المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بشائر عيسى ومحمد [*]في العهدين العتيق والجديد(7) - مجلة المنار - جـ ١٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (15)

- ‌المحرم - 1330ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس عشر

- ‌ذكرى الهجرة النبوية الشريفةوجعلها تاريخًا عامًّا للبشر

- ‌علاوة للمقالة

- ‌نقل كلام المخالفين أو المبطلين

- ‌أسئلة من الهند

- ‌أموال الشركات الأجنبية في بلادناوحقوق المعاهدين

- ‌الدخول في الماسونية

- ‌المسألة الشرقية

- ‌ المسألة الشرقية

- ‌خاتمة المقالات.. شجون ومحاورات

- ‌القرابين والضحايا في الأديان

- ‌إنا لله وإنا إليه راجعون [

- ‌صفر - 1330ه

- ‌السيد حسين رضا(1)

- ‌الدولة العلية واليمن

- ‌دعوة سيدي أحمد الشريف السنوسيإلى جهاد الإيطاليين في طرابلس الغرب وبرقة

- ‌اللغة العربية

- ‌الجامعة الإسلامية [*]

- ‌الصلح بين الدولة والإمام

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌ربيع الأول - 1330ه

- ‌الوفاق بين الإسلام والنصرانية

- ‌الاجتهاد والتقليد

- ‌اللغة العربية [*]

- ‌العالم الإسلامي [

- ‌أخبار العالم الإسلامي

- ‌الدين كله من القرآن [*]

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع الآخر - 1330ه

- ‌المقالة الثانيةمن المقالات الروسية عن تركستان

- ‌عراف

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](1)

- ‌التقريظ والانتقاد [*]

- ‌جمادى الأولى - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](2)

- ‌أخبار العالم الإسلامي

- ‌المطبوعات الجديدة [*]

- ‌جمادى الآخرة - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](3)

- ‌رجب - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](4)

- ‌فرنسة في تونس وإنكلترة في مصر

- ‌السكة الحديدية في الحجاز [*]

- ‌طريقة السنوسيةوزواياها بين الإسكندرية ودرنة [*]

- ‌أهمية الإسلام

- ‌ ابن تيمية ولوتر

- ‌فوائد صحيةغذاؤنا في الصيف [*]

- ‌أسرار الثورةأوخواطر ساعة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌التقاريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1330ه

- ‌التربيةووجه الحاجة إليها وتقاسيمها

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](5)

- ‌نهضة آسيوية

- ‌الشعر العصري

- ‌رمضان - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](6)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌مجلة العالم الإسلامي الفرنسية

- ‌التقاريظ

- ‌كامل باشاآراؤه السياسية منذ 24 عامًا

- ‌شوال - 1330ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الجامعتان الإسلامية والعثمانية [*](1)

- ‌بشائر عيسى ومحمد [*]في العهدين العتيق والجديد(7)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ذو القعدة - 1330ه

- ‌الحرب الصليبية في البلقان

- ‌السبحةتاريخها والتسبيح والذكر بها

- ‌حديث في استلزام المغفرة للذنوب

- ‌أسئلة من القوقاس

- ‌الجامعتان الإسلامية والعثمانية(2)

- ‌نظرة في الجزء الثاني من كتابتاريخ آداب اللغة العربية [*](2)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌ذو الحجة - 1330ه

- ‌اتخاذ الصور والتصوير الشمسي

- ‌فتاوى المنار

- ‌ميزان الجرح والتعديل [*](2)

- ‌خطبةافتتاح الاجتماع السنوي العام لجماعة الدعوة والإرشاد

- ‌حقيقة أحوال مسلمي جاوه

- ‌بعد تسعة قرون [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌خاتمة السنة الخامسة عشرة

الفصل: ‌بشائر عيسى ومحمد [*]في العهدين العتيق والجديد(7)

الكاتب: محمد توفيق صدقي

‌بشائر عيسى ومحمد [*]

في العهدين العتيق والجديد

(7)

(البشارة الأولى) جاء في سفر التثنية ما يأتي 18: 15 (يقيم لك الرب

إلهك نبيًّا من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون 16 حسب كل ما طلبت من الرب

إلهك في حوريب يوم الاجتماع قائلاً: لا أعود أسمع صوت الرب إلهي ، ولا أرى

هذه النار العظيمة أيضًا لئلا أموت 17 قال لي الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا 18

أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه ، فيكلمهم بكل ما

أوصيه به 19 ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا

أطالبه 20 وأما النبي الذي يطغى ، فيتكلم باسمي كلامًا لم أوصه أن يتكلم به أو

الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي 21 وإن قلت في قلبك: كيف نعرف

الكلام الذي لم يتكلم به الرب 22 فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر

فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه) ، فهذه

البشارة صريحة جدًّا في محمد صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقم نبي مثل موسى

ومن وسط اليهود ومن إخوتهم (بني إسماعيل)[1] غيره وكان أُمِّيًّا يُوحَى إليه

القرآنُ ، فيحفظه ويبلغه للناس مصداقًا لقوله:(أجعل كلامي في فمه) وكان

مأمورًا بجهاد أعدائه ، فانتقم الله له ممن لم يسمع كلامه منهم وحفظه الله تعالى ، فلم

يقتله أحد ، وصدقه فيما أخبر به عنه بوقوعه وحدوثه ، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن

الشريف كانتصار الروم على الفرس، ونصر المؤمنين على الكفار في نفس ذلك

اليوم (30: 1-6) ودخول المسلمين مكة بعدما طردوا منها (48: 27)

وارتداد بعض الناس بعد النبي (5: 54) وانغلاب المشركين وانهزامهم (54:

44 و45) وحفظ النبي وعصمته من أعدائه وإهلاك المستهزئين به (2: 137

و15: 94-96 و5: 67) واستخلاف المؤمنين في الأرض (أي جعلهم خلفاءَ)

وتمكين الدين لهم ، وإسكانهم فيها آمنين مطمئنن بعد الضعف والخوف الشديد

(24: 55) وإخباره بحفظ القرآن من الضياع ومن التحريف والتبديل

(15: 9) وبعجز العرب وغيرهم عن الإتيان بسورة واحدة مثل سوره (2:

23 و24 و17: 88) وبتمام دينه قبل موته ، وظهوره على غيره وبقائه إلى يوم

القيامة (9: 32 و33) وبظهور الدلائل الكونية في العلوم الحديثة ، وغيرها

التي تؤيّد نصوص دينه (41: 53) وإخباره بدعوة المخلفين من الأعراب إلى

حرب بعد وفاته (9: 83 قارنها بسورة 48: 16) وتبشيره المؤمنين بالنصر

في واقعة معينة عندهم (هي خيبر) وأخذهم الغنائم الكثيرة منها ، فكان ذلك مع

أنهم سبق لهم الانكسار في بعض وقائع سابقة غير هذه (48: 18-22) والإخبار

بأن النبي سيبقى نسله، وأما مُبغضه (وهو شخص معين اسمه العاص بن وائل)

فسيكون أبتر (سورة 108) وإخباره بتجنس الأمم بالجنسية العربية كما سبق:

62: 3 (إلى غير ذلك مما أنبأ به قبل وقوعه وصدقه الله فيه هذا عدا ما في

أحاديثه من المغيبات العجيبة العديدة (ما مر من الأرقام هو لسور وآيات قرآنية) .

ومن كان محبًّا للبحث والاطلاع فعليه بكتاب (حجة الله على العالمين في

معجزات سيد المرسلين) يجد من ذلك شيئًا كثيرًا. والأحاديث الإسلامية هي أصح

من غيرها لقرب عهدها ، وكثرة رواتها ، وعدم انقطاع سندها بحوادث جارفة ، أو

ارتداد عام كما حصل لليهود والنصارى في أزمنة اضطهاداتهما ، ولكون المسلمين

في تلك الأزمنة كانوا ممتازين عن غيرهم بالعلم والعرفان والقوة والحياة حتى وجد

بينهم علم النقد العالي في الحديث والتمحيص الدقيق فيه قبل أن تعرف ذلك أمة من

أمم العالم قاطبة، وكان فيهم ألوف من العلماء المحققين منذ نشأتهم، وكان العلم

والكتب منتشرة بين عامتهم ولم توجد عندهم رئاسة دينية تحظر عليهم الاطلاع

بأنفسهم على كتبهم الدينية كما كان عند النصارى قبل الإصلاح البروتستنتي؛

ولذلك قال بعض علماء الإفرنج: إن الإسلام هو الدين التاريخي الوحيد يعني:

أصح الأديان من الوجهة التاريخية.

وإنما قلنا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قام من وسط اليهود؛ لأن

المدينة التي فيها عظُم أمره وكمُل شأنه وتم دينه كانت محاطة بأراضي اليهود كأهل

خيبر وبني قينقاع والنضير وغيرهم، وهي التي تحصن فيها كثير منهم بعد حادث

(طيطس) الروماني.

وكان اليهود في زمن المسيح عليه السلام ينتظرون نبيًّا آخر غير المسيح،

بشرهم موسى عليه السلام به كما يدل على ذلك ما ورد في إنجيل يوحنا

(1: 19-25) (وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة

ولاويين ليسألوه من أنت 20 فاعترف ولم ينكر وأقر: إني لست أنا المسيح 21

فسألوه إذًا ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب لا - إلى

قوله: 25 فسألوه وقالوا له: فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا

النبي) فمرادهم بالنبي هنا هو المذكور في سِفر التثنية وهم كانوا يفهمون من كتبهم

أنه غير المسيح فلذا سألوا ما سألوا.

وجاء في سفر الأعمال أن بطرس قال: (أع 3: 19) (فتوبوا وارجعوا

لتُمحى خطاياكم لكي تأتي أوقات الفرَج من وجه الرب 20 ويرسل يسوع المسيح

المبشر به لكم من قبل 21 الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء التي

تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر 22 فإن موسى قال للآباء: إن

نبيًا مثلي يقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون في كل ما يكلمكم به) فأزمنة

رد كل شيء التي تكلم عنها الله بفم الأنبياء جميعًا هي أزمنة محمد صلى الله عليه

وسلم التي فيها يبقى المسيح في السماء على قولهم حتى تنتهي. ولا يصح أن تكون

عبارة موسى هذه بُشرى بمجيء المسيح الأخير فإن هذا المجيء هو الدينونة

والجزاء كما يزعمون. وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم تشبه شريعة موسى؛

فلذا سمى أزمنته (أزمنة رد كل شيء) فكأن الشريعة العيسوية كانت تمهيدًا لإتيان

الشريعة المحمدية الكاملة التي تشمل العدل والفضل وردَّت الدين إلى رونقه القديم

رونق التوحيد والتنزيه والأحكام الإلهية بعد أن شوهوه بالشرك والتشبيه والإباحة

ونقضهم ناموس موسى كما بينَّا.

(البشارة الثانية) بشارة عيسى عليه السلام بالفارقليط، وهي مشهورة في

إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، ومن شاء

زيادة إيضاح فعليه بكتاب (إظهار الحق) (1 يو 14: 15 - 18 و15: 26

و27 و16: 12 - 16) .

وإنما لنا هنا كلمة عن الفارقليط وهي: هذا اللفظ يوناني، ويكتب بالإنكليزية

هكذا (Paraclete) بارَقليط أي (المُعزِّي) ويتضمن أيضًا معنى المحاجّ كما

قال بوست في قاموسه، وهناك لفظ آخر يكتب هكذا (Periclyte) ومعناه رفيع

المقام. سام. جليل. مجيد. شهير. وهي كلها معانٍ تقرب من معنى محمد

وأحمد ومحمود.

ولا يخفى أن المسيح كان يتكلم بالعبرية فلا ندري ماذا كان اللفظ الذي نطق

به عليه السلام، ولا ندري إن كانت ترجمة مؤلف هذا الإنجيل له بلفظ

(Paraclete) صحيحة أو خطأ، ولا ندري إن كان هذا اللفظ (Paraclete)

هو الذي ترجم به من قبل أم لا؟ ؟ ؟ لأننا نعلم أن كثيرًا من الألفاظ والعبارات وقع

فيها التحريف من الكتّاب سهوًا أو قصدًا كما اعترفوا به (راجع الفصل الثالث) في

جميع كتب العهدين فإذا كان اللفظ الأصلي (Periclyte) بيرقليط فلا يبعد أنه

تحرف عمدًا أو سهوًا إلى (Paraclete) بارقليط حتى يُبعدوه عن معنى اسم

النبي صلى الله عليه وسلم مما يسهل عليهم ذلك تشابه أحرف هذه الكلمة في اللغة

اليونانية.

وعلى كل حال فسواء كان هو (Paraclete) بارقليط أو (Periclyte)

فمعنى كل منهما ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم فهو مُعزٍّ للمؤمنين على عدم

إيمان الكافرين وعلى وجود الشر في هذا العالم بإيضاح أن هذه هي إرادة الله لحكمة

يعلمها هو، ومُعزٍّ أيضًا للمصابين والمرضى والفقراء وغيرهم بعقيدة البعث

والقيامة، وهو صلى الله عليه وسلم كان يُحاجِج الكفار والمشركين وغيرهم (إذا

كان معناه المحاجّ كما قال بوست) وهو شهير سامٍ جليل مجيد إذا كان اللفظ الأصلي

(بيرقليط) والعبارات الواردة في إنجيل يوحنا في هذه المسألة لا تنطبق إلا على

محمد عليه السلام كما بين ذلك صاحب كتاب إظهار الحق ومؤلف كتاب (فتح الملك

العلام في بشائر دين الإسلام) وكما أشرنا إلى ذلك في صفحة 82 من هذا الكتاب.

ومملكة محمد هي مملكة الله في الأرض المسماة في العهد الجديد بملكوت الله

وبملكوت السماوات، وكان المسيح عليه السلام وتلاميذه يبشرون الناس دائمًا بقرب

مجيئها وأمر عليه السلام النصارى أن يطلبوا إتيانها من الله في صلواتهم (انظر

متَّى 3: 2 و4: 17 و23 و23 و6: 31 و32 و20: 1 - 16 و21: 33 -

44 لوقا 10: 9 و11 (وهذه المملكة هي التي بدأت صغيرة ثم نمت وكبرت حتى

ملأت العالم؛ ولذلك شبهها عيسى عليه السلام بالزرع الجيد وبالخميرة وبحبة

الخردل التي تصير أكبر البقول حتى إن طيور السماء تأتي وتتآوى في أغصانها

(متَّى 13: 24 - 35) ولذلك قال القرآن الشريف في محمد وأتباعه (ومثلهم في

الإنجيل كزرع أخرج شطأه) الآية (راجع سورة الفتح 48: 29) وهم الآخرون

الذين صاروا أولين كما قال المسيح (متى 20: 16) وقال محمد صلى الله عليه

وسلم: (نحن الآخرون السابقون) وهم الأمة التي أعطي لها (ملكوت الله)

ورئيسهم محمد هو (رأس الزاوية والحجر الذي من سقط عليه سُحق) (متى 21:

42 ومز 118: 23) لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا من بني

إسماعيل، وهم نسل الجارية (تك 21: 13) المحتقرون عند اليهود، ولكن الله

باركهم وكثرهم جدًّا حتى ملأوا الأرض وفتحوها وصاروا لا يُعَدون من الكثرة كما

قال ملاك الرب لهاجر (تك 16: 10) ولم يجعل الله لأولاد الحرة (سارة) فضلاً

عليهم، وأما العهد الذي جعله تعالى لأولادها (تك 17: 21) [2] فهو إعطاؤهم

أرض كنعان فإنه تعالى كتبها لهم كما قال القرآن الشريف (5: 21) راجع أيضًا

(تك 17: 8) وقال في سِفر الخروج 6: 4 (وأيضًا أقمت معهم عهدي أن

أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم التي تغربوا فيها) وقال في مزمور 105:

8 -

11 (ذكر إلى الدهر عهده.. .. الذي عاهد به إبراهيم وقسمه لإسحاق فثبته

ليعقوب فريضة ولإسرائيل عهدًا أبديًّا قائلاً: لك أعطي أرض كنعان حبل ميراثكم) .

فلولا محمد صلى الله وسلم لما كان لبني إسماعيل (العرب) شأن يذكر في

العالم مع أن الله وعد أن يجعلهم أمة كبيرة عظيمة (تك 17: 20 و21: 17)

فبمحمد وحده تحقق هذا الوعد وصاروا أمة أخضعت العالم كله لها ونشرت فيه

الدين الحق والعلم والمدنية الصحيحة، ولا يزالون إلى الآن من أكثر أمم الأرض

حتى صاروا بعد الإسلام لا يعدون من الكثرة كما بشر الملاك هاجر بذلك

(تك 16: 10) على ما تقدم.

وبذلك ظهر صدق هذا الوعد الإلهي بأكمل مظاهره، وأما قبله عليه السلام فلم

يكن أحد يسمع عن العرب (بني إسماعيل) شيئًا يُعبأ به أو عملاً يُلتفت إليه.

فقارن حالتهم قبل الإسلام وبعده تتضح لك صحة هذه الأقوال الواردة عنهم في سفر

التكوين من قديم الزمان، فقد باركهم الله تعالى بمحمد وكثَّرهم وجعلهم أمة كبيرة كما

وعد (تك 17: 20) وكان لهم مُلك جليل واسع كما في الإنجيل يزينه ذكر الله

تعالى وحده، ومن أنكر تفسيرنا هذا فليأتنا بغيره بحيث يكون شافيًا لعلته راويًا

لغلته كهذا التفسير الصحيح الذي ذكرناه هنا، وإلا فليترك المكابرة وليعترف بالحق

فإن الحق خير وأبقى.

(البشارة الثالثة) قال حجي 2: 6 (لأنه هكذا قال رب الجنود. هي مرة

بعد قليل فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة 7 وأزلزل كل الأمم ويأتي

(مشتهى) كل الأمم فأملأ هذا البيت مجدًا قال رب الجنود 7 لي الفضة ولي الذهب

يقول رب الجنود 9 مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول قال رب

الجنود وفي هذا المكان أعطي السلام بقول رب الجنود) وسبق أننا قلنا: إن كلمة

(مشتهى) هنا بالعبرية (حمدوت)[3] أي: محمود كل الأمم، وهذا صريح في

محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ينطبق على أحد سواه، وفي قوله: أعطي السلام

إشارة لتحية المسلمين ، وهي (السلام عليكم) التي كانوا يقولونها للناس بعد أن

عمروا بيت أورشليم في زمن عمر رضي الله عنه وأعادوا إليه مجدًا أعظم من

مجده الأول حتى صار يعظمه اليهود والنصارى والمسلمون الذين عاشوا حوله معًا

في أمنٍ وسلام في حِمَى الإسلام ويفِدون عليه من جميع الجهات مع اختلافهم في

الدين والمعتقدات لزيارته وتكريمه إلى اليوم فلا شك أن هذا البيت الأخير صار منذ

أن أحياه المسلمون وعمّروه أعظم من البيت الأول وخصوصًا في زمن عظمة الدول

الإسلامية.

أما في زمن المسيح عليه السلام فلم يزدد قدره عما كان عليه قبل مجيئه عليه

السلام بل كان يقينًا أقل من البيت الأول ثم خرب بعده بقليل ودُمِّر حتى لم يبق فيه

حجر على حجر ثم جاء النصارى فزادوا في إهانته وتحقيره بإلقاء القاذروات فيه

وتنجيسه عنادًا لليهود حتى طهره المسلمون وبنوه وزينوه فصار في عهدهم كعبة

يقصده الناس من جميع أقطار الأرض على اختلاف مللهم ونحلهم ومذاهبهم مع

الأمن والسلام كما قال (حجي) . فهل رأى البيت مجدًا وإجماعًا على تعظيمه

كالذي رآه في زمن الإسلام؟

وقول حجي: (أزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة وأزلزل كل الأمم)

إشارة إلى حروب المسلمين وانتصاراتهم السريعة الباهرة على الظالمين وإنقاذهم

اليهود من ظلم المسيحيين وتأمينهم لهم في أورشليم، ثم بعد ذلك أعطوا السلام

للناس جميعًا الذين يقصدون البيت من جميع الأمم ومن سائر البقاع.

أما المسيح فلم يزلزل السماوات والأرض والبحار والأمم بل أُهين وصُلب

وقُتل -على زعمهم- ولم يعط السلام في البيت بل أعطى بعده الحرب والطعان

والتخريب وإهراق الدماء وهو الذي بشَّر اليهود بذلك كله (مت 24: 2) فكيف

تصح هذه العبارات في المسيح مع أن ظهورها وصراحتها في محمد (أو محمود)

صلى الله عليه وسلم، وأمته كالشمس في رابعة النهار، فهم الذين أحيوا البيت

وعمروه ومجدوه إلى اليوم.

وقوله 2: 9 (وفي هذا المكان أعطي السلام) قد تحقق تحققًا تامًّا بمجيء

عمر رضي الله عنه بنفسه إلى أورشليم بعد الحصار وتأمين أهلها وعقده شروط

الصلح معهم، وبذللك خضعوا وسلموا بدون سفك دم وأعطاهم عمر السلَم والأمان

وفُتحت المدينة بالصلح لا بالحرب - كما قال رب الجنود - مع أن المسلمين زلزلوا

الأمم الأخرى والأرض والجبال.

فإن قالوا: إن قول حجي 2: 9 (مجد هذا البيت الأخير) يشعر بأن مراده

الكلام على البيت الذي كان في عصره وهو كان قد تخرَّب قبل مجيء الإسلام.

قلت: وهو أيضًا كان تخرب قبل مجيء عيسى عليه السلام فرممه (هيرودس

الأكبر) بل قال يوسيفوس: (إن هيرودس نقضه وبنى هيكلاً أجمل وأكبر منه)

فمراد حجي أن المجد الذي سيكون لهذا البيت في أيامه الأخيرة سيكون أعظم من

مجد البيت الأول الذي بناه سليمان ولذلك تُرجمت هذه العبارة في النسخة السبعينية

هكذا (المجد الأخير لهذا البيت يكون أعظم من مجد الأول) فمجده الأخير هو هذا

الذي كان في زمن المسلمين وهو آخر الزمان.

ويمكن أيضًا اعتبار البيت بيتين:

(1)

البيت الأول من زمن سليمان إلى أن خرَّبه بُخْتنصر أي البيت الذي

كان موجودًا في زمن دولة اليهود وعظمتها واستقلالها، وزمن عزهم الذي ذهب به

بختنصر ومحاه محوًا تامًّا.

(2)

البيت الثاني الذي وجد بعد السَّبْي وبعد زوال دولة اليهود وعزهم

واستقلالهم إلى اليوم. فالأول بيت العز والقوة، والثاني بيت الذل والضعف، وهذا

البيت الأخير قد طرأت عليه عدة تغيرات كبيرة فأصلحه هيرودس (أو بناه بعد أن

نقضه) ثم خربه الرومان ودمروه، ثم بناه المسلمون وعمروه وأحيوه إلى اليوم.

فمراد حجي بالبيت الأخير هو غير بيت سليمان، وهو الذي كان لهم في زمن

ضعفهم وزوال عزهم وذهاب استقلالهم ثم تشتتهم. وهذا البيت الأخير قد صار مع

ذلك في زمن عظمة الإسلام ودوله أعظم من بيت سليمان، فإن ملك المسلمين كان

أكبر وأفخم وأبهى وأمجد وأعم من ملك اليهود، وكان الناس في زمنهم ولا يزالون

يقصدون هذا البيت من جميع أقطار الأرض على اختلاف مللهم ولغاتهم ونحلهم كما

قلنا.

(البشارة الرابعة) قال حبقوق 3: 3 (الله جاء من تيمان والقدوس من

جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه 4 وكان

لمعان كالنور. له من يده شعاع وهناك استتار قدرته 5 قدامه ذهب الوباء وعند

رجليه خرجت الحمى 6 وقف وقاس الأرض. نظر فرجف الأمم ودكت الجبال

الدهرية وخسفت آكام القدم. مسالك الأزل له 7 رأيت خيام كوشان تحت بلية

رجفت شقق أرض مديان) إلخ إلخ فتيمان هي بلاد العرب، ومعنى كلمة تيمان

الصحراء الجنوبية؛ لأنها جنوب بلاد الشام ولا يزال إلى الآن على طريق القوافل

بين دمشق ومكة قرية تسمى (تيماء) ومعنى هذه الكلمة أيضًا الصحراء الجنوبية.

وتيماء أيضًا اسم قبيلة إسماعيلية تسلسلت من تيماء وكانت تقطن بلاد العرب (تك

25: 15 و1 أي 1: 30) كما في قاموس الكتاب المقدس العربي. أما جبل

فاران فهو في البرية التي سكنها إسماعيل أبو العرب (21: 21) فكأن حبقوق

أشار بعبارته هذه إلى مسكن رسول الله وهو بلاد العرب (أو التيمان) وإلى مسكن

أصله أوجده إسماعيل وهو برية فاران، وهي في شمال برية سيناء على ما يقولون.

هذا واعلم أنه لا يوجد في القرآن الشريف ما يدل على أن إسماعيل أقام بمكة

بل الظاهر منه أنه ذهب إلى هناك مع أبيه لبناء الكعبة، وأما الذين سكنوا حولها

فهم بعض أولاده؛ ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي

بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ

تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (إبراهيم: 37) فولد الإنسان لا يسمى عادة ذريته وجمعهم هنا

أيضًا يدل على أنهم كانوا أكثر من واحد فهم أولاد إسماعيل..

أما عدم ذكر بناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة في تواريخ اليهود (سفر التكوين)

فهو إما لأنهم نسوا تاريخ إسماعيل لعدم اهتمامهم به وبأولاده، ولذلك لم يذكروا

عنهم شيئًا في كتبهم إلا قليلاً. وإما لأنهم لا يريدون أن يعترفوا بأي فضل أو مزية

لغيرهم عليهم لاعتقادهم أنهم وحدهم شعب الله المكرمين وأنه لم يعتن بأحد سواهم

ولنرجع لما كنا فيه:

أما كوشان فهو ملك كوش وهي بلاد السودان والحبشة. ومديان هي الأرض

التي تمتد من شبه جزيرة سيناء إلى الفرات والمعنى أن سكان هذه الجهات

المشهورين بالقوة والشجاعة ترتجف أمام النبي وتخضع له. ولفظ كوش كان يطلق

أيضًا أحيانًا على جميع أفريقية الواقعة جنوبي مصر. وقد انتشر الإسلام في أفريقية

أكثر من انتشاره في القارات الأخرى وبسرعة عجيبة، فهذه البشارة لا تنطبق إلا

على محمد صلى الله عليه وسلم فهو الذي ملأ الأرض بحمد الله وتسبيحه والصلوات

له كثيرًا ودانت له ملوك أفريقية وغيرها وخرج من بلاد العرب، وكان من نسل

إسماعيل.

ولعل في قوله 3: 5 (قدامه ذهب الوباء وعند رجليه قد خرجت الحمى)

إشارة إلى الطاعون الذي ظهر في بلاد الشام في زمن عمر رضي الله عنه، وكان

النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه به كما رواه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل.

(البشارة الخامسة) قال أشعياء 42: 1 (هوذا عبدي الذي أعضده

مختاري الذي سرّت به نفسى. وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم 2 لا

يصيح ولا يرفع ولا يُسمَع في الشارع صوته 3 قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة

خامدة لا يطفئ. إلى الأمان يخرج الحق 4 لا يكلّ ولا ينكسر حتى يضع الحق في

الأرض وتنتظر الجزائر شريعته.. .. . إلى قوله 10: غنوا للرب أغنية جديدة

تسبيحة من أقاصي الأرض. أيها المنحدرون في البحر وماؤه والجزائر وسكانها

11 لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار لتترنم سالع من رؤوس

الجبال ليهتفوا 12 ليعطوا الرب مجدًا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر 13 الرب

كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض غيرته. يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه)

وهذه العبارات تشير صريحًا إلى الحج والتلبية من فوق جبل عرفات وقوله:

(الرب كالجبار يخرج كرجل حروب) إشارة إلى غزوات رسول الله صلى الله عليه

وسلم [4] والبرية التي سكنها قيدار هي بلاد العرب فإن قيدار هو ابن إسماعيل (تك

25: 13) وكانت مساكن أولاد إسماعيل من حويلة إلى شور التي أمام مصر (تك

25: 18) وحويلة هي اليمن كما في قواميسهم. وسالع معناها الصخرة، ولذلك

ترجمت الكاثوليك العبارة هكذا (ولتترنم سكان الصخرة) ومثلها في الترجمة

الإنكليزية. وفي المدينة المنورة جبل يسمى (سلع) أما سالع المسماة (بطرة)

وهي التي بين خليج العقبة والبحر الميت فكانت تعرف في زمن أشعياء النبي

(بيقتئيل) الذي سماها به (أمصيا) ملك يهوذا (2 مل 14: 7) وإذا كان المراد

بسالع هنا (جبل المدينة) أو (بطرة) فعلى حد سواء لأن بطرة هذه أخذها

المسلمون، وكانت تأتي منها الناس للحج أيضًا مع المنحدرين في البحر، ومع

سكان الجزائر وغيرها. فأي وصف لحج المسلمين بيت الله (الكعبة) أصرح من

هذا؟ ومن راجع الإصحاح الرابع والخمسين وجد أن أشعياء يخاطب به مكة

المكرمة خطابًا ظاهرًا لا ينطبق إلا عليها (راجع كتاب إظهار الحق لتوضيح هذه

البشارات) .

(البشارة السادسة) جاء في سِفر التكوين أن يعقوب جمع بنيه وأخبرهم بما

سيحدث لهم في آخر الزمان (49: 1) ثم قال في شأن يهوذا (49: 10) (لا

يزول قضيب (أي صولجان الملك) من يهوذا ومشترع (أي شارع) من بين

رجليه حتى يأتي (شيلون) وله يكون خضوع شعوب) والمعنى أن آل يهوذا لا

يزول منهم الملك والأنبياء (وهم الشارعون) حتى يأتي (شيلون) وهو محمد

صلى الله عليه وسلم الذي به تختم النبوة وتنتقل منهم إليه ويزول كل ملك لهم كان

في الأرض، وقد وقع ذلك كما أخبر يعقوب عليه السلام فإن مملكة يهوذا وإن كانت

زالت سنة 586 ق م وقت انتهاء سَبْي بختنصر لهم إلى بابل إلا أنهم عادوا بعده

إلى بلادهم وعاد لهم شيء من القوة تحت حكم الدول الأجنبية واستقلوا في زمن

المكابيين، ثم خضعوا للرومان الذين شتتوهم في الأرض ومحوا أورشليم لكنَّ

جمهورًا عظيمًا منهم ذهبوا إلى بلاد العرب لقربها وحريتها وهوّدوا بعض أهلها

كقبيلة كنانة والحارث بن كعب وكندة وصار لهم فيها أراضٍ واسعة عامرة

وحصون وأملاك وأموال وكانوا فيها ذوي قوة كبيرة غير خاضعين لأحد مطلقًا بل

كانوا مستقلين في حرية تامة، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم انمحت كل

سلطة لهم في الأرض وتشتتوا في العالم وضُربت عليهم الذلة والمسكنة وصاروا في

كل إقليم خاضعين لغيرهم ضعفاء مضطهدين. أما من جهة النبوة والشرع فكانت

الأنبياء تترى فيهم حتى جاء المسيح عليه السلام هو منهم أيضًا وتبعه تلاميذه من

اليهود، وكانوا أيضًا أنبياء ملهمين - كما يقول النصارى - وتصرفوا كثيرًا في

الشريعة الموسوية كما يظهر من كتب العهد الجديد. فلم ينته ملكهم وأنبياؤهم

وتُنسخ كتبهم وشرائعهم إلا بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم الذي به انتهى كل أثر

من آثار ملكهم ولم يظهر فيهم أي نبي بعده.

وقول النصارى: إن هذه نبوة عن المسيح، يرده أن ملك اليهود بقي في بلاد

العرب بعده وظهر فيهم أنبياء (وهم الحواريون) كانوا يشرِّعون لهم في الدين.

فمحمد أحق بها من المسيح عليه السلام.

ومما يؤيد ذلك أن كلمة (شيلون) العبرية معناها - كما قالوا - أمان وسلام

ولا يخفى أن دين محمد صلى الله عليه وسلم يسمى الإسلام قال تعالى: {ادْخُلُوا

فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (البقرة: 208) وتحية المسلمين (السلام عليكم) يقولونها دائمًا

في صلواتهم وفي مقابلة بعضهم بعضًا، وهم مأمورون بإفشاء السلام في الأرض

وفي مسالمة جميع الأمم إلا من بدأهم بالبغي والعدوان، فهم أمان وسلام للناس كافة

إلا المعتدين (أشداء على الكفار رحماء بينهم. أذلة على المؤمنين أعزة على

الكافرين) وهذه الكلمات (السِّلم (بكسر السين وفتحها) والإسلام والسلام) كلها

من مادة واحدة ومتقاربة في معنى الصلح والأمان والطاعة، وعليه فهذه البشارة

صريحة في محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الذي ذكر فيها باسمه فكأن يعقوب قال:

(إن ملك اليهود لا يزول تمامًا وأنبياؤهم لا تنتهي إلا إذا جاء (الإسلام) أو

(صاحب الإسلام) صلى الله عليه وسلم، وقد كان ذلك كما قال في آخر الأيام أو

آخر الزمان (تك 49: 10) .

ومن المعلوم أن المسلمين يسمون نبيهم (خاتم النبيين) و (نبي آخر الزمان)

و (صاحب الإسلام) و (مفشي السلام) فأي تطابق أكمل وأتم من هذا في

تفسير هذه النبوة العظيمة على محمد ودينه؟ وأي نبوة للنصارى في المسيح أصرح

من هذه؟ اللهم أنر بصائرهم حتى يؤمنوا بدينك الإسلام وبنبيك صاحب السلام الذي

بشرهم به يعقوب من قديم الأزمان.

أما المسيح فما جاء - كما قال - ليلقي سلامًا على الأرض بل جاء ليلقي سيفًا

(متى 10: 34) وقد كان ذلك كما سبقت الإشارة إليه، فإن ما وقع من أتباعه

ويقع منهم إلى الآن وما يخترعونه من الآلات المهلكة للنفوس المبيدة لبني البشر لم

يقع مثله من أمة أخرى سواهم.

(البشارة السابعة) قال دانيال مخاطبًا بختنصر ومفسرًا له رؤياه 2: 31

(أنت أيها الملك كنت تنظر وإذا بتمثال عظيم 32 رأس هذا التمثال من ذهب جيد.

صدره وذراعاه من فضة. بطنه وفخذاه من نحاس 33 ساقه من حديد. قدماه

بعضهما من حديد والبعض من خزف 34 كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين

فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما 35 فانسحق حينئذ

الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معًا.. .. . أما الحجر الذي ضرب

التمثال فصار جبلاً كبيرًا وملأ الأرض كلها 36 هذا هو الحلم فنخبر بتعبيره قدام

الملك 37 أنت أيها الملك ملك الملوك؛ لأن إله السماوات أعطاك مملكة واقتدارًا

وسلطانًا وفخرًا 38.. .. .. فأنت هذا الرأس من ذهب 39 وبعدك تقوم مملكة

أخرى أصغر منك ومملكة ثالثة أخرى من نحاس فتتسلط على كل الأرض 40

وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد.. .. .. 41 وبما رأيت القدمين والأصابع

بعضها من خزف الفخار والبعض من حديد، فالمملكة تكون منقسمة ويكون فيها قوة

الحديد من حيث إنك رأيت الحديد مختلطًا بخزف الطين 42 وأصابع القدمين بعضها

من حديد والبعض من خزف فبعض المملكة يكون قويًّا والبعض قصمًا 44 وفي أيام

هؤلاء الملوك يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبدًا وملكها لا يترك لشعب آخر

وتسحق وتفنى كل هذه الممالك وهي تثبت إلى الأبد 45 لأنك رأيت أنه قد قطع

حجر من جبل لا بيدين فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب.. ..

الحلم حق وتعبيره يقين (فالمملكة التي قامت بعد بختنصر هي مملكة الفرس التي

أسسها كورش وكانت دون مملكة بابل والمملكة الثالثة التي كالنحاس هي مملكة

اليونان، وقد تسلط الإسكندر الأكبر مؤسسها على كل الأرض المعروفة كما قال

دانيال والرابعة هي الدولة الرومانية التي انقسمت إلى قسمين كما انقسم ساقا التمثال،

وكانت فيها قوة الحديد مختلطًا بخزف الطين وهو كناية عن الملوك الضعفاء فيهم

وفي أيام ملوك هذه الدولة بعد انقسامها أقام إله السماوات مملكة الإسلام التي لن

تنقرض أبدًا، وقد سحقت كل هذه الممالك وثبتت هي إلى الأبد كما قال دانيال.

ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الحجر الذي قطع لا بيد أحد بل بالقدرة الإلهية من

الجبل وسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب وصار جبلاً كبيرًا وملأ

الأرض كلها وفي ذلك أيضًا إشارة إلى منشئه في القفر وبين الجبال.

وقد استولت أمته على ما ملك بختنصر والفرس واليونان والرومان ولا تزال

جميع أراضي هذه الممالك في أيدي أمته إلى اليوم رغمًا عن ضعفها المؤقت وهي

التي أفنت الدولة الرومانية واستولت على القسطنطينية عاصمة ملكها حتى هذه

الساعة. والدولة الإٍسلامية هذه قد ظهرت في أيام ملوك الدولة الرومانية كما قال

دانيال (2: 44) وبعد انقسامها (2: 41) وبعد أن كان فيها قوة من الحديد

مختلطة بقوة من الخزف. ودولة الإسلام قد أقامها الله في الأرض وثبتها حتى أفنت

كل هذه الممالك وستثبت إلى الأبد حسب هذا الوعد الإلهي (2: 44) .

هذا هو التفسير الصحيح لهذه النبوة وهو ينطبق على حروفها أتم الانطباق

ولا يوجد لها تفسير غيره. وإن خالف النصارى فليخبرونا هل يُعقل أن دانيال يتكلم

على هذه الممالك الأربعة (مملكة بابل والفرس واليونان والرومان) ويترك المملكة

الإسلامية التي سحقت كل هذه الممالك واستولت على جميع أملاكها إلى عصرنا هذا؟

فهل غاب ذلك عن علم الله أو حصل بغير إرادته أو نسي أن يذكره؟ مع أنه هو

الذي أقامها بنفسه كما قال دانيال، وقضى أنها تفني كل هذه الممالك وأن تثبت إلى

الأبد.

فإن قيل: إن المراد بذلك دولة النصارى (أي الدولة الرومانية بعد اعتناقها

المسيحية) قلت: إن الدولة الرومانية صارت مسيحية في عهد قسطنطين أي قبل

انقسامها مع أن صريح كلام دانيال أن الدولة المرادة بكلامه يقيمها الله بعد انقسام

الدولة الرومانية وبعد وجود قسمين فيهما الضعيف والقوي. والدولة المسيحية لم

تُفْنِ الدولة الرومانية ولم تسحقها بل هي هي وقد ابتدأ الضعف فيها بعد اعتناقها

المسيحية حتى صارت أضعف مما كانت في زمن وثنيتها إلى أن أزالتها دولة

الإسلام واستولت على جميع أملاكها تقريبًا وعلى جميع ممالك الدول الأخرى

المذكورة ولا تزال هذه الأراضي كلها في أيدي المسلمين إلى اليوم فهل ثبتت الدولة

الرومانية المسيحية إلى الأبد كما قال دانيال، وهل سحقت الدول الأربعة القديمة

واستولت على ملك بابل وفارس وغيرهما؟ أم هي التي سحقها الإسلام واستولى

على عاصمة ملكها (القسطنطينية) وحول كنائسها مساجد يذكر فيها اسم الله تعالى

وحده كثيراً؟

وهل الدولة الرومانية المسيحية هي التي سحقت وأفنت دولة الفرس (العجم)

كما قال دانيال 2: 44 أم هي دولة الإسلام؟ وهل نسوا إنغلاب الرومان أمام

الفرس عدة مرات واستيلاء الفرس على كثير من أراضيهم حتى هددوا القسطنطينية

نفسها وحاصروها؟ ؟

وما هو هذا الحجر الذي قطع صغيرًا وسَحق هذه الممالك كلها وصار جبلاً

كبيرًا حتى ملأ الأرض كلها؟ أليس هو محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهو الذي بدأ

صغيرًا ثم صار كبيرًا حتى محق دولتي الفرس والرومان واستولى على أملاكهما

وعلى تيجان ملوكهما وملأ أراضيهما بالإسلام لله وعبادة الرحمن منذ افتتاحهما إلى

الآن؟ فأين النصرانية التي ثبتت في أراضي تلك الممالك القديمة إلى الأبد؟

ولا يصح الاعتراض علينا بضعف المسلمين الحالي فإن الإسلام له فترات

فيكون أحيانًا ضعيفًا وأحيانًا قويًّا، ونحن الآن في فترة من الضعف زائلة لا محالة

بحول الله تعالى. على أن الدين الإٍسلامي نفسه من أقوى الأديان في الأرض، إن لم

نقل أقواها فإنه أشد أخذًا بقلوب أتباعه من كل دين سواه وأسهل انتشارًا وأسرع

حتى كاد يغلب غيره في أكثر بقاع الأرض على حداثة عهده كما يشهد بذلك

المبشرون أنفسهم، ولا توجد أمة أشد تمسكًا بدينها من المسلمين، فإن النصارى وإن

انتمت اسمًا إلى المسيحية لكنهم أبعد الناس عن العمل بها، وترى جمهورهم لا يعمل

إلا بما ناقض أصولها على خط مستقيم، فالفرق بين المدنية الأوروبية وتعاليم

الأناجيل واضح لا يحتاج لديل.

ومن حسن التطابق بين النبوات بعضها مع بعض أن داود والمسيح سميا

محمدًا حجر أيضًا كما سبق (متى 21: 42 ومز 118: 20) .

والخلاصة أن تفسير نبوة دانيال هذه بغير تفسيرنا هذا إنما عين المكابرة

والتعسف والعناد. ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاذبًا لَمَا ذكره الله على ألسنة

أنبيائه بهذه الصورة بل لأكثر من ذمه وتقبيحه وتحذير الناس منه كما حذر

عيسى عليه السلام من الكذابين الذين ظهروا بعده وأفسدوا دينه.

(البشارة الثامنة) سِفر نشيد الإنشاد، هذا السفر قالت فيه اليهود: إنه رمز

لأورشليم، وقال النصارى: إنه للكنيسة المسيحية، أما نحن فنقول: إنه رمز إلى

محمد صلى الله عليه وسلم والأمة العربية. ومما ينقض قول اليهود قوله في

الإصحاح 6 عدد 4 (أنت جميلة يا حبيبتي كترصة (اسم مدينة) حسنة كأورشليم)

فلا يصح أن تكون أورشليم مشبهة بنفسها بل لا بد أن يكون المشبه شيئًا آخر غير

أورشليم.

أما ما يُثبت قولنا أن هذا السفر هو في حق محمد وأمته العربية ما يأتي:

(1)

قوله 1: 5 (أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم كخيام قيدار كشقق

سليمان 6 لا تنظرن إليّ لكوني سوداء؛ لأن الشمس قد لوحتني بنو أمي غضبوا

عليّ 8 إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء فاخرجي على آثار الغنم وارعي

جداءك عند مساكن الرعاة) وقوله 2: 8 (صوت حبيبي هو ذا آتٍ طافرًا على

الجبال قافزًا على التلال) وكل ذلك إشارة إلى سُكنى العرب في الصحاري والقِفار

بين الجبال والتلال ورعيهم المواشي والأنعام وسكناهم في الخيام السود كخيام

(قيدار) وهو ابن إسماعيل الثاني (تك 25: 13) وهو أب لأشهر قبائل العرب

وتسمى بلادهم أيضًا قيدار (أش 21: 16 وأر 49: 28) فكانت خيامهم كخيام

أبيهم تمامًا، وقد اسود لونهم من تأثير الشمس كما قال لكثرة تعرضهم لها، وإنما

ذكر شقق سليمان هنا أي ستائره لشهرتها بالجمال والأُبَّهة والفخامة، أما قيدار

فلا مسوغ لذكره إلا كونه أباهم.

(2)

وقوله 2: 14 (يا حمامتي في محاجئ الصخر في ستر المعاقل

أريني وجهك أسمعيني صوتك؛ لأن صوتك لطيف ووجهك جميل) فيه إشارة أيضًا

إلى سكناهم بين الصخور الجبلية كما كانوا يفعلون وقوله: (صوتك لطيف) أصله

العبري (صوتك عيرب) أي عربي وهو صريح في أن لغتهم عربية. وقوله:

(أسمعيني صوتك) إشارة إلى اسم أبيهم (إسماعيل) و (يشمع ايل) ومعناه

(الله يسمع) فهو يسمع لأبيهم ويطلب منهم أن يُسمعوه صوتهم العربي؛ لأنه سميع

لهم جميعًا ومجيب ويحبهم، وقد كرر ذلك أيضًا فقال 8: 13 (أيتها الجالسة في

الجنات الأصحاب يسمعون صوتك فاسمعيني) ولعله يريد أن يسمعوه صوتهم العربي

في تلاوة القرآن. وهم يسمون عند اليهود بالإسماعيليين كما في تك 37: 25 أي

الذي يسمعهم الله.

ولا تنسَ التطابق العجيب بين لفظ (الأصحاب) وبين اسم الصحابة رضوان

الله عليهم أجمعين.

هذا وقد بشرت كتبهم أيضًا بالخلفاء الراشدين الأربعة فقال زكريا 1: 18

(فرفعت عيني ونظرت وإذا بأربعة قرون 19 فقلت للملاك الذي كلمني: ما هذه؟

فقال لي: هذه هي القرون التي بددت يهوذا وإسرائيل وأورشليم 20 فأراني الرب

أربعة صناع 21 فقلت جاء هؤلاء ماذا يفعلون؟ فتكلم قائلاً: هذه هي القرون التي

بددت يهوذا حتى لم يرفع إنسان رأسه. وقد جاء هؤلاء ليرعبوهم وليطردوا قرون

الأمم الرافعين قرنًا على أرض يهوذا لتبديدها) أما القرون الأربعة فهي باعترافهم

مملكة الكلدان والفرس واليونان والرومان كما في حاشية الكاثوليك على الكتاب

المقدس وأما الصناع الأربعة الذين أرعبوا تلك الأمم وطردوهم فهم بلا شك الخلفاء

الراشدون، فإن مملكة الكلدان والفرس صارتا مملكة واحدة، وكذلك اليونان

والرومان، وقد استولى الخلفاء الراشدون على ممالك تلك الدول وعلى أرض يهوذا

التي كانوا بددوها كما لا يخفى. والمسلمون قد جاءوا من بلاد العرب وبنوا هيكل

أورشليم بعد أن كان أحرق وأبيد، ولذلك قال زكريا 6: 15 (والبعيدون يأتون

ويبنون في هيكل الرب فتعلمون أن رب الجنود أرسلني إليكم ويكون إذا سمعتم

سمعًا صوت الرب إلهكم.. ..) فكل ذلك بشارة بأصحاب محمد صلى الله عليه

وسلم وقد سماهم بهذا الاسم في سفر نشيد الإنشاد كما سبق (8: 13) .

(3)

قوله 5: 16 (حلقه حلاوة وكله (مشتهيات) هذا حبيبي وهذا خليلي

يا بنات أورشليم) وأصل كلمة (مشتهيات) بالعبرية (محمديم) ومعناها (محمد

أو محمود) وهو نص صريح قاطع على أن المراد بهذا السفر هو محمد صلى الله

عليه وسلم وأمته، فأي تصريح بعد هذا يريدون؟ وأي نبوة عندهم عن المسيح

أصرح من هذه؟ ومعنى (حلقه حلاوة) أن كلامه عذب جميل، وهو إشارة إلى

فصاحته وبلاغته المشهورة. وهو صلى الله عليه وسلم كله (محمود) محبوب

فلهذا قال (هذا هو حبيبي وهذا هو خليلي) ولذلك يسميه المسلمون (حبيب الله)

فاسمعوا ذلك يا أهل الكتاب يا أبناء أورشليم وآمنوا برسوله وحبيبه محمد المحمود

تفوزوا برضاء الله مع الفائزين. الله أكبر ولله الحمد على هدايته لنا لدين خير

الخلق حبيب الرحمن عليه الصلاة والسلام.

وفي هذا القدر كفاية لمن فتح الله عين بصيرته ولم يُعمه التعصب أو زخرف

هذه الحياة الدنيا عن رؤية الحق فنزه عقله عن المكابرة والتعسف الباطل والتكلف

البارد. وقد بقيت هذه البشائر في كتب أهل الكتاب حجة عليهم إلى يوم القيامة

رغمًا عن تلاعبهم فيها مصداقًا لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ

الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ

المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ

الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ

أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157) .

...

...

كتب هذه الرسالة في 4 مارس سنة 1912

...

...

...

الدكتورمحمد توفيق صدقي

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما نشر في الجزء التاسع ص 651 بقلم الدكتور محمد توفيق صدقي.

(1)

لأن العم كالأب تمامًا فأبناؤه يسمون بلا شك أخوة لهم (راجع شواهد ذلك في ص 45من) ومن ذلك تسمية أبناء عمهم (عيسو) إخوة لهم كما في (تث 2: 4 و8) ولو كان المراد بهذه البشارة المسيح لقال: أقيمه منكم أو من نسلكم أو من بينكم لا من إخوتكم.

(2)

حاشية: الأصل العبري لعبارة التكوين (17: 21) وعهدي أقيمه مع إسحاق، فزاد النصارى في تراجمهم لفظ (لكن) تحريفًا منهم.

(3)

حاشية: في النسخ العبرية الحالية المشكولة تجد الترجمة الحرفية لهذا النص هكذا: (وأحمد كل الأمم يأتون) بالجمع في فعل يأتون، وبتأنيث كلمة أحمد أو محمود، ولكن النصارى فهموا أن المراد بهذه العبارة المفرد المذكر كما فهمنا، ولذلك ترجموها (ويأتي مشتهى كل الأمم) والفرق بين لفظ (حمدوت) المذكر ولفظ (حمدات) المؤنث ليس في الحروف وإنما هو في الحركات (أي الشكل) فقط والحروف في الكلمتين واحدة، وهذا الشكل ليس قديمًا بل وضعته لجنة من اليهود في طبرية وفي سورة في وادي الفرات وهي التي جمعت النسخ العبرانية للعهد القديم من القرن السادس إلى الثاني عشر للميلاد فيحتمل أنهم حرفوا هذا النص بالشكل حينما ظهر محمد صلى الله عليه وسلم لكيلا ينطبق عليه ومع ذلك إذا سلم النص العبري كما شكلته اليهود كان المراد به الأمة المحمدية وهي الأمة المحمودة عند جميع الأمم والملل والنحل الذين دانوا لها واعتنقوا دينها واهتدوا بهديها حتى فاقوا العالمين في كل شيء وسواء عندنا أينطبق هذا النص على محمد أم على أمته كما لا يخفى.

(4)

حاشية: يشمئز النصارى من ذِكر القتال في القرآن ولا يشمئزون من قول الله تعالى لموسى: (تث 20: 10)(حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح 11 فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك 12 وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها 13 وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف 14 وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك 15 هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًّا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا 16 وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تستبْق منها نسمة ما) وقد عمل بنو إسرائيل بهذه الأوامر كما يتضح لك من سفر يشوع خليفة موسى وغيره (إصحاح 10 و11) فمثلاً ورد في هذا السفر قوله (10: 26)(وضربهم يشوع بعد ذلك وقتلهم وعلقهم على خمس خشب وبقوا معلقين على الخشب حتى المساء) وقوله (11: 11)(وضربوا كل نفس بها بحد السيف حرقوهم ولم تُبْق نسمة وأحرق خاصور بالنار 12 فأخذ يشوع كل مدن أولئك الملوك وجميع ملكهم وضربهم بحد السيف حرقهم كما أمر موسى عبد الرب إلى قوله 14 وكل غنيمة تلك المدن والبهائم نهبها بنو إسرائيل لأنفسهم وأما الرجال فضربوهم جميعًا بحد السيف حتى أبادوهم ولم يبقوا نسمة) وجاء أيضًا في سفر صموئيل الثاني 12: 31 أن داود النبي (أخرج الشعب ووضعهم تحت مناشير ونوارج حديد وفئوس حديد وأمرَّهم (أي: سيرهم) في أتون الآجرّ وهكذا صنع بجميع مدن بني عمون وكذلك قال في سفر أخبار الآباء الأول: إنه نشر أسرى بني عمون هؤلاء بمناشير ونوارج حديد وفئوس كما في الإصحاح العشرين منه (عدد 3) ولم يرد في كتابهم المقدس أن الله تعالى أنكر عليه ذلك أو زجره عن فعله هذا الفظيع وعاقبه عليه بل الكتاب كله مملوء بالثناء على داود وعده من الأبرار الأطهار، نعم ورد فيه شيء من اللوم لداود، ولكنه بسيط وعاد في سفكه الدماء، وليس خاصًا بهذه الحادثه القاسية كما في سفر أخبار الأيام الأول (20: 8) ولو جاز قول النصارى: إن ما ذكر كناية عن إذلال داود لهم وتعذيبهم بالأشغال الشاقة لجاز لقائل أن يقول: إن قصة صلب عيسى وقيامته من الموت كناية أيضًا عن إيذاء اليهود واضطهادهم له ورفضه ثم نجاته من كيدهم وانتصاره عليهم وارتفاع شأنه وعظم أمره فهل يسلِّم النصارى بهذا التأويل وهو مثل تأويلهم لقصة داود هذه من كل وجه؟ ولم لا يقبلون من الناس ما يقبله الناس منهم؟ فانظر إلى مقدار تعسفهم وتكلفهم في التأويلات كما هو شأنهم في أكثر مسائل دينهم ولكنهم لا يبالون! ! وكذلك ذبح إيليا أنبياء البعل وهم 450 رجلاً

(1 مل 18: 22 و40) وأما كون المسيح عليه السلام لم يعمل شيئًا فهو لاختلاف الأحوال والظروف في زمنه؛ إذ لم يكن له من القوة الحربية ما يكفي للتغلب على أعدائه من اليهود والرومان فلذا كان طريق المسالمة خيرًا له ولأتباعه فاختلفت الأحكام في زمنه عما كان في زمن موسى وخلفائه لاختلاف الأحوال ومع ضعفه هذا وكثرة دعوته للسلم والصفح والعفو قال كما في إنجيل متى 10: 34 (لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا 35 فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنة ضد حماتها 36 وأعداء الإنسان أهل بيته) ولا ندري لو كان بلغ من القوة والسلطان ما بلغه موسى وداود ومحمد عليهم السلام، ماذا تكون أقواله وأفعاله! ! ومع تأويل النصارى لهذه العبارة وقت الجدل الديني وقولهم لمحاجيهم: إن دينهم لم يأمرهم إلا بالعفو والصفح ومحبة الأعداء - لا تجد أمة من أمم الأرض ارتكبت مثل ما ارتكبوه من المظالم والحروب وسفك الدماء وقتل الأبرياء واضطهاد الناس في دينهم وإكراههم على المسيحية وإحراقهم بالنيران وتمزيق أجسامهم وغير ذلك من الفظائع التي تشيب لها الولدان ولا ينكرها تاريخ من تواريخهم، فمنذ زمن قسطنطين حيث صارت لهم دولة وقوة إلى اليوم، لا تجد في الغالب زمنًا خاليًا من تعديهم على الضعفاء وظلمهم وخضبهم الأرض بالدماء الطاهرة وتفننهم في اختراع الآلات المدمرة، وكان ذلك في أكثر الأوقات برضا رؤساء الدين وإقرارهم بل وأمرهم به أحيانًا ولا تسمع منهم التحدث بحلم المسيحية وسماحتها في وقت ضعفهم أو في وقت المجادلات الدينية فقط فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ص: 745

الكاتب: المسيو شاتليه

الغارة على العالم الإسلامي [*]

(10)

التنظيم المادي لإرساليات التبشير

استمرت مجلة العالم الإسلامي الفرنسية في تلخيص تقرير جمعية التبشير

الكنيسية فأشارت إلى ما جاء فيه بخصوص أعمال مبشري هذه الجمعية في أفريقيا

الشرقية، وقد كان الدكتور (كريف) أول من دخل هذه الديار وذلك أنه طرد من

بلاد الحبشة سنة 1844 فهبط إلى (منبسه) ثم تبعه مبشرون آخرون أخذوا

يطوفون عرض البلاد فاتسعت أعمالهم على الشواطئ منذ سنة 1874 وكانوا

يؤسسون قرى يقطنها الأرقاء المعتوقون وشملت أعمالهم التبشيرية أفريقيا الألمانية

وبلاد (أوغندا) ثم أسسوا بعد ذلك إرساليتي تبشير: واحدة على مقربة من جبال

(كليما جارو) وأخرى في سفح جبل (كانيا) ويبلغ عدد معاهدهم التبشيرية في

أفريقيا الشرقية الإنكليزية فقط 22 معهدًا ولهم 21 معهدًا علميًّا يتعلم بين جدرانها

1072 تلميذًا وتبلغ الإيرادات التي يتناولونها من المبشرين 70 ألف فرنك،

والمبشرون القاطنون في (منبسه) وفي (مزبزيمة) يجدون أنفسهم في بلاد

إسلامية محضة، كما أن المسلمين مسيطرون على كل ولاية (السيدية) وتوجد

في الجهة الشمالية من هذه البلاد إرسالية تبشير في (جيلوري) التابعة لبلدة

(مالندة) واقعة على مقربة من معهد عربي إسلامي قديم العهد، ويرى مبشرو

هذه الجهات أن الإسلام ينتشر في الداخل بين صفوف القبائل الوثنية المدمنة شرب

الخمر، وأخذ يتطرق إلى الوثنيين المنتمين إلى قبائل (وادا بيدة (رغمًا عما

تمتاز به هذه القبائل من كثرة السحرة والدجالين بينها ويوجد كثير من وثني

(واديفو) ينقادون للإسلام بسهولة، ولتجار الساحل المسلمين قرى بنوا فيها

مساجد حتى في جوف بلاد (كباره) الواقعة في سفح جبل (كانيا) على مقربة من

المبشرين، وقد أصبحت الحال موجبة للروية والتفكير لدرجة أن السير (بارسي

جيروار) حاكم أفريقيا الشرقية الإنكليزية صرح في المؤتمر الذي أقامه

المبشرون على ظهر الباخرة (غالف) في البحر الأحمر بأنه يجب على

الحكومة وعلى المبشرين أن يشتركوا في العمل ضد الإسلام!

وقد جاء في تقرير جمعية التبشير أن المسلمين ليسوا إلا قسمًا من أهالي هذه

المقاطعة إلا أنهم يؤلفون العنصر التجاري العامل الذي يتنقل من جهة إلى أخرى،

ولذلك فإن المبشرين يوجهون مجهوداتهم لتأليف كتب بالرطانة الساحلية، وينشرون

مجلة شهرية يبلغ عدد قرائها 200 شخصًا فضلاً عن الكتب الدينية التبشيرية التي

نشرت بهذه الرطانة.

ويعلق مبشرو هذه الجمعية أهمية على انتشار الإسلام في أفريقيا الشرقية

الألمانية، وقد قالت المبشرة المس (فورسيت) : إنها كانت تجد مساجد صغيرة

حيثما مرت، وفي بعض الأوقات كانت ترى هذه المساجد بشكل أكواخ صغيرة إلا أن

هذه الأكواخ بمثابة مراكز للتبشير الإسلامي، وأشار أحد المبشرين إلى المجهودات

التي يبذلها المبشرون لإيقاف انتشار الإسلام، وذكر آخر أن اثنين وثنيين متنصرين

اعتنقا الإسلام، ويرى المبشرون أن الخصم الوحيد لهم في هذه الجهات هو المسلم،

ويرون أن بعض المسلمين الذين وزعت عليهم كتب تبشيرية مكتوبة بالرطانة

الساحلية طفقوا يشترون التوراة والإنجيل، وقالوا: إن امرأة مسلمة في منبسة عني

المبشرون بمعالجتها فاعتنقت النصرانية.

ويرجع عهد دخول المبشرين إلى مقاطعة (أوغندا) إلى سنة 1875 عندما

صرح (متيسة) ملك هذه البلاد بارتياحه إلى اقتباس التربية الأوروبية، وما ذاع

خبر هذا التصريح الذي فاه به حتى تبرع اثنان رغبَا بإخفاء اسمهما بمبلغ 25 ألف

فرنك ليتسنى لجمعية التبشير إنفاذ إرسالية إليها، وتمكنت فعلاً من بعث إرسالية

سنة 1876 لكنها هوجمت في الطريق وفقدت بعض المبشرين ثم بقيت في (أوغندا)

وتبعتها إرسالية تبشير كاثوليكية، وقد أخذ الإرساليتان بتوسيع أعمالهما بعد موت

(متيسة) دون حصول أدنى منافسة بينهما ترجع فائدتها إلى المسلمين، إلا أن

(موانغا) الذي تقلد الملك بعد (متيسة) كان ارتياحه قليلاً لأعمال المبشرين، ولذلك

أصبح المسيحيون الوطنيون عرضة للاضطهادات الشديدة، لكن (موانغا) ما عتم

أن خلع فأصبح المسلمون أصحاب الحول والطول في البلاد وطردوا المبشرين من

كاثوليك وبروتستانت في سنة 1888 وما مضت سنة واحدة حتى أعيد (موانغا)

إلى منصبه بفضل رعاياه المسيحيين فوافق سنة 1890 على رفع العلم الإنكليزي

لشركة أفريقيا الشرقية البريطانية أي قبل أن تعلن الحماية الإنكليزية على بلاده

بأربع سنوات. وفي سنة 1896 بارح (موانغا) بلاده [1] فخلفه ابنه (شوا) الذي

تعمد وسمي (داود) رغمًا عن ثورة قامت بها الجيوش السودانية، ومن ذلك الحين

توطدت أحوال مقاطعة (أوغندا) السياسية ويوجد عدا الأهالي المسلمين في هذه

المقاطعة كثير من التجار الهنود والعرب والسوريين الذين يؤلفون كمية وافرة من

المسلمين، ثم جاء في تقرير الجمعية أن اثنين من المسلمين اعتنقا النصرانية في

(بوغندا) بعد أن عُني المبشرون بمعالجتهما، ويشعر المبشرون بالصعوبات التي

يثيرها زعيم مسلم في (كبيرا) الواقعة شرقي أوغندا حيث الإسلام ينمو ويتقدم

سريعًا، وحاصل القول أن للمبشرين في هذه المقاطعة 1010 معاهد أو محطات

للتبشير و147 مدرسة يتعلم بين جدرانها 424، 47 تلميذًًا، ويبلغ ما يتناولونه من

الإيرادات 500 ألف فرنك، وتقدر ميزانية مبشري هذه المقاطعة بمليون فرنك،

وهذا المبلغ الجسيم يؤيد وجود 1010 معاهد، وقد كان للمنافسة التي حصلت ضد

المبشرين الكاثوليك شأن كبير في توسيع نطاق التبشير أكبر من فكرة مناوأة الإسلام

ومناضلته، وعلى كل فسيرى الإسلام نفسه أمام قوة التربية والحضارة الإنكليزية

التي يقوم بها المبشرون الإنجيليون.

وجاء بعد ذلك في التقرير ذكر إرساليات التبشير في مصر والسودان، التي

يرجع عهد تأسيسها إلى سنة 1815 عقيب حروب نابليون حيث هبطت إرسالية

التبشير جزيرة مالطة وأخذ نطاقها يمتد وينتشر حتى بلغ مصر والحبشة واليونان

وبلاد الدولة العثمانية وفلسطين، ومن شأن هذه الإرساليات إرجاع كنائس الشرق

سيرتها الأولى وتنصير المسلمين، لكن مع كل ما بذله المبشرون من الغيرة في هذه

البلاد لم تكلل أعمالهم بالنجاح حتى إنهم أقفلوا مدرسة التبشير في القاهرة في سنة

1862 بعد أن تخرج فيها بعض المبشرين ثم تأسست إرسالية تبشيرية في مصر

ستة معاهد للتبشير فيها كثير من النساء المبشرات لها مدرسة تبشيرية ومدرسة

داخلية ومدرستان للبنات في القاهرة ومدرسة عالية في حلوان، ولهذه الجمعية مكتبة

عامة في القاهرة، ويقوم مبشروها بنشر مجلة الشرق والغرب، وتبلغ ميزانيتهم في

القطر المصري 160 ألف فرنك، أما الإيرادات التي يتلقا المبشرون من الوطنيين

فلا تكاد تبلغ 450 فرنكًا، وهذه الجمعية لا ترى إرساليتها التبشيرية في مصر أهم

ما لديها كما يتضح من تقريرها السنوي. وقد كانت سنة 1910 مهددة بصعوبات

وعقبات، إذ حملت الصحف الإسلامية في هذه السنة حملة شعواء على المبشرين

عمومًا، وقد كانت الصحف الوطنية خصوصًا تمتاز بما كانت تصب عليهم من

كلمات السب والشتم.

وكان الشيخ (سكندا؟ ؟) وامرأته عُرضة للاضطهادات الأليمة، وهذه

المعاملة لم تمنع بائعة كتب مسلمة متنصرة أن تقوم بواجباتها بمزيد الغيرة والنشاط

والأعمال الطبية مستمرة النمو إلا أنها لا تأتي بفائدة من الوجهة الدينية؛ لأنه لا يكاد

الطبيب يظهر بمظهر المبشر حتى تحيط به الاعتراضات كما كان شأن الدكتور

(هربور) التابع لإرسالية تبشير النيل، وقد قام إمام جامع (حامول) حيث كانت

إقامة الدكتور ستة أشهر فحث الأهالي على عدم حضور مذاكرة هذا الدكتور الذي

استطاع مع ذلك إبراز بعض مناظر بالفانوس السحري في قرية (سترى) وأسس فيها

مدرسة صغيرة لتعليم التوراة، وللجمعية أيضًا مدرسة في منوف وأخرى

في شبرا زنج بقرب منوف بين سكان كلهم مسلمون.

وقد أصدرت الجمعية بعض أموال لإقامة ذكرى (غردون) عقب موته في

الخرطوم، وهذه الأموال مكنت الجمعية بعد فشل الخليفة من تأسيس إرساليات

تبشير في أم درمان والخرطوم وأتبره ومليك وفي أواسط السودان مع مدارس

بنات، ولها أيضًا ثلاث مدارس للبنات في السودان الشمالية، وأحوال مدرسة أتبرة

سائرة من حسن إلى أحسن؛ لأنه أصبح في استطاعة المبشرين في (أتبره) أن

يطلبوا من التلاميذ الصغار المسلمين أن يصلوا معهم صلاة الصبح! وهم يطلبون

أيضًا مثل هذا الطلب من المرضى المسلمين في مستشفى أم درمان! واختتمت

الجمعية نبذة تقريرها عن هذه الجهة قائلة أنه على أثر موت (ليوبولد الثاني) ملك

بلجيكا أرسلت الحكومة 50 جندي مسلم إلى مقاطعة (اللادو) فانتشر هؤلاء الجنود

في البلاد وأخذوا يفتحون المدارس الإسلامية وسط القبائل الوثنية.

وللجمعية أيضًا إرساليات تبشير عديدة في فلسطين أخذت تنتشر في هذه البلاد

منذ 1851، وتفضل الجمعية إرسال مبشرات غير متزوجات؛ لأن لهن تأثيرًا

على النساء المسلمات! ولها مدرسة ومعهد للتبشير في بغداد والموصل.

ويرجع عهد التبشير في بلاد فارس إلى سنة 1811 وسنة 1834 حيث ابتدأ

المبشرون الأمريكيون بالتبشير بين النسطوريين ثم بين المسلمين. وقد اتضح

للمبشر (بروس) سنة 1869 أن المسلمين في أصفهان يميلون إلى المجادلات

الدينية فجاء إلى (جولفة) ومكث فيها حيث فتح مدارس. ثم شدت أزره جمعية

التبشير الكنيسية الإنكليزية، واتسع بذلك نطاق التبشير إذا أسست مدارس

ومستشفيات منها مستشفى للبنات. وفتحت مدرسة داخلية للبنات في أصفهان. وقد

قالت الجمعية: إن الثورة الفارسية مهدت السبل للحصول على حرية الأديان إلا أن

نفوذ العلماء لم يزل ثابتًا والفوضى منتشرة في عرض البلاد حيث يدأب الأشرار

والسلابون في قطع طرق المواصلات.

أوسعت جمعية التبشير الكنيسية مكانًا من تقريرها لمقدمة صغيرة استهان بها

أقوالها عن البلاد الإسلامية، وذكرت فيها مزايا الدين الإسلامي من حيث الاعتقاد

بوحدانية الله. ثم بحثت في هذه الوحدانية فقالت: إنها تحتك من بعض الأوجه

بمذهب اللا أدرية! ومن وجه آخر بمذهب وحدة الوجود القائل: أن الله والكون

واحد! وتقرب أيضًا من مذهب تعدد الآلهة والشرك! حتى إن لهذه العقيدة صلة

بالمذهب الحيوي القائل بوجود روح في نفس الحيوان ووجود عامل حي في النبات

والجماد وأن هذا هو علة الأعمال الحيوية ولا تأثير للقوى الكيماوية أو المادية

وتقول أيضًا: إنه يجب أن ينكر على الإسلام سماحه لكل مسلم أن يعمل ما شاء؛

لأنه سيكون في آخر الأمر مظهرًا للرحمة الإلهية! وقالت: إن في الإسلام عيبًا

فاحشًا وهو حطه من شأن المرأة ودعَّمت ما عَزَته إلى الإسلام بذكر نبذة جاء فيها

أن امرأتين فارسيتين سمتا ابنتيهما الأولى (غير مطلوبة) والثانية (كفا بنات) ثم

انتقلت الجمعية في مقدمتها إلى التساؤل عما إذا كان في الإمكان حمل المسلمين على

الدخول في حظيرة المسيح! وافتتحت بابًا خاصًا أتت فيه على صفوف المجاملة

التي تظهرها الحكومة الإنكليزية نحو المسلمين، وهي لا تنكر أن موقف الحكومة

الإنكليزية دقيق نظرًا لكثرة المسلمين الموجودين تحت سيطرتها إلا أنها تنكر على

بريطانية إهمالها مجهودات المبشرين في القطر المصري والسودان ونيجيريا

وجعلها يوم الجمعة في دوائر الحكومة المصرية يوم عطلة حتى إن ذهاب الأقباط

المستخدمين في الحكومة في الأرياف للكنيسة يوم الأحد منوط بإرادة رؤسائهم

المسلمين.

ثم انتقلت الجمعية في تقريرها إلى ذكر أعمالها في الأقطار الهندية، وقد

اتضح أنها ليست منتشرة في عرض هذه البلاد وطولها كما يجب رغمًا من أن فيها

ألفي محطة تبشيرية ولها كذلك ألف مدرسة يدرس بين جدرانها خمسة وستون ألف

تلميذ. وتبلغ ميزانيتها في هذه البلاد 4 ملايين من الفرنكات منها 500 ألف فرنك

تأخذها من الإيرادات المحلية. وقالت: إن أعمالها وأغراضها تختلف في هذه البلاد

بحسب الأقاليم ولها إرساليات عديدة في مقاطعة البنغال وأشغال مبشريها ليست

مقتصرة على البشير بين المسلمين، وقد يتفق حدوث مشاكل بينهم وبين المسلمين

كما هو الأمر في (بيحار) حيث قام مشايخ القرى واعترضوا على المبشرين لكن

هذه الأعمال لم تحل دون انتشار التوراة باللغة الأوردية، ولها أيضًا معاهد

وإرساليات تبشيرية في ولايتي (أوده) و (أكره) . وتقول: إن أول نائب قام

بأعباء التبشير في هذه الأرجاء هو رجل هندي الأصل منتصر اسمه عبد المسيح ثم

انكفأ بعد ذلك مبشروها على هذه المقاطعة. ولها معاهد ومدارس في (أكره)

و (الله آباد) ويدرس في مدارسها كثير من المسلمين. ويتفق تنصير بعض أفرادهم

من وقت إلى آخر. إلا أنها رغمًا من فتحها بعض مدارس بطلب من

المسلمين ومساعدتهم فإن (إريا سماج) توفق إلى إقفال عشر مدارس كانت

فتحتها في (أزمغار) لكن هذا الأمر لم يكن ليثبط همم المبشرين بل هم دائبون

على أعمالهم التبشيرية التي تأتي من وقت إلى آخر ببعض الفوائد واضعين نُصب

أعينهم نشر تعاليمهم وأفكارهم وجُلّ ما يطلبونه مباشرة من الوطنيين أن يدققوا

النظر في الدين المسيحي وتعاليمه. وهم ينشرون تعاليمهم التبشيرية بتلاوة التوراة

في القرى وإلقاء المذكرات في المدن وينشرون المطبوعات. حتى إن أهم

الأشخاص في الكلية الإسلامية في (أكره) يطالعون التوراة المكتوبة بالعربي.

وقد توفقت اللجنة التبشيرية الكنيسية إلى نشر بعض مؤلفات باللغة الأوردية

وبحث طويل باسم (الهند والإسلام) . وللجمعية إرساليات تبشير في (جابالبابر)

تهتم بالأمور الإسلامية ولها مدرسة عالية يتردد إليها المسلمون وإرسالياتها

التبشيرية منتشرة في كل مدن (بنجاب) وتبلغ ميزانيتها في هذه الولاية 750

ألف فرنك يضاف إليها 50 ألف فرنك إيرادات مدارسها وحركة أعمالها التبشيرية

في هذه البلاد أحسن منها في غيرها نظرًا لما تلقاه من المساعدة والمجاملة من

المستر (لورنس) أو السير (منفوماري) أو الكولونل (مرتين) . عندما تقلدوا

زمام الأمور في هذه الولاية.

وقد اتسع نطاق التبشير من حيث التدريس والتطبيب ونشر المطبوعات

والمدارس الصناعية وترجمة الكتب التبشيرية إلى اللغة الأوردية والسندية. وقالت:

إن أسقف (لاهور) عيّن المحترم إحسان الله أرشمندريتا على دلهي. ولمدرسة

(لاهور) التبشيرية قسم صناعي. ويدير أعمال مدرسة (بها وابور) الواقعة في

أحد أقاليم بنجاب الإسلامية المحضة مدير وطني. وليست أعمال التبشير في

(كشمير) بماشية كما يرام، لأن المسلم الذي يتنصر يقع في حيص بيص ويصبح

عُرضة للمتابعة والامتهان، وقد اضطر المبشرون إلى إقفال مدرستهم التبشيرية في

(بلوجستان) وتقول الجمعية في آخر تقريرها: إن الإسلام يقاوم الأعمال التي

توجه ضده من حيث إنه عقيدة ودين أما من جهة حركة الحضارة والمدنية فلا شك

أن أعمال مبشري جمعية التبشير الكنيسية جارية على محور النشاط والتقدم.

جاء بعد ذلك ذكر الهند الغربية. فقالت الجمعية: إن هذه البلاد من الأقاليم

التي اتسع فيها الاهتمام بالتبشير بين المسلمين إذ يلقي مبشروها محاضرات باللغة

الإنكليزية على المسلمين الذين اقتبسوا العلوم الأوروبية ويحتدم بخلالها الجدال على

الأمور الدينية. كما أن المتنصر المولوي أحمد مسيح يلقي محاضرات تبشيرية في

(بومباي) . وتتبادل المناقشات الدينية في (أورنغباد) باللغة الهندية. ويقوم

بعض المبشرين بالتبشير في المحطات مثل محطة (منمد) وهي نقطة مهمة تلتقي

فيها قطارات عديدة وتظهر الجمعية ارتياحها إلى علاقة المسلمين بالمبشرين في هذه

المقاطعة وإلى رواج مطبوعاتها التبشيرية. وللجمعية أيضًا معاهد تبشيرية في الهند

المتوسطة مثل مدينتي مدراس وحيدر آباد اختصت بالشئون الإسلامية ليس إلا.

وقد بدأت الجمعية بإرسال مبشريها منذ سنة 1817 إلى جزيرة (سيلان)

التي اتسعت أعمالهم فيها ولهم أكثر من 200 معهد و326 مدرسة يدرس فيها 23

ألف تلميذ وجلّ ما يصبو إليه المبشرون هو التحكك بالمسلمين خصوصًا القاطنين

منهم في مقاطعة (كندي) وما جاورها لأن هؤلاء الأهالي يتظاهرون بالعداء

للمبشرين ولا يدَعون أولادهم يذهبون إلا إلى المدارس الخاصة التي أسسوها

لأنفسهم.

ولم تذكر الجمعية شيئًاَ عن المسلمين في الصين إلا أن مبشريها بلا شك

يعلقون على المسألة الإسلامية أهمية كما يتضح من مؤلف القسيس (مارشال

برومهال) بخصوص الإسلام في الصين ولهذه الجمعية في بلاد الصين 300

مدرسة وتبلغ ميزانية مبشريها 000. 300. 1 فرنك.

أما جمعية تبشير التوراة الطبية فتختص بالتبشير بين النساء المسلمات والهنديات

ويقوم مبشروها ومبشراتها بأكثر من 6000 زيارة في البيوت وتعني بتعليم 6000

شخص وتعالج 32 ألف امرأة، وحسب هذه الجمعية أن تظهر احتياجها لتمطر

عليها النقود من كل حدب.

انتقلت بعد ذلك المجلة إلى الخوض في إرساليات التبشير الأمريكية فاستهلت

البحث بالجمعية التبشيرية الأمريكية التي يرجع عهدها إلى سنة 1810، وقد

اتسعت أعمال هذه الجمعية اتساعًا هائلاً حتى أنه بلغ عدد اللجان التي شكلتها من

الوطنيين في مناطق التبشير 568 اشترك فيها 73 ألف وطني يدفعون إلى هذه

الجمعية مبلغ 000. 600. 1 فرنك للقيام بنفقات الكنائس والمعاهد وتربية

أولادهم. ويبلغ عدد التلاميذ الذين يدرسون في مدارسها 70 ألف تلميذ. كما أن

لديها كثيرًا من النساء المبشرات يزداد عددهن من يوم إلى آخر. ومن جملة المبادئ

والأصول التي يروجها مبشرو هذه الجمعية أنهم عندما يهبطون إحدى المدن لأجل

التبشير يتركون الحرية التامة للذين يدخلون في مذهبهم في تأسيس وتشكيل كنائس

خاصة يدير الوطنيون أعمالها حتى يتسنى للوطنيين الاستقلال في أعمالهم إذا اتفق

أن المبشرين طردوا من البلاد. وازداد عدد المدارس العالية والابتدائية في بلاد

الدولة العثمانية والهند. ويهتم ذوو الشأن في هذه الجمعية بإيجاد مبلغ مليوني دولار

يرصد ربعها لسد نفقات مدارس التعليم ومدارس التبشير وتهتم هذه الجمعية في أمر

التبشير في البلاد العثمانية خصوصًا سوريا وفلسطين؛ لأنها لا تغرب ترك البلاد

التي كانت مهبطًا للتوراة تحت سيطرة الإسلام [2] . الكنائس الشرقية الخاملة فيها في

هذه البلاد أربعة فروع (الأول) في البلاد الأوروبية العثمانية ومركزه (سافوكو)

في بلغاريا والثاني في آسيا الصغرى ومركزه الآستانة، والثالث في سوريا وله

مركزان في (مرعش) و (عينتاب) وفي الكردستان ومركزه (خربوط) وجل ما

يتوخاه مبشرو هذه الجمعية استمالة الكنائس الشرقية وتنصير المسلمين بالتدريج

وبالوسائط الفكرية والتعليمية؛ لأنهم يعلمون يقينًا أنه يتعذر تنصيرهم مباشرة.

أشارت هذه المجلة إلى التعضيد الذي يلاقيه المبشرون الأمريكيون من موثري

أمتهم ومتمولي بلادهم الذين يمدونهم بالأموال الطائلة. ثم أتت على ذكر حادثة

حصلت إبان انعقاد المؤتمر التبشيري المختلط في روشتر إذ انبرى المستر ألفريد

ميرلنغ الصيرفي والمثري الشهير في نيويورك وتقدم إلى الحاضرين قائلاً: (إن

لدي أمرًا أريد أن أبسطه لديكم وهو أننا أصدقاء قديمون قد اجتمعنا هنا ورأينا أننا

كنا في ضلالة لأن السعي الوحيد وراء اقتناء الأصفر الرنان لا يأتي بفائدة أدبية،

ولذلك يجب أن نعمل مجهوداتنا للتأثير على رجال الكنيسة وعلى الأغنياء الذين

يتمتع كل منهم بشيء من ثروة البلاد التي تربو على 107 مليارات

من الريالات ليستعملوا ثروتهم لأغراض سامية نبيلة؛ لأن العالم كله في حاجة

شديدة ليسوع المسيح؛ ولذا فإننا نقول للقائمين بأعمال جمعيات التبشير: سندرّ

عليكم أموالنا بمزيد الدقة، فهل لكم أن تنضموا إلينا وأنتم في شرخ الشباب؟

ضحوا حياتكم نظير ما نبذله لكم من الأموال؛ لأننا نحن الآن في سن الشيخوخة

وأصبحت أيامنا معدودة. هل لكم أن توقفوا حياتكم على خدمة يسوع المسيح؟ نحن

نريد جمعية تبشيرية لا يفصلها عن أعمالها غير الموت فلنبرم إذًا هذا العقد

بيننا) .

ثم اجتمع متمولو أمريكا وأغنياؤها لأول مرة سنة 1906 بدعوة من أحد

أغنياء التجار في واشنطون وهو الذي انبهر بما قام به شبان التبشير في مؤتمرهم

في ناشفيل سنة 1906 فقرر هؤلاء المثرون تأليف لجنة منهم للتداول مع رساء كل

إرساليات التبشير الأمريكية في الأمور الآتية:

(1)

بذل المجهودات لأجل تربية المبشرين العلمانيين.

(2)

لتداول وإعمال الفكرة لرسم خطة تنصير العالم قاطبة في مدة 25

سنة.

(3)

تشكيل لجنة هامة مؤلفة من 60 عضوًا أو أكثر بأقرب ما يمكن لكي

تتعهد بزيارة مراكز إرساليات التبشير وتعمل التقارير عنها.

وقد كان من نتيجة هذا الاجتماع الذي أقامه المتمولون الأمريكيون رواج فكرة

التبشير وتأسيس لجان لهذا الغرض في كل أرجاء الولايات المتحدة، وصار يرجع

أمرها إلى لجنة مركزية مؤلفة من مئة شخص منتشرين في الولايات المتحدة وبلاد

(كندا) ثم أقيمت اجتماعات صغيرة في مئة وإحدى مدينة من أمهات مدن الولايات

المتحدة وكندا، عقد على أثرها مؤتمر تبشيري وطني في (كندا) ومؤتمر ثانٍ في

(شيكاغو) .

وهذه المجتمعات والمؤتمرات تقام في أفخم الفنادق فتعمل لها الولائم أثناء

انعقادها، ويحضرها جماعة من المثرين الأمريكيين ويستعين كبار المبشرين بتلاوة

الإحصائيات والتقديرات المالية ليتسنى لهم استمالة الأغنياء واستنداء أكفهم ، ومن

ذلك أن رئيس الحركة التبشيرية العلمانية تلا الإحصاء الآتي فقال: (لو فرضنا أن

10 ملايين من المسيحيين تعهد كل واحد منهم أن يدفع عشرة ريالات في السنة في

سبيل التبشير، وتعهد مليون من الأغنياء بأن يدفع كل واحد منهم 200 ريال في

السنة لهذا الغرض لكانت هذه المبالغ تسد نفقات كل جمعيات إرساليات التبشير ، ثم

لو رأى البروتستانت الأمريكيون أن من الواجب عليهم أن ينصروا مئة مليون من

غير المسيحيين لاحتاجوا إلى 4000 مبشر و 0000.2 شخص من الوطنيين

لمساعدتهم هذا إذا فرضنا أن كل 25 ألف من غير المسيحيين يفتقرون إلى مبشر

أمريكي واحد وخمسة من الوطنيين لمساعدته. وكل ما يتطلبه هؤلاء المبشرون من

النفقات يقدر بأربعة وعشرين مليون ريال، ويمكن الحصول على هذا المبلغ إذا

اكتتب كل شخص من التابعين للكنيسة بمبلغ سنوي لا يتجاوز عشرين ريالاً) .

وقد اعترض أحد المبشرين الألمانيين على الوسائل التي يستعين بها

المبشرون الأمريكيون فلم يحفلوا باعتراضه بل أيدوا أعمالهم وبرهنوا على أن هذه

الوسائل عززت إيراداتهم التي زادت سنة 1909 ما يقرب على ثلاثة ملايين ريال.

وقد حذت إرساليات التبشير النسائية حذوهم وطافت البلاد تستدرّ الأموال، وأقامت

الاحتفالات الشائقة، وتتوخى هذه الإرساليات النسائية تحسين أحوال المرأة الشرقية!

والتحبب إليها. وقد كان من نتيجة الأعمال التي قامت بها أن إيرادات هذه

الجمعيات زادت مبلغ مليون ريال أمريكي.

وقد أقام المبشرون الأمريكيون معرضًا عامًّا لإرساليات التبشير في

(بوسطون) في إباحة الماكنات الواسعة افتتحه المستر (تفت) رئيس

الجمهورية في شهر إبريل من سنة 1911 واشترك في ترتيبب هذا المعرض

400 رئيس من رؤساء إرساليات التبشير المنتشرة وصور متحركة تمثل أعمال

المبشرين. وحاصل القول أنهم جمعوا في المعرض ملاهي عديدة وجعلوا أجرة

الدخول نصف ريال أمريكي وأخذت بلدان أخرى أيضًا تعد المعدات لفتح معارض

تبشيرية.

ثم جاء بعد ذلك ذكر إرساليات التبشير الألمانية التي امتازت فيها جمعية

إرساليات التبشير الشرقية الألمانية. وقد كانت هذه الجمعية التبشيرية جمعية

صغيرة متوسلة بالصلاة والدعاء لأجل تأسيس إرساليات تبشير في الشرق، وذلك

عقيب مذابح الأرمن سنة 1895 أسسها القسيس (لبسوس) ثم دخلت هذه الجمعية

في دورها العملي إذ نشر مؤسسها منشورًا حماسيًا قال فيه:

(إن الشرق يدعو الغرب لشد أزره، فجل ما نتوخاه أن نحرر الشرق

بواسطة السيد المسيح، وتخلص الكنائس المسيحية من ظلم الإسلام ونفتح طريقًا

للسيد المسيح بإرجاع هذه الكنائس إلى سيرتها الأولى؟ هلموا إلى قلب العالم

الإسلامي لنحرز فوز الصليب على الهلال) ! وطفق بعد ذلك القسيس (لبسوس)

يطوف في بلاد الأناضول وسوريا وينشر تقاريره عن حال الأرمن، وتشكلت

لجان ألمانيا لمساعدتهم، وأسس هو بعض محطات تبشيرية، وانتهز فرصة

انتصار اليابانيين في حربهم الأخيرة، وذهب إلى روسيا لأجل تنصير الروسيين

الذين يكرعون من المياه القذرة في الكنيسة الروسية) وقد قال هذا القسيس: (إن

الاهتمام في صيانة الكنيسة الشرقية لا يكفي للنهوض بالشرق بل يجب مناضلة

ومناوأة الإسلام عدو المسيحيين الشرقيين القديم (!)

وعلى أثر ذلك تحولت جمعية إسعافات الأرمن إلى جمعية التبشير الألمانية في

سنة 1900 وقال (لبسوس) : (إنه لا تكفي المناوأة والمناضلة بل يجب شحذ

السلاح) [3] وقد أدرك مبشرو هذه الجمعية مغزى أقوال رئيسهم وفهموا أن مناضلة

الإسلام بصورة جدية حقيقة تفتقر إلى الوقوف عليه تمامًا، ولذلك باشروا طبع

ونشر المؤلفات المتعلقة بالإسلام وأصوله بين العالم المسيحي، ورأوا من الواجب

الاقتداء بإرساليات التبشير الأخرى وذلك بترجمة الكتب الدينية إلى اللغات الإسلامية

وتأسيس مدارس للمبشرين واتخاذ التدابير لصيانة المسلمين المتنصرين من تعدي

بني جلدتهم، وقد تمكنت هذه الجمعية من إخراج خطتها إلى حيز الفعل بفضل

القسيس (أفاتارنيان) المولوى الذي اعتنق النصرانية بعد أن قرأ الإنجيل ثم قام

بالتبشير في البلاد البلغارية وأنشأ مجلة (شاهد الحقائق) فأفعمها بالمقالات

التبشيرية ونشر مجلة أخرى سماها (كونش) أي: الشمس، ويعني بهذا الاسم أنه

يرغَب في بث الأفكار الدينية المسيحية بين المسلمين، وقد انتشرت المجلة في

البلاد العثمانية والبلغارية، وكانت تلاقي بعض الأوقات معارضات شديدة.

ومما قاله رئيس إرساليات التبشير الألمانية في تقريره عن أعمالها (أن نار

الكفاح بين الصليب والهلال لا تتأجج في البلاد النائية ولا في مستعمراتنا في آسيا

أو أفريقيا بل ستكون في المراكز التي يستمد الإسلام منها قوته وينتشر سواء كان

في أفريقيا أو آسيا، وبما أن كل الشعوب الإسلامية تولي وجوهها نحو الآستانة

عاصمة الخلافة فإن كل المجهودات التي نبذلها لا تأتي بفائدة إذا لم نتوصل إلى

قضاء لبانتنا فيها، ويجب أن يكون جُل ما تتوخاه جمعية إرساليات التبشير الألمانية

هو بذل مجهوداتها نحو هذه العاصمة وهي قلب العالم الإسلامي [4] ) .

وقد نشرت مجلة الشرق المسيحي والتبشير الإسلامي الألمانية التي هي لسان

حال جمعية إرساليات التبشير الألمانية مقالة بخصوص تعيين الدكتور (ريتشر)

رئيسًا لهذه الجمعية ومما قالته: (أن أهمية أعمال التبشير بين المسلمين تزداد يومًا

بعد يوم وتستغرق أكثر مجهودات ووسائل المبشرين الألمانيين حتى أن الجمعية

اضطرت عقيب تأسيس المدرسة التبشيرية لدرس الإسلام وأصوله ومبادئه في

(بوتسدام) أن تترك الحرية التامة لرئيسها ريثما يتخصص للتبشير بين المسلمين) .

وقد فتحت هذه المدرسة سنة 1909 والقصد منها تربية المبشرين وإطْلاعهم

على الأمور الإسلامية والمؤلفات الدينية؛ لأنه رغمًا من اطِّلاع المستشرقين

الألمانيين وطول باعهم في المؤلفات الإسلامية فإن التعاليم والعقائد التي تُلقى في

المساجد والمعاهد الإسلامية لم تزل خافية علينا، وقد منح الله الجمعية التبشيرية

بأستاذين علامتين اعتنقا الدين المسيحي يقومان بالتدريس في هذه المدرسة وهما

بمثابة سيل طامي صب على الدين المسيحي الحي القوتين الإسلاميتين اللتين هما

الشريعة والصوفية، واسم الأستاذ الأول المدرس نسيمي أفندي الذي ينتمي إلى

عائلة إسلامية عريقة سبق لأحد أعضائها تقلد منصب المشيخة الإسلامية. واسم

الثاني الشيخ أحمد الكشاف [5] شيخ طريقة صوفية وانضم إليهما القسيس

(أفاتارنيان) الآنف الذكر الذي كان اسمه محمد شكري أفندي وهؤلاء الثلاثة

يدرسون التفسير والتعاليم الصوفية واللغة العربية والفارسية والتركية ودروس

تاريخية إسلامية لتلاميذ مدرسة (بوتسدم) ، وتبلغ ميزانية جمعية إرساليات

التبشير الألمانية 186 ألف مارك.

***

نوايا المبشرين وآمالهم في المستقبل

لا تكتفي إرساليات التبشير بالنظامات والأوضاع التي أخرجتها إلى حيز الفعل

بمزيد الدقة والنشاط وإجهادها النفس لتتوحيد أصولها وأوجهها، بل هي تعد

المعدات لتوسيع دائرة أعمالها ليتسنى لها شن الغارة على الأراضي الإسلامية المقفلة

في وجهها أو هي تتحفز لمنازعة الإسلام على البلاد التي ترسخ قدمه فيها.

وقد ظهر في عالم المطبوعات مؤلفان يتعلقان بالغارات التبشيرية في المستقبل

والحظ الذي سيكون للشبان المنورين منه. أحدهما للقسيس زويمر الذي يوجه تأليفه

إلى الطلبة. ويذكر لهم الأقاليم الخالية من المبشري. والآخر بقلم المستر (غردنر)

السكرتير العام لجمعية الطلبة المسيحيين وهو بخصوص الأعمال التبشيرية في

أفريقيا الجنوبية، وقد كانت فكرة هذين المؤلفين منطبقة على قرار مؤتمر (أوبورغ)

التبشيري الذي جاء فيه أن القسم الأعظم من العالم الإسلامي خال من التبشير

المسيحي وأشير إلى الأقاليم الإسلامية الخالية من التبشير في أفريقيا وآسيا وإلى

ضرورة اكتساحها.

وقد أشار (زويمر) في القسم الأول من كتابه إلى البلاد الإسلامية الخالية من

المبشرين مثل الأفغانستان وعدد سكانها 4 ملايين مسلم والعشرين مليونًا من

المسلمين القاطنين في (بخارى) و (خيوة)(وتركستان الروسية) وكلها لا يوجد

فيها مبشر برتستاني واحد، وهناك بلاد أخرى لا تخلو من المبشرين إلا أن

مجهوداتهم غير كافية لقضاء لبانتهم، وقال: إن أهالي تركستان الصينية يظهرون

مزيد الحفاوة بالمبشرين وهم أقل تعصبًا من سكان البلاد الإسلامية الأخرى! ولفت

الأنظار إلى أنه لا يشغل الطريق التي توصل الهند والتركستان الروسية وتجتاز

جبل (كركوروم) إلا بعض مبشرين متنقلين من جمعية التوراة التبشيرية مع أن

هذه السكة يمر بها المسلمون الصينيون الذين يتوجهون إلى مكة لأداء فريضة الحج

أما الوثنيون في سيبرية فإنهم يميلون بسهولة إلى اعتناق الدين الإسلامي، ولا يوجد

بين مسلمي الهند الصينية الفرنسية الذين يبلغون 000. 232 سوى إرسالية

تبشيرية بروتستانية واحدة. ثم جاء بعد ذلك ذكر البلاد العربية فقال: إن جزيرة

العرب التي هي مهد الإسلام لم تزل نذير خطر للمسيحية. أما المبشرون القاطنون

حول عدن والشاطئ الشرقي منها فلا يشغلون إلا أربع نقط تبشيرية. ووجودهم لم

يمنع جزيرة (سكوتارة) التي كانت في سالف أيامها مسيحية - أن تصبح إسلامية

محضة ، والمؤلف يعلل النفس بأن السكة الحديدية الحجازية التي تربط دمشق بمكة

والمدينة ستمهد للمبشرين سبيل نشر الإنجيل باللغة العربية التي هي أكثر اللغات

الإسلامية انتشارًا. والقسم الوحيد من البلاد العربية الذي تكون فيه حركة تبشيرية

واقعية هو القسم الواقع بين ولايتي بغداد والبصرة إذ توجد فيه محطتان هامتان

للتبشير وثلاث محطات مساعدة لها، وقبل أن ينتهي المؤلف من البحث في القارة

الآسيوية أشار إلى جزر ملازيه وتساءل عما إذا كانت هذه الجزر تبقى في قبضة

الإسلام أم لا؟ وقال: إنه دخل في الحظيرة المسيحية 47. 729 شخصًا من

(البتاكس) القاطنيين في غرب (صومترة) إلا أن الإسلام يتوطد في جزيرة

(بورنيو) ويتوغل في كل الجزر الأخرى - عدا (بالي) - وينتشر في المستقلة إلا

أنهم يتحاشون التحكك بالإسلام مع أنهم لا يلاقون أمامهم الصعاب التي يلاقيها

المبشرون المنتشرون في البلاد العربية والفارسية. والمبشرون في الصين والهند

قليلون جدًّا وهم لا يهتمون بالمسلمين!

ثم انتقل (زويمر) إلى قارة أفريقيا فقال: إنه يوجد في أواسط أفريقيا مجال

فسيح للتبشير وأقاليم واسعة الأرجاء واقعة على مسافة مئة ميل من الشاطئ يربو

عدد سكانها عن خمسين مليونًا لم تنتشر فيها الآيات الإنجيلية، والإسلام يتقدم

وينتشر بهدوء ونظام في أفريقيا ونيجيريا بين القبائل الوثنية لأن الحكومة الإنكليزية

تمنع تبشير المسلمين وتحظر على المبشرين المسيحيين ولوج الأقاليم التي يتوغل

فيها الإسلام، أما طرابلس الغرب وتونس والجزائر فليس فيها سوى أربع

محطات تبشيرية.

وقد خص (زويمر) القسم الثاني من مؤلفه بالبحث في الأمور الاجتماعية التي

تتعلق بالأعمال التبشيرية فقال: إن أكبر حجة كان المبشرون يدعمون بها أعمالهم

التبشيرية منذ مئة سنة كانت لاهوتية دينية محضة، أما الآن فقد أصبحت أعمالهم

مشفوعة بأسباب اجتماعية. وكان ينظر في سابق الأيام إلى المبشرين نظر قوم

يشنون حربًا صليبية ترمي إلى التنصير فقط فتحولت الأفكار، وصارت الأعمال

التبشيرية تشف عن فكرة الإصلاح الاجتماعي وعن رفع شأن الشعوب غير

المسيحية؛ لأن احتلال الأقاليم الخالية من المبشرين ناشئ عن أحوال هذه البلاد

الاجتماعية المحرومة من يسوع المسيح. والتي هي بالتالي خالية من كل بارقة أمل

وأتى القسيس (زويمر) على ذكر الأوصاب الاجتماعية التي تلم بالشعوب

الإسلامية وأشار إلى المتاجرة بالرقيق والنسوة الملازمة لهذه التجارة، وقال: إنها

ليست في خبر كان، بل هي ما زالت منتشرة في البلاد العربية والأفريقية حيث

توجد أسواق لهذا الغرض تحميها الشرائع الإسلامية القرآنية بالرغم من

الأوروبيين.

ثم ذكر بعد ذلك أسباب الانحطاط الاقتصادي في شبه جزيرة العرب ومنغوليا

وأفغانستان، والغزوات والغارات التي يشتعل لظاها بين القبائل العربية في

الصومال وأفريقيا الوثنية، والفقر المدقع المنتشر في بعض الجهات. وقال: إن

تمادي الاعتقاد بالتمائم وتأثيرها يؤخر أحوال الشعوب الإسلامية ويزيد في شقائها.

وختم هذا الباب من كتابه بقوله: إن الخطة الفاسدة الخطرة التي تقضي ببث

مبادئ المدنية مباشرة، ثم نشر المسيحية ثانيًا عقيمة لا فائدة تُرجى منها؛ لأن

إدخال الحضارة والمدنية قبل إدخال المسيحية أمر لا تحمد مغبَّته بل تنجم عنه

مساوئ كثيرة تفوق المساوئ التي كانت قبلاً!

وأشار في القسم الأخير إلى المزايا والسجايا العقلية التي يجب على المبشرين

أن يتذرعوا بها وقال: إن المشايخ والرؤساء الروحيين في (بلوجتستان)

وأفغانستان غير قائمين بوظائفهم وهم على شاكلة الرؤساء الروحيين المنتمين

للأديان غير المسيحية! ثم بين أهمية الأقاليم الخالية من المبشرين، وأفاض في

شرح الوسائل للتحكك بالشعوب غير المسيحية وجلبها إلى حظيرة المسيح وتناقش

طويلاً في الخطط والأصول التي يجدر اتباعها ونهض همة المبشرين بخطاب وجيز

اختتم به كتابه الذي سماه (مجلد المحال) .

أما كتاب المستر (غردنر) فيقع في 212 صفحة مزينًا بصور فوتوغرافية

للمساجد والمعاهد الإسلامية المنتشرة في جنوب أفريقيا ومدغشقر - وضعها

السكرتير العام لجمعية الطلبة المسيحيين عمدًا ليلفت الأنظار إلى التقدم السريع الذي

يتجه نحوه الإسلام في هذه الأقاليم نظرًا لأمور سياسية واقتصادية، وهذا السفر

أشبه باستصراخ وإعلان حرب، ويحوي كيفية وأدوار نِزال عِراك ستدور رحاه

بين الإسلام وحاملي لواء التنصير في أفريقيا الجنوبية!

وقد تساءل المؤلف عن إمكان تنصير سكان البلاد الأصليين، وانتقد أقوال

الدكتور (رهربك) القائل (أنه يتعذر عل الوطني أن يتأثر بنفوذ المسيحية - هذه

العقيدة الخاصة بالأجناس الراقية! واستصوب أن يعتبروا في بادئ الأمر داخلين

تحت حماية المسيحية، وأتى على براهين تنافي أقوال الدكتور وأشار إلى

المتنصرين في كوريا وأواسط أفريقيا، وقال: إنه في الإمكان تنصير الوطنيين

ببث مبادئ المذهب البروتستانتي.

ثم قال: إن أفريقيا الجنوبية تنتظر حركة دينية فيخلق بالمبشرون أن يسرعوا

بأعمالهم ويبذلوا قصارى جهدهم في هذا الأمر إذا كانوا لا يودون أن ينتشر الإسلام

في هذه البلاد وترسخ أقدامه.

وأشار إلى قول الأُسْقُف: (هرتزل) الذي أفاض في مزايا ومحاسن السكة

الحديدية التي تربط القاهرة ببلاد الكاب، وقال: غير أن هذا الخط الحديدي يجعل

القاهرة محجًّا للمسلمين المنتشرين من جنوب أفريقيا إلى شمالها فيجب نشر التبشير

حينئذ من الكاب إلى القاهرة. ويقول: إن من سداد الرأي منع جامعة الأزهر أن

تنشر الطلبة المتخرجين منها في جنوب أفريقيا اتباعًا لقرار مؤتمر التبشير العام.

لأن الإسلام ينمو بلا انقطاع في كل أفريقيا؟ !

وأشار أيضًا إلى جمعية النهضة السياسية الأفريقية التي يرأسها الدكتور عبد

الرحمن وهذه الجمعية تضم إليها كثيرًا من الأجناس والعناصر وهي برهان على

النهضة التي دبت روحها بين الوطنيين، ولهذه الجمعية جريدة هي لسان حالها

تنشر بالإنكليزية والهولندية، وهي تبحث في صوالح الوطنيين وتحمل الحملات

الشديدة في بعض الأوقات على الكنيسة الهولندية وعلى الحكومة. وقد قالت منذ

مدة: لقد أزِف الوقت الذي يجدر بالوطنيين أن يقولوا للجنس الأبيض: (إن الدين

المسيحي الذي يفتخرون به يباين وينافي تعاليم المسيح) . وتهتم هذه الجريدة بنفخ

روح النشاط بين السود لتستميلهم إلى اقتناء العقارات والاعتماد على أنفسهم فعلى

المبشرين أن يحوِّلوا أنظارهم نحو الأعمال والحركات السياسية والاقتصادية.

وقد أفاض صاحب التأليف في وصف فرق إرساليات التبشير المنتشرة في

أفريقيا الجنوبية وكيفية اتفاقها وأصول تعاليمها والوسائل التي يجدر اتخاذها للمّ

شَعْث إرساليات التبشير وجعلها كتلة واحدة أمام البحر الإسلامي الطامي، وقال:

إن حظ هذه البلاد من المبشرين أكثر بكثير من حظ البلاد الأخرى؛ لأن نصف

المبشرين الذين قصدوا أفريقيا للتبشير بين المئة والخمسين المليون من الوثنيين

موجودون في أفريقيا الجنوبية ليبشروا بين ظهراني ستة ملايين من السكان فيكون

حظ كل مبشر 1300 من الوطنيين بينما حظ المبشر في الجهات الأخرى يبلغ

21400 وطني واختتم كتابه بذكر أسماء جمعيات التبشير ولجانها وما أسسته من

المعاهد.

(يتلى)

_________

(*) تابع لما نشر في الجزء التاسع ص 667.

(1)

كأن هذا الملك لم يطق المقام في بلد امتلأ بالرحمة والوداعة وحب الأعداء ومباركة اللاعنين.

(2)

هؤلاء هم رسل السلام الممتثلين قول السيد المسيح وأمره بأن يعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله وقول (الرسول) إن كل سلطة منحدرة من العلو، وإن صاحب السلطة لم يعط السلطة عبثًا، فمقاوم السلطة مقاوم لله، وهؤلاء هم المنتهون بنهي المسيح بأن لا يدخلوا أبدًا ولا دارًا إلا بعد الإذن من صاحب الدار وأهل البلد وهم يدعون أنهم يرغبون إدخال المسلمين وغيرهم إلى حظيرة لم يدخلوها، أفليسوا هم الذئاب في ثياب الحُمٍْلان ودعاة سياسة تستروا بجلباب الدين؟ اللهم نعم

...

...

...

...

... صالح مخلص رضا.

(3)

أين قول هذا القسيس من قول المسيح: ضع سيفك في غمده، من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ.

(4)

هؤلاء هم أنصار الإسلام الذين كان يستصرخهم مجانين الاتحاد وفي مقدمتهم شيخ الضلال عبيد الله وقت شن الغارة على إيران الإسلامية

...

...

...

صالح.

(5)

نسيمي أفندي والشيخ أحمد كشاف من قراء المنار، فلو بينا حقيقة هذه التهمة نفيًا أو إثباتًا فإننا نكون لهما من الشاكرين.

ص: 764

الكاتب: صدر الدين أفندي مقصودف

المسلمون في مجلس الدوما (النواب) الروسي

بقية خطبة صدر الدين أفندي مقصودف

النائب المسلم في الدوما

(2)

بناءً على ما ذكر أولاً- أي بناء على وجود الجامعة الإسلامية - تفكر جمعية

الشورى فيما يأتي:

(1)

تخصيص إعانة نقدية للمبشرين ولجمعيات نشر المعارف الروحية

(كجمعية براتستوا ستوتوي غوري مثلاً) في ولايات ضواحي (إيدل) حيث الناس

خليط من المسلمين.

(2)

زيادة شعبة مخصوصة في قزان لتعليم أساليب اللغة المحلية حتى يقدر

التلاميذ على التفاهم بها، فضلاً عن دروس الألسنة الشرقية الموجودة الآن في

الجمعية العلمية (الأكاديمية) الروحية في قزان، وبعبارة ثانية وجوب إعانة جمعية

المبشرين.

(3)

أن يقبل في هذه الشُّعبة من أتم مدة مدرسة من المدارس الثانوية

الروحية والملكية فضلاًعن الذين يستحقون الدخول في جمعية المبشرين بناء على

القوانين العمومية.

(4)

الذين يتمون مدة شُعبة جمعية المبشرين هذه يقدَّمون على غيرهم في

أن يعينوا معلمي اللسان والديانة في المدارس الثانوية الروحية ويكون لهم الحق

أيضًا في أن يكونوا قسيسين أو مبشرين في الأماكن التي يوجد فيها أقوام من غير

الروس.

(5)

بما أن الشعبة الموجودة الآن في قزان تؤدي الاحتياجات الدينية

والأخلاقية في ضواحي نهر (إيدل) فيجب أن تخصص لها إعانة لشراء وترتيب

بناية خاصة بها (كل هذه في الإعانة للمبشرين، ومع هذا تدَّعي أنها من التدابير

والأسباب لمقاومة الجامعة الإسلامية) .

(7)

لأجل تمكن الأرثوذكس من مقاومة الإسلام يجب:

(أ) تعليم الديانة الإسلامية في دور المعلمين التابعة للكنيسة مع

الاعتراضات عليها من طرف الديانة النصرانية.

(ب) نشر تاريخ المسلمين الإجمالي، ونشر كتب للرد على العقائد الإسلامية

وإعطاء الجوائز للذين يجيدون ما يكتبون فيما ذكر.

(8)

تمكين الجمعية (الأكاديمية) الروحية في قزان من نشر مجلة أو

جريدة في روح النصرانية يفهمها العامة للتأثير في غير قوم الروس بواسطة

المطبوعات تأثيرًا مدنيًّا ودينيًّا، وتخصيص إعانة لهذا الغرض تزيد على 200. 3

روبل.

(9)

يجب أن يسكن الرؤساء الروحيين في الولايات الشرقية التي يكثر فيها

المسلمون أو في الأماكن التي يكثر فيها المهاجرون بين المسلمين والمهاجرين.

(10)

يجب لتقوية الخدمة الدينية والمدنية في المحلات التي يوجد فيها

المسلمون:

(أ) أن يعمل الروحييون والمأمورون الملكيون بعد أخذهم الرخصة

محاضرات دينية موافقة لروح الكنيسة الأرثوذكسية لأجل الكبار والصغار.

(ب) افتتاح دور الكتب (الكتبخانات) قرب المكاتب.

(ج) تحسين معيشة الخدمة الروحيين في القرى بتعيين مرتبات مقننة لهم،

وذلك في المحلات التي يوجد فيها أقوام من غير الروس. (وهذا أيضًا منح إعانة

وتدبير ضد الجامعة الإسلامية؟)

(11)

إخراج الفنون التي لا تعلق لها بالديانة من مكاتب ومدارس المسلمين

ومن جملتها اللغة الروسية، فلا يعلَّم فيها غير الديانة الإسلامية وأن يُسلَّم تفتيش تلك

الأمور إلى نظارة المكاتب العمومية.

(بعد معارضة من حزب اليمين وكلام مع الرئيس) قال: أرجوكم أيها

الأفندية أن تصبروا أيضًا دقائق معدودة. فأنا لا أقرأ لكم قرارات الجمعية الشورية

بتمامها بل أقتصر على كُبراها. ومن قراراتها ترك مكاتب المتنصرين من التتر [*]

على حالها الحاضرة وعمل هيئة شورية مركبة من الروحيين ووكلاء نظار المكاتب

ينظرون في شئونها.

(20)

جعل أمثال هذه المكاتب الواقعة في محلات يكثر فيها المسلمون

تحت نظارة إدارة الأمور الروحية الأرثوذكسية.

ومن قراراتها أيضًا أنه نظرًا لكثرة عدد النفوس التي تحت نظارة الإدارة

الروحية الإسلامية ولعدم إمكان التوفيق بين تسليم شئون المسلمين كافة إلى إدارة

واحدة وبين منافع الدولة ومنافع الدولة ومنافع شعوب المسلمين أنفسهم يجب تسليم

إصلاح الإدارة الروحية إلى الوزارة الداخلية وهي تقوم بإصلاحها بتأسيس إدارات

روحية إسلامية متعددة في محلات متعدة (وبعد استراحة المجلس استأنف الكلام

صدر الدين أفندي مقصودف) فقال:

أيها الأفندية! قرأت لكم قبل الاستراحة اللائحة التي تبحث في التدابير ضد

الجامعة الإسلامية، ولعل تلك القرارات بقيت في خاطر أحد منكم ولم تذهب جميعها

من بَالكم، وأريد الآن توجيه أنظاركم إليها ثانية ولا سيما مادة واحدة منها وهي

المادة 11 التي قيل فيها (إخراج الفنون التي لا تعلق لها بالديانة، من مكاتب

ومدارس المسلمين ومن جملتها اللغة الروسية فلا يُعلَّم فيها غير الديانة الإسلامية

وأن يسلم تفتيش تلك الأمور إلى نظارة المكاتب العمومية.

أيها الأفندية! إنهم قد صدروا هذه القرارات بمقدمة أتوا فيها بالأدلة على

ضرورة انفاذها جاء فيها:

(بناءً على أن المعلومات الدينية ضرورية لعلماء المسلمين الدينيين بصفة

أنهم أمة لها كيان ومشخصات كغيرها ترى الجمعية الشورية دوام بقاء مكاتبهم

ومدارسهم الدينية من غير شك إلا أنه يجب إرجاع هذه المدارس إلى حالتها الدينية

المحضة، فالجمعية ترى جعل حد فاصل بين العلوم الدينية وغيرها من الفنون مما

لا بد منه. وشئون التعليم الديني في تلك المدارس تسلم إلى نظارة العلماء الروحيين

من المسلمين، ولا يتداخل فيها رجال الحكومة، ومع ذلك يجب أن لا يترك سبيل

لتعليم الفنون العمومية فيها. وبناء على النظام المصدق من طرف القيصر في 26

مارس سنة 1907 كان قد جعل تعليم الروسية إجباريًا في مكاتب ومدارس المسلمين

وأعضاء الجمعية الشورية تذاكروا أيضًا في هذه المسألة، على أن جعل تعليم

اللغة الروسية إجباريًّا في المكاتب والمدارس كان قد بُني على مقصد معين وهو

إدخال مكاتب المسلمين الموجودة الآن في تلك المكاتب العمومية. وأنى لنا بالتأكد

من صحة هذا المقصد؟

وإذا هو حصل فإن مكاتب المسلمين تخرِّج طلابًا لهم وقوف على المعارف

العمومية الحقيقية وهذا ليس بمطلوب قط، ثم إن جعل تعلم اللغة الروسية إجباريًا

في المدارس الإسلامية لم يحُز قبولاًعند المسلمين وعدوه تحاملاًعلى الدين وعملاً

ًيُراد به الذهاب بمشخصاتهم أو تحويلها إلى مشخصات روسية قَسْرًا.

فبناءً على ما تقدم ترى الجمعية وجوب محو اللغة الروسية (الموجودة الآن)

في المكاتب والمدارس الإسلامية وأن لا يؤذن للمسلمين فيما بعد بإدخال اللغة

الروسية في مكاتبهم ومدارسهم) .

انظروا أيها الأفندية! بعد ما سمعتم هذه القرارات التي حازت القبول من

رجال الحكومة الذين يريدون الاحتفاظ بمنافع الدولة ترون أننا بطبيعة الحال ننتهي

إلى البحث والتفكير فيما يلي:

نحن مسلمي روسيا لسنا تحت إدارة حكومة دنيوية تدير شئونها بالعقل

والروية بل نحن تحت نظارة المبشرين الذين لا ينظرون إلينا بعين العداوة، لأن

رجال الحكومة يأتمرون بأمر المبشرين في إدارة شئوننا في جميع الأوقات فكأننا

محكومون بحكومة (إكليريكية) .

موضوع قرارات الجمعية التبشيرية في قزان وقرارات رجال الحكومة في

العاصمة واحد وهو وجوب إعانة جمعية المبشرين ومنع تعليم تقويم البلدان والتاريخ

ولغة الروس وغيرها من الفنون في مكاتب ومدارس المسلمين وعدم الإذن بافتتاح

مكاتب أخرى. كل هذا لمقاومة الجامعة الإسلامية على ادعائهم فتفضلوا أرونا أي

قرار من تلكم القرارات يُفهم منه مقاومة الجامعة الإسلامية.

كلا! ليس هناك شيء لمقاومة تلكم الجامعة بل كلها لمقاومة الإسلام نفسه

أولاً ولمقاومة رُقيّ المسلمين ثانيًا.

انظروا أيها الأفندية! بسبب تلكم اللوائح من المبشرين وتلقينا تهم المستمرة

أيقنت وزارة الداخلية بوجود حركة (الجامعة الإسلامية) وأرسلت التعليمات

اللازمة إلى الولادة والمأمورين الآخرين لمقاومة هذه الحركة، فأخذ الولاة وغيرهم

من المأمورين يبحثون عن الجامعة الإسلامية، وأخذوا يرون في كل شخص ظلها،

وكل مأموري الإدارة أخذوا يجدون في نيل قصب السبق للعثور على مركزها فبدأت

التفاتيش والحبس والنفي وسبق في هذا الأمر مأمور ولاية (وياتكة) وامتازوا به

على غيرهم. فتشوا عن مركز الجامعة الإسلامية حتى عثروا عليه.

لو كان الأمر بأيديكم فأين كنتم تفكرون وجود مركز هذه الجامعة؟ هم وجدوه

في مدرسة دينية في قرية فقيرة تسمى (بوبي) بولاية وياتكة، وامتازوا به على

غيرهم. فتشوا عن مركز الجامعة الإسلامية حتى عثروا عليه.

لو كان الأمر بأيديكم، فأين كنتم تفكرون وجود مركز هذه الجامعة؟ هم وجدوه في

مدرسة دينية في قرية فقيرة تسمى (بوبي) بولاية وياتكة، ومن الصدفة كان

معلموها يعلمون تقويم البلدان والتاريخ ولغة الروس فضلاًعن العلوم الدينية.

عندما سمعت إدارة الشرطة في وياتكه بتعليم الفنون الجديدة في هذه المدرسة

أخذت تفكر: لا بد من وجود شيء في هذه المدرسة، يعلمون في مدرسة إسلامية

اللغة الروسية وتقويم البلدان باختيارهم وبنفقاتهم الخصوصية! فلا بد من وجود

الجامعة الإسلامية هنا. وأخذت تستفهم الأئمة في القرى المجاورة لقرية بوبي عن

شئون المدرسة، وهل الأئمة في قرية بوبي يشتغلون بالجامعة الإسلامية أم لا؟

والذين يخالفون تدريس اللغة الروسية وتقويم البلدان من الأئمة، وكذلك الجهلة

أجابوا باحتمال وجود الجامعة الإسلامية فيها وقالوا: إنهم يعلمون التلاميذ جريان

الأرض حول الشمس ودورانها حول محورها. وهل للأرض محور؟ وذلك لا شك

من علامة الجامعة الإسلامية (كل هذا مكتوب في سِعاية من السعايات المقدمة

للحكومة) .

صدقت إدارة الشرطة في وياتكه أقوال أعداء أئمة بوبي وشرعت في إبلاغ

الأمر إلى المقامات العالية. وسلم هؤلاء السيئي البخت إلى المحكمة. وكانوا أولاً

سجنوهم من غير تفتيش من المحكمة، ولكن باشروا الآن العمل في المحكمة حتى

لا يعد أمرهم هذا شيئًا خارجًا عن حد اللياقة ليس إلا. يقولون: إن ذنب هؤلاء

الأئمة اشتغالهم بالجامعة الإسلامية كأنهم نشروا من قرية بوبي فكرة الجامعة

الإسلامية في أنحاء روسيا جمعاء. وهم منذ سنة ونصف في سجن بلدة ساربول ولا

يعلم أحد متى يكون الحكم عليهم [1] .

نحن تيقنا من الآن بسقوط الجامعة الإسلامية التي ظهرت من جانب الموظفين

والمبشرين وتيقنا أن سيعلم الناس جميعًا أنه لا يوجد بين المسلمين حركة ما سوى

حركة الاجتهاد في الارتقاء والتقرب من مدنية الروس. وأطال الخطيب في آراء

المحافظين على القديم من المسلمين وسعايتهم بالنشء الجديد الطالب للارتقاء

والتحكك بمدنية الروس وأتى على ذكر الحاج طلاشي الشركسي صاحب مجلة

مسلمانيين التي كان يصدرها في باريس وذكر تناقضاته بتهويله بالجامعة الإسلامية

تارةً وبوضعه أساسًا وإبدائه النصائح لتأسيس بنيانها وإيجادها تارةً أخرى،

واستشهد بالعدد 375 من جريدة ريج الروسية ثم قال:

والحاصل أيها الأفندية أنه قد أتى دور الحبس والتفتيش وإقفال المكاتب بسبب

سعايات جهلة من المسلمين وغيرهم ممن اتخذوا السعاية مهنة لهم. ابتدأت هذه

الأمور في زمن اسطالبين ولا تزال مستمرة إلى الآن وتنفذ على الدوام تدابير

الجمعية الشورية. والذين ينظرون معي إلى هذا الأمر متجردين من الغاية والتحيز

يقتنعون ببطلان هذه السياسة وأنها تنافي منافع الدولة كما أنها توجب الوهن لبناء

كيان دولة الروس أمتين.

أنتم باتهامنا بهذه الجامعة تقطعون علينا طريق العلم والمدنية بعد أن أخذنا

نستيقظ لانتهاجها الآن، وكثير من الناس يعرف عاقبة هذه السياسة السوءى.

أيها الأفندية! أنتم تغلطون غلطًا فاحشًا تجلبون به ضررًا عظيمًا إلى مستقبل

روسيا. ولا حاجة بي إلى الاستدلال على صداقة المسلمين لدولتهم؛ إذ هي معلومة

لكل أحد من قديم الزمان، وهذا كلام صحيح وتلكم الصداقة قد استمرت إلى الآن

كما يعرف الجميع ولو لم يتخذوا سياسة أخرى لكانت كذلكم إلى ما شاء الله. ولكن

قد توجد أشياء توقع الاضطرابات بين أصدق التبعة، وقد تخرج العقول الصحيحة

عن محجة الصواب، ونلقي الخوف وعدم الأمن بين أشد التبعة سكونًا وهدوءًا.

أيها الأفندية َ! إذا نفوا إمامًا في قرية بلا سبب وأقفلوا مدرسة في قرية ثانية

وصادروا كتبًا دينية في ثالثة وتكرر أمثال هذا كل يوم فلا شك في كونها تولد أفكارًا

سيئة في رءوس الأهالي غير مطلوبة لنا ولا للحكومة.

أيها الأفندية! أقول لكم علنًا: إن مسلمي روسيا لا توجد بينهم حركة وآمال

تضر دولة الروس وتخالف منافعها (يصيح بعضهم من الوسط: صحيح)

(مقصودف:) إذا كانوا يقدرون على تنفيذها فليثبتوا مدعاهم على هذا المنبر سواء

كانوا من وكلاء الحكومة أو من النواب.

أيها الأفندية! أكرر قولي: إنه ليس فينا فكر ولا حركة ضد الدولة ولكن لنا

طلب واحد وهو أن نكون أحرارًا وذوي حقوق كاملة في الدولة الروسية الكبيرة.

نحن لا نشك في وصولنا إلى هذا المقصد: إذ لا يمكن لأمة عددها 20 مليونًا أن

تبقى في ضيق أبديّ مهما كانت التدابير المقاومة لها، ولا بد من أن يظهر الحق

والعدالة في وقت من الأوقات وسوف نكون أحرارًا وذوي حقوق كاملة مع مشاهدة

سرور الروس الذين لا يقاومون الحق في وقت من الأوقات ولا يخاف من هذا غير

رجال الحكومة والمبشرين. حقًا أنه لا يوجد بين معيشتنا المحلية وبين دولة الروس

شيء يخالف بعضه بعضًا. نحن نطلب دائمًا تقدم الدولة وعظمتها والمشي مع

أحرار الروس في أعمال الدولة العمومية جنبًا لجنب ولكن اتركونا أحرارًا لنعيش

في الدنيا على مقتضى قوميتنا المنعقدة منذ قرون عديدة محافظين على ما أوصى

وترك أسلافنا لنا من الأشياء المقدسة الموجودة في أمتنا (تصفيق من اليسار)

اهـ.

...

...

نقلاًعن محاضر جلسات مجلس الدوما

***

خطاب مقصودف أفندي في الجلسة الختامية لمجلس الدوما

(تمهيد لمراسل جريدة (وقت)

(قال) : معلوم أن سكان ولايات ترسكان وصحراء قزاق كانت قد محيت

حقوقهم في انتخابات الدوما بنظام 3 يونيو سنة 1907 فلم يدخل منهم ولا نائب

واحد في الدورة الثالثة لمجلس الدوما، ومعلوم أن سكان تلك الولايات عبارة عن

المسلمين وذلك النظام باقٍ للآن، وتبين اليوم أن المراد بقاؤه إلى ما شاء الله من

غير تبديل ولا تغيير، وعلى ذلك فكر حزب المسلمين في الدوما بمناسبة آخر أيام

اجتماعاته في بعث هذه المسألة - مسألة حرمان إخوانهم في تركستان وصحراء

قزاق من حقوقهم المدنية المحضة - أملاً بالحصول على أي سبب لإلغاء ذلك النظام

فبعد افتتاح الجلسة اقترب صدر الدين أفندي مقصودف من الرئيس واستأذنه

بالكلام في هذه المسألة المهمة بمناسبة اليوم الأخير ولكن لم يؤذن له، وكذلك كانوا

قد استأذنوه من غير جدوى قبل افتتاح الجلسة. ولما لم يبق أمل في إلقاء بعض

الكلمات في هذه المسألة على مسامع النواب أخذ صدر الدين أفندي مقصودف نوبة

للكلام وصعد المنبر بمناسبة لائحة مقدمة للدوما بطلب مليون روبل للترميم

والإصلاح في بناء الدوما، وقصد من هذه الفرصة بيان وجود خلل في بناء مجلس

الدوما المعنوي بقطع النظر عن البناء الحسي، ومنه طلب إرجاع حقوق المسلمين

في ولايات تركستان وصحراء قزاق في انتخابات الدوما، ولكن حصلت ضوضاء

وجلبة من ناحية حزب اليمين وحزب أكتوبر [2] ومنعوه من الكلام. وبالاختصار

مضى هذا القسم من الجلسة كما يأتي:

بعد ما تليت اللائحة التي يطلب فيها مليون روبل لتعمير بناء الدوما صعد

المنبر صدر الدين أفندي مقصودف وشرع في الكلام فقال:

أيها الأفندية! توجد شقوق عظيمة ومهمة جدًّا في نفس الدوما لا في البناء فقط

وقد وقع المسلمون في واحد منها وانضم عليهم جانباه فخنقهم وأرى أني مضطر

لبيان هذه الحالة لكم قبل التفرق والسفر.

أيها الأفندية! في غضون خمس سنين سن الدوما ونظر قوانين كثيرة جدًّا في

شئون أهالي صحراء وولايات تركستان، ولم يكن لهم وقتئذ وكلاء ينظرون في تلك

القوانين فهذه الأعمال في الدوما قد تمت من غير حضور وكلاء ونواب عن الأقوام

الذين نفذت فيهم تلك القوانين.

(الرئيس - يوقف صدر الدين أفندي مقصودف عن كلامه ويأمره بالرجوع

إلى الكلام في تعمير بناء الدوما فقط) .

مقصودف - (يستمر في كلامه) : نحن المسلمين نعد هذه الحال خارجة عن

الدرجة الطبيعية. (ضوضاء وجلبة من حزب اليمين والوسط والرئيس يُسكت

مقصودف أيضًا ويرجوه أن يتكلم في التعمير فقط. أما صدر الدين أفندي مقصودف

فلعله لم يكن يسمع كلام الرئيس أو أنه كان يريد إتمام كلامه، ولذلك استمر في

خطبته ولكن لكثرة الأصوات كان يتعذر السماع) .

مقصودف - (يجد في الاستمرار) فهذا الخلل

لم يسمع.

من اليمين - تكلموا في التعمير فقط. ماذا وجدتم أيضًا من الخلل؟

(صياح) .

الرئيس - ينبه الخطيب ثالثة ويصرح باضطراره إلى منعه من الكلام إذا لم

يرجع إلى موضوع المسألة.

مقصودف - (يستمر في كلامه) : نظام ثالث يونيو لكم.... لا يسمع.

وانبعثت أصوات هائلة في الدوما واقترب النائب بور يشكيويج من المنبر

يصيح ويخاطب صدر الدين أفندي بكلمات لا تُسمع، والرئيس يطلب النزول عن

المنبر والخطيب لا يسمع ويتقرب منه معاون رئيس الشرطة ويقف النواب كلهم

على أقدامهم في الصفوف الأمامية هم ويصيحون وأيديهم تمتد نحو المنبر

والخطيب واقف على المنبر ينتظر السكون. ثم شرع في خطبته من جديد يريد أن

يتكلم بحدة زائدة ولكن اشتدت الأصوات أيضًا بين النواب، وفي النهاية منعه

الرئيس من الكلام منعًا وأمره بالنزول ولكنه لم يلتفت إلى شيء من ذلك وبقي ثابتًا

على المنبر ينتظر السكون ليتم كلامه. ولما رأى تطلوع محمد ميرزا تفكيلف

رئيس حزب المسلمين احتمال استفحال الأمر صعد المنبر ونزل بالخطيب.

يقول صدر الدين أفندي: مقصودف: إنه كان ما كان منه بسبب ازدياد

الغضب. ويظهر أن الرئيس غضب جدًّا من هذه الحال فقال: نحن نجلس اليوم في

الجلسة الأخيرة ومع هذا لا يمكنني السكوت عن عضو من أعضاء الدوما يخل

بالنظام وتدبير الرئيس - لذلك أعرض لكم إخراج مقصودف من جلسة اليوم.

وما أتم الرئيس كلامه حتى طلع صدر الدين أفندي مقصودف المنبر بعد أخذ

الإذن - وهذا يسمى في اصطلاح الدوما صعود المنبر لأجل بيان المراد، وكل واحد

من النواب له ذلك الحق في مثل هذا الوقت - وقال: أيها الأفندية! تعلمون جميعًا

أن حزب المسلمين لم يأت شيئًا من النزاع والجدال في الدوما في غضون خمس

سنين مضت. وما كان حزب المسلمين في وقت من الأوقات مانعًا من أعمال الدوما

في شيء، فإذا أنا خرجت اليوم عن طوري المعتاد فليس هذا من غير سبب. نحن

لا نقدر أن ننظر في هذا الأمر نظر الهدوء، وقد كنا أردنا - بناء على إشارة

وجداننا - أن نلقي عليكم بعض كلمات بالإخلاص ومن أعماق القلوب عن حالة

إخواننا المسلمين سيئي البخت الذين صاروا منسيين ومطروحين في المكان القصيّ

ولكن لم يتيسر لنا ذلك. أنتم تقدرون من غير شك على إخراجي من الدوما، ولكنه

يكون منكم ظلمًا عظيمًا، لأننا إذا كنا أصدقاء لإخواننا المسلمين في دائرة الوجدان

كذلك ما كنا مقصرين في وقت من الأوقات في الخدمة والصداقة لحكومة روسية

(تصفيق حادّ من اليسار ولعن من اليمين) - ويظهر أن كلمات صدر الدين أفندي

مقصودف أقنعت الرئيس جيدًا فقال: بعد كلام مقصودف هذا أرى أنه يجوز تركه

من غير إخراج والاكتفاء بدعوته إلى الترتيب (التصفيق المستمر من جميع

النواب) .

قال المكاتب:

وهذه الواقعة وإن كانت قد تُلقيت بفتور من النواب قبل التفاتهم ولكن في

الآخير صارت حسنة وزال ما في القلوب من سوء التفاهم وكثير من النواب

المستنيرين من المسلمين وغير المسلمين صافحوا صدر الدين مقصودف وهنئوه.

_________

(*) هؤلاء يقال: إنهم تنصروا كرهًا بعد سقوط إمارة قزان.

(1)

قد صدر الحكم على ابني بوبي من مدة غير بعيدة في جلسة سرية في بلدة ساربول بالحبس ستة أشهر.

(2)

حزب ينضراو يطلب تنفيذ الأمر القيصري الصادر في 17 أكتوبر سنة 1905 إبان الفتن الداخلية بعد حرب اليابان وهو مع حزب اليمين في نصرة الحكومة إلا أنه أكثر منه اعتدالاً.

ص: 780