المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](6) - مجلة المنار - جـ ١٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (15)

- ‌المحرم - 1330ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس عشر

- ‌ذكرى الهجرة النبوية الشريفةوجعلها تاريخًا عامًّا للبشر

- ‌علاوة للمقالة

- ‌نقل كلام المخالفين أو المبطلين

- ‌أسئلة من الهند

- ‌أموال الشركات الأجنبية في بلادناوحقوق المعاهدين

- ‌الدخول في الماسونية

- ‌المسألة الشرقية

- ‌ المسألة الشرقية

- ‌خاتمة المقالات.. شجون ومحاورات

- ‌القرابين والضحايا في الأديان

- ‌إنا لله وإنا إليه راجعون [

- ‌صفر - 1330ه

- ‌السيد حسين رضا(1)

- ‌الدولة العلية واليمن

- ‌دعوة سيدي أحمد الشريف السنوسيإلى جهاد الإيطاليين في طرابلس الغرب وبرقة

- ‌اللغة العربية

- ‌الجامعة الإسلامية [*]

- ‌الصلح بين الدولة والإمام

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌ربيع الأول - 1330ه

- ‌الوفاق بين الإسلام والنصرانية

- ‌الاجتهاد والتقليد

- ‌اللغة العربية [*]

- ‌العالم الإسلامي [

- ‌أخبار العالم الإسلامي

- ‌الدين كله من القرآن [*]

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع الآخر - 1330ه

- ‌المقالة الثانيةمن المقالات الروسية عن تركستان

- ‌عراف

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](1)

- ‌التقريظ والانتقاد [*]

- ‌جمادى الأولى - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](2)

- ‌أخبار العالم الإسلامي

- ‌المطبوعات الجديدة [*]

- ‌جمادى الآخرة - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](3)

- ‌رجب - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](4)

- ‌فرنسة في تونس وإنكلترة في مصر

- ‌السكة الحديدية في الحجاز [*]

- ‌طريقة السنوسيةوزواياها بين الإسكندرية ودرنة [*]

- ‌أهمية الإسلام

- ‌ ابن تيمية ولوتر

- ‌فوائد صحيةغذاؤنا في الصيف [*]

- ‌أسرار الثورةأوخواطر ساعة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌التقاريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1330ه

- ‌التربيةووجه الحاجة إليها وتقاسيمها

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](5)

- ‌نهضة آسيوية

- ‌الشعر العصري

- ‌رمضان - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](6)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌مجلة العالم الإسلامي الفرنسية

- ‌التقاريظ

- ‌كامل باشاآراؤه السياسية منذ 24 عامًا

- ‌شوال - 1330ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الجامعتان الإسلامية والعثمانية [*](1)

- ‌بشائر عيسى ومحمد [*]في العهدين العتيق والجديد(7)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ذو القعدة - 1330ه

- ‌الحرب الصليبية في البلقان

- ‌السبحةتاريخها والتسبيح والذكر بها

- ‌حديث في استلزام المغفرة للذنوب

- ‌أسئلة من القوقاس

- ‌الجامعتان الإسلامية والعثمانية(2)

- ‌نظرة في الجزء الثاني من كتابتاريخ آداب اللغة العربية [*](2)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌ذو الحجة - 1330ه

- ‌اتخاذ الصور والتصوير الشمسي

- ‌فتاوى المنار

- ‌ميزان الجرح والتعديل [*](2)

- ‌خطبةافتتاح الاجتماع السنوي العام لجماعة الدعوة والإرشاد

- ‌حقيقة أحوال مسلمي جاوه

- ‌بعد تسعة قرون [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌خاتمة السنة الخامسة عشرة

الفصل: ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](6)

الكاتب: محمد توفيق صدقي

‌بشائر عيسى ومحمد في العهدين

العتيق والجديد [*]

(6)

استدراك على الفصل الأول

وعلى نبوة دانيال المذكورة في صدر هذه الرسالة

جاء في دائرة المعارف الإنكليزية مجلد 13 ص 427 و428 في حرب

الرومان مع اليهود ما محصله (أن اليهود عصوا الرومان وخرجوا عليهم؛ فأرسل

الإمبراطور (نيرو) أحسن قواده (فسباسيان) وهو (أبو طيطس) لمقاتلتهم

وإخضاعهم. فبدأ (فسباسيان) الحرب معهم في (الجليل) في ربيع سنة 67

ميلادية. وفي سنة 70 حوصرت أورشليم تحت قيادة (طيطس) ودارت رحى

الحرب فيها إلى أن تم تخريبها وإحراق هيكلها في شهر أغسطس من هذه السنة.

ولكن لم تخضع جميع اليهود تمامًا وينتهِ عصيانهم ومقاومتهم للرومان إلا في سنة

73 ميلادية) اهـ. باختصار، ومن ذلك يتبين أن الحرب الحقيقية ابتدأت وانتهت

في ظرف سبع سنين وبطلت الذبيحة والتقدمة في وسطها (أي في وسط هذا

الأسبوع من السنين) .

وفي هذه المدة كان كثير من كبراء اليهود وعظمائهم يخالفون باقي قومهم في

هذه الحرب، فمالوا إلى جانب الرومان وخرجوا إليهم وأظهروا لهم الطاعة والبقاء

على موالاتهم وعهدهم، فأمَّنوهم ولم يصيبوهم بأذى مدة هذه الحرب حتى انتهت

وهم مسالمون معاونون للرومان والرومان مسالمون لهم. ومن هؤلاء (يوسيفوس)

المؤرخ اليهودي الشهير فقد كان مع (طيطس) ونصح قومه كثيرًا بالخضوع

والطاعة. فهذا هو المراد بقول دانيال فيما سبق 9: 27 (ويثبت أي جيش

الرومان كما يفهم من السياق عهدًا مع كثيرين وهم كبراؤهم الذين فروا منهم في

أسبوع واحد وفي وسط الأسبوع أي سنة 70 يبطل الذبيحة والتقدمة) بإحراق الهيكل

وتدميره وتشتيتهم.

وقوله 9: 26 (يقطع المسيح وليس له) وجدنا أن الترجمة الصحيحة

لأصله العبري (ينقطع المسيح ولا يكون له شيء) أو (لا يبقى له أحد) ومثل

ذلك ترجم في بعض التراجم الإنكليزية والأمريكانية وهو عين ما قلناه سابقًا من أن

معناه: ينتهي ملكهم وينقطع مسيحهم بعد نحميا ولا يبقى له شيء من القوة والملك

والسلطة أو النسل والخلافة بل ينمحي محوًا تامًّا وتزول دولتهم، وقد كان ذلك فلم

يعد ملكهم القديم وزال ما عاد لهم من مجد منذ ذاك الحين.

وعليه فهذه النبوة لا علاقة لها مطلقًا بمسألة الصلب المزعوم حتى لو حملت

على المسيح عيسى، كما لا يخفى على المتأمل.

ومما يؤيد عقيدة المسلمين في المسيح وعدم صلبه وعدم ألوهيته من كتب

اليهود والنصارى ما جاء في الإصحاح 49 من كتاب أشعياء وهو باعترافهم نبوة

عن المسيح قال 2 (.. .. . في ظل يده خبأني وجعلني سهمًا مبريًّا. في كنانته

أخفاني 3 وقال لي: أنت عبدي إسرائيل الذي به أتمجد 4.. .. . لكن حقي عند

الرب وعملي عند إلهي 5 والآن قال الرب جابلي من البطن عبدًا له.. .. . وإلهي

يصير قوتي 7 هكذا قال الرب فادي إسرائيل قدوسه للمهان النفس لمكروه الأمة

لعبد المتسلطين ينظر ملوك فيقومون. رؤساء فيسجدون _ إلى قوله - 8 في وقت

القبول استجبتك. وفي يوم الخلاص أعنتك فأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب) وهو

صريح في أن المسيح عبد لله، وأنه سيحميه ويجيب دعاءه وينجيه ويحفظه، وقوله

(رؤساء فيسجدون) المراد به سجود الإكرام والتعظيم والخضوع كما قال في حق

سليمان مز 72: 11 (ويسجد له كل الملوك) وقد سجد مثل هذا السجود موسى

عليه السلام لحميه يثرون (خر 18: 7) وبنو الأنبياء لا ليشع (2 مل 2: 15) .

وقال في مزمور 91: 9 (لأنك قلت أنت يا رب ملجأي جعلت العُلى

مسكنك 10 لا يلاقيك شر. ولا تدنو ضربة من خيمتك 11 لأنه يوصي ملائكته

بك لكي يحفظوك في كل طرقك 12 على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك

13 على الأسد والصل تطأ. الشبل والثعبان تدوس 14 لأنه تعلق بي أنجيه.

أرفعه؛ لأنه عرف اسمي 15 يدعوني فأستجيب له. معه أنا في الضيق. أنقذه

وأمجده 16 من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي) وكون هذا المزمور في حق

المسيح يفهم من إنجيل مَتَّى (4: 6 - 8) وإذا كان المراد بالرفع هنا الرفع

الجسداني كما يؤيده قوله (من طول الأيام أشبعه) فله مثيل عندهم في غير

المسيح، فقد رفع أخنوخ (نك 5: 24 وعب 11: 5) وكذلك إيليا (2 مل 2:

11) .

وجاء في المزمور 109 (وأوله في حق يهوذا الاسخريوطي كما قيل في

سفر الأعمال 1: 20) قوله عن لسان المسيح بعد أن تكلم على يهوذا وغيره من

أعدائه 21: (أما أنت يا رب السيد فاصنع معي من أجل اسمك. لأن رحمتك

طيبة نجني 2 فإني فقير ومسكين أنا وقلبي مجروح في داخلي 25 وأنا صرت عارًا

عندهم ينظرون إليّ وينغضون رءوسهم (انظر أيضًا متى 27: 39) 26 أعني يا

رب إلهي. خلصني حسب رحمتك 27 وليعلموا أن هذه هي يدك. أنت يا رب

فعلت هذا 28 أما هم فيلعنون. وأما أنت فتبارك. قاموا وخزوا. أما عبدك فيفرح

29 ليلبس خصمائي خجلاً، وليتعطفوا بخزيهم كالرداء 30 أحمد الرب جدًّا بفمي

وفي وسط كثيرين أسبحه 31 لأنه يقوم عن يمين المسكين ليخلصه من القاضين

على نفسه) وهو صريح في أن الله نجى المسيح عليه السلام من القاضين عليه،

وأن يهوذا وقع فيما دبره لسيده كما أشار داود إلى ذلك في هذا المزمور

بقوله 109: 7 (إذا حوكم فليخرج مذنبًا وصلاته فلتكن خطيئة) إلخ إلخ.

وقال في مزمور 34: 17 (أولئك صرخوا والرب سمع ومن كل شدائدهم

أنقذهم 18 قريب هو الرب من المنكسري القلوب ويخلص المنسحقي الروح 19

كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب 20 يحفظ جميع عظامه واحد منها

لا ينكسر 21 الشر يميت الشرير ومبغضو الصديق يعاقبون) فهذه العبارات هي

باعترافهم في حق المسيح كما في يو 19: 36 وهي صريحة في نجاة المسيح،

وخلاصه من كل البلايا والمصائب، وفي عقاب أعدائه ومبغضيه وقوله فيها:

(يحفظ جميع عظامه واحد منها لا ينكسر) أدل على قولنا بعدم الصلب منه على

قولهم بالصلب؛ لأن الصلب عادةً يستلزم تفتيت عظام اليدين والقدمين وهو شيء لا

يمكن توقيه في الصلب ولا بالتعمد والحذر الشديد؛ فكيف إذا لم ينكسر واحد من

عظامه؟ فالحق أن المراد من هذه العبارة أن الله يحفظ جسمه كله ويصونه من كل

أذى بليغ فهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل. أما إذا صح أنه صلب فأي أذًى

أعظم من ذلك؟ وما معنى قوله: إنه ينقذه وينجيه ويخلصه من كل البلايا، فأي

بلية أعظم من الصلب والقتل؟ وإذا كان المراد أنه يصلب حتى يموت ولكن لا

ينكسر عظم من عظامه، فما فائدة ذلك وما وجه البشارة به؟ وهل يتفق هذا مع

قوله: ينقذه ويخلصه وينجيه؟ فمن أي شيء نجاه إذًا؟

وقال المسيح عليه السلام لما أرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خدامًا ليمسكوه

(يو 7: 33) (أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد ثم أمضي إلى الذي أرسلني 34

ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا) وهو صريح

في أنهم لن يجدوه ولن يقبضوا عليه.

ومما يدلك على قدرته عليه السلام على التشكل بأشكال مختلفة والاختفاء عن

عين الناس قول مرقس 16: 12 (وبعد ذلك ظهر بهيئة أخرى) وقول لوقا:

24: 15 (اقترب إليهما يسوع نفسه، وكان يمشي معهما 16 ولكن أمسكت

أعينهما عن معرفته) وجاء في لوقا 24: 42 و43 قوله بعد قيامة المسيح

المزعومة (فناولوه جزءًا من سمك مشوي وشيئًا من شهد عسل، فأخذ وأكل

قدامهمم) وهو يدل على أنه قام بعين جسده المادي الذي كان به قبل الصلب، وإذا

كان يقدر أن يختفي به بعد قيامته كما قال لوقا (24: 31) فأي مانع يمنع من

اختفائه به قبل الصلب وهو هو؟ على أنه كان يختفي فعلاً قبل الصلب كما قال

يوحنا، وكان يمشي في وسط اليهود بدون أن يروه (يو 8: 59) راجع أيضًا

(يو 10: 39) ومثله ورد في لوقا (4: 30) .

وقال عليه السلام أيضًا يو 16: 32 (هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن

تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الأب

معي 33 وقد كلمتكم بهذا ليكون لكم فِيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق. ولكن

ثقوا أنا قد غلبت العالم) وهو بشارة من المسيح لتلاميذه بأن الله سينجيه وينقذه؛

وإلا فهل يصح أن من كان الله معه ومن غلب العالم يغلبه اليهود ويصلبونه رغمًا

عن إرادته كما بيناه في صفحة 80؟ وكيف يتفق هذا القول مع قول المصلوب كما

في متى 27: 46 (إلهي إلهي لماذا تركتني) مع أن الأول صريح في أن الله لم

يتركه؟

هذا وقد أنكر الصلب كثير من فرقهم في مبدأ النصرانية أي قبل الإسلام

بسنين عديدة منهم السيرنثيين (Cerinthians) والباسيليديين

(Basilidians) والكاربوكراتيين (Carpocratians) والناتيانوسيين أتباع

ناتيانوس تلميذ يوستينوس الشهيد الشهير، وغيرهم كثيرون، وكثير من فرقهم

القديمة أيضًا كانوا موحدين منكرين لألوهية المسيح وأشهرهم (الأريوسيون)

(Arians) ومنهم كان الإمبراطور (قسطنطين) أول قياصرة الرومان المسيحيين

(وكذلك أمم الطيطون) أي (الجرمانيين) ولا تزال منهم طائفة كبيرة في أوربا

يسمون الموحدين (Unitanians) إلى اليوم. وقال فوتيوس (Photius) : إنه

قرأ كتابًا يسمى (رحلة الرسل) فيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وتوما وبولس

ومما وجده فيه هذه العبارة (إن المسيح لم يُصلب ولكن صُلب غيره وقد

ضحك بذلك من صالبيه) أي الذين ظنوا أنهم صلبوه.

وقد ذكرنا أكثر هذه الفرق المنكره للصلب في كتابنا (الخلاصة البرهانية على

صحة الديانة الإسلامية) وفي كتاب (الدين في نظر العقل الصحيح) .

واعلم أن الذين قبضوا على المسيح ما كانوا يعرفونه؛ ولذلك أخذوا معهم

يهوذا ليدلهم عليه وأعطاهم علامة (متى 26: 47 - 50 ومرقص 14: 43 -

46 انظر أيضًا أع 1: 16) فكان دليلهم الوحيد هو يهوذا كما يفهم من جميع

نصوص العهد الجديد وخصوصًا التي أشرنا إليها، وقد كان القبض عليه ليلاً كما

يفهم من سياق القصة في جميع الأناجيل (انظر متى 26: 31 و34 و75 و27:

1 ومر 14: 27 و38 - 42 ولو 22: 53 و66 ويو 18: 3 و27 و28) .

ويظهر من إنجيل يوحنا أنه حصل لهم حينما أرادوا القبض عليه هيبةً منه

حتى أغمي عليهم وسقطوا على الأرض (يو 18: 6) وما كان هيرودس يعرفه،

ولم يجب المقبوض عليه هيرودس بشيء (لو 23: 8 و9) فهنا أيضًا موضع

آخر للشك.

وكان بيلاطس هو وامرأته يريد إنقاذ المسيح (متى 27: 15 - 25 ولوقا

23: 13 - 25) فيجوز أنه غشهم وأطلق لهم غيره وخصوصًا لأن رؤساءهم

وكذا القابضين عليه ما كانوا يعرفونه كما سبق وكان بيلاطس يعتقد أنه بريء من

كل ما نسب إليه (متى 27: 24)

وإذا كان من معجزات بطرس تلميذ المسيح النجاة من السجن (أع 12: 6 -

10) وكذلك بولس وسيلا (أع 16: 25 و26) فهل من البعيد أن يكون المسيح

عليه السلام أُنقذ من السجن كما أنقذت أتباعه، أو أنه هرب منه أو أن بيلاطس

أبدله بغيره فظنوه هو وهو ليس المسيح، فذهب إلى موضع آخر كما ذهب بطرس

بعد السجن (أع 12: 17) وهناك توفاه الله أو رفعه إليه، فلم يجدوه كما قال عليه

السلام (يو 7: 34) وكما لم يجد الخمسون الرجل إيليا بعد رفعه (2 مل 2:

17) وكما لم يعرف أحد مكان موسى بعد موته (تث 34: 6)

فانظر هداك الله إلى هذه النصوص وتدبرها بعين البصيرة تجد أنها كلها تؤيد

عقيدة المسلمين في المسيح عليه السلام، وتنقض عقيدة النصارى فيه ولكنهم

يتعسفون في تأويلها ويتكلفون كما هي عادتهم.

ومن العجيب أنهم يتركون مثل هذه النصوص والنبوات السابقة الفصيحة

الصريحة، ويتمسكون بعبارات من نبوات غيرها مبهمة وقابلة لكل تأويل وهي

ليست نصًّا في عقائدهم، ولا تنهض لهم بها حجة كما أريناك في هذا الكتاب هداهم

الله إلى الحق والصواب.

***

الفصل الرابع

في بشائر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته

تمهيد:

اعلم أن تغيير حال أمة كالأمة العربية وإحياءها وإحياء أمم الأرض بها وقلب

نظاماتها وصبغاتها وإصلاح جميع أحوالها وأمورها وإخراجها من الفساد والاختلال

والفوضى برجل كمحمد صلى الله عليه وسلم في حاله ونشأته وفقره ويتمه وأميته،

وبتلك السرعة العجيبة في ذلك الزمن القصير أمر لهم يعهد له مثيل في تاريخ البشر

وليس له نظير، فهو من أعجب العجائب وأغرب الخوارق.

رجل فقير يتيم أُمِّيٌّ بعيد عن العلم والعلماء في ناحية من الأرض بعيدة عن

كل نظام ومدنية، ناشئ في الهمجية وبين أهل له وأقارب عريقين في الجهل والكفر

والوثنية فأوجد وحده من الجهل علمًا، ومن الفساد نظامًا، ومن الكفر إيمانًا، ومن

الشرك توحيدًا، ومن التشبيه تنزيهًا، ومن التفرق اتحادًا، ومن التخاذل ائتلافًا،

ومن الضعف قوةً، ومن الهمجية مدنية، وهو في كل ذلك الليث الغضنفر والقائد

المحنك، والخطيب المصقع، والبليغ المعجز، والسياسي الحاذق، والمنبئ

الصادق، والشارع الحكيم، والمعلم الماهر، المخبر لقومه بما لم يعلموه وما لم

يتلفتوا إليه، والتقي الورع، والزاهد الناسك العابد، والمتمتع بالحلال، والمتلذذ

بالطيبات، والرءوف الرحيم، والقاسي على الظالمين، ومثال الأدب والتهذيب،

والرقة والكمال، والجمال والنظافة، والأعمال الصالحة، والإيمان الصادق

الصحيح، والمصلح الأكبر لأمته ولسائر العالم؛ إني والله لا أدري ماذا أقول،

وكيف أصفه، وبماذا أعبر عنه بما يخالج قلبي فيه؛ فهو الإنسان الكامل الجامع

للأضداد والمتناقضات، والذي يجد فيه كل طالب ما يشتهيه، والقدوة الحسنة في

كل شيء، والمثال الصالح الوحيد في كل صفة أو خلق أو عمل {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ

فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) .

ألا ترى أنه أوجد من العدم أمّة حملت لواء العلم والعز، والمجد والمدنية

الصحيحة، والحرية والإخاء والمساواة إلى أمم الأرض قاطبةً؟ مع شدة الحاجة إلى

بعثته في ذلك الزمن الذي ساد فيه الاختلال والفساد والكفر والظلم والاستبداد وسوء

الحال والجهل؛ فغيرت وجهَ الأرض، وقلبت نظامات الأمم، وصبغتها بصبغتها

في اللغة والدين والأخلاق في سنين قليلة، وبسرعة خارقة للعادة.

انظر إلى دول هذا العصر مع عظمتها وقوتها وعلمها وأموالها واقتدارها، كيف

عجزت عن صبغ محكوميها بصبغتها في الدين واللغة والجنس والأخلاق، مع

صرف كل مجهوداتها ومعلوماتها وأموالها واقتدارها في ذلك؛ فلم تزد الناس منها إلا

نفورًا وسخطًا وبغضًا مع مضي المدد الطويلة عليها وتسلطها على جميع مصادر حياة

تلك الأمم فلم تنل منها مع قوتها في السنين العديدة ما ناله العرب مع ضعفهم في

السنين القليلة؟

فمحمد صلى الله عليه وسلم الذي أوجد تلك الأمة، وذاك الدين، وتلك الدول

الآخذة بتعاليمه المتأثرة بأقواله وأفعاله إلى اليوم، والذي له أكبر سلطان على نفوس

الملايين من البشر، أيكون له كل هذا الاقتدار وذاك السلطان مع مرور الأعوام

والدهور ودينُهُ لا يزداد إلا انتشارًا - أيكون كل ذلك بدون عون إلهي ومدد رباني؟

نَبِّئُونِي بعلم إن كنتم صادقين. أي نظير له بين البشر؟ أي مثال له بين

الناس؟ ولماذا كان متفردًا وخارقًا للعادة في كل شيء؟ أي مصلح قام بين البشر

وكان مثله في حاله ونشأته، وكانت أمته كأمته العربية البدوية الأمية وكان منه ما

كان من محمد صلى الله عليه وسلم في العالم وبسرعة عجيبة كهذه أو دام عمله في

الأرض إلى اليوم؟ ولماذا خاب كل مُدَّعٍ للنبوة مِن بَعْدِهِ وفشل - تصديقًا لقوله عن

نفسه: إنه خاتم النبيين -؟ فيا أيها المؤرخون المفكرون والباحثون المتدبرون في

أحوال الاجتماع وطبائع البشر: لماذا كان محمد شاذًّا فذًّا في جميع أعماله دون سائر

البشر؟ ولماذا كانت له تلك القدرة العجيبة، والسلطان السريع، والتأثير المدهش

في أمم الأرض قاطبةً من قبل ومن بعد إلى قيام الساعة؟ وكيف نعلل ذلك تعليلاً

معقولاً صحيحًا بغير الاعتقاد بصدقه.

أليس عمله في قلب الأمة العربية وبعثها من الموت إلى الحياة بسرعة مَن

يقول للشيء: كن، فيكون أبلغ مِن قلب موسى العصا حيةً، ومن إحياء عيسى

ثلاثةَ أموات؟ ؟ وأيهما أدل وأليق بالنبوة؟ انظر إلى رجلين ادَّعَيَا عِلْمَ الطِّبِّ،

فأثبت أولهما علمه به بتأليفه فيه وبحسن علاجه ونجاحه وشفائه للمرضى في أقرب

وقت، وأثبت الثاني دعواه علم الطب بألعوبة كألاعيب المشعوذين بأن رمى بحبل

إلى السماء، ثم تعلق به وصعد عليه؛ فأيهما أتى بما يناسب دعواه، وما العلاقة

بين الطب وبين تلك الألاعيب؟ نعم، قد يندهش البسطاء ويصدقون الثاني الذي

أدهشهم وحيرهم بألاعيبه وعجائبه، ولكن لا يكون تصديقهم هذا مبنيًّا على برهان

عقلي منطقي صحيح.

كذلك الفرق بين محمد والأنبياء قبله، فمحمد أثبت دعواه بما يناسب مدعاه

والأنبياء الآخرون أتوا بما لا علاقة له بمدعاهم، ولكنه يدهش الناس ويحيرهم حتى

يذعنوا لهم ويهابوهم فيخضعوا {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَاّ تَخْوِيفاً} (الإسراء: 59) .

هذا؛ ولما كانت الأمم القديمة كالأطفال جاءهم الأنبياء بما يناسب عقولهم

ودرجة سذاجتهم، ولكن كان الجنس البشري قد بلغ رشده في عصر النبوة المحمدية،

ثم ارتقى بعده واستوى؛ فلذا جاءه بما يليق بعقول راقية، وينطبق على البرهان

المنطقي الصحيح؛ ولذلك تجد الناس الآن ينفرون من ذكر المعجزات الغابرة، وقل

في علمائهم من يود سماع أقاصيصها. ولا ينكر الترقي التدريجي للبشر إلا المكابر

المعاند، ويغنينا عن إثبات ذلك أنه صار الآن عقيدة من عقائد جميع العلوم الحديثة،

نعم كان لتلك الأمم درجات من المدنية، ولكنها دون مدنية العرب ومدنية الإفرنج

بمراحل.

خذ مقياسًا لعقول أمة موسى، كيف كانوا بين حين وآخر يرتدون ويعبدون

الأصنام، ولعقول أمة عيسى كيف حولوا دينه الصحيح - دين التوحيد والتنزيه -

من قديم الزمان إلى وثنية لا تختلف عن وثنيات الأمم المجاورة لهم في شيء تلك

الوثنية المُشَاهَدَة الآن في جميع عقائد النصرانية وعباداتها وتعاليمها وعبارات كتبها

حتى نفرت أهل العلم من الدين كله في أوربة لجهلهم بالإسلام، فظنوا أن جميع

الأديان كالنصرانية، فخرجوا منها إلى ما يسميه القسيسون بالإلحاد وما هو إلا ميل

الفطرة البشرية السليمة إلى الدين الحق دين التوحيد والتنزيه والعقل وحب الخير

وبُغْض الشر، فظنهم الناس كافرين وما هم في الحقيقة إلا مؤمنون، ولكن بعقائد غير

عقائدهم تنطبق على العلم والعقل الصحيح.

ارجع بنا إلى القرون المسيحية الأولى تَرَ الناس تضاربت عقائدهم وأفكارهم

في كافة أصول الدين الأساسية، وكثرت مذاهبُهم فيها، وتعددت ومزجت

النصرانية بالفلسفات القديمة مزجًا أضاع حقيقتها حتى ذابت فيها، ولم يرق للناس

في تلك الأزمان - لقصر عقولهم - إلا الشرك والتجسيم وعبادة الصور والصلبان

والتماثيل.

وكلما قام فيهم موحد أو مصلح حكموا بكفره ومروقه، حتى أُريقت دماء العالمين

بسبب ذلك ظلمًا وعدوانًا، وتبدل دين المحبة والوفاق إلى بغض وشقاق، وانصدع

بنيان الكنيسة المسيحية من قديم الأزمان.

قام أريوس بالتوحيد، ووافقه على ذلك بعض الأساقفة والإمبراطور قسطنطين

نفسه - كما قلنا - ثم وجد له من أمم الجرمانيين أتباع عديدون، ولكن ميل جمهور

الناس في ذلك الزمن إلى الشرك والوثنية حمل أكثر أعضاء مجمع (نيقية) سنة

325م على الحكم عليه بالزندقة والمروق، وتأصلت العداوة بين أتباعه وبين سائر

المسيحيين منذ ذلك الحين.

ولما فشت في الناس عبادة الصور والتماثيل، واشتدت حتى صارت جزءًا

من الدين قام بعض الناس - ومنهم القياصرة كليون الثالث - لمحقها وسموا إذ

ذاك (كاسري التماثيل)(Iconociasts) وكان ذلك في القرن الثامن والتاسع؛

فحكم البابا جريجوري الثاني والثالث بحرمانهم ومروقهم، ولَمَّا اجتمع مجمع

القسطنطينية سنة 842 كان أيضًا مضادًّا لهم، وفاز فيه العابدون لها مع نهي كتبهم

عن

عمل الصور والتماثيل وعبادتها والإشراك بالله تعالى نهيًا صريحًا لا يقبل التأويل

(انظر تث 4: 15 - 19 و6: 4 و13: 1 - 5)

فكان ذلك سببًا آخر من أسباب الشقاق بين المسيحيين.

ولما قام لوثر بالإصلاح البروتستنتي في القرن السادس عشر اشتعلت نار

الحروب بين المسيحيين، وخضبت الأرض بدماء الألوف من الأبرياء المصلحين

في مثل مذبحة اليهود غينوز (Huguenots) بفرنسة سنة 1572 ميلادية، ومع

رقي البشر الآن ووجودهم في عصر النور والعلم ترى التثليث منتشرًا بين جميع

فرق المسيحيين إلا قليلاً من الموحدين (Unitanians) وكذلك عبادة الصور

والصلبان في الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية كما أقرتها مجامعهم القديمة التي

عليها التعويل في كل مسائل دينهم والحكم على كتبهم. ومن فرقهم القديمة من عبد

مريم العذراء وكانوا يدعون بالمريميين، ومنهم بعض أساقفة مجمع نيقية، وكان

الثالوث عندهم مركبًا من الآب والمسيح ومريم على أنهم ثلاثة آلهة ولا تزال صورة

مريم للآن في الكنائس الرومانية والشرقية يُسجد لها ويتقرب ويصلى لها، ويطلب

منها النصارى ما يشتهون، وهذا سبب نهي القرآن الشريف عن اتخاذها آلهة مع

الله تعالى عما يشركون (انظر سورة المائدة 5: 73 - 75 و116) لأن

نصارى العرب كانت تعبدها من دون الله.

من ذلك تعلم حكمة تشديد الشريعة الإسلامية في النهي عن التصوير واتخاذ

التماثيل وتعظيم القبور. وتعلم حاجة العالم في ذلك الوقت إلى الإصلاح العظيم

الذي جاء به الإسلام. راجع كتاب التوسل والوسيلة لابن تيمية يتضح لك منه أن

الإسلام سابق لكل إصلاح عملي ناجح، فأنَّى لمحمد ذلك لولا وحي الله؟ ولماذا شذ

عن العالم كله في ذلك الوقت الذي كانت فيه الأمم غارقة في عبادة الصور والتماثيل؟

ولماذا لم يتأثر عقله بما يراه عند قومه وأهله وأهل الكتاب، خصوصًا الذين

يزعم المبشرون أنهم معلموه مع أنه هو الذي جاءهم بالإصلاح قبل أن يعرفوه،

ونهاهم عن عبادة المسيح ومريم والصور والصلبان.

فكيف اقتنع بصحة عقيدته في التوحيد والتنزيه وهي مخالفة لِمَا كان عليه

جماهير الناس في العالم كله إلا أفرادًا قليلين؟ وكيف عرف أن الحق مع هؤلاء

دون أهله والأكثرين من قومه؟ وذلك منذ طفوليته قبل أن يكون للعقل مجال في

البحث والتفكير، ولماذا كان محمد هو السابق للعالم في إصلاح كل فساد في أمور

الناس الاجتماعية دينيةً كانت أو دنيويةً إصلاحًا عمليًّا وناجحًا؟ فممن تعلم هذه

الطرق العملية الناجعة في سياسة الناس والتأثير فيهم والوصول إلى قلوبهم وعقولهم

حتى صاروا طوع إشارته في كل شيء، فملك نواصي العالمين وفاز في ذلك فوزًا

مبينًا لم يسبقه فيه أحد من المصلحين والنبيين؟

فإذا كان لوثر وغيره يعد الآن من كبار المصلحين، ألا يُعَدُّ محمد الذي ظهر

قبله في وسط الوثنية المحضة محاطًا بها من جميع الجهات، وأصلح كافة أمور

الناس وأحوالهم وأتى بالدين الحق والتوحيد الخالص - ألا يعد هذا أكبر مصلح ظهر

على الأرض؟

لذلك قال تعالى: 62: 2] هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ

يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا [1 {بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الجمعة: 2-3) وقال 21: 107 {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) .

لله الحمد! ! قد ظهر في الإفرنج الآن كثيرون ممن اهتدى إلى صواب جميع

ما أتى به عليه السلام، ومنهم من أسلم ظاهرًا وباطنًا بعد أن كانوا يعدونه من أكبر

الكذابين والدجالين لكثرة ما افتراه عليه قسيسوهم في تلك العصور المظلمة حتى إنهم

ادعوا أن لمحمد صنمًا من ذهب يعبده المسلمون، وهم الذين لا يعبدون إلا الله وحده،

ويصلون له خمس مرات في كل يوم، ويصيحون باسمه تعالى في كل وادٍ وفي كل

مرتفع، ويصومون له شهر رمضان في كل سنة.

الأنبياء الكذبة يُعرفون من ثمرة عملهم كما قال المسيح عليه السلام (متى 7:

16 -

20:) ولا يأتي الشرير بالخير والإصلاح للناس كافة، والله تعالى لا يؤيد

الكذابين الدجالين المضلين للناس (راجع مزمور 1: 6 و5: 6 ، 34: 16

ومز 37) فكيف إذًا أيََّد محمدًا صلى الله عليه وسلم حتى نجح في عمله هذا

النجاح الباهر العجيب السريع الذي لم يعهد له مثيل في التاريخ؟

رجل قام باسم الله ودعا الناس باسمه، وقال وعمل كل شيء باسمه ونسب

إليه تعالى كل عمل من أعماله، ولم يكذبه الله تعالى ولم يخذله أو يقتله كما فعل

بالكذابين، بل ثبته وأيده وقواه ونصره ونجحه في جميع مساعيه ومقاصده، وصدقه

في كل ما أخبر به عنه ورفع ذكره، وأعلى شأنه حتى صار اسمه يذكر بجانب اسم

الله على ألسنة الملايين من البشر في كل بقعة من الأرض؛ فهل يكون هذا من

الكذابين؟

ولماذا لم يقم الله تعالى واحدًا آخر غيره عمل مثل ما عمل ونجح مثل نجاحه.

أحصوا الملوك العظماء، والساسة الماهرين، والقواد المحنكين، والخطباء

البلغاء، والمنشئين المجيدين، والكتاب المتفننين، والشارعين الحكماء، والوعاظ

المؤثرين، والأنبياء، والمصلحين، ومؤسسي الممالك والدول العظام، وأروني من

منهم جمع كل هذه الصفات وغيرها، مما أعجز عن التعبير عنه وعن حصره هنا.

من منهم كان بعيدًا عن العلم والعلماء والكتابة والقراءة ناشئًا بين الواهمين

والجهلة المنحرفين والمشركين والوثنيين؟ من منهم كان فقيرًا يتيمًا أميًّا إذا أراد أن

يتعلم شيئًا لا يمكنه إلا إذا اختطفه من أفواه بعض الجهلة الغافلين واختلسه اختلاسًا

دون أن يشعر به أحد، وإذا أراد أن يطلع على كتاب لما تيسر له ولما عرف فيه شيئًا

ولما وجده بين أمة أمية لا كتب لها ولا مكاتب ولا مدارس؟ من منهم كان في

هذه الظروف كلها وهذه البيئة وهذا الوسط، ثم أصلح أمة كالأمة العربية وأوجد أمة

كالأمة الإسلامية وأسس دولاً كدولها، وأوجد كتابًا كالقرآن وشرعًا ودينًا كالإسلام،

وأعجز الناس جميعًا عن القيام بعمل واحد كأعماله، والإتيان بسورة كسور قرآنه،

وجمع كل هذه الصفات وبلغ فيها شأوًا لا يصل إليه أحد؛ فكان أكبر ملك وأعقل

سياسي وأبلغ منشئ وواعظ وأحكم شارع وأشجع قائد وأعظم غازٍ وفاتح وأورع

متدين، وأنصح ناصح، وأكبر مرشد للناس في كافة شئونهم الدينية والدنيوية،

وأعظم مصلح للأفكار والأخلاق والعقائد والعبادات والمعاملات وأوسع مؤسس،

وأدوم منشئ للدول والممالك.

وهو في كل ذلك لم يتعلم شيئًا يكفي لإزالة جزء من ألف مما حوله من الأوهام

والخرافات والخزعبلات عنه وعن الناس ولم يتدرب أو يتدرج أو يتمرن قبل النبوة

على أي عمل مما أتى به بعد نبوته بل نبغ في كل ذلك دفعة واحدة حينما ظهر

بالنبوة وكلما لزمه شيء من أعبائها وجد نفسه أنه أكبر نابغ فيه، فما هذا العلم في

تلك الأمية؟ وما هذا الإصلاح ممن نشأ في الوثنية بعيدًا عن كل نظام ومدنية؟ !

كفاك بالعلم في الأمي معجزة

في الجاهلية والتأديب في اليتم

تباركت يا الله إنْ هو إلا وحيك إليه وعونك وتأييدك له، ولولاك يا الله ما قدر

على فتح مدينة واحدة ولا تهذيب رجل واحد! ! فإننا نرى الدول الأوربية بخيلها

ورَجْلها وعلمها وفنونها ومخترعاتها وأساطيلها ومدرعاتها وطياراتها وأموالها

وزخرفها ومدارسها ومستشفياتها وجميع حيلها وخدعها و.. .. و.. .. . إلخ

عاجزة كل العجز عن مناوأة دينك، أو صدّ تياره الجارف، أو الحيلولة بينه وبين

قلوب البشر المترامين في أحضانه من كافة الملل والنحل والأجناس في سائر بقاع

الأرض حتى ضج المبشرون من ذلك وفزعوا وهم مندهشون {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا

نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى

وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} (الصف: 8-9) .

هذا ولا يخفى أن أنبياء بني إسرائيل أخبروا عما سيحدث في العالم من

الحوادث التى تهم أمتهم، وقلما تجد في كتبهم غير الأنباء عن مستقبلهم إلى يوم

القيامة؛ فأنبأوا بحادثة بُخْتَنَصَّرَ وكورش والإسكندر وخلفائه وحوادث أرض أدوم

ونينوى وبابل والرومان، وغير ذلك مما تراه مالئًا صفحات العهد العتيق، ولا

يكاد يخلو منه كتاب من كتبهم، وقد أخبر المسيح عليه السلام تفصيلاً عن خراب

أورشليم، وما سيحدث لليهود، فيبعد كل البعد أن يخبر هؤلاء الأنبياء بهذه الحوادث

كلها ويتركوا أكبر حادثة حدثت في العالم، ولها أكبر علاقة باليهود والنصارى وهي

ظهور محمد صلى الله عليه وسلم الذي زلزل أمم الأرض زلزالاً، وأوجد أمة ملأت

العالم علمًا وحكمة وعدلاً ودينًا، وعمرت أورشليم وأعادت إليها عبادة الله تعالى

بدون شرك أو تشبيه، وأتى بدين لا يزال مالكًا قلوب الملايين من بني البشر،

وهو الدين الوحيد الذي ناهض ويناهض المسيحية في جميع البلاد إلى اليوم، وآوى

اليهود وحماهم واكتسح الوثنية أمامه، وافتتح بلاد العالم القديم وابتدأ يعمل عمله في

العالم الجديد، وحارب النصرانية وغلبها قرونًا طويلة، ونشر العلم والفلسفة بينهم،

ونبههم إلى إصلاح دينهم بعد أن كانوا غارقين في الأوهام والخرافات أجيالاً عديدة،

فهل يعقل أن يترك الأنبياء هذه الحادثة ويتكلموا عن غيرها مما لا يكاد يذكر بجانبها؟

الحق نقول: إن الأنبياء ما تركوا ذلك بل أخبروا به إجمالاً وتفصيلاً - كما

ستعلم - منذ الأزمنة القديمة، ولكن أهل الكتاب يكابرون. ومع أن كتبهم محرفة

وفاسدة كما بينا لكنها لا تزال تشتمل على كثير من بشائر محمد صلى الله عليه وسلم

وقد سبق أننا بينا هنا أن كثيرًا مما يدعونه في حق المسيح إنما هو في حق محمد

صلى الله عليهما وسلم، وأظهرنا لك بالدلائل أن بشارة دانيال بختم الرؤيا والنبوة

هي بشارة به لا بالمسيح كما يزعمون.

ولذلك كان العرب ينتظرون مجيئه في ذلك الوقت لإخبار أهل الكتاب إياهم

بذلك، وإخبار زعمائهم وأساقفتهم وكهنتهم كأمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة

وسَطيح وبحير وورقة بن نوفل، وهذا أمر مشهور معروف في تاريخ

العرب، ولولا ذلك ما قال القرآن 2: 89: {وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى

الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} (البقرة: 89) وإلا لكذبه

الناس في هذه الآية، ولقالوا له: ما كان أحد ينتظر مجيئك ولا يعرفك أحد.

وكيف تختم النبوة بالمسيح وهو القائل لليهود (متى 23: 34) (لذلك ها

أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة، فمنهم تقتلون وتصلبون، ومنهم تجلدون في

مجامعكم وتطردون من مدينة إلى مدينة - إلى قوله - 36 الحق أقول لكم: إن هذا

كله يأتي على هذا الجيل) أي أمة اليهود كما يقولون هم أنفسهم في قوله متى 24،

29، 34 (وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه -

إلى قوله - لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله) ؛ فكيف إذًا يقولون: إن

الرؤيا والنبوة ختمت به وهو يقول: إنها لم تختم بعد، وإنه سيرسل إليهم أنبياء؟

وكيف يدعون أن الحواريين أنبياء نزل عليهم الروح القدس، وعلمهم أشياء كثيرة

ومع ذلك يصرون على قولهم: إن الرؤيا والنبوة ختمت به؟ فما هذا التناقض يا

قوم وأين عقولكم؟

هذا؛ واعلم أن البشائر المحمدية كثيرة في كتب أهل الكتاب القانونية وغير

القانونية ففي إنجيل برنابا الذي لا يسلمون به ذكر النبي عليه السلام باسمه صريحًا

في عدة مواضع، وفي كتبنا القديمة بشائر كثيرة نقلها المسلمون سابقًا عن كتبهم

القانونية التي كانت في زمنهم كما في كتاب (الجواب الصحيح) لابن تيمية الذي

نقل عن أشعيا وحبقون التصريح باسم محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ ذلك غير

موجود الآن فيها، فيحتمل أنهم محوه منها ، ومن تذكر قلة النسخ في تلك الأزمنة

وعدم وجودها إلا عند رؤساء الدين ووقوع التحريف فيها بالفعل كما يظهر ذلك من

الفصل السابق، وعدم حفظ أحد لها في صدره وسهولة مسح الكتابة من تلك الرقوق

التي كانوا يكتبونها فيها قبل اختراع المطابع، لا يستبعد أنهم محوه من جميع نسخهم

القديمة والجديدة التي كانت عندهم ولو بالتدريج وقد أخبر المسلمين بذلك بعض

اليهود والنصارى الذي أسلموا قديمًا، وكانوا قد عثروا على هذا التحريف والتبديل كما

يتضح ذلك لمن راجع كتب البشائر الإسلامية القديمة، وعثورهم على هذا

التحريف كان اتفاقًا؛ لأنهم ما كانوا يحفظونها في صدورهم وقل منهم

من توجد عنده نسخة كاملة من كتب العهدين، وهذا بخلاف القرآن الشريف الذي

كان محفوظًا في الصدور، ونسخه كانت بأيدي العامة والخاصة لعدم وجود رئاسة دينية عندنا، ولانتشار العلوم والمعارف بين المسلمين في تلك الأزمنة، بينما كان

الناس غيرهم في بحار الجهل غارقين، ولذلك كان عند المسلمين علم النقد العالي

(في الحديث) الذي لم يُعرف بين الأوروبيين وغيرهم إلا اليوم، والذي

أصبحوا يفخرون به علينا، ونسوا ماضيهم المظلم، فلا حول ولا قوة

إلا بالله العلي العظيم.

وأنا في هذا الفصل لا أريد أن أستشهد بتلك البشائر التي لا يسلمون بها الآن

ولا بالبشائر التي ليست صريحةً، بل لا أستشهد إلا بما هو واضح جَلِيٌّ من كتبهم

الحالية.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما نشر في الجزء الثامن ص 586 بقلم الدكتور محمد توفيق صدقي.

(1)

حاشية: قوله [وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ](الجمعة: 3) معناه يعلم آخرين غير العرب من جميع الأمم الأخرى فإنهم صاروا من العرب لأن بلادهم صارت بلاد العرب ولغتهم لغة العرب وكذلك دينهم وعاداتهم، وقد اختلطوا بالعرب بالزواج وغيره حتى صاروا منهم في كل شيء ولذلك قال

[وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ](الجمعة: 3) أي لم يتجنسوا بالجنسية العربية الآن ولم يلحقوا بهم بعد ولكنهم سيلحقون بهم فيما بعد في كل شيء فهي بشارة بدخول الأمم الأخرى في الإسلام وامتلاك العرب بلادهم وصيرورتهم من العرب جنسًا ودينًا ولغة وعادة إلخ إلخ، حتى صار لفظ العرب يطلق على كل المسلمين من جميع الأجناس لأنهم أمة واحدة [وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً] (المؤمنون: 52) صدق الله العظيم.

ص: 641

الكاتب: المسيو شاتليه

الغارة على العالم الإسلامي

أو فتح العالم الإسلامي [*]

(9)

مؤتمر لكنهوء سنة 1911

وقام بعد ذلك القسيس (ك. س) المبشر في (مِدراس) ، فتلا تقريرًا عن

مشايخ الطرق والدراويش في إفريقية، وقدم له مقدمة تاريخية اقتبسها من المؤلفات

الفرنسية. والمعلومات التي تضمنها هذا التقرير هي ملخص كتاب ألفه هذا القسيس

اسمه (الطرق الصوفية في الإسلام) .

ثم قال: إن الإسلام أخذ ينتشر في الحبشة، وسيصبح شمال الحبشة عما

قريب بلدًا إسلاميًّا. أما (منبسة) وشرقي إفريقية البريطانية، فلا أثر فيهما

للدراويش المبشرين، وليس هناك نجاح للإسلام في شمال نيجيرية حتى الأيام

الأخيرة، وذلك لما كان يلقاه هذا الدين من مقاومة القبائل الوثنية له. إلا أن

الاستعمار الإنكليزي قد وطد الأمن العام ومهد السبيل لسياحة المسلمين. وانتشار

الإسلام على يد التجار الهوسيين. وفي نيجرية مسلمون تربوا تربيةً إسلاميةً، وهم

على مذهب مالك بن أنس وقد درسوا تفسير البيضاوي وصحيح البخاري وكتب

الغزالي.

والإسلام في جنوب هذه البلاد قد انتشر انتشارًا سريعًا بفضل الهوسيين أيضًا،

وقسم من هؤلاء ينتمي إلى الطريقة التيجانية منذ 80 سنةً. وهذه الطريقة قد

اتسع نطاقها حتى جهة (ألبيدة) ومشايخها هم الذين شدوا أزر أمير سكوتو أثناء

اقتتاله مع الإنكليز. وعلى كل فالظواهر تدل على تقدم الإسلام بانتظام في مقاطعة

(سيراليونة) وهو ينتشر أيضًا في (نياسالند) منذ 12 سنةً بفضل عرب زنجبار

والبلاد الممتدة من (بحيرة نياسة) حتى الشاطئ الإفريقي الشرقي لا تكاد تخلو بقعة

فيها من مسجد أو رجل يدعو إلى الإسلام، وبالعكس من ذلك مقاطعة (رودزية)

فإن الإسلام لا يكاد يكون له فيها أثر.

وقام بعده الأستاذ (مينهف) ، فذكر بعض دواعي انتشار الإسلام مثل انقطاع

تجارة الرقيق، وانتشار الأمن ونفوذ المسلمين من الوجهة الاقتصادية والتجارية،

ومما قاله: (إن بين الأوروبي والإفريقي هوَّة تفرق بينهما. والمسلمون قد تمكنوا من

إزالة الهاوية التي كانت بينهم وبين الزنوج بأن جعلوا لهم إلى هؤلاء سلمًا. فأهالي

الساحل الشرقي في إفريقية والهوسيون في السودان الغربي هم الآلة العاملة لانتشار

مدنية الإسلام في إفريقية بلغة البلاد التي هي مزيج من العربية والبربرية

والإفرنجية (لانغوافرانكا) وهذه اللغة هي واسطة التعارف في الأقاليم الكبرى.

وشدد النكير على القائلين: إن الإسلام أكثر موافقة للشعوب الإفريقية، وقال:

إن من شأن هذه الفكرة أن تحبب المسلم إلى الأوروبيين وتحملهم على مجاملته مع

أن أساس هذه الفكرة واهٍ إلا إذا كان معناه أن الإسلام يبيح تعدد الزوجات المنتشر

في أفريقية. وقد أظهرت التجارب الكثيرة في الاستعمار الأوروبي أن الأوربيين لا

يختلفون في شيء عن الإفريقيين من الوجهة العملية.

أما إن الإسلام في مستوى أرقى من مستوى الشعوب الإفريقية، فذلك لأن

هؤلاء يعيشون على طريقة القرون القديمة ومدنية الإسلام هي بدرجة مدنية القرون

المتوسطة، ولذلك يسهل على الإفريقيين اقتباسها ، وأما مدنية أوربة فهي أرقى

المدينتين الإفريقية والإسلامية، ولذلك يصعب على الإفريقي الوصول إليها

والاحتكاك بها.

والأوروبيون لم يثبتوا في نشر مدنيتهم في الإفريقيين إلا في الجنوب ولذالك

أصبح القيام بهذا الأمر واجبًا على المبشرين كَيْلَا يعلو الإسلام على النصرانية.

وصار من الواجب على إرساليات التبشير أن تتحكك بالمسلمين، وتتسلح بالمعدات

الكافية لقتالهم، وأن لا تخشى ذلك كما كانت تفعل حتى الآن. وينبغي لهم أن لا

تكون أعمالهم لاهوتية محضة، بل يجب أن يطرقوا أبواب الطب

والصناعة، وكل الأعمال التي يتفوق فيها الأوربي على الشرقي.

***

الانقلابات السياسية

ومن المسائل التي عقد مؤتمر لكهنوء للبحث فيها الانقلابات السياسية في

ممالك الإسلام فابتدأوا بالبلاد العثمانية، وتقدمت ثلاثة تقارير عن الحالة السياسية

في البلاد العثمانية الأول من الأستاذ (استوورد كروفارد) عن (الانقلابات

العثمانية) والثاني من القسيس (ينغ) عن (الانقلابات السياسية في جزيرة العرب)

والثالث من القسيس (تروبريدج) عن النظام الجديد والنظام القديم في السلطنة

العثمانية) مع ملاحظة موقف إرساليات التبشير في كل ذلك.

تساءل استوورد كروفارد في أول تقريره عن الموقف الذي يجب أن تكون فيه

إرساليات التبشير المسيحية تجاهَ قوات الإسلام الجديدة بعد الانقلابات العثمانية ثم

قال: إن الأمة العثمانية بحصولها على بعض الحقوق الوطنية العصرية قد أخذت

تتدرج في مدارج نهضة عظيمة، وتظهر إحساسًا وطنيًّا جديدًا أمام المسئولية

الديموقراطية. وهذا الأمر لا يقتصر على الرعايا المسلمين بل يشترك معهم فيه

العثمانيون من غير المسلمين، وهؤلاء قد بدأوا يتحولون عن فكرة الاستعانة بالدول

الأجنبية، وحدث بين المسلمين والنصارى تقرب محسوس بالرغم من حدوث بعض

حوادث مزعجة.

إلا أن الإسلام قد ظهر في قالب جديد؛ وذلك لأن الانقلاب الذي أحدثته الأمة

العثمانية إنما كان إسلاميًّا محضًا، بل إن فكرة الدفاع عن الإسلام هي التي أعانت

على حدوث الانقلاب.

وعلى هذا فواجب المبشرين مزدوج أمام هذا المزيج الغريب المتكون من

الرغبة في الارتقاء والتمسك بالتقهقر! وبهذا الواجب المزدوج يمكن لهم أن يعينوا

مركزهم إزاءَ المسلمين العثمانيين ، أما الواجب الأول فهو إظهار المجاملة للقوة

الجديدة التي انتبهت في العثمانيين بعد سباتها بالرغم من أن الشعور الإسلامي

الحقيقي يعرقل سيرها!

وبهذه المجاملة يمكن تنشيط المسلمين لاقتباس الأوضاع الجديدة وترقيتها على

وجه يشبه الأوضاع التي تباهي النصرانية بها. ولم يسبق لنا أننا رأينا الإسلام لينًا

وملائمًا إلى حدّ تقدير المبادئ النصرانية قدرها. وهذه فرصة ثمينة ينبغي لنا

انتهازها للتحكك بالعالم الإسلامي وهدايته إلى الإنجيل الذي هو أرقى وحي أهداه

الشرق للغرب؟ ! وما علينا إلا أن نستصرخ المسلمين ليستردوا إليهم بضاعتهم

الطبيعية، فيطبقوا مبادئها على أعمالهم الضرورية من اجتماعية وقومية ويفسروها

بأنفسهم على ما يوافق هواهم. ووقتنا أضيق من أن يتسع للطعن في عقائدهم. وإذا

ثبتنا على تلك الطريقة الفاسدة في إظهار المسيحية بمظهرها أيام الحروب الصليبية

فإنما نكون قد خنا المسيح الفاتح!

وأما الواجب الثاني فهو الصبر الذي يعرفه من عرف حكمة الإنجيل في النمو

التدريجي وهي تبتدئ بالعشب، ثم بالسنبلة، ثم يتبعها انتظار طويل ريثما ينضج

الحَب. إلا أن النمو الأخلاقي بطيء خصوصًا إذا كان متعلقًا بأمّة من الأمم.

ثم قال: إن المسلمين يقتبسون مِنْ حَيْثُ لا يشعرون شطرًا من المدنية

النصرانية، ويدخلونه في ارتقائهم الاجتماعي، وما دامت الشعوب الإسلامية تتدرج

إلى غايات ونزعات ذات علاقة بالإنجيل، فإن الاستعداد لاقتباس النصرانية يتولد

فيها على غير قصد منها؟ !

وقد علقت مجلة العالم الإسلامي الفرنسية على هذا القول بأنها تكتفي في بيان

أهمية ما يقوله استورد كروفارد بتذكير القراء بالجملة التي اتخذتها جمعية الطلاب

المتطوعين للتبشير شعارًا لها منذ سنة 1905 وهي (تنصير العالم قاطبةً في هذا

العصر) فإن في هذا الشعار ما يدل على أن أقوال المبشرين تندرج نحو

الحقيقة!) .

أما تقرير القسيس (ينغ) عن الانقلابات السياسية في جزيرة العرب فلم تذكر

منه مجلة العالم الإسلامي الفرنسية إلا ما يتعلق بحالة المبشرين، ومما قاله صاحب

التقرير: إن اليمن وسائر بلاد العرب يوجد فيها دائمًا متعصبون يرون أن في

المساواة بين المسلمين والنصارى ضررًا وقضاءً على الإسلام، ولكن علماء الإسلام

المتنورين يقولون: إن الشريعة الإسلامية تأمر بالمساواة، ثم هم من الوجهة

الشخصية لا تمكنهم الموافقة على أن المسيحي يساوي نصف المسلم وإنْ كان

المسيحيون مساوين للمسلمين في الحقوق السياسية والشرعية.

وهو يرجو أن يكون إنشاء الطرق والسكك الحديدية وتشييد المدارس أبوابًا

ومنافذ بين المسلمين والنصرانية.

وختم تقريره بقوله: (إنه قد أزف الوقت لارتقاء العالم، وسيدخل الإسلام في

شكل جديد من الحياة والعقيدة، ولكن هذا الإسلام الجديد سينزوي في النهاية

ويتلاشى بالنصرانية) [1] .

وبعد أن فرغ الخطيبان السابقان من تلاوة تقريريهما قام بعدهما القسيسين

(ترويربدج) فألقى على مسامع زملائه تقريره عن النظامين الجديد والقديم في

السلطنة العثمانية. فقال: المبشرون كانوا منذ ابتداء أعمالهم التبشيرية قبل 80

سنة مظهرًا لتسامح الحكومة العثمانية كما هو شأنها مع الرعايا الأجانب الذين تحميهم

الامتيازات الأجنبية، أما المتنصرون الوطنيون فهم على نقيض ذلك؛ لأنهم كانوا

دائمًا عرضة للسجن والطرد، كما أن المبشرين من وجه آخر كانوا يلاقون الصعاب

والعقاب في سبيل تشييد المدارس والكنائس ونشر المطبوعات.

ثم أشار بعد ذلك إلى ملخص البند العاشر من القانون الأساسي الذي يحظر

خرق حرية الأفراد أو إلقاء القبض على أي شخص ومعاقبته بلا مسوغ منصوص

عليه في الأحكام الشرعية الإسلامية والنظاميات القانونية. ثم قال: ومع ذلك يتعذر

الوقوف على حقيقة خطة الحكومة بالاستناد على أقوال الكثيرين التي تلقى على

عواهنها، بل إن ذلك يتطلب التنقيب والاختبار الشخصي، ولذلك قسم الخطيب

الكلام في أعمال المبشرين بالنسبة إلى موضوعها ليسهل الوقوف على موقف

الحكومة إزاء كل منها، فقال عن الأعمال المدرسية: إن في استطاعة المسلمين

التردد إلى مدارس وكليات التبشير وبين جدران الكلية البروتستانتية في بيروت

104 من المسلمين وفي كلية الآستانة 50 وفي كلية المبشرين في كديك باشا في

الآستانة أيضًا 80 ومنذ بضع سنين صدر أمر خفي بجواز التردد على الكلية الأولى

والثانية.

وانتقل إلى قسم التأليف فقال: كان طبع الكتب المقدسة مباحًا منذ مدة

طويلة من لدن الحكومة العثمانية إلا أن مهمة بائعي الكتب المتنقلين كانت محفوفةً

بكل أنواع الصعوبات. وأصبح الآن بيع الكتب المقدسة مباحًا بسبب حرية النشر

التي أعقبت الدستور فبيع في السنة الماضية للمسلمين ما يزيد على 9000 نسخة

من هذه الكتب، وليس هناك صعوبات تقوم في سبيل الكتب المختصة بانتشار

التبشير، ولكن يجب على المؤلفين عدم الخوض في غمار المناقشات الدينية؛ لأن

الحكومة الحاضرة لا تسمح ألبتة بنشر الكتب التي على شاكلة مؤلفات فندر.

وقال عن الأعمال الطبية والخيرية: إنها منتشرة جدًّا في البلاد العثمانية،

ومما يجدر ذكره أن القسيس (بيت) التابع لإرسالية التبشير في الآستانة عين

رئيسًا للجنة الإسعاف الخيرية التي تأسست تحت رعاية السلطان عقب مذابح أطنة

والتبشير الديني جارٍ بلا صعوبة في المستشفيات التي يدير أعمالها المبشرون.

ثم قال عن الأعمال النسائية: إن الحكومة سمحت عقب إعلان القانون

الأساسي لخمس فتيات عثمانيات مسلمات أن يتعلمن في كلية البنات الأمريكية

ليتهيأن إلى إدارة أمور مدارس الحكومة للبنات، كما أن عددًا قليلاً من البنات

المسلمات في الولايات يتردد إلى مدارس إرساليات التبشير. أما الحكومة فتظهر

الاحتفاظ التام بحالة تربية المرأة المسلمة، وتحظر على النساء التردد إلى

المجتمعات العمومية.

وقال عن أعمال التنصير: إن الحكومة العثمانية تتداخل ولو من طرف خفي

عندما يتصل بها خبر اعتناق مسلم الدين المسيحي، فتزجه في السجن لأي سبب

كان أو تبعده سرًّا عن وطنه جزاءَ ارتداده. وكان الإعدام من قبل عقابًا للارتداد عن

الإسلام ولم يزل المرتد إلى أيامنا هذه عرضة للعذاب الأليم. ومما لا مرية فيه أن

الموظفين المتنورين يمجون هذه الأعمال. أما التبشير الإنجيلي في الشوارع

والأسواق فمحظور ، وقد دخل التسامح في شكل جديد عقيب قبول اندماج

المسيحيين في الجندية؛ لأن ارتداد المسلم عن دينه كان يعتبر خيانة ووسيلة

للتخلص من الخدمة العسكرية. أما الآن فأصبحت مسألة اعتناق الدين المسيحي

دينية محضة.

ثم قال صاحب التقرير: إنه يتعذر إدراك ما يخبئه لنا المستقبل؛ لأن بوادر

الأحوال تدلنا على أن الحكومة العثمانية لا ترغب في منح الحرية الدينية الحقيقية

لأن الدين الإسلامي هو دين الحكومة الرسمي، ولم يخرج القانون الأساسي إلى

حيز الفعل إلا بقدر انطباقه على الشرائع والتقاليد الإسلامية. ومهما يكن الأمر فإن

إرساليات التبشير لا تشكو ضيمًا بعد أن أسفر التحقيق الذي أجري في إرساليات

التبشير في الآستانة وسلانيك ووان ومرعش وعينتاب عن أن خطة الحكومة

الحاضرة موجبة لنهض همة المبشرين.

وبعد أن انتهى البحث في أحوال السلطنة العثمانية انتقل المؤتمر إلى البحث

في الانقلابات السياسية في فارس. فألقى القسيس (اسلستين) الذي مضى عليه

23 سنة في هذه البلاد تقريره في هذا الموضوع، فوصف الحالة الحاضرة السياسية

والحركة الاجتماعية في فارس. وقال: إن عصر الحرية الدينية سيزيد في عدد

البابيين أو البهائيين. وأنه يوجد ألوف من الفارسيين ينبذون الإسلام ويندمجون في

بعض المذاهب، أو يظلون بلا عقيدة دينية. فظهر على إثر ذلك توتر في العقائد

الدينية الإسلامية في كل أقاليم فارس، وهذه الأمور حملت صاحب التقرير على

القول بأن الإسلام ينحط في البلاد الفارسية! وقال: إن أعمال التبشير في هذه

البلاد توجب مزيد الحيطة والتستر؛ نظرًا للأحوال الخاصة التي تمتاز بها فارس،

وهو يشير على المبشرين ببذل قصارى الجهد للإقناع واستجلاب القلوب، إلا أنه

يحذرهم من السبّ في الإسلام أو ذكر انحطاطه مِنْ حَيْثُُ أصولُه الدينية خصوصًا

وأن موقف الفارسيين تجاهَ المبشرين هو موقف حسن في الغالب إذ أن كثيرين منهم

يرغبون في تربية أولادهم في مدارس المبشرين مع علمهم أنهم يتعلمون الإنجيل.

لكن هذه الرغبة لا تدل على أنهم يودون اعتناق النصرانية، بل إن تشوقهم إلى

التعليم صادر عن علمهم أنه هو الدواء الناجع لاتقاء الصعاب التي تتخبط فيها

فارس الآن. فهم لا يرغبون في النصرانية بل جُلّ ما يتوخونه هو اقتباس مبادئ

الحضارة العصرية.

وبعد أن فرغ المؤتمر من الخوض في الانقلابات في فارس انتقل إلى إقليم

آسيا الوسطي التي لم تصل إليها إرساليات التبشير مثل أفغانستان والتركستان

الصينية والأقاليم الروسية الآسيوية فتُلي تقرير الكولونل (ج ونجت) الذي يشير

إلى بعض الأعمال التي بوشر بها في آسيا الوسطي. فاتضح منه أنه تعذر على

المبشرين الإنكليز اجتياز الحدود الهندية للدخول في آسيا الوسطي بسبب العراقيل

التي توجدها الحكومة الإنكليزية منعًا لهم من اجتياز هذه الحدود. ولكن سبقها

مبشرون آخرون إلى هذه البلاد إذ هبطت إرسالية تبشير أسوجية بروتستانتية مدينة

(كشغر) و (بركند) وتأسست إرسالية تبشير مجرية في (لح) وعرج مبشرون

بلجيكيون كاثوليك على (خولجة) وتوجد إرسالية تبشير طيبة دانمركية في (حوبي

مردان) تقوم بها النساء ووظيفتها التبشير بين النساء المسلمات وهي على أُهْبَة

الهبوط إلى (كابل) .

ومما لا شك فيه أن النساء اللواتي يتعاطين الطب يلاقين مزيد الحفاوة؛ لأن

المسلمين لا يهتمون بأعمال النساء المبشرات، ولا يضمرون لهن سوءًا، ولكن

يعتور أعمال المبشرين في هذه البلاد صعوبات، ويمكننا أن نعرف موقف حكومة

الأفغان الرسمي بمراجعتنا نبذة من خطاب ألقاه أمير الأفغان على مسامع الطلبة

المسلمين في مدرسة لاهور؛ إذ قال لهم: (لا خوف عليكم من أن الدين المسيحي

أو أي دين آخر ينتزع منكم العقيدة الإسلامية بعد اقتباسكم التعليم الغربي، ولكن

ينبغي لكم أن تقوموا قبل كل شيء باقتباس العقيدة الإسلامية وأنتم في مقتبل عمركم)

واتضح بعد ذلك أن المبشر (هوغبرغ) التابع لإرسالية التبشير الأسوجية

الذي أخذ يبشر بين المسلمين في التركستان الروسية اضطر أن يفر من مقاومة

الحكومة الروسية له إلى (كشغر) حيث لقي مزيد التسامح من الحكومة الصينية.

وقرئ بعد ذلك تقرير المس (جاني فن ماير) المبشرة في تفليس وهو

يحوي أمورًا تاريخية تتعلق بالتبشير بين المسلمين القاطنين في روسية. والقسم

الأول من هذا التقرير يتعلق بتاريخ تنصير تتر قازان وإلى المساعي التي بذلها

المبشر الأرثوذوكسي (إيلمنسكي) لتنصير المسلمين وجعلهم روسيي النزعة وقد

لاقى ما لاقاه من المقاومة في هذه السبيل نظرًا لشدة نفوذ التتر، وتسيطرهم على

الشعوب غير النصرانية في روسية، وتقول صاحبة التقرير: إنه مهما كانت درجة

مساعي المبشرين الأرثوذكس، فإنها لا تعادل ما يبذله المبشرون البروستانت في

هذا السبيل. وقد تأسست جمعية التبشير الأرثوذكسي سنة 1870 وهي منتشرة في

أكثر الأقاليم الروسية وسيبرية ومركزها في (موسكو) وأنفقت حتى الآن ما يربو

على خمسة ملايين ريالاً وهي تدير أعمال 700 مدرسة يتعلم فيها 19000 تلميذ

وتنصر بواسطتها 44 مسلمًا سنة 1908، وبلغ ما نصرته للآن 1670 مسلمًا،

وأخذ التبشير ينتشر في ولاية (توبلسك) بواسطة جمعية التبشير المركزية المخالفة

للإسلام وهي جمعية أرثوذكسية، وتوجد جمعيات تبشير أرثوذكسية كثيرة في ولاية

(فولغا) تتضافر جميعها على شد أزر التبشير وتؤسس المدارس لتعليم أولاد التتر

والشوقاش. قالت صاحبة التقرير: ولكن الأعمال التي يقوم بها المبشرون الروس

بين التتر عقيمة؛ لأن التتر متعصبون متمسكون بدينهم وهم أنفسهم مبشرون

نشيطون، ثم أشارت إلى جمعية التبشير للكنيسة الروسية في القريم وأنها تقوم

بعمل مزدوج؛ فتعلم المبشرين في مدارس تعلم فيها اللغة التركية والعربية، ولها

أيضًا مبشر ينتقل من محل إلى آخر، فيتنصر على يده كل سنة أربعة أو خمسة من

المسلمين وللمبشرين الروس إرساليات تبشير أخرى منتشرة في الولايات الروسية

الأوروبية وبعضها طبية، ولكن مهمة المبشرين تزداد صعوبة حيثما وجدت قبائل

الكركز والباخير والتركمان قريبة من التتر؛ لأن هذه القبائل تقع تحت نفوذها،

وهناك يستفحل النزاع بين المبشرين المسيحيين والتتر.

وانتقلت بعد ذلك صاحبة التقرير إلى ذكر الأعمال التي تقوم بها إرساليات

التبشير البروتستانتية، فاعترفت بعدم اهتمام الكنائس البروتستانتية الروسية في

تبشير العشرين مليونًا من المسلمين والخمسة الملايين من الوثنيين القاطنين في

روسية؛ لأنها لم تقم للآن بعمل يذكر، وقالت: إن كنائس بروتستانتية أخرى قامت

بهذه المهمة ولها مبشرون في تركستان وبين قبائل (الكركز) وأهم إرساليات

التبشير التي تسعى لتنصير المسلمين في كل أقطار روسية هي إرسالية التبشير

الأسوجية التي لها مركز عام في تفليس وفروع للتبشير في بخارى وأورنبورغ

وسمرقند و (كشغر) . وبما أن الحكومة الروسية لم تسمح لهذه الإرساليات بالتعليم

ولا بالتطبيب فهي تكتفي بتوزيع الكتب المقدسة باللسانَيْنِ الفارسي والتركي، وبلغ

عدد الذين تنصروا بواسطتها 14 شخصًا، أما إرساليات التبشير في بخارى

وسمرقند فاضطرت إلى توقيف أعمالها عَقِيبَ الاضطرابات التي طرأت، وهذه

الإرساليات تجد صعوبات شديدة في (بخكيرس) ولم تحصل على نتائج صريحة

وتقوم جمعية التوراة الإنكليزية والأجنبية بنشر نسخ الإنجيل في كل البلاد الروسية

ولها مركزان واحد لأوربة روسية وتركستان والآخر لسيرية وهما يقومان بنشر

الأناجيل في عشر لغات إسلامية ويظهر أن عدد الأناجيل التي تباع للمسلمين ازداد

عن ذي قبل وختمت صاحبة التقرير كلامها بالإشارة إلى بعض إرساليات تبشير

صغيرة منتشرة في الأقاليم التي يقطنها المسلمون.

تلي بعد تقرير المس (جاني فن ماير) الطويل ثلاثة تقارير، أولها للقسيس

(ويلسن) عن أحوال الهند والثاني للقسيس (جون تكل) عن تقدم الإسلام في الهند

والثالث للقسيس (وتبرخت) عن حركات الإصلاح في الهند.

وقد جاء في التقرير الأول للقسيس (ويلسن) أن الحركة العصرية التي

تتمخض بها الأرجاء الهندية لم تأت بثمرة للآن ولم تظهر إلا بشكل أفكار وأميال

ونزعات. ولكي يتسنّى لنا الوقوف على ما يكون من تأثير هذه الحركة في أعمال

التنصير يجدر بنا الانتظار ريثما تتحقق مآرب حاملي لواء الإصلاح في الهند.

وليس هناك داعٍ للاستغراب أو للفشل إذا أظهر المسلمون عدم إقبال على

اقتباس المبادئ الإنجيلية؛ لأن الاهتمام بالحياة العقلية السياسية الحديثة يدعو إلى

تعليق الآمال بالنهضة التي ترفع شأن الإسلام، فلا يبقى ثمة في نفوس المسلمين

موضع للتفكير في أمور أخرى. لكن صاحب التقرير لا يشك في أن التربية الغربية

هي من قبيل قوة تنحلّ بها عرى الروابط الإسلامية.

وقد قال بعد ذلك: (إن مطالعة التاريخ المجرد من المحاباة والتغرض تميط

اللثام عن حقيقة مصادر الإسلام؛ لأن العقل الذي اعتاد التنقيب العلمي لا يقبل

الاعتقاد عفوًا وبلا روية بالعقائد التقليدية!) وهو يعتقد أن انتشار التعليم يساعد

على تبديد الخرافات القديمة بخصوص المسيحية. واختتم القسيس ويلسن تقريره

معربًا عن أمله الوطيد بالحصول على نتائج حسنة في المستقبل.

وتلاه القسيس (جون تكل) فاستهل تقريره بإلقاء نبذة في تاريخ انتشار

الإسلام في الأقاليم الهندية وقال: إن الإسلام آخذ في الازدياد وإن العراقيل التي

تُلقى في سبيل انتشاره تكاد تكون في حكم العدم. وأشار إلى مقاطعة البنغال فقال:

إن عدد المسلمين فيها بلغ سنة 1871 ستة عشر مليونًا ونصف مليون وكان

الوثنيون 17 مليونًا.

ثم اتضح من إحصاء سنة 1901 أن المسلمين في هذه المقاطعة صاروا 19

مليونًا ونصف مليون وأن الوثنيين صاروا 18 مليونًا. ثم تساءل عن أسباب نمو

المسلمين وأجاب: إنه لا يمكن أن ينسب هذا النمو إلى تعدد الزوجات؛ لأن 29

في المائة فقط من مسلمي البنغال متزوجون بأكثر من واحدة، كما أنه لا يمكن القول

بأن هذه الأسباب ناشئة في أكثر الأوقات عن التثبت بصحة العقيدة الإسلامية؛ لأنه

اتضح له من التحقيق الذي قام به للوقوف على الأسباب التي حملت 40 شخصًا

على اعتناق الدين الإسلامي في أوقات متفاوتة: إن 23 منهم اعتنقوا الإسلام

لأسباب ناشئة عن العواطف، وسبعة منهم لارتباك في أحوالهم، والباقون أسلموا

لأسباب مختلفة.

وقد أسفر التحقيق الذي قام به مبشرون آخرون عن نتيجة واحدة مِنْ حَيْث

نسبةُ الأسباب إلى مسبباتها. وقال: إن الوقوف على أسباب نمو الإسلام يمهد

الحصول على وسائل توقيف تياره، ولذلك ذكر لأعضاء المؤتمر بعض

اقتراحات تتعلق بالاحتياطات التي يجدر بالمبشرين اتخاذها، وأهمها ضرورة زيادة

القوات التبشيرية الأخصائية وأيد اقتراحه بقوله: إن ثلث مسلمي الهند - الذين

بلغوا في إحصاء سنة 1901 اثنين وستين مليونًا ونصفًا - قاطن في مقاطعة البنغال

ومع ذلك فلا يوجد في هذه البلاد مبشرون اختصوا بتبشير المسلمين.

وانبرى بعد ذلك القسيس (وتبرخت) فتلا تقريره، ومما قاله إنه

يجدر بالمبشرين إظهار مزيد اللياقة عندما يتحككون بالمسلمين المتنورين، وإن

ظهور بعض الجهال بمظهر العظمة والغطرسة قد زال الآن وحلّ محله احترام

حسنات المدنية المسيحية! وأعمال الدين المسيحي الخيرية (!) ثم أوصى المبشرين

بالتواضع وقال لهم: إذا كان المسلم يبالغ في سؤدد ومجد حضارة بغداد وقرطبة

ودرجة ترقي أفكار علماء العرب فلنتذكر نحن أيضًا أن هذا التاريخ يحوي

صحائف مجيدة ولنتذكر أيضًا أنه وإن يكن الإسلام بقي دين الشعوب التي هي دوننا

في المدينة فإن أنصاره نجحوا أكثر من المسيحيين بإزالة الحواجز التي

تفصل بين الأجناس.

ثم جاء بعد ذلك دور المستر رودس التابع لجمعية التبشير في الصين الداخلية

وهي الجمعية الوحيدة التي توغلت في الصين، وبعد أن تكلم في نسبة المسلمين

العددية وأحوالهم الاجتماعية والسياسية تكلم عن أعمال التنصير التي يقوم بها

المبشرون، فقال: إن أعمال المبشرين كانت حتى الآن في زوايا الإهمال إلا أن

المجهودات التي بذلها هؤلاء تكللت بالنجاح، وأبادت خرافات كثيرة، فتوطدت

العلاقات بينهم وبين المسلمين، واعتنق بعض المسلمين الدين المسيحي، وهم

منهمكون الآن بنشر الإنجيل، ولكن لم يبلغ مسامعه أن عالمًا مسلمًا اعتنق الدين

المسيحي.

ثم أشار بعد ذلك إلى العقبات التي يلقاها المبشرون في الصين، وأهمها

ضرورة وجود لغتين للمبشرين: اللغة الصينية التي تستعمل مع العامة واللغة العربية

لأجل العلماء والطلبة، ويوجد هناك عقبة أخرى وهي صعوبة وجود كلمة في اللغة

الصينية للدلالة على اسم الجلالة. واختتم تقريره بلفت أنظار المبشرين إلى الصين،

وقال: إن النصر ليس حليف الإسلام في الصين إلا أن العلماء المسلمين ينكفئون

على هذه البلاد من الهند وجزيرة العرب وبلاد الدولة العثمانية؛ لأجل توطيد أركانه

هناك، وحض الخطيب أعضاء المؤتمر على تعزيز عدد المبشرين الواقفين على

اللغة العربية، وإرسال نساء مبشرات للقيام بالتبشير الطبي وسط النساء الصينيات

وطلب تأسيس إرساليات طبية ومستشفيات.

ثم ألقى على مسامع المبشرين سؤالاً لا يتعلق بمسلك الحكومات نحو المبشرين

ويتضمن البحث عن أحوال المسلمين الموجودين تحت سيطرة المسيحيين، أو

الذين تحت حكم الوثنيين، وقد اتضح من الخوض في هذا الموضوع أن (هولندة)

هي الحكومة الوحيدة التي تروج أعمال المبشرين وتستحق رضاهم عليها، ويظهر

أن ألمانية أخذت تفتدي بها في مدة قريبة أما إنكلترة فهي هدف لانتقاد المبشرين؛

لأنهم يزعمون أن المسلمين في مصر يهضمون حقوق الأقباط؛ لأن التعليم الديني

الإسلامي جبري في المدارس المصرية، والحكومة المصرية هي التي تنفق

عليه [2] .

أما التعليم الديني للتلاميذ الأقباط فاختياري، ويتكفل بنفقته المجلس المِلِّي

القبطي. وأما في السودان، فأعمال المبشرين معرقلة حتى إن كلية غوردون التي

أسستها الأمة البريطانية أصبحت مدرسةً إسلاميةً محضةً والحكومة الإنكليزية في

نظر المبشرين ملومة على انتهاجها خطة الحياد، وشدها أزر المدارس الإسلامية

في مقاطعة (سيراليونة) كما أن ذوي الأمر من الإنكليز في نيجيرية لا يحسنون

معاملة إرساليات التبشير المسيحية، ولا يسمحون لهم بفتح المدارس العصرية بكل

حرية، بينما هم يعضدون المدارس التي تعلم القرآن.

وأما الحكومة الفرنسية، فتسلك خطة الحذر التي لا تنطوي على الود

والإخلاص نحو المبشرين؛ لأن علاقاتها معهم في مدغسكر لم تتحسن، وإن

تكن سمحت لهم بارتياد الجزائر وتونس بدون تعضيد، ويخشى أن تحظر عليهم

التجول في الصحراء والنيجر وأقاليم بحيرة تشاد أو واداي، وقد لام المبشرون

الحكومة الروسية لتباين أعمالها فقد يتفق في بعض الأوقات أنها تروج

أعمال المسلمين التي تضر بالمسيحيين التابعين للكنيسة الرسمية الروسية.

أما خطة الحكومات الوثنية نحو المبشرين، فتختلف باختلاف طباع ومزايا

الحاكم الوثني. وقد قال المبشرون: إنه مهما بلغ طيش الحاكم الوثني وهمجيته

ودرجة اضطهاده فهي لا تبلغ درجة الاضطهادات والأعمال الهائلة التي تخللت

تاريخ الإسلام! وهم يفضلون أن يكونوا مرتبطين بعلاقات مع الوثنيين المستقلين؛

لأنه مهما كانت فائدة حلول الحكومة الغربية محل الحكومة الوثنية؛ فإنها تروج تيار

الإسلام! وتكون مجلبة للعراقيل في وجه المبشرين مِنْ حَيْثُ الأعمال التي يقوم

هؤلاء بها تجاه المعضلة الإسلامية، وقال المبشر وتسون: إن الواجب الضروري

يقضي على المبشرين بالاهتمام بأمر البلاد الوثنية التي يتهددها الإسلام.

***

الجلسة الختامية لمؤتمر لكهنوء

ثم قالت مجلة العالم الإسلامي الفرنسية: إنه يتعذر عليها أن توفي البحث حقه

عن سائر موضوعات هذا المؤتمر؛ لأن هناك كتابًا آخر ظهر في عالم المطبوعات

وفيه بيان أبحاث المؤتمر، ولكنها لم تحصل عليه. وهي تكتفي الآن بذكر بعض

أمور تتعلق بالجلسة النهائية للمؤتمر وهي:

ألقى الرئيس خطابًا يشير فيه إلى انفضاض المؤتمر، ثم وُزعت على

الأعضاء رقاع مكتوب عليها من جهة: (تذكار مؤتمر لكنهوء سنة 1911) ومن

الجهة الأخرى العبارة الآتية: (اللهم يا من يسجد لك العالم الإسلامي خمس مرات

في اليوم بخشوع انظر بشفقة إلى الشعوب الإسلامية وألهمها الخلاص بيسوع

المسيح)

أما القرارات التي دوَّنها المؤتمر في محضر جلساته فهي كما يأتي:

بعقد المؤتمر مرة أخرى في القاهرة سنة 1916 وإذا طرأت هناك أسباب

سياسية أو أمور أخرى تحول دون اجتماعه في هذه المدينة فيعقد حينئذ في لندرة.

ومؤتمر لكنهوء يوافق مؤتمر إرساليات التبشير الذي عقد سنة 1910 على ضرورة

بذل المساعي في القارة الإفريقية دون أن تمس المساعي التي تبذل في البلاد الباقية.

ولذلك فهو يرى أنه يجدر بالجمعيات التبشيرية أن تتكاتف وتتعاضد لكي تؤلف

سلسلة قوية من إرساليات التبشير تطوف كل أفريقية، وتؤسس مراكز قوية في

الأماكن التي هي موطن الخطر.

ويجب أن يكون إخراج هذه الفكرة إلى حيز الفعل موضع بحث أهم وأوسع

مما كان في السابق سواء مِنْ حَيْثُ تربية المبشرين أو حسن اختيارهم، الأمر الذي

يحتم اتخاذ التدابير بلا تأخير لإتمام المشروعات التي بوشر بها.

ويرى المؤتمر أن من الضروري العاجل تأسيس مدرسة في مصر خاصة

بالتبشير تكون عامَّةً لكل الفرق البروتستانتية. ويشدد بلزوم التدقيق التام في انتقاء

المبشرين الأَكْفَاء الممتازين بصفاتهم ومواهبهم العقلية ولزوم تعليمهم اللغة العربية

بوجه خاص مع تاريخ الدين الإسلامي وأهم المؤلفات التي تتعلق به.

وأعضاء المؤتمر يدعون اللجنة الدائمة لأنْ تدرس بمزيد الدقة أدوار تقدم

الإسلام في أفريقية وجزائر الملايو ليكون بحثها أساسًا للمناقشات في المؤتمر

المقبل.

ولما كان تنصير النساء المسلمات مع أولادهن ورفع شأنهن! يتطلب دخول

النساء المسيحيات في العمل فأعضاء المؤتمر يشيرون على إرساليات التبشير

بالتشديد على المبشرين والمبشرات بضرورة التحكك بالرجال والنساء عند قيامهم

بأعمالهم التبشيرية، وأن توسع نطاق الأعمال التبشيرية التي تقوم بها النساء في

أفريقية بوجه خاص. وأن تُعْنَى بتربية النساء المبشرات.

وختم المؤتمر قراراته بتنبيه همة الكنائس التبشيرية لإرسال قسم من

المبشرين الموجودين لديها ليشدوا أزر المبشرين في أفريقية.

***

التنظيم المادي لإرساليات التبشير

انتقلت بعد ذلك مجلة العالم الإسلامي إلى البحث في التنظيم المادي لإرساليات

التبشير البروتستانتية الأمريكية والإنكليزية والألمانية، فاستهلت بحثها بوصف

جمعية التبشير للكنيسة الإنكليزية، وقالت: إن هذه الجمعية التي يكثر ذكرها على

صفحات هذه المجلة هي أهم جمعية تبشيرية بروتستانتية. وقد مضى على

تأسيسها 10 سنين ويدير أعمالها 145 أسقفًا ينوبون عن الرئيس وهو أسقف

كنتربوري الإنكليزي وقد كانت إيراداتها سنة 1799 خمسة وعشرين ألف فرنك

فبلغت سنة 1910 عشرة ملايين من الفرنكات، وهذا غير المبالغ الهامة التي ترد

لها وتصرفها في سبيل التبشير من غير تدوين في سجلات صندوق الجمعية.

ومن مراجعة التقارير التي نشرتها هذه الجمعية سنة 1906 اتضح لنا أن

مجموع الاكتتابات والإيرادات التي وردت على الجمعية في هذه السنة من البلاد

الإنكليزية فقط 228.529 جنيهًا. وبلغت الإيرادات الأخرى 100 ألف جنيه،

وهي مؤلفة من الاكتتابات التي ترد إليها من البلاد الأجنبية ومن المبالغ التي يجمعها

المبشرون. وما فروع عديدة وما فروع عديدة لجمع النقود لا تقع تحت حصر.

ولإدارة هذه الجمعية أهمية كبرى تظهر لنا من مراجعة النفقات التي تتكبدها،

وهي أنها أنفقت سنة 1906 مبلغ 16.584 جنيهًا في سبيل إدارة أمورها ومبلغ

27.

584 جنيهًا في سبيل تحصيل الاكتتابات والإيرادات. وقد كانت إيرادات هذه

الجمعية في السنة الماضية 403.615 جنيهًا، ونفقاتها 394.113 جنيهًا،

وبلغ ما أنفق على الأعمال التبشيرية 325.000 جنيه منها 25.000 جنيه

صرفت للمبشرين الموجودين في غير البلاد الإسلامية. فيكون مجموع ما تنفقه هذه

الجمعية كل سنة للتحكك بالإسلام 7.500.000 من الفرنكات. وهي موزعة كما

يأتي 21521 جنيهًا لإفريقيا الشرقية و33048 جنيهًا لإفريقيا الغربية و6243

للتبشير في القطر المصري و82247 جنيهًا للبلاد العربية والعثمانية والفارسية

و122846 جنيهًا للهند و51611 للصين.

وقد قالت هذه الجمعية في تقريرها عن سنة 1911: إن أعمال التبشير في

البلاد الإسلامية ما زالت صعبةً وعرضةً للنفقات الجسيمة إلا أن نتائج أعمالها

أخذت تظهر للعيان. وقد قال: إن نطاق الأعمال التبشيرية اتسع عن ذي قبل في

فارس. أما في مصر فكل المجهودات تبذل في نشر التبشير وتوسيع نطاق التعليم

في الأرياف، وقد كان من شأن السكة الحديدية التي أخذت تجوب شمال نيجيريا

أنها مهدت لمبشري هذه الجمعية سبيل تأسيس مراكز تبشيرية في الأمكنة الإسلامية.

والإسلام يندفع نحو اقتباس المدنية العصرية، وهذه النهضة التي يدب دبيبها

في صدور المسلمون تدعو إلى تنافس حقيقي بينهم وبين المبشرين للاستيلاء على

المراكز التي يتوخونها، وقد ظهرت هذه النهضة أيضًا في إفريقية الشرقية الألمانية

حيث صارت السكك الحديدية منهمكةً بنقل بضائع المسلمين إلى أحشاء البلاد،

وكذلك الحال في السودان المصري الذي ظهرت فيه حركة إسلامية حقيقية تطرقت

إلى داخل البلاد، وتوجد أيضًا في نيجيريا الشمالية بعض أقاليم وثنية على حدود

بلاد إسلامية كبيرة، وهذه الأقاليم أصبحت عرضةً لبحر الإسلام الطامي، أما في

نيجيريا الجنوبية فينتظر حدوث نزاع بين المسلمين والمبشرين من يوم إلى آخر،

ويتفوق المسلمون في أكثر هذه الأقاليم على إرساليات التبشير في المال والنفوذ

وبينما كان مسيحيو مدينة (أبا يوكوتا) يخصصون مبلغ 75000 فرنك لأجل بناء

مدرسة كان مسلمو مدينة (لاغوس) يخصصون 250.000 فرنك لبناء مسجد

جديد.

وللجمعية أيضًا إرساليات تبشير في مقاطعة (سيراليونة) يرجع عهدها إلى

سنة 1804 فيها 63 مدرسة و39 معهدًا يتعلم فيها 4.500 طالب. والمسلمون

في هذه المقاطعة كثيرون وأغلبهم في داخل البلاد، وقد كان لمبشري هذه الجمعية

القدح المُعَلَّى في توسيع نطاق المستعمرات الإنكليزية بأواسط إفريقية وغربها، لأن

المبشرين كانوا يستعينون بالزنوج المتنصرين في ارتياد البلاد وتأسيس مراكز

التبشير وتوطيد النفوذ الإنكليزي، وكذلك هي إرساليات التبشير في (لاغوس)

و (إبايوكوتا) و (إبادان) و (لو كوجة)، وحاصل القول: إن لهذه الجمعية في

هذه الجهات ثلاث أسقفيات وهي في (يوروبا) ونيجيريا الجنوبية ونيجريا

الشمالية، وفي المقاطعة الأخيرة يجد المبشرون أنهم في بلاد إسلامية محضة، وفي

المقاطعة الأولى والثانية لا يوجد من المسلمين إلا التجار وأصحاب القوافل كما هي

الحال في لاغوس، والمعاهد والمدارس التي للجمعية في نيجريا الشمالية قليلة

بالنسبة لغيرها للسبب الذي ذكرناه، وهو كثرة وجود المسلمين فيها، وتقول

الجمعية في تقريرها: إن تقدم المسلمين في مقاطعة (يو روبا) موجب للقلق الشديد،

ومما يدل على ذلك أنهم خصصوا 250.000 فرنك لتشييد مسجد في

(أبايوكوتا) كما أن الإسلام ينتشر انتشارًا هائلاً في مقاطعة (إيجابو) التي كانت

سنة 1892 وثنية محضة، فأصبحت لا تخلو قرية من قراها من مسجد حتى إن

مدينة (إيجابو أود) لا يكاد يخلو شارع فيها من مسجد للمسلمين، وقد توطد نفوذ

الإسلام في (أود) .

والمسلمون أحرزوا في المدة الأخيرة حقوقهم المدنية والحرية التامة في إقامة

الصلاة وشعائر الدين الإسلامي مع أن ملك هذه البلاد كان لا يطيق ذكر المسلمين،

وكذلك يزداد عدد المساجد في (يوروبا) الغربية التي تؤسس بجانبها المدارس

العديدة لتعلم اللغة العربية ورغمًا عن كون الأهالي في بعض الجهات مثل مقاطعة

(إيبوس) يبتعدون عن الإسلام فإن نطاق الإسلام آخذ بالاتساع ففي (أكتسا) مثلاً

الواقعة في نيجيريا الشمالية لا تجد محلاً خاليًا من المعلمين المسلمين. وآية ذلك أن

المسلمين يهبطون القرى الوثنية، ويتحككون بأهلها، ولا يمضي ردح من الزمن

حتى يستعمل الوثنيون الأسماء الإسلامية، ويحملون الآثار الدينية التي يحملها

المسلمون، ثم يتدرجون في الإسلام، والأمر الذي أوجب انتشار الإسلام في (كوتا)

هو الازدواج الذي يحصل بين المسلمين والوثنيين، أما في (بوشي) ، ففضل

انتشار الإسلام عائد إلى التجار (الهوسيين) الذين ينشرون الإسلام، ويبيعون

بضاعتهم في آنٍ واحد، وقد استفحل أمر المشكلة الإسلامية في أعين مبشري

الجمعية في مقاطعة (يوروبا) لدرجة أن المبشرين هناك يطلبون الذهاب للتبشير

بين قبائل (بريبرى) الوثنية القاطنة في (بورنو) ، والتي تتراوح بين المليون

والمليونين من النفوس، وقد قال القسيس (أوغنيني) في تقريره عن (يوروبا:

(إنه أراد التحكك ببعض مسلمي (إيلورن) فطلب منه بعضهم تأسيس مدارس،

وقال له آخرون: إنهم يأسفون لعدم تمكنهم من قطع رأسه! وقد ظهر للمبشرين أن

نفود العناصر الفولانية والبولانية والإسلامية منتشر حتى في الأقاليم الوثنية

المحضة.

(يتلى)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما نشر في الجزء الثامن ص 605.

(1)

من الغريب أن يقول هذا القول من يعرف ما هي النصرانية ويعرف شيئًا عن الدين الإسلامي الذي هو دين المستقبل لا محالة لأنه هو الدين المناسب لحالة البشر في رقيهم الحالي والمستقبل.

(2)

اقرأ رسالة (المسلمون والقبط) .

ص: 667

الكاتب: صدر الدين أفندي مقصودف

المسلمون في مجلس الدوما (النواب) الروسي

خطبة صدر الدين أفندي مقصودف

النائب المسلم في الدوما عند البحث في ميزانية الوزارة الداخلية

سبب الكلام في شئون المسلمين خاصة

يا وكلاء الشعب المحترمين: لا أتكلم في سياسة الوزارة الداخلية إلا من حيث

تعلقها بالمسلمين.

أيها الأفندية: نحن وكلاء حزب المسلمين إذا بدأنا الكلام على هذا المنبر في

شئون المسلمين خاصة ربما يتساءل كثير منكم: (لأي شيء تخصّ المسلمين فقط؟

ولماذا يكون الكلام في ضغط الحكومة على المسلمين خاصة؟ وربما تقولون: إن

هذا الضغط كان يصيب كل واحد من سكان روسية من غير فرق في الجنس والدين)

وهذا ليس بصحيح على إطلاقه. فنحن المسلمين يصيبنا كثير من الضغط على

انفرادنا غير ما يصيبنا منه مع مواطنينا الآخرين.

لكل أمة من الأمم مميزات وعادات محترمة لديها، تمتاز بها عن الأمم

الأخرى، والحكومات العاقلة مهما قاومت الحركة الطبيعية فإنها لا تمس - عادةً -

هذه الأشياء المحترمة عند الأمم. وهذه المميزات هي لغة الأمة وأدبياتها ومدارسها

وما يتبع ذلك. أما حكومتنا فهي لا تزال إلى الوقت الأخير تمس بالشر هذه الأشياء

العزيزة لدينا، تطارد مدارسنا وأدبياتنا ولغتنا ونحن بها عرفنا الدنيا، وبها تتكلم

أمهاتنا، وفيها تربينا منذ صغرنا. أيها الأفندية! عندما يقع علينا مثل هذه

الضربات لا يمكننا أن نسكت غير مهتمين ولا مبالين.

قَلَّمَا يصعد حزب المسلمين في الدوما هذا المنبر، وذلك عند نفاد الصبر

وبلوغ الألم في النفس مبلغه. فلا تتكلم إلا عندما يكون الكلام لا بد منه، لذلك أيها

الأفندية نحن لا نقدر على الكلام غير متأثري العواطف (أصوات من اليمين قائلة:

هل تُقدَّر إحساساتكم بشيء من المال؟)

أنتم لا تحسون إحساسي من هذه الجهة؛ فدعوني أتكلم بحرية في كل ما أريده

وأرجو عدم قطع كلامي بأصوات شتى لا سِيَّمَا من جهة اليمين.

***

الضغط الحاصل على المسلمين

قبل بيان أسباب سياسة الحكومات ضدنا، وما كان لها من النتائج أَجِدُنِي

مضطرًّا لتعداد أعمال الحكومة غير القانونية ضدنا في غضون سنة واحدة، وأكتفي

بأن أعد منها كبارها إذ لا يمكن إحصاء جميعها. من ذلك التفتيش والسجن الذي

وقع على الأشخاص الآتية أسماؤهم، فتشوا دار حسن صبري آيوازف معلم اللغة

التركية في (لازار فسكي إينستيتوت) بمدينة مسكوف، ثم سجنوه ونفوه. وفتشوا

دار ملا عبد الله آيانايف وملا عالم جان عليف في مدينة قزان وأخذوا منهما كتبًا

وأوراقًا كثيرة. وسجنوا 9 معلمين، وعبد الله نعمة اللين وعبيد الله نعمة اللين من

كبار العلماء في قرية بوبي بولاية واتكة وأخذوا وقت إجراء التفتيش 500 مجلد من

الكتب ، وكثير منها كتب دينية.

(الرئيس: يا مقصودف! أرجو أن لا يطول بك التعداد

مقصودف: لا يأذن لي الرئيس أن أعد الوقائع كلها فيجب علَيَّ أن أكتفي

بأن مثل هذه الوقائع مكتوبة عندي حيث تملأ دفتر)

في سنة واحدة فقط أجري التفتيش على 150 من أعيان المسلمين، وأقفلت

مكاتب عديدة جِدًّا وبيوت للمعارف والمدنية.

أقفل في مدينة خوقند وحدها عشرون مكتبًا بأمر مفتش المعارف هناك وطرد

معلموها. وفي قرية آرصاي بولاية صمار التابعة لمتصرفية بوغورصلان أقفل

المكتب وطرد معلمه، وأقفلت دار كتب السعادة (كتبخانة سعادت) في بلدة منزلة

بولاية أوفا، وكذلك أقفلت مطبعة (أورنك) في مدينة قزان وطرد معلمو المكاتب

في بلدة ويرخني أودينسكي وكذلك في قرية آيو أو راز في متصرفية بوغولمة

بولاية صمار. وأقفلت مدرسة حسن بونامارف في بلدة بتر باول. ومنع المدرس

محمد أمين من التدريس في بلدة (أوش) وأقفلت مكتبة على طاربي في بلدة باغجة

سراي، ولم يؤذن ببناء جديد بدل مكتب قديم في بلدة آلماطا. وأقفلت مطبعة كازا

كوف في مدينة قزان. ومنع إحسانف ويانغاليجف من تعليم الأولاد في بلدة ساريجن

ومنع مسطافين وشرف وزبيرف من التدريس في مدينة قزان. ومنعت أيضًا

المعلمة نفيسة كازاكوا من التعليم في مكتب البنات في بلدة تتوش، ولم يأذنوا

لمنور قاري بافتتاح شعبة بجوار مدرسته لتعليم اللغة الروسية في مدينة طاشقند.

ومنع حسين مكايف من التعليم في بلدة نمنكان وقرر مجلس شورى الدولة إقفال

الجمعيات في مدينة استرخان. وشكى. وسمبر. وأقفل مكتب عند المسجد

الجامع في مدينة قزان وعزل بولاية قزان ما ينوِّف عن عشرين من الأئمة عن

مناصبهم من غير سبب.

وبِنَاءً على رجاء حضرة الرئيس بالاختصار في التعداد لا أطيل القول فيه،

ومع ذلك يمكنني أن أقول هذه الكمات بشأن الجرائد الإسلامية: أوقفت جريدة

(الشمس كونش) اليومية التي تصدر في مدينة باكو وكذلك أوقفت فيها مجلة

(هلال) و (معلومات) وغرموا جردية (وقت) أكثر من 800 روبل في سنة

واحدة، وكذلك غرموا (صدى) و (معلومات) ومجلة (آيقاف) القزاقية غرامات

متعددة. لم أعد كل الوقائع بل ذكرت بعضًا من كبرها، وخلاصة القول: أنها

أجريت التفتيش على 150 مسلمًا ، وقفل أكثر من 70 من المكاتب والمدارس ،

وطائفة من الجرائد.

***

سبب الضغط

عندما نرى إيذاءًا بهذا المقدار يقع على الأئمة ، ونرى إقفال ذلك القدر من

المكاتب والمدارس ننصرف، من غير اختيار لي التفكر بأحد أمرين اثنين. وهما

إمّا أن الحكومة الروسية لا تحب رُقِيَّنَا ودخولنا في المدنية ، فتريد أن تقاومنا بكل

الوسائل الممكنة، وإما أنها تغلط بزعمها وجود فكرة وحركة بين المسلمين ضد

روسية ، فترى من الضروري التذرع بالوسائل لمنعها.

وعلى ظني أن هذين الاحتمالين صحيحان كلاهما؛ وذلك أن من العادة القديمة

للحكومة أن تردع المسلمين وتسكتهم كلما بَدَا منهم الاجتهادُ والسَّعْيُ الحثيث إلى

الرُّقِيِّ والمَدَنِيَّة. الحكومة لا تريد تقدم المسلمين ورقيهم ، ولكن هذه الحال في

الحكومة الآن أقوى وأوضح منها في الماضي. الوسائل المتخذة ضد حركتنا المدنية

الآن تتخذ على ادِّعَائِهِمْ ضِدِّ الجامعة الإسلامية.

تقول الحكومة وحزب اليمين: نحن نصارع المسلمين ، ونتخذ الوسائل

الشديدة ضدهم؛ لأنه يوجد بينهم حركات هائلة تُدْعَى (الجامعة الإسلامية) .

نورد هنا مسألةً وهي: هل توجد حركة هائلة بين المسلمين؟ وهل توجد

حركات وأعمال ضد الإمبراطورية مهما كان نوعها وشكلها؟ ها هم يَدَّعون وُجودَها

ونحن ننكرها.

***

ما هي الجامعة الإسلامية ومن أين أَتَت ْ؟

أيها الأفنديةُ! في الأيام الأخيرة أخذت جرائد حزب اليمين تتذرع بوسائل

شَتَّى ضد الجامعة الإسلامية، وَلَمَّا عَرَفْنَا أخبارَ الجامعة الإسلامية مِن هذه الجرائد

ومِن الحكومة نفسها راجعنا معارفنا من الأئمة والمعلمين والتجار ، وسألناهم عن

وجود حركة بين الناس يمكن أن تسمى الجامعة الإسلامية ، فَأَخَذَتْهُمِ الحيرةُ مِن هذا

السؤال ، ولم يفهموا لها مَعْنًى. فلم يبقَ لنا من مصدر للبحث عن وجود هذه

الجامعة وانتشارها إلا مراجعة الحكومة. ولقد وجدت معنى هذه الكلمة العجيبة في

ورقة من أوراقها ، وفيها تحديد الجامعة الإسلامية هكذا: الجامعة الإسلامية هي

حركة بين المسلمين لتوحيدهم جميعًا مِن حيثُ المَدَنِيَّةُ والسياسةُ: ومبيّن فيها أيضًا

أن الجامعة الإسلامية منتشرة انتشارًا كبيرًا في جوار نهر (أيدل - قاما) .

فالقول بوجود الجامعة الإسلامية بيننا هو اتهام لتتر (أيدل - قاما) بالسعي

لتوحيد مسلمي الأرض جميعًا من حيث المدنية والسياسة.

أيها الأفندية! لا أدري. هل يمكن اشتغال التترسكان نواحي نهر (أيدل -

قاما) وهم 4 أو 5 ملايين متأخرون من حيث المدنية ومضطهدون من الحكومة ،

وفقراء من الجهة المادية بهذه المسألة العظيمة - مسألة توحيد المسلمين القاطنين في

الهند وجزر الفيليبيين والأنحاء الأخرى من آسيا وإفريقية وغيرهما من القارات

الأرضية، ولم يتمكن كبار الدُّهَاة من مثل هذا العمل كنابليون والإسكندر المكدوني،

ويتهموننا أيضًا بوجود فكرة فيما بيننا وهي فكرة الانفصال عن روسية.

أيها الأفندية الجالسين في اليمين! لنفتكر قليلاً كما يفتكر العقلاء المستنيرون

متجردين من الأفكار الأخرى، (تسمع كلمات من ناحية اليمين: ماذا تقولون؟

فيسكتهم الرئيس، ويصيح النائب بور يشكيويج مستهزءًا: كنتم قد اعترفتم الآن

أنكم غير متمدنين!) افتكروا قليلاً هل يمكن لأربعة ملايين من التتر المتأخرين في

المدنية والاقتصاد ، وهم بين 100 مليون من الروس ، وقد قبلوا منذ القرن السادِسَ

عَشَرَ تبعية حكومة الروس ، وعاشوا أربعة قرون ساكنين مطمئنين - هل يمكنهم

أن ينهضوا دفعةً واحدةً ، ويشتغلوا بفكرة توحيد مسلمي القارات الخمس توحيدًا مدنيًّا

وسياسيًّا؟ !

أيها الأفندية! يمكن أن يُؤْتَى بمثل هذه الكلمات على سبيل الفكاهة فقط ، وأمّا

من طريق الجد فلا يجوز أن يؤتى بها ولا سِيَّمَا إذ حصل بسببها إقلاق راحة أقوام

هادئين مطمئنين ، فحينئذ يكون مثل هذا القول لَعِبًا ضارًّا وخطأ سياسيًّا لا يُغْتَفَرُ.

أيها الأفندية! لو لم تكن تِلْكُمُ الأفكارُ الباطلةُ عن وجود الجامعة الإسلامية سببًا

في الضغط المار ذكره لَمَا كنت قائلاً شيئًا في هذه الجامعة الخيالية، فالسبب

الرئيسي لما حصل من الضغط في السنين الأخيرة هو الاتهام بوجودها بيننا (هنا

يقوم بور يشكيويج ويصيح: اقرأوا أنتم كتاب يفدوكيف وأنا أعيركم إياه إذا لم يوجد

عندكم. والرئيس يسكته ثانية) .

هكذا أيها الأفندية! لا يمكن إسناد الجامعة الإسلامية - التي معناها توحيد

المسلمين كلهم توحيدًا مدنيًّا وسياسيًّا - إلى 4 أو 5 ملايين من المسلمين القاطنين

في نواحي (أديل - قاما) لست أدري مَن ذا الذي جاء بهذا الخيال العظيم، هل

نحن المرتقين؟ أم العامة الذين يكونون عادةًَ بعيدين عن أمثال هذه الأفكار العظيمة؟

لا يمكن للمستنيرين من المسلمين أن يشتغلوا بأمثال هذه الفكرة التي تعلم بالبَدَاهَةِ

أنها فكرةٌ ساقطةٌ غير رائجة.

أيها الأفندية! الجامعة الإسلامية هي خيال محض لا غير. وهي مما جاء به

المبشرون أدعياء السياسة ، الذين اتخذوا عداوة المسلمين أساسًا لعملهم، ولا وجودَ

لها إلا في كتبهم ومقالاتهم.

أيها الأفندية! يمكنكم أن تسألوني الآن: إذا لم يكن للجامعة الإسلامية وجود ،

فَمِنْ أين جاءت هذه الفكرة؟ ولأي شيء بدأت جرائد حزب اليمين تكثر من الكتابة

فيها؟ فأنا مع الامتنان لكم أجيب على هذا السؤال قائلاً: الجامعة الإسلامية هي مما

فكر فيه حتى أخرجه إلى الوجود الذهني مبشرو الروس أدعياء السياسة، وهي

ليست من مبتكرات أفكارهم وحدهم ، بل كانت هذه الفكرة موجودةً من قبلُ، وكان

يكتب فيها قديمًا المستشرقون من تَبَعَةِ الدُّوَلِ الأجنبيةِ اللاتي ليس لهن رعايا من

المسلمين ، وهم يفكرون: أنه إذا كانت الجامعة الجرمانية قد وجدت والجامعة

السلافية كذلك ، فكيف لا توجد الجامعة الإسلامية؟ ولكن لا يوجد فيهم من قال

بوجودها فعلاً وإنما هم يكتبون فيها كتابةً ، ويجوزون وجود فكرة سياسية باسم

الجامعة الإسلامية ، ولا يستبعد أن يكون ظهور الجامعة الإسلامية إلى الوجود أمرًا

مرغوبًا فيه عند مستشرقي الألمان والنمسة والمجر، والظاهر أن المبشرين عندنا

قد سمعوا تلكم الأقوال ، فتمسكوا بها وأخذوا في استعمالها بمهارة زائدة لمنافع

جمعياتهم الروحية، وهاكم الدليل على ما أقول:

توجد عندنا جمعيات تسمى جمعيات المبشرين. أكبرها جمعية مبشري

الأرثوذكس ، وعندها أموال كثيرة جِدًّا، ولكن أكثرها هجومًا على المسلمين جمعية

إخوان الجيل المقدس (براتستواسوه توي غوري) في مدينة قزان ، ويمكنني أن

أقول: إنني قد طالعت أدبياتهم من زمان بعيد منذ صغري.

أيها الأفندية! كلمة الجامعة الإسلامية لا تكاد توجد في أدبيات المبشرين

المدونة إلا منذ سنة 1908 هم يعيبون علينا أن ننظر إلى أدبياتهم بعين غير عيونهم ،

وعدم الرغبة في دخول المكاتب الروسية، ويقولون: إن الأئمة يقاومون انتشار

النصرانية ، وأحيانًا يعيبون الحكومة لعدم مشيها على رأيهم في إكراه المسلمين على

التنصر، كل هذه الأشياء موجودة في كتبهم وأدبياتهم، ولكن لا يوجد ولا كلمة

واحدة في الجامعة الإسلامية إلى سنة 1908 ، وبعدها صارت تُكتبُ مقالات وأخبار

في الجامعة الإسلامية في مجلاتهم ورسائلهم المنتشرة فبأي صورة ينبغي لنا أن نفهم

ذلك؟ لأي شيء أخذوا يكتبون في تلكم الجامعة الإسلامية منذ سنة 1908 فقط؟

السبب في هذا هو ما يأتي: المبشرون في روسية عمومًا ومبشرو مدينة قزان

خصوصًا يريدون منذ زمان بعيد أن يلعبوا دورًا مهمًّا مع المسلمين ، وأن يحملوا

الحكومة على سياسة الهجوم عليهم ، ولكن لَمَّا يبلغوا من مقاصدهم ما يريدون.

كانوا يلقنون الحكومة قبل إعلان الدستور ما يجب عليها - على زعمهم -

من السياسة المتعبة في حق المسلمين، ولكن ما كانت تلقيناتهم ومساعيهم في

حمل الحكومة على سياسة الهجوم مقبولة في دوائرها في وقت من الأوقات كما كانت

في وزارة أسطالبين [1] ، ولما علموا تمسك أسطالبين بالسياسة المِلِّيَّة زعامة

قروبينسكي وبوبرينسكي ومن على شاكلتهما في الحزب الملي في الدوما أيقنوا بأن

وقت العمل لتحقيق مقاصدهم قد جاء ، وأدركوا أن كلامهم ضد المسلمين صار

مصدقًا في بترسبورغ مهما كانت درجته من الصحة. فلذلك أخذوا يخوفون الحكومة

تخويفًا منذ سنة 1908 بوجود الجامعة الإسلامية، وأخذ مبشرو قزان يرسلون

اللوائح تلو اللوائح إلى وزارة الداخلية (عندي صور هذه اللوائح كلها) وقد كتبوا

في لوائحهم هذه عن وجود حركة هائلة بين المسلمين ضد حكومة روسية ، وبينوا

ضرورة ووجوب مقاومة هذه الحركة وغيرها ما يماثلها وبعد ذلكم انعقدت جمعية

المبشرين في قزان سنة 1910 ، وكرروا فيها ما كتبوه في هذه اللوائح. فهم

يصيحون بوجود حركة هائلة بيننا ، ولا يأتون بدليل على دعواهم مطلقًا.

أيها الأفندية! أرى من الواجب قراءة بعض قرارات هذه الجمعية - جمعية

المبشرين المنعقدة في قزان - لتقيس بها لائحة أخرى صادرة من دوائر الحكومة

سيأتي بيانها.

وإليكم الآن قرارات الجمعية في حقِّنَا (وكان فيها طبعًا كلام وبحث في غير

المسلمين ، ولكن أغلب الأبحاث كانت في المسلمين) وهم يَدَّعُونَ أَنَّ جَمِيعَ

التدابير والقرارات قد اتخذت لمقاومة الجامعة الإسلامية ، فَلْنَنْظَرْ هَلْ هي كما

يَدَّعُونَ ، وَهِيَ:

1-

طلب إعانة سنوية من خزينة الحكومة لجمعية (سوه توي غوري)

وهذا بِنَاءً على فَقْرِ الجمعية.

2-

طلب الإعانة من الحكومة لتربية شعبة مدارس المبشرين في مدينة وياتكه.

3-

طلب تكثير المكاتب الكنيسية بين التتر المكرهين [2] مقاومةً للإسلام ،

وطلب إعانة من الحكومة للجان التراجم توزع كما يأتي: للجنة الترجمة في قزان

5000 روبل ، ولها في سمبر 2000 روبل ، ولكل من لجان صمار وأورنبورغ

وطابول وطومسكي 1000 روبل.

4-

تعين المبشرين الكبار في الألوية (المديريات) التي يوجد فيها أقوام من

غير الروس.

5-

دعوة أعضاء الجمعية المبشرين من الذين يشتغلون في مؤسسات

الحكومة، وهم ليسوا من الإكليريكيين.

6-

نشر الرسائل المبينة فيها دلائل أساس النصرانية وبراهين على بطلان

الإسلام؛ وذلك لأجل الروس المتوطنين في ولايات يساكنهم فيها غيرهم ، وكذلك

لأجل أقوام آخرين.

7-

الرجاء من المأمورين في المقامات العالية محو الامتيازات الممنوحة

لبعض العائلات في القريم والقوقاس وبين القزاق (وهذا أيضًا ضد الجامعة

الإسلامية؟ ؟) .

8-

نشر مجلة لمقاومة فكرة الجامعة الإسلامية الموجودة في مطبوعات التتر

الحديثة.

9-

نشر جريدة لبيان الأفكار الموجودة في المطبوعات الإسلامية في داخل

روسية وخارجها.

10-

الرجاء من السينات (شورى الدولة) طلبها من الحكومة أن توجب

طبع جرائد ومجلات التتر باللغتين. التترية والروسية (كل هذا ضد الجامعة

الإسلامية؟ ؟) .

11-

فصل المسلمين عن غيرهم وقت الانتخابات حتى لا يكون لهم تأثير في

الآخرين.

12-

تسليم مكاتب المسلمين الموجودة الآن إلى نظارة الحكومة.

أيها الأفندية: هذه قرارات الجمعية التبشيرية لمقاومة الجامعة الإسلامية ،

وأود لو أرى نفعًا بسؤالهم عن وجود قرار واحد فقط يمكن أن يقال: إنه ضد

الجامعة الإسلامية! لا، ليست هذه القرارات ولا واحد منها ضد الجامعة الإسلامية

بل كلها لمقاومة الإسلام نفسه على خط مستقيم.

لو كان المبشرون عندنا جمعوا جموعهم ، وأجمعوا أمرهم مقتصرين على

البحث في هذه المسألة ، ولم يلقنوا الحكومة ما ينبغي لها - على زعمهم - من اتّباع

السياسة الموافقة لِمَشْرَبِهِمْ في معاملة المسلمين ، واقتصروا فيما ينشرونه على

آرائهم وأفكارهم آمنين مطمئنين لَمَا كان لَنَا أن نقولَ كلمةً فيهم ، ولكنهم مع الأسف

لا يكتفون بالاشتغال بها وَحْدَهَا بل هم دائمًا - لا سِيَّمَا الآن - يجتهدون بأن يؤثروا

في سياسة الحكومة حتى وصلوا في وَزَارَةِ أسطالبين إلى كثير من مقاصدهم. رأوا

من أسطالبين ميله - في غير شئون الروس - إلى ما يَرْتَأُونَهُ من اتخاذ الوسائل

الشديدة فأرادوا حمله على سياسة الهجوم. ومن جهة ثانية فإنهم يعرفون فيه نوعًا

من علوّ الجَناب. فلو أنهم قالوا له: (إن المسلمين يعيشون ساكتين مطمئنين) لَمَا

دخل أسطالبين في طريق الهجوم ضد المسلمين حتى ولو كان الأئمة يقاومون الدعاة

في نشر النصرانية بالعقل، فلحمل أسطالبين على اتخاذ التدابير الشديدة ضد

المسلمين ارتأوا أن يوهموا الناس بوجود تلكم الحركة الهائلة بين المسلمين؛ ولذلك

أخرجوا بعد تفكير عميق خيالاً عظيمًا وشبحًا مجسمًا باسم الجامعة الإسلامية.

ولما أقنعوا الحكومة بوجود تلكم الجامعة بواسطة لوائحهم المرفوعة إلى

أسطالبين ، وقراراتهم في الجمعية التبشيرية في قزان ، وفقوا لحمل الحكومة على

عقد جمعية شورية في دائرة الوزارة الداخلية خصيصة بالبحث في التدابير ضد

الجامعة الإسلامية، وأكثر أعضاء هذه الجمعية من مبشري مدينة قزان موجود ،

وهذه الفكرة (بيسقوب ألسكي وغيرهم) . وهذه الجمعية وجدت تدابير كثيرة ضد

هذه الجامعة. ولكن هذه التدابير التي يقال: إنها لمقاومة الجامعة الإسلامية ليست

كما يَدَّعُونَ بل هي لمقاومة الإسلام نفسه، أذكر لكم الآن الوسائل التي وجدت

موافقة لمقاومة الجامعة الإسلامية من طرف المأمورين الملكيين، ثم أبين لكم عدم

وجود فرق بين قرارات جمعية المبشرين وبين وسائل رجال الحكومة، ليست

مشابهة قرارات المبشرين لقرارات رجال الحكومة من حيث المعنى والمآل فقط ،

بل يشبه بعضها بعضًا مِنْ حَيْثُ الألفاظُ والعباراتُ، وخلاصةُ الكلامِ: أن التدابير

التي أجمعوا عليها في الجمعية التبشيرية لمقاومة الجامعة الإسلامية قد حازت تَمَامَ

القَبُولِ عند المأمورين الملكيين ، وترأس الجمعية الشورية معاون وزير الداخلية

(خاروزين) وربما اعترف بما عملوا.

لا أقرأ جميع اللائحة المقدمة لشورى الوزارء في شئون الجامعة الإسلامية

الموقعة من أسطالبين وغيره ، بل أقرأ شيئًا منها، وهو:

(للخطاب بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

أسطالبين رئيس الوزارة الروسية السابق ، وكان مساعدًا لدعاة النصرانية في روسية ، وقد مات في الشتاء الماضي رميًا بالرصاص في مَحْفَلِ التمثيل في مدينة كييف من يد أحد الفوضويين الروسيين.

(2)

لعله يريد المكرهين على النصرانية في دور الاستبداد.

ص: 683