المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: جبر ضومط - مجلة المنار - جـ ١٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (15)

- ‌المحرم - 1330ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس عشر

- ‌ذكرى الهجرة النبوية الشريفةوجعلها تاريخًا عامًّا للبشر

- ‌علاوة للمقالة

- ‌نقل كلام المخالفين أو المبطلين

- ‌أسئلة من الهند

- ‌أموال الشركات الأجنبية في بلادناوحقوق المعاهدين

- ‌الدخول في الماسونية

- ‌المسألة الشرقية

- ‌ المسألة الشرقية

- ‌خاتمة المقالات.. شجون ومحاورات

- ‌القرابين والضحايا في الأديان

- ‌إنا لله وإنا إليه راجعون [

- ‌صفر - 1330ه

- ‌السيد حسين رضا(1)

- ‌الدولة العلية واليمن

- ‌دعوة سيدي أحمد الشريف السنوسيإلى جهاد الإيطاليين في طرابلس الغرب وبرقة

- ‌اللغة العربية

- ‌الجامعة الإسلامية [*]

- ‌الصلح بين الدولة والإمام

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌ربيع الأول - 1330ه

- ‌الوفاق بين الإسلام والنصرانية

- ‌الاجتهاد والتقليد

- ‌اللغة العربية [*]

- ‌العالم الإسلامي [

- ‌أخبار العالم الإسلامي

- ‌الدين كله من القرآن [*]

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع الآخر - 1330ه

- ‌المقالة الثانيةمن المقالات الروسية عن تركستان

- ‌عراف

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](1)

- ‌التقريظ والانتقاد [*]

- ‌جمادى الأولى - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](2)

- ‌أخبار العالم الإسلامي

- ‌المطبوعات الجديدة [*]

- ‌جمادى الآخرة - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](3)

- ‌رجب - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](4)

- ‌فرنسة في تونس وإنكلترة في مصر

- ‌السكة الحديدية في الحجاز [*]

- ‌طريقة السنوسيةوزواياها بين الإسكندرية ودرنة [*]

- ‌أهمية الإسلام

- ‌ ابن تيمية ولوتر

- ‌فوائد صحيةغذاؤنا في الصيف [*]

- ‌أسرار الثورةأوخواطر ساعة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌التقاريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1330ه

- ‌التربيةووجه الحاجة إليها وتقاسيمها

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](5)

- ‌نهضة آسيوية

- ‌الشعر العصري

- ‌رمضان - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](6)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌مجلة العالم الإسلامي الفرنسية

- ‌التقاريظ

- ‌كامل باشاآراؤه السياسية منذ 24 عامًا

- ‌شوال - 1330ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الجامعتان الإسلامية والعثمانية [*](1)

- ‌بشائر عيسى ومحمد [*]في العهدين العتيق والجديد(7)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ذو القعدة - 1330ه

- ‌الحرب الصليبية في البلقان

- ‌السبحةتاريخها والتسبيح والذكر بها

- ‌حديث في استلزام المغفرة للذنوب

- ‌أسئلة من القوقاس

- ‌الجامعتان الإسلامية والعثمانية(2)

- ‌نظرة في الجزء الثاني من كتابتاريخ آداب اللغة العربية [*](2)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌ذو الحجة - 1330ه

- ‌اتخاذ الصور والتصوير الشمسي

- ‌فتاوى المنار

- ‌ميزان الجرح والتعديل [*](2)

- ‌خطبةافتتاح الاجتماع السنوي العام لجماعة الدعوة والإرشاد

- ‌حقيقة أحوال مسلمي جاوه

- ‌بعد تسعة قرون [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌خاتمة السنة الخامسة عشرة

الفصل: الكاتب: جبر ضومط

الكاتب: جبر ضومط

‌اللغة العربية

بحث تاريخي فلسفي في موطن العربية المضرية

ونسبتها إلى أخواتها من اللغات السامية [*]

أيها السادة والسيدات: اللغة العربية فرع من أرومة تعرف بالأرومة السامية

ومن فروع هذه الأرومة اللغات الآتية وهي: البابلية القديمة وتعرف بالأشورية

أيضًا، والأرامية (وهي السريانية) والعبرانية الفينيقية، والحميرية، والحبشية أو

الأثيوبية. إلا أن العربية من بين هذه الفروع هي أمدها أغصانًا وأملاها جذمًا

وأورفها ظلاًّ وأنضرها أوراقًا وأطيبها ثمرًا يانعًا شهيًّا.

وعلماء اللغات الغربيون يقولون: إن أرومة هذه الدوحة السامية انشعب منها

فرعان اثنان فرع شمالي وفيه اللغة البابلية القديمة، والأرامية والعبرانية الفينيقية،

وفرع جنوبي وفيه العربية المضرية والسبئية والسقطرية والمهرية والأثيوبية (أو

الحبشية) .

وصحح العلامة أرثر نولدكي على ما في دائرة المعارف البريطانية الأخيرة

سنة 1911 هذا التقسيم فجعل اللغة البابلية القديمة فرعًا مستقلاًّ بنفسه وجعل الفرع

الثاني ينشعب إلى جذمين شمالي وجنوبي وجعل في الشمالي الأرامية، والعبرانية

الفينيقية، وجعل في الجنوبي العربية المضرية، والسبئية، والسقطرية، والحبشية

أو الأثيوبية.

هذا ما يراه العلماء الغربيون في تقسيم اللغات السامية وتفرعاتها عن الأم التي

نشأت منها. ولهم في موطن هذه الأم السامية الأصلي آراء ثلاثة الأول أن موطنها

أفريقيا، والثاني أنه العراق وما يجاور الخليج الفارسي من أعلاه إلى اليمين

والشمال، والثالث أنه شبه جزيرة العرب ، أما الرأي الثاني فرأي العلامة الأستاذ

جويدي صاحب المحاضرات المشهورة في الجامعة المصرية في العام الفائت ، وأما

الرأي الأول فالظاهر من كلام العلامة نولدكي أنه من القائلين به أو الذاهبين إليه ،

وأما الثالث فيقول فيه هذا العلامة: إنه مما ذهب إليه فريق من العلماء الباحثين ولكنه

لا يسمي أحدًا من الذين يقولون به ، ومع أنه يقول في هذا الرأي: إن عليه مسحة

من القبول وفي الظواهر ما يعضده، يعود فيعطف على مقاله هذا ما يُشْتَمُّ منه

تضعيفه والجرح فيه. راجع مقالة هذا العلامة النفيسة المدرجة في المجلد الرابع

والعشرين من دائرة المعارف البريطانية الطبعة الأخيرة سنة 1911 وجه 620 إلى

630.

***

عود إلى تفريع اللغات السامية

قلنا: إن علماء الغربيين يفرعون الدوحة السامية العظمى إلى فرعين كبيرين

شمالي وجنوبي ويشعبون من الفرع الشمالي البابلية القديمة والأرامية والعبرانية

الفينيقية، ومن الجنوبي العربية العدنانية المُضرية والسبئية والمهرية والسقطرية

(نسبة إلى مهرة وجزيرة سقطرة) والإثيوبية ويندرج تحت الإثيوبية الحبشية

والأمهرية. وقد ذكرنا أيضًا تصحيح العلامة نولدكي لهذا التفريع أي أنه جعل

البابلية القديمة فرعًا مستقلاً بذاته وجعل ما سواها من بقية اللغات السامية في الفرع

الثاني وشعب من هذا الفرع شعبتين أو جذمين شمالي وجنوبي على ما مر بنا.

ولم أر سندًا لما ذكره هذا العلامة إلا ما بين اللغات من التقارب والمشابهات

في الألفاظ المفردة والاشتقاقات الصرفية وما يلحق ذلك من التراكيب وأدوات

المعاني ولا سيما أدوات وطرق التعريف والتنكير، وقد أغفل الوجه التاريخي تمام

الإغفال. والذي يظهر لي أن إغفال الوجهة التاريخية نقص في البحث وأنه لو تُنبه

إليها وأضيفت مآخذها إلى مآخذ الأبحاث اللغوية الصرفة لكان فيما يستنتج من

مجموع وجهتي البحث ما يضعف آراء القوم في التقسيم والتفريع ويضعف أيضًا

تصحيح العلامة نولدكي.

وعندي أنه لو أضفنا إلى ما نعرفه من التشابه والتقارب بين الألفاظ

والمشتقات وضروب التراكيب النحوية والإضافية وطرق التعريف والتنكير ما

نعرفه من النقول التاريخية والتقاليد العمومية المتعارفة لأدى بنا ذلك إلى التقسيم الآتي

وهو أن الدوحة السامية العظمى تنقسم إلى فرعين كبيرين هما الفرع القحطاني

والفرع العادي، وأن الفرع الأول أي القحطاني تشعب منه الأرامية والحميرية

والحبشية، وأن الثاني أي العادي انشعب منه البابلية القديمة والعبرانية الفينيقية

والعربية العدنانية المضرية. وأما السبئية التي يشير إليها العلامة نولدكي فإن كان

يراد بها لغة بلاد سبأ أي البلاد التي عاصمتها مأرب ذات السد المشهور، فالتاريخ

يعارض قول هذا العلامة وينافيه؛ لأنه يشير إشارة لا تقوى على معارضتها (إلى)

أن لغة هذه البلاد كانت منذ الجيل الأول للمسيح لحد هذه الساعة لغة عربية

مُضَرية وسنقيم الدليل على ذلك. وعليه فالأرجح أن هذه اللغة السبئية التي يقولها

هذا العلامة إنما هي الحميرية القحطانية يخالطها شيء من العربية المضرية بما

يتخيل معه أنها شعبة من الجذم العربي العادي. وأما لغة مهرة وسقطرة فخليط من

الحميرية والحبشية ولا يبعد أن يكون بين ألفظاها بقية كبيرة من اللغة السبئية

العادية العدنانية التي زعمها العلامة نولدكي قسيمة للعربية وما هي قسيمة لها وإنما

هي لهجة أو لغة من لغاتها على الأرجح.

***

مهد اللغة السامية أو وطنها الأصلي

قبل إقامة الدليل التاريخي على ما ذكرناه في شأن لغة سبأ أي أنها لغة ولهجة

من لهجات العربية وبعبارة أخرى أن أهل بلاد سبأ كانوا يتكلمون العربية المضرية

من (زمن) سيل العرِم إلى الآن. وقبل أن أذكر الدليل في إثبات أن فرعي الأمِّ

السامية هما القحطانية والعادية ومنهما تفرعت بقية اللغات السامية الأخرى لا بد لي

من الرجوع إلى الكلام عن موطن اللغة السامية الأصلي ومهدها الذي ربيت فيه

فأقول:

وجدنا اللغات السامية في البلدان الآتية:

1-

في شمالي أفريقيا على شواطئ المتوسط من الشام شرقًا حتى تصل إلى

بوغاز جبل طارق والأتلانتيكي غربًا ويشتمل ذلك على برقة وطرابلس الغرب

وتونس والجزائر وبلاد مراكش.

2-

في مصر وما يليها جنوبًا من بلاد الإثيوبيين أو ممالك الحبشة.

3-

في جزيرة العرب وما والاها من فلسطين وسوريا حتى تصل آسيا

الصغرى.

4-

في بادية الشام والعراق من رأس الخليج الفارسي جنوبًا حتى تصل

المُوصل وديار بكر شمالاً، وليس في التاريخ ولا في الآثار ولا في التقاليد

المتناقلة ما يشير أدنى إشارة إلى أنها كانت في غير هذه البلدان.

هذه هي البلدان التي عاشت فيها الأمم التي تكلمت اللغات السامية لم يعرف

عنها قط أنها كانت في غيرها من البلاد اللهم إلا حيث كانت المستعمرات الفينيقية

لكنها لم تثبت هناك، بل انقرضت حالاً عند انقراض المستعمرين وتغلب من

حواليهم من الأمم عليهم، ولا شك أن مهد السامية لم يتجاوز البلدان التي ذكرناها

ولا بد أن يكون في إحداها، وعلى هذا أجمع أرباب البحث من علماء اللغات

والتاريخ قديمًا وحديثًا على ما أعلم وهو ظاهر قول العلامة نولدكي أيضًا.

قلنا فيما مر: إن هنالك آراء ثلاثة في موطن السامية، الأول أنه أفريقيا

والثاني أنه جزيرة العرب والثالث أنه العراق أو إقليم بابل وما يليه من بلاد

الآشوريين. فلننظر في كل من هذه الآراء واحدًا واحدًا ولا شك أن الرأي الذي

تتوفر فيه الأدلة التاريخية والعقلية هو أولى من صاحبيه بالقبول، دعونا ننظر أولاً

إلى بلدان شمالي أفريقيا ونسأل تقاليد أهلها عن أهلها من أين جاءوا؟ إن البربر

وأعني بهم سكان شمالي أفريقيا من الذين كانوا يتكلمون باللغة السامية ولا يزالون

يتكلمون بها إلى الآن يرفضون بتاتًا أن يكون أصلهم من زنوج أفريقيا، ويصلون

أنسابهم بأنساب العرب وأهل اليمن والشام، والقول المعتبر في ذلك إنما هو قول

العلامة ابن خلدون صاحب التاريخ المشهور، فراجع ما نقله في أنساب البربر -

المجلد السادس طبعة بولاق من صفحة 89 إلى 98.

إن الواقف على ما يذكره هذه العلامة في أنساب القوم لا يشك أنهم جاءوا إلى

تلك البلاد الواسعة من الشام والبلاد العربية، ولا أقول: إن البربر استعمروا بلادهم

ابتداء لم يكن فيها قبلهم أحد من الأمم ولكني أقول: إن هؤلاء الذين جاءوا البلاد

ولغتهم من الدوحة السامية جاءوا من الشام وجزيرة العرب فتغلبوا مع الأيام على

أهل البلاد، وصارت إليهم الدولة والسلطة واختلطوا مع من غلبوهم بالزواج

فصاروا من ثمَّ جميعهم (الغالبون والمغلوبون) ينتسبون إلى الأمم التي كان منها

الغالبون، لا أستطيع أن أنقل كل ما ذكره العلامة ابن خلدون في أنساب البربر

ولكني أنقل ما جاء له في الجزء الثاني من تاريخه (وجه 51 طبعة بولاق) قال:

قال ابن حزم: هو أفريقش بن قيس بن صيفي أخو الحارث الرائش وهو الذي

ذهب بقبائل العرب إلى أفريقيا وبه سُميت وساق إليها البربر من أرض كنعان مر

بها عند ما غلبها يوشع وقتلهم فاحتمل الغل منهم فساقهم إلى أفريقيا فأنزلهم بها -

ولما رجع من غزو المغرب ترك هنالك من قبائل حمير صنهاجة وكتامة فهم إلى

الآن بها وليسوا من نسب البربر، قاله الطبري والجرجاني والمسعودي وابن

الكلبي والسهيلي وجميع النسابين. انتهى النقل، ويظهر من هذا الذي نقلناه ومن

كثير أمثاله أن التبابعة أجلوا غير مرة العرب وأهل كنعان إلى بلاد المغرب وأقاموا

مهاجرًا فيها لقبائلهم من سبأ وحمير.

ولا أحتاج أن أذكر جاليات الصيدونيين والصوريين إلى تلك البلاد فإن الحالية

منهم التي استعمرت قرطاجنة ومن ثم صار لها الغلب على كل شمالي أفريقيا سنينًا

طويلة هي أشهر من أن تذكر، وكادت دولتهم هناك أن يكون لها الغلب على أشهر

الممالك المعروفة حينئذ لو لم تسبقها رومية العظمى إلى ذلك، وبناء على هذا

جميعه أعيد ما قلته من أن التقاليد والتواريخ كلها تشير إلى جهة واحدة وهي أن

الأمم السامية هم دخلاء على شمالي أفريقيا وقد جاءوا إلى هناك من الشام وجزيرة

العرب، فليس شمالي أفريقيا إذن موطنًا للسامية ولا يعقل أن يكون هناك أيضًا.

فرغنا الآن من الكلام عن شمالي أفريقيا، بقي علينا مصر والحبشة ، أما

مصر فلم أسمع عمن ذهب إلى أنها موطن السامية الأصلي وهذا مما يغنيني على

الإطالة وإقامة الدليل على أمر يُنازع فيه، ومع ذلك أقول: إن الأثري والمؤرخ

الشهير العلامة رولسن يرجح أن التمدن المصري القديم ليس أصليًّا فيها إنما جاءها

عن العراق وبلاد العرب، ومن المشهور في الآثار والتواريخ العربية أن دولة

الرعاة في مصر وكانت سامية جاءتها من البلاد العربية، بقي علينا بلاد الحبش -

وعامة المحققين وعلماء اللغة لا يشكون في أن الحبشة هؤلاء أعني الذين يتكلمون

بهذه اللغة السامية هاجروا إليها من البلاد العربية، ومثل ذلك أقول في الأمهريين إن

لم يكن قد قيل فيهم ذلك من قبل، والفرق بينهم وبين الحبشة أن الحبشة نزحوا

جماعة كبيرة، وأما أولئك فكانوا قلائل في العدد وباختلاطهم مع الزنوج غلبت

عليهم وعلى لغتهم ملامح هؤلاء وألفاظ لغتهم وكثير من عباراتها وتراكيبها ولكن لم

تقو لغتهم الزنجية على إزالة الأصل السامي فبقي من آثاره ما يدل عليه بعد التنقيب

وإمعان الروية، وأرى أن العقل لا يستطيع الحكم بأن هؤلاء الساميين بقوا ما بقوا

في أفريقيا وكانوا ما كانوا ثم خرجوا عن بَكرة أبيهم من موطنهم الأصلي في بلاد

الزنوج ولم يتركوا أثرًا هناك يدل عليهم أصلاً، إن هذا الرأي لا يُقبل إلا مع

البرهان الراجح إن لم نقل البرهان القاطع للشك والنافي للاحتمال.

بقي علينا بلاد العراق من الخليج الفارسي إلى الموصل وديار بكر -

والباحثون على اتفاق بينهم أن الآشوريين جاءوا من بابل وأن لغة الآشوريين ولغة

قدماء البابليين واحدة، والآثار البابلية تقول إن أصحاب آثارها من الذين تكلموا بهذا

اللسان السامي لم يكونوا أصليين في البلاد وإنما كان قبلهم قوم على جانب عظيم من

التمدن، وكان لهم لغة لكن من غير الأرومة السامية وعلى جانب من الارتقاء، فلما

تغلب عليهم هؤلاء الساميون أخذوا عنهم الكثير من آدابهم وترجموا لغتهم

ومكتوباتهم إلى لغتهم السامية، والمأخوذ من هذا عقلاً والواجب اعتماده أيضًا أن

الساميين أو السامية جاءت إلى العراق وبابل من مكان آخر وكان أهلها غزاة فاتحين،

ولا أقرب إلى العقل من أن يكونوا نزحوا إلى هناك من الجزيرة العربية فإن

المشاهد والمعروف في كل العصور التاريخية إلى الآن أن هؤلاء أعني أهل

الجزيرة العربية كانوا يهاجرون من سائر أنحائها إلى الشام والعراق يستوطنون

هناك تجارًا أو زرّاعين يحرثون الأرض ويربون المواشي وإذا وجدوا نهزة للتغلب

والتسلط على مجاوريهم انتهزوها.

***

رجوع إلى تقسيم اللغات السامية

الأرومة السامية تتشعب إلى فرعين: القحطاني والعادي

ظهر لنا مما مرَّ أن البلاد العربية هي موطن السامية والساميين أي المتكلمين

بالسامية (سواء كانوا ساميين أو حاميّين في النسب) فننظر إلى ما في شبه جزيرة

العرب من اللغات فإن كان هناك لغة أو آثار لغة واحدة لا غير فتلك اللغة هي

الأرومة السامية الكبرى وإن كان هناك لغتان فاللغتان هما الفرعان اللذان انشعبا من

الأرومة الكبرى.

إن التقاليد العربية والتواريخ المكتوبة الباقية عندنا إلى اليوم تذكر أن قد كان

في شبه جزيرة العرب لغتان هما القحطانية والعادية. وأن القحطانية كانت بين

السريانية والعبرانية وهي أميل إلى السريانية كما نرجح. وبيانه - قال المسعودي:

وكان الهيثم بن عدي الطائي يقول إسماعيل تكلم بلغة جُرهُم؛ لأن إسماعيل كان

سرياني اللسان على لغة أبيه خليل الرحمن حين أسكنه هو وأمه هاجر بمكة على ما

ذكرنا فصاهر جرهم ونشأ على لغتها ونطق بكلامها ونزار تأبى أن يكون إسماعيل

نشأ على لغة جُرهُم ويقولون: إن الله عز وجل أعطاه هذه اللغة - إلى أن يقول:

ووجدنا ولد قحطان بخلاف لغة ولد نزار بن معد - ويقول: وقد وجدنا (قحطان)

سرياني اللسان وولده (يعرب) بخلاف لسانه. (راجع المسعودي مجلد أول وجه

192 طبع المطبعة الأزهرية المصرية سنة 1353) . وقال العلامة ابن خلدون:

وأما جرهم فكانت ديارهم باليمن وكانوا يتكلمون بالعبرانية - وقيل إنما نزلت

جرهم الحجاز ثم بنو قطور بن كركر بن عملاق لقحط أصاب اليمن فلم يزالوا بمكة

إلى أن كان شأن إسماعيل عليه السلام ونبوته فآمنوا به وقاموا بأمره وورثوا ولاية

البيت عنه حتى غلبتهم عليه خزاعة وكنانة فخرجت جرهم من مكة ورجعوا إلى

ديارهم باليمن إلى أن هلكوا (ابن خلدون مجلد ثان وجه 30 طبعة بولاق) .

وقال العلامة ابن هشام إنهم وجدوا في ركن الكعبة كتابًا بالسريانية قرأه لهم

رجل يهودي (راجع سيرة ابن هشام جزء 1 وجه 66 طبعة بولاق) .

يظهر من النقول التي أوردناها أن الإمامين ابن خلدون والمسعودي متفقان

على أن جرهم قحطانية وكانت ديارهم اليمن أولاً (وهذا نص ابن خلدون) إلا أن

الإمام المسعودي يقول: إن لغة جرهم السريانية، وأما ابن خلدون فيقول: إنها

العبرانية، وأرى أن التوفيق بينهما إذا قلنا: إن القحطانية أقرب إلى السريانية سهل

؛ لأنه يمكننا حمل العبرانية في كلام ابن خلدون على اللغة التي كان يتكلم بها اليهود

في أيامه وهي السريانية أو العبرانية البابلية. وإذا كانت القحطانية هي السريانية

القديمة أو لغة قريبة منها فيترجح عندنا بل ينبغي أن تكون الحميرية التي خلفت

القحطانية، وبقيت في الجزيرة العربية في اليمن إلى الجيل الثالث بعد الهجرة -

على ما نصه العلامة الهمداني [1] قريبة من السريانية أيضًا وأرجح أن قد بقي أثر

كبير من هذه الحميرية في مخلاف حضور وحوالي مدينة ظفار إلى اليوم وفي

الشحر وسواحل حضرموت أيضًا.

قلنا: إن لغات شبه جزيرة العرب لغتان القحطانية الأولى، وقد خلفتها

الحميرية التي بقيت في اليمن إلى الجيل الرابع بعد الهجرة على ما نص العلامة

الهمداني كما أشرنا قبيل الآن، والعادية وهي العربية الأولى، وأهلها من عاد

وثمود وطسم وجديس والعماليق هم العرب العاربة، وقد انقرضوا على ما يقولون

وخلفهم العدنانيون أو النزاريون في أغلب مواطنهم التي كانوا فيها تكلموا بلغتهم.

ولغتهم أى العدنانيين هي هذه اللغة العربية المضرية لغة القرآن والحديث والمعلقات

وغيرها من الشعر العربي المشهور. ونسبتها إلى العربية الأولى لغة عاد وثمود

كنسبة الحميرية إلى القحطانية الأولى على ما أرجح.

دعوني أنقل ما ذكره الطبري في هؤلاء العرب العادية وفي لغتهم ومواطنهم

وسأختصر في النقل ما استطعت. قال رحمه الله فعمليق أبو العماليق كلهم أمم

تفرقت في البلاد وكان أهل المشرق وأهل عمان وأهل الحجاز وأهل الشام وأهل

مصر منهم. ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيون، ومنهم كانت

الفراعنة بمصر، وكان أهل البحرين وأهل عمان منهم أمة يسمون جاسم ، وكان

ساكنو المدينة منهم - وأهل نجد منهم - وأهل تيماء منهم. وكان ملك الحجاز منهم

بتيماء واسمه الأرقم وكانوا ساكني نجد مع ذلك - فكانت طنم وعماليق وأميم

وجاسم قومًا عربًا لسانهم الذي جبلوا عليه لسان عربي - وولد إرم بن سام بن نوح

عوض بن إرم وغاثر بن عوص وعاد بن عوص وعبيل بن عوص، وولد غاثر

بن إرم ثمود بن غاثر وجديس بن غاثر وكانوا قومًا عربًا يتكلمون بهذا اللسان

المضري، فكانت العرب تقول لهذه الأمم العرب العاربة؛ لأنه لسانهم الذي جبلوا

عليه، ويقولون لبني إسماعيل بن إبراهيم العرب المتعربة؛ لأنهم إنما تكلموا بلسان

هذه الأمم حين سكنوا بين أظهرهم ، فعاد وثمود والعماليق وأميم وجاسم وجديس

وطسم هم العرب. فكانت عاد بهذا الرمل إلى حضرموت واليمن كله، وكانت ثمود

بالحِجْر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، ولحقت جديس بطسم فكانوا

معهم باليمامة وما حولها إلى البحرين واسم اليمامة ، إذ ذاك جوّ ٌ، وسكنت جاسم

عمان فكانوا بها.

(انظر الطبري مجلد 1 وجه 213 و214 و214 طبع ليبسك)

يظهر مما نقلناه عن هذا المؤرخ الثقة الصلة التامة في اللغة بين هذه القبائل

البائدة وأشهرها عاد وبين القبائل العدنانية الباقية إلى اليوم وأشهرها كان بعد قريش

قيس وتميم. ويظهر منه أيضًا الصلة بين أهل نجد والحجاز وبين الكنعانيين في

الشام فإنهم جميعًا من العمالقة. ومن الصلة بينهم في النسب نستنتج الصلة في اللغة

وعليه فتكون العربية والعبرانية من فرع واحد؛ لأنها أي العبرانية الفينيقية

والكنعانية من فرع واحد إن لم يكونا لغة واحدة. ويظهر منه أيضًا البلدان التي

احتلتها هذه القبائل، فإن عادا نزلت الأحقاف إلى حضرموت واليمن كله، وثمود

الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وطسم وجديس اليمامة وما حولها

إلى البحرين، وجاسم عمان والعمالقة نجدًا والحجاز وتيماء، فما كان صالحًا للفلح

والزرع فلحوه وزرعوه وما كان في طريق التجارة أقاموا فيه محطات لها من خليج

فارس شرقًا إلى أيلة وبحر الشام، غربًا ومن حضرموت واليمن جنوبًا إلى برية

الشام وفلسطين شمالاً، فكانت من ثم مواطنهم لذلك الحين من أحسن النقط التجارية

. ولذلك كثر غناهم وعظمت دولتهم وأصبحوا مضرب مثل عند من خلفهم في الغني

والقوة والعظمة وتناقلوا عنهم لعظم آثارهم أخبارًا هي أشبه بأخبار القصاص

الموضوعة للتسلية والإغراب منها بالإخبار الممكن أن تقع، فإنهم نسبوا معظمها

إلى الجن وتسخير القوات غير المنظورة كما نسبوا مثل ذلك إلى بعلبك وتدمر

وبعض آثار بابل وآشور.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) خطاب لصديقنا الأستاذ جبر أفندي ضومط معلم اللغة العربية في المدرسة الكلية الأمريكانية

ببيروت ألقاه في تلك المدرسة ثم أتحفنا به.

(1)

همداني وصف جزيرة العرب طبع ليدن وجه 134 - 136.

ص: 112

الكاتب: شبلي النعماني

نقد تاريخ التمدن الإسلامي

بقلم الشيخ شبلي النعماني

(2)

مثالب بني أمية

المقصد الذي جعله المؤلف نصب عينه ومرمى غايته هو أن الأمة العربية إذا بقيت على صرافتها فهي جامعة لجميع أشتات الشر، أي الجور والقسوة والهمجية وسفك الدماء والفتك بالناس. ولكن لما كان لا يقدر على إظهار هذا المقصد تصريحًا

احتال في ذلك فغمض المذهب وجعل الكلام طيب الظاهر وذلك بأن قسم

عصر الإسلام إلى ثلاثة أدوار - فمدح سياسة الخلفاء الراشدين، وقال بعد مدحها:

(على أن سياسة الراشدين على الإجمال ليست مما يلائم طبيعة العمران أو

تقتضيه سياسة الملك وإنما هي خلافة دينية توفقت إلى رجال يندر اجتماعهم في

عصر.

فأهل العلم بالعمران لا يرون هذه السياسة تصلح لتدبير الممالك في غير ذلك

العصر العجيب وأن انقلاب تلك الخلافة الدينية إلى الملك السياسي لم يكن منه بد.

(الجزء الرابع صفحة 29 و30)

فأثبت بذلك أن سياسة الخلفاء الراشدين ليست فيها أسوة للناس، وأنها من

مستثنيات الطبيعة، أما دور العباسيين فمدحه ولكن لا لأجل أنه دولة عربية بل

لكونها فارسية مادة وقوامًا مؤتلفًا ونظامًا وصرح بذلك فقال:

(دعونا هذا العصر فارسيًّا مع أنه داخل في عصر الدولة العباسية؛ لأن تلك

على كونها عريبة من حيث خلفاؤها ولغتها وديانتها فهي فارسية من حيث سياستها

وإدارتها؛ لأن الفرس نصروها وأيدوها ثم هم نظموا حكومتها وأداروا شئونها

ومنهم وزراؤها وأمراؤها وكتابها وحُجَّابها) .

(الجزء الرابع صفحة 106)

ثم أشار في غير موضع إلى أن الدولة العربية الساذجة إنما هي دولة بني أمية

فقال:

(وجملة القول أن الدولة الأموية دولة عربية) (الجزء الرابع صفحة

103) وظل العرب في أيام بني أمية على بداوتهم وجفاوتهم وكان خلفاؤها يرسلون

أولادهم إلى البادية لإتقان اللغة واكتساب أساليب البدو وآدابهم (الجزء الرابع

صفحة 61) .

ولما أثبت أن خلافة الراشدين لم تكن تلائم النظام الطبيعي وأن دولة بني

العباس دولة فارسية وأن الباقية على صرافتها هي الدولة الأموية أخذ يعدد مثالب

بني أمية تحت عنوانات مستقلة منها الاستخفاف بالدين وأهله، ومنها الاستهانة

بالقرآن والحرمين، ومنها الفتك والبطش، ومنها قتل الأطفال، ومنها خزانة

الرءوس. وأتى في مطاوي هذه العنوانات من الإفك والاختلاق والتحريف والتبديل

بما تجاوز الحد وخرج عن طور القياس. والآن أذكر نبذًا منها وأكشف عن جلية

حالها.

***

الاستهانة بالقرآن والحرمين

قال المؤلف تحت هذا العنوان:

(أما عبد الملك فكان يرى الشدة ويجاهر بطلب التغلب بالقوة والعنف ولو

خالف الدين؛ لأنه صرح باستهانة الدين منذ ولي الخلافة.. . ذكروا أنه لما جاءوه

بخبر الخلافة كان قاعدًا والمصحف في حجره فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك -

أو- هذا فراق بيني وبينك. فلا غَرو بعد ذلك إذا أباح لعامله الحجاج أن يضرب

الكعبة بالمنجنيق وأن يقتل ابن الزبير ويحتز رأسه بيده داخل مسجد الكعبة. وظلوا

يقتلون الناس فيها ثلاثًا وهدموا الكعبة وهي بيت الله عندهم وأوقدوا النيران بين

أحجارها وأستارها) (الجزء الرابع صفحة 78 و79) .

الحكاية على الإجمال أن ابن الزبير ادعى الخلافة فملك الحرمين والعراق

وكاد يغلب على الشام وكان أمره كل يوم في ازدياد وبإزائه بنو أمية في الشام فلما

تولى عبد الملك الخلافة أرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره ولاذ ابن الزبير

بمكة فنصب الحجاج المنجنيق على الزيادة التي كان زادها ابن الزبير (كما يجيء

تفصيله) .

يعرف كل من له أدنى إلمام بالتاريخ أن الحجاج ما أراد إلا قتال ابن الزبير

ولكونه لائذًا بالكعبة اضطر إلى نصب المنجنيق على الكعبة، ولكن مع ذلك تحرز

عن رمي الكعبة فحوَّل وجهها إلى زيادة ابن الزبير. فانظر كيف غير المؤلف

مجرى الحكاية فصدر الباب بالاستهانة بالقرآن والحرمين. ثم ذكر أن عبد الملك

قال للقرآن:

هذا فراق بيني وبينك. وأنه أباح للحجاج ضرب الكعبة بالمنجنيق وهدم

الكعبة وإيقاد النيران بين أستارها، فالناظر في عبارته يتوهم بل يستيقن أن

عبد الملك تفرغ من بدء الأمر للاستهانة بالدين والقرآن والحرمين وجعل الاستهانة

نصب عينه ومرمى غايته، وقتل ابن الزبير كان إما لأنه دافع عن مكة أو لكونه

أيضًا جنس الاستهانة بالحرم.

أما تفصيل الواقعة وتعيين بادئ الظلم فهو أن ابن الزبير لما استولى على

الحرمين أخرج بني أمية من المدينة فخرج مروان وابنه عبد الملك وهو عليل مجدر

فاستولى على الشام، وصدرت من ابن الزبير أفعال نقموا عليه لأجلها فمنها أنه

تحامل على بني هاشم وأظهر لهم العداوة والبغضاء [1] حتى إنه ترك الصلاة على

النبي في الخطبة ولما سألوه عن هذا قال: إن للنبي أهل سوء يرفعون رءوسهم إذا

سمعوا به [2] ومنها أنه هدم الكعبة ومع أن هدمها لم يكن إلا لرمتها وإصلاحها ولكن

لم يكن هذا مألوفًا للناس، ولذلك تحرز النبي عليه السلام عن إدخال الحطيم في

الكعبة فاتخذ الحجاج هذه الأمور وسيلة لإغراء الناس على ابن الزبير. ولعل ابن

الزبير كان مضطرًّا إلى هذه الأعمال ولكن من شريطة العدل أن نوفي كل واحد

قسطه من الحق، فإذا اعتذرنا لابن الزبير فعبد الملك أحق منه اعتذارًا، فإن ابن

الزبير هو البادئ والبادئ أظلم. ويظهر من هذا أن عبد الملك ما أراد الحط من

شأن الكعبة ومس شرفها ولكن اضطر إلى قتال ابن الزبير فوقع ما وقع عرضًا غير

مقصود بالذات ولذلك لما نصب الحجاج المناجيق على الكعبة حولها عن الكعبة

وجعل الغرض الزيادة التي كان زادها ابن الزبير، صرح بذلك العلامة البشاري في

أحسن التقاسيم. ثم إن من مسائل الفقه أن البغاة إذا تحصنوا بالكعبة لا يمنع هذا

عن قتالهم ولذلك أمر النبي في وقعة الفتح بقتل أحدهم وهو متعلق بأستار الكعبة

وابن الزبير كان عند أهل الشام من البغاة والمارقين عن الدين.

ولو كان أراد الحجاج الاستهانة بالحرم فما كان مراده من رمته وإصلاحه بعد

قتل ابن الزبير، ومعلوم أن تعمير الحَجاج هو كعبة الإسلام وقبلة المسلمين كافةً.

أما قول عبد الملك للقرآن هذا فراق بيني وبينك، فحقيقته أن عبد الملك كان

قبل الخلافة ناسكًا منقطعًا إلى العبادة لا يشتغل بشيء من الدنيا، قال نافع: ما

رأيت في المدينة أشد نُسكًا وعبادة من عبد الملك، ولما سألوا ابن عمر إلى من

ترجع في الفتوى بعدك؟ قال (ولد لمروان) وكان يقول ابن الزناد الفقهاء في

المدينة سبع أحدهم عبد الملك.

...

...

...

...

وقال الإمام الشعبي: ما جالست أحدًا إلا وجدت عليه الفضل إلا عبد الملك

بن مروان. ذكر كل هذه الأقوال العلامة السيوطي في تاريخه للخلفاء. فلما جاءته

الخلافة وهو يقرأ القرآن تصور خطارة الأمر، وأن مثل هذا العبء لا يمكن تحمله

إلا المنقطع إليه فقال تحسرًا: هذا آخر العهد بك. أي الآن لا يمكن الانقطاع إلى

العبادة وقراءة القرآن كما كان دأبي أولاً، وليس هذا على سبيل الاستهانة بالدين

مطلقًا فإنا نرى اشتغال عبد الملك بالفرائض والسنن فيما بعد فهو يصوم ويصلي

ويحج قال اليعقوبي في تاريخه: وأقام الحج للناس في ولايته سنة 72 الحجاج بن

يوسف وسنة 73 وسنة 74 الحجاج أيضًا وسنة 75 عبد الملك بن مروان وسنة 76

أبان بن عثمان بن عفان، وسنة 77 أبان أيضًا وسنة 78 وسنة 79 وسنة 80 أبان

أيضًا وسنة 81 سليمان بن عبد الملك (وسرد باقي السنوات فتركناها) وعبد الملك

هو الذي كسا الكعبة الديباج، فهل هذا صنيع من يريد الاستهانة بالحرم؟

قال المؤلف:

(ويحتز رأسه بيده داخل مسجد الكعبة)(الجزء الرابع صفحة 79) استند

المؤلف في هذه الرواية بالعِقد الفريد لابن عبد ربه والاستناد بمثل هذه الكتب في

مثل هذه الوقائع هو من إحدى حيل المؤلف المعتادة بها فأنت تعلم أن حادثة قتل ابن

الزبير مذكورة في الطبري وابن الأثير وغيرها من المصادر التاريخية المتداولة

الموثوق بها وعليها المعوَّل وإليها المرجع لكن لما لم تكن كيفية الحادثة في هذه

الكتب وفق هوى المؤلف أعرض عن هذه كلها وتشبث بكتاب هو في عداد

المحاضرات وإنما يرجع إلى أمثاله إذا لم يكن في الباب مستند غيره ومتى لم

يخالف الأصول.

والمذكور في الطبري وغيره أن عبد الله بن الزبير أصيب في الحجون وقتل

هناك قتله رجل من المراد، وما احتز رأسه داخل الكعبة.

قال المؤلف: (وهدموا الكعبة) .

قدمنا أن الكعبة لم تكن غرضًا للحجاج وإنما كان نصب المناجيق على الزيادة

التي زادها ابن الزبير، ولما كانت متصلة بالكعبة نالت الأحجار من الكعبة ولكن

كان أول ما فعله الحجاج بعد ما استتب القتال أمره بكنس المسجد الحرام من

الحجارة والدم كما نص عليه ابن الأثير فهل كنس المسجد الحرام من الحجارة والدم

وهدم الكعبة شيء واحد؟

أما ما نقل المؤلف عن كفر الوليد وأنه أمر بالمصحف فعلقوه وأخذ القوس

والنبل وجعل يرميه حتى مزقه وأنشد:

أتوعد كل جبار عنيد

فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا لاقيت ربك يوم حشر

فقل لله مزقني الوليد

ونقل هذه الرواية عن الأغاني فهي من خرافات الأغاني، ومعلوم أن صاحب

الأغاني شيعي ديانته شنآن بني أمية والحط منهم. وأما الأبيات فأثر التوليد ظاهر

عليها، ومن له أدنى مسكة بالأدب يشهد أن نسجها غير نسج الأوائل، فأما جهابذة

المحدثين المرجوع إليهم في نقد الروايات والذين قولهم فصل في هذا الباب

فيجحدون أمثال هذه الروايات المختلقة. قال العلامة الذهبي: هو رأس الحديث

ومرجع الرواية -: (لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة بل اشتهر بالخمر والتلوط

فخرجوا عليه لذلك) (تاريخ الخلفاء للسيوطي ترجمة الوليد) .

ثم إن هناك أمرًا آخر وهو أن الناقم على الوليد وقاتله هو خليفة أموي،

فكيف ينسب استهانة الدين إلى خلفاء بني أمية عامتهم. ثم إن هذا الذي عزا إليه

صاحب الأغاني الاستهانة بالقرآن قد ذكر له صاحب العقد ما ينبئ عن تعظيمه

للقرآن وتفخيمه شأنه وحث الناس على حفظه وتعهده قال صاحب العقد [1] : إنه

شكا رجل من بني مخزوم دينًا لزمه فقال (الوليد) : أقضيه عنك إن كنت لذلك

مستحقًّا قال: يا أمير المؤمنين كيف لا أكون مستحقًّا في منزلتي وقرابتي؟ قال

قرأت القرآن؟ قال: لا، قال فادن مني فدنا منه فنزع العمامة عن رأسه بقضيب

في يده فقرعه قرعة وقال لرجل من جلسائه ضم إليك هذا العِلْج ولا تفارقه حتى

يقرأ القرآن. فقام إليه آخر فقال يا أمير المؤمنين اقض دَيني، فقال له أتقرأ القرآن؟

قال نعم فاستقرأه عشرًا من الأنفال وعشرًا من براءة فقرأ، فقال: نعم نقضي دينك

وأنت أهل لذلك. فأنت ترى أن الوليد يعد من لا يقرأ القرآن عِلْجًا والمؤلف يعد

الوليد علجًا.

فأما ما ذكره المؤلف من أقوال الحجاج وخالد القسري وأنهما كانا يُفضلان

الخلافة على النبوة فمع أن أكثر هذه الأقوال مأخوذ من العقد الفريد وهو من كتب

المحاضرات لسنا نحتاج إلى الذب عن الحجاج وخالد فإنهما من أشرار الأمة حقًّا،

ولكن كم لنا من أمثال هؤلاء الملاحدة في الدولة العباسية كالعجاردة وابن الرواندي

الذي عمل كتابًا رد فيه على القرآن وسماه بالدامغ، فإذا كان العباسيون مسئولين

عن أوزار هؤلاء عند المؤلف فكذلك بنو أمية. وإن كان عبد الملك والوليد

يرتضيان بسوء أعمال الحجاج فمعلوم أن غيرهما من بني أمية كانوا ناقمين عليه

كافة حتى أن هشامًا قال (هل الحجاج استقر في جهنم أو يهوي إلى الآن) ولما

وصل إلى هشام أن خالدًا القسري استخف بامرأة مؤمنة عزله من الإمارة وسجنه

كما ذكره ابن خلكان.

والحاصل أن المؤلف لو خص رجلاً أو رجلين من بني أمية بالمطاعن لاعترفنا

به، ولكن من سوء مكيدة المؤلف أنه يجعل الفرد جماعة والفذ توءمًا

والنادر عامًا والشاذ مطردًا.

جور بني أمية

سمعنا بمظالم بختنصر، وأحطنا علمًا بشنائع جنكيز خان، واطلعنا على ما

جنته أيدي التتر، فوالله - لو صدق المؤلف - هم ما كانوا أشد قسوة ولا أفظع

أعمالاً ولا أسفك دماء ولا أجمع لأنواع الفتك من بني أمية.

قال المؤلف (حتى في أيام معاوية فإنه أرسل بسر بن أرطاة وأرسل معه

جيشًا ويقال: إنه (أي معاوية) أوصاهم أن يسيروا في الأرض ويقتلوا كل من

وجدوه من شيعة علي ولا يكفوا أيديهم عن النساء والصبيان (الجزء الرابع صفحة

82) .

قبل أن أكشف عن جلية الأمر لا بد من تقديم مقدمة، وهي أن المؤلف مدح

بني العباس وجعل أعمالهم مناطًا للعدل ودلالة على الرفق فقال:

(ولا غرابة فيما تقدم من عمران البلاد في ظل الدولة العباسية فإن العدالة توطد

دعائم الأمن، وإذا أمن الناس على أرواحهم وحقوقهم تفرغوا للعمل فتعمر

البلاد ويرفه أهلها ويكثر خراجها (الجزء الثاني صفحة 81) .

وعلى هذا إذا وجدنا بني أمية معادلين لنبي العباس في جميع أعمالهم سواء

بسواء كان اختصاصهم بالذم دون بني العباس جورًا فاحشًا وميلاً عظيمًا. ثم إن

هناك أمرًا آخر وهو أن المؤرخين بأسرهم كانوا في عصر بني العباس ومن المعلوم

أنه لم يكن يستطيع أحد أن يذكر محاسن بني أمية في دولة العباسيين، فإذا صدر

من أحد شيء من ذلك فلتة كان يقاسي قائلها أنواعًا من الهتك والإيذاء ووخامة

العاقبة، وكم لنا من أمثال هذه في أسفار التاريخ. ومع أننا نفخر بأن مؤلفي الإسلام

كانوا أصدق الناس رواية وأجرأهم على إظهار الحق ما كان يمنعهم عن بيان

الحقيقة سلطة ملك ولا مهابة جائر، ولكن مع ذلك فرق بين تعمد الكذب والسكوت

عن الحق، ولذلك نعتقد أنهم ما قالوا شيئًا افتراء على بني أمية ولكن إن قلنا:

إنهم كثيرًا ما سكتوا عن محاسنهم فذلك شيء لا يدفع وليس فيه غض منهم.

أما بنو العباس فكانوا في عصرهم ولاة البلاد، وملاك رقاب الناس، رضاهم

الحياة، وسخطهم الموت، فالوقيعة فيهم والأخذ عليهم ما كان يمكن إلا بعد

مخاطرة النفس والاقتحام في الهلاك ونصب النفس للموت.

رجعنا إلى قول المؤلف: إن معاوية أمر بقتل النساء والصبيان اعلم أن هذه

الواقعة أي إرسال (بسر بن أرطاة) إلى شيعة علي من أشهر الوقائع المذكورة في

سائر كتب التواريخ، وليس في أحد منها قتل النساء والصبيان بل فيها ما يخالف

هذه الرواية قال المؤرخ اليعقوبي: (ووجه معاوية بسر بن أرطاة وقيل: ابن أبي

أرطأة العامري من بني عامر بن لؤي في ثلاثة آلاف رجل فقال له: سر حتى تمر

بالمدينة فاطرد أهلهم وأَخِفْ من مررت بها وانهب مال من أصبت له مالاً ممن لم

يكن دخل في طاعتنا وأوهمْ أهل المدينة أنك تريد أنفسهم وأنه لا براءة لهم عندك

حتى تدخل مكة ولا تعرض فيهما لأحد وأرهب الناس فيما بين مكة والمدينة ثم

امض حتى تأتي صنعاء فإن لنا بها شيعة وقد جاءني كتابهم. فخرج بسر فجعل لا

يمر بحي من أحياء العرب إلا فعل ما أمره معاوية (اليعقوبي طبع أوربا صفحة

231 من الجزء الثاني) .

فترى في هذه العبارة أنه لم يكن هناك إلا تخويف وتهديد وإيهام. ولما رأى

المؤلف أن المصادر التاريخية الموثوق بها لا يوجد فيها ما يوافق هواه جنح إلى

الأغاني ونقل أمر معاوية بقتل النساء والصبيان ثم اعتذر عن معاوية بأن المظنون

خلاف ذلك لحلمه ودهائه، والظن أن معاوية أطلق يد بسر ولم يعين له حدودًا وكان

بسر سفاكًا للدماء فلم يستثن طفلاً ولا شيخًا.

قد قلنا: إن الأغاني من كتب المحاضرات، فإذا كان الأمر هينًا والحديث

فكاهة أو تسللاً من كد العمل إلى استراحة فلا بأس به وبأمثاله أما إذا كان الأمر ذا

بال وكانت الواقعة معترك الاختلاف ومتعفر الأهواء رافعًا لشأن أو هادمًا لأساس

فأمثال هذه الكتب لا يؤذن لها ولا يلتفت إليها مطلقًا.

ثم إن الرجل (أي صاحب الأغاني) شيعي إذا جاءه شيء مما يشين معاوية

ويدنسه وجد في نفسه ارتياحًا إلى قبوله، ولو كان من أوهن الأحاديث وأكذبها.

نعم إن بسر بن أرطاة قتل طفلين ولكن القتل لم يتجاوز الاثنين [1] فأين هذا

من قول المؤلف:

وكان بسر سفاكًا للدماء فلم يستثن طفلاً ولا شيخًا.

قال المؤلف (فإذا كان هذا حال العمال في أيام معاوية مع حلمه وطول أناته

فكيف في أيام عبد الملك مع شدته وفتكه فهل يستغرب ما يقال عن فتك الحجاج

وكثرة من قتلهم صبرًا، ولو كانوا 120000 (الجزء الرابع صفحة 83) .

نعم قتل الحجاج مئة ألف أو مائتين ولكن أين هذا من صنيعة أبي مسلم

الخراساني القائم بدعوة بني العباس المؤسس لدولتهم فإنه قتل صبرًا بدون حرب ما

يبلغ ستمائة ألف، وقد اعترف به المؤلف في هذا التأليف نفسه (الجزء الثاني

صفحة 112) والمؤلف ينتحل لذلك عذرًا ويحسبه من طبيعة السياسة. فالحجاج

أحق بالعذر وأجدر بالعفو، فإن الحجاج عربي قح طبعه الجفاء والقسوة. أما أبو

مسلم فعجمي تربى في حجر التمدن، وغذي بلُبان الظرف ودَماثة الأخلاق (! !) .

أما قوله إن عبد الملك كان أشد وطأة منه (أي من الحجاج) فلم يأت عليه

بشاهد غير غدره بعمر بن سعيد، وأين هذا من غدر المنصور العباسي بأبي مسلم

الذي هو رب الدولة العباسية، ولولاه لما قامت للعباسيين قائمة، ولا كان لهم ذكر،

وكذلك غدر المنصور بابن هبيرة.

وغاية ما يقضي منه العجب أن المؤلف بعدما ذكر فتك بني أمية بقوله: (وقد

نفعتهم هذه السياسة (أي سياسة الفتك) في تأييد سلطانهم (قال) : صارت سُنَّة

من مَلَك بعدهم من بني العباس وغيرهم وأنت تعلم أن المؤلف يبرئ ساحة العباسية

من الجور والظلم فضلاً عن الفتك، فهل هذا تناقض في القول أو أراد بهم نفعًا

فضرهم من حيث لا يعلم؟ لا والله لا هذا ولا ذاك، بل هي من مكايد المؤلف التي

لا يهتدي إليها إلا فطن خبير لطوية الرجل وكامن ضغنه.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

اليعقوبي طبع أوروبا صفحة 311 من الجزء الثاني.

(2)

الجزء الثاني من اليعقوبي صفحة 311.

(3)

الجزء الثاني صفحة 258.

(4)

المنار: في هذا النفي بل فيما أورده الناقد في هذه المسألة نظر فقد نقل الحافظ في الإصابة عن ابن يونس أن معاوية وجه بسرًا إلى اليمن والحجاز سنة أربعين (وأمره أن ينظر من كان في طاعة علي فيوقع بهم ففعل) فهذا كلام المحدثين لا الشيعة وأهل المحاضرة، وقد أشار في الإصابة إلى أنه لا ينبغي التشاغل بأخبار بسر الشهيرة في الفتن أي لما قيل من أن له صحبة وهل يعقل أن يكون إيقاعه بالمطيعين لعلي قاصرًا على قتله طفلي ابن عباس رضي الله عنهما؟ ؟ .

ص: 121