم ما كان من اختلافهم في المذاهب: هذا شيعي يعادي سُنيًّا، وهذا أشعري
يعيب حنبليًّا، وهذا جَهمي يكفر وَهَابيًّا، (واحكم على العكس بحكم الطرد) ثم
مزقته أهواء السياسة ونزغات التفرنج، بما أحدثت بينهم في هذه الأزمان، من
التفرق في الأجناس والأوطان، ومع هذا كله نرى بصيصًا من ذلك النور الإلهي لا
يزال يلوح بين أفئدتهم مُشرقًا من أفق الكتاب العزيز والسنة النبوية، عندما تُصَبّ
عليهم المصائب، وتنتابهم النوائب، فبنوره يبصرون، وبحرارته يتعاطفون، فبينا
ترى التركي يحتقر العربي ويحاربه، والآخر تارة يعاتبه وأخرى يواثبه، إذا بهما
بعد هُنيهة متحدان يفدي أحدهما شرف الآخر وحقه بدمه وماله. بالأمس كانت
الدماء تتفجر من سيوف الترك والعرب في اليمن، واليوم نسمع عرب اليمن ونجد
ينادي زيديهم وشافعيهم ووهابيهم الأستانة: إننا مستعدون لبذل أنفسنا في سبيل حفظ
سيادتك على إخواننا عرب طرابلس الغرب.
إن جميع الأمم والملل لتعجب من قوة هذه الرابطة الإسلامية على ما وصل
إليه المسلمون من التقاطع والجهل، وإن أعداء الإسلام دائبون في اتخاذ الوسائل
لنكث فتلها، ونقض غزلها، ولهم من ملاحدة المسلمين أعوان على ذلك ربّوهم على
كراهة هذه الرابطة الشريفة، وأقنعوهم بوجوب استبدال الرابطة الجنسية أو
الوطنية بها، فهم يعملون لأعدائهم ولا يشعرون.
بهذه الرابطة المقدسة نرى المسلمين يبسطون أيديهم لمساعدة إخوانهم في
طرابلس على الدفاع عن أنفسهم، لا يمتنع منهم عن المساعدة إلا العاجز منها لفقره
أو جهله بطريقها، أو منع حكومته له منها، وبهذه الرابطة نعلم الجاهل، وننبه
الغافل، بل لا ينبهنا إلا المصائب، ولا يعلمنا إلا النوائب، فهي التي ستعيد إلى
الجامعة الدينية قوتها، حتى تصدر عنها آثارها اللائقة بها، وما هي إلا العدل
والفضل، والمدنية المطهرة من أدران البغي والغدر، واستباحة الفجور والفسق.
كل جامعة من تلك الجامعات الست كافية لبسط اليد في إعانة أولئك المنكوبين
المظلومين، فكيف إذا اجتمعت كلها وتحققت في مثل مسلمي مصر؟ أفلا يكون
الذي يبخل منهم جانيًاعلى تلك الجامعات كلها: الإنسانية والشرقية والعثمانية
والجوارية واللغوية والإسلامية؟ بلى. فيا أيها المسلمون -وأخص مسلمي مصر
بالذكر- أنتم أهل النجدة، وأجدر الناس بتفريج هذه الشدة، اعلموا أن لله عليكم فيما
أوجبه من زكاة أموالكم سهمًا للمجاهدين في سبيل الله وهي سبيل الحق والعدل.
وأفضل الجهاد الدفاع عن النفس والوطن، ومقاومة البغي والعدوان، وهو ما وجب
على إخوانكم وجيرانكم من أهل طرابلس. فأعينوهم يعنكم الله ويغفر لكم ذنوبكم.
أيها المسلمون إن دينكم يوجب عليكم إغاثة المضطر، ولو كان كافرًا غير
محارب لكم، بل يوجب عليكم إغاثة الحيوانات المضطرة إلى القوت، وكل ما
يقيها الهلاك، وقال نبيكم صلى الله عليه وسلم:(في كل ذات كبد حرى أجر)
رواه أحمد وابن ماجة بسند صحيح، فما بالكم إذا كان المضطر من إخوانكم
وجيرانكم كأهالي طرابلس الغرب، الذين قطعت إيطالية عنهم جميع موارد الرزق،
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
المُفْلِحُونَ} (التغابن: 16) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
هكذا ضبطها العرب أيام استعمارهم لها، ومن ذلك قول شاعرهم فيها: من ذا يمسيني على مسيني ويقولون الآن: مسينا تبعًا للإفرنج.
الكاتب: محمد رشيد رضا
خاتمة المقالات.. شجون ومحاورات
(10)
لكل شيء مادح وقادح، ولكل كلام مقرظ ومنتقد، ولقد رأيت أن أختم هذا
المقال بشكر الراضين عن مقالات المسألة الشرقية، والاعتذار عما اقترحوا،
وتفصيل القول في نقد الناقدين والعفو عما اجترحوا.
رأيت أكثر من عرفت راضين عن هذه المقالات ناقلين أحاديث الرضاء بل
الإطراء عن غيرهم، معتقدين أنها مثلت الحقيقة، وبينت الطريقة، واقترح
بعضهم ترجمتها ونشرها ببعض اللغات الأوروبية، وبعضهم طبعها على حدتها
باللغة العربية، شافهنا بذلك كثيرون، وكاتبنا به قليلون، فنشكر لهم ذلك ونعتذر
عن طبعها على حدتها، ولكننا ننشرها في مجلتنا (المنار) وعن ترجمتها ولكننا
نأذن بالترجمة وطبعها بغير العربية لمن شاء ذلك.
أما الساخطون فهم أعداء الدولة والملة، وأنصار إيطالية الباغية، وأما
المنتقدون فمنهم المخلص في انتقاده، المستقل في رأيه مع احترام رأي غيره،
ومنهم غير ذلك، وقد كانت تظهر أمارات وعبارات السخط من بعض الجرائد
الإفرنجية وجريدة (الأخبار) العربية، وكتب إلينا رئيس جمعية قبطية (بأبي
حنظل ومصر والإسكندرية) كتابًا قال فيه: (خط يراعك كلمة شلت يد كاتبها
الذي يصف قومًا أعزاء كرماء وصفوا بالصلاح والتقوى والإنسانية (لا التوحش
كما تقول) وحب الخير (يعني الإيطاليين) بأنهم متوحشون وإنك تعلم أيها
الفيلسوف الكبير أنه لا يقدر على الحكم على قوم إلا من كان منهم (؟) وإن تكن
إساءة الدخيل الذي أوجدناه من العدم (؟) وفتحنا له صدورنا ورفعنا له اسمًا ومنارًا لا
تحتمل [1] ! ! ثم قال الكاتب: إنه يعفو عن ذنبي هذا الذي أسأت به إلى
المصريين (بزعمه) وأنا دخيل فيهم. هذا ملخص ما كتبه. والعقلاء المنصفون
يعرفون أينا أحق بالعفو عن إساءته إلى الآخر، وقد ظهر بعد أن أشرنا إلى وحشية
الإيطاليين بزمن غير بعيد أن الجرائد في جميع الممالك الأوروبية والأمريكية وافقتنا
على قولنا وأيدته بروايات مراسليها في طرابلس الغرب، وبتصويرها لعدوانهم
الوحشي على النساء والأطفال والشيوخ وتقتيلهم والتمثيل بهم. وإنني قد عفوت
عن ذلك الساخط الساخر الساب الشاتم، بعد أن ظهر أنني على الحق وهو على
الباطل.
وبعد هذا وذاك أذكر جميع ما بلغني من الانتقاد في محاورة مع منتقد وهو من
عدة مصادر وأجيب عنه: قال لي صديق لا أرتاب في إخلاصه: إنك قد اشتهرت في
الاعتدال فيما تكتب وأراك قد بالغت في هذه المقالات - أو قال تطرفت - حتى
شايعت العلم والمؤيد في ذكر الجهاد والحرب الدينية وأنحيت باللائمة على أوربة
كلها، وهذه السياسة ضارة بنا.
فقلت له: إن صورة البغي المنكرة التي فاجأتنا بها إيطالية قد كانت صاخَّةً
أصمت المسامع، وقارعةً صدعت القلوب، وإن ما تضمنته من مخالفة حقوق
الدول وإبطال العهود الضامنة لسلامة دولتنا، وما أجابت به الدول الكبرى حكومتنا
حين راجعتها في ذلك من أنها على الحياد، لا تعارض إيطالية في نسخ القانون الدولي
وإبطال المعاهدات، كل من هذا الجواب، وذلك العدوان الصريح قد دلنا وأشعرنا بأننا
مهددون بزوال دولتنا، وذهاب ما بقي من ملكنا، وبأن القوم قد أنفقوا
على حل المسألة الشرقية حلاًّ سريعًا حالاً إذا لم يروا فينا من الحياة ولوازمها ما
يقتضي التلبث في ذلك والرجوع عنه، فقل لي بحقك ماذا يخاف الذي أنذر بزواله
من الوجود إذا هو دافع عن نفسه بكل ما يستطيع؟ أليس كل ما دون الزوال أسهل
منه؟ ألم يصدق علينا في هذه الحال، قول شاعرنا الذي سار مسير الأمثال (أنا
الغريق فما خوفي من البلل) ؟ بلى إنني بتأثير هذه القارعة التي ظهر أن أوربة متفقة
عليها أردت أن أبين لأوربة نفسها ولجميع العثمانيين والمسلمين أننا نعتقد أن أوربة
كلها تكون خصمًا لنا إذا ساعدت إيطالية علينا، ومكنتها من كل ما تريده من البغي
والعدوان على بلادنا.
كتبت هذا معتقدًا أن تذكير المسلمين في جميع بقاع الأرض بما أوجبه الإسلام
في مثل هذه الحال، وظهور أثر هذا التذكير فيهم - هو أرجى ما ترجو من أسباب
حذر أوروبة من مساعدة إيطالية على كل ما تريد من بغيها، واستمالة الدول الذي
بهما إرضاء المسلمين وحسن اعتقادهم فيها، وأولاهن بذلك إنكلترة ثم فرنسة
وروسية المتفقتان معها في السياسة والمصلحة، وكل واحدة من هذه الدول الثلاث
مستولية على عشرات الملايين من المسلمين. وقد صرحت بمقصدي هذا في
المقالات الأولى، ولم أقطع الأمل من مساعدة كل الدول.
قال صديقي المنتقد: إن المسلمين الرازحين تحت سيطرة هذه الدول كلهم
ضعفاء بالجهل والتفرق، فالدول إذا أرادت إنفاذ هذا الأمر (حل المسألة الشرقية)
لا تبالي رضاهم ولا سخطهم، إذ لا يستطيعون أن يعملوا شيئًا، قلت: إني لا أرى
هذا الرأي بل إنها تبالي وتهتم أشد الاهتمام برضاهم، وتحسب ألف حساب
لسخطهم، إذا كان سببه اعتقادهم أنها تريد إزالة دولة الخلافة وإبطال حكم الإسلام
من الأرض.
إن رأيك هذا يشبه رأي لطفي بك السيد مدير (الجريدة) إذ قال: إن إظهار
مسلمي مصر لعواطف الميل إلى الدولة العلية وإعانة أهل طرابلس على حرب
عدوهم ينافي مصلحة مصر، فهو من ترجيح سياسة العواطف على سياسة المنافع،
التي تتبعها كل العقلاء من أمم المدنية ودولها، وأنا أرى أن العواطف والمنافع متفقة
في هذه الحال فإذا جرى جميع المسلمين على ما طالب لطفي بك به المصريين،
وعلمت دول أوروبة أن تقسيم بلاد الدولة العثمانية بينهن لا يهيج لمسلم عاطفة، بل
يرى كل شعب منهم أن رضاه بزوال هذه الدولة عين المنفعة له والمصلحة، فإنها
لا تتلبث بقسمة هذه البلاد إلا ريثما تتفق على توزيع الحصص، وليت شعري ما
هي المنفعة التي تنالها مصر من هذا التقسيم، وخرت سقوفها على أهلها، وأتاهم
العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وعن أيمانهم وشمائلهم.
قال المنتقد: أما ينبغي أن نخاف أن تشدد أوروبة وطأتها على المسلمين، إذا
هم أظهروا العطف على الدولة بباعث الدين؟ قلت: إنني لا أرى هذا الخوف في
محله، ولو فعلت أوروبة ذلك لكان أنفع للمسلمين، فإنه لا شيء يربي الأمم ويجمع
كلمتها مثل الضغط عليها في وقت تهيج شعورها، ومصادرتها فيما يتعلق باعتقادها،
على أن كل بلاء يمكن أن يحل بالمسلمين في مثل هذه الحال يجب أن يحتمل في
سبيل الدفاع عن كيان الدولة كما فهمت من جوابي السابق - الخوف من الذل مجلبة
للذل، وإنما السلامة في الشجاعة لا في الجبن، ولكن.
يرى الجبناء أن الجبن حزم
…
وتلك خديعة الطبع اللئيم
وأقول الآن إن ما جرينا عليه، ووجهنا النفوس إليه، من كون عدوان إيطالية
يعد طرقًا لباب المسالة الشرقية، قد ذكر بعد ذلك في كثير من الصحف الشرقية
والغربية. وإن ما ارتأيناه من تحريك شعور المسلمين لاتقاء الخطر به قد وافقنا فيه
العارفون بالسياسة من المسلمين المقيمين الآن في عواصم أوربة ومسلمي الهند
وتونس وغيرهم، وأشهر هؤلاء القاضي أمير علي الشهير. وكان من مسلمي
الهند ورأس الرجاء الصالح أن عقدوا الاجتماعات الكثيرة لإظهار استيائهم
وتألمهم لحكومتهم ومطالبتها بالسعي إلى منع هذه الحرب الجائرة ومساعدة الدولة
العلية.
وكان من تأثير ذلك أن إنكلترة لم تضغط على مسلمي مصر، وفرنسة لم
تضغط على مسلمي تونس والجزائر، ولم تمنعهم هذه ولا تلك من جمع الإعانات
لإخوانهم مسلمي طرابلس حتى إن جرائد إيطالية قد رفعت عقيرتها بالشكوى من
هاتين الدولتين وطالبتهما بالتشدد في منع إنجاد طرابلس وبنغازي من تونس
ومصر [1] .
بل كان من تأثير ذلك ما هو أعظم مما ذكرنا وهو ظهور مبادئ الاتفاق بين
دولتنا وإنكلترة بإرسال سلطاننا أكبر أنجاله ضياء الدين أفندي لتحية ملك وملكة
الإنكليز في سفينتهما التي تحملهما إلى الهند عند وصولهما إلى ثغر بورسعيد
ذاهبين على الهند بقصد الاحتفال في عاصمتها القديمة دهلي بنصب الملك
إمبراطورًا على الهند. وكان لقاء وفد نجل سلطاننا لملك الإنكليز مع أميرنا خديو
مصر بالغًا منتهى الوداد اللائق بالزائر والمزور وجواب الملك عن كتاب السلطان
وخطبته في مقابلة خطبة نجله، وإهداؤه الوسام الخاص بأسرة الملك إلى هذا النجل
السعيد بعد الزيارة - كل ذلك قد بشرنا بقرب تحقق ما أشرنا به من استمالة دول
الاتفاق الثلاثي إلينا وفي مقدمتهم إنكلترة [2] وهذا ما صرحنا به في أوائل هذه
المقالات منذ شهرين كاملين.
وجملة القول أننا رأينا العدوان من إيطالية إحدى دعائم التحالف الثلاثي،
ورأينا دول التواد الثلاثي قد سكتن لها، ولم يجبن نداءنا وطلبنا المحافظة على
القوانين والمعاهدات الدولية، فصحنا من شدة الألم أن أوروبة كلها متفقة علينا،
واستصرخنا الشعور الإسلامي وذكرناه بالخطر على ما بقي للإسلام من السلطة،
لنستعين بذلك على استمالة إنكلترة ووديدتيها إلى مساعدتنا، ودفع الخطر الأكبر عنا،
ولما قيل لنا: إن الدول حصرت الحرب في طرابلس الغرب ورأينا مبادئ الرجاء
في إنكلترة وغيرها تومض أمامنا، سكتنا عن الشكوى من أوروبة كلها، ولم نشرح
ما كنا عزمنا على شرحه.
قال المنتقد: إنك صبغت المسألة الشرقية بصبغة الدين فجعلتها
كالحروب الصليبية كما تقول جريدة العلم المتطرفة المغالية وهي مسألة سياسية كان
ينبغي أن تستصرخ فيها العثمانيين خاصة، فاتفاق المعتدلين بتلك مع المتطرفين على
صبغ هذه الحرب بصبغة الدين قد أخاف نصارى بلادنا أن يتضمن ذلك التحريض
عليهم والإيقاع بهم، فيجب الإقلاع عن تسمية هذه الحرب بالجهاد
وجعلها دينية فإنها ليست إلا سياسية.
قلت: إنني قلما أقرأ جريدة العلم وقلما أراها فأنا لا أدري ما هو حكمها في
هذه المسألة وأرى أننا إذا جعلنا حربنا لإيطالية دينية فذلك خير لإيطالية ولجميع
البشر لا لنصارى بلادنا فقط، وليت إيطالية نفسها تتبع أحكام الإسلام في الجهاد
فإن القاعدة الأساسية عندنا في ذلك هي قوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) فلا يجوز لنا أن
نقاتل غير المعتدي علينا.
والمعتدي هو المحارب لا جميع أهل جنسه فلا يجوز لنا أن نقاتل من
الإيطاليين أنفسهم من لا يقاتلون كالرهبان والنساء والشيوخ والولدان. وإيطالية لا
تبقي على أحد من هؤلاء ولا تذر إلا من تعجز عن الوصول إليه، وأما الحرب
الدينية والجهاد الذي معناه أن يقاتل إنسان كل من يخالفه في الدين وإن كان ذميًّا أو
معاهدًا أو مستأمنًا فهذا معنى بثته أوروبة في الشرق بحروبها الصليبية ولم يقل أحد
من المسلمين به، ولو تجردنا من أحكام الدين لاستبحنا في هذه الحرب كل ما نقدر
عليه من إيذاء خصمنا والإسلام لا يبيح لنا كل ذلك.
قال المنتقد: إن النصارى لا يفهمون الجهاد الديني في الإسلام بمعناه الشرعي
الذي تعنيه بل يفهمون عنه ما هو مشهور عندهم وكثير من عوام المسلمين يفهمون
منه مثل فهمهم فيجب أن لا يذكر الدين والإسلام في الكلام عن هذه الحرب لأجل
ذلك.
قلت: إنني بينت حكم الإسلام وأنه لا يجيز لنا أن نقاتل في هذه الحرب غير
العسكر الإيطالي وسأزيد ذلك بيانًا في مقالة خاصة (وكان هذا قبل كتابة مقالة
الجهاد في الإسلام في الشهر الماضي) ومهما قال المسلم منا فهو لا يمكن أن
يرضي بعض المتعصبين منهم، الذين يحسبون كل صيحة عليهم، أو يدَّعون ذلك
لتحريض أوروبة علينا كصاحب جريدة (الأخبار) ، ولو شئت لنقلت من كلام
نصارى الشرق والغرب ما صرحوا به من كون المسألة الشرقية مسألة دينية كقول
أمين شميل (شقيق صديقنا الدكتور شميل) في كتابه الوافي: إن هذه المسألة ولدت
بولادة نبي الإسلام، وترعرعت من ابتداء ترعرع ملك خلفائه إلى الآن. وعندي
نُقول كثيرة عن الأوروبيين في ذلك لا أحب الآن أن أنشرها، ونسأل الله أن يكفينا
شرها.
لا يسع أحدًا أن ينكر أن المراد من هذه المسألة أن لا يبقى للمسلمين ملك على
وجه الأرض، فإذا فرضنا أن هذا لا يضر الإسلام في عباداته، فهل يقول عاقل
مسلم أو غير مسلم: إنه لا يبطل سلطته وأحكامه القضائية والسياسية؟ كلا إن هذا
هو الذي نعنيه بكون المسألة الشرقية عداوة للإسلام وأهله، فحسب أوربة ما
سلبت من ملكه، ونقصت من أرضه، ولتترك لنا هذه البقية القليلة، فإن أبت إلا
الاعتداء عليها، وجب أن نبين لها أننا عارفون مستيقظون، وأن لا تلومنا هي على
ما نفعل للمحافظة على هذا الذماء، فهل يصح أن نلوم نحن أنفسنا، ونتخاذل في
المحافظة على رمقنا؟
ولا يمنعنا السعي لذلك أن نستصرخ سائر الشعوب الشرقية ونتعاون معها سرًّا
أو جهرًا على هذا الدفاع الشريف، فكلما اعتُدي على قطر إسلامي تحرك شعور
المسلمين باسم الإسلام، وتحرك شعور غيرهم من الشرقيين باسم الشرق، ونحب
أن تكفينا أوروبة مؤنة ذلك بمنع بعضها بعضاً عن الإجهاز على الدولة العثمانية
والدولة الإيرانية، وإطلاق حرية الدين والعلم والاجتماع في البلاد الإسلامية التي
أدخلتها في حمايتها كمراكش وتونس وزنجبار وفي البلاد التي ضمتها إلى
مستعمراتها كالجزائر وجاوه.
إننا الآن بين الخوف من أوروبة والرجاء فيها، والرجاء في إنكلترة أقوى كما
بينت ذلك في المقالات السابقة، ومن أسباب قوة الرجاء فيها ما ظهر من التواد بين
المسلمين والوثنيين في الهند منذ ظهر عدوان إيطالية بعد اشتداد العداوة بينهم في
السنين الأخيرة لمخالفة المسلمين الهندوس فيما يقاومون به الحكومة الإنكليزية وإنني
أورد في هذا المقام جملة من كتاب خاص كتبه إليّ سائح من حيدرآباد الدكن بعد ما
ساح في كثير من تلك الممالك. قال: (أفيدكم أن الهند كلها بقضها وقضيضها،
مسلميها على اختلاف نحلهم، وكفارها على تشعب مللهم، لا أستثني غير
الأوروبيين وميتي الشعور من همج الهمج وأشباههم، قد تغيظوا وتحمسوا أشد
الغيظ والتحمس لما صار من إيطالية في الترك، وقد عقدت المؤتمرات العديدة
وأرسلت الاحتجاجات ولا حديث للقوم إلا في هذه المسألة، وهم لا يفهمون منها إلا
أنها عداء من أوروبة لآسيا، وظلم من القوي للضعيف، ودرس في التعصب
يجب على الشرقي حفظه في سويداء قلبه لا خلاف في ذلك بين مسلم وبين برهمي أو
مجوسي أو وثني، حتى لقد أنسى القوم ما بينهم من الإحن والحزازات.
وتتجلى هذه المظاهر بأتم وضوح في البلاد التي تحكمها الإنكليز مباشرةً،
وهي أقل ظهورًا فيما تحكمه مهراجات الهندوس، وهي أقل في الممالك المحكومة
بأمراء (نواب) مسلمين، ولعل السبب في هذا هو خوف هؤلاء من غول التعصب
الذي يقذفهم به الأجانب عند كل صغيرة وكبيرة.
ولو كان المنار صحيفة إخبارية لأطلت النفس وشرحت له الأخبار. ثم إن ما
صار وظهر في جميع أقطار الهند من هذه الحركة المباركة لما أفزع رجال الإنكليز
وحسبوا له ألف حساب، وإذا لم ترضهم الإنكليز بأفعالها -؛ لأن دور الإرضاء
بالأقوال قد ذهب - لتندمن حيث لا ينفع الندم، وستكون بعملها إذ ذاك جامعة لكفار
الهند ومسلميها، وفي ذلك من الضرر عليها ما تعرفه هي أكثر من غيرها ولا
يرضاه لها محبوها ومحبو الإنسانية، سيما مع قرب موعد الدربار (الاحتفال
بإلباس الملك تاج إمبراطورية الهند، وفي العبارة ما يدل على ميل الكاتب على
إنكلترة) .
نعم إن رجال ساستها يزعمون أن اتفاق المسلمين مع الهندوس مضر
بالمسلمين؛ لأنهم الآن نحو مائة مليون نفس فقط (أي بحسب إحصاء هذا العام
الذي لما يعلن رسميًّا) مع أن الهندوس أكثر من ضِعفيهم، ولكن هل درى سادتنا
الساسة أن المسلمين قد حكموا الهندوس في وقت لم يكونوا فيه إلا نحو خمسة في
المائة؟ ثم زاد الآن عدد المسلمين مع مغلوبيتهم كما تضاعف عددهم بالصين كذلك،
فلهذا لا يعلّق المسلمون كبير أهمية على نحو هذا، وإنهم لكما كانوا شجاعة وشدة،
وأكثر مما كانوا علمًا وحبًّا للإسلام واستماتة في نصره (وما راءٍ كمن سمع) .
إن أهل الهند لم يروا من آثار الترك سوى الطرابيش المجلوبة من النمسا ولو
كان للترك في الهند مدارس عالية كما لأكثر الدول في سائر القارات لكان نفوذ
الدولة هناك مما ترجف له أعصاب أعدائها، وإني أنصح للدولة بأن لا تبقي جهدًا
في فتح مدارس دينية علمية في جميع الأقطار التي خضعت لنير الأجنبي وبها
مسلمون وإن ضعفت ماليتها وكلفها هذا الاقتراح ما كلفها، فلابد دون الشهد من إبر
النحل) اهـ.
هذا ما كتبه إلينا السائح الذكي الذي نعلم من سياسته الميل إلى اتفاق مسلمي
الهند مع حكومتهم دون الاتفاق مع أهل وطنهم عليها، ولكنه مسلم قبل كل شيء
ولو كره المتفرنجون المفتونون بالجنسية، أما اقتراحه على الدولة فما هو بالذي
يسمع ولا الدولة بقادرة عليه لا لقلة المال، بل لعدم الرجال، وأقرب منه أن تنشئ
الدولة هذه المدارس العالية في الحرمين الشريفين أو تسمح للقادرين على إنشائها من
المسلمين بذلك من أموالهم، ويكون لها الغنم، وعليهم الجهد والغرم.
(النتيجة العامة) إن مقالاتنا في المسألة الشرقية لم نقصد بها إلا ما ذكرنا
من دفع الخطر عن دولتنا وأمتنا، وقد دعونا فيها غير المسلمين من أهل مملكتنا
لمشاركتنا في هذا الدفاع عن الدولة من حيث الجامعة العثمانية، كما دعونا فيها
المسلمين إلى مشاركتنا من حيث الجامعة الإسلامية، والشرقيين إلى مساعدتنا من
حيث الجامعة الشرقية، وإن غير المسلمين من العثمانيين لم يكونوا أشد غيرة وحدبًا
علينا من وثنيي الهند، ومع هذا كله لا ندعو إلا إلى تقوية الرابطة بهم، وحفظ
الحقوق الوطنية بيننا وبينهم، ونحن مع من يساعدنا من الأوربيين، ولا ينكر علينا
أحد أننا نشكر للمحسن إحسانه، ونعرف لصاحب الجميل جميله ولا ننكره، بدليل
توددنا إلى إنكلترة مع جفوتها لنا زمنًا طويلاً، ونجعل ذنب هذه الجفوة على سلطاننا
السابق بتودده إلى خصيمتها ألمانيا. فهذه هي سياستنا فمن أنكر علينا منها شيئًا
فليبده لنجيب عنه بالإنصاف وقواعد العقل، والسلام على من اتبع الهدى، ورجح
العقل على الهوى.
…
...
…
...
…
...
…
20 ذي الحجة سنة 1329
(المنار)
بعد أن نشرنا هذه المقالة في المؤيد تذكرنا أن جريدة معروفة بالتعصب على
المسلمين حتى لإيطالية في عدوانها وبغيها قد أنكرت علينا كلمتين من تلك المقالات،
ولما كنا نتحرى الأدب والحق في كلامنا وأن لا يوجد فيه ما ينكره الخصم وإن
نظر إليه بعين السخط كتبنا الاستدراك الآتى:
استدراك في الانتقاد على مقالات المسألة الشرقية
إنني أتحامى بطبعي وسجيتي كل ما تأباه مصلحة الارتباط بيننا وبين أهل
الملل التي تشاركنا في وطننا، وكل ما لا يرضاه الذوق والأدب في التعبير عن
الحقائق التي أعتقدها، وإن من القوم من ينظر في كلام كل كاتب مسلم بعين السخط
من وراء نظارة مكبرة، ولم يصل إليَّ من الانتقاد على هذه المقالات الطويلة إلا
إنكار بعض هؤلاء الذين يجعلون الحبة قبة ، عبارتين اثنتين أذكرهما وأجيب عنهما.
إحداهما: نقلي لقول الفقهاء الذي أتوقع أن يبلغه شيوخ السنوسية للناس
حيث الحرب تشتعل نيرانها، وهو أن الكفار إذا دخلوا دار الإسلام فاتحين وجب
على كل مسلم فيها مدافعتهم.
قال الساخط: إنني عبرت عن الإيطاليين بالكفار وهم أهل كتاب وعدّ هذا
إهانة لجميع المشاركين لهم في دينهم.
وإنني أجيب عن هذا: بأنني نشرت في الأعداد الأولى من السنة الأولى
للمنار نبذًا متسلسلة في بيان اصطلاحات كتاب العصر بينت في الأولى منها وهي
في العدد الأول أن لفظ الكفر قد أطلق في الشرع على ما يقابل الإيمان والإسلام ولم
يرد بهذا الإطلاق الإهانة ولا السب والشتم؛ لأن اللفظ لا يدل في اللغة على شيء
قبيح ولا معيب فإن معناه العام هو الستر والتغطية، ولذلك سمي الليل كافرًا والبحر
كافرًا، وأطلق في القرآن الكريم لفظ الكفار على الزراع؛ لأنهم يكفرون الحَبّ
بالتراب أي يسترونه، وذلك قوله تعالى {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ} (الحديد: 20) ثم بينت بعد ذلك أن هذا اللفظ صار في عرف أهل هذا العصر
مرادفًا للإلحاد والتعطيل وصار يعد من ألفاظ السب والإهانة، وأفتيت بحرمة
إطلاقه في التخاطب على من حرم الإسلام إيذاءهم كالذميين والمعاهدين، ونقلت
مثل هذا الإفتاء عن بعض الفقهاء. ولكن هذا لا يمنعنا من ذكر الاصطلاحات
الشرعية في كتبها وعند البحث فيها كما هي، ومن هذا الباب العبارة الفقهية التي
انتقدها الساخط هنا، على أن الحربيين كالإيطاليين لا يجب علينا مجاملتهم في
الخطاب والتعبير عنهم ولا تجنب إيذائهم كما يجب مثل هذا في خطاب الذميين
والمعاهدين.
يشبه هذا الانتقاد إن كان عن جهل بالاصطلاح ما رأيته في بعض جرائد
السوريين في أمريكة من إنكار ذكر الجرائد التركية لفظ الملة والأمور الملية ظنًا من
المنتقد أنهم يعنون بالملة الدين وإنما يعنون به الأمة، وما رأيته في بعضها من
استنكار عزل شيخ الإسلام لبعض النواب ظنًا من الكاتب أن المراد بهم المبعوثون.
والعبارة الثانية هي ذكر البغايا مع الخمارين والمقامرين والتجار والقسوس
ووكلاء الدول في سياق ما أصابنا من ضرر هذه الأصناف في أموالنا وآدابنا
وسياستنا وديننا.
وإنني ترويت في كتابة تلك العبارة خشية أن يكون فيها سوء أدب، وبعد
التروي رأيت مثل هذا في أبلغ الكلام وأنزهه، رأيت ذكر اسم الجلالة الكريم، في
الآيات التي فيها ذكر الشيطان اللعين، وذكر الطيبين والطيبات، مع الخبيثين
والخبيثات، معطوفًا بعضهم على بعض، وقال الشاعر:
ثلاثة تشقى بها الدار
…
العرس والمأتم والزار
فذكر أولئك الأصناف من قبيل الأشياء المذكورة في البيت، أي أن كل صنف
منها آذانا نوعًا من الإيذاء وإن كان لكل منها مقام في نفسه ليس للآخر، كما أن
العرس ضد المأتم، وإنما ذُكرا معًا؛ لأن في كل منهما ضررًا ماليًّا لما اعتيد فيهما
من الإسراف، وفي الزار أيضًا ضرر مالي وهو مع ذلك معيب مذموم عند أهل
الدين والعقل. فهل يقول أحد: إن الشاعر جعل هذه الثلاثة في مرتبة واحدة من كل
وجه؟ ؟
كلا، إن الذي انتقد تلك العبارة وعابها هو معروف بسوء القصد وتتبع
العثرات واستقراء الزلات في أقوال المسلمين المشهورين وأفعالهم، وهو معهم من
الذين قال فيهم الشاعر:
إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا
…
شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا
فهو لما لم يجد في مقالات المسألة الشرقية كلمة يستدل بها على ما يرمي به
كل كاتب مسلم يغار على ملته من التعصب وتحقير النصارى والإغراء بهم زعم
أنني أهنتهم بإهانة إيطالية لأنني قلت: إن السنوسية سيقولون للناس: إن دفاع
الكفار وصدهم عن المسلمين إذا دخلوا بلادهم مقاتلين فرض عين، ولأنني ذكرت
وكلاء الدول والقسوس في سياق ذكرت فيه أصحاب الحانات والقمار! ! ولو لم
ينخدع بكلامه بعض القوم ويشر إليه بعض دعاة النصرانية في مقالة له رماني فيها
بالخروج عن الأدب معهم في بعض العبارات، لما كتبت هذه الكلمات في بيان أن
تلك العبارة ليس فيها شيء من سوء الأدب؛ لأن مثلها معهود في أفصح الكلام العربي
وأنزهه. وهب أن فيها شيئًا من ذلك فأنا بريء من القصد إليه وتعمده
لأنني أكرم نفسي وأربأ بها أن تأتي ذلك.
_________
(1)
المنار: لم يشترك القبط في المنار ولم يساعد أحد منهم صاحبه في شيء ولم يسمع من أحد منهم كلمة خير فيه إلا شتم جرائدهم له وهو لم يذكر أحدًا منهم بسوء، فكيف لا يخجل قائلهم من مثل ما قال وهو ما لا يقوله صادق من المسلمين؟ .
(2)
بعد كتابة هذه المقالة شددت الحكومة المصرية بإيعاز الإنكليز في المحافظة على حدود مصر من الشرق والغرب؛ لئلا يتسرب شيء إلى بنغازي مما يسمونه مهربات الحرب، حتى ضايقت التجار والمسافرين، ثم إنها عادت إلى اللين.
(3)
لما يتحقق ذلك ولن يتحقق ما دامت جمعية الاتحاد تتصرف بالدولة.
الكاتب: شبلي النعماني
نقد تاريخ التمدن الإسلامي
الشيخ شبلي النعمانى
(1)
تمهيد للمنار
تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي أفندي زيدان صاحب الهلال مشهور، وقد
سبق لنا تقريظه في المنار ونقد بعض مباحثه، وذكرنا أننا كنا نود لو نجد سعة من
الوقت لمطالعته كله ونقده نقدًا تفصيليًّا. ولما عرضه مؤلفه على نظارة المعارف
المصرية وطلب منها أن تقرره للتدريس في مدارسها عهدت النظارة إلى بعض
أساتذتها بمطالعته وإبداء رأيهم فيه، فلما طالعوه بينوا للنظارة أن فيه غلطًا كثيرًا
وأنه غير جدير بأن يعتمد عليه في التدريس ولا المطالعة، فلأجل هذا لم تقرره
النظارة. وكنت انتقدت الأساتذة الذين طالعوا الكتاب وانتقدوه أنهم لما يكتبوا ما
رأوه فيه من الغلط وبينوه للناس وللمصنف أيضًا لعله يرجع إلى الصواب إذا ظهر
له، فإنه يدعو الكتاب دائمًا على نقد كتبه.
نعم إن بعض من قرأه قد انتقده بمقالات نشرت في جريدة المؤيد وأجاب
المصنف عن بعض ما انتقد عليه واعترف ببعض، وقد ذكرت هذا في المنار.
ويرى بعض الناقدين لهذا التاريخ قولاً وكتابة أن مؤلفه يتعمد التحامل على العرب
وعلى الإسلام نفسه، وكنت إذا سمعت ذلك منهم أعارضهم وأرجح أنه غير متعمد،
وأن السبب في أكثر ما أخطأ به هو عدم فهم بعض المسائل كتفسيره لمسألة القول
بخلق ألفاظ القرآن بأن القرآن غير منزل من عند الله وكخطئه فيما ذكره عن ثروة
المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك مما انتقدناه عليه في المنار،
وإما جعل بعض الوقائع الجزئية قواعد كلية عامة، وهذا معهود في جميع مؤلفاته،
ولكن ظهر لنا مما كتبه بعد ذلك ومن بعض حديثه معنا ومع غيرنا من أصحابه أنه
يكاد يكون من الشعوبية الذين يتحاملون على العرب ويفضلون العجم عليهم وكان
هذا سبب ترجمة هذا الكتاب بالتركية.
وقد انبرى في هذه الأيام الشيخ شبلي النعماني العلامة المصلح الشهير مؤسس
جمعية ندوة العلماء في الهند ومحرر مجلتها إلى الرد على هذا التاريخ، وكتب إلينا
أنه يريد أن يرسل إلينا ما يكتبه ويطبعه من هذا الرد بالتدريج لننشره في المنار،
كلما طبع منه شيئًا في (لكنؤ) أرسله إلى أن يتم، ولما كان الانتقاد من مثل هذا
العالم المؤرخ هو ضالتنا وضالة صديقنا وصديقه المؤلف، بادرنا إلى نشره
معتذرين عما في أوله من شدة الحكم، وودنا لو لم يصرح به وإن أثبته، ولولا أنه
طبعه لحذفناه منه. قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه
أجمعين إن الدهر دار العجائب. ومن إحدى عجائبه أن رجلاً من رجال العصر [1]
يؤلف في تاريخ تمدن الإسلام كتابًا يرتكب فيه تحريف الكلم وتمويه الباطل، وقلب
الحكاية، والخيانة في النقل، وتعمد الكذب ما يفوق الحد، ويتجاوز النهاية، وينشر
هذا الكتاب في مصر وهي غرة البلاد، وقبة الإسلام، ومغرس العلوم، ثم يزداد
انتشارًا في العرب والعجم، ومع هذا كله لا يتفطن أحد لدسائسه [2] {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ
عُجَابٌ} (ص: 5) .
لم يكن المرء ليجترئ على مثل هذه الفظيعة في مبتدأ الأمر ولكن تدرج إلى
ذلك شيئًا فشيئًا، فإنه أصدر الجزء الثاني من الكتاب وذكر فيه مثالب العرب دسيسة
يتطلع بها على إحساس الأمة وعواطفها، ولما لم يتنبه لذلك أحد، ولم ينبض لأحد
عرق، ووجد الجو صافيًا، أرخى العنان، وتمادى في الغي، وأسرف في النكاية،
في العرب عمومًا وخلفاء بني أمية خصوصًا.
وكان يمنعني عن النهوض إلى كشف دسائسه اشتغالي بأمر ندوة العلماء ،
ولكن لما عم البلاء، واتسع الخرق، وتفاقم الشر، لم أطق الصبر، فاختلست من
أوقاتي أيامًا وتصديت للكشف عن عوار هذا التأليف والإبانة عما فيه من أنواع
الإفك والزور وأصناف التحريف والتدليس.
معذرة إلى المؤلف
إني أيها الفاضل المؤلف غير جاحد لمننك فإنك قد نوهت باسمي في تأليفك
هذا وجعلتني موضع الثقة منك، واستشهدت بأقوالي ونصوصي، ووصفتني بكوني
من أشهر علماء الهند، مع أنى أقلهم بضاعة، وأقصرهم باعًا، وأخملهم ذكرًا،
ولكن مع كل ذلك هل كنت أرضى أن تمدحني وتهجو العرب غرضًا لسهامك ودريّة
لرمحك، ترميهم بكل معيبة وشين، وتعزو إليهم كل دنية وشر، حتى تقطعهم إربًا
إربًا، وتمزقهم كل ممزق، وهل كنت أرضى بأن تجعل بني أمية لكونهم عربًا
بحتًا من أشر خلق الله وأسوئهم، يفتكون بالناس، ويسومونهم سوء العذاب،
ويهلكون الحرث والنسل، ويقتلون الذرية وينهبون الأموال، وينتهكون الحرمات،
ويهدمون الكعبة ويستخفون بالقرآن.
وهل كنت أرضى بأن تنسب حريق خزانة الإسكندرية إلى عمر بن الخطاب،
الذي قامت [1] بعدله الأرض والسماء، وهل كنت أرضى بأن تمدح بني العباس
فتعد من مفاخرهم أنهم نزلوا العرب منزلة الكلب، حتى ضرب بذلك المثل، وأن
المنصور بنى القبة الخضراء إرغامًا للكعبة، وقطع الميرة عن الحرمين استهانة
بهما، وأن المأمون كان ينكر نزول القرآن، وأن المعتصم بالله أنشأ كعبة في
(سامرَّا) وجعل حولها مطافًا واتخذ منى وعرفات.
وهب أني عدمت الغيرة على الملة والدين، وافتخرت كصنيع بعض الأجانب
بأني فلسفي بحت عادم لكل عاطفة ووجدان، فلا أرضى ولا أغضب ولا أسر ولا
أغاظ ولا أفرح ولا أتألم، وهب أني حملت نفسي على احتمال الضيم، وقبول
المكروه، والصم عن البذاء، ومجازاة السيئة بالحسنة، ومكافأة الخبيث بالطيب،
فهل كنت أرضى بأن تشوه وجه التاريخ، وتدمغ الحق، وتروج الكذب، وتفسد
الرواية، وتقلب الحقيقة، وتنفق التهم، وتعود الناس بالخرافة، بئس ما زعمت
أيها الفاضل، فإن في الناس بقايا وإن الحق لا يعدم أنصارًا.
إن الغاية التي توخاها المؤلف ليس إلا تحقير الأمة العربية وإبداء مساويها
ولكن لما كان يخاف ثورة الفتنة غير مجرى القول، ولبس الباطل بالحق. بيان
ذلك أنه جعل لعصر الإسلام ثلاثة أدوار: دور الخلفاء الراشدين، ودور بني أمية،
ودور بني العباس، فمدح الدور الأول وكذلك الثالث (ظاهرًا لا باطنًا كما سيجيء)
ولما غر الناس بمدحه الخلفاء الراشدين، وهم سادتنا وقدوتنا في الدين، وبمدحه
لبني العباس وهم أبناء عم النبي صلى الله عليه وسلم، وبهم فخارنا في بث التمدن
وأبهة الملك، ورأى أن بني أمية ليست لهم وجهة دينية فلا ناصر لهم، ولا مدافع
عنهم، تفرغ لهم، وحمل عليهم حملة شنعاء، فما ترك سيئة إلا وعزاها إليهم، وما
خلى حسنة إلا وابتزها منهم، ثم لو كان هذا لأجل أنهم من آل مروان أو لكونهم من
سلالة أمية لكنا في غنى عن الذب عنهم، والحماية لهم، ولكن كل ذنبهم أنهم
العرب على صرافتهم ما شابتهم العجمة مطلقًا كما قال: (وتمتاز- أي دولة بني
أمية - عن الدولة العباسية بأنها عربية بحتة) - الجزء الثاني من تمدن الإسلام -
(وجملة القول أن الدولة الأموية دولة عربية أساسها طلب السلطة والتغلب) -
الجزء الرابع صفحة 103 -.
عصبية العرب على العجم
أطال المؤلف وأطنب في إثبات هذه الدعوى فذكر طرفًا منه في الجزء الثاني
مدسوسًا - انظر صفحة 18 - ثم جعل له عنوانًا خاصًا في الجزء الرابع (58)
وهذه نصوصه:
فإن العرب كانوا يعاملونهم معاملة العبيد، وإذا صلوا خلفهم في المسجد
حسبوا ذلك تواضعًا لله.
وكانوا يحرمون الموالي من الكنى ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب ولا
يمشون في الصف معهم.
وكانوا يقولون لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة حمار أو كلب أو مولى.
فكان العربي يعد نفسه سيدًا على غير العربي ويرى أنه خلق للسيادة وذاك
للخدمة.
فتوهم العرب في أنفسهم الفضل على سائر الأمم حتى في أبدانهم وأمزجتهم
فكانوا يعتقدون أنه لا تحمل في سن الستين إلا قرشية، وأن الفالج لا يصيب
أبدانهم.
ومنعوا غير العرب من المناصب الدينية المهمة كالقضاء فقالوا لا يصلح
للقضاء إلا عربي وحرموا منصب الخلافة على ابن الأمة ولو كان أبوه قرشيًّا.
ولا يزوجون الأعجمي عربية ولو كان أميرًا وكانت هي من أحقر القبائل
وكان الأمويون في أيام معاوية يعدون الموالي أتباعًا وأرقاء وتكاثروا فأدرك
معاوية الخطر من تكاثرهم على دولة العرب فهمَّ أن يأمر بقتلهم كلهم أو بعضهم.
اعلم أن للمؤلف في إنفاق باطله أطوارًا شتى:
فمنها تعمُّد الكذب كما سترى، ومنها تعميمه لواقعة جزئية، ومنها الخيانة في
النقل وتحريف الكلم عن مواضعه.
ومنها الاستشهاد بمصادر غير موثوقة مثل كتب المحاضرات والفكاهات.
وهاك أمثلة من كل نوع منها قال: (إذا صلوا خلفهم في المسجد حسبوا ذلك
تواضعًا لله وكانوا يحرمون الموالي من الكنى إلخ ، وكانوا يقولون لا يقطع الصلاة
إلا ثلاثة إلخ) .
غير خافٍ على من له إلمام بتاريخ الفرس والعرب أن الفرس كانت قبل
الإسلام تحتقر العرب وتزدريهم ولما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه
إلى كسرى العجم اشمأز وقال عبدي يكتب إليَّ! ! وكتب يزدجرد إلى سعد بن أبي
وقاص فاتح القادسية أن العرب مع شرب ألبان الإبل وأكل الضب بلغ بهم الحال
إلى أن أفنوا دولة العجم فأفٍّ لك أيها الدهر الدائر ، وكانت ملوك الحيرة تحت إمرة
ملوك العجم.
ثم لما شرف الله العرب بالإسلام انتصفت العرب من العجم واستنكفوا من
سيادتهم عليهم، وجاءت الشريعة الإسلامية ماحية لكل فخر ونخوة فقال رسول الله
في خطبته الأخيرة في حجة الوداع، أن لا فضل للعربي على العجمي ولا للعجمي
على العربي كلكم أبناء آدم) .
وحينئذ ارتفع التمايز وتساوى الناس ولكن مع ذلك بقيت في بعض الناس من
كلا الطرفين حزازات كامنة في صدورهم كانت سببًا لحدوث حزبين متقابلين يسمى
أحدهما الشعوبة وهي التي تحتقر العرب وترميه بكل معيبة حتى إن أبا عبيدة
صنف كتبًا عديدة يطعن فيها على أنساب كل قبيلة من قبائل العرب، والثاني
المتعصبون للعرب. وقد عقد العلامة ابن عبد ربه في كتابه العِقْد الفريد بابًا في
حجج كِلا الطرفين وأقوالهما. ومعظم ما نقله المؤلف في إثبات عصبية العرب هي
أقوال ذكرها صاحب العقد في هذا الباب، كما لوَّح به المؤلف في هامش الكتاب.
وإذا تصفحت الكتب يظهر لك أن الأقوال التي نسبها إلى العرب عمومًا إنما
هي أقوال شرذمة خاصة موسومة بأصحاب العصبية، وصاحب العقد حيثما ذكر
هذه الأقوال صدرها بقوله (قال أصحاب العصبية من العرب) وأنت تعلم أن هذه
العصبة ليست كافة العرب ولا أكثرها، بل ولا عشر معشارها، فإنك سترى أن
هؤلاء أناس شرذمة مغمورون في الناس. ثم إن المؤلف ما اقتنع بذلك بل ربما
نسب قول رجل معين معلوم الاسم إلى العرب عامة.
فقال ناقلاً عن كتاب العقد: (وكانوا يكرهون أن يصلُّوا خلف الموالي وإذا
صلوا خلفهم قالوا: إنا نفعل ذلك تواضعًا لله) قال صاحب العقد: نسب هذا القول
إلى نافع بن جبير فأخذه المؤلف وجعله قولاً عامًّا للعرب، وهذه الصنيعة أعني
تعميم الواقعة الجزئية هي أكبر الحيل التي يرتكبها المؤلف لترويج باطله بل هي
قطب رحى تأليفه.
قال المؤلف: (فأدرك معاوية الخطر من تكاثرهم على دولة العرب فهمَّ أن
يأمر بقتلهم كلهم أو بعضهم) - الجزء الرابع صفحة 59 - إن نص معاوية الذي
نقله المؤلف بعد هذه العبارة هو هذا (كأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب
والسلطان فرأيت أن أقتل شطرًا وأدع شطرًا) فأنت ترى أن الرواية على تقدير
صحتها ليس فيها إلا أن معاوية رأى أن يقتل شطرًا منهم. ولكن المؤلف زاد على
العبارة وقال: إن معاوية همَّ أن يأمر بقتلهم كلهم.
قال المؤلف: فكانوا يعتقدون أن الفالج لا يصيب أبدانهم، - الجزء الرابع
صفحة 6 - استشهد في هذه الدعوى بطبقات الأطباء كما لوح في هامش الكتاب.
وايم الله لو كنت تقف على عبارة الطبقات لوقعت في أشد حيرة من اجتراء المؤلف
على قلب الحكاية، وتغيير الرواية، ذكر صاحب الطبقات تحت ترجمة عيسى
الطبيب (الراجح أنه نصراني) أن المهدي ضربه فالج فحضر المتطببون ومنهم
عيسى صاحب الترجمة فقال (المهدي بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله
بن عباس يضربه فالج، لا والله لا يضرب أحدًا من هؤلاء ولا نسلهم فالج أبدًا إلا
أن يبذروا بذورهم في الروميات والصقلبيات وما أشبههن) .
قد نقل صاحب الطبقات بعد الحكاية المذكورة عن يوسف الطبيب أن إبراهيم
بن المهدي لما اعتل بعلة شبيهة بالفالج دعا يوسف وقال له: ما العلة عندك في
عروض هذه العلة لي؟ (قال يوسف) : فعلمت أنه كان حفظ عن أمه قول عيسى
أبي قريش في المهدي وولده أنه لا يعرض لعقبه الفالج إلا أن يبذروا بذورهم في
الروميات وأنه قد أمل أن يكون الذي به فالجًا لا عارض الموت. فقلت: لا أعرف
لإنكارك هذه العلة معنى إذ كانت أمك التي قامت عنك دنباوندية و (دنباوند) أشد
بردًا من كل أرض الروم، فكأنه تفرج إلى قولي وصدقني وأظهر السرور.
فأنت ترى أن الظن ببراءتهم من الفالج إنما كان مبناه حَرّ أرض العرب وليس
له أدنى مساس بشرف النسل. ولو كان كما يتبادر إلى الذهن من عد أسماء آباء
المهدي فهو يختص بعائلة النبي عليه السلام لا يفهم منه العموم مطلقًا، ولذلك لما
ذكر لإبراهيم (وهو ابن الخليفة المهدي) أن أمه من (دنباوند) وهو أشد بردًا من
كل أرض الروم، ذهب عنه استغرابه عروض الفالج له.
فانظر كيف كان مجرى الحكاية فغيرها المؤلف وارتكب لذلك خيانات تترى،
ثم إن هذا قول عيسى الطبيب ولا يدرى أنه عربي أم لا وغالب الظن أنه نصراني
وهب أنه عربي فهو رجل من حاشية الدولة يريد التزلف إلى الخليفة والتملق له
فهل يكون قوله قول العرب كافة؟ .
قال المؤلف: ومنعوا غير العرب من المناصب الدينية المهمة كالقضاء فقالوا:
لا يصلح للقضاء إلا عربي - الجزء الرابع صفحة 60 - وأسند هذه الرواية إلى
ابن خلكان.
حقيقة هذا القول أن الحجاج لما أسر سعيد بن جبير التابعي المشهور وكان من
الموالي قال له ممتنًّا عليه: أما جعلتك إمامًا للصلاة في الكوفة ولم يكن في الكوفة إلا
العرب، قال ابن جبير: نعم، ثم قال له الحجاج: أليس أني لما أردت أن أوليك
قضاء الكوفة ضجَّ العرب وقالوا: لا يصلح للقضاء إلا عربي؟ وقد ذكر الرواية
ابن خلكان بطولها ولا يخفى عليك أن كوفة لم يكن إذ ذاك فيها إلا العرب وظاهر أن
القضاء لا يصلح له إلا من كان عارفًا بعوائد الأمة مطلعًا على خصائصهم وكيفية
تعاملهم فيما بينهم، وسعيد بن جبير لم يكن من العرب، ولو كان استنكاف أهل
كوفة من قضائه لأجل كونه من الموالي لاستنكفوا من إمامته للصلاة فإن الإمامة
أعظم شرفًا وأرفع محلاً من القضاء. وهذا أبو حنيفة كان من الموالي وأرادوا أن
يولوه القضاء في عصر بني أمية فامتنع ولم يرض بذلك وقد ذكر الواقعة ابن خِلِّكان
مفصلاً.
قال المؤلف (وحرموا منصب الخلافة على ابن الأَمَة ولو كان قرشيًّا) نعم
ولكن لم يكن هذا للاستهانة به.
قال الأصمعي: كانت بنو أمية لا تبايع لبني أمهات الأولاد فكان الناس يرون
أن ذلك للاستهانة بهم ولم يكن لذلك ولكن لما كانوا يرون أن زوال ملكهم على يد أم
ولد [1] .
أما ما استدل به المؤلف من قول هشام بن عبد الملك لزيد بن علي: إنك ابن أمة
ولذلك لا تصلح للخلافة، فقد رده عليه زيد وقال: إن إسماعيل كان ولد الجارية
وكان سيد البشر محمد من سلالته ، ومن المعلوم أن زيدًا وهو ابن الإمام زين
العابدين أرفع شأنًا وأعظم محلاًّ وأطيب أرومة وأصدق قولاً من هشام. ثم لو كان
هذا الأمر حقًّا ما كانوا يولُّون الخلافة يزيد بن الوليد الأموي ومروان الحمار وهما
ابنا أمة.
ولما فرغنا من إبداء شطر من خيانات المؤلف ليكون كالعنوان على دأبه في
تأليفاته حان لنا أن نحقق أصل المسألة أي أن العجم والموالي هل كانوا أذلاء
ساقطين مرذولين يعاملون معاملة العبيد في عصر بني أمية كما يدعيه المؤلف أو
كانوا بمحل من الشرف والعزة يعترف لهم العرب بالفضل والسؤدد، ويوفَّى لهم
أوفى قسط وأكمل حق.
اعلم أن البلاد التي كانت عواصم الأقاليم وقواعدها في عصر بني أمية هي
مكة والمدينة والبصرة والكوفة واليمن ومصر والشام والجزيرة وخراسان
وكان لكل هذا الأصقاع إمام يقودهم ويسود عليهم وهذه أسماؤهم.
مكة المشرفة عطاء بن أبي رباح هو أستاذ الإمام أبي حنيفة
اليمن
…
... طاوس
الشام
…
... مكحول
مصر
…
... يزيد بن أبي حبيب
الجزيرة
…
ميمون بن مهران
خراسان
…
ضحاك بن مزاحم
البصرة
…
الإمام الحسن البصري
الكوفة
…
إبراهيم النخعي
وكل هؤلاء غير إبراهيم النخعي كانوا من الموالي وبعضهم أبناء الإماء ومع
كونهم أعجامًا وكونهم أولاد الإماء كانوا سادة الناس وقادتهم تذعن لهم العرب
وتحترمهم خلفاء بني أمية وولاة الأمر.
فأما (عطاء بن أبي رباح) فمع كونه ابن سندية كان شيخ الحرم وإليه
المرجع في الفتوى وعليه المعول في المسائل، قال ابن خلكان في ترجمته: قال
إبراهيم بن عمرو: ابن كيسان أذكرهم في زمان بني أمية يأمرون في الحج صائحًا
يصيح (لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح) وهل يمكن أن ينادى بمثل ذلك من
غير رضى الخلفاء [1] .
وأما (طاوس) فلما قضى نحبه بمكة ازدحم الناس في جنازته حتى تعذرت
الصلاة عليه وكان إبراهيم بن هشام إذ ذاك واليًا على مكة فاستعان بالشُّرَطة ومشى
في جنازته عبد الله ابن الإمام حسن عليه السلام واضعًا نعشه على عاتقه وصلى
عليه الخليفة هشام بن عبد الملك الأموي، ذكر كل هذا العلامة ابن خلكان في
ترجمة طاوس فهل يكون منزلة أعظم من ذلك؟
وأما (مكحول الشامي) فأحد الأئمة المتبوعين وقال الزهري: العلماء أربعة
فلان وفلان ومكحول.
وأما (يزيد بن أبي حبيب) فهو الذي أرسله عمر بن عبد العزيز ليفقه الناس
في مصر ويفتيهم في المسائل وهو المعلم الأول لهم كما صرح بذلك السيوطي في
حسن المحاضرة.
وأما (ميمون بن مهران) فمع فضيلته وسيادته كان أميرًا على الخراج في
الجزيرة كما صرح به ابن قتيبة في المعارف.
أما (حسن البصري) فحدث عن البحر ولا حرج، يذعن له الملوك والسادة
والقواد وعليه المعول وإليه المنتهى [1] .
ذكر السخاوي في شرح ألفية الحديث للعراقي (طبع لكهنو صفحة 498
و499 أن هشامًا قال للزهري: من يسود أهل مكة؟ . قال: عطاء، قال: بم
سادهم؟ قال: بالديانة والرواية، قال هشام: نعم من كان ذا ديانة حقت الرياسة له
ثم سأل عن يمن قال طاؤس، وكذلك سأل عن مصر والجزيرة وخراسان
والبصرة والكوفة فأخذ الزهري يعد أسماء سادات هذه البلاد وكلما سمى رجلاً كان
هشام يسأل هل هو عربي أم مولى؟ وكان يقول الزهري: مولى، إلى أن أتى
على النخعي وقال: إنه عربي. فقال هشام (الآن فرَّجت عني والله ليسودن
الموالي العرب ويخطب لهم على المنابر والعرب تحتهم) .
إن التابعين لهم أعلى محل في تاريخ الإسلام - ورأسهم سعيد بن جبير وهو
أسود وقد ولاه حجاج بن يوسف إمامة الصلاة في الكوفة كما ذكره ابن خلكان في
ترجمته والكوفة إذ ذاك جمجمة العرب وقبة الإسلام، وهل يصح بعد ذلك دعوى
المؤلف أن العرب كانت تستنكف من الصلاة خلف الموالي.
وهذا سليمان الأعمش أستاذ الثوري كان عبدًا عجميًّا وكان بمنزلة من العز
والشرف أنه لما كتب إليه الخليفة هشام بن عبد الملك أن يكتب له مناقب عثمان
ومساوئ علي أخذ كتاب هشام وألقمه عنزًا كان عنده وقال للرسول قل لهشام هذا
جواب كتابك.
…
...
…
...
…
...
…
(ابن خلكان ترجمة الأعمش)
وهذا حماد الراوية الذي دوَّن المعلقات وله المكانة الكبرى في الأدب والشعر
كان عبدًا أسود وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره كما ذكره ابن
خلكان.
وهذا سالم بن عبد الله بن عمر كان ابن أمة ولما دخل الخليفة هشام بن عبد
الملك المدينة أرسل إليه يدعوه فاعتذر فدخل عليه هشام ووصله بعشرة آلاف ثم لما
حج ورجع كان سالم إذ ذاك مريضًا فذهب لعيادته ولما توفي صلى عليه وقال: لا
أدري بأي الأمرين أنا أسر: بحجتي أم بصلاتي على سالم؟ ولو أخذنا في تعداد
أمثال هذه الوقائع لطال الكلام ومل الناظرون.
ويظهر مما مر عليه أن الموالي كانوا في أيام بني أمية بأعلى محل من
الشرف والمكانة وكانت العرب تذعن لهم وتقدمهم وتقتدي بهم وترفع شأنهم، فهل
يصح قول المؤلف بعد ذلك: إن الموالي وأبناء الإماء كانوا في عصر بني أمية
مرذولين ساقطين يزدرى بهم ولا يقام لهم وزن وكان العرب وبنو أمية يعاملونهم
معاملة العبيد؟
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
هو جرجي زيدان صاحب مجلة الهلال اهـ من خط المؤلف في هامش الأصل.
(2)
المنار: قد علم من التمهيد أن كثيرين قد فطنوا لما في الكتاب من الخطأ وبعضهم انتقدوه.
(3)
لعل الأصل شهدت بدل قامت.
(4)
انظر الجزء الثاني من العقد الفريد طبع مصر صفحة 330.
(5)
المنار: الأمر أكبر من ذلك، كان عطاء يشدد في وعظ عبد الملك والوليد فيقبلان منه راجع في صفحة 422 و 423 من مجلد المنار التاسع وعظه لعبد الملك وهو جالس معه على كرسيه وترفعه عن الأخذ منه وقول عبد الملك عند خروجه:(هذا وأبيك الشرف) ومخاطبته للوليد باسمه وتشديده في وعظه حتى أغمي عليه.
(6)
راجع في 423 وما بعدها من مجلد المنار التاسع إغلاظ الحسن على الحجاج، وفي صفحة 498 منه نصيحته لوالي بني أمية على العراق.
الكاتب: محمد توفيق صدقي
القرابين والضحايا في الأديان
الدكتور محمد توفيق صدقي
الطبيب بسجن طره
كثر لغط المجلات التبشيرية النصرانية في هذه المسألة مفسرين لها بحسب
أهوائهم وأغراضهم زاعمين أن وجود الذبائح والقرابين والضحايا في الأديان عمومًا
وثنية كانت أو إلهية هو رمز لذبيحتهم العظمى وهو صلب المسيح بحسب اعتقادهم.
عجيب أمر هؤلاء القوم! ! فإنهم منذ نشأتهم في العالم لما لم يجدوا لهم
برهانًا عقليًّا أو نقليًّا على إثبات دعاويهم وعقائدهم عمدوا إلى طريقة هي من
الغرابة بمكان عظيم وذلك أنهم نظروا في كتب من سبقهم من بني إسرائيل وغيرهم
فعرفوا بعض ما فيها من النصوص أو الشرائع والقصص وغير ذلك ثم اخترعوا
للمسيح صلى الله عليه وسلم [1] ما شاءوا من الحوادث التي قد يكون لبعضها أصل
تاريخي صحيح مراعين في ذلك أن يكون هناك شيء من التشابه بين ما يدعون
وبين ما يوجد من النصوص في كتب المتقدمين ليتخذوا ذلك دليلاً على صحة
دعواهم أن السابق إشارة أو رمز إلى اللاحق مما يلفقون.
ولم نجد لهم دليلاً على عقيدة من عقائدهم سوى هذه الطريقة التي ملئوا الدنيا بها
صياحًا وعويلاً مدعين أن كل ما سبقتهم من الكتب هو تمهيد أو رمز إلى دينهم وأن
كل شيء خلق لأجلهم مع أن جميع الأمم التي سبقتهم لم يكن يخطر على بال أحد
منها أن ما عندهم من الشرائع رمز لدين آخر.
لا يظن القارئ أني أنكر بذلك النبوات والبشائر التي وردت في كتب
الأنبياء السابقين إخبارًا عن الأنبياء اللاحقين إذا كانت صريحة في ذلك، ولكن
الذي أنكره على النصارى هو أنهم جعلوا كل شيء في أديان من سبقهم حتى
من الوثنيين رموزًا للمسيح عليه السلام مع أن بعض هذه الرموز المزعومة
ربما لا يكون لها أدنى علاقة به ولا بتاريخه عليه السلام، وإنما هو التحكم
يجعلهم يتوهمون أنها تنطبق عليه ولولا ذلك ما خطر على بال أحد هذا
الانطباق البعيد العجيب، فتراهم مثلاً يجعلون خروج بني إسرائيل من أرض
مصر إشارة إلى حضور المسيح فيها ورجوعه منها إلى بلده (راجع متى 2: 15
وهوشع 11: 1) وفى الأناجيل من مثل ذلك كثير، ولله در السيد جمال
الدين الأفغاني حيث قال ما معناه (إن مؤلفي العهد الجديد قد فصلوا قميصًا
من العهد العتيق وألبسوه لمسيحهم) .
هذه مسألة الضحايا والقرابين في الأديان لها فيها معانٍ وأغراض أخرى ولكن
يتحكم النصارى فيها ويدعون أنها رمز على (صلب المسيح) ، ولنبين هنا كيف
أنه لا يوجد أدنى انطباق أو أي علاقة بين هذه المسألة وبين مسألة الصلب فنقول:
1-
إن الضحايا والقرابين موجودة في جميع الأديان حتى الوثنية منها من قديم
الأزمان، فإذا سلمنا أن ما يوجد منها في الأديان الإلهية هو إشارة إلى المسيح عليه
السلام فكيف نفسر وجودها في الأديان الوثنية وهي لا تعرف المسيح ولا دينه؟ !
سيقولون: إن الأديان الوثنية لها أصل صحيح وكانت فيها قديمًا هذه المسألة رمزًا
إلى المسيح، ولما طال الزمان نسي الناس ذلك، ونقول: كيف تتفق الأمم في
جميع الأزمنة وفي جميع بقاع الأرض على نسيان ذلك وهو كما يزعم النصارى
أساس الدين كله؟
وكيف لا يوجد أدنى أثر في كتبهم أو معتقداتهم على أن الأصل في الذبائح هو
الرمز للمسيح وهو أمر لم يخطر على بالهم؟ وهب أن جميع الأمم الوثنية نسيت
ذلك فكيف نسيه بنو إسرائيل وأنبياؤهم وهم أقرب الناس إلى المسيحيين؟ وكيف لا
يوجد في كتب العهد العتيق المسلَّمة عند النصارى تصريح بهذه المسألة العظمى
التي كان يجب أن تذكر صريحًا في كل كتاب من كتب الأنبياء السابقين؟ وأن
يخبروا أممهم بأن القرابين جميعًا والذبائح ليست مقصودة بالذات بل هي إشارة إلى
ذبيحة كبرى ستأتي بعد؟
2-
إذا سلمنا أن الذبائح كانت إشارة إلى هذه الذبيحة الكبرى (صلب المسيح)
فماذا يقولون في القرابين الأخرى التي لم تكن من جنس الذبائح وهي كثيرة في
الشريعة الموسوية كالمحرقات التي تقدم من أثمار الأرض ومن الدقيق والزيت
واللبان والفريك وغيرهما مما كان يحرق بالنار قربانًا للرب ورائحة لسروره كتعبير
التوراة.
3-
إذا سلم أن الذبائح إشارة إلى الصلب فإلى أي شيء يشير إحراق نفس
الذبائح كلها أو بعضها بالنار؟ فهل أحرق المسيح بها! !
4-
كيف يكون الذبح إشارة للمسيح عليه السلام مع أنه مات صلبًا - على
قولهم - لا ذبحًا أي أنه لم يهرق دمه حتى يموت بنزف الدم بل ظاهر عبارتهم أنهم
اكتفوا بتعليقه على خشبة الصليب بثقب يديه ورجليه فقط ولم يكسروا عظمًا من
عظامه (يوحنا 19: 36) فلذا لم يرد في الأناجيل أنهم ثقبوا عظم صدره بمسمار
دق في قلبه كما قد يتوهم بعضهم وإلا لمات في الحال ولما بقي حيًّا من الساعة
الثالثة إلى التاسعة كنص إنجيل مرقص ولو كان ثقب يديه ورجليه أحدث نزيفًا
عظيمًا لما بقي ست ساعات وهو حي ولما كان هناك وجه لتعجب بيلاطس من
موته بسرعة (مرقص 15: 44) فالظاهر على هذا أن الدم الذي سال منه كان
قليلاً وأنه لم يمت بسبب نزف دمه بل مات بسبب ألم الصلب والجوع والتعب
وإعاقة التنفس بتعليقه، فكان الواجب لكي يتم التشابه بين الرمز والمرموز إليه أن
تصلب الحيوانات عند بني إسرائيل وغيرهم حتى تموت مثله أو أن يذبح هو بيد
تلاميذه قربانًا للهِ لا أن يموت صلبًا بيد أعدائه بدون أن يسفك شيء يذكر من دمه.
نعم ورد في إنجيل يوحنا (19: 34) أن بعض العساكر طعنه بعد أن مات وأسلم
الروح بحربة في جنبه فخرج منه دم وماء ولكن هذا شيء والذبح شيء آخر كما لا
يخفى ولم يخرج منه دم يذكر قبل مماته كما بينا ولم يكن خروج ما خرج منه من
الدم سببًا في وفاته. أما خروج الدم والماء منه بعد مماته فهو من الوجهة الطبية
عجيب غريب وليس تفسيره بالسهل الجلي [1] .
ولنبدأ الآن ببيان الغرض الحقيقي من الضحايا والقرابين في الأديان فنقول:
كان الوثنيون يقدمون هذه القرابين لآلهتهم لاعتقادهم أنهم ينتفعون بها كما كان
يعتقد بعض الأمم أن الأموات يأكلون ويشربون فيضعون في قبورهم شيئًا من ذلك
كثيرًا على أن بعض هذه المعبودات الوثنية كان ينتفع فعلاً بأكل بعض القرابين
كالعجول والثيران وغيرها فإنها كانت تأكل مما يقدم لها من الحبوب والنبات
ونحوها. وكانت الكهنة وسدنة الهياكل وخدمة الأصنام تنتفع أيضًا بهذه القرابين
فيرغبون الناس فيها للإكثار منها، وكذلك أيضًا كان بعضها يستعمل في الهياكل
والمعابد لفرشها وإضاءتها وزينتها كما تنفع الآن نذور العامة لأضرحة الأولياء
والقديسين فتضاء بها وتفرش ويأخذ منها الخدم ما يلزم لمنازلهم.
ولكن الأديان الصحيحة لم تأمر بالقرابين؛ لأن الإله ينتفع بها - حاش لله
{لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) وإنما أمرت بها هذه الأديان لفوائد أخرى نأتي هنا على بعضها:
1-
الفقراء عيال الله فمن نفعهم رضي الله عن عمله وكأنه نفعه تعالى لو لم
يكن غنيًّا عن العالم، وكما أن الله تعالى أمر الأغنياء ببذل شيء من مالهم للفقراء
سواء كان نقودًا أو ملبوسًا [1] أو حبوبًا أو ثمارًا أو أي مطعوم آخر أو مشروب
كذلك أمر بإطعامهم أنواع اللحوم فإنها أشهى إلى نفوسهم وأبعدها عنهم. وإنما
أوجب الإسلام في كفارة بعض جنايات الحج ذبح الذبيحة قبل إعطائها للفقراء ولم
يبح إعطاءها لهم بدون ذبح ليتيسر توزيعها على عدة فقراء بدل اختصاص فقير
واحد بها ولينقطع بذلك كل أمل للذابح في عودتها إليه واستردادها من الفقير بمال أو
بدل أو غير ذلك ولينقطع أيضًا أمله في الانتفاع بها وهي عند الفقير بركوب أو
نسل أو لبن أو وبر أو صوف أو غير ذلك فيكون التصدق بها تامًّا وخالصًا لوجه
الله تعالى وليضطر الفقير أن يأكل منها هو وولده وأهله فإنها إذا أعطيت له حية
فإنه يبخل بها على نفسه ويحرم أهله وولده من أكلها حبًّا في إبقائها أو بيعها أو كنز
ثمنها فيبقى هو وأهل بيته محرومين من أكل اللحم طول حياتهم وهو من أشهى
المأكولات وألذها وأكثرها تغذية وأبعدها عن الفقراء وللتوسيع عليه وعلى أهله
أمرنا بذبحها ولتكثر تربية المواشي والأنعام والانتفاع بها وهي أنفع الأشياء للناس
خصوصًا في الأزمنة القديمة ولتتسع أيضًا دائرة التجارة فيها فيربح منها التجار
الأغنياء منهم والفقراء قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى
البَيْتِ العَتِيقِ} (الحج: 33) فإن قيل: ولماذا لا يعطى ثمن الذبيحة للفقراء في
الحج بدل الذبح؟ - قلت: ذلك لقلة النقود بين العرب وعدم انتشار استعمالها بينهم
في ذلك الزمن لذلك كان أكثر تقدير أنواع الزكاة في الإسلام بالأعيان كالغلال
وغيرها لا بالنقود، وأيضًا فإن الفقير إذا أعطي نقودًا بدل اللحم كنزها أو أنفقها في
شيء آخر، وأما اللحم فإنه يضطر أن يأكله هو وأهله ولا يحرمهم منه كما تقدم.
ومن أحكام الذبح أيضًا أن يذكر الذابح اسم الله تعالى على الذبيحة شاكرًا له على
نعمه، وذاكرًا أنه لولا أمره تعالى له بالذبح ما جاز له إزهاق روح هذا الحيوان
للتمتع به، وبذلك ترتفع قيمة الحياة والأرواح في نظر الناس فلا يستهترون بها.
قال الله تعالى في الحج {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى
مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: 28)
ولذلك حرم أكل الحيوان إذا لم يذكر اسم الله عليه أو ذكر اسم غيره تعظيمًا لأرواح
الحيوانات ، وقد جعل الله لكل أمة مذبحًا يذكرون اسم الله فيه على ما يذبحون
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} (الحج: 34) .
2-
إن الذبائح والقرابين قد تكون عقوبات أو غرامات لمن يرتكب شيئًا من
الآثام أو من المنهيات كما قال الله تعالى بعد ذكر عقوبة من قتل الصيد وهو محرم
{لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} (المائدة: 95) وهذا الأمر يظهر جليًّا خصوصًا في ذبائح
بني إسرائيل وقرابينهم التي كانوا يقدمونها كفارة لكثير من الذنوب ويحرقونها بالنار
فكأنه كان في الشريعة الموسوية أن من يرتكب بعض الذنوب يعاقب عليها في الدنيا
بفقد جزء من ماله كالغرامات الموجودة في سائر القوانين المدنية.
3-
إن الذبائح والضحايا يراد بها أيضًا تعويد الناس على الاستعداد لبذل المال
والنفس والولد في سبيل الله فهي تذكرنا بأكبر حادثة من حوادث الإسلام لله تعالى
والانقياد إليه في كل شيء، ولو أدى ذلك إلى ضياع النفس أو الولد وهذه الحادثة
هي إرادة إبراهيم عليه السلام أن يذبح ولده طوعًا لأمر الله وامتثالاً له وذلك أكبر
علامات صدق الإيمان. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم
بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} (التوبة:
111) ومن أعطى شيئًا في سبيل الله فكأنما أعطاه لله تعالى نفسه كما قلنا سابقًا
{مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة: 245) فالمؤمن الحقيقي أو المسلم لله هو الذي لا يبخل
بماله ولا بنفسه ولا بولده في سبيل الله لنفع الناس وهم عياله تعالى.
فإن قيل: لماذا فدى الله تعالى ابن إبراهيم بالكبش ولم يكتف بنهيه له عن
ذبحه؟ قلت: ليزيل كل شك في نفس إبراهيم ونفس غيره بأنه إنما امتنع عن الذبح
لضعف عزيمته فتأول كلام الله أو لم يفهمه على حقيقته فأظهر الله تعالى بهذا الفداء
أن إبراهيم لم يمتنع عن الذبح لتأويل ضعيف أو اشتباه بل لنهي الله تعالى له عنه
نهيًا لا شك فيه ولا يقبل التأويل بظهور هذا الكبش الذي بعثه الله تعالى له ليذبحه
بدل ابنه. وفى هذا الفداء أيضًا إشارة إلى أن الله تعالى يتقبل من عباده المخلصين
أعمالهم وإن لم تتم ويكافئهم عليها بالجزاء العظيم كأنها أعمال تامة متى خلصت
نيتهم وصحت عزيمتهم مهما كان العمل صغيرًا أو حقيرًا تفضلاً منه وكرمًا.
وهناك أيضًا فائدة أخرى وهي أن يمثل الناس بعد إبراهيم هذه الحادثة على ممر
الأيام بالضحايا وليذكروها بالعظة والاعتبار تنبيهًا لهم على وجوب تقديم أنفسهم لله
كأبيهم إبراهيم، الذين سماهم لله مسلمين.
4-
إن الناس بسبب ما يرتكبون من الذنوب يستحقون الهلاك العاجل والمحو
من الوجود {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} (فاطر: 45) فهم يقدمون هذه الذبائح إشارة إلى أنهم يستحقون أن يقتلوا أنفسهم
لكثرة ذنوبهم ومعاصيهم، ولولا لطف الله تعالى ورحمته بهم لما تقبل منهم سوى
قتل أنفسهم فالذبائح تشير إلى الشكر لله والندم على الذنوب والاعتراف باستحقاق
عذاب الله ولذلك قال {وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) كما سبق.
5-
إن إبراهيم بعد أن بنى الكعبة بيتًا لله دعا الله أن يسوق الناس إلى ذريته
من إسماعيل الذي أسكنه هناك، وأن يرزقهم من الثمرات، وأن يجعل بلدهم آمنًا،
فأجاب الله تعالى دعاءه و {أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (قريش: 4)
وجلب إليهم من كل الثمرات والخيرات وأكثر بينهم من كل شيء حتى أنواع اللحم
كله يأكلونه غريضًا أو قديدًا ، ووحد لذلك مذبح المسلمين ومعبدهم، وربما كان
اختبار إبراهيم بذبح ولده في مكة لا في الشام فكرم نسل إسماعيل كما كرم نسل
إسحاق كوعد التوراة (تكوين 17: 20) وقد جاء في إنجيل برنابا أن الذبيح هو
إسماعيل [1] .
فهذه بعض حكم الذبائح والقرابين في الإسلام وغيره من الأديان، وأما قول
النصارى إنها رمز إلى المسيح فقد أريناك ما فيه ونقول أيضًا: إذا سلم أن معنى
الضحايا والقرابين في الأديان القديمة هو ما يزعمه النصارى الآن - وهذا المعنى
لم يكن يخطر على بال تلك الأمم القديمة كما هو ظاهر من كتبهم - فما فائدة الذبائح
والقرابين إذًا بالنسبة لهم وهم لم يفقهوا منها ما يفقهه النصارى الآن؟ ألا تكون لهم
لغوًا وعبثًا كانوا يفعلونه أزمانًا طويلة وخصوصًا لأنهم لم يخبروا صريحًا بالمراد
منها ولم يعرف بينهم هذا المعنى الذي يدعيه النصارى اليوم ، ولماذا أبطلت الذبائح
في الديانة النصرانية ولم تبق فيها تذكارًا للصلب والخلاص مع أنها لو بقيت في
النصرانية لكانت أفيد وأظهر من وجودها في الأديان القديمة من غير أن يفهم المراد
منها؟ ولماذا استبدلت الذبائح بالعشاء الرباني في المسيحية؟ وأي مناسبة بين الخبز
والخمر، وبين الجسد والدم؟ ولماذا فعل المسيح العشاء الرباني قبل الصلب مع أنه
كان الأليق أن يُفعل بعده ليكون هناك معنى لكونه تذكارًا له؟ وإلا فهل يعمل التذكار
للشيء قبل وقوعه مع أن المناسب والمعتاد أن يكون بعده؟
فكأن الذبائح والقرابين كان يجب عملها قبل المسيح حينما كان الناس لا
يفهمون أنها رمز أو إشارة إلى صلبه ولم يكن غفران الذنوب حينئذ لأجلها في
الحقيقة ثم تركت بعد الصلب حينما كان يسهل على الناس فهم أنها للتذكار ففي
الوقت الذي لا يكون لها فائدة ما يجب أن تعمل، وفى الوقت الذي يكون لها فائدة
تترك وتهجر فما حكمة ذلك يا ترى؟
على أننا لا نفهم كيف يكون المسيح كفارة لذنب آدم الذي عم بنيه كما يدعون
وذلك؛ لأنه إذا كان ما ينالنا في هذه الدنيا من المتاعب والمشاق هو جزاء لنا على
ذنب آدم فهذا الجزاء لم يرتفع عنا بعد الصلب. وإن كان الجزاء سيحصل لنا في
الآخرة على ذنب آدم ففي الآخرة كل نفس {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286){وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) وإلا فأين العدل
الإلهي الذي يكثرون الكلام فيه؟ فهل من العدل عندهم أن يعاقب الأبناء في الآخرة
على ما ارتكبه أبوهم؟ وهل من العدل أن يُترك المسيئون (وهم آدم وبنوه)
ويعاقب المسيح - وهو بريء - على ذنوبهم وبدون رغبته وإرادته كما هو ظاهر
من عبارات الأناجيل في وصف حالته قبل الصلب وحزنه واكتئابه وكثرة تضجره
وصلواته كقوله لربه (إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس) وقوله وهو مصلوب
(إلهي إلهي لماذا تركتني) فإن كان المسيح باعتبار ناسوته - كما يعبرون - غير
راضٍ عن الصلب كما يظهر من هذه العبارات فهل من العدل أن يحمل ذنب غيره
ويصلب بسببه رغم إرادته؟ الحق أقول إنكم أردتم أن تفروا من تناقض موهوم بين
عدل الله ورحمته فوقعتم فيما هو شر منه وهو نسبة الظلم إلى الله تعالى في مؤاخذة
بني آدم بذنب أبيهم وفى مجازاة المسيح بغير رضاه بدلاً عنهم.
وأين تضحية الذات في سبيل نفع الناس التي تزعمون أن المسيح علمكم
إياها وتطنطنون بها؟ وإذا كان المسيح باعتبار ناسوته من نسل آدم؛ لأنه مولود
من مريم العذراء ومتكون في رحمها من دمها فهو كباقي أولاد آدم واقع في ذنب
أبيه فهو أيضًا يحتاج للكفارة مثلهم وإذًا يكون غير طاهر ولا معصوم من الذنوب
كما تزعمون؛ لأنه (ابن الإنسان) وناسوته مخلوق من العذراء بمقتضى
التولد الجسداني وإن كان لم يتلوث بذنب آدم فلم تلوث غيره وكلنا من نسل آدم
وكيف إذًا يعاقب بغير رضاه من أجلنا وهو بريء من كل ذنب؟ فما بالكم يا قوم
تدَّعون أنكم تعرفون معنى العدل الإلهي وحدكم وأنتم في الحقيقة لم تدركوا شيئًا من
معناه؟ !
العدل هو عدم نقص شيء من أجر المحسنين وعدم الزيادة في عقاب المسيء
مما يستحق فهو توفية الناس حقهم بلا نقص في الأجر ولا زيادة في العقاب وعدم
المحاباة ومعاملة جميع الناس بالمساوة [1] فلا ينافي ذلك أن يزيد الله تعالى أجر
المحسنين تفضلاً منه تعالى وكرمًا، ولا أن يعفو ويغفر للمسيء رأفةً منه ورحمةً.
ولكن من الجمع بين العدل والعفو أن لا يضيع حقًّا من حقوق الآخرين إلا برضاهم
وأن لا يُخص به فردًا دون غيره من عبيده، بل إذا عفا عن أحد منهم بسبب ما،
ووجد هذا السبب بعينه عند غير عامله بالمثل لضرورة المساواة بين العباد في
المعاملة والجزاء الأخروي ، ومنه أيضًا أن لا يُساوى بين المحسن والمسيء في
الثواب بل لكلٍ درجات فعفوه تعالى عن المسيء يقابل إعطاء المحسن زيادة عما
يستحق من الأجر ولكن لكل منهما مقام معلوم في الآخرة فلا ظلم في العفو عن
المسيء كما أنه لا ظلم في زيادة أجر المحسنين ، فهذا هو معنى العدل والغفران
للذين ظنوهما ضدين لا يجتمعان إلا بطريقتهم العجيبة الملفقة ودعواهم أن لا غفران
إلا بصلب البريء (المسيح) وسفك دمه، فوقعوا بذلك في شر مما فروا منه على
أن دم المسيح في الحقيقة لم يُسفك كما بينا سابقًا.
ولا ندري كيف اشترطوا وجوب سفك الدم، للغفران وخضب الأرض به
إرضاء لإلههم الذي يحب الدم كثيرًا كما يزعمون، وفاتهم أن ما سفك من دم المسيح
كان قليلاً جدًّا لا يكفي للموت ولم يكن هو السبب فيه، ولذلك لم يذكر في الأناجيل
أن دمه فاض على الأرض أو خضبها كدم الذبائح التي يزعمون أنها رمز له.
وإن كان مجرد الموت يكفي للغفران فجميع الناس يموتون مع شيء من الألم
قليلاً أو كثيرًا بحسب الأحوال فلم لا يكفر موت كل شخص عن ذنبه؟ ومن أين لهم
اشتراط هذا الشرط: أي وجوب سفك الدم للغفران؟ ؟ وما هذا التحكم في معنى
العدل الإلهي وهو ما لم ينطبق على العقل ولا على اللغة ، فإن كانوا أخذوا هذا
الشرط من وجوب الذبائح في الشرائع الإلهية السابقة للمسيح فقد بينا لك حكمة الذبح
فيها. وكان الواجب عليهم أن يشترطوا أيضًا إحراق الكفارة بالنار؛ لأن القرابين
كانت تحرق بها كما هو معلوم من التوراة.
أما العدل الإلهي الذي ضلوا في بيان معناه فقد بيناه لك هنا بما ينطبق على
قواعد اللغة والعقل ويتفق مع ما جاء في الكتاب العزيز.
فكما أن الله تعالى يوصف بكونه عادلاً أو حكمًا عدلاً فهو كريم غفور رحيم
منتقم جبار شديد العقاب خافض رافع معز مذل قابض باسط أول آخِر ولم يقل أحد
من العقلاء إن القائل بهذه الصفات قائل بالمناقضات أو الأضداد.
وهاك بعض ما جاء في القرآن الشريف في هذا الموضوع وهو الذي يتفق
مع العقل الصحيح والحكمة. قال تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن
جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَاّ مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (الأنعام:160) ، {وَلَا تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) {وَنَضَعُ
المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا
بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الأنبياء: 47) ، {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ
سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: 39-41) ، {فَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7- 8) ، {قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53) ،] وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَن
نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [6 {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة:
48) ، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ
وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (الجاثية: 21- 22) .
الدكتور محمد توفيق صدقي
_________
(1)
حاشية: الأظهر أن لفظ المسيح كما قال صاحب المنار علم على عيسى ابن مريم ولذلك قال تعالى {اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} (آل عمران: 45) ومعنى المسيح الملك الممسوح؛ لأنهم كانوا يمسحون ملوكهم بالزيت عند توليتهم، واللفظ إذا أطلق علمًا على شخص لا يجب أن يتحقق مدلوله في هذا الشخص فإذا سميت رجلاً (صادقًا أو سلطانًا) فلا يجب أن يكون صادقًا ولا سلطانا فلا عجب إذا سمي عيسى بهذا الاسم وإن لم يمسح ملكًا وهو أفضل من ملوك الأرض وسلاطينها وأكثرها تابعًا.
(2)
المنار: ألا يمكن أن يخرج من الميت إذا طعن شيء من رطوبات الجوف إذا نفذت الطعنة إليه؟ وهذه الرطوبات قد تكون مختلفة اللون والمادة؟ .
(3)
إشارة إلى قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} (المائدة: 89) .
(4)
حاشية: في هذه التوراة أن الذبيح كان إبراهيم الوحيد، فالظاهر أن تسميته بعد ذلك بإسحاق تحريف من اليهود ليفتخروا بأنهم من نسله ولكراهتهم أن يشاركهم غيرهم من الأمم في مزية من المزايا أو أن يختص بها وخصوصًا بني إسماعيل وإلا فإن إسحاق لم يكن ابن إبراهيم الوحيد بل كان مسبوقاً بإسماعيل والاختبار بذبح الابن الوحيد أشق على النفس من ذبح الابن الذي يوجد غيره، فلهذا ولغيره نرجح أن إسماعيل هو الذبيح لا إسحاق.
(5)
العدل لغة المماثلة والمساواة ومنه قولك: هذا الشيء يعدل هذا أي يساويه والظلم للنفس كما يستفاد من كتب اللغة وقواميسها ونصوصها.
(6)
أما الشفاعة الثابتة في القرآن فهي ضرب من ضروب التكريم لبعض عباد الله الصالحين المقربين بأعمالهم فيأذن لهم فيتكلمون ويدعونه في وقت ترتعد فيه الفرائس وترتجف القلوب {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: 28){لَاّ يَتَكَلَّمُونَ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} (النبأ: 38) فالشفاعة هي تكريم للشافع ولا تنفع في الحقيقة أحدًا من المشفوع لهم {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (المدثر: 48) اهـ من الأصل وهذه الآية نزلت في الكفار.
الكاتب: محمد رشيد رضا
إنا لله وإنا إليه راجعون [
1]
المصيبة الجلى بشقيقنا الشهيد الحسين آل رضا
يعزُّ عليَّ يا حسين أن أسمع لك نعيًا، وأن أراك مَبْكِيًّا مَرْثِيًّا، يعزُّ عليَّ يا
حسين أن أكون أنا الذي يُعَزَّى عنك، وأنت أنت الذي كنتم أودُّ أن تُعَزَّى عنِّي،
يعزُّ عليَّ يا حسين أن لا يمرَّ عشر المحرم من هذا العام، إلا وأنت الشهيد الذي
يجدد لنا ذكرى جدنا الحسين عليه السلام، يعز عليَّ يا حسين أن تُرْثَى في المنار،
وقد كنت أرجو أن تَرِثَ المنار، يعز عليَّ يا حسين أن تغتضر في ريعان شبابك،
وعنفوان قوتك، وأول العهد بتحقيق رجائي ورجاء الأمة فيك، فلئن بكيتك فأنت
أحق الناس ببكائي، وأجدرهم ببثي وحزني؛ للصفات والمزايا التي اجتمعت فيك،
وما كانت ولن تكون لسواك، فأنت أخي الشقيق، وتلميذي النجيب، وولدي البارّ،
ليس في إخوتي ولا سائر أهلي من هو أقرب إليَّ منك، ولم أعن بتربية أحد ولا
تعليمه كما عنيت بك، على ما آتاك الله تعالى من سلامة الفطرة، وعلو الهمة
وذكاء الفطرة، وشرف النحيزة، وعزة النفس، والميل إلى معالي الأمور،
والعزوف عن سفسافها.
ألا إن مصيبتي فيك أيها الشقيق العزيز لأكبر من مصيبة أمك الرءوم، ولكنها
ليست بأكبر من مصيبة أمتك العقور، المبتلاة في ولدها بالعقم أو العقوق، تثكل
البارّ منهم قبل أن تجني ثمرة خيره وبره، ويعمر العاق فتتجرع الحميم والغسلين
من عقوقه وشره، فإن بكيتك معهما، فإن مصيبتي بين مصيبتيهما، وإن العين
لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك لمحزونون.
ولو شئت أن أبكي دمًا لبكيته
…
عليك ولكن ساحة الصبر أوسع
فإن كان رُزْؤُك كبيرًا فالله أكبر، وإن كان الرجاء فيك عظيمًا فالرجاء في الله
أعظم، فلله ما أعطى ولله ما أخذ، و {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة:
156) ، فهنالك الملتقى إن شاء الله تعالى، فأنت في قوة إيمانك، وسلامة قلبك،
وعظم إخلاصك، وطهارة شبابك، وقيامك بالواجبات، وتنزهك عن الفواحش
والمنكرات، بل ترفعك عن مواقع الدنايا والهفوات، وبما رزقك من الشهادة، وما
حباك به من حسن الخاتمة، جدير بأن تكون في مقعد الصدق، من حظيرة القدس،
وهذا أعلى ما يعزينا عنك.
إن الله جلت حكمته، ونفذت مشيئته، قد امتحن قلوبنا بخطبك، وابتلى
إيماننا برزئك، فأرجو أن أكون من الصابرين على قضائه، المستحقين لصلواته
ورحمته، الشاكرين له ما أنعم به من صدق الإيمان، وقوة الإرادة، واتباع هدي
الكتاب والسنة، فقد جاءتني الصدمة الأولى وأنا بين صحبي، فملكت بفضله تعالى
نفسي، وحبست مجاري الدمع من عينيَّ ، وربطت على قلبي وكاد يتصدع بين
جنبيَّ، وعقدت جلسة لجنة مدرسة الدعوة والإرشاد، ولم أُشعر بمصابي أحدًا من
الإخوان، وإنما أذكر هذا تحدثًا بالنعمة، ورجاء أن أكون أهلاً للأسوة الحسنة،
فاجعل اللهم هذا جهادًا في سبيلك، وسببًا لمرضاتك، وآتنا به ما وعدتنا على رسلك،
وعوضنا خيرًا مما أخذت منا فإنك على كل شيء قدير.
كان هذا المصاب أثرًا من شر آثار الفوضى واختلال الأحكام، وفساد الحكام
في البلاد السورية، وغيرها من البلاد العثمانية، فقد اشتدت هذه الفوضى في
وطننا (لواء طرابلس الشام) في السنة الماضية حتى ترك كثير من الأحداث
والشبان الأعمال، وتدججوا بالأسلحة النارية في عامة أوقاتهم، وكثر حديثهم في
الرجولية باستعمالها، والفتك بها، وزالت من نفوسهم هيبة الحكومة، واعتقدوا أن
القصاص قد نسخ منها، ولم يبق بين الواحد منهم وبين قتل العمد إلا غضبة تعرض
له، أو استياء من أحد يلم بنفسه، واتفق أن الفقيد صادف واحدًا من هؤلاء التحوت
الأنذال يؤذي بنتًا في الطريق فنهره فاستلَّ النذل مديته وهجم بها على فقيدنا وقال له:
إنني أنتظر هنا لأقتلك أنت، فقبض عليه الفقيد وما زال يعالجه حتى أخذ منه
المدية، وأراد أن ينصرف، فأخرج الشقي مسدسه وأطلقه عليه ست مرات وكان
في كل مرة يروغ فتخطئه الرصاصة حتى أصابته السادسة فحملها وذهب إلى الدار.
وعلم بذلك الأصدقاء في طرابلس فبادروا مع طبيب عسكري وطبيب غير
عسكري إلى الكشف عليه فلم يهتد الأطباء إلى الرصاصة وظنوا من غير عملية
جراحية أنها غير قاتلة، وقد كتب الفقيد إليَّ وإلى شقيقنا السيد صالح بطاقة هذا
نصها:
سيدي الشقيقين:
إني أحمد الله إليكما أن نجاني من مصاب كبير، وخطر خطير، وذلك أن
الشقي عبد الوهاب الباشا أطلق علي عيارات نارية أصابني واحد منها في أليتي وقد
ضمد الجرح الآن، على أنه لم يمض عليه أسبوع، ولا بد من بقائي في البيت أيامًا.
وصل كتابك الأخير وسأجيبك عنه إن شاء الله تعالى، الجميع بخير.
…
...
…
...
…
...
…
... 3 المحرم سنة 1330
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حسين وصفي رضا
فكتبت إليه وإلى غيره إنني لا أطمئن ولا يرتاح قلبي إلا إذا استخرجت
الرصاصة أو عرف مكانها وأنه غير مقتل، ولكن لم يرجع إلا النعي، فقد تبين أن
الرصاصة اخترقت الجنب ووصلت إلى الأحشاء، وفعلت فعلها في الأمعاء، وذلك
مساء عاشر المحرم، وخرجت روحه الطاهرة في صبيحة حادي عشره، بعد أن
نطق بالشهادة وحمد الله أنه لم يسفك دمًا، ولا قارف محرمًا، وكانت هذه البطاقة
آخر العهد بكتابة فقيدنا رحمه الله تعالى.
كان المصاب بالحسين عظيمًا على كل من عرفه من أهل العلم والفضل
والأدب أو عرف شيئًا من مزاياه العالية، وما عارِفُوه على حداثة سنه بالقليلين.
وسنذكر نموذجًا من تعازيهم في جزء آخر، ونكتفي هاهنا بكلمة من كتاب تعزية
لأحد أهل العلم والأدب في طرابلس الشام في سوء الحال والفوضى هناك وهو
الشيخ محمد نجيب الحفار قال:
أرفع لمقامكم السامي هذه العريضة، وإن قلمي يضطرب من شدة هول تلك
الحادثة التي أودت بجميع من عرف ومن لم يعرف صفات فقيدكم بل فقيد جميع
الناس المرحوم أخيكم السيد حسين رضا من رصاصة أتته من يد أثيمة كلا بل من
دولة أثيمة لا تعرف للإنسانية حقًّا ولا للرعية ذمة يجبرانها على القيام بحفظ أموالهم
وأعراضهم وأرواحهم وخصوصًا أهل العلم والفضل والشرف منهم الذين يذهبون
كل يوم ضحية تهاملها وتكاسلها عن تعقيب أولئك الكفرة الفجرة الذين يعيثون في
الأرض فسادًا لا يهابون الناس ولا الحكومة بدليل أنها أرسلت منذ عشرة أيام أحد
ضباطها رديف بك وهو من خيرة رجالها لتعقيب بعض الأشياء الذين عجزت عن
إلقاء القبض عليهم نظرًا لعدم اهتمامهم بقوة الحكومة وسطوتها فرجع المسكين
محمولاً على الأكف مدرجًا بدمائه الطاهرة بعد أن كان كالأسد لا يهاب من وظيفته
أحدًا فواروه جدثه ولم تزل الأشقياء للآن زُمرًا زمرًا داخل البلدة وخارجها يقومون
بأعمال لا قِبل للإنسانية على تحملها وأصبحت الأهالي في اضطراب شديد من هول
هذه الأعمال القبيحة، ومن جملتها مصيبتنا بالغصن الرطيب والركن العلمي والذكي
المفرط المرحوم السيد حسين رضا) إلخ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
سورة البقرة آية 156.