المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ربيع الأول - 1330ه - مجلة المنار - جـ ١٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (15)

- ‌المحرم - 1330ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس عشر

- ‌ذكرى الهجرة النبوية الشريفةوجعلها تاريخًا عامًّا للبشر

- ‌علاوة للمقالة

- ‌نقل كلام المخالفين أو المبطلين

- ‌أسئلة من الهند

- ‌أموال الشركات الأجنبية في بلادناوحقوق المعاهدين

- ‌الدخول في الماسونية

- ‌المسألة الشرقية

- ‌ المسألة الشرقية

- ‌خاتمة المقالات.. شجون ومحاورات

- ‌القرابين والضحايا في الأديان

- ‌إنا لله وإنا إليه راجعون [

- ‌صفر - 1330ه

- ‌السيد حسين رضا(1)

- ‌الدولة العلية واليمن

- ‌دعوة سيدي أحمد الشريف السنوسيإلى جهاد الإيطاليين في طرابلس الغرب وبرقة

- ‌اللغة العربية

- ‌الجامعة الإسلامية [*]

- ‌الصلح بين الدولة والإمام

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌ربيع الأول - 1330ه

- ‌الوفاق بين الإسلام والنصرانية

- ‌الاجتهاد والتقليد

- ‌اللغة العربية [*]

- ‌العالم الإسلامي [

- ‌أخبار العالم الإسلامي

- ‌الدين كله من القرآن [*]

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع الآخر - 1330ه

- ‌المقالة الثانيةمن المقالات الروسية عن تركستان

- ‌عراف

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](1)

- ‌التقريظ والانتقاد [*]

- ‌جمادى الأولى - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](2)

- ‌أخبار العالم الإسلامي

- ‌المطبوعات الجديدة [*]

- ‌جمادى الآخرة - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](3)

- ‌رجب - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](4)

- ‌فرنسة في تونس وإنكلترة في مصر

- ‌السكة الحديدية في الحجاز [*]

- ‌طريقة السنوسيةوزواياها بين الإسكندرية ودرنة [*]

- ‌أهمية الإسلام

- ‌ ابن تيمية ولوتر

- ‌فوائد صحيةغذاؤنا في الصيف [*]

- ‌أسرار الثورةأوخواطر ساعة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌التقاريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1330ه

- ‌التربيةووجه الحاجة إليها وتقاسيمها

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](5)

- ‌نهضة آسيوية

- ‌الشعر العصري

- ‌رمضان - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](6)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌مجلة العالم الإسلامي الفرنسية

- ‌التقاريظ

- ‌كامل باشاآراؤه السياسية منذ 24 عامًا

- ‌شوال - 1330ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الجامعتان الإسلامية والعثمانية [*](1)

- ‌بشائر عيسى ومحمد [*]في العهدين العتيق والجديد(7)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ذو القعدة - 1330ه

- ‌الحرب الصليبية في البلقان

- ‌السبحةتاريخها والتسبيح والذكر بها

- ‌حديث في استلزام المغفرة للذنوب

- ‌أسئلة من القوقاس

- ‌الجامعتان الإسلامية والعثمانية(2)

- ‌نظرة في الجزء الثاني من كتابتاريخ آداب اللغة العربية [*](2)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌ذو الحجة - 1330ه

- ‌اتخاذ الصور والتصوير الشمسي

- ‌فتاوى المنار

- ‌ميزان الجرح والتعديل [*](2)

- ‌خطبةافتتاح الاجتماع السنوي العام لجماعة الدعوة والإرشاد

- ‌حقيقة أحوال مسلمي جاوه

- ‌بعد تسعة قرون [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌خاتمة السنة الخامسة عشرة

الفصل: ‌ربيع الأول - 1330ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الخامس عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

نحمدك اللهم وأنت ولي الحمد، والهادي إلى سبيل الرشد، ولك الأمر من

قبل ومن بعد، لكل شيء عندك قدر، ولكل قدر أجل و {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ *

يَمْحُواللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 38-39) ونصلي ونسلم

على محمد نبيك المصطفى، ورسولك المجتبى، الذي أرسلته كافةً للناس بشيرًا

ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وآتيته الحكمة وفصل الخطاب،

وأنزلت في محكم الكتاب {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ

أوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأوْلَئِكَ هُمْ أوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) .

وبعد، فقد دخل المنار في هذا العام في السنة الخامسة عشرة من عمره وهي

سن بلوغ الحلم الغالب في الإنسان، وبدء الرشد في عرف شريعة الإسلام، فنسأل

الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا فيه رشدنا ويبلغنا قصدنا، وينفعنا بما نطلبه في هذه

الفواتح من نصح الناصحين، ونقد الناقدين ومن آيات الفوز والرشاد، أن وفقنا عزَّ

شأنه للشروع على رأس هذه السنة في تنفيذ مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) التي

نرجو أن تكون خير ما أنشئ في البلاد، لإصلاح ما استشرى من الفساد.

قطع المنار هذا الطور الأول من حياته وحده، فدرج درجان الطفل غادر مهده،

إلى أن بلغ رشده، فلا أخذ بيده أمير، ولا أعانه وزير، ولا أمده غني كبير،

اللهم إلا أن مصطفى رياض باشا - تغمده الله برحمته - وكان نسيجًا وحدَهُ في

كبراء هذه البلاد، في إعانة الصحف ومساعدة أرباب الأقلام، وكذا سائر ما يعتقد

نفعه من الأعمال، أرسل إلي مرةً قيمة الاشتراك مضاعفة أضعافًا، فقلت لرسوله

إنني لا أقبل من أحد مالاً لا مقابل له مني، فعاد إليه بها فاشترك بعد ذلك بعشر

نسخ من المنار، ثم جعلها خمس عشرة نسخة، وجعلها نجله محمود باشا من

الباقيات الصالحات له، وإني أعلم كما يعلم كثير من الناس، أن المنار لو صدر

على عهد وزارة رياض، للقي من مساعدته بنفوذه، أضعاف ما لقي من مقاومة

غيره، فإنه كان مغرمًا به، كثير الذكر له والثناء عليه في مجالسه، وكان مثل هذا

أمرًا مفعولاًَ في عهد وزارته، وإذا كان رياض باشا قد حسن قوله في المنار وعمله،

فما لي لا أذكر بالخير من حسن قوله ونيته، ذلك إبراهيم باشا فؤاد الذي كان

ناظر الحقانية رحمه الله تعالى، كان يرى أن المنار أنفع الصحف للمسلمين، ويود

لو يعم انتشاره بين طلاب العلوم وجميع الطبقات، وقد سمعت منه منذ السنة الأولى

ما يدل على رأيه هذا، وأخبرني بمثل ذلك عنه أحمد فتحي زغلول باشا، وقال:

إنه ذاكره في وضع مشروع لتوزيع المنار على طلاب العلم والفقراء من القراء

بثمن قليل جدًّا لا يثقل على أحد منهم أو جعل ثمنه قليلاً لكل قارئ بجمع مال

بالاكتتاب يرصد لذلك. فكر رحمه الله تعالى في ذلك وقدَّر، وذاكر وشاور، ثم لم

يعمل شيئًا، فجزاه الله على نيته خيرًا.

أشرت في فواتح السنين الماضية إلى ما كان يلقى المنار من المقاومة

والمعارضة، والمناصبة والمناهضة، وذكرت في بعضها شيئًا من تاريخه

الإصلاحي والسياسي، وأحببت أن أذكر في فاتحة هذه السنة ما فيه العبرة من

تاريخه المالي، إذ يظن بعض الناس أنه أصاب كِفْلاً من المساعدة والإمداد المعتاد

مثله في هذه البلاد، فلم أجد فيه إلا ما ذكرته لرياض باشا من قول وعمل،

ولإبراهيم باشا فؤاد من قول ونية، ورياض باشا هو الذي أخذ بأيدي أصحاب

الصحف الكبرى بمصر في أيام وزارته، سواء كانوا من نصارى السوريين، أو

القبط أو المسلمين، فهو صاحب الفضل الأول على الأهرام والمقتطف وجريدتَيْ

الوطن فالمؤيد، ساعد هذه الصحف مساعدة الوزير النافذة إرادته، المسموعة كلمته،

المطاع أمره وإشارته، الطويل باعه المبسوطة يده، فمساعدته للمنار لا تقرن

بمساعدته لتلك الصحف، وإنما أقول هذا مزيدًا في تكبيره في نفسه وتمييزه بين

أبناء جنسه، لا لتصغير معروفه والتقصير في شكره.

لعله لولا مثل تلك الموازرة لما نبتت تلك الصحف في أرضنا نباتًا حسنًا ولما

استغلظ نباتها واستوى على سُوقه، ولمَا أينعت ثمرتها وآتت أكلها، ذلك بأن الجهل

وضعف الأخلاق وفساد نظام الاجتماع جعل بلادنا كالأرض السبخة، لا تنمو فيها

شجرة العلم إلا بعناية خاصة من الخاصة ، وها نحن أولاء قد تعودنا قراءة الصحف

اليومية عشرات من السنين وصرنا نعدها من حاجات الحضارة والمدنية، ولكن

هيئتنا الاجتماعية لا تزال قاصرة أو مقصرة في القيام بما يجب من حقها، لما ذكرنا

من ضعف النفوس ومرض الأخلاق فيها، حتى إن كثيرين من رجال الطبقة العليا

فينا كالمدرسين والمؤلفين والقضاة يمطلون ويسوفون فيما يجب عليهم من اشتراك

الجريدة أو المجلة، ومنهم من يهضم هذا الحق ويستحل أكله، ومن الوقائع القريبة

في ذلك أن بعض المعروفين بشرف النسب والثروة والعلم والتأليف قال لوكيل

المجلة بعد أن أرجأه طويلاً: إنني لا أدفع قيمة الاشتراك؛ لأنني من العلماء! !

فإذا كان أكل أموال الناس بالباطل، مما يجهر به الشريف الغني العالم، ويعده من

ثمرات العلم ومزايا العلماء، فممن ننتظر الوفاء؟ دع التعاون على المصالح العامة

والإصلاح لا أقول: تقطعت من هذه الأمة جميع أسباب الوفاء والتعاون، وانبتَّت

سائر حبال التكافل والتضامن، وإنما أقول: إن ذلك قد قل فيها وضعف، على نحو

ما أصف، وكان من أثره ضياع ملكها وهوان أمرها، وهذا ما نعنى بعلاجه،

ونسعى لتلافيه، والله لو كان هذا المنار يراد للكسب لما بلغ سن الرشد.

الخير والكمال للمرء أن يعمل باستقلاله، وأن لا يكون لأحد عليه فضل ولا

منة، بألا يأخذ منه مالاً بغير مقابل ولا جزاء لمنفعته الخاصة، وإن كان يستعين

به على المصلحة العامة، وأما قبول المال لإنفاقه في صالح الأعمال، فهو لا ينافي

الفضيلة والكمال، كأن يشترك مريد الإعانة المالية للصحف الدورية، أو الكتب

العلمية، بنسخ من الكتاب، توزع على من شاء هو أو شاء المؤلف من القراء،

كما قبلنا اشتراك المرحوم رياض باشا بخمس عشرة نسخة من المنار، واشتراك

ذلك المحسن المستتر في العام الماضي بست نسخ منه، واشتراك (مولوي محمد

إنشاء الله) صاحب جريدة (وطن) في مدينة (لاهور) بمائة نسخة من كل جزء

يصدر من تفسير المنار، توزع على خطباء المساجد في بعض الأقطار، وكان

اقترح علينا هذا الفاضل أن يجعل لنا راتبًا شهريًّا مدة الاشتغال بإتمام التفسير،

بشرط إتمامه في زمن قريب، فلم نقبل هذا منه؛ لأنه جزاء على عمل نعمله لله

عز وجل، لا ترويج له كالاشتراك، ولنا بذلك أسوة بنبينا صلى الله عليه وسلم،

وصاحبه الصديق الأكبر، فقد ورد أن أبا بكر رضي الله عنه قد أنفق جميع ماله في

سبيل الله ورسوله، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه الراحلة يوم

الهجرة إلا بثمنها، وورد أن أبا بكر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئًا

قط، وإنما قبل النبي صلى الله عليه وسلم مالاً لإنفاقه في نشر دعوة الإسلام لا

لنفسه ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى النفقة على أهله أحيانًا فيقترض من

اليهود، وكان يجزي على الهدية، ولا يقبل الصدقة ألبتة؛ لأن الله أكرمه بتحريمها

عليه وعلى أهل بيته ليكونوا قدوةً للناس بعزة النفس ورفعتها.

تلك هي الفضيلة وذلك هو الكمال، ولمثل هذا هدانا الإسلام، ولكن العمل بما

دون هذه الدرجة العليا من الكمال الإسلامي صار عسرًا جدًّا لقلة المُوَاتي والمُشارِك

فيه، والمعين عليه، وأما ارتقاء تلك الدرجة، بل العروج إلى تلك الذروة، فأوشك

أن يكون من خوارق العادات، التي قد ينالها بعض أهل العزلة والانفراد، دون

أصحاب الأعمال العامة التي تصلح بها أحوال الناس.

علمنا من كتاب الله تعالى ومن الاختبار المصدَِق له أن الناس أزواج ثلاثة

في كل شأن، كما كانوا في كتاب الله عز وجل {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ

وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر: 32) وإنما تسعد

الأمم وتشقى بحسب النسبة العددية في كثرة هذه الأزواج وقلتها ، فالأمة التي يكثر

فيها الظالمون لأنفسهم [1] بترك ما يجب عليهم، ويقل المقتصدون الذين هم

للحقوق يؤدون، فلا يلوون ولا يمطلون، ويندر أو يُفقد السابقون بالخيرات،

الذين لا يقفون عند حدود أداء الواجبات، بل يزيدون عليها ما شاء الله من النوافل

والتبرعات، وينهضون بالمصالح العامة، ويقومون بالمنافع المشتركة، فتلك هي

الأمة التي يتهدم بناء مجدها، ويزول عزها وملكها، وتصير مستعبدة لغيرها،

وتخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.

وأما الأمة التي يقل فيها الظالمون، ويكثر فيها المقتصدون، ويكون زعماؤها

والقائمون بمصالحها من السابقين بالخيرات، المتعاونين على أنفع الأعمال، فتلك

هي الأمة التي ترث الأرض، وتستمتع بنعمة السيادة والملك، وتتسابق مع من

يشاركها في صفاتها إلى غايات المجد المؤثل، ويكون السبق للأمثل فالأمثل.

نحن ولا كفران لله من المتخلفين المقصرين وقد سبقتنا الأمم كلها بعد أن كنا

نحن المقتصدين والسابقين، والظالمون لأنفسهم وأمتهم منا فريقان: فريق يجعلون

علته ما جهلوا أو تركوا من هدي الدين، وهو ما عمل به سلفهم فكانوا هم الأئمة

الوارثين، ويحاولون أن يقطِّعوا هذه الأمة أممًا، ويسلكوا بها إلى المدنية طرائق

قِددًا، وهم ما عرفوا حقيقة المدنية الفاضلة وكنهها، ولا ما يصلح للمسلمين ويتفق

مع طبائعهم منها، ولكنهم في طلب قشورها مقلدون، هذا تركي يقول: يجب أن

تكون السيادة والسلطة للترك، وهذا عربي يقول: إذا لم تكن المساواة فالعرب أولى

بالملك، وهذا مصري يقول: مصريون قبل كل شيء، وهذا فارسي يقول: إننا

فارسيون قبل كل شيء، والأمم الظالمة من ورائهم تقول: إنكم مسودون قبل كل

شيء، ومستعبدون بعد كل شيء؛ لأنكم لستم بشيء، فأولئك هم المتفرنجون،

الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا

إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 9) .

ومن دونهم في الجناية على الأمة وإطالة أجل الغمة فريق آخرون، لا

يسيرون بالناس ولا يدَعونهم يسيرون، وهؤلاء هم الذين يُدْعَوْن أهل الجمود،

الذين رُزئوا بالخمول أو القنوط، ويعتذرون بقرب الساعة وفساد الزمان،

وخروج الإصلاح من محيط الإمكان، وفُسوق أرباب الملك والسلطان، وإنك

لتجدهم على ما لبسوا من ثياب الدين أذلةً على المفسدين والظالمين، أعزةً

على الصالحين المصلحين، فهم يجذبون الأمة من ورائها لتصبر على المكث في

جحر الضب، كلما جذبها أولئك من أمامها لتخرج إلى باحة الفسق، يضيعون على

الأمة دنياها، ويعجزون أن يحفظوا عليها دينها، ذلك بأنهم في دينهم من المقلدين،

فلا يستطيعون إقامة حجته على المستقلين، ولا دفع الشبهات التي ترد عليه من

المعارضين، وقد وعد الله بنصر من ينصره وما هم بمنصورين، وكتب الغلب

لحزبه وما هم بغالبين ونراهم قد غلب عليهم الذل {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ

وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) .

هذه حالنا التي ننذر أمتنا سوء مغبَّتها في كل عام، فيتمارون بالنذر

ويتبارون في الآثام، ويزدادون في التفرق والانقسام، إلى أن شعروا بزوال

ملكهم في هذه الأيام، صخت سمعهم صيحة سقوط الدولتين اللتين لهم في الشرق

والغرب، وتلتها صيحة الدولة العلية، وهي في مكان القلب فعسى أن

يكون الوقر قد زال من أسماعهم والغشاوة قد انقشعت عن أبصارهم، والرين قد

انكشف عن قلوبهم، وأن يدركوا بعد هذا كله أن المصلحين فيهم هم الأمة الوسط،

التي تجمع بين مطالب الروح والجسد، وتقيم أمر الدنيا والدين، كما هدى إليه

الكتاب المبين، والمنار هو لسان حال هذا الحزب، الذي يزداد أهله نموًّا في

الأرض، وقد وفقهم الله في عام الرشد لتأسيس دار الدعوة والإرشاد، وستفتح

أبوابها لجميع المسلمين من جميع العناصر والبلاد، ويتلو لسان الحال على رؤوس

الأشهاد،] يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [ {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ

أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: 44) .

...

...

منشئ المنار ومحرره

...

...

...

... محمد رشيد رضا الحسيني

...

...

... ناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر

_________

(1)

إن الذي يمنع الحق الذي عليه للناس يكون أشد ظلمًا لنفسه ممن يمنع حق الله؛ لأن الله لا يغفر له حقوق عباده؛ ولأنه يكون قدوة سيئة مغريًا لغيره بظلمه.

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ذكرى الهجرة النبوية الشريفة

وجعلها تاريخًا عامًّا للبشر

بسم الله الرحمن الرحيم

الله أكبر، هذا هلال العام الجديد عام 1330 للهجرة النبوية الشريفة. هذا

هو الهلال الذي يذكرنا في كل سنة بذلك النور الذي كان خفيًّا في مكة المكرمة،

فأشرق بالهجرة في المدينة المنورة، ثم امتد منها إلى جميع أرجاء العالم، فدخل به

العالم الإنساني في عصر جديد، فكان تاريخًا للإنسانية جديدًا.

الله أكبر، هذا هو الهلال الذي يذكرنا في فاتحة العام بذلك الإصلاح العام،

الذي جاء به الإسلام، فاستفاد منه جميع الأنام، ثم حالت الأحوال، فصار حظ

المسلمين من سعادته دون حظ غيرهم، حتى آل أمرهم في العام الذي ودعناه إلى ما

يعرفه كل أحد، من وقوع خطر وتوقع خطر، فعسى أن يكون حظ هلالنا السياسي

الاجتماعي في هذا العام الجديد خيرًا منه فيما قبله، ولا يكون كذلك إلا بالرجوع إلى

تلك الهداية العليا: هداية التوحيد والاعتصام بعد الشقاق والخصام، {وَلَا

تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) وبالسير على سنن الله في خلقه

{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (آل عمران: 137)

وبتغيير ما بأنفسنا من الأخلاق والأفكار، التي خالفنا فيها سلفنا الأخيار {إِنَّ اللَّهَ لَا

يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) .

دخل العالم بالهجرة النبوية في عصر جديد لم يسبق له نظير في التاريخ فكان

جديرًا بأن يكون تاريخًا للبشر كافةً، لا للمسلمين خاصةً.

قضى الإسلام قضاءه المبرم على الوثنية التي أذلت البشر واستعبدتهم للملوك

المستبدين، والرؤساء الروحانيين، ولمظاهر الطبيعة وما يمثلها في الهياكل من

الأصنام والأوثان، وقرر حرية الاعتقاد والوجدان، والاجتهاد الاستقلالي في العقائد

والأعمال، والشورى في السياسة والأحكام، وأبطل امتيازات الأنساب والأجناس،

التي كان يستعلي بها الناس على الناس، بغير علم نافع، ولا عمل رافع، وجعل

قاعدة الإنسانية العامة قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى

وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) .

هذا درس عام في حقوق الإنسانية العامة، علمه الإسلام لجميع البشر بالقول

والفعل، فاستفادوا منه بقدر استعدادهم في كل عصر من الأعصار، فإذا كانت

العرب قد سبقت غيرها إلى الاستفادة منه؛ لأنه ألقي بلغتها وظهر فيها، فأزالت

ظلم الرومان وغيرهم من المتغلبين القاهرين للإنسانية، وأحيت العلوم والمعارف،

وأنشأت جنات المدنية في الشرق والغرب، - فرب لاحق يبذُّ السابق، كما رأينا

الشعوب الإفرنجية قد أخذت المدنية عن أجدادنا أهل الأندلس وغيرهم وبرزت علينا

فيها، فكل هذا مما يجب أن يذكرنا به تاريخ الهجرة فنعلم أن البشر لو أنصفوا

لجعلوه التاريخ العام لهم.

كان البشر قبل الإسلام متقاطعين ليس بينهم صلة عامة، وكانت المدنية تظهر

في قطر من أقطارهم، ثم تخفى وتزول قبل أن تتصل بسائر الأقطار، بل كانت

الأديان ذات السلطان الأعلى على البشر تشرع وتنسخ فلا يمر زمن قليل إلا ويذهب

أصلها وينقطع سندها، وما اتصلت حلقات سلسلة العلم الإلهي والبَشري، وسلسلة

المدنية والأعمال البشرية، إلا بهذا الانقلاب الإسلامي الذي جدد تاريخ البشر،

فصار جميع ما يؤلف في بغداد وسمرقند وخراسان وغيرها من مدن الشرق،

ينسخ ويقرأ في عصر مؤلفيه بقرطبة وغرناطة وسائر مدن الأندلس في أقصى

الغرب، (واحكم على العكس بحكم الطرد) فبهذا كانت الهجرة أجدر حوادث الكون

بأن تكون مبدأ تاريخ عام للبشر - كذلك أشرعت مذ ذلك العصر طرق التجارة

بين الخافقين في البر والبحر، وصار يتحقق بالتدريج ما هدى القرآن البشر إليه من

حكمة التعارف بين الشعوب والقبائل، الذي يمهد السبيل إلى الأخوة الإنسانية

العامة.

ولولا ذلك الروح الإلهي الذي بثه الإسلام في الناس لما تيسرت له تلك

المواصلة في ذلك العهد الذي لم تكن تُعرف فيه الكهرباء ولا البخار، وإنما كانت همة

المسلمين نائبةً عن قوى الطبيعة التي عرف منها تلاميذهم من بعدهم، ما كانوا أعدوا

عدته ومهدوا طريقه لهم، فكما سرت جميع شعوب المدنية في ذلك

وغيره على طريقهم، كان ينبغي أن يشاركوهم في تاريخهم.

أحيا المسلمون ما كان أماته الزمان من علوم اليونان، فإذا هي علوم أكثرها

نظري وأقلها عملي، وكان من هداية الإسلام لهم أن يقرنوا العلم بالعمل، فكانوا هم

الذين وضعوا قواعد التجربة والعمل للعلوم الطبيعية، فجعلوا الكيمياء الخرافية

كيمياء عملية، وعلى هذه القاعدة بنى تلاميذهم الإفرنج علومهم التي قامت بها

المدنية الحديثة، فبهذا كان الإسلام فاتحة عصر جديد أيضًا، وكان تاريخ الهجرة

الشريفة جديرًا بأن يكون تاريخًا عامًّا للبشر كلهم.

إن فيما شرعه الإسلام من الهجرة تربية عالية للبشر، الذين قرن الله تكريمهم

في كتابه بتعظيم شأن السفر، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ

وَالْبَحْرِ} (الإسراء: 70) فالهجرة عبارة عن فرار الإنسان بحريته في فكره

ووجدانه وعمله من الأرض التي يُضطهد فيها ويُظلم إلى الأرض التي يكون فيها

حرًّا عزيزًا.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا

مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء: 97) ولما اشتد إيذاء المشركين للمؤمنين في مكة أمر النبي صلى الله

عليه وسلم المسلمين بالهجرة إلى الحبشة، وعلل ذلك بأن ملكها النجاشي لا يظلم

عنده أحد، فثبت بالكتاب والسنة أن الهجرة قد شرعت لتكريم البشر، وتعظيم شأن

الحرية، وإباء الظلم والذل والضعف، وقد كان المسلمون أعز الناس وأكرمهم

نفوسًا، وأشدهم إباء للذل والظلم، عندما كانوا عالمين بأسرار هذا الإصلاح الذي

جاء به دينهم عاملين به، ثم سرى هذا الإباء والعز منهم إلى غيرهم، بعد ما ضعف

فيهم، فكان خيره عامًّا منتشرًا في البشر، فما أجدر الهجرة الشريفة بأن تكون تاريخًا

عامًّا لهم.

أشرق نور النبي صلى الله عليه وسلم على مدينة يثرب عند دخول الشمس

في برج الميزان أول الاعتدال الخريفي، (23 سبتمبر) فكان ذلك إشارة إلى ما

دخل فيه العالم من عصر العدل والاعتدال، فكان ينبغي للمسلمين أن يجعلوا ذلك

مبدأ للتاريخ الشمسي للهجرة الشريفة عند حاجتهم إليه لأجل المعاملات المالية، كما

جعلوا التاريخ القمري للمعاملات الدينية، فإذا كنا قد دخلنا اليوم في عام 1330

الهجري القمري فقد دخلنا منذ ثلاثة أشهر في عام 1290 الهجري الشمسي، فهل

لمصر أن تكون السابقة إلى استعمال هذا التاريخ الشمسي، كما كانت هي السابقة

للعالم الإسلامي كله إلى الاحتفال بذكرى التاريخ القمري، بعد أن كاد يُنسى فيها

باستعمال التاريخ الإفرنجي الذي أخذناه عن الإفرنج في هذا العصر وما كنا

لترجيحه على تاريخنا بمحتاجين.

لولا أن انحلت روابطنا، وسحلت مرائرنا، لما استبدلنا بتاريخنا تاريخ غيرنا

ولقد كان يوم تقرير الحكومة المصرية جعل التاريخ الإفرنجي رسميا يوم فرح

وسرور في أوربة؛ لأن ما تقلد به أمة أمة في أمر من الأمور الملية العامة يكون

دليلاً على ضعف المقلِّدين (بكسر اللام) وعلو شأن المقلَّدين (بفتح اللام) ومقدمةً

لاستيلاء المتبوع على التابع والسيطرة عليه.

يقول المقلدون منا: إنه لا بد لنا من التاريخ الشمسي وإن التاريخ الإفرنجي

قد اشتهر فهو أولى من إحياء تاريخ الهجرة الشمسي الذي لا يفهمه أحد. وكذلك

ينصح بعض الناس للدولة العثمانية أن تختار هذا التاريخ في معاملاتها المالية

والرسمية. وهذه حجة الضعيف في استقلاله الشخصي والملي ، ويرد هذا بأن

الاستعمال يجيء بالشهرة ويجعل المجهول معروفًا، فقد كان بدء جعل الميلاد أساسًا

للتاريخ في سنة 464 هجرية ولم يكن مشهورًا ولا معروفًا، ثم ظهر لهم الخطأ فيه

فحرروه وصححوه ولا يزال مبنيًّا على خطأ استقلال رأي الأكثرين فيه على قاعدة

(الخطأ المشهور خير من الصواب المهجور) فما هو الموجب لترك ما عندنا من

الصواب وتقليد غيرنا في الخطأ؟ وتاريخنا أحق بالتعميم وأجدر، وتقدم المرجوح

في الزمن لا يجعله راجحًا، فالقِدم أمر نسبي كما قال الشاعر:

إن ذاك القديم كان حديثًا

وسيبقى هذا الحديث قديمًا

لا يكفي في تعظيم الهجرة وإحياء ذكرى تاريخها أن نحتفل في هذا اليوم بإلقاء

الخطب، وإنشاد القصائد، وإنشاء المقالات في الجرائد، وإنما يجب علينا تعظيمها

بالعبرة والعمل، والمقابلة بين ماضينا وحاضرنا، لا لأجل التلذذ بذكر الماضي

الجميل، والغرور بما مضى وانقضى من ذلك التاريخ المجيد، ولا لأجل الشكوى

من الضعف العتيد، واليأس من المستقبل القريب أو البعيد، بل لأجل أن نتذكر

ونتدبر، فنعلم أنه لا يصلح آخرنا إلا بما صلح به أولنا، كما قال أحد أئمة العلم من

سلفنا، وإن في تاريخ الهجرة من دروب العبرة وآيات الحكمة {لَذِكْرَى لِمَن

كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) .

نودع عامًا ونستقبل عامًا فلا تطوى صحف عامنا الغابر على عمل يذكر، ولا

ينشر في صحف العام الحاضر مشروع للأمة يُشكر، إلا ما يرى في بعض البلاد

من الحركة الضعيفة، ودروج كدروج الأطفال وراء الشعوب القوية، التي تسير

أمامنا بقوة البخار والكهرباء، فتسبق الأرقام على الأرض والطيور في الهواء،

وإننا لنرى حولنا في كل عام فتنًا كقطع الليل المُظلم، كلما غشيتنا قطعة منها وجمنا

وتألمنا، وصحنا ونُحنا، فإذا هي انجلت عدنا كما كنا. لا نحسب لما بعدها حسابًا

ولا نعمل لها عملاً، أرضينا أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ

يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .

كلا إنا إلى ربنا تائبون، ولما هدانا إليه من الجمع بين العلم والعمل متوجهون،

بهذا تبشرنا الحوادث، وإلى هذا تدعونا الكوارث، ورب مصيبة أفادت عبرة

خير من نعمة أحدثت غرورًا وفترة، وإننا نهنئ إخواننا المسلمين على رأس هذا

العام، بما تجدد لهم من شعور الأخوة العام، ونبشرهم بأن جماعة الدعوة والإرشاد

قررت تنفيذ نظام مدرستها الكلية (دار الدعوة والإرشاد) من غرة هذا الشهر فاتحة

العام الهجري المبارك إن شاء الله تعالى، وسينشر هذا النظام في الجرائد فيرون فيه

أنه هو الضالة التي ينشدها المصلحون، والرغيبة التي ينتظرونها المحسنون

{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61) .

...

...

...

... ناظر دار الدعوة والإرشاد

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

ص: 9

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌علاوة للمقالة

كتبت هذه المقالة في سلخ ذي الحجة سنة 1329 في إدارة المؤيد؛ إذ كلفت

ثمة أن أكتب مقالة افتتاحية لعدد المؤيد الذي يطبع في ذلك اليوم، ويصدر في

صبيحة المحرَّم افتتاح سنة 1330 أو ليلتها، كتبتها على عجل ومرتبو حروف

المؤيد يأخذون مني كل ورقة قبل أن يجف حبرها ويستعجلونني بما بعدها، فلم

يسمح ضيق الوقت واستعجال العمل بشرح مسألة إحياء التاريخ الهجري الشمسي

والتوسع فيها، لهذا رأيت أن أجعل لها هذه العلاوة الآن، وأن أطبعها على حدتها

وفي المنار.

من اختبر أحوال المسلمين في هذا العصر يرى في أخلاقهم وأحوالهم تناقضًا

عجيبًا إذ يراهم من أشد خلق الله غيرة على دينهم وحرصًا على جامعتهم الإسلامية،

ومن أشد خلق الله تهاونًا وإهمالاً في أمر دينهم، وعدم المبالاة والاكثرات بما يحفظ

جامعتهم ويقوي رابطتهم، وإذا بحث في اختلاف الوجوه بين هذه الأمور المتناقضة

يرى شواهد كثيرة تدل على أن ما ذكرنا من حرص السواد الأعظم وغيرتهم

محصورة في حب استبقاء الموجود، وأما تهاونهم وإهمالهم وعدم مبالاتهم فلا

تنحصر في تركهم السعي لاسترداد ما فقدوا من علم وعمل، ونور وهدى، ومجد

تليد، وسيادة قديمة، بل تتناول مع هذا ضعف الهمة في طلب المجد الطريف،

وعدم العناية في البناء والتجديد.

ولو كان هذا التفصيل الذي يدل عليه الاختبار، ويثبته التمحيص والاعتبار،

عامًّا شاملاً لجميع المعروفين من أهل الرأي والعمل من المسلمين (على قلتهم)

لكان دليلاً على أن المسلمين يموتون موتًا طبيعيًّا، وأن أعداءهم لا يحتاجون إلى

أدنى سعي في الإجهاز عليهم، ومبادرة ما يخشونه من يقظتهم وانتباههم؛ لأن

أخص صفات الأحياء الذين يزدادون حياة وقوة هو أن يطلبوا ما يمد حياتهم وينميها،

وأخص صفات الموجودات المشرفة على الموت والفناء أن تنحل وتنقص يومًا

بعد يوم فتتألم لما ينقص منها، ولا تطمع في زيادة تمد حياتها ولا تطلبها.

نرى بعض الشعوب تحيا بعد موت لتجدد ما كان اندرس من مقوماتها

ومشخصاتها، كاليونان والأرمن على تفرقهم، والقبط على قلتهم، ونرى المسلمين

على كثرتهم، واتصال أقطارهم، قد صاروا طُعمة لكل آكل، ونهبة لكل طامع،

وأكثرهم راضون بسوء ما هم فيه، ومنهم من يطلب تغييره بالانسلاخ من ماضيه،

والاندغام في شعب غريب لا يرتضيه، وهؤلاء هم الذين يسمون أنفسهم المجددين،

وطلاب المجد والحضارة، ومكوني الوطنية، وخالقي الشعور بالحياة المدنية،

والحق أنهم شر من الراضين بما وصلنا إليه من الضعف والخمول؛ لأن هؤلاء

الخاملين قد رضوا بهذه الحالة التي لا نجد لها تفسيرًا إلا أنها مما يسمونه (الموت

صبرًا) وأما المقلدون الذين رضوا بانحلال رابطتهم الملية، وعفاء مقوماتهم

ومشخصاتهم الموروثة، وانتحال جنسية لغوية أو وطنية جديدة، لا اضطلاع لهم

بها، وليسوا إلا مقلدين في انتحالها، فإنما رضوا أن يبخعوا أنفسهم، وينحروا

أمتهم، ويجعلوها غذاء لأعدائهم.

هنالك حزب ثالث وسط بين ذينك الحزبين، وهم حزب الله المفلحون إن شاء

الله، الذين يطلبون المجد الطريف، ليكون متحدًا بالمجد التليد، الذين يريدون

الحياة بمقوماتهم ومشخصاتهم الخاصة بهم، لا بانتحال ما هو من ذلك لغيرهم،

الذين يريدون صقل جوهرهم لتظهر خواصه ومزاياه في أكمل ما يمكن أن يكون

عليه، لا تحويله ولا تمويهه بما ليس منه.

إن ما يُرى من ظواهر الحياة على حزب الجمود إنما هو الذماء الباقي لهم من

الحياة القديمة، وإن ما يرى من أعراض الحياة على حزب التقليد إنما هو صناعي

مستعار من الأمم الغريبة، والذماء لا يلبث أن يزول، والمستعار مهما طال زمنه

مردود، وأما حزب الوسط فهم شهداء على الفريقين، ولكنهم لا يزالون غرباء في

ديارهم، والرجاء كما قلنا متعلق بهم أو محصور فيهم، وهم المخاطَبون بإقناع أهل

الإخلاص بإحياء ما اندرس من السنن: وسن ما يعد من النافع الحسن، عملاً بقول

النبي صلى الله عليه وسلم (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من

عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء) وقد سن عمر بن الخطاب

رضي الله عنه ووافقه المسلمون كافة - سنة التأريخ بالهجرة في الحساب القمري،

ثم اشتدت الحاجة إلى إحياء التأريخ بها في الحساب الشمسي، فما لنا لا نستعمل

كِلا التاريخين، وقد هدانا الله تعالى في كتابه ونظام خليقته إلى الحسابين {الشَّمْسُ

وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5) .

إننا نرى أهل الملل كافة والنصارى منهم خاصة يحافظون على تواريخهم

الملية، ولا يكادون يستعملون معها غيرها، حتى إننا نراهم ينقلون الشيء عن

غيرهم كالمسلمين ويكون فيه تاريخ بعض الوقائع والحوادث فيحولونه في أثناء

النقل إلى تاريخهم حتى لا يفكر قراء ما يكتبونه أو يقولونه - ولو نقلاً - في غير

ما هو لهم.

بل نرى الملايين من الروم الأرثوذكس لا يتركون ما اعتادوا من الغلط في

تاريخ الميلاد الذي يعبرون عنه بالحساب الشرقي، ونرى القبط يقدمون تاريخهم

الخاص بهم الذي يسمونه تاريخ الشهداء على تاريخ الميلاد العام بين أهل ملتهم،

ولو تركوا تاريخ الشهداء إلى تاريخ المسيح الذي يقولون: إنه رب الشهداء وإلههم

لم يكونوا قد تركوا شيئًا من شئونهم الملية إلى ما ليس منها. فما بالنا نحن المسلمين

نرغب عن تاريخنا الذي هو أجدر جميع التواريخ بالتعميم إلى تواريخ الأغيار من

الروم والإفرنج والقبط وغيرهم؟ إن ديننا يهدينا إلى أن نكون أئمة متبوعين، فلماذا

ذللنا حتى رضينا أن نكون مقلدين تابعين، ونحن نرى الذين جعلناهم أئمة لنا

يسخرون منا ويدعوننا متعصبين.

إلا أن من الذل والخسف الذي سنته الحكومة المصرية ما نراه في كثير من

أوراقها الرسمية وأعداد البيوت والمركبات وغير ذلك من تشريف الكلم والأرقام

الإفرنجية على مثلها العربي، فإما أن تجعل ما يكتب بالإفرنجي هو الأعلى وإما أن

تجعله هو الأيمن، ومن طَمَسَ التفرنج نور بصيرته، أو طبع الذل على قلبه، فعدّ

هذا مما لا يبالى به، ولا يُؤبه له، يقال له إذًا: كيف اهتم به سادتك الإفرنج

ونفذوه في بلادك؟ وأنَّى ينفع القول، ومن هان عليه الذل في الأمر الصغير، لا

يأبى حمله في الأمر الكبير، وقد قلت في المقصورة.

من ساسه الظلم بسوط بأسه

هان عليه الذل من حيث أتى

إذا أردنا أن نحيا فعلينا أن نهتم بكل ما نحفظ به مقوماتنا ومشخصاتنا الملية

الموروثة، وأن نقتبس كل ما نراه نافعًا من حضارة هذا العصر، بهذه النية وهذا

القصد، وأن نهتم بالصغير والكبير من ذلك على السواء، وأن نجتهد لنكون رءوسًا

لا أذنابًا، وأئمة لا أتباعًا، وما دمنا لا نستغني عن التاريخ الشمسي في معاملتنا

المالية ونحوها، فلا مندوحة لنا عن جعله هجريًّا كالتاريخ القمري في المعاملات

الدينية.

إذ أردنا أن نسنَّ هذه السنة فالطريق قد أشرع، والحساب قد وضع، فقد

صنف أحمد مختار باشا الغازي كتابًا فيه سماه (إصلاح التقويم) وطبع بالعربية

والتركية سنة 1307 تكلم فيه عن تواريخ الأمم والشعوب المشهورة وبيَّن وجه

الحاجة إلى العمل بالتاريخ الهجري الشمسي وضع له جدولاً مطولاً بيَّن فيه السنين

الشمسية الهجرية مع المقارنة بينها وبين السنين القمرية والسنين الشمسية الميلادية

من ابتداء السنة الشمسية الهجرية الأولى إلى سنة 1591 التي توافق آخر سنة

1639 القمرية وسنة 2212 الميلادية، وقد استحسن أن تسمى الشهور بما هو نص

في الدلالة على المسمى في تحديد الفصول، فالسنة الهجرية الشمسية تبتدئ من أول

الخريف فتسمى شهورها هكذا: الخريف الأول، الخريف الثاني، الخريف الثالث

الشتاء الأول الشتاء الثاني الشتاء الثالث

إلخ.

وسمَّى الربيع بهارا وهو لفظ تركي - وذكر وجهًا ثانيًا نذكر بقية الشهور به

وهو: أول الربيع، أوسط الربيع، آخر الربيع، أول الصيف، آخر الصيف،

أوسط الصيف. ويمكن أن يقال: الربيع الأدنى، الربيع الأوسط، الربيع الأقصى

وهكذا، ولعل هذا هو الأولى، وأي التعبيرات اختير فكل من سمع اسم الشهر يفهم

معناه من لفظه.

وأخبرني أحمد مختار باشا الغازي في القسطنطينية أنه كتب تقريرًا يطلب فيه

من مجلس الأمة العثمانية العمل بهذا التاريخ وجعله رسميًّا للدولة. ولكن ما دامت

الغلبة في المجلس للمتفرنجين المعروفين، فلا تُرجى إجابة هذا الطلب، إلا أن

تطالب الأمة به من كل ولاية.

وإذا سبق مسلمو مصر إلى استعمال هذا التاريخ والدعوة إليه، فالمرجو أن

يعم انتشاره في أقرب وقت، والله الموفق.

_________

ص: 15

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نقل كلام المخالفين أو المبطلين

(س1) من صاحب الإمضاء في دمشق حضرة مولانا أوحد الأعلام نفع الله بعلمه الأنام.

اطلعت على كتاب لأحد علماء فاس ينتقد فيه ما جاء في مقدمة شرح نهج

البلاغة لابن أبى الحديد (صحيفة 4 من طبعة الحلبي الجديدة) من نقله مذهب

البغاة والخوارج، ومقالة أبى القاسم البلخي في عبد الله بن الزبير (فى الصفحة

نفسها) يقول الفاسي: سبحانك هذا بهتان عظيم، فقبح الله قائله فكيف يليق نقل

هذه العبارة ونشرها بين أهل الإسلام والزمان كما ترى، وأهله إلى ورا (ثم قال

الفاسي) ولما ذكر العلامة الأبي في شرح صحيح مسلم ما ذكره أهل السير من

الأمور التي نقمت على سيدنا عثمان رضي الله عنه في خلافته. قال العلامة

السنوسي في اختصاره ما نصه: قلت وقد نقل الأبي هنا كلامًا في عثمان رضي الله

عنه لا يحل له أن يفوه به، ولا أن يكتبه، وأخاف أن لا يفي بسيئته حسنة ما تعب

في تأليفه كله فنعوذ بالله من سوء الأدب في حق الطاهرين المطهَّرين، وأسأل الله

لي وله العفو والصفح والمغفرة، والواجب على من نسخ تأليفه هذا أن لا يكتب فيه

هذا المحل، ومن اطلع عليه فلا يحل له أن يفوه به ولا أن يعتقد صدقه بلا شك،

وبالله التوفيق اهـ كلام السنوسي.

فهل من ملام على إمام ينقل مذاهب الفرق وأقوالها ومعتقداتها وما تدين الله به

مما تراه حقًّا وصوابًا وطاعة مشيًا مع اجتهادها وما أداه إليه نظرها؟

وهل يلام من ينشرها ويعد مسيء الأدب مع أنه أوردها إيقافًا على المذاهب

والآراء، وإراءة لوجوه الخلاف، وإرشادًا لمواضع الشبه التي منها أتى من أتى.

وهل للسنوسي مستند في حظر التفوه به وكتابته وعده سيئة وجريمة تُحبط

عمل المؤلف في تأليفه كله؟

وهل يسلم له دعواه وجوب حذف مثل ذلك من التآليف حتى يفتح باب

التلاعب في مؤلفات الأعلام بالحذف والزيادة والنقص؟ وكان السنوسي لم يرَ كتب

المقالات والمؤلفات في الملل والنحل لمثل الإمام أبي منصور البغدادي وللإمام ابن

حزم والشهرستاني وأمثال ما جاء في آخر المواقف للعضد ، فما سبب هذا الجمود

ونبذ مشرب سلفنا المحققين؟

وهل هذا يؤيد ما يرمى به القطر المغربي من التعصب الذي سبب له ما سبب

مما حاق به ويحيق.

وقد اطلعت على جواب كتبه بعض الأساتذة عندنا إلا أني رغبت أن أزداد من

العلم فيما يهم الوقوف عليه من ذلك لذا أرجو شرح هذا والتفضل بجوابه -لا زلتم

مظهرًا للإفادة-، وكوكبًا في أفق الفضل.

حامد بن أديب الشهير بالتقي.

(ج) تختلف آراء الناس باختلاف معارفهم ومشاربهم، وحال الذين يعيشون

معهم، حتى إن الرجلين ليحكمان في مسألة واحدة بحكمين مختلفين، أو يريان فيها

رأيين متضادينٍ، وكل منها صحيح القصد، متوخٍّ للمصلحة والنفع، وربما يرد كل

منهما على الآخر ويقع التعادي بينهما أو بين أنصارهما فيصدق على كل من

الفريقين أنه يجاهد في غير عدو ، ومن هذا الباب وضع بعض علماء السلف

الصالحين لعلم الكلام وردهم على المبتدعة، وإنكار آخرين عليهم وعد علمهم بدعةً

ضارةً، حتى قال بعضهم لبعض: ويحك ألست تحكي بدعتهم ثم ترد عليها؟ أي

أن ذلك كافٍ في ذم علم الكلام وتحريم التأليف فيه لئلا يرى البدعة من لم يكن

يدري بها.

إنني أرى ما قاله العالم المغربي المشار إليه في السؤال، وما نقله عن

السنوسي يدخل في هذا الباب، على أن السنوسي من المصنفين في علم الكلام الذين

نقلوا عقائد الكفار والمبتدعة وردوا عليها.

لو كان ذلك المغربي عائشًا في مصر أو الشام أو الأستانة أو تونس يرى كتب

الملاحدة والنصارى في مدح دينهم والطعن في غيره، ويرى جرائدهم منشورة

متداولة أيضًا لما تهيج عصبه وتبيغ دمه لجملة أو جمل قرأها في شرح نهج البلاغة

لبعض فرق المسلمين. وسيرى في بلاده، وقد أوقعها الجهل والتعصب للمألوف في

قبضة فرنسة ما يهون بالإضافة إليه كل ما رآه في شرح نهج البلاغة مخالفًا لرأيه

ومذهبه، سيرى الكتب الكثيرة في الطعن في نفس القرآن العظيم، والنبي الكريم،

عليه الصلاة والتسليم، والكتب الداعية إلى الإلحاد، المؤلفة لهم كل اعتقاد،

وسيرى أن شبهات هذه الكتب ومشاغبات دعاة النصرانية من جهة ودعاة الإلحاد

والتفرنج من أخرى قد راجت في أذهان بعض قومه، وأن كشفها بالتسليم لقول

أمثاله من العلماء المعاصرين، أو التقليد لما في بعض كتب الميتين، غاية لا تدرك،

وأمنية لا تُنال.

إن اطلاع العوام والطلاب المبتدئين على العقائد الباطلة ومقالات المبتدعة، لا

ينكر ضرره، ولا تؤمن فتنته، كاطلاعهم على سيرة أهل الفسق والفجور، وطول

استماعهم لما يزينها للنفوس، كالأشعار والأغاني المشتملة على المجون، فإذا كنا لا

نستطيع منع افتتان أولادنا وعَوَامَّنا بالباطل إلا بإزالته وإزالة أهله من الأرض، ولا

منعهم من الفسق إلا بإعدام كل مبذولة العِرض، فما نحن بحافظيهم من الكفر ولا

من الفسق.

إن الله تعالى - وهو العزيز الحكيم - قد حكى في كتابه المجيد كفر الكافرين

وإلحادهم في آياته: وطعنهم في كتابه ورسوله، ولم يمحهم بقدرته من الأرض

ليحمي المؤمنين من أباطيلهم، ويحول بينهم وبين شرورهم، وهكذا فعل حماة الدين،

وحراس عقيدة الموحدة، نقلوا عقائد المخالفين ومقالاتهم وردوا عليها بالدلائل.

إنما يُشدِّد النكير على من يكتب ما يخالف عقيدته أو مذهبه أحدُ رجُلين رجُل

شديد التعصب لما هو عليه، يرى أنه يجب على جميع الناس موافقته فيه، وأن

يتبعوا من اتبعهم، ويقلدوا من قلدهم، ورجل حريص على عقيدته ومذهبه، وهو

على غير بصيرة منه، ولا ثقة به، فهو يخاف أن تطير به كل ريح، وأن تذهب

به كل شبهة، ولا يليق هذا الضيق في الذرع، والحرج في الصدر، بالمسلم

البصير في دينه، المعتصم بيقينه، وهو يعتقد أن الحق يعلو ولا يُعلى، وأنه متى

جاء الحق زهق الباطل، وأن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق،

وأن بقاء الباطل في نومة الحق عنه، وإنما اللائق بصاحب هذا الحق واليقين أن

يقذف بحقه على باطل غيره ليدمغه، لا أن يشكو منه ويلعن من قاله أو كتبه،

ويوجب تحريفه والتصرف فيه.

من الصواب أن نمنع أولادنا وتلاميذنا من قراءة كل ما نعتقد أنه ضار أو

باطل إلى أن نكمل تربيتهم وتعليمهم ونثق بمعرفتهم للحق، واستقلال عقولهم في

الحكم، وإذًا نبيح لهم أن يقرءوا ما أحبوا فلا خوف من الباطل الضعيف اللجلج

على الحق القويِّ الأبلج؛ لأن الحق هو صاحب السلطان والفلج، ومن الصواب أن

ننصح للعوام بأن يتحاموا كتب الكافرين والمبتدعين حفظًا لأذهانهم من الاضطراب

ونأيًا بنفوسهم عن مهابِّ الأهواء، وأن نرشد محبي المطالعة منهم إلى الكتب

النافعة لهم، التي لا تفسد عليهم نعمة الطمأنينة، وهي النعمة التي لا تساميها نعمة.

لنا أن نُعْنَى بهذا وذاك، وأن نجعل لما نكتبه أو نطبعه حواشي ننبه بها على

مواضع الخطأ والصواب، وليس لنا أن نطلق القول في تحريم قراءة كل ما يخالف

اعتقادنا وحرمة كتابته وطبعه، ولا أن ننقل كلام مؤلف فننقص منه أو نزيد فيه،

فإن هذا من الكذب والخيانة، وإن قومًا يأتونه أو يستحلونه لا يثق أحد بنقلهم، ومن

زعم أن هذا جائز في الشرع فقد أهان الشرع، وصد عنه جميع العقلاء من الخلق،

وجعله دينًا خاصًّا ببعض البلداء، ووقفًا على من تلقنه من الجهلاء، وإن كان لا

يقصد شيئًا من هذه المفاسد، ويا لله العجب من شدة جرأة المتحمسين على التحريم،

والافتيات على الدين بقصد حماية الدين.

لو جرى المتكلمون والمؤرخون ونقلة اللغة ورواة الأخبار والآثار على فتوى

السنوسي والمغربي لبطلت ثقتنا وثقة جميع الناس بجميع العلوم النقلية لجواز أن

يكون كل ناقل قد حذف من منقوله شيئًا مما يخالف اعتقاده أو يرى نشره ضارًّا

ببعض أهل مذهبه ونحلته، أو حرفه واستبدل به غيره، وحينئذ لا يبقى عند

المسلمين شيء يمكن أن يحتج به أحد على آخر إلا القرآن الكريم، وما عساه يوجد

من حديث متواتر مجمع على تواتره. فظهر مما تقدم أن السنوسي مخطئ في

تحريمه التفوه بما قاله أهل السِّيَر في عثمان وكتابته، وفي إيجابه على من نقل

كتابًا فيه شيء من ذلك أن يحذفه منه، فإننا نقرأ في كتاب الله مثل قوله تعالى:

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} (مريم: 88-89) ، وقوله جل

ذكره: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان: 5) وقوله تبارك اسمه:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا

ظُلْمًا وَزُورًا} (الفرقان: 4) وقوله - صدق وعده -:

{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَاّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ

مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) والشواهد على هذا كثيرة ، وليست

حكاية الطعن في عثمان - وهو غير معصوم - بأعظم من حكاية هذه الأقوال ،

والمسألة واضحة، وهذا ما رأينا في كتابته من العبرة والفائدة.

_________

ص: 21

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسئلة من الهند

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى حضرة مرشد الأمة ورشيدها الفيلسوف الحكيم صاحب المنار المنير دام

إقباله ثم سلام الله عليك ورحمته ورضوانه. وبعد فقد اطلعت على الجزء الرابع

من المجلد الثاني عشر لمناركم المنير، ورأيت في باب الفتاوى السؤال الذي هو

لأحد أبناء البلاد العربية في صدد (الرقص والتغني والإنشاد في مجلس الذكر)

والجواب عليه من علماء الأزهر الشريف مع تذييلكم عليه بما فيه من التشديد

والنكير على الإطلاق وتكفير فاعله ومن حضره [1] . فعجبت جدًّا لهذا الجواب

الذي لا يشوبه أدنى ريب؛ لأن أمثال هذا في نواحينا كثير، والعلماء أكثر، وكلهم

من شافعي وحنفي ومالكي وحنبلي يجوِّز ذلك ويعده من الشعائر الدينية.

والحقيقة يا سيدي أن الإنسان لَيحار جدًّا وتكاد تُشكل عليه أمور دينه من حيث

إن الأزهريين ومن أشرت إليهم من علمائنا كل منهم مقلد لمذهب من هذه المذاهب

ومع ذلك نرى الفرق كبيرًا بين ما يقوله هؤلاء وأولئك من جواز وتحريم، فلَيْت

شِعري ما هذا الخلف وما هذا الإشكال؟ وليت شعري كم لمالك من مذهب وكم

للشافعي وأخويه من مذاهب؟ أرشدونا إلى الطريق القويم أرشدكم الله إلى خير

الدارين. ثم يقول الأساتذة الأزهريون (وأما نشيد الأشعار بتلك الألحان المحدثة

والنغمات المطربة فهو حرام لا يفعله إلا أهل الفسق والضلال -إلى قولهم- قال

الإمام الأذرعي: إني أرجح تحريم النغمات وسماعها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:

(إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل) إني أسلم بتحريم النغمات

إذا كان يراد منها الأشعار المحدثة والنغمات المطربة، ولكن ما قول سيدي الأستاذ

في خطبة الجمعة وتلاوة القرآن الكريم حيث إن الاثنين لا يتلوان إلا بالألحان كما لا

يخفاكم، فهل هذا الفسق والنفاق والكفر يتناول هذين أم لا؟ وإذا كان ذلك فما هو

ذنب من حضره -أعني السامع- وما هو إلا متبع ومقلد، كما أن الخطيب في

نواحينا وسائر الأقطار الإسلامية إلا القليل لا يُدعى خطيبًا إلا إذا كان ذا صوت

جميل وكذلك تالي القرآن الحكيم فما هو قولكم في ذلك؟ وما هو معنى قوله تعالى:

{وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزمل: 4) أجيبونا عن ذلك وسامحني يا سيدي إذا

أخذت جانبًا من وقتكم النفيس أدامكم الله سراج هدى يهتدي به من ضل عن محجة

الصواب واقبلوا في الختام فائق احترام المخلص ناصر مبارك الخيري.

(أجوبة المنار عن هذه الأسئلة)

المذاهب واختلاف فقهائها

اعلم يا أخي أن المجتهد لا يكون له في المسألة إلا رأي واحد ومن نُقِلَ عنه

قولان أو أكثر في مسألة واحدة فإما أن يكون قد قال أحدهما في وقت ثم رجع عنه

فقال القول الآخر في وقت آخر، وإما أن يكون النقل عنه غير صحيح، والمسائل

التي يتردد فيها ليس له فيها رأي.

والمذهب له في عرف الناس إطلاقان، عامي وخاصي (فالأول) هو نقل

الأحكام التي قررها أو أفتى بها المجتهد، فمن عرفها وعمل بها من غير وقوف

على دليل المجتهد عليها واقتناعه به يسمى مقلدًا له، وهذا هو معنى المذهب الذي

يدعيه الآن جميع المنتسبين إلى المذاهب؛ لأنهم يظنون أن ما يقوله فقهاء مذاهبهم

وما هو منقول في كتبهم كله مروي عن أئمتهم، وأن هؤلاء الفقهاء لا حظ لهم منه

إلا نقله وتفسيره، وعلى هذا بنيتم تعجبكم من تناقض فقهاء كل مذهب في المسألة

الواحدة. والصواب أنه يقل في هؤلاء الفقهاء من اطلع على كتاب للإمام الذي

يدعي أنه درس فقهه أو قرأ شيئًا مما نقله عنه تلاميذه ككتاب الأم للشافعي والمدونة

لمالك وكتب أبى يوسف ومحمد صاحبي أبى حنيفة رحمهم الله ورضي عنهم،

وإنما قرءوا بعض كتب المتأخرين التي سنذكر لها وصف أصحابها، وما فهموها

حق فهمها، وكلهم يتجرأ على الفُتيا فتختلف فتاواهم، وتتناقض آراؤهم، وفي كل

قطر أفراد منهم، يثق بهم عوام بلادهم، كما هي عادة جميع العوام من جميع

الملل مع رؤسائهم، يقلدونهم كيفما كانوا ومهما كانت درجة علمهم أو جهلهم، فإن

قاعدة التقليد والاتباع هي أن يثق الأدنى بمن هو أرقى منه ولو في القراءة والكتابة

مطلقًا، فالأمي يرى متعلم القراءة أو الكتابة أرقى منه، وإن كان عاميًّا مثله. وكل

هؤلاء المفتين عاميهم ومثقفهم وفقيههم (إن وجد) ينسبون كل ما يفتون به إلى أئمة

المذاهب ويتعززون بأسمائهم ويتخذون هذه الأسماء أتراسًا ومجانَّ يدافعون بها كل

من يتصدى لإرشاد العامة وينهاها عن البدع والخرافات، بل يتخذونها سلاحًا

يحاربون به السنة وأنصارها.

الإطلاق الثاني هو بمعنى ما يسمونه الآن بالمسلك والمبدأ وهو طريقة المجتهد

في استنباطه للأحكام وأصوله التي يفرع عنها كما بين ذلك في علم الأصول، وهذا

هو المعنى الذي كان يقصده أصحاب أولئك الأئمة من الانتماء إليهم في عصرهم.

ولم يكن أصحابهم مقلدين لهم يأخذون كلامهم قضايا مسلَّمة بغير دليل بل تعلموا منهم

الاستدلال، ونقلوا عنهم علمهم ليكون مثالاً يُحتذى في استنباط الأحكام، كما صرح

بذلك المُزَني صاحب الشافعي في أول مختصره إذ قال: (اختصرت هذا الكتاب

من علم محمد بن إدريس الشافعي ومن معنى قوله لأُقرِّبه على من أراده مع إعلامية

نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه) .

ثم جرى على ذلك من بعدهم من العلماء ووسعوا دائرة الاجتهاد والاستنباط

على ذلك النحو والمذهب، ثم خلف من بعد هؤلاء خلف رضوا أن يكونوا عيالاً

على من قبلهم واستنبطوا الأحكام من عباراتهم، وفشت بدعة التقليد والأخذ بقول

من يوثق بشهرته من غير دليل، وما زال الناس يتدلون إلى أن وصلوا إلى قرار

الهُوة التي تعجب السائل من اضطرابهم واختلافهم فيها. وسننشر إن شاء الله تعالى

في جزء تالٍ جملة مفيدة في هذا البحث عن كتاب الإرشاد للعماد السكري رحمه الله

تعالى.

وجملة القول أن سبب اختلاف من يسمونهم الفقهاء من أهل المذهب الواحد،

هو أنهم ليسوا ملتزمين للنقل عن إمام أو عالم معين كما هو مقتضى التقليد الذي

يدَّعونه ولا جارين على أصول واحدة في الاجتهاد الذي يأتونه وينكرونه، فلا

عجب إذًا في اختلافهم واضطرابهم، ولا عبرة في دعواهم الانتساب إلى أولئك

الأئمة رضي الله عنهم.

وهاهنا مسألة ينبغي التفطن لها وهي دعوى المقلدين أن فائدة التقليد منع

تشعب الخلاف في عامة الأمة، وخاصة إذا حصر في عدد قليل كالأربعة. وهذه

الدعوى ممنوعة لا في مجموع المذاهب فقط بل في مقلدة كل مذهب مذهب أيضًا

كما بين السائل، وكما هو مشاهد لكل ناظر، وسبب ذلك أنه لم يتفق للمنتمين إلى

مذهب من المذاهب المشهورة، المنتشرة في أقطار كثيرة، أن يتفقوا على دراسة

كتاب أو كتب معينة ويعملوا بها على سواء، سواء كانت كتب إمام ذلك المذهب أو

كتب بعض المؤلفين المنتمين إليه، وإنما يتبعون في كل قطر من تصدروا فيهم

للتعليم والفتوى فيحرمون ما حرموا عليهم، ويحلون ما أحلوا، ويجرون على ما

أقروهم عليه من البدع، ويتركون ما تركوا من السنن، وهؤلاء المتصدرون

يتفاوتون في علمهم واجتهادهم - وكل منهم يجتهد في الوقائع التي تحدث في عصره،

وإن أنكر الاجتهاد بلسانه وقلمه، وإنما ينكره على غيره إذا خالف هواه فيه؛

ولذلك تتفاوت أعمال المتبعين لهم.

وثَمَّ مسألة أخرى يغفل عنها الناس وهي أن علم الفتوى عند كثير من المتفقهة

في أكثر البلاد الإسلامية لا صلة له بالعمل، فترى أحدهم يحضر الدعوات

والاحتفالات، التي تؤتى فيها البدع والمنكرات، ويهنئ أهلها ويدعو لهم، ولا ينكر

عليهم شيئًا من عملهم، ولكنه قد يقرر في الدرس أو يكتب في الفتوى أو المصنفات

أن هذه الأشياء من البدع والمنكرات، وربما يصفها بأنها مما عمت به البلوى،

ومنها ما يحلونه بالتأويل، ومنها ما لا يجدون له تأويلاً، فإذا فطن السائل لما ذكرنا

يذهب تعجبه ويزول استغرابه مما ذكره. وسيرى في الفتوى السادسة بعد هذه أن

بعضهم أحل أكل أموال المعاهدين والمستأمنين ولو بالخيانة والسرقة، وهذا من

أغرب شواهد المسألتين.

ويدلنا ما ذكر على أن الهداية التي يجب الرجوع إليها إذا اختلفت الأدلاء،

وعمي الأمر على الناس، هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

وسيرة السلف الصالح في العمل بها {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ

وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً} (النساء: 59) .

إنشاد الشعر بالنغمات

إذا حكَّمنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة لا نجد

فيهما دليلاً على تحريم إنشاد الشعر بالنغمات والحديث الذي ذكروه لا يصح فقد رواه

أبو داود والبيهقي عن ابن مسعود وفي إسناده شيخ لم يسمَّ، وفي بعض طرقه ليث

بن أبي سليم قال النووي: إنه متفق على ضعفه. وقد فصلنا القول في هذه المسألة

تفصيلاً في الجزء الأول وما بعده من مجلد المنار التاسع وفيه أن الغناء قد يحرم

حرمة عارضة ويكره الاستكثار منه ولكن الأصل فيه الإباحة. ويستحب في الزفاف

والعيد وعند قدوم المسافر كما بيناه هنالك فلا هو فسق ولا كفر ولا نفاق.

الخطبة بالألحان والسنة فيها

روى مسلم وابن ماجة عن جابر رضي الله عنه أنه قال (كان رسول الله صلى

الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر

جيش يقول: صبحكم مساكم) الحديث فهذه هي السنة في كيفية أداء الخطبة، وهذا ما

يُرجى به التأثير والاتعاظ بها التي شرعت لأجله، وكل أداء يخالفه فهو مكروه وأشده

كراهة تكلف الألحان والنغمات فيها كما يفعله بعض الترك وغيرهم، وإذا قيل بحرمة

هذه الألحان والنغمات الموسيقية في الخطبة لم يكن بعيدًا؛ لأنه على مخالفته للسنة

الصحيحة تشبُّه بالكفار في خطبهم الدينية وعبادتهم، ولو من بعض الوجوه فإن لم يكن

تشبهًا؛ لاشتراط القصد في معنى التشبه كان تركًا لما أمرنا به من مخالفتهم في أمثال

هذه الأمور، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء وقيل له: إن

اليهود تصومه أمر بمخالفتهم بصيام يوم قبله أو بعده؛ ولأنه مفوت لحكمة الدين في

الخطبة وهو الزجر المؤثر في القلوب، والوعظ الذي يزع النفوس، وهذه النغمات

من اللهو الذي ترتاح إليه النفوس وتستلذه، وترويح النفوس بالمباح غير محظور

ولكن الخطبة لم تُشرع له والمساجد لم تبن لأجله.

وقد صارت الخطبة في أكثر البلاد الإسلامية رسومًا تقليدية مؤلفة من أسجاع

متكلفة كسجع الكهان، وتؤدى بنغمات موقعة كنغمات القسوس والرهبان، وقد قارب

السنة فيها بعض الخطباء المصريين والسوريين، ولم أر خطيبًا ذكَّرني خطبة النبي

صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة. زارني سيد عراقي مثَّل لي تحريض العرب

على القتال بخطبة تضطرب لها القلوب، وتثير كوامن الحمية والنجدة من قرارات

النفوس.

تلاوة القرآن بالألحان

قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن) رواه البخاري

عن أبي هريرة وأحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وأبو داود عن أبي لبابة

بن عبد المنذر والحاكم من حديث البراء بن عازب وصححه أن النبي صلى الله عليه

وسلم قال: (زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسنًا) .

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن التغني بالقرآن معناه الاستغناء به عن غيره،

وهذا غير صحيح بدليل حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيحين ومسند أحمد

وسنن أبي داود والنسائي (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى

بالقرآن) فأي علاقة للاستغناء بحسن الصوت. ودليل قول أبي موسى الأشعري

للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره أنه استمع ليلة لقراءته: لو كنت أعلم أنك

تسمعه لحبَّرته لك تحبيرًا.

على أن علماء السلف قد اختلفوا في هذه المسألة فأنكر قراءة الألحان بعضهم

وعرفها آخرون. وقد أورد حجج الفريقين ابن القيم في (زاد المعاد) وجمع بينها

بأن المنكر هو تكلُّف الألحان الموسيقية، والتطريبات غير الطبيعية، والمعروف

هو ما اقتضته الطبيعة من التطريب والتحزين والتشويق إلى ما يشوق إليه،

والتنفير مما ينفر منه، وهذا هو الصواب الذي يتفق مع حكمة الشرع ومقصد الدين،

أعني الاهتداء بالقرآن وتدبره والاتعاظ به. ومن شاء التفصيل في ذلك فليراجع

كتاب زاد المعاد، وربما ننقله في فرصة أخرى، إذا اقتضته الذكرى.

ترتيل القرآن

الترتيل من الرتَل (بالتحريك) وهو انتظام الشيء واتساقه وحسن تنضيده

يقال: ثغر رتِل ومرتَّل إذا كانت الأسنان حسنة النظام والتنضيد. فترتيل القرآن

عبارة عن تجويد قراءته وإرساله من الفم بالسهولة والتمكث وحسن البيان {لَا

تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (القيامة: 16) {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ

عَلَى مُكْثٍ} (الإسراء: 106) والغرض من الترتيل الذي ينافي العجلة ويقتضي

المكث والتأني هو أن يفهمه السامع كالقارئ ويتمكن كل منهما من تدبره وفهمه،

ويصل تأثيره إلى أعماق قلبه، وحَسَن الصوت أقدر على إتقان الترتيل، وفصيح

اللسان أملك لحسن البيان والتجويد، وأجدر بقوة الإفهام والتأثير، وإنما كرهت

النغمات المتكلفة، والألحان المتعملة؛ لأنها تشغل القارئ والسامع بالصوت

والصناعة فيه، عن تدبر الكلام والاتعاظ به، فالفرق بين التغني المحمود والتغني

المذموم، والتلحين المعروف والتلحين المنكر، هو أن المحمود المعروف ما يشغل

نفسك بالفهم والتدبر، والاتعاظ والتأثر، والمذموم المنكر ما يشغلها بالصوت،

وإتقان الصناعة في اللفظ، والله أعلم وأحكم.

_________

(1)

ليس في تلك الفتوى تكفير كما قال، وتذييلنا هناك فيه تخفيف ما وعبارته توهم أن التشديد والتكفير في تذييلنا تبعًا أو استقلالاً.

ص: 25

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أموال الشركات الأجنبية في بلادنا

وحقوق المعاهدين

(س6) من محمد جمال أفندي سبط الفواردي بدمشق الشام سؤال موجه إلى

العالم العامل والمحقق الكامل منار الفضل والعرفان الشيخ رشيد أفندي رضا حرسه

الله وحفظه آمين.

ما قولكم - ساد مجدكم - في مس حقوق الشركات الأجنبية وأرباب الامتيازات

المعطاة لهم من الخليفة الأعظم هل هم معاهدون مستأمنون مصونو الحقوق أم

حربيون؟ وهل يجوِّز الشرع لأحد هضم حقوقهم بدعوى أنهم دخلوا بلادنا وأخذوا

الامتيازات من حكومتنا قهرًا، وإن كان بالصورة الظاهرة بأمان ورضى، أفيدونا

الجواب، ولكم الشكر والثواب.

(ج) إن احترام الأجانب المعاهدين أو المستأمنين واحترام أموالهم وحرمة

التعدي عليهم أو عليها من المسائل المجمع عليها بين المسلمين المعلومة من الدين

بالضرورة فليست مما يُسأل عنه أو يستفتى فيه، لولا تأويل المضلين. وقد كتب

إلينا هذا السائل الفاضل كتابًا خاصًّا يعتذر فيه عن سؤاله هذا ويبين سببه وهو أن

شيخًا من شيوخ الدجل معروفًا بمخادعة العامة واستمالتهم إليه بذم النصارى والتنفير

منهم، وتلفيق كتب الأوراد والصلوات والكرامات قد أفتى من يظنون أنه من أهل

العلم والتقوى بأن أموال الأجانب الذين في بلادنا مباحة للمسلمين فيجوز لمن قدر

على أكل مال شركة الترام أو سكة الحديد أو غيرهما من الشركات الأجنبية أو

الأفراد أن يأكل ما استطاع أكله سواء كان مستخدماً فيها أو غير مستخدم ، ويتأول

الحكم الشرعي المجمع عليه بأن هؤلاء الأجانب معاهدون أو مستأمنون في الظاهر

ولكنهم حربيون في الواقع؛ لأنهم أخذوا الامتيازات بهذه الشركات من حكومتنا

بالجبر والإكراه، لا بالرضى والاختيار. وهذا هو باطل التأويل، ومحض الكذب

وقول الزور، فالامتيازات أخذت باختيار الدولة والسلطان الذي كان يقدسه مفتي

الإباحة ويضلل مطالبيه بالإصلاح أو يكفرهم، والمعاهدات بين دولتنا ودول

أصحاب هذه الشركات لا شك فيها، وإلا كانوا محاربين، ولا حرب بيننا وبين أحد

منهم (إلا الإيطاليين الآن) والمصلحة في هذه المعاهدات لنا ظاهرة، وإذا نقض

بعضهم شيئًا من شروط العهد فليس لأحد من أفراد الرعية أن يعده محاربًا ويستحل

ماله ودمه، وإنما ذلك حق السلطان وأولي الأمر، ولولا ذلك لم يستقم نظام ولم

تثبت مصلحة، ولو كان شرعنا العادل يبيح مثل هذا لما وثقت دولة من دول

الأرض بعهودنا وأماننا، ولكانت معذورة في الاتحاد على استئصالنا، سبحان الله!

جعل الشارع ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، ولعن من أخفر ذمتهم، كما

ورد في حديث علي كرم الله وجهه في الصحيحين والمسند وكتب السنن الثلاثة

وغيرها ومن حديث غيره أيضاً. ومعنى (يسعى بها أدناهم) أن العبد أو الأجير

من المسلمين إذا أمن بعض الحربيين وجب على كل مسلم أن يحترم أمانه ويحرم

عليه أن يتعدى على من أمَّنه، أو يؤذيه في نفسه أو ماله.

وقال الحافظ ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة إلا شيئًا

ذكره عبد الملك بن الماجشون صاحب مالك قال: إن أمر الأمان إلى الإمام (الخليفة)

ورد قوله بالحديث، واشترط أبو حنيفة في العبد أن يكون مقاتلاً ليصح تأمينه.

وأما تأمين آحاد الصناع والزراع فلا خلاف فيه، ولكن دجال سورية ومفتي الإباحة

فيها لا يعتد بتأمين السلطان نفسه ولا بعهده وعهد دولته بل يبيح السرقة والخيانة في

الإسلام، وهما لا يباحان في حال من الأحوال.

_________

ص: 30

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدخول في الماسونية

(س7) من السيد أحمد بن يوسف الزواوي في (مسقط) .

غب إهداء مراسم السلام، والتجلة والاحترام، لحضرة الماجد الهمام،

والأستاذ الإمام، السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المنير، نهرع إلى بابه،

ونلتمس من سماحة جنابه، كشف ما يحوك في صدورنا عن هذه الجمعية، المدعوة

بالماسونية، فقد تضاربت فيها الأقوال، واستحكمت حلقات الجدال وفشى الخلف

في شأنها بين العلماء والأعلام، فمن مادح وذامّ، ومبيح الانتظام، ومفتٍ بأنه حرام،

إلا أننا نرى القائلين بالحظر يكيلون جزافًا، ويقتضبون اقتضابًا، على حين

استناد المبيحين إلى أصل الحل، ولما كان الناس لا يقتنعون إلا بجوابكم المؤيد

بالحجة المتكئ على البراهين، تيممناكم، ولنا وطيد الأمل وأكبر الرجاء بأن تثلجوا

غلتنا بالجواب الضافي الذيول، الكاشف عن موضوع تلك الجمعية وبُروغْرَامها

نِقاب الخفاء، حتى نقدم رافعين الرءوس على الانتظام في سلكها، أو نرفضها

رفض السقب غرسه ونحمل النفوس على فركها، ولا شك أن يكون كلامكم فصل

الخطاب وحاسم النزاع.

(ج) قد بينا من قبل أن هذه الجمعية سياسية أنشئت في أوروبة لإزالة

استبداد الملوك وسلطة البابوات، وفصل السياسة عن الدين بأن يكون التشريع من

حقوق الأمة غير مقيدة فيه بدين، وقد فعلت في أوروبة فعلها وأدت وظيفتها.

والذين ينشرونها في الشرق لهم أهواء مختلفة، ومنافع متعددة، والرياسة العامة

التي يرجعون إليها أوروبية، وإذ قد عرفتم حقيقتها وغرضها، فقد عرفتم حكم

الدخول فيها، وما سبب اختلاف الأقوال في حكم الانتظام في سلكها إلا اختلاف

العلم بحقيقتها، ولا يتسنى لأهل بلادكم أن يعرفوا هذه الحقيقة؛ لأن الذين يدعونهم

إليها لا يبينونها لهم، وإنما يرغِّبونهم فيها ترغيبًا إجماليًّا ويعدونهم بكشف الستار

عن الأسرار، بعد الترقي في الدرجات، ولم يقرءوا ما كتب فيها دعاتها وناشروها

من المدائح، وما يلطخها به خصماؤها - ولا سيما رجال الدين - من الفضائح،

ورُب مدح يمدحها به قوم يراه آخرون ذمًّا، وقد نشرها الإفرنج وأعوانهم

المتفرنجون في مصر والمدن العثمانية منذ عشرات من السنين فلم يكن لها من ثمرة

إلا إعداد النفوس لفصل السياسة والحكومة من الدين، والاستغناء عن الشرع

بالقوانين، والمؤاخاة بين المسلمين وغيرهم، وموالاتهم لهم، ولعله تبين لكم بهذا

الشرح كنه ما يمنونكم به من النفع، كما عرفتم ما يحكم به الشرع، وعسى أن

يزيل ما بينكم من الخلاف، الذي هو أول ثمراتها في تلك البلاد.

_________

ص: 32

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المسألة الشرقية

سلسة مقالات لنا نشرنا ستا منها في المجلد الرابع عشر

(7)

الجهاد في الإسلام

يقع الخلاف والنزاع والعداء بين البشر بسوء الفهم أكثر مما يقع بسوء القصد،

وأعم أسباب سوء الفهم والتفاهم اختلاف المواضعة والاصطلاح: يطلق زيد

القول بمعنى فيفهمه عمرو بمعنى آخر فيؤاخذ زيد عليه، ويرى زيد أن قوله لا

يقتضي المؤاخذة وهو مصيب في هذا الرأي، وأن عمرًا ما آخذ، عليه إلا لسوء

أراد به، ونية رديئة أضمرها له، وإلا لم يؤاخذه على الصواب، وهو مخطئ في

هذا الرأي لأن عمرًا إنما آخذه؛ لأنه فهم من قوله ما لم يرد هو به.

واختلاف المواضعة والاصطلاح الذي قلنا: إنه أعم وأكثر أسباب سوء الفهم

له مناشئ متعددة، فإن اللفظ الواحد يكون به معنى أو عدة معانٍ في أصل اللغة،

ومعنى آخر في اصطلاح الشرع، ومعنى آخر أو أكثر في اصطلاح بعض العلوم

والفنون، ومعنى آخر في العُرف العام، ومعنى آخر في العُرف الخاص ببلد من

البلاد أو طائفة من الطوائف كالكتاب أو الفقهاء مثلاً. وقد قال علماؤنا (لا مشاحة

في الاصطلاح) وهذه الكلمة تجري دائمًا على ألسنتنا وأقلامنا ولكن لا يكاد يعامل

بها أحد منا غيره. فنحن في مشاحات وملاحاة لا تنقضي. وقد يكون غير معذور

ولكن البيان هو الذي يقطع التعلات والأعذار.

من الألفاظ التي من هذا القبيل لفظ (الجهاد) في الإسلام والظاهر لنا أن

بعض النصارى يفهمون أن المراد به اتفاق المسلمين كافة على قتال أو قتل كل من

ليس بمسلم سواء كان محاربًا لهم أم لا ، وهذا المعنى ليس مدلولاً له في اللغة

العربية ولا في عرف القرآن والسنة ولا اصطلاح الفقهاء، وربما سرى فهمهم هذا

إلى بعض المسلمين الذين يجهلون اللغة والشرع ويأخذون المسائل الدينية من

المعاشرين لهم، وإن لم يكونوا من أهل دينهم، وكذا من جرائدهم.

ومنهم من يفهم من الجهاد القتال باسم الدين أو لأجل الدين ويقسمون الحرب

إلى دينية ومدنية ويفرقون بينهما بالتسمية وإطلاق لفظ الجهاد على الحرب الدينية

فقط، ويخصونها بالذم والتشنيع والتنفير. كأنهم الحرب التي يسمونها مدنية من

طرق الكسب والتجارة المحمودة، ويرون أنه لا حرج على من يحارب قومًا

يستضعفهم ليزيل استقلالهم ويجعلهم كالعبيد المسخرين لأبناء جلدته.

نشر أحمد لطفي بك السيد مدير (الجريدة) مقالاً فيها ذكر فيه أن الحركة

الحاضرة بمصر الموجهة لإعانة الدولة العثمانية على حرب إيطالية قد ظهرت

بشكل الجهاد الديني أو الدعوة إلى الجهاد الديني، وأن هذا خطأ ضار بمصر ،

فساء قوله هذا جميع من ذكره أمامي من المسلمين، وسر جميع من ذكره من

النصارى. وما رأيت الكُتَّاب والباحثين في السياسة من هؤلاء حمدوا لمدير هذه

الجريدة غير هذا المقال. وقد اجتمعت في بعض السُّمَّار بطائفة منهم وخضنا في

هذه المسألة وكان مما ذكرته أن الجهاد ليس بالمعنى الذي يفهمونه، ولا أدري أي

معنى قصد به مدير الجريدة ولكنني أجزم بأن اتهام المصريين بالتأليب على

النصارى كافة والدعوة إلى قتالهم باطل، ويمكنني أن أحلف على أنني لا أعرف

أحدًا من المسلمين على هذا الرأي ولا سمعت الدعوة إليه ولا استحسانه بل ولا ذكره

من أحد منهم. ثم ذكرت معنى الجهاد في اللغة والقرآن، وورود ذكره في كتب

النصارى، فاقترح عليَّ بعضهم أن أكتبه وأنشره في المؤيد فقبلت الاقتراح ولم أُتم

ما بدأت بشرحه في السامر.

الجهاد والمجاهدة مصدر جاهد، وهو بناء مشاركة من مادة الجهد أي التعب

والمشقة (ومن هذه المادة الاجتهاد أيضًا) وصيغة المشاركة تُشعر بأن الجهاد عبارة

عن احتمال الجهد والمشقة في مقاومة خصم أو عدو، فلا يدخل في معناه حرب مَن

لا يحارِب وقتل من لا يقاتل إذ لا مشاركة في ذلك.

قال الراغب في مفرداته التي شرح بها غريب القرآن أدق الشرح ما نصه:

(الجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو (تأمل قوله: مدافعة)

والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر ومجاهدة الشيطان ومجاهدة النفس،

وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: 78) ،

{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 41) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنفال: 72) {إِنَّ الَّذِينَ

آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنفال: 72) وقال

صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم) المجاهدة تكون

باليد واللسان قال صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم) اهـ

كلام الراغب، ولا أذكر من أخرج هذين الحديثين، ولكن روى الإمام أحمد وأبو

داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(وجاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) وقد ذكر لفظ الجهاد في القرآن

بمعنى المعالجة والمكابدة في مواضع لا تحتمل معنى الحرب كقوله تعالى:

{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي

الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: 15) يعني الوالدين ، وأكثر أحكام الحرب ذُكرت في

القرآن بلفظ القتال؛ لأن لفظ الجهاد ليس نصًّا في معنى الحرب والقتال، ولم تذكر

مادة الحرب فيه إلا قليلاً ولم تسند إلى المسلمين. وكل ما ورد في أحكام القتال في

القرآن كان المراد به مدافعة الأعداء الذين يحاربون المسلمين لأجل دينهم منها ما هو

صريح في ذلك كقوله تعالى في سورة الحج وهو أول ما نزل في القتال:

} أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [ (الحج: 39) وقوله

في سورة التوبة، وهي آخر ما نزل في أحكام القتال:] أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ

وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [ (التوبة: 13) قوله] أَيْمَانَهُمْ [بفتح

الهمزة ومعناه عهودهم، وذلك كما فعلت إيطالية الآن فهي من الدول المعاهدة، وقد

نكثت العهد وبدأتنا بالقتال. ونزل فيما بين هاتين الآيتين آية البقرة

] وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ [ (البقرة: 190) .

وما ليس بصريح مثل هذه الآية يمكن أن يحمل عليه بقرينة الحال فإن النبي

صلى الله عليه وسلم كان مع من حوله في حرب هم المعتدون فيها وكان يعاهد كل

من يقبل معاهدته على ترك الحرب مهما ثقل احتمال الشروط، وما عاهده أحد من

المشركين أو اليهود إلا من عَلِمَ منهم بأنهم أضعف من المسلمين، ثم هم الذين كانوا

ينكثون عندما يشعرون بقدرة، ويصادفون غرة، كما فعلت اليهود غير مرة، وكما

فعلت قريش بعد صلح الحديبية.

ويحمل على ذلك أيضًا ما ورد من النهي عن اتخاذ الكفار أولياء والإلقاء إليهم

بالمودة سواء ورد ذلك في المشركين وأهل الكتاب أو عامًّا كما صرح بذلك في

سورة الممتحنة فقد قال تعالى في أولها:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي

وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ

وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [ (الممتحنة: 1) أي يخرجونكم من وطنكم مكة

ويطردونكم منها بسبب أنكم آمنتم بالله ربكم، فهذه علة أولى للنهي عن ولايتهم أي

نصرتهم وعن مودتهم، والعلة الثانية بينها في الآية الثانية فقال:] إِن يَثْقَفُوكُمْ

يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [ (الممتحنة: 2) ثم قال بعد آيات:] لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي

الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ

إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا

عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ (الممتحنة:8،7)

فلم يكتفِ بنفي النهي عن موالاة ومودة غير المقاتلين المعتدين، وحصر الوعيد

فيمن يتولاهم، فإن كلمة] إِنَّمَا [للحصر وجملة:] أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [تفيد الحصر

أيضًا.

هذه جملة أحكام القتال في القرآن المتعلقة بمن يقاتلون، وهي في منتهى العدل

والحكمة، وبينا أن لفظ الجهاد فيه ليس مرادفًا للحرب والقتال، ولكن الفقهاء

اصطلحوا على تسمية القتال جهادًا، وهذا اللفظ ألطف وأخف من لفظ القتال ولفظ

الحرب؛ لأن معناه يتحقق ببذل الجهد في مقاومة لا يقتل فيها أحد أحدًا، والقتال

ليس كذلك إذ لا يتحقق معناه إلا بسفك الدم.

كل هذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، وقد زال من دونها كل

سحاب، فمن أين صار لفظ الجهاد الإسلامي هو المخيف الدال على الظلم والبغي

والوحشية وذبح الأبرياء من أهل السلم والولاء؟ أليس هذا من تعصب غير

المسلمين على المسلمين بتشويه محاسن دينهم وتحريف آياته عن مواضعها، وقلب

معانيها وتغيير أوضاعها، أو من الجهل بها على الأقل.

هذا وإن لغير المسلمين مع المسلمين أربع حالات ينقسمون بها إلى أربعة

أقسام:

1-

أهل الذمة: وهؤلاء يساويهم الإسلام بأهله في الحقوق ويوجب حمايتهم

والدفاع عنهم إذا اعتدي عليهم وسد ضروراتهم، فإذا وجد فيهم من لا يقدر على

قوته كفوه أمره، وكذا غير القوت من الضروريات.

2-

أهل عهد وميثاق كجميع الدول الآن بعضها مع بعض ما عدا إيطالية مع

دولتنا، فهؤلاء تجب مسالمتهم والوفاء لهم بعهدهم كما هو، حتى إنه إذا حاربهم

بعض المسلمين غير الداخلين في جماعتنا العامة التي عاهدتهم واستنصرونالا

ننصرهم كما في الصورة التي بيَّنها الله تعالى في أواخر سورة الأنفال بقوله:

] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ

اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَاّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا

تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [ (الأنفال: 72) .

3-

أهل أمان وهم الذين يكونون أو يدخلون في بلادنا من المحاربين لنا

بالأمان على أنهم لا يعتدون على أحد ولا يعتدي عليهم أحد، ويسمون المستأمنين،

ويجب الوفاء لهم بالأمان.

4-

أهل حرب أو محاربون وأحكامهم طويلة، وكل ما ثبت منها في الكتاب

والسنة فهو مبني على قواعد العدل والرحمة. ومنه أن لا يقاتل إلا من يباشر القتال

فيمتنع قتال الشيوخ والولدان والنساء ورجال الدين المنقطعين للعبادة.

ومما ورد في ذلك الآية التي أساء في تفسيرها لورد كرومر وكأنه تبع في ذلك

بعض القسوس أو السياسيين الذين يحرفون الكلم عن مواضعه عمدًا، تعصبًا منهم

وبغيًا، وهي قوله تعالى:] فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا

أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ

يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [ (محمد: 4) فهذه الآية من

آيات الرفق والرحمة في الحرب، والمسلمون متفقون على أن المراد بقوله تعالى:

] فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [ (محمد: 4) لقيتموهم في المحاربة، وحاصل معنى

الآية أنكم تقتلون من تقدرون على قتله إلى أن تظهروا عليهم بالإثخان فيهم فعند ذلك

اتركوا القتل، واكتفوا بالأسر، وأنتم مخيرون بعد ذلك بين أن تمُنّوا على الأسرى

بإطلاقهم فضلاً وإحسانًا، وبين أن تأخذوا منهم فداءً. هكذا يكون شأنكم حتى تضع

الحرب أوزارها أي أثقالها أو آثامها. قال:] وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ [ (محمد: 4) فأمركم بجعل القتل على قدر الضرورة، وهو أن تأمنوا شرهم بالظهور

عليهم] لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [ (محمد: 4) أي: ليختبر بعضكم ويجربه

بمعاملة الآخر بما يخالف هواه ويوافق المصلحة، ويتفق مع العدل والرحمة، بجعل

الحرب ضرورة تقدر بقدرها. هذا هو معنى الآية التي يشوهون بها جهاد الإسلام،

وهي شرف يفتخر به بين منصفي الأنام.

إذا محاسني اللاتي أدل بها

كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر

طال المقال فزاد على ما قدرت له ويمكنني أن أؤلف في هذه المسألة كتاباً

حافلاً يفتخر به كل مسلم، ويخذل به كل متعصب سيئ النية والقصد، وحسبك من

القلادة ما زين النحر.

فإذا كان هذا هو الجهاد والقتال في الإسلام، وكان كل ما خالفه من حروب

ملوك المسلمين خروجًا عن هدي الدين في حروب كلها مدنية لم تقصد بها حماية

دعوة الإسلام إذا تركوا الدعوة بعد عصر السلف، فلماذا تقوم القيامة على المسلمين

كلهم إذا ذكر واحد منهم لفظ الجهاد أو حرفًا مما اشتق منه، ويعد هذا خطرًا على

النصارى أصحاب الدول الحربية القوية التي تحميهم وتنتصر لهم أينما كانوا ولو

بالباطل؟ ولماذا يحرض غير المسلمين بعضهم بعضًا على سلب مُلك المسلمين

والتنكيل بهم، وينفذون ذلك بالفعل، ولا يعدونه إثمًا ولا حرجًا، وإنما ينحصر

الإثم والحرج في الشكوى منه، حتى صار المسلمون أنفسهم يحجر بعضهم على

بعض أمثال هذه الألفاظ، التي لا ضرر فيها ولا ضرار، ولا تدل على جواز ذرة

من الظلم والعدوان؟

لو كان في كتابنا الإلهي من القسوة في أحكام الحرب مثل ما في التوراة التي

في أيدي أهل الكتاب لما كتمناه ولما تبرأنا منه كقوله في سِفر تثنية الاشتراع:

(20: 16 وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تَسْتَبْقِ

منهم نسمة ما) بل يوجد في أناجيلهم من النصوص القاسية ما لا يوجد في القرآن

مثله كرواية لوقا عن المسيح عليه السلام في الفصل التاسع عشر ونصها (أما

أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) ولفظ

الجهاد الممقوت عند القوم ومقلدتهم؛ لأنهم يعدونه إسلاميًّا يوجد أيضًا في كتبهم

كقول مقدسهم: بولس (2 تيم 2: 5 لا ينال أحد الأكاليل إلا ويجاهد جهادًا شرعيًّا)

وقوله (تيم 6: 12 جاهد جهاد الإيمان الحسن، وأمسك بالحياة الأبدية التي

إليها دعيت) يقولون: إن المراد بهذا جهاد النفس والشيطان، ونحن قد قال علماؤنا

مثل هذا في جهاد القرآن كما تقدم، وكان سلفنا يسمون جهاد النفس الجهاد الأكبر،

وجهاد العدو الجهاد الأصغر، وروي هذا عن الصحابة رضي الله عنهم.

إني أختم مقالي هذا بذكر شيء مما يقال فينا، وما يحرض به علينا، وأعيذ

المسلمين منذ وجدوا إلى اليوم وإلى آخر الزمان من مثل ذلك.

جاء في العدد 843 من جريدة (وقت) الروسية التي صدرت في 18 سبتمبر

(أيلول) بالحساب الشرقي ما ترجمته:

جاء في برقية من بودابست أن فمبري المستشرق المشهور كتب مقالة في

جريدة (بودابست هيرلاب) قال فيها: إن حماية الإسلام بعد الآن خطأ لا يفيد فائدة

ما، وهو سيفنى ألبتة ولا يستحق غير الإفناء، المدنية توجب أن تنقرض من

ممالك الإسلام عدوة المدنية. المسلمون قوم لا طبيعة لهم ولا يعرفون كلمة الطبيعة

هم يعبدون ولكن لا يعملون، ولا شيء فيهم من الحياة غير شعورهم الديني،

وليس لهم مسلك (مبدأ) ولا مقصد ، ولا ينبغي أن تهتم جد الاهتمام بدستور تركية

فإن حالها الآن شر مما كانت عليه، واحتمال حياة ثلاثمائة مليون مسلم خيال باطل

لا شائبة للحقيقة فيه اهـ.

وقد تعجبت جريدة وقت من قول فمبري هذا؛ لأنه مشهور بمحبة الترك

والمسلمين وقالت: إنه يجب التأمل فيه، ونحن نقول إذا كان هذا قول من يحبنا

منهم فهل يقول أحد من المتهمين منا بالتعصب وبعض الأغيار مثله أو قريباً منه.

يقولون يجب إعدام هؤلاء الملايين من المسلمين باسم المدنية وفي روسية

ملايين من النصارى هم أبعد عن المدنية من مسلميها ومسلمي العثمانيين فلماذا يجب

لهم البقاء؟ إذا كان مثال المدنية ما فعلته إيطالية فالصلاة والسلام على التوحش

والهمجية.

بل قال بعض أساطين السياسة مثل كلام هذا المستشرق أو أشد، منهم الأستاذ

مكسيليان هاردن صاحب جريدة (زنكفت) النمسوية قال في خطبة له أرسل

ملخصها مكاتب التيمس في فيينا إلى جريدته فنشرت فيها (أنه لا توجد دولة تقدر

أن تساعد الحركة الحاضرة التي تسوق الإسلام إلى الوراء، ثم قال: إن الإسلام

دين خطر وبقاؤه خطر، وإني على رأي أن كل ولاية أخذت من الإسلام فهي غنيمة

للدول الأوروبية) .

هكذا يقولون جهرًا في خطبهم وجرائدهم ولا نزال نغش أنفسنا بقول الذين

يسخرون منا من الإفرنج والمتفرنجين بزعمهم أن هذه الحرب لا علاقة لها بالدين

ولا يقصد بها المسلمون لأجل دينهم.

يقولون المنكر ويفعلونه ويمدحون أنفسهم عليه، ونقول الحق فنلعن عليه

ونهدد. ولا ندري ماذا بقي عندهم من التهديد فنخافه، أولئك عبيد القوة القاهرة،

ولو أنهم أقوياء لما سموا حقنا باطلاً، بل كانوا يسمون ما ربما تدفعنا إليه القوة من

الباطل عين الحق ولباب الفضيلة، والإسلام نفسه هو المظلوم المهضوم بيننا وبينهم،

نحن تركنا هدايته وجنينا عليه، وهم جعلونا حجة عليه، حتى أقنعوا أبناءنا الذين

تولوا تربيتهم المادية الشهوانية وتعليمهم الفاسد في مدارسنا ومدارسهم بأن يلصقوا

ذنوبهم بالإسلام ويصدون عنه على علم أو جهل.

إذا عوقب جناة النصارى أو تعقبت عصاباتهم الثورية في مكدونية قامت

أوروبة لهم وقعدت، وأرغت وأزبدت، وإذا أظهرنا التألم من تدمير مدافعهم لبلادنا

وحصدها لإخواننا، نلعن على تعصبنا، فإلى متى يبغي الأقوياء، وينخدع

الأغبياء، ربنا افصل بيننا بالحق وأنت خير الفاصلين.

...

...

...

فى 2 ذي القعدة سنة 1329

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 33

الكاتب: محمد رشيد رضا

ما يجب من إعانةالدولة العلية بإنجادطرابلس الغرب

(9)

تابع‌

‌ المسألة الشرقية

سيرت دولة إيطالية أساطيلها كلها وجيشًا عرمرمًا من جنودها المنظمة إلى

طرابلس الغرب، لمحاربتها في البر والبحر، والاستيلاء عليها بالبغي والقهر،

وإلباسها لباس الخوف والجوع، وأهانت الدولة العلية صاحبة ذلك القطر بمساومتها

في بيعها وحملها بالتهديد والوعيد على الإذعان لاحتلال الجيش الإيطالي فيها.

طمعت دولة إيطالية المغرورة في تلك البلاد لإهمال دولتها أمرها، وتقصيرها

في إقامة المعاقل والحصون في برها، ووضع الحامية القوية فيها، وفي بث الألغام

وأنابيب التدمير في بحرها، فانقضت عليها بأساطيلها وجنودها، وصبت عليها

جحيم قهرها، وقطعت عنها موارد الرزق، في عام وباء ومجاعة وقحط، فأصبح

أهل تلك البلاد يحاربون دولةً عاتيةً، باغيةً قاسيةًً، لا ترحم امرأةً ضعيفةً ولا شيخًا

كبيرًا، ولا طفلاً صغيرًا، ويصارعون جوعًا ديقوعًا دهقوعًا، ويصابرون وباءً

مريعًا، فهم أحق خلق الله بعطف الكرماء، ورحمة الرحماء، وإعانة الواجدين،

وإغاثة القادرين.

نعم: إن الدولة العثمانية هي صاحبة هذه البلاد المرزوءة بقسوة الطامعين،

وهي التي يجب عليها إغاثتها وإمدادها قبل كل أحد، ولكن حيل بينها وبين إنجادها

إن أرادته، فلا أسطول قويّ تنجدها به بحرًا، ولا أوربة تمكنها من إنجادها برًّا،

وإذا كانت الدولة عاجزة عن القيام بهذا الواجب انتقل الوجوب إلى من قدر عليه،

وأقدر الناس عليه أهل مصر فصار متحتمًا عليهم بحق الجوامع الست التي تتعاطف

بها الجمعيات البشرية لا بجامعة واحدة منها، وإننا نبين هذه الجوامع الست ونبدأ

بالأعم منها فنقول:

الجامعة الأولى الإنسانية

خلق الناس ليعيشوا بالتعاون فهو معيار ارتقائهم، وميزان مدنيتهم، فكلما عم

كانت المدنية أعم، والارتقاء أشمل، و (خير الناس أنفعهم للناس) كما ورد،

وللتعاون أسباب أعمها التعارف، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن

ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: 13) وأن سهولة طرق

المواصلة وتعدد وسائلها زاد في تعارف الناس وتعاونهم، فلا تقع الآن نكبة كبيرة

في قطر من الأقطار إلا ويسارع أهل الأقطار الأخرى إلى إعانة أهله وتخفيف

مصيبتهم، ومن الشواهد القريبة العهد على ذلك عطف المصريين على الإيطاليين

الذين نكبوا بالزلازل والبراكين في صقلية ومسيني [1] فقد نظمت في ذلك القصائد

العربية المؤثرة، وجمعت الإعانات المالية، وأرسلت إلى الحكومة الإيطالية.

لو حكمنا العقل المجرد من الهوى في أحق الناس أن تبذل لهم المعونة، وتمد

إليهم سواعد المساعدة الذين نكبوا بالجوائح الطبيعية، أم الذين نكبوا بظلم إخوانهم

البشر لهم، وقهرهم إياهم، واعتدائهم على حريتهم واستقلالهم؟ لحكم حكمًا عادلاً

بأن هؤلاء المظلومين أحق بالمعونة، وأجدر بالمساعدة، ولرأينا من أسباب هذا

الحكم (حيثياته) أن مساعدة المظلوم وإعانته على ظالمه أكبر خدمة للإنسانية

وأعظم نفعًا للبشر؛ لأن فائدتها مزدوجة، ونفعها يتعدى من المظلوم إلى الظالم

بكفه عن ظلمه ومؤاخذته عليه، وبذلك يقل الظلم والعدوان بين الناس حتى يكونوا

إخوة في الإنسانية، وفي هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك

ظالمًا أو مظلومًا إن يك ظالمًا فاردده عن ظلمه، وإن يك مظلومًا فانصره)

رواه بهذا اللفظ الدارمي وابن عساكر عن جابر، وفي رواية أحمد والبخاري

والترمذي عن أنس أنه قال (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) فسئل قبل إتمام

الحديث: (كيف أنصره ظالمًا؟ قال: (تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره) .

فبحق هذه الجامعة يجب على كل إنسان يؤثر حب الإنسانية على العصبية

المفرقة والهوى والطمع المفسدين للأخلاق أن يساعد أهل طرابلس ودولتهم، على

كف ظلم إيطالية وبغيها عنهم، أو على تخفيف مصيبتهم على الأقل، ولولا

المطامع، والمبادلة والمعارضة في المنافع، لما أقرت أوروبة هذه الدولة على بغيها

وظلمها، مع اعتراف المنصفين من جميع شعوبها ببغيها وطغيانها، وإنه ليوجد في

كل شعب أوروبي كثيرون من أهل الإنصاف وحب الإنسانية، ولولا أن حكومتها

وجرائدهم تخادعهم لما كانوا يسكتون عن الانتصار لأمثال هؤلاء المظلومين، على

أنه وجد في إنكلترا كثيرون قد عرضوا أنفسهم على السفارة العثمانية للتطوع في

جيشها الذي يحارب إيطالية، ومع هذا نرى فينا من ينكر مثل ذلك منا نحن

المشاركين لأهل طرابلس في الجوامع الست كلها.

الجامعة الثانية الشرقية

الناس كلهم إخوة في الإنسانية والإخوة قد يختلفون على المنافع، ويغلب طمع

القوي منهم على ما تطالبه به الفطرة وعاطفة الأخوة من التسامح والإيثار، بل من

العدل والإنصاف، فيتفرقون ويختصمون، ويستعين بعضهم على بعض، ويقع

الخصام والعدوان بين الجماعات كما يقع بين الأفراد، وهذا هو السبب في تكوين

عصبية الجامعات المختلفة فقد كانت وما زالت الشعوب والقبائل والأمم والدول

تتخالف وتتحالف، وتتنازع وتتصارع، والأصل في هذه العصبيات الاشتراك في

الصفات والمقومات التي تقتضي التآلف ومقاومة المخالف فيها كالنسب والوطن

واللغة والحكومة والدين والعادات والآداب، وكلما كان ما به الاشتراك أكثر، كان

التآلف والتعاطف أعم وأشمل، فالمشتركون في النسب قد يخاصمون الغريب عن

نسبهم من أبناء لغتهم ووطنهم ودينهم، وكذلك أهل الوطن واللغة مع الغريب عنهما

المشارك في غيرهما مثلاً، وعلى هذا المنهج تصغر العصبيات وتكبر.

كثر ما به الاشتراك بين أهل أوروبة، فهم مشتركون في الدين والعادات

العامة، والأحوال الأهلية والاجتماعية، وطرق الكسب، وفنون الحرب، ونظام

الحكومة، وأكثر خواصهم يعرفون من لغاتهم الكبرى ما يتخاطبون بها مع الآخرين

ويقرءون جرائدهم وكتبهم، وينقل بعضهم عن بعض في كل يوم كل أمر ذي بال،

وينشرونه للجمهور في جرائدهم، فيشعر كل شعب منهم مما يشعر به الشعب الآخر

من مؤلم أو ملائم، فهم بهذه الأمور كلها عصبية واحدة على من يخالفهم فيها، وقد

اتحدوا بها على المخالفين فصار العالم كله (أو ما يعبر عنه بالعالم القديم إذا استثنينا

أميركة) عصبتين يعبر عن إحداهما بالغرب، ويراد به أوربة الطامعة، وعن

الأخرى بالشرق، ويراد به آسية وأفريقية المطموع فيهما. وكان الأولى أن يقال:

والشمال مكان الشرق والغرب، ولكن لا مشاحة في الإصطلاح كما يقال.

يرى كثير من الكتاب والمؤرخين أن المراد بالشرق الإسلام وبالغرب

النصرانية ولكن المختبرين من علماء نصارى الشرق الذين عرفوا كنه سياسة

أوربة ورأوا سيرتها في مستعمراتها يعلمون أن أوربة تحتقر جميع الشرقيين ولا

تعد النصارى منهم أهلاً لمساواة الأوربيين في شيء، وأن أية دولة من دولها

تستولي على بلاد شرقية تحتقر جميع أهلها، وتستعلي عليهم بعظمتها الجنسية؛

لأنها ترى أن الأوربي يجب أن يكون سائدًا؛ لأنه أوربي، وأن الشرقي يجب أن

يكون مسودًا؛ لأنه شرقي.

لا يزال الشرق ضعيف التماسك جاهلاً أنه مضطهد من الغرب كله، وأنه

يجب عليه التناصر لدفع سيل الغرب الآتي وعدوانه المخشي، وقد رأينا الخبيرين

بكُنْه هاتين الجامعتين من شبان النصارى الأحرار في مصر وسورية يميلون

كالمسلمين إلى انتصار اليابان الوثنية، على روسية النصرانية، يوم وقعت الحرب

بينهما، فإذا مال هؤلاء الأذكياء إلى ظفر طرابلس الغرب الشرقية المظلومة،

وانتصارها على إيطالية الغربية الظالمة، فذلك أولى، بل لا يكفي أن يميلوا

ويعطفوا، دون أن يساعدوا وينصروا، فالأقربون أولى بالمعروف.

الجامعة العثمانية

أهل الولايات العثمانية البحتة والممتازة والمستقلة في إدارتها مختلفون في

الأجناس والأديان، واللغات والعادات، وليس في استطاعة أهل ولاية منها أن

يكونوا دولة قوية تحمي نفسها من أوروبة إذا صالت عليها بجيشها وأساطيلها،

ومصر في ذلك كغيرها، فإن كانت أغنى وأعلم، فهي أضعف في الحرب وأعجز،

فمن مصلحة الجميع تأييد الجامعة العثمانية، وإصلاح حال الدولة العلية، وهذا

الإصلاح يتوقف على شكل الحكومة الذي يعبرون عنه باللامركزية، وهو ما

ستصير الدولة إليه، ولا بقاء لها بدونه، إذا هي سلمت من كيد أوروبة لها،

وحالت سياسة التنازع دون التعجيل عليها -سلمها الله تعالى وكفاها كيد الكائدين-

وحينئذ تكون الولايات العثمانية كالولايات الجرمانية أو الولايات المتحدة كل منها

داخل في إدارتها الداخلية ومشتركة مع سائر الولايات في السياسة العامة وقوة

الجيش والأسطول إلخ.

فعلى العثمانيين في جميع الولايات من جميع العناصر والملل أن يستمسكوا

بعروة العثمانية ويبذلوا النفس والنفيس في حفظ كيانها، وتأييد سلطانها، والفرصة

الآن سانحة فينبغي اغتنامها، وما ذاك إلا بمساعدة أهل طرابلس العثمانيين على

حفظ أنفسهم وبلادهم وبقائهم عثمانيين مثلنا، متصلين في ظل هذه الجامعة بنا،

وأخص غير المسلمين من العثمانيين بتأييد هذه الجامعة، واغتنام هذه الفرصة

السانحة، فإنهم بذاك يوثقون عُرى الاتحاد بينهم وبين إخوانهم في الوطن والعثمانية

توثيقًا لا تجهل فائدته.

أين العقلاء الأذكياء من نصارى السوريين والقبط ومن اليهود؟ أين الذين

يقولون منهم: إننا نود أن نجعل الرابطة الوطنية أو السياسية أقوى في أمور الدنيا

من الرابطة الدينية، ألا يعلمون أن إيجاد هذه الرابطة وتوثيقها وتقويتها من نتائج

الأعمال، لا من نتائج الأقوال، إن كُتاب المقطم والأهرام في مصر وبعض كُتاب

اليهود في جريدتهم (جون ترك) قد أظهروا ميلهم إلى الدولة وضلعهم على إيطالية

فشكرنا لهم ذلك، ولكن لماذا نطق بعض أرباب الأقلام، وسكت أرباب الأموال، فلم

يسمع لهم صوت بكلمة التبرع لإعانة الحرب يذكر، ولا لمساعدة جمعية الهلال

الأحمر.

قال بعض غلاة التعصب الديني من السوريين: إن النصارى لا يدفعون إعانة

في حرب سماها بعض كتاب المصريين جهادًا دينيًّا مع دولة مسيحية، ولست أرى

هذا عذرًا صحيحًا لمن لم يصل إلى درجة الشيخ يوسف الخازن صاحب جريدة

الأخبار في بغض المسلمين والتعصب عليهم، وإغراء الإفرنج بهم، فإن دفاع أهل

طرابلس الغرب عن أنفسهم يسمى في اللغة العربية وفي اصطلاح الشرع جهادًا

يوجبه الدين. فإذا كنتم لا تساعدون أهل طرابلس في مصابهم إلا إذا غيرنا وضع

اللغة وعرف الشرع فما أنتم بمساعدين؛ لأن هذا التغيير ليس في استطاعة أحد من

العالمين، على أن إعانة جمعية الهلال الأحمر ليست إعانة لمسلمي طرابلس على

مدافعة نصارى إيطالية، بل هي إنقاذ كل من يمكن إنقاذه من الجرحى والمصابين

بنكبات هذه الحرب ولو كان إيطاليا باغيًا، ولكنها باسم العثمانية وتحت هلال علمها

فما بالكم تقبضون أيديكم عنها.

إن نصارى السوريين المقيمين بمصر وأمريكة هم أرقى السوريين علمًا وأدبًا

وأكثرهم فضة وذهبًا، وأوسعهم مروءة وكرمًا، وأشدهم نجدة وشممًا، وإني

لأنتظر منهم البرهان الناصع على تأييد الجامعة العثمانية، وتوثيق الرابطة الوطنية،

بل سمعت هنا حسيس همساتهم، وخفي مناجاتهم، يأتمرون بينهم، ويتحفزون

للمكرمة اللائقة بهم، وكأني بها وقد ظهرت في مصر، وإن ظهورها في أمريكة

لأدل على الفضل والنبل.

جامعة اللغة العربية

الإنسان حيوان ناطق، فالنطق أظهر مقوماته التي بها امتاز على سائر أنواع

الحيوان، وارتقى في مدارج العلم والعرفان، وإن صُحبتك لمن لا تعرف لغته لا

تبعد عن صحبة الحيوان الأعجم، فأنس الإنسانية والاستفادة من مزاياها بالتعاون لا

يتم إلا بالكلام فلهذا كانت اللغة أقوى الروابط بين البشر في المصالح والمنافع

والترقي الصوري والمعنوي.

رابطة اللغة تشبه نعمة الهواء والماء في كونها لا يشعر المرء بقيمتها ومنفعتها

في حال التمتع بها، ولا أقول لك تصور فضلها، بتخيل فقدها، بل أقول لك:

تخيل أنك هبطت بلدًا لا تعرف لغة أهله، وأحاطت بك الحيرة من كل جانب في

كل معاملة تعاملهم بها، ثم ظفرت فيه بمن يعرف لغتك، ماذا يكون قدر سرورك

واغتباطك به وحنينك إليه، واستفادتك منه، ولاسيما إذا كان من أهلها غير دعيٍّ

فيها؟

إن أهل طرابلس الغرب، لهم على أهل البلاد التي تحيط بهم من الشرق

والغرب حق جامعة اللغة التي يبذل الأوربيون الملايين لنشرها في جميع بقاع

الأرض، وما هي هذه اللغة التي يشاركنا فيها أهل طرابلس؟ ومن هم أهلها؟ وما

أشهر صفاتهم؟ تلك اللغة هي اللغة العربية الشريفة، وأهلها هم العرب الكرام الذين

اشتهروا في العالم كله بالسخاء والكرم، حتى صار السخاء العربي والكرم العربي

مما يضرب به المثل، وقد كان من سخاء بعض أجوادنا أن أعطى سيفه لخصمه في

الحرب إذ طلبه منه، واختار تعريض نفسه للقتل، على الإمساك والبخل، ومنا من

قيل فيه بحق:

فلو لم يكن في كفه غير نفسه

لجاد بها فليتقِ الله سائله

فهل يليق بأمة هذا شأنها في الجود والسخاء، أن يرى أغنياؤها المدافع تحصد

إخوانهم، وتهدم بنيانهم، والجوع يغتال أطفالهم ونسوانهم، ولا يواسونهم ببعض ما

أنعم الله عليهم من الرزق الواسع، والمال الكثير؟

الجامعة الخامسة جامعة الجوار

للجوار حقوق كحقوق القرابة قضت بها الفطرة البشرية، وأيدتها الشريعة

الإلهية، فمن شأن الجار أن يشعر بكل ما يشعر به جاره ويشاركه فيما يسر منه وما

يسوء، فإذا فرح أطربه صوت غنائه، وإذا حزن أحزنه نشيج بكائه، وإن وقع

الحريق في داره، أصابه شواظ من ناره، وقد أوصى الله بالجار في كتابه، وفي

حديث الصحيحين والسنن (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه

سيورثه) .

ألا وإن جوار الشعوب والبلاد، كجوار البيوت والأفراد، وإننا نرى الدول

الطامعة قد تواطأت على إعطاء الجار القوي حق سلب جاره الضعيف، فكانت

إنكلترة والروسية، هما السالبتين لاستقلال الدولة الإيرانية، وفرنسة وأسبانية هما

السالبتين لاستقلال الحكومة المراكشية.

ألا وإن لطرابلس الغرب حق الجوار على مصر وتونس، ومصر أقدر على

إعانتها من تونس؛ لأنها أوسع ثروة وحرية، ومن مصلحتها السياسية أن لا تستقر

قدم إيطالية الغادرة في أرض جارتها وأختها طرابلس؛ لأن الإيطاليين جيران سوء،

وأصحاب بغي وغدر، فإذا قُدِّر لمصر أن تخرج من سيطرة الإنكليز لا تأمن على

نفسها والإيطاليون في طرابلس من اعتدائهم عليها بمحض البغي والعدوان، ودعوى

أنها أحق بها لمصلحة الجوار.

الجامعة السادسة الجامعة الدينية

الدين هو صاحب السلطان الأعلى على الأرواح، والحاكم المتصرف في

العزائم والإرادات، ورابطته أقوى الروابط وجامعته أعم الجامعات، فالمسلم الهندي

الذي لا تجمعه بالمسلم العثماني جامعة نسب، ولا لغة ولا وطن، ولا منفعة مادية

أو سياسية، يغار عليه ويألم لألمه ويحزن لمصابه، ما لا يغار ويألم المشارك له

فيما عدا الدين من الجامعات، فلا عتب إذًا على المسلم إذا فضَّل أخاه البعيد في

الإسلام على أخيه القريب في الوطن أو اللغة أو الجنسية السياسية، وهو يراه أشد

حبًّا له وحدبًا وعطفًا وحنانًا عليه من هذا الأخ القريب ولكن تفضيل ذاك لا يقتضي

التقصير في حق هذا.

روى أحمد ومسلم في صحيحه عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه

وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى

له عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) وفي حديث الصحيحين عن أبي

موسى الأشعري (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) وهذان الحديثان

وأمثالهما تفسير لقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:10)

وقوله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) .

غلب على المسلمين الجهل بدينهم وترك جماهيرهم هدايته، ومزق نسيج

اتحادهم ما كان من اختلافهم في المذاهب: هذا شيعي يعادي سُنيًّا، وهذا أشعري

يعيب حنبليًّا، وهذا جَهمي يكفر وَهَابيًّا، (واحكم على العكس بحكم الطرد) ثم

مزقته أهواء السياسة ونزغات التفرنج، بما أحدثت بينهم في هذه الأزمان، من

التفرق في الأجناس والأوطان، ومع هذا كله نرى بصيصًا من ذلك النور الإلهي لا

يزال يلوح بين أفئدتهم مُشرقًا من أفق الكتاب العزيز والسنة النبوية، عندما تُصَبّ

عليهم المصائب، وتنتابهم النوائب، فبنوره يبصرون، وبحرارته يتعاطفون، فبينا

ترى التركي يحتقر العربي ويحاربه، والآخر تارة يعاتبه وأخرى يواثبه، إذا بهما

بعد هُنيهة متحدان يفدي أحدهما شرف الآخر وحقه بدمه وماله. بالأمس كانت

الدماء تتفجر من سيوف الترك والعرب في اليمن، واليوم نسمع عرب اليمن ونجد

ينادي زيديهم وشافعيهم ووهابيهم الأستانة: إننا مستعدون لبذل أنفسنا في سبيل حفظ

سيادتك على إخواننا عرب طرابلس الغرب.

إن جميع الأمم والملل لتعجب من قوة هذه الرابطة الإسلامية على ما وصل

إليه المسلمون من التقاطع والجهل، وإن أعداء الإسلام دائبون في اتخاذ الوسائل

لنكث فتلها، ونقض غزلها، ولهم من ملاحدة المسلمين أعوان على ذلك ربّوهم على

كراهة هذه الرابطة الشريفة، وأقنعوهم بوجوب استبدال الرابطة الجنسية أو

الوطنية بها، فهم يعملون لأعدائهم ولا يشعرون.

بهذه الرابطة المقدسة نرى المسلمين يبسطون أيديهم لمساعدة إخوانهم في

طرابلس على الدفاع عن أنفسهم، لا يمتنع منهم عن المساعدة إلا العاجز منها لفقره

أو جهله بطريقها، أو منع حكومته له منها، وبهذه الرابطة نعلم الجاهل، وننبه

الغافل، بل لا ينبهنا إلا المصائب، ولا يعلمنا إلا النوائب، فهي التي ستعيد إلى

الجامعة الدينية قوتها، حتى تصدر عنها آثارها اللائقة بها، وما هي إلا العدل

والفضل، والمدنية المطهرة من أدران البغي والغدر، واستباحة الفجور والفسق.

كل جامعة من تلك الجامعات الست كافية لبسط اليد في إعانة أولئك المنكوبين

المظلومين، فكيف إذا اجتمعت كلها وتحققت في مثل مسلمي مصر؟ أفلا يكون

الذي يبخل منهم جانيًاعلى تلك الجامعات كلها: الإنسانية والشرقية والعثمانية

والجوارية واللغوية والإسلامية؟ بلى. فيا أيها المسلمون -وأخص مسلمي مصر

بالذكر- أنتم أهل النجدة، وأجدر الناس بتفريج هذه الشدة، اعلموا أن لله عليكم فيما

أوجبه من زكاة أموالكم سهمًا للمجاهدين في سبيل الله وهي سبيل الحق والعدل.

وأفضل الجهاد الدفاع عن النفس والوطن، ومقاومة البغي والعدوان، وهو ما وجب

على إخوانكم وجيرانكم من أهل طرابلس. فأعينوهم يعنكم الله ويغفر لكم ذنوبكم.

أيها المسلمون إن دينكم يوجب عليكم إغاثة المضطر، ولو كان كافرًا غير

محارب لكم، بل يوجب عليكم إغاثة الحيوانات المضطرة إلى القوت، وكل ما

يقيها الهلاك، وقال نبيكم صلى الله عليه وسلم:(في كل ذات كبد حرى أجر)

رواه أحمد وابن ماجة بسند صحيح، فما بالكم إذا كان المضطر من إخوانكم

وجيرانكم كأهالي طرابلس الغرب، الذين قطعت إيطالية عنهم جميع موارد الرزق،

{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ

نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا

اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ

المُفْلِحُونَ} (التغابن: 16) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هكذا ضبطها العرب أيام استعمارهم لها، ومن ذلك قول شاعرهم فيها: من ذا يمسيني على مسيني ويقولون الآن: مسينا تبعًا للإفرنج.

ص: 40

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌خاتمة المقالات.. شجون ومحاورات

(10)

لكل شيء مادح وقادح، ولكل كلام مقرظ ومنتقد، ولقد رأيت أن أختم هذا

المقال بشكر الراضين عن مقالات المسألة الشرقية، والاعتذار عما اقترحوا،

وتفصيل القول في نقد الناقدين والعفو عما اجترحوا.

رأيت أكثر من عرفت راضين عن هذه المقالات ناقلين أحاديث الرضاء بل

الإطراء عن غيرهم، معتقدين أنها مثلت الحقيقة، وبينت الطريقة، واقترح

بعضهم ترجمتها ونشرها ببعض اللغات الأوروبية، وبعضهم طبعها على حدتها

باللغة العربية، شافهنا بذلك كثيرون، وكاتبنا به قليلون، فنشكر لهم ذلك ونعتذر

عن طبعها على حدتها، ولكننا ننشرها في مجلتنا (المنار) وعن ترجمتها ولكننا

نأذن بالترجمة وطبعها بغير العربية لمن شاء ذلك.

أما الساخطون فهم أعداء الدولة والملة، وأنصار إيطالية الباغية، وأما

المنتقدون فمنهم المخلص في انتقاده، المستقل في رأيه مع احترام رأي غيره،

ومنهم غير ذلك، وقد كانت تظهر أمارات وعبارات السخط من بعض الجرائد

الإفرنجية وجريدة (الأخبار) العربية، وكتب إلينا رئيس جمعية قبطية (بأبي

حنظل ومصر والإسكندرية) كتابًا قال فيه: (خط يراعك كلمة شلت يد كاتبها

الذي يصف قومًا أعزاء كرماء وصفوا بالصلاح والتقوى والإنسانية (لا التوحش

كما تقول) وحب الخير (يعني الإيطاليين) بأنهم متوحشون وإنك تعلم أيها

الفيلسوف الكبير أنه لا يقدر على الحكم على قوم إلا من كان منهم (؟) وإن تكن

إساءة الدخيل الذي أوجدناه من العدم (؟) وفتحنا له صدورنا ورفعنا له اسمًا ومنارًا لا

تحتمل [1] ! ! ثم قال الكاتب: إنه يعفو عن ذنبي هذا الذي أسأت به إلى

المصريين (بزعمه) وأنا دخيل فيهم. هذا ملخص ما كتبه. والعقلاء المنصفون

يعرفون أينا أحق بالعفو عن إساءته إلى الآخر، وقد ظهر بعد أن أشرنا إلى وحشية

الإيطاليين بزمن غير بعيد أن الجرائد في جميع الممالك الأوروبية والأمريكية وافقتنا

على قولنا وأيدته بروايات مراسليها في طرابلس الغرب، وبتصويرها لعدوانهم

الوحشي على النساء والأطفال والشيوخ وتقتيلهم والتمثيل بهم. وإنني قد عفوت

عن ذلك الساخط الساخر الساب الشاتم، بعد أن ظهر أنني على الحق وهو على

الباطل.

وبعد هذا وذاك أذكر جميع ما بلغني من الانتقاد في محاورة مع منتقد وهو من

عدة مصادر وأجيب عنه: قال لي صديق لا أرتاب في إخلاصه: إنك قد اشتهرت في

الاعتدال فيما تكتب وأراك قد بالغت في هذه المقالات - أو قال تطرفت - حتى

شايعت العلم والمؤيد في ذكر الجهاد والحرب الدينية وأنحيت باللائمة على أوربة

كلها، وهذه السياسة ضارة بنا.

فقلت له: إن صورة البغي المنكرة التي فاجأتنا بها إيطالية قد كانت صاخَّةً

أصمت المسامع، وقارعةً صدعت القلوب، وإن ما تضمنته من مخالفة حقوق

الدول وإبطال العهود الضامنة لسلامة دولتنا، وما أجابت به الدول الكبرى حكومتنا

حين راجعتها في ذلك من أنها على الحياد، لا تعارض إيطالية في نسخ القانون الدولي

وإبطال المعاهدات، كل من هذا الجواب، وذلك العدوان الصريح قد دلنا وأشعرنا بأننا

مهددون بزوال دولتنا، وذهاب ما بقي من ملكنا، وبأن القوم قد أنفقوا

على حل المسألة الشرقية حلاًّ سريعًا حالاً إذا لم يروا فينا من الحياة ولوازمها ما

يقتضي التلبث في ذلك والرجوع عنه، فقل لي بحقك ماذا يخاف الذي أنذر بزواله

من الوجود إذا هو دافع عن نفسه بكل ما يستطيع؟ أليس كل ما دون الزوال أسهل

منه؟ ألم يصدق علينا في هذه الحال، قول شاعرنا الذي سار مسير الأمثال (أنا

الغريق فما خوفي من البلل) ؟ بلى إنني بتأثير هذه القارعة التي ظهر أن أوربة متفقة

عليها أردت أن أبين لأوربة نفسها ولجميع العثمانيين والمسلمين أننا نعتقد أن أوربة

كلها تكون خصمًا لنا إذا ساعدت إيطالية علينا، ومكنتها من كل ما تريده من البغي

والعدوان على بلادنا.

كتبت هذا معتقدًا أن تذكير المسلمين في جميع بقاع الأرض بما أوجبه الإسلام

في مثل هذه الحال، وظهور أثر هذا التذكير فيهم - هو أرجى ما ترجو من أسباب

حذر أوروبة من مساعدة إيطالية على كل ما تريد من بغيها، واستمالة الدول الذي

بهما إرضاء المسلمين وحسن اعتقادهم فيها، وأولاهن بذلك إنكلترة ثم فرنسة

وروسية المتفقتان معها في السياسة والمصلحة، وكل واحدة من هذه الدول الثلاث

مستولية على عشرات الملايين من المسلمين. وقد صرحت بمقصدي هذا في

المقالات الأولى، ولم أقطع الأمل من مساعدة كل الدول.

قال صديقي المنتقد: إن المسلمين الرازحين تحت سيطرة هذه الدول كلهم

ضعفاء بالجهل والتفرق، فالدول إذا أرادت إنفاذ هذا الأمر (حل المسألة الشرقية)

لا تبالي رضاهم ولا سخطهم، إذ لا يستطيعون أن يعملوا شيئًا، قلت: إني لا أرى

هذا الرأي بل إنها تبالي وتهتم أشد الاهتمام برضاهم، وتحسب ألف حساب

لسخطهم، إذا كان سببه اعتقادهم أنها تريد إزالة دولة الخلافة وإبطال حكم الإسلام

من الأرض.

إن رأيك هذا يشبه رأي لطفي بك السيد مدير (الجريدة) إذ قال: إن إظهار

مسلمي مصر لعواطف الميل إلى الدولة العلية وإعانة أهل طرابلس على حرب

عدوهم ينافي مصلحة مصر، فهو من ترجيح سياسة العواطف على سياسة المنافع،

التي تتبعها كل العقلاء من أمم المدنية ودولها، وأنا أرى أن العواطف والمنافع متفقة

في هذه الحال فإذا جرى جميع المسلمين على ما طالب لطفي بك به المصريين،

وعلمت دول أوروبة أن تقسيم بلاد الدولة العثمانية بينهن لا يهيج لمسلم عاطفة، بل

يرى كل شعب منهم أن رضاه بزوال هذه الدولة عين المنفعة له والمصلحة، فإنها

لا تتلبث بقسمة هذه البلاد إلا ريثما تتفق على توزيع الحصص، وليت شعري ما

هي المنفعة التي تنالها مصر من هذا التقسيم، وخرت سقوفها على أهلها، وأتاهم

العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وعن أيمانهم وشمائلهم.

قال المنتقد: أما ينبغي أن نخاف أن تشدد أوروبة وطأتها على المسلمين، إذا

هم أظهروا العطف على الدولة بباعث الدين؟ قلت: إنني لا أرى هذا الخوف في

محله، ولو فعلت أوروبة ذلك لكان أنفع للمسلمين، فإنه لا شيء يربي الأمم ويجمع

كلمتها مثل الضغط عليها في وقت تهيج شعورها، ومصادرتها فيما يتعلق باعتقادها،

على أن كل بلاء يمكن أن يحل بالمسلمين في مثل هذه الحال يجب أن يحتمل في

سبيل الدفاع عن كيان الدولة كما فهمت من جوابي السابق - الخوف من الذل مجلبة

للذل، وإنما السلامة في الشجاعة لا في الجبن، ولكن.

يرى الجبناء أن الجبن حزم

وتلك خديعة الطبع اللئيم

وأقول الآن إن ما جرينا عليه، ووجهنا النفوس إليه، من كون عدوان إيطالية

يعد طرقًا لباب المسالة الشرقية، قد ذكر بعد ذلك في كثير من الصحف الشرقية

والغربية. وإن ما ارتأيناه من تحريك شعور المسلمين لاتقاء الخطر به قد وافقنا فيه

العارفون بالسياسة من المسلمين المقيمين الآن في عواصم أوربة ومسلمي الهند

وتونس وغيرهم، وأشهر هؤلاء القاضي أمير علي الشهير. وكان من مسلمي

الهند ورأس الرجاء الصالح أن عقدوا الاجتماعات الكثيرة لإظهار استيائهم

وتألمهم لحكومتهم ومطالبتها بالسعي إلى منع هذه الحرب الجائرة ومساعدة الدولة

العلية.

وكان من تأثير ذلك أن إنكلترة لم تضغط على مسلمي مصر، وفرنسة لم

تضغط على مسلمي تونس والجزائر، ولم تمنعهم هذه ولا تلك من جمع الإعانات

لإخوانهم مسلمي طرابلس حتى إن جرائد إيطالية قد رفعت عقيرتها بالشكوى من

هاتين الدولتين وطالبتهما بالتشدد في منع إنجاد طرابلس وبنغازي من تونس

ومصر [1] .

بل كان من تأثير ذلك ما هو أعظم مما ذكرنا وهو ظهور مبادئ الاتفاق بين

دولتنا وإنكلترة بإرسال سلطاننا أكبر أنجاله ضياء الدين أفندي لتحية ملك وملكة

الإنكليز في سفينتهما التي تحملهما إلى الهند عند وصولهما إلى ثغر بورسعيد

ذاهبين على الهند بقصد الاحتفال في عاصمتها القديمة دهلي بنصب الملك

إمبراطورًا على الهند. وكان لقاء وفد نجل سلطاننا لملك الإنكليز مع أميرنا خديو

مصر بالغًا منتهى الوداد اللائق بالزائر والمزور وجواب الملك عن كتاب السلطان

وخطبته في مقابلة خطبة نجله، وإهداؤه الوسام الخاص بأسرة الملك إلى هذا النجل

السعيد بعد الزيارة - كل ذلك قد بشرنا بقرب تحقق ما أشرنا به من استمالة دول

الاتفاق الثلاثي إلينا وفي مقدمتهم إنكلترة [2] وهذا ما صرحنا به في أوائل هذه

المقالات منذ شهرين كاملين.

وجملة القول أننا رأينا العدوان من إيطالية إحدى دعائم التحالف الثلاثي،

ورأينا دول التواد الثلاثي قد سكتن لها، ولم يجبن نداءنا وطلبنا المحافظة على

القوانين والمعاهدات الدولية، فصحنا من شدة الألم أن أوروبة كلها متفقة علينا،

واستصرخنا الشعور الإسلامي وذكرناه بالخطر على ما بقي للإسلام من السلطة،

لنستعين بذلك على استمالة إنكلترة ووديدتيها إلى مساعدتنا، ودفع الخطر الأكبر عنا،

ولما قيل لنا: إن الدول حصرت الحرب في طرابلس الغرب ورأينا مبادئ الرجاء

في إنكلترة وغيرها تومض أمامنا، سكتنا عن الشكوى من أوروبة كلها، ولم نشرح

ما كنا عزمنا على شرحه.

قال المنتقد: إنك صبغت المسألة الشرقية بصبغة الدين فجعلتها

كالحروب الصليبية كما تقول جريدة العلم المتطرفة المغالية وهي مسألة سياسية كان

ينبغي أن تستصرخ فيها العثمانيين خاصة، فاتفاق المعتدلين بتلك مع المتطرفين على

صبغ هذه الحرب بصبغة الدين قد أخاف نصارى بلادنا أن يتضمن ذلك التحريض

عليهم والإيقاع بهم، فيجب الإقلاع عن تسمية هذه الحرب بالجهاد

وجعلها دينية فإنها ليست إلا سياسية.

قلت: إنني قلما أقرأ جريدة العلم وقلما أراها فأنا لا أدري ما هو حكمها في

هذه المسألة وأرى أننا إذا جعلنا حربنا لإيطالية دينية فذلك خير لإيطالية ولجميع

البشر لا لنصارى بلادنا فقط، وليت إيطالية نفسها تتبع أحكام الإسلام في الجهاد

فإن القاعدة الأساسية عندنا في ذلك هي قوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ

يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) فلا يجوز لنا أن

نقاتل غير المعتدي علينا.

والمعتدي هو المحارب لا جميع أهل جنسه فلا يجوز لنا أن نقاتل من

الإيطاليين أنفسهم من لا يقاتلون كالرهبان والنساء والشيوخ والولدان. وإيطالية لا

تبقي على أحد من هؤلاء ولا تذر إلا من تعجز عن الوصول إليه، وأما الحرب

الدينية والجهاد الذي معناه أن يقاتل إنسان كل من يخالفه في الدين وإن كان ذميًّا أو

معاهدًا أو مستأمنًا فهذا معنى بثته أوروبة في الشرق بحروبها الصليبية ولم يقل أحد

من المسلمين به، ولو تجردنا من أحكام الدين لاستبحنا في هذه الحرب كل ما نقدر

عليه من إيذاء خصمنا والإسلام لا يبيح لنا كل ذلك.

قال المنتقد: إن النصارى لا يفهمون الجهاد الديني في الإسلام بمعناه الشرعي

الذي تعنيه بل يفهمون عنه ما هو مشهور عندهم وكثير من عوام المسلمين يفهمون

منه مثل فهمهم فيجب أن لا يذكر الدين والإسلام في الكلام عن هذه الحرب لأجل

ذلك.

قلت: إنني بينت حكم الإسلام وأنه لا يجيز لنا أن نقاتل في هذه الحرب غير

العسكر الإيطالي وسأزيد ذلك بيانًا في مقالة خاصة (وكان هذا قبل كتابة مقالة

الجهاد في الإسلام في الشهر الماضي) ومهما قال المسلم منا فهو لا يمكن أن

يرضي بعض المتعصبين منهم، الذين يحسبون كل صيحة عليهم، أو يدَّعون ذلك

لتحريض أوروبة علينا كصاحب جريدة (الأخبار) ، ولو شئت لنقلت من كلام

نصارى الشرق والغرب ما صرحوا به من كون المسألة الشرقية مسألة دينية كقول

أمين شميل (شقيق صديقنا الدكتور شميل) في كتابه الوافي: إن هذه المسألة ولدت

بولادة نبي الإسلام، وترعرعت من ابتداء ترعرع ملك خلفائه إلى الآن. وعندي

نُقول كثيرة عن الأوروبيين في ذلك لا أحب الآن أن أنشرها، ونسأل الله أن يكفينا

شرها.

لا يسع أحدًا أن ينكر أن المراد من هذه المسألة أن لا يبقى للمسلمين ملك على

وجه الأرض، فإذا فرضنا أن هذا لا يضر الإسلام في عباداته، فهل يقول عاقل

مسلم أو غير مسلم: إنه لا يبطل سلطته وأحكامه القضائية والسياسية؟ كلا إن هذا

هو الذي نعنيه بكون المسألة الشرقية عداوة للإسلام وأهله، فحسب أوربة ما

سلبت من ملكه، ونقصت من أرضه، ولتترك لنا هذه البقية القليلة، فإن أبت إلا

الاعتداء عليها، وجب أن نبين لها أننا عارفون مستيقظون، وأن لا تلومنا هي على

ما نفعل للمحافظة على هذا الذماء، فهل يصح أن نلوم نحن أنفسنا، ونتخاذل في

المحافظة على رمقنا؟

ولا يمنعنا السعي لذلك أن نستصرخ سائر الشعوب الشرقية ونتعاون معها سرًّا

أو جهرًا على هذا الدفاع الشريف، فكلما اعتُدي على قطر إسلامي تحرك شعور

المسلمين باسم الإسلام، وتحرك شعور غيرهم من الشرقيين باسم الشرق، ونحب

أن تكفينا أوروبة مؤنة ذلك بمنع بعضها بعضاً عن الإجهاز على الدولة العثمانية

والدولة الإيرانية، وإطلاق حرية الدين والعلم والاجتماع في البلاد الإسلامية التي

أدخلتها في حمايتها كمراكش وتونس وزنجبار وفي البلاد التي ضمتها إلى

مستعمراتها كالجزائر وجاوه.

إننا الآن بين الخوف من أوروبة والرجاء فيها، والرجاء في إنكلترة أقوى كما

بينت ذلك في المقالات السابقة، ومن أسباب قوة الرجاء فيها ما ظهر من التواد بين

المسلمين والوثنيين في الهند منذ ظهر عدوان إيطالية بعد اشتداد العداوة بينهم في

السنين الأخيرة لمخالفة المسلمين الهندوس فيما يقاومون به الحكومة الإنكليزية وإنني

أورد في هذا المقام جملة من كتاب خاص كتبه إليّ سائح من حيدرآباد الدكن بعد ما

ساح في كثير من تلك الممالك. قال: (أفيدكم أن الهند كلها بقضها وقضيضها،

مسلميها على اختلاف نحلهم، وكفارها على تشعب مللهم، لا أستثني غير

الأوروبيين وميتي الشعور من همج الهمج وأشباههم، قد تغيظوا وتحمسوا أشد

الغيظ والتحمس لما صار من إيطالية في الترك، وقد عقدت المؤتمرات العديدة

وأرسلت الاحتجاجات ولا حديث للقوم إلا في هذه المسألة، وهم لا يفهمون منها إلا

أنها عداء من أوروبة لآسيا، وظلم من القوي للضعيف، ودرس في التعصب

يجب على الشرقي حفظه في سويداء قلبه لا خلاف في ذلك بين مسلم وبين برهمي أو

مجوسي أو وثني، حتى لقد أنسى القوم ما بينهم من الإحن والحزازات.

وتتجلى هذه المظاهر بأتم وضوح في البلاد التي تحكمها الإنكليز مباشرةً،

وهي أقل ظهورًا فيما تحكمه مهراجات الهندوس، وهي أقل في الممالك المحكومة

بأمراء (نواب) مسلمين، ولعل السبب في هذا هو خوف هؤلاء من غول التعصب

الذي يقذفهم به الأجانب عند كل صغيرة وكبيرة.

ولو كان المنار صحيفة إخبارية لأطلت النفس وشرحت له الأخبار. ثم إن ما

صار وظهر في جميع أقطار الهند من هذه الحركة المباركة لما أفزع رجال الإنكليز

وحسبوا له ألف حساب، وإذا لم ترضهم الإنكليز بأفعالها -؛ لأن دور الإرضاء

بالأقوال قد ذهب - لتندمن حيث لا ينفع الندم، وستكون بعملها إذ ذاك جامعة لكفار

الهند ومسلميها، وفي ذلك من الضرر عليها ما تعرفه هي أكثر من غيرها ولا

يرضاه لها محبوها ومحبو الإنسانية، سيما مع قرب موعد الدربار (الاحتفال

بإلباس الملك تاج إمبراطورية الهند، وفي العبارة ما يدل على ميل الكاتب على

إنكلترة) .

نعم إن رجال ساستها يزعمون أن اتفاق المسلمين مع الهندوس مضر

بالمسلمين؛ لأنهم الآن نحو مائة مليون نفس فقط (أي بحسب إحصاء هذا العام

الذي لما يعلن رسميًّا) مع أن الهندوس أكثر من ضِعفيهم، ولكن هل درى سادتنا

الساسة أن المسلمين قد حكموا الهندوس في وقت لم يكونوا فيه إلا نحو خمسة في

المائة؟ ثم زاد الآن عدد المسلمين مع مغلوبيتهم كما تضاعف عددهم بالصين كذلك،

فلهذا لا يعلّق المسلمون كبير أهمية على نحو هذا، وإنهم لكما كانوا شجاعة وشدة،

وأكثر مما كانوا علمًا وحبًّا للإسلام واستماتة في نصره (وما راءٍ كمن سمع) .

إن أهل الهند لم يروا من آثار الترك سوى الطرابيش المجلوبة من النمسا ولو

كان للترك في الهند مدارس عالية كما لأكثر الدول في سائر القارات لكان نفوذ

الدولة هناك مما ترجف له أعصاب أعدائها، وإني أنصح للدولة بأن لا تبقي جهدًا

في فتح مدارس دينية علمية في جميع الأقطار التي خضعت لنير الأجنبي وبها

مسلمون وإن ضعفت ماليتها وكلفها هذا الاقتراح ما كلفها، فلابد دون الشهد من إبر

النحل) اهـ.

هذا ما كتبه إلينا السائح الذكي الذي نعلم من سياسته الميل إلى اتفاق مسلمي

الهند مع حكومتهم دون الاتفاق مع أهل وطنهم عليها، ولكنه مسلم قبل كل شيء

ولو كره المتفرنجون المفتونون بالجنسية، أما اقتراحه على الدولة فما هو بالذي

يسمع ولا الدولة بقادرة عليه لا لقلة المال، بل لعدم الرجال، وأقرب منه أن تنشئ

الدولة هذه المدارس العالية في الحرمين الشريفين أو تسمح للقادرين على إنشائها من

المسلمين بذلك من أموالهم، ويكون لها الغنم، وعليهم الجهد والغرم.

(النتيجة العامة) إن مقالاتنا في المسألة الشرقية لم نقصد بها إلا ما ذكرنا

من دفع الخطر عن دولتنا وأمتنا، وقد دعونا فيها غير المسلمين من أهل مملكتنا

لمشاركتنا في هذا الدفاع عن الدولة من حيث الجامعة العثمانية، كما دعونا فيها

المسلمين إلى مشاركتنا من حيث الجامعة الإسلامية، والشرقيين إلى مساعدتنا من

حيث الجامعة الشرقية، وإن غير المسلمين من العثمانيين لم يكونوا أشد غيرة وحدبًا

علينا من وثنيي الهند، ومع هذا كله لا ندعو إلا إلى تقوية الرابطة بهم، وحفظ

الحقوق الوطنية بيننا وبينهم، ونحن مع من يساعدنا من الأوربيين، ولا ينكر علينا

أحد أننا نشكر للمحسن إحسانه، ونعرف لصاحب الجميل جميله ولا ننكره، بدليل

توددنا إلى إنكلترة مع جفوتها لنا زمنًا طويلاً، ونجعل ذنب هذه الجفوة على سلطاننا

السابق بتودده إلى خصيمتها ألمانيا. فهذه هي سياستنا فمن أنكر علينا منها شيئًا

فليبده لنجيب عنه بالإنصاف وقواعد العقل، والسلام على من اتبع الهدى، ورجح

العقل على الهوى.

...

...

...

20 ذي الحجة سنة 1329

(المنار)

بعد أن نشرنا هذه المقالة في المؤيد تذكرنا أن جريدة معروفة بالتعصب على

المسلمين حتى لإيطالية في عدوانها وبغيها قد أنكرت علينا كلمتين من تلك المقالات،

ولما كنا نتحرى الأدب والحق في كلامنا وأن لا يوجد فيه ما ينكره الخصم وإن

نظر إليه بعين السخط كتبنا الاستدراك الآتى:

استدراك في الانتقاد على مقالات المسألة الشرقية

إنني أتحامى بطبعي وسجيتي كل ما تأباه مصلحة الارتباط بيننا وبين أهل

الملل التي تشاركنا في وطننا، وكل ما لا يرضاه الذوق والأدب في التعبير عن

الحقائق التي أعتقدها، وإن من القوم من ينظر في كلام كل كاتب مسلم بعين السخط

من وراء نظارة مكبرة، ولم يصل إليَّ من الانتقاد على هذه المقالات الطويلة إلا

إنكار بعض هؤلاء الذين يجعلون الحبة قبة ، عبارتين اثنتين أذكرهما وأجيب عنهما.

إحداهما: نقلي لقول الفقهاء الذي أتوقع أن يبلغه شيوخ السنوسية للناس

حيث الحرب تشتعل نيرانها، وهو أن الكفار إذا دخلوا دار الإسلام فاتحين وجب

على كل مسلم فيها مدافعتهم.

قال الساخط: إنني عبرت عن الإيطاليين بالكفار وهم أهل كتاب وعدّ هذا

إهانة لجميع المشاركين لهم في دينهم.

وإنني أجيب عن هذا: بأنني نشرت في الأعداد الأولى من السنة الأولى

للمنار نبذًا متسلسلة في بيان اصطلاحات كتاب العصر بينت في الأولى منها وهي

في العدد الأول أن لفظ الكفر قد أطلق في الشرع على ما يقابل الإيمان والإسلام ولم

يرد بهذا الإطلاق الإهانة ولا السب والشتم؛ لأن اللفظ لا يدل في اللغة على شيء

قبيح ولا معيب فإن معناه العام هو الستر والتغطية، ولذلك سمي الليل كافرًا والبحر

كافرًا، وأطلق في القرآن الكريم لفظ الكفار على الزراع؛ لأنهم يكفرون الحَبّ

بالتراب أي يسترونه، وذلك قوله تعالى {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ} (الحديد: 20) ثم بينت بعد ذلك أن هذا اللفظ صار في عرف أهل هذا العصر

مرادفًا للإلحاد والتعطيل وصار يعد من ألفاظ السب والإهانة، وأفتيت بحرمة

إطلاقه في التخاطب على من حرم الإسلام إيذاءهم كالذميين والمعاهدين، ونقلت

مثل هذا الإفتاء عن بعض الفقهاء. ولكن هذا لا يمنعنا من ذكر الاصطلاحات

الشرعية في كتبها وعند البحث فيها كما هي، ومن هذا الباب العبارة الفقهية التي

انتقدها الساخط هنا، على أن الحربيين كالإيطاليين لا يجب علينا مجاملتهم في

الخطاب والتعبير عنهم ولا تجنب إيذائهم كما يجب مثل هذا في خطاب الذميين

والمعاهدين.

يشبه هذا الانتقاد إن كان عن جهل بالاصطلاح ما رأيته في بعض جرائد

السوريين في أمريكة من إنكار ذكر الجرائد التركية لفظ الملة والأمور الملية ظنًا من

المنتقد أنهم يعنون بالملة الدين وإنما يعنون به الأمة، وما رأيته في بعضها من

استنكار عزل شيخ الإسلام لبعض النواب ظنًا من الكاتب أن المراد بهم المبعوثون.

والعبارة الثانية هي ذكر البغايا مع الخمارين والمقامرين والتجار والقسوس

ووكلاء الدول في سياق ما أصابنا من ضرر هذه الأصناف في أموالنا وآدابنا

وسياستنا وديننا.

وإنني ترويت في كتابة تلك العبارة خشية أن يكون فيها سوء أدب، وبعد

التروي رأيت مثل هذا في أبلغ الكلام وأنزهه، رأيت ذكر اسم الجلالة الكريم، في

الآيات التي فيها ذكر الشيطان اللعين، وذكر الطيبين والطيبات، مع الخبيثين

والخبيثات، معطوفًا بعضهم على بعض، وقال الشاعر:

ثلاثة تشقى بها الدار

العرس والمأتم والزار

فذكر أولئك الأصناف من قبيل الأشياء المذكورة في البيت، أي أن كل صنف

منها آذانا نوعًا من الإيذاء وإن كان لكل منها مقام في نفسه ليس للآخر، كما أن

العرس ضد المأتم، وإنما ذُكرا معًا؛ لأن في كل منهما ضررًا ماليًّا لما اعتيد فيهما

من الإسراف، وفي الزار أيضًا ضرر مالي وهو مع ذلك معيب مذموم عند أهل

الدين والعقل. فهل يقول أحد: إن الشاعر جعل هذه الثلاثة في مرتبة واحدة من كل

وجه؟ ؟

كلا، إن الذي انتقد تلك العبارة وعابها هو معروف بسوء القصد وتتبع

العثرات واستقراء الزلات في أقوال المسلمين المشهورين وأفعالهم، وهو معهم من

الذين قال فيهم الشاعر:

إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا

شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا

فهو لما لم يجد في مقالات المسألة الشرقية كلمة يستدل بها على ما يرمي به

كل كاتب مسلم يغار على ملته من التعصب وتحقير النصارى والإغراء بهم زعم

أنني أهنتهم بإهانة إيطالية لأنني قلت: إن السنوسية سيقولون للناس: إن دفاع

الكفار وصدهم عن المسلمين إذا دخلوا بلادهم مقاتلين فرض عين، ولأنني ذكرت

وكلاء الدول والقسوس في سياق ذكرت فيه أصحاب الحانات والقمار! ! ولو لم

ينخدع بكلامه بعض القوم ويشر إليه بعض دعاة النصرانية في مقالة له رماني فيها

بالخروج عن الأدب معهم في بعض العبارات، لما كتبت هذه الكلمات في بيان أن

تلك العبارة ليس فيها شيء من سوء الأدب؛ لأن مثلها معهود في أفصح الكلام العربي

وأنزهه. وهب أن فيها شيئًا من ذلك فأنا بريء من القصد إليه وتعمده

لأنني أكرم نفسي وأربأ بها أن تأتي ذلك.

_________

(1)

المنار: لم يشترك القبط في المنار ولم يساعد أحد منهم صاحبه في شيء ولم يسمع من أحد منهم كلمة خير فيه إلا شتم جرائدهم له وهو لم يذكر أحدًا منهم بسوء، فكيف لا يخجل قائلهم من مثل ما قال وهو ما لا يقوله صادق من المسلمين؟ .

(2)

بعد كتابة هذه المقالة شددت الحكومة المصرية بإيعاز الإنكليز في المحافظة على حدود مصر من الشرق والغرب؛ لئلا يتسرب شيء إلى بنغازي مما يسمونه مهربات الحرب، حتى ضايقت التجار والمسافرين، ثم إنها عادت إلى اللين.

(3)

لما يتحقق ذلك ولن يتحقق ما دامت جمعية الاتحاد تتصرف بالدولة.

ص: 48

الكاتب: شبلي النعماني

نقد تاريخ التمدن الإسلامي

الشيخ شبلي النعمانى

(1)

تمهيد للمنار

تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي أفندي زيدان صاحب الهلال مشهور، وقد

سبق لنا تقريظه في المنار ونقد بعض مباحثه، وذكرنا أننا كنا نود لو نجد سعة من

الوقت لمطالعته كله ونقده نقدًا تفصيليًّا. ولما عرضه مؤلفه على نظارة المعارف

المصرية وطلب منها أن تقرره للتدريس في مدارسها عهدت النظارة إلى بعض

أساتذتها بمطالعته وإبداء رأيهم فيه، فلما طالعوه بينوا للنظارة أن فيه غلطًا كثيرًا

وأنه غير جدير بأن يعتمد عليه في التدريس ولا المطالعة، فلأجل هذا لم تقرره

النظارة. وكنت انتقدت الأساتذة الذين طالعوا الكتاب وانتقدوه أنهم لما يكتبوا ما

رأوه فيه من الغلط وبينوه للناس وللمصنف أيضًا لعله يرجع إلى الصواب إذا ظهر

له، فإنه يدعو الكتاب دائمًا على نقد كتبه.

نعم إن بعض من قرأه قد انتقده بمقالات نشرت في جريدة المؤيد وأجاب

المصنف عن بعض ما انتقد عليه واعترف ببعض، وقد ذكرت هذا في المنار.

ويرى بعض الناقدين لهذا التاريخ قولاً وكتابة أن مؤلفه يتعمد التحامل على العرب

وعلى الإسلام نفسه، وكنت إذا سمعت ذلك منهم أعارضهم وأرجح أنه غير متعمد،

وأن السبب في أكثر ما أخطأ به هو عدم فهم بعض المسائل كتفسيره لمسألة القول

بخلق ألفاظ القرآن بأن القرآن غير منزل من عند الله وكخطئه فيما ذكره عن ثروة

المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك مما انتقدناه عليه في المنار،

وإما جعل بعض الوقائع الجزئية قواعد كلية عامة، وهذا معهود في جميع مؤلفاته،

ولكن ظهر لنا مما كتبه بعد ذلك ومن بعض حديثه معنا ومع غيرنا من أصحابه أنه

يكاد يكون من الشعوبية الذين يتحاملون على العرب ويفضلون العجم عليهم وكان

هذا سبب ترجمة هذا الكتاب بالتركية.

وقد انبرى في هذه الأيام الشيخ شبلي النعماني العلامة المصلح الشهير مؤسس

جمعية ندوة العلماء في الهند ومحرر مجلتها إلى الرد على هذا التاريخ، وكتب إلينا

أنه يريد أن يرسل إلينا ما يكتبه ويطبعه من هذا الرد بالتدريج لننشره في المنار،

كلما طبع منه شيئًا في (لكنؤ) أرسله إلى أن يتم، ولما كان الانتقاد من مثل هذا

العالم المؤرخ هو ضالتنا وضالة صديقنا وصديقه المؤلف، بادرنا إلى نشره

معتذرين عما في أوله من شدة الحكم، وودنا لو لم يصرح به وإن أثبته، ولولا أنه

طبعه لحذفناه منه. قال:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه

أجمعين إن الدهر دار العجائب. ومن إحدى عجائبه أن رجلاً من رجال العصر [1]

يؤلف في تاريخ تمدن الإسلام كتابًا يرتكب فيه تحريف الكلم وتمويه الباطل، وقلب

الحكاية، والخيانة في النقل، وتعمد الكذب ما يفوق الحد، ويتجاوز النهاية، وينشر

هذا الكتاب في مصر وهي غرة البلاد، وقبة الإسلام، ومغرس العلوم، ثم يزداد

انتشارًا في العرب والعجم، ومع هذا كله لا يتفطن أحد لدسائسه [2] {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ

عُجَابٌ} (ص: 5) .

لم يكن المرء ليجترئ على مثل هذه الفظيعة في مبتدأ الأمر ولكن تدرج إلى

ذلك شيئًا فشيئًا، فإنه أصدر الجزء الثاني من الكتاب وذكر فيه مثالب العرب دسيسة

يتطلع بها على إحساس الأمة وعواطفها، ولما لم يتنبه لذلك أحد، ولم ينبض لأحد

عرق، ووجد الجو صافيًا، أرخى العنان، وتمادى في الغي، وأسرف في النكاية،

في العرب عمومًا وخلفاء بني أمية خصوصًا.

وكان يمنعني عن النهوض إلى كشف دسائسه اشتغالي بأمر ندوة العلماء ،

ولكن لما عم البلاء، واتسع الخرق، وتفاقم الشر، لم أطق الصبر، فاختلست من

أوقاتي أيامًا وتصديت للكشف عن عوار هذا التأليف والإبانة عما فيه من أنواع

الإفك والزور وأصناف التحريف والتدليس.

معذرة إلى المؤلف

إني أيها الفاضل المؤلف غير جاحد لمننك فإنك قد نوهت باسمي في تأليفك

هذا وجعلتني موضع الثقة منك، واستشهدت بأقوالي ونصوصي، ووصفتني بكوني

من أشهر علماء الهند، مع أنى أقلهم بضاعة، وأقصرهم باعًا، وأخملهم ذكرًا،

ولكن مع كل ذلك هل كنت أرضى أن تمدحني وتهجو العرب غرضًا لسهامك ودريّة

لرمحك، ترميهم بكل معيبة وشين، وتعزو إليهم كل دنية وشر، حتى تقطعهم إربًا

إربًا، وتمزقهم كل ممزق، وهل كنت أرضى بأن تجعل بني أمية لكونهم عربًا

بحتًا من أشر خلق الله وأسوئهم، يفتكون بالناس، ويسومونهم سوء العذاب،

ويهلكون الحرث والنسل، ويقتلون الذرية وينهبون الأموال، وينتهكون الحرمات،

ويهدمون الكعبة ويستخفون بالقرآن.

وهل كنت أرضى بأن تنسب حريق خزانة الإسكندرية إلى عمر بن الخطاب،

الذي قامت [1] بعدله الأرض والسماء، وهل كنت أرضى بأن تمدح بني العباس

فتعد من مفاخرهم أنهم نزلوا العرب منزلة الكلب، حتى ضرب بذلك المثل، وأن

المنصور بنى القبة الخضراء إرغامًا للكعبة، وقطع الميرة عن الحرمين استهانة

بهما، وأن المأمون كان ينكر نزول القرآن، وأن المعتصم بالله أنشأ كعبة في

(سامرَّا) وجعل حولها مطافًا واتخذ منى وعرفات.

وهب أني عدمت الغيرة على الملة والدين، وافتخرت كصنيع بعض الأجانب

بأني فلسفي بحت عادم لكل عاطفة ووجدان، فلا أرضى ولا أغضب ولا أسر ولا

أغاظ ولا أفرح ولا أتألم، وهب أني حملت نفسي على احتمال الضيم، وقبول

المكروه، والصم عن البذاء، ومجازاة السيئة بالحسنة، ومكافأة الخبيث بالطيب،

فهل كنت أرضى بأن تشوه وجه التاريخ، وتدمغ الحق، وتروج الكذب، وتفسد

الرواية، وتقلب الحقيقة، وتنفق التهم، وتعود الناس بالخرافة، بئس ما زعمت

أيها الفاضل، فإن في الناس بقايا وإن الحق لا يعدم أنصارًا.

إن الغاية التي توخاها المؤلف ليس إلا تحقير الأمة العربية وإبداء مساويها

ولكن لما كان يخاف ثورة الفتنة غير مجرى القول، ولبس الباطل بالحق. بيان

ذلك أنه جعل لعصر الإسلام ثلاثة أدوار: دور الخلفاء الراشدين، ودور بني أمية،

ودور بني العباس، فمدح الدور الأول وكذلك الثالث (ظاهرًا لا باطنًا كما سيجيء)

ولما غر الناس بمدحه الخلفاء الراشدين، وهم سادتنا وقدوتنا في الدين، وبمدحه

لبني العباس وهم أبناء عم النبي صلى الله عليه وسلم، وبهم فخارنا في بث التمدن

وأبهة الملك، ورأى أن بني أمية ليست لهم وجهة دينية فلا ناصر لهم، ولا مدافع

عنهم، تفرغ لهم، وحمل عليهم حملة شنعاء، فما ترك سيئة إلا وعزاها إليهم، وما

خلى حسنة إلا وابتزها منهم، ثم لو كان هذا لأجل أنهم من آل مروان أو لكونهم من

سلالة أمية لكنا في غنى عن الذب عنهم، والحماية لهم، ولكن كل ذنبهم أنهم

العرب على صرافتهم ما شابتهم العجمة مطلقًا كما قال: (وتمتاز- أي دولة بني

أمية - عن الدولة العباسية بأنها عربية بحتة) - الجزء الثاني من تمدن الإسلام -

(وجملة القول أن الدولة الأموية دولة عربية أساسها طلب السلطة والتغلب) -

الجزء الرابع صفحة 103 -.

عصبية العرب على العجم

أطال المؤلف وأطنب في إثبات هذه الدعوى فذكر طرفًا منه في الجزء الثاني

مدسوسًا - انظر صفحة 18 - ثم جعل له عنوانًا خاصًا في الجزء الرابع (58)

وهذه نصوصه:

فإن العرب كانوا يعاملونهم معاملة العبيد، وإذا صلوا خلفهم في المسجد

حسبوا ذلك تواضعًا لله.

وكانوا يحرمون الموالي من الكنى ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب ولا

يمشون في الصف معهم.

وكانوا يقولون لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة حمار أو كلب أو مولى.

فكان العربي يعد نفسه سيدًا على غير العربي ويرى أنه خلق للسيادة وذاك

للخدمة.

فتوهم العرب في أنفسهم الفضل على سائر الأمم حتى في أبدانهم وأمزجتهم

فكانوا يعتقدون أنه لا تحمل في سن الستين إلا قرشية، وأن الفالج لا يصيب

أبدانهم.

ومنعوا غير العرب من المناصب الدينية المهمة كالقضاء فقالوا لا يصلح

للقضاء إلا عربي وحرموا منصب الخلافة على ابن الأمة ولو كان أبوه قرشيًّا.

ولا يزوجون الأعجمي عربية ولو كان أميرًا وكانت هي من أحقر القبائل

وكان الأمويون في أيام معاوية يعدون الموالي أتباعًا وأرقاء وتكاثروا فأدرك

معاوية الخطر من تكاثرهم على دولة العرب فهمَّ أن يأمر بقتلهم كلهم أو بعضهم.

اعلم أن للمؤلف في إنفاق باطله أطوارًا شتى:

فمنها تعمُّد الكذب كما سترى، ومنها تعميمه لواقعة جزئية، ومنها الخيانة في

النقل وتحريف الكلم عن مواضعه.

ومنها الاستشهاد بمصادر غير موثوقة مثل كتب المحاضرات والفكاهات.

وهاك أمثلة من كل نوع منها قال: (إذا صلوا خلفهم في المسجد حسبوا ذلك

تواضعًا لله وكانوا يحرمون الموالي من الكنى إلخ ، وكانوا يقولون لا يقطع الصلاة

إلا ثلاثة إلخ) .

غير خافٍ على من له إلمام بتاريخ الفرس والعرب أن الفرس كانت قبل

الإسلام تحتقر العرب وتزدريهم ولما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه

إلى كسرى العجم اشمأز وقال عبدي يكتب إليَّ! ! وكتب يزدجرد إلى سعد بن أبي

وقاص فاتح القادسية أن العرب مع شرب ألبان الإبل وأكل الضب بلغ بهم الحال

إلى أن أفنوا دولة العجم فأفٍّ لك أيها الدهر الدائر ، وكانت ملوك الحيرة تحت إمرة

ملوك العجم.

ثم لما شرف الله العرب بالإسلام انتصفت العرب من العجم واستنكفوا من

سيادتهم عليهم، وجاءت الشريعة الإسلامية ماحية لكل فخر ونخوة فقال رسول الله

في خطبته الأخيرة في حجة الوداع، أن لا فضل للعربي على العجمي ولا للعجمي

على العربي كلكم أبناء آدم) .

وحينئذ ارتفع التمايز وتساوى الناس ولكن مع ذلك بقيت في بعض الناس من

كلا الطرفين حزازات كامنة في صدورهم كانت سببًا لحدوث حزبين متقابلين يسمى

أحدهما الشعوبة وهي التي تحتقر العرب وترميه بكل معيبة حتى إن أبا عبيدة

صنف كتبًا عديدة يطعن فيها على أنساب كل قبيلة من قبائل العرب، والثاني

المتعصبون للعرب. وقد عقد العلامة ابن عبد ربه في كتابه العِقْد الفريد بابًا في

حجج كِلا الطرفين وأقوالهما. ومعظم ما نقله المؤلف في إثبات عصبية العرب هي

أقوال ذكرها صاحب العقد في هذا الباب، كما لوَّح به المؤلف في هامش الكتاب.

وإذا تصفحت الكتب يظهر لك أن الأقوال التي نسبها إلى العرب عمومًا إنما

هي أقوال شرذمة خاصة موسومة بأصحاب العصبية، وصاحب العقد حيثما ذكر

هذه الأقوال صدرها بقوله (قال أصحاب العصبية من العرب) وأنت تعلم أن هذه

العصبة ليست كافة العرب ولا أكثرها، بل ولا عشر معشارها، فإنك سترى أن

هؤلاء أناس شرذمة مغمورون في الناس. ثم إن المؤلف ما اقتنع بذلك بل ربما

نسب قول رجل معين معلوم الاسم إلى العرب عامة.

فقال ناقلاً عن كتاب العقد: (وكانوا يكرهون أن يصلُّوا خلف الموالي وإذا

صلوا خلفهم قالوا: إنا نفعل ذلك تواضعًا لله) قال صاحب العقد: نسب هذا القول

إلى نافع بن جبير فأخذه المؤلف وجعله قولاً عامًّا للعرب، وهذه الصنيعة أعني

تعميم الواقعة الجزئية هي أكبر الحيل التي يرتكبها المؤلف لترويج باطله بل هي

قطب رحى تأليفه.

قال المؤلف: (فأدرك معاوية الخطر من تكاثرهم على دولة العرب فهمَّ أن

يأمر بقتلهم كلهم أو بعضهم) - الجزء الرابع صفحة 59 - إن نص معاوية الذي

نقله المؤلف بعد هذه العبارة هو هذا (كأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب

والسلطان فرأيت أن أقتل شطرًا وأدع شطرًا) فأنت ترى أن الرواية على تقدير

صحتها ليس فيها إلا أن معاوية رأى أن يقتل شطرًا منهم. ولكن المؤلف زاد على

العبارة وقال: إن معاوية همَّ أن يأمر بقتلهم كلهم.

قال المؤلف: فكانوا يعتقدون أن الفالج لا يصيب أبدانهم، - الجزء الرابع

صفحة 6 - استشهد في هذه الدعوى بطبقات الأطباء كما لوح في هامش الكتاب.

وايم الله لو كنت تقف على عبارة الطبقات لوقعت في أشد حيرة من اجتراء المؤلف

على قلب الحكاية، وتغيير الرواية، ذكر صاحب الطبقات تحت ترجمة عيسى

الطبيب (الراجح أنه نصراني) أن المهدي ضربه فالج فحضر المتطببون ومنهم

عيسى صاحب الترجمة فقال (المهدي بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله

بن عباس يضربه فالج، لا والله لا يضرب أحدًا من هؤلاء ولا نسلهم فالج أبدًا إلا

أن يبذروا بذورهم في الروميات والصقلبيات وما أشبههن) .

قد نقل صاحب الطبقات بعد الحكاية المذكورة عن يوسف الطبيب أن إبراهيم

بن المهدي لما اعتل بعلة شبيهة بالفالج دعا يوسف وقال له: ما العلة عندك في

عروض هذه العلة لي؟ (قال يوسف) : فعلمت أنه كان حفظ عن أمه قول عيسى

أبي قريش في المهدي وولده أنه لا يعرض لعقبه الفالج إلا أن يبذروا بذورهم في

الروميات وأنه قد أمل أن يكون الذي به فالجًا لا عارض الموت. فقلت: لا أعرف

لإنكارك هذه العلة معنى إذ كانت أمك التي قامت عنك دنباوندية و (دنباوند) أشد

بردًا من كل أرض الروم، فكأنه تفرج إلى قولي وصدقني وأظهر السرور.

فأنت ترى أن الظن ببراءتهم من الفالج إنما كان مبناه حَرّ أرض العرب وليس

له أدنى مساس بشرف النسل. ولو كان كما يتبادر إلى الذهن من عد أسماء آباء

المهدي فهو يختص بعائلة النبي عليه السلام لا يفهم منه العموم مطلقًا، ولذلك لما

ذكر لإبراهيم (وهو ابن الخليفة المهدي) أن أمه من (دنباوند) وهو أشد بردًا من

كل أرض الروم، ذهب عنه استغرابه عروض الفالج له.

فانظر كيف كان مجرى الحكاية فغيرها المؤلف وارتكب لذلك خيانات تترى،

ثم إن هذا قول عيسى الطبيب ولا يدرى أنه عربي أم لا وغالب الظن أنه نصراني

وهب أنه عربي فهو رجل من حاشية الدولة يريد التزلف إلى الخليفة والتملق له

فهل يكون قوله قول العرب كافة؟ .

قال المؤلف: ومنعوا غير العرب من المناصب الدينية المهمة كالقضاء فقالوا:

لا يصلح للقضاء إلا عربي - الجزء الرابع صفحة 60 - وأسند هذه الرواية إلى

ابن خلكان.

حقيقة هذا القول أن الحجاج لما أسر سعيد بن جبير التابعي المشهور وكان من

الموالي قال له ممتنًّا عليه: أما جعلتك إمامًا للصلاة في الكوفة ولم يكن في الكوفة إلا

العرب، قال ابن جبير: نعم، ثم قال له الحجاج: أليس أني لما أردت أن أوليك

قضاء الكوفة ضجَّ العرب وقالوا: لا يصلح للقضاء إلا عربي؟ وقد ذكر الرواية

ابن خلكان بطولها ولا يخفى عليك أن كوفة لم يكن إذ ذاك فيها إلا العرب وظاهر أن

القضاء لا يصلح له إلا من كان عارفًا بعوائد الأمة مطلعًا على خصائصهم وكيفية

تعاملهم فيما بينهم، وسعيد بن جبير لم يكن من العرب، ولو كان استنكاف أهل

كوفة من قضائه لأجل كونه من الموالي لاستنكفوا من إمامته للصلاة فإن الإمامة

أعظم شرفًا وأرفع محلاً من القضاء. وهذا أبو حنيفة كان من الموالي وأرادوا أن

يولوه القضاء في عصر بني أمية فامتنع ولم يرض بذلك وقد ذكر الواقعة ابن خِلِّكان

مفصلاً.

قال المؤلف (وحرموا منصب الخلافة على ابن الأَمَة ولو كان قرشيًّا) نعم

ولكن لم يكن هذا للاستهانة به.

قال الأصمعي: كانت بنو أمية لا تبايع لبني أمهات الأولاد فكان الناس يرون

أن ذلك للاستهانة بهم ولم يكن لذلك ولكن لما كانوا يرون أن زوال ملكهم على يد أم

ولد [1] .

أما ما استدل به المؤلف من قول هشام بن عبد الملك لزيد بن علي: إنك ابن أمة

ولذلك لا تصلح للخلافة، فقد رده عليه زيد وقال: إن إسماعيل كان ولد الجارية

وكان سيد البشر محمد من سلالته ، ومن المعلوم أن زيدًا وهو ابن الإمام زين

العابدين أرفع شأنًا وأعظم محلاًّ وأطيب أرومة وأصدق قولاً من هشام. ثم لو كان

هذا الأمر حقًّا ما كانوا يولُّون الخلافة يزيد بن الوليد الأموي ومروان الحمار وهما

ابنا أمة.

ولما فرغنا من إبداء شطر من خيانات المؤلف ليكون كالعنوان على دأبه في

تأليفاته حان لنا أن نحقق أصل المسألة أي أن العجم والموالي هل كانوا أذلاء

ساقطين مرذولين يعاملون معاملة العبيد في عصر بني أمية كما يدعيه المؤلف أو

كانوا بمحل من الشرف والعزة يعترف لهم العرب بالفضل والسؤدد، ويوفَّى لهم

أوفى قسط وأكمل حق.

اعلم أن البلاد التي كانت عواصم الأقاليم وقواعدها في عصر بني أمية هي

مكة والمدينة والبصرة والكوفة واليمن ومصر والشام والجزيرة وخراسان

وكان لكل هذا الأصقاع إمام يقودهم ويسود عليهم وهذه أسماؤهم.

مكة المشرفة عطاء بن أبي رباح هو أستاذ الإمام أبي حنيفة

اليمن

... طاوس

الشام

... مكحول

مصر

... يزيد بن أبي حبيب

الجزيرة

ميمون بن مهران

خراسان

ضحاك بن مزاحم

البصرة

الإمام الحسن البصري

الكوفة

إبراهيم النخعي

وكل هؤلاء غير إبراهيم النخعي كانوا من الموالي وبعضهم أبناء الإماء ومع

كونهم أعجامًا وكونهم أولاد الإماء كانوا سادة الناس وقادتهم تذعن لهم العرب

وتحترمهم خلفاء بني أمية وولاة الأمر.

فأما (عطاء بن أبي رباح) فمع كونه ابن سندية كان شيخ الحرم وإليه

المرجع في الفتوى وعليه المعول في المسائل، قال ابن خلكان في ترجمته: قال

إبراهيم بن عمرو: ابن كيسان أذكرهم في زمان بني أمية يأمرون في الحج صائحًا

يصيح (لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح) وهل يمكن أن ينادى بمثل ذلك من

غير رضى الخلفاء [1] .

وأما (طاوس) فلما قضى نحبه بمكة ازدحم الناس في جنازته حتى تعذرت

الصلاة عليه وكان إبراهيم بن هشام إذ ذاك واليًا على مكة فاستعان بالشُّرَطة ومشى

في جنازته عبد الله ابن الإمام حسن عليه السلام واضعًا نعشه على عاتقه وصلى

عليه الخليفة هشام بن عبد الملك الأموي، ذكر كل هذا العلامة ابن خلكان في

ترجمة طاوس فهل يكون منزلة أعظم من ذلك؟

وأما (مكحول الشامي) فأحد الأئمة المتبوعين وقال الزهري: العلماء أربعة

فلان وفلان ومكحول.

وأما (يزيد بن أبي حبيب) فهو الذي أرسله عمر بن عبد العزيز ليفقه الناس

في مصر ويفتيهم في المسائل وهو المعلم الأول لهم كما صرح بذلك السيوطي في

حسن المحاضرة.

وأما (ميمون بن مهران) فمع فضيلته وسيادته كان أميرًا على الخراج في

الجزيرة كما صرح به ابن قتيبة في المعارف.

أما (حسن البصري) فحدث عن البحر ولا حرج، يذعن له الملوك والسادة

والقواد وعليه المعول وإليه المنتهى [1] .

ذكر السخاوي في شرح ألفية الحديث للعراقي (طبع لكهنو صفحة 498

و499 أن هشامًا قال للزهري: من يسود أهل مكة؟ . قال: عطاء، قال: بم

سادهم؟ قال: بالديانة والرواية، قال هشام: نعم من كان ذا ديانة حقت الرياسة له

ثم سأل عن يمن قال طاؤس، وكذلك سأل عن مصر والجزيرة وخراسان

والبصرة والكوفة فأخذ الزهري يعد أسماء سادات هذه البلاد وكلما سمى رجلاً كان

هشام يسأل هل هو عربي أم مولى؟ وكان يقول الزهري: مولى، إلى أن أتى

على النخعي وقال: إنه عربي. فقال هشام (الآن فرَّجت عني والله ليسودن

الموالي العرب ويخطب لهم على المنابر والعرب تحتهم) .

إن التابعين لهم أعلى محل في تاريخ الإسلام - ورأسهم سعيد بن جبير وهو

أسود وقد ولاه حجاج بن يوسف إمامة الصلاة في الكوفة كما ذكره ابن خلكان في

ترجمته والكوفة إذ ذاك جمجمة العرب وقبة الإسلام، وهل يصح بعد ذلك دعوى

المؤلف أن العرب كانت تستنكف من الصلاة خلف الموالي.

وهذا سليمان الأعمش أستاذ الثوري كان عبدًا عجميًّا وكان بمنزلة من العز

والشرف أنه لما كتب إليه الخليفة هشام بن عبد الملك أن يكتب له مناقب عثمان

ومساوئ علي أخذ كتاب هشام وألقمه عنزًا كان عنده وقال للرسول قل لهشام هذا

جواب كتابك.

...

...

...

(ابن خلكان ترجمة الأعمش)

وهذا حماد الراوية الذي دوَّن المعلقات وله المكانة الكبرى في الأدب والشعر

كان عبدًا أسود وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره كما ذكره ابن

خلكان.

وهذا سالم بن عبد الله بن عمر كان ابن أمة ولما دخل الخليفة هشام بن عبد

الملك المدينة أرسل إليه يدعوه فاعتذر فدخل عليه هشام ووصله بعشرة آلاف ثم لما

حج ورجع كان سالم إذ ذاك مريضًا فذهب لعيادته ولما توفي صلى عليه وقال: لا

أدري بأي الأمرين أنا أسر: بحجتي أم بصلاتي على سالم؟ ولو أخذنا في تعداد

أمثال هذه الوقائع لطال الكلام ومل الناظرون.

ويظهر مما مر عليه أن الموالي كانوا في أيام بني أمية بأعلى محل من

الشرف والمكانة وكانت العرب تذعن لهم وتقدمهم وتقتدي بهم وترفع شأنهم، فهل

يصح قول المؤلف بعد ذلك: إن الموالي وأبناء الإماء كانوا في عصر بني أمية

مرذولين ساقطين يزدرى بهم ولا يقام لهم وزن وكان العرب وبنو أمية يعاملونهم

معاملة العبيد؟

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هو جرجي زيدان صاحب مجلة الهلال اهـ من خط المؤلف في هامش الأصل.

(2)

المنار: قد علم من التمهيد أن كثيرين قد فطنوا لما في الكتاب من الخطأ وبعضهم انتقدوه.

(3)

لعل الأصل شهدت بدل قامت.

(4)

انظر الجزء الثاني من العقد الفريد طبع مصر صفحة 330.

(5)

المنار: الأمر أكبر من ذلك، كان عطاء يشدد في وعظ عبد الملك والوليد فيقبلان منه راجع في صفحة 422 و 423 من مجلد المنار التاسع وعظه لعبد الملك وهو جالس معه على كرسيه وترفعه عن الأخذ منه وقول عبد الملك عند خروجه:(هذا وأبيك الشرف) ومخاطبته للوليد باسمه وتشديده في وعظه حتى أغمي عليه.

(6)

راجع في 423 وما بعدها من مجلد المنار التاسع إغلاظ الحسن على الحجاج، وفي صفحة 498 منه نصيحته لوالي بني أمية على العراق.

ص: 58

الكاتب: محمد توفيق صدقي

‌القرابين والضحايا في الأديان

الدكتور محمد توفيق صدقي

الطبيب بسجن طره

كثر لغط المجلات التبشيرية النصرانية في هذه المسألة مفسرين لها بحسب

أهوائهم وأغراضهم زاعمين أن وجود الذبائح والقرابين والضحايا في الأديان عمومًا

وثنية كانت أو إلهية هو رمز لذبيحتهم العظمى وهو صلب المسيح بحسب اعتقادهم.

عجيب أمر هؤلاء القوم! ! فإنهم منذ نشأتهم في العالم لما لم يجدوا لهم

برهانًا عقليًّا أو نقليًّا على إثبات دعاويهم وعقائدهم عمدوا إلى طريقة هي من

الغرابة بمكان عظيم وذلك أنهم نظروا في كتب من سبقهم من بني إسرائيل وغيرهم

فعرفوا بعض ما فيها من النصوص أو الشرائع والقصص وغير ذلك ثم اخترعوا

للمسيح صلى الله عليه وسلم [1] ما شاءوا من الحوادث التي قد يكون لبعضها أصل

تاريخي صحيح مراعين في ذلك أن يكون هناك شيء من التشابه بين ما يدعون

وبين ما يوجد من النصوص في كتب المتقدمين ليتخذوا ذلك دليلاً على صحة

دعواهم أن السابق إشارة أو رمز إلى اللاحق مما يلفقون.

ولم نجد لهم دليلاً على عقيدة من عقائدهم سوى هذه الطريقة التي ملئوا الدنيا بها

صياحًا وعويلاً مدعين أن كل ما سبقتهم من الكتب هو تمهيد أو رمز إلى دينهم وأن

كل شيء خلق لأجلهم مع أن جميع الأمم التي سبقتهم لم يكن يخطر على بال أحد

منها أن ما عندهم من الشرائع رمز لدين آخر.

لا يظن القارئ أني أنكر بذلك النبوات والبشائر التي وردت في كتب

الأنبياء السابقين إخبارًا عن الأنبياء اللاحقين إذا كانت صريحة في ذلك، ولكن

الذي أنكره على النصارى هو أنهم جعلوا كل شيء في أديان من سبقهم حتى

من الوثنيين رموزًا للمسيح عليه السلام مع أن بعض هذه الرموز المزعومة

ربما لا يكون لها أدنى علاقة به ولا بتاريخه عليه السلام، وإنما هو التحكم

يجعلهم يتوهمون أنها تنطبق عليه ولولا ذلك ما خطر على بال أحد هذا

الانطباق البعيد العجيب، فتراهم مثلاً يجعلون خروج بني إسرائيل من أرض

مصر إشارة إلى حضور المسيح فيها ورجوعه منها إلى بلده (راجع متى 2: 15

وهوشع 11: 1) وفى الأناجيل من مثل ذلك كثير، ولله در السيد جمال

الدين الأفغاني حيث قال ما معناه (إن مؤلفي العهد الجديد قد فصلوا قميصًا

من العهد العتيق وألبسوه لمسيحهم) .

هذه مسألة الضحايا والقرابين في الأديان لها فيها معانٍ وأغراض أخرى ولكن

يتحكم النصارى فيها ويدعون أنها رمز على (صلب المسيح) ، ولنبين هنا كيف

أنه لا يوجد أدنى انطباق أو أي علاقة بين هذه المسألة وبين مسألة الصلب فنقول:

1-

إن الضحايا والقرابين موجودة في جميع الأديان حتى الوثنية منها من قديم

الأزمان، فإذا سلمنا أن ما يوجد منها في الأديان الإلهية هو إشارة إلى المسيح عليه

السلام فكيف نفسر وجودها في الأديان الوثنية وهي لا تعرف المسيح ولا دينه؟ !

سيقولون: إن الأديان الوثنية لها أصل صحيح وكانت فيها قديمًا هذه المسألة رمزًا

إلى المسيح، ولما طال الزمان نسي الناس ذلك، ونقول: كيف تتفق الأمم في

جميع الأزمنة وفي جميع بقاع الأرض على نسيان ذلك وهو كما يزعم النصارى

أساس الدين كله؟

وكيف لا يوجد أدنى أثر في كتبهم أو معتقداتهم على أن الأصل في الذبائح هو

الرمز للمسيح وهو أمر لم يخطر على بالهم؟ وهب أن جميع الأمم الوثنية نسيت

ذلك فكيف نسيه بنو إسرائيل وأنبياؤهم وهم أقرب الناس إلى المسيحيين؟ وكيف لا

يوجد في كتب العهد العتيق المسلَّمة عند النصارى تصريح بهذه المسألة العظمى

التي كان يجب أن تذكر صريحًا في كل كتاب من كتب الأنبياء السابقين؟ وأن

يخبروا أممهم بأن القرابين جميعًا والذبائح ليست مقصودة بالذات بل هي إشارة إلى

ذبيحة كبرى ستأتي بعد؟

2-

إذا سلمنا أن الذبائح كانت إشارة إلى هذه الذبيحة الكبرى (صلب المسيح)

فماذا يقولون في القرابين الأخرى التي لم تكن من جنس الذبائح وهي كثيرة في

الشريعة الموسوية كالمحرقات التي تقدم من أثمار الأرض ومن الدقيق والزيت

واللبان والفريك وغيرهما مما كان يحرق بالنار قربانًا للرب ورائحة لسروره كتعبير

التوراة.

3-

إذا سلم أن الذبائح إشارة إلى الصلب فإلى أي شيء يشير إحراق نفس

الذبائح كلها أو بعضها بالنار؟ فهل أحرق المسيح بها! !

4-

كيف يكون الذبح إشارة للمسيح عليه السلام مع أنه مات صلبًا - على

قولهم - لا ذبحًا أي أنه لم يهرق دمه حتى يموت بنزف الدم بل ظاهر عبارتهم أنهم

اكتفوا بتعليقه على خشبة الصليب بثقب يديه ورجليه فقط ولم يكسروا عظمًا من

عظامه (يوحنا 19: 36) فلذا لم يرد في الأناجيل أنهم ثقبوا عظم صدره بمسمار

دق في قلبه كما قد يتوهم بعضهم وإلا لمات في الحال ولما بقي حيًّا من الساعة

الثالثة إلى التاسعة كنص إنجيل مرقص ولو كان ثقب يديه ورجليه أحدث نزيفًا

عظيمًا لما بقي ست ساعات وهو حي ولما كان هناك وجه لتعجب بيلاطس من

موته بسرعة (مرقص 15: 44) فالظاهر على هذا أن الدم الذي سال منه كان

قليلاً وأنه لم يمت بسبب نزف دمه بل مات بسبب ألم الصلب والجوع والتعب

وإعاقة التنفس بتعليقه، فكان الواجب لكي يتم التشابه بين الرمز والمرموز إليه أن

تصلب الحيوانات عند بني إسرائيل وغيرهم حتى تموت مثله أو أن يذبح هو بيد

تلاميذه قربانًا للهِ لا أن يموت صلبًا بيد أعدائه بدون أن يسفك شيء يذكر من دمه.

نعم ورد في إنجيل يوحنا (19: 34) أن بعض العساكر طعنه بعد أن مات وأسلم

الروح بحربة في جنبه فخرج منه دم وماء ولكن هذا شيء والذبح شيء آخر كما لا

يخفى ولم يخرج منه دم يذكر قبل مماته كما بينا ولم يكن خروج ما خرج منه من

الدم سببًا في وفاته. أما خروج الدم والماء منه بعد مماته فهو من الوجهة الطبية

عجيب غريب وليس تفسيره بالسهل الجلي [1] .

ولنبدأ الآن ببيان الغرض الحقيقي من الضحايا والقرابين في الأديان فنقول:

كان الوثنيون يقدمون هذه القرابين لآلهتهم لاعتقادهم أنهم ينتفعون بها كما كان

يعتقد بعض الأمم أن الأموات يأكلون ويشربون فيضعون في قبورهم شيئًا من ذلك

كثيرًا على أن بعض هذه المعبودات الوثنية كان ينتفع فعلاً بأكل بعض القرابين

كالعجول والثيران وغيرها فإنها كانت تأكل مما يقدم لها من الحبوب والنبات

ونحوها. وكانت الكهنة وسدنة الهياكل وخدمة الأصنام تنتفع أيضًا بهذه القرابين

فيرغبون الناس فيها للإكثار منها، وكذلك أيضًا كان بعضها يستعمل في الهياكل

والمعابد لفرشها وإضاءتها وزينتها كما تنفع الآن نذور العامة لأضرحة الأولياء

والقديسين فتضاء بها وتفرش ويأخذ منها الخدم ما يلزم لمنازلهم.

ولكن الأديان الصحيحة لم تأمر بالقرابين؛ لأن الإله ينتفع بها - حاش لله

{لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) وإنما أمرت بها هذه الأديان لفوائد أخرى نأتي هنا على بعضها:

1-

الفقراء عيال الله فمن نفعهم رضي الله عن عمله وكأنه نفعه تعالى لو لم

يكن غنيًّا عن العالم، وكما أن الله تعالى أمر الأغنياء ببذل شيء من مالهم للفقراء

سواء كان نقودًا أو ملبوسًا [1] أو حبوبًا أو ثمارًا أو أي مطعوم آخر أو مشروب

كذلك أمر بإطعامهم أنواع اللحوم فإنها أشهى إلى نفوسهم وأبعدها عنهم. وإنما

أوجب الإسلام في كفارة بعض جنايات الحج ذبح الذبيحة قبل إعطائها للفقراء ولم

يبح إعطاءها لهم بدون ذبح ليتيسر توزيعها على عدة فقراء بدل اختصاص فقير

واحد بها ولينقطع بذلك كل أمل للذابح في عودتها إليه واستردادها من الفقير بمال أو

بدل أو غير ذلك ولينقطع أيضًا أمله في الانتفاع بها وهي عند الفقير بركوب أو

نسل أو لبن أو وبر أو صوف أو غير ذلك فيكون التصدق بها تامًّا وخالصًا لوجه

الله تعالى وليضطر الفقير أن يأكل منها هو وولده وأهله فإنها إذا أعطيت له حية

فإنه يبخل بها على نفسه ويحرم أهله وولده من أكلها حبًّا في إبقائها أو بيعها أو كنز

ثمنها فيبقى هو وأهل بيته محرومين من أكل اللحم طول حياتهم وهو من أشهى

المأكولات وألذها وأكثرها تغذية وأبعدها عن الفقراء وللتوسيع عليه وعلى أهله

أمرنا بذبحها ولتكثر تربية المواشي والأنعام والانتفاع بها وهي أنفع الأشياء للناس

خصوصًا في الأزمنة القديمة ولتتسع أيضًا دائرة التجارة فيها فيربح منها التجار

الأغنياء منهم والفقراء قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى

البَيْتِ العَتِيقِ} (الحج: 33) فإن قيل: ولماذا لا يعطى ثمن الذبيحة للفقراء في

الحج بدل الذبح؟ - قلت: ذلك لقلة النقود بين العرب وعدم انتشار استعمالها بينهم

في ذلك الزمن لذلك كان أكثر تقدير أنواع الزكاة في الإسلام بالأعيان كالغلال

وغيرها لا بالنقود، وأيضًا فإن الفقير إذا أعطي نقودًا بدل اللحم كنزها أو أنفقها في

شيء آخر، وأما اللحم فإنه يضطر أن يأكله هو وأهله ولا يحرمهم منه كما تقدم.

ومن أحكام الذبح أيضًا أن يذكر الذابح اسم الله تعالى على الذبيحة شاكرًا له على

نعمه، وذاكرًا أنه لولا أمره تعالى له بالذبح ما جاز له إزهاق روح هذا الحيوان

للتمتع به، وبذلك ترتفع قيمة الحياة والأرواح في نظر الناس فلا يستهترون بها.

قال الله تعالى في الحج {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى

مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: 28)

ولذلك حرم أكل الحيوان إذا لم يذكر اسم الله عليه أو ذكر اسم غيره تعظيمًا لأرواح

الحيوانات ، وقد جعل الله لكل أمة مذبحًا يذكرون اسم الله فيه على ما يذبحون

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} (الحج: 34) .

2-

إن الذبائح والقرابين قد تكون عقوبات أو غرامات لمن يرتكب شيئًا من

الآثام أو من المنهيات كما قال الله تعالى بعد ذكر عقوبة من قتل الصيد وهو محرم

{لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} (المائدة: 95) وهذا الأمر يظهر جليًّا خصوصًا في ذبائح

بني إسرائيل وقرابينهم التي كانوا يقدمونها كفارة لكثير من الذنوب ويحرقونها بالنار

فكأنه كان في الشريعة الموسوية أن من يرتكب بعض الذنوب يعاقب عليها في الدنيا

بفقد جزء من ماله كالغرامات الموجودة في سائر القوانين المدنية.

3-

إن الذبائح والضحايا يراد بها أيضًا تعويد الناس على الاستعداد لبذل المال

والنفس والولد في سبيل الله فهي تذكرنا بأكبر حادثة من حوادث الإسلام لله تعالى

والانقياد إليه في كل شيء، ولو أدى ذلك إلى ضياع النفس أو الولد وهذه الحادثة

هي إرادة إبراهيم عليه السلام أن يذبح ولده طوعًا لأمر الله وامتثالاً له وذلك أكبر

علامات صدق الإيمان. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم

بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} (التوبة:

111) ومن أعطى شيئًا في سبيل الله فكأنما أعطاه لله تعالى نفسه كما قلنا سابقًا

{مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ

وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة: 245) فالمؤمن الحقيقي أو المسلم لله هو الذي لا يبخل

بماله ولا بنفسه ولا بولده في سبيل الله لنفع الناس وهم عياله تعالى.

فإن قيل: لماذا فدى الله تعالى ابن إبراهيم بالكبش ولم يكتف بنهيه له عن

ذبحه؟ قلت: ليزيل كل شك في نفس إبراهيم ونفس غيره بأنه إنما امتنع عن الذبح

لضعف عزيمته فتأول كلام الله أو لم يفهمه على حقيقته فأظهر الله تعالى بهذا الفداء

أن إبراهيم لم يمتنع عن الذبح لتأويل ضعيف أو اشتباه بل لنهي الله تعالى له عنه

نهيًا لا شك فيه ولا يقبل التأويل بظهور هذا الكبش الذي بعثه الله تعالى له ليذبحه

بدل ابنه. وفى هذا الفداء أيضًا إشارة إلى أن الله تعالى يتقبل من عباده المخلصين

أعمالهم وإن لم تتم ويكافئهم عليها بالجزاء العظيم كأنها أعمال تامة متى خلصت

نيتهم وصحت عزيمتهم مهما كان العمل صغيرًا أو حقيرًا تفضلاً منه وكرمًا.

وهناك أيضًا فائدة أخرى وهي أن يمثل الناس بعد إبراهيم هذه الحادثة على ممر

الأيام بالضحايا وليذكروها بالعظة والاعتبار تنبيهًا لهم على وجوب تقديم أنفسهم لله

كأبيهم إبراهيم، الذين سماهم لله مسلمين.

4-

إن الناس بسبب ما يرتكبون من الذنوب يستحقون الهلاك العاجل والمحو

من الوجود {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} (فاطر: 45) فهم يقدمون هذه الذبائح إشارة إلى أنهم يستحقون أن يقتلوا أنفسهم

لكثرة ذنوبهم ومعاصيهم، ولولا لطف الله تعالى ورحمته بهم لما تقبل منهم سوى

قتل أنفسهم فالذبائح تشير إلى الشكر لله والندم على الذنوب والاعتراف باستحقاق

عذاب الله ولذلك قال {وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) كما سبق.

5-

إن إبراهيم بعد أن بنى الكعبة بيتًا لله دعا الله أن يسوق الناس إلى ذريته

من إسماعيل الذي أسكنه هناك، وأن يرزقهم من الثمرات، وأن يجعل بلدهم آمنًا،

فأجاب الله تعالى دعاءه و {أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (قريش: 4)

وجلب إليهم من كل الثمرات والخيرات وأكثر بينهم من كل شيء حتى أنواع اللحم

كله يأكلونه غريضًا أو قديدًا ، ووحد لذلك مذبح المسلمين ومعبدهم، وربما كان

اختبار إبراهيم بذبح ولده في مكة لا في الشام فكرم نسل إسماعيل كما كرم نسل

إسحاق كوعد التوراة (تكوين 17: 20) وقد جاء في إنجيل برنابا أن الذبيح هو

إسماعيل [1] .

فهذه بعض حكم الذبائح والقرابين في الإسلام وغيره من الأديان، وأما قول

النصارى إنها رمز إلى المسيح فقد أريناك ما فيه ونقول أيضًا: إذا سلم أن معنى

الضحايا والقرابين في الأديان القديمة هو ما يزعمه النصارى الآن - وهذا المعنى

لم يكن يخطر على بال تلك الأمم القديمة كما هو ظاهر من كتبهم - فما فائدة الذبائح

والقرابين إذًا بالنسبة لهم وهم لم يفقهوا منها ما يفقهه النصارى الآن؟ ألا تكون لهم

لغوًا وعبثًا كانوا يفعلونه أزمانًا طويلة وخصوصًا لأنهم لم يخبروا صريحًا بالمراد

منها ولم يعرف بينهم هذا المعنى الذي يدعيه النصارى اليوم ، ولماذا أبطلت الذبائح

في الديانة النصرانية ولم تبق فيها تذكارًا للصلب والخلاص مع أنها لو بقيت في

النصرانية لكانت أفيد وأظهر من وجودها في الأديان القديمة من غير أن يفهم المراد

منها؟ ولماذا استبدلت الذبائح بالعشاء الرباني في المسيحية؟ وأي مناسبة بين الخبز

والخمر، وبين الجسد والدم؟ ولماذا فعل المسيح العشاء الرباني قبل الصلب مع أنه

كان الأليق أن يُفعل بعده ليكون هناك معنى لكونه تذكارًا له؟ وإلا فهل يعمل التذكار

للشيء قبل وقوعه مع أن المناسب والمعتاد أن يكون بعده؟

فكأن الذبائح والقرابين كان يجب عملها قبل المسيح حينما كان الناس لا

يفهمون أنها رمز أو إشارة إلى صلبه ولم يكن غفران الذنوب حينئذ لأجلها في

الحقيقة ثم تركت بعد الصلب حينما كان يسهل على الناس فهم أنها للتذكار ففي

الوقت الذي لا يكون لها فائدة ما يجب أن تعمل، وفى الوقت الذي يكون لها فائدة

تترك وتهجر فما حكمة ذلك يا ترى؟

على أننا لا نفهم كيف يكون المسيح كفارة لذنب آدم الذي عم بنيه كما يدعون

وذلك؛ لأنه إذا كان ما ينالنا في هذه الدنيا من المتاعب والمشاق هو جزاء لنا على

ذنب آدم فهذا الجزاء لم يرتفع عنا بعد الصلب. وإن كان الجزاء سيحصل لنا في

الآخرة على ذنب آدم ففي الآخرة كل نفس {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286){وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) وإلا فأين العدل

الإلهي الذي يكثرون الكلام فيه؟ فهل من العدل عندهم أن يعاقب الأبناء في الآخرة

على ما ارتكبه أبوهم؟ وهل من العدل أن يُترك المسيئون (وهم آدم وبنوه)

ويعاقب المسيح - وهو بريء - على ذنوبهم وبدون رغبته وإرادته كما هو ظاهر

من عبارات الأناجيل في وصف حالته قبل الصلب وحزنه واكتئابه وكثرة تضجره

وصلواته كقوله لربه (إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس) وقوله وهو مصلوب

(إلهي إلهي لماذا تركتني) فإن كان المسيح باعتبار ناسوته - كما يعبرون - غير

راضٍ عن الصلب كما يظهر من هذه العبارات فهل من العدل أن يحمل ذنب غيره

ويصلب بسببه رغم إرادته؟ الحق أقول إنكم أردتم أن تفروا من تناقض موهوم بين

عدل الله ورحمته فوقعتم فيما هو شر منه وهو نسبة الظلم إلى الله تعالى في مؤاخذة

بني آدم بذنب أبيهم وفى مجازاة المسيح بغير رضاه بدلاً عنهم.

وأين تضحية الذات في سبيل نفع الناس التي تزعمون أن المسيح علمكم

إياها وتطنطنون بها؟ وإذا كان المسيح باعتبار ناسوته من نسل آدم؛ لأنه مولود

من مريم العذراء ومتكون في رحمها من دمها فهو كباقي أولاد آدم واقع في ذنب

أبيه فهو أيضًا يحتاج للكفارة مثلهم وإذًا يكون غير طاهر ولا معصوم من الذنوب

كما تزعمون؛ لأنه (ابن الإنسان) وناسوته مخلوق من العذراء بمقتضى

التولد الجسداني وإن كان لم يتلوث بذنب آدم فلم تلوث غيره وكلنا من نسل آدم

وكيف إذًا يعاقب بغير رضاه من أجلنا وهو بريء من كل ذنب؟ فما بالكم يا قوم

تدَّعون أنكم تعرفون معنى العدل الإلهي وحدكم وأنتم في الحقيقة لم تدركوا شيئًا من

معناه؟ !

العدل هو عدم نقص شيء من أجر المحسنين وعدم الزيادة في عقاب المسيء

مما يستحق فهو توفية الناس حقهم بلا نقص في الأجر ولا زيادة في العقاب وعدم

المحاباة ومعاملة جميع الناس بالمساوة [1] فلا ينافي ذلك أن يزيد الله تعالى أجر

المحسنين تفضلاً منه تعالى وكرمًا، ولا أن يعفو ويغفر للمسيء رأفةً منه ورحمةً.

ولكن من الجمع بين العدل والعفو أن لا يضيع حقًّا من حقوق الآخرين إلا برضاهم

وأن لا يُخص به فردًا دون غيره من عبيده، بل إذا عفا عن أحد منهم بسبب ما،

ووجد هذا السبب بعينه عند غير عامله بالمثل لضرورة المساواة بين العباد في

المعاملة والجزاء الأخروي ، ومنه أيضًا أن لا يُساوى بين المحسن والمسيء في

الثواب بل لكلٍ درجات فعفوه تعالى عن المسيء يقابل إعطاء المحسن زيادة عما

يستحق من الأجر ولكن لكل منهما مقام معلوم في الآخرة فلا ظلم في العفو عن

المسيء كما أنه لا ظلم في زيادة أجر المحسنين ، فهذا هو معنى العدل والغفران

للذين ظنوهما ضدين لا يجتمعان إلا بطريقتهم العجيبة الملفقة ودعواهم أن لا غفران

إلا بصلب البريء (المسيح) وسفك دمه، فوقعوا بذلك في شر مما فروا منه على

أن دم المسيح في الحقيقة لم يُسفك كما بينا سابقًا.

ولا ندري كيف اشترطوا وجوب سفك الدم، للغفران وخضب الأرض به

إرضاء لإلههم الذي يحب الدم كثيرًا كما يزعمون، وفاتهم أن ما سفك من دم المسيح

كان قليلاً جدًّا لا يكفي للموت ولم يكن هو السبب فيه، ولذلك لم يذكر في الأناجيل

أن دمه فاض على الأرض أو خضبها كدم الذبائح التي يزعمون أنها رمز له.

وإن كان مجرد الموت يكفي للغفران فجميع الناس يموتون مع شيء من الألم

قليلاً أو كثيرًا بحسب الأحوال فلم لا يكفر موت كل شخص عن ذنبه؟ ومن أين لهم

اشتراط هذا الشرط: أي وجوب سفك الدم للغفران؟ ؟ وما هذا التحكم في معنى

العدل الإلهي وهو ما لم ينطبق على العقل ولا على اللغة ، فإن كانوا أخذوا هذا

الشرط من وجوب الذبائح في الشرائع الإلهية السابقة للمسيح فقد بينا لك حكمة الذبح

فيها. وكان الواجب عليهم أن يشترطوا أيضًا إحراق الكفارة بالنار؛ لأن القرابين

كانت تحرق بها كما هو معلوم من التوراة.

أما العدل الإلهي الذي ضلوا في بيان معناه فقد بيناه لك هنا بما ينطبق على

قواعد اللغة والعقل ويتفق مع ما جاء في الكتاب العزيز.

فكما أن الله تعالى يوصف بكونه عادلاً أو حكمًا عدلاً فهو كريم غفور رحيم

منتقم جبار شديد العقاب خافض رافع معز مذل قابض باسط أول آخِر ولم يقل أحد

من العقلاء إن القائل بهذه الصفات قائل بالمناقضات أو الأضداد.

وهاك بعض ما جاء في القرآن الشريف في هذا الموضوع وهو الذي يتفق

مع العقل الصحيح والحكمة. قال تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن

جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَاّ مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (الأنعام:160) ، {وَلَا تَكْسِبُ

كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) {وَنَضَعُ

المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا

بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الأنبياء: 47) ، {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ

سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: 39-41) ، {فَمَن يَعْمَلْ

مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7- 8) ، {قُلْ

يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ

جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53) ،] وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَن

نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [6 {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة:

48) ، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ

وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (الجاثية: 21- 22) .

الدكتور محمد توفيق صدقي

_________

(1)

حاشية: الأظهر أن لفظ المسيح كما قال صاحب المنار علم على عيسى ابن مريم ولذلك قال تعالى {اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} (آل عمران: 45) ومعنى المسيح الملك الممسوح؛ لأنهم كانوا يمسحون ملوكهم بالزيت عند توليتهم، واللفظ إذا أطلق علمًا على شخص لا يجب أن يتحقق مدلوله في هذا الشخص فإذا سميت رجلاً (صادقًا أو سلطانًا) فلا يجب أن يكون صادقًا ولا سلطانا فلا عجب إذا سمي عيسى بهذا الاسم وإن لم يمسح ملكًا وهو أفضل من ملوك الأرض وسلاطينها وأكثرها تابعًا.

(2)

المنار: ألا يمكن أن يخرج من الميت إذا طعن شيء من رطوبات الجوف إذا نفذت الطعنة إليه؟ وهذه الرطوبات قد تكون مختلفة اللون والمادة؟ .

(3)

إشارة إلى قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} (المائدة: 89) .

(4)

حاشية: في هذه التوراة أن الذبيح كان إبراهيم الوحيد، فالظاهر أن تسميته بعد ذلك بإسحاق تحريف من اليهود ليفتخروا بأنهم من نسله ولكراهتهم أن يشاركهم غيرهم من الأمم في مزية من المزايا أو أن يختص بها وخصوصًا بني إسماعيل وإلا فإن إسحاق لم يكن ابن إبراهيم الوحيد بل كان مسبوقاً بإسماعيل والاختبار بذبح الابن الوحيد أشق على النفس من ذبح الابن الذي يوجد غيره، فلهذا ولغيره نرجح أن إسماعيل هو الذبيح لا إسحاق.

(5)

العدل لغة المماثلة والمساواة ومنه قولك: هذا الشيء يعدل هذا أي يساويه والظلم للنفس كما يستفاد من كتب اللغة وقواميسها ونصوصها.

(6)

أما الشفاعة الثابتة في القرآن فهي ضرب من ضروب التكريم لبعض عباد الله الصالحين المقربين بأعمالهم فيأذن لهم فيتكلمون ويدعونه في وقت ترتعد فيه الفرائس وترتجف القلوب {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: 28){لَاّ يَتَكَلَّمُونَ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} (النبأ: 38) فالشفاعة هي تكريم للشافع ولا تنفع في الحقيقة أحدًا من المشفوع لهم {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (المدثر: 48) اهـ من الأصل وهذه الآية نزلت في الكفار.

ص: 67

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إنا لله وإنا إليه راجعون [

1]

المصيبة الجلى بشقيقنا الشهيد الحسين آل رضا

يعزُّ عليَّ يا حسين أن أسمع لك نعيًا، وأن أراك مَبْكِيًّا مَرْثِيًّا، يعزُّ عليَّ يا

حسين أن أكون أنا الذي يُعَزَّى عنك، وأنت أنت الذي كنتم أودُّ أن تُعَزَّى عنِّي،

يعزُّ عليَّ يا حسين أن لا يمرَّ عشر المحرم من هذا العام، إلا وأنت الشهيد الذي

يجدد لنا ذكرى جدنا الحسين عليه السلام، يعز عليَّ يا حسين أن تُرْثَى في المنار،

وقد كنت أرجو أن تَرِثَ المنار، يعز عليَّ يا حسين أن تغتضر في ريعان شبابك،

وعنفوان قوتك، وأول العهد بتحقيق رجائي ورجاء الأمة فيك، فلئن بكيتك فأنت

أحق الناس ببكائي، وأجدرهم ببثي وحزني؛ للصفات والمزايا التي اجتمعت فيك،

وما كانت ولن تكون لسواك، فأنت أخي الشقيق، وتلميذي النجيب، وولدي البارّ،

ليس في إخوتي ولا سائر أهلي من هو أقرب إليَّ منك، ولم أعن بتربية أحد ولا

تعليمه كما عنيت بك، على ما آتاك الله تعالى من سلامة الفطرة، وعلو الهمة

وذكاء الفطرة، وشرف النحيزة، وعزة النفس، والميل إلى معالي الأمور،

والعزوف عن سفسافها.

ألا إن مصيبتي فيك أيها الشقيق العزيز لأكبر من مصيبة أمك الرءوم، ولكنها

ليست بأكبر من مصيبة أمتك العقور، المبتلاة في ولدها بالعقم أو العقوق، تثكل

البارّ منهم قبل أن تجني ثمرة خيره وبره، ويعمر العاق فتتجرع الحميم والغسلين

من عقوقه وشره، فإن بكيتك معهما، فإن مصيبتي بين مصيبتيهما، وإن العين

لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك لمحزونون.

ولو شئت أن أبكي دمًا لبكيته

عليك ولكن ساحة الصبر أوسع

فإن كان رُزْؤُك كبيرًا فالله أكبر، وإن كان الرجاء فيك عظيمًا فالرجاء في الله

أعظم، فلله ما أعطى ولله ما أخذ، و {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة:

156) ، فهنالك الملتقى إن شاء الله تعالى، فأنت في قوة إيمانك، وسلامة قلبك،

وعظم إخلاصك، وطهارة شبابك، وقيامك بالواجبات، وتنزهك عن الفواحش

والمنكرات، بل ترفعك عن مواقع الدنايا والهفوات، وبما رزقك من الشهادة، وما

حباك به من حسن الخاتمة، جدير بأن تكون في مقعد الصدق، من حظيرة القدس،

وهذا أعلى ما يعزينا عنك.

إن الله جلت حكمته، ونفذت مشيئته، قد امتحن قلوبنا بخطبك، وابتلى

إيماننا برزئك، فأرجو أن أكون من الصابرين على قضائه، المستحقين لصلواته

ورحمته، الشاكرين له ما أنعم به من صدق الإيمان، وقوة الإرادة، واتباع هدي

الكتاب والسنة، فقد جاءتني الصدمة الأولى وأنا بين صحبي، فملكت بفضله تعالى

نفسي، وحبست مجاري الدمع من عينيَّ ، وربطت على قلبي وكاد يتصدع بين

جنبيَّ، وعقدت جلسة لجنة مدرسة الدعوة والإرشاد، ولم أُشعر بمصابي أحدًا من

الإخوان، وإنما أذكر هذا تحدثًا بالنعمة، ورجاء أن أكون أهلاً للأسوة الحسنة،

فاجعل اللهم هذا جهادًا في سبيلك، وسببًا لمرضاتك، وآتنا به ما وعدتنا على رسلك،

وعوضنا خيرًا مما أخذت منا فإنك على كل شيء قدير.

كان هذا المصاب أثرًا من شر آثار الفوضى واختلال الأحكام، وفساد الحكام

في البلاد السورية، وغيرها من البلاد العثمانية، فقد اشتدت هذه الفوضى في

وطننا (لواء طرابلس الشام) في السنة الماضية حتى ترك كثير من الأحداث

والشبان الأعمال، وتدججوا بالأسلحة النارية في عامة أوقاتهم، وكثر حديثهم في

الرجولية باستعمالها، والفتك بها، وزالت من نفوسهم هيبة الحكومة، واعتقدوا أن

القصاص قد نسخ منها، ولم يبق بين الواحد منهم وبين قتل العمد إلا غضبة تعرض

له، أو استياء من أحد يلم بنفسه، واتفق أن الفقيد صادف واحدًا من هؤلاء التحوت

الأنذال يؤذي بنتًا في الطريق فنهره فاستلَّ النذل مديته وهجم بها على فقيدنا وقال له:

إنني أنتظر هنا لأقتلك أنت، فقبض عليه الفقيد وما زال يعالجه حتى أخذ منه

المدية، وأراد أن ينصرف، فأخرج الشقي مسدسه وأطلقه عليه ست مرات وكان

في كل مرة يروغ فتخطئه الرصاصة حتى أصابته السادسة فحملها وذهب إلى الدار.

وعلم بذلك الأصدقاء في طرابلس فبادروا مع طبيب عسكري وطبيب غير

عسكري إلى الكشف عليه فلم يهتد الأطباء إلى الرصاصة وظنوا من غير عملية

جراحية أنها غير قاتلة، وقد كتب الفقيد إليَّ وإلى شقيقنا السيد صالح بطاقة هذا

نصها:

سيدي الشقيقين:

إني أحمد الله إليكما أن نجاني من مصاب كبير، وخطر خطير، وذلك أن

الشقي عبد الوهاب الباشا أطلق علي عيارات نارية أصابني واحد منها في أليتي وقد

ضمد الجرح الآن، على أنه لم يمض عليه أسبوع، ولا بد من بقائي في البيت أيامًا.

وصل كتابك الأخير وسأجيبك عنه إن شاء الله تعالى، الجميع بخير.

...

...

...

... 3 المحرم سنة 1330

...

...

...

...

حسين وصفي رضا

فكتبت إليه وإلى غيره إنني لا أطمئن ولا يرتاح قلبي إلا إذا استخرجت

الرصاصة أو عرف مكانها وأنه غير مقتل، ولكن لم يرجع إلا النعي، فقد تبين أن

الرصاصة اخترقت الجنب ووصلت إلى الأحشاء، وفعلت فعلها في الأمعاء، وذلك

مساء عاشر المحرم، وخرجت روحه الطاهرة في صبيحة حادي عشره، بعد أن

نطق بالشهادة وحمد الله أنه لم يسفك دمًا، ولا قارف محرمًا، وكانت هذه البطاقة

آخر العهد بكتابة فقيدنا رحمه الله تعالى.

كان المصاب بالحسين عظيمًا على كل من عرفه من أهل العلم والفضل

والأدب أو عرف شيئًا من مزاياه العالية، وما عارِفُوه على حداثة سنه بالقليلين.

وسنذكر نموذجًا من تعازيهم في جزء آخر، ونكتفي هاهنا بكلمة من كتاب تعزية

لأحد أهل العلم والأدب في طرابلس الشام في سوء الحال والفوضى هناك وهو

الشيخ محمد نجيب الحفار قال:

أرفع لمقامكم السامي هذه العريضة، وإن قلمي يضطرب من شدة هول تلك

الحادثة التي أودت بجميع من عرف ومن لم يعرف صفات فقيدكم بل فقيد جميع

الناس المرحوم أخيكم السيد حسين رضا من رصاصة أتته من يد أثيمة كلا بل من

دولة أثيمة لا تعرف للإنسانية حقًّا ولا للرعية ذمة يجبرانها على القيام بحفظ أموالهم

وأعراضهم وأرواحهم وخصوصًا أهل العلم والفضل والشرف منهم الذين يذهبون

كل يوم ضحية تهاملها وتكاسلها عن تعقيب أولئك الكفرة الفجرة الذين يعيثون في

الأرض فسادًا لا يهابون الناس ولا الحكومة بدليل أنها أرسلت منذ عشرة أيام أحد

ضباطها رديف بك وهو من خيرة رجالها لتعقيب بعض الأشياء الذين عجزت عن

إلقاء القبض عليهم نظرًا لعدم اهتمامهم بقوة الحكومة وسطوتها فرجع المسكين

محمولاً على الأكف مدرجًا بدمائه الطاهرة بعد أن كان كالأسد لا يهاب من وظيفته

أحدًا فواروه جدثه ولم تزل الأشقياء للآن زُمرًا زمرًا داخل البلدة وخارجها يقومون

بأعمال لا قِبل للإنسانية على تحملها وأصبحت الأهالي في اضطراب شديد من هول

هذه الأعمال القبيحة، ومن جملتها مصيبتنا بالغصن الرطيب والركن العلمي والذكي

المفرط المرحوم السيد حسين رضا) إلخ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

سورة البقرة آية 156.

ص: 78

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السيد حسين رضا

(1)

ولد شقيقنا فقيد الإصلاح والفضيلة السيد حسين لبضع ليال خلت من شهر

ربيع الأول سنة 1299 (الموافق شهر يناير 1882) وقد اغتبط والده بولادته ما

لم يغتبط بولادة غيره من ولده، وكان يقول: إنه ولد ليلة المولد النبوي وأنا أرى

أنه ولد قبلها بليلة فإن ليلة المولد هي ليلة تسع على التحقيق. وكان يحبه حبًّا شديدًا

حتى كان يظهر حبه له في حضرته خلافًا لعادته مع أولاده، ويلهج المرة بعد المرة

بقوله (هذا الحسين بن علي) فكأن هذا كان منه إشارة إلى الفجيعة به في المحرم.

تعلم مبادئ القراءة والكتابة في القلمون ولاحت عليه من نشأته الأولى مخايل

الذكاء والنجابة والعقل، واعتصم منذ طفولته بحبوة الحياء والأدب، وإنني لا أتذكر

أن أحدًا أهانه بقول أو فعل، وكنت أنا الذي حملت الوالد رحمه الله تعالى على

وضعه في مدرسة الحكومة الابتدائية في طرابلس (وكنت يومئذ أطلب العلوم

الدينية والعربية في تلك المدينة) وكان يضن به على المدن خوفًا على أخلاقه،

ويحب أن يطلب العلم في غير المدارس الرسمية، وكنت أتعاهده بكل ما يحتاج إليه،

فتلقى فيها شيئًا من مبادئ التركية والفرنسية والحساب والصرف والنحو بالتركية!!

وعلم الحال (العقائد والعبادات) ولكن حالة المدرسة الأدبية لم تكن تلائم

فطرته فتركها باختياره ولم يتم مدتها.

ثم أقرأته النحو والصرف والتوحيد والأخلاق وشيئًا من الفقه ورغبته في

الأدب ، فقرأت له مع آخرين كتاب الإظهار وطائفة من كتاب ابن عقيل في النحو

(وحفظ الألفية كلها أو بعضها) ، وحضر عليَّ بعض دروس الإحياء والعقائد وفقه

الشافعية.

ثم هاجرت إلى مصر وأنا ضنين به أن يبقى في وطنه، وقد اشتد الضغط فيه

على العلم وأهله وكتبه، فكنت أطلبه من الوالد (رحمهما الله تعالى) فيرجئ

ويُسوِّف في إرساله، حتى سمح به في أوائل سنة 1321 فوضعته في الأزهر فكان

يحضر درس التفسير والبلاغة على الأستاذ الإمام ودرس فقه الحنفية على الشيخ

أحمد أبي خطوة ودروسًا أخرى كان ينتقل فيها من حلقة ينتقدها، إلى حلقة يرجو

أن يجد طِلْبته فيها، ويقرأ المنار ويحاول اتباع أسلوبه في الكتابة، ولم يلبث أن

ترك الأزهر بعد وفاة الشيخين محمد عبده وأبي خطوة، وما أراه أتم حضور كتاب

على أحد فيه؛ لأنه لم يستطع الصبر على أسلوبهم - فهذا مُجمل القول في دراسته

وكل من عرفه من أهل العلم كان يرى أن معارفه أكبر من سنه. هكذا قال الأستاذ

الشيخ عبد الكريم سلمان والدكتور شميل والدكتور يعقوب صروف وغيرهم.

كان رحمه الله تعالى كاتبًا أديبًا وشاعرًا وسطًا وخطيبًا مفوهًا، وكان يعرض

علي في بدء الأمر بعض ما يكتبه وما ينظمه فلا أجد فيه إلا القليل من الخطأ الذي

يقع في مثله أشهر الكتاب والأساتذة، وما عتم أن استقل بنفسه، وصار ينشر

المقالات الأدبية والسياسية والاجتماعية في الجرائد والمجلات الكبرى، فتارة

يمضيه باسمه الصريح، وتارةً بلقب مستعار، وقد كنت أنكر عليه أولاً استعجاله

بالاستقلال التام، وأنا أعلم أن سببه الذي ساعد استعداده الفطري عليه هو الاقتداء

بشقيقه وأستاذه الأول، وأرى أنه فاته بهذا الاستقلال قبل أوانه ما كنت أحبه له من

التوسع في العلوم الشرعية استعدادًا لتحرير المنار، وأن يكون ذلك برغبته

واختياره، فلم أستطع أن أحدث له هذه الرغبة، وحثثته على إتقان اللغة الفرنسية

فاشتغل بها زمنًا ولكنه لم يتقنها كما يجب ولم يطلقها ألبتة؛ لأنه كان يجري على

سجيته ولا يطيق التكلف. وما كنت يائسًا من عودته إلى إتقان ما كنت أحب أن

يتقنه وأنا أعلم أن رغبته إذا تحركت فإنها تكون كالكهرباء مضاء وسرعة.

وجملة القول في علمه أنه علم الأديب، من كل فن حظ ونصيب، وكان

دقيق النقد، حاضر الحجة، قوي الذاكرة، شديدًا على الخصم مع النزاهة والأدب ،

وله آثار وحكم وخواطر حسنة مدونة في مذكراته، سننشر بعضها في المنار إحياء

لذكره، وشرحًا لمكنونات صدره وخبايا فكره.

أما أخلاقه وسجاياه فهي التي كانت أكبر مواضع الرجاء فيه، وأظهرها

وأعلاها استقلال الفكر وقوة الإرادة والإباء وعلو الهمة وعزة النفس والصدق

والأمانة والعفة والنجدة والمروءة والشجاعة والإقدام والروية والوفاء والإخلاص،

وكنت أخشى أن يغلب ميله إلى الشجاعة والرجولية ميله إلى العلم والأدب. أرأيت

إذا أشرب صاحب هذه الأخلاق حب المصلحة العامة، ووجه وجهه إلى خدمة الأمة،

مع حسن البيان بالقلم واللسان، ألا يرجى أن يكون من المصلحين المجددين؟

بلى، وإن فقيدنا الشاب قد كان مرجوًّا لهذا وأهلاً له، لو قدر الله له عمرًا طويلاً.

إنني وإن كنت أشهد لأخي وتلميذي فشهادتي حق، وما تعودت بفضل الله إلا

قول الصدق، ولا فائدة لي ولا له في إطرائه وإعطائه ما ليس له بحق، ويشهد له

بذلك جميع من عرفه من أهل العلم والفضل الذين يقدرون الفضيلة حق قدرها أو

جملتهم ومجموعهم، كما تشهد له به آثاره التي هي مرآة نفسه؛ لأنه لم يكن يكتب

إلا ما يمليه عليه اعتقاده وشعوره، وإنني أنقل هاهنا بعض ما كتبه إليَّ فضلاء

المعزين.

وإنما أختار من التعازي الكثيرة التي كتبت إلى ما فيه تصريح أو إشارة إليَّ

رأي الكاتب لها في فضل الفقيد وأخلاقه والرجاء في خدمته لأمته. والتعازي

ضروب بعضها وعظ عام، وبعضها ثناء على المعزى، وأكثرها إكبار للمصيبة

بالكلام المجمل والوصف الشعري.

(1)

كان أجدر الناس بأن يحفظ كلامه وينشر في هذا المقام صديقنا الأكبر الأستاذ

العالم الصوفي الشيخ محمد كامل الرافعي أفضل الفضلاء في طرابلس الشام، ولكن

ما كتبه في هذا المصاب شجون فيها ذكر ما وقع ووصف حاله هو فيها وما يعتقده

في صديقه كاتب هذه السطور، فلا يتعلق شيء كثير منها بغرضنا، ويصح أن

يكون منه بعض عباراته في إكباره المصاب على ما هو عليه من وقار المشيب،

وما اعتاده من مصارعة الخطوب، كقوله حفظه الله تعالى:

(فلم يفجأني إلا خبر نعيه الذي أصم السمع، وصدع القلب، وكان له من

التأثير على وجودي كله ما تمنيت معه أني لم أخلق، وأسرعت إلى القلمون آسفًا

جازعًا، فرأيت القيامة قائمة، وشهدت من هول المصاب ما يذيب القلوب ويفطر

المرائر، ويذهب بالنفوس حسرات، واجتهدت بحسب ضعفي إذ ذاك لتخفيف

الهول على غير جدوى. وبالحقيقة إن مصابنا بالحسين عظيم، والخطب فيه جسيم،

وإنما يُقوى عليه بقوة من الله) .

ومن كتاب له إلى ابن أخته جميل أفندي الرافعي:

(فجعت بعد أخي أحمد عارف رحمه الله [1] بمثل انفجاعنا لوفاة السيد

الحسين رضا، ولا أمضني خطب كخطبه، ولا أسفت لأحد كما أسفت لفقده، ولو

شئت لعددت مواهبه بلسان الندب، ولكن قلبي من الحزن لا يطيق. ولقد صعب

على تعزية (السيد)[1] به حتى لا أكاد أعقل ما كتبت. ولو أني حملت جبال

رضوى لكان أهون علي ممن حملت من الكتابة إليه، على أنه لا بد منه، والأمر

لله، و {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) .

(2)

ما كتبه إلي لسان الصدق والحكمة السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي من

الآستانة:

كتابي اليوم كتاب أسى وحزن، ولولا أن الجزع قبيح بعباد الله المؤمنين لكان

قلبي اليوم جديرًا أن يتسع للجزع وحده ويضيق عما سواه ولا أجد غضاضة عليَّ

في ذلك لولا الإيمان؛ لأن فقيدنا ليس من هذه الأعراض الفانية المتبدلة، كلا بل

هو جوهر من أكرم الجواهر التي حظينا من الزمان باكتساب صحبتها، والتعزي

في هذه الحياة برؤية صفائها، هو من أعظم الهدايا الإلهية التي آنستنا في المعامع

الموحشة، معامع قيل وقال، وكثرة الجدال، هو من أفضل الأعيان التي تصبح

زينة التاريخ برونق محامدها، هو (السيد حسين رضا) ويا لهف قلبي حين يُرى

هذا الاسم محشورًا في صفوف الغابرين، بعد أن عرفناه جمال محافل المعاصرين.

إذا كان فقد الفضلاء ليس ببدع في عالم الكون والتحول، فالجزع لفقدهم ليس

ببدع أيضًا، وإذا كان ذوي الغصون النضرة أمرًا معهودًا فذرف الدموع لأجلهم أمر

معهود كذلك، لكننا نجلّ سنة الله تعالى في أنفسنا، ونتكلف تقديم الأُنس بروحه

على الأُنس بأشباحنا، فنتزحزح بذلك عن الجزع القلبي مستغفريه سبحانه عن

الدموع التي لا نملك سدًا لتيارها، ولا حول ولا قوة إلا به، هو ولي الفطرة ومازج

الضعف بالقوة.

إذا أسي الآل الرضوي على الحسين فلا غرو، كيف والآسون عليه من

سواهم يعدون العد، ويتعاصون على الحد، فمحافل الآداب، ومعاهد العلوم،

وبيوت الحسب، ومآهل الشبيبة، ومناهل الفضائل، كل ذلك بعض من أسي على

هذا الغصن النضير الذي أنجبته دوحتهم، وأوحشت منه اليوم رياضهم، وإن

يلتمس الآل الرضوي عزاء فليس لغيرهم مثل ما يجدونه من العزاء بوجود مولاي

الأخ الذي هو اليوم عزاء عالم الإصلاح كله.

كتبت هذا وما أملي بأن أكون معزيًا في الحسين أكثر من أن أكون مُعزى فيه،

وذلك أن أخي الرشيد أغنى بقوة معرفته بالله سبحانه وأُنسه بروح هديه وتجلياته

عن تعزية إخوانه، أما أنا فلا أستغني ولا أجدني ساليًا ذاك الشاب الذي لا فضل لي

في عشق لطفه، فإن كل من عرفوه محكوم عليهم بالتقيد والتعلق بمناقبه، فالله

سبحانه مسئول أن يثيبنا في هذا المُصاب، ويكفي الآل الرضوي، سائر الأوصاب،

و] إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (البقرة: 156) [.

...

...

...

...

...

أخوكم

...

...

...

... عبد الحميد الزهراوي

وكتب في جريدته الحضارة التي تصدر في الآستانة

...

...

...

... السيد حسين وصفي رضا

شاب نشأ في مهد المجد، ورضع أفاويق المعالي، وتضلع من الآداب والحكم،

وبلغ في المروءة والشهامة الغاية، أتانا نعيه فوقع لدينا وقعًا مؤلمًا، وكان أسفنا

عليه عظيمًا، فقد كان فوق كل ما تقدم من صفاته صديقًا من أعزِّ أصدقائنا، وأخًا

من أكرم إخواننا، فنعزي فيه الفضائل والمعالي وأخانا العلامة المصلح شقيقه السيد

محمد رشيد رضا صاحب (المنار) أجزل الله أجره، وأطال عمره، {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا

إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) ، منه سبحانه نستنزل الرضوان على جدث الفقيد

العزيز، والصبر والسلوان على أفئدة أهله وعارفيه.

(3)

ما كتبه أكتَب علماء طرابلس الشام وأعلم كتابها الشيخ إسماعيل أفندي الحافظ

المدرس في دار الفنون العثماني ومكتب النواب بالآستانة.

سيدي الأخ الرشيد عزى الله نفسه بما يرجوه من صلاح الإسلام وإنزال

السكينة على قلبه. أكتب هذه الكلمات بيد ترتجف أسفًا، وأنفسا تتقطع لهفًا، وبين

قلبي قلب يكاد يقطر دمًا، ويتفطر تأثرًا وألمًا، وعلى عارضي دمع ينهل مدرارًا،

ويتسابق انحدارًا، ثم لا يلبث أن ينقلب نارًا، تذكى فيّ أوارًا، دمع كأني أحس

بسويداء قلبي تسيل في وليه، وسواد عيني يمتزج بأتيه، حتى لو استعملته مدادًا،

لرقم على هذا الطرس سوادًا، وذلك شأني منذ قرأت في جرائد طرابلس نعي ذلك

الشاب الغض والحس المحض، والأدب الموفي على الروض جمالاً، والخلق

المزري بنفحات الزهر أريجًا، والذكاء الذي يكشف أعقاب الخطوب، ويكاد يشق

حجب الغيوب، ويستجلي خواطر القلوب، فيا له من خطب رُزئت به الفضيلة

بجمالها، والمكارم بكمالها، والمروءة ببهجتها، والنجدة بمهجتها، ويا حسرة الأقلام

والمحابر، والكتب والدفاتر، وياما أطول أسفي على ذلك الفقيد، وما أشد إشفاقي

على قلب (السيد) كيف يحتمل المصاب به والصبر على نضرة شبابه، وهو أكثر

أشقائه جريًا في سبيل الإصلاح، وأقدرهم على مساعدته وتأييده، ولكن علمي

بمبلغ صبر السيد واحتماله، وثقتي بتمكنه في موقف الجهاد النفسي، واستهانته

بصروف الأيام، وزهده في متاع الدنيا الفانية، قد يهون بعض آلامي، وينهنه من

غلواء جزعي وإشفاقي، وهو ما هيأ لي سبيلاً إلى التقدم إليه بهذه التعزية الحزينة.

وأما أنت أيها الأخ الصالح [1] فإني أعلم رقة شعورك، وشدة تعلقك بالفقيد،

وضعفك عن احتمال المصيبة به، ولذلك كففت عن تقديم تعزية خاصة بك، جزعًا

من ذكر هذه الفاجعة، وإشفاقًا وكآبة وحزنًا، عزى الله قلبكما بفضله وألهمكما

الصبر الجميل، وجزاكما الأجر الجزيل، على أنني لست أغنى منكما عن التعزية

بهذا المصاب. وهبنا الله جميعًا جميل العزاء والسلوان، وعوض الفقيد على شبابه

بالرَّوْحِ والرَّيْحَانِ، وأعلى غرف الجِنان، وهو على فراقه المستعان.

...

...

...

...

...

الداعي

...

...

...

...

إسماعيل الحافظ

(4)

وكتب الأستاذ الأكبر، بقية السلف الصالح، الشيخ عبد الرزاق البيطار

الدمشقي:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله القائل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ

وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} (البقرة: 155-157) والصلاة والسلام على فقيد الأوائل والأواخر، وعلى آله

وصحبه إلى اليوم الآخر.

أما بعد: فيا أيها الأخ العزيز الذي نحن شركاؤه في حزنه وبكائه، ونظراؤه

في كدره وأسفه وبلائه، إن المصائب تتفاوت في المقدار، والحوادث تختلف

باختلاف الأقدار، وعلى قدر المشقة يكون الثواب، ويضاعف الأجر بحسب

المصاب، وأنت وإن كنت أعلم منا بثواب الصبر، وما أعد الله للصابرين من

الثواب والأجر، ولكن لا بأس بالمذاكرة والتذكير، والقيام بأوامر السنة بلا فرق

بين جليل وحقير، فيا مولاي الجليل، هل - للخلق من خلاص ونجاة، مما حكم

به الحاكم المطلق وقضاه، وإني وايم الله حينما علمت بهذا الخطب دارت بي

الأرض دهشة وحيرة، وأظلمت الدنيا في عيني أسفًا وحسرة وكتبت معزيًا والقلم

هائم، والدمع هامٍ والكرب داهم، فيالها من مصيبة ما أعظمها، وداهية ما أفظعها

وأجسمها، وعلى كل حال ليس لنا سوى التسليم لولي الأمر، ولزوم الصبر، على

ما هو أمر من الصبر، وقد قال من له الأمر والشأن، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرحمن: 26) فالله يبقي لنا وجودكم جميعًا وينيلكم كل مراد ومرام، ويختم لنا

ولكم بجميل الإنعام وحسن الختام.

...

...

...

حرر في 19 محرم سنة 1330

...

...

... عبد الرزاق البيطار

(5)

وكتب العالم الكبير، رب التصنيف والتحرير، الشيخ جمال الدين القاسمي

الدمشقي:

حضرة مولانا أوحد الأعلام -أطال الله في بقائه وبارك لنا في حياته-، وافانا

اليوم نبأ أذرف الدموع، وأطار الهجوع، وخطْب أورث الشجن، وأطال الحزن،

وأنزل بنا أعظم مصاب، وأرانا ما لم يكن بحساب.

أدهشني والله ما فجعني، حتى حرت كيف أعزي وأنا حقيق بأن أُعَزَّى، أم

كيف أتلو ما للصابر وأنا الجدير بما يُتلى، ولقد أبى القدر المحتم إلا أن يمثل في

المحرم فاجعة الحسين، وأن يجعل لنا - وإن لم نتشيع - من الشجو ضِعفين، فإنا

لله وإنا إليه راجعون، نسأله تعالى أن يُفرغ علينا الصبر، ويوفي لنا بعظيم مصابنا

الأجر، ويهب للسيد الأكبر من العمر أطوله، ومن العيش أكمله، والسلام.

...

...

...

فى 15 محرم سنة 1330

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

... الأسيف جمال الدين القاسمي

(6)

وكتب صاحب الفضيلة، والمزايا الجميلة، الشيخ مصطفى أفندي نجا مفتي

بيروت:

سلام الله على حضرة الأستاذ الجليل، أعظم الله أجره وأحسن عزاه بمنِّه

تعالى وكرمه. وبعد فإن نبأ الفاجعة الأليمة والمصاب العظيم، بصديقنا الأخ الكريم

قد جرح الفؤاد وأورثنا الأسف الشديد، وساء كل من عرف فضل هذا الفقيد

الأديب، والكاتب النجيب، عامل الله من اعتدى عليه بما يستحقه. وعلى كل

فالموت على العباد أمر محتم، والتسليم لله تعالى أولى وأسلم، والأستاذ حفظه الله

جدير بأن يتدرع لهذا الخطب الكبير بصبر أكبر منه، فإنا لله تسليمًا لأمره تعالى،

ولا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم أفض على الشهيد سِجال رحمتك، وأسكنه بفضلك

في عالي جنتك، وسهل لأسرته الكريمة سبيل الصبر، وتحصيل الأجر، إنك

سميع الدعاء.

...

...

...

... الفقير مفتي بيروت

...

...

...

...

... (الختم)

(7)

وكتب صفوة أدباء بيروت أصحاب التوقيعات كتابًا مشتركًا قالوا فيه:

الأستاذ العلامة مولانا السيد محمد رشيد رضا أطال الله بقاءه

السلام على الأستاذ ورحمة الله وبركاته. وبعد فإنَّا نكتب واليد مرتجفة والقلب

يخفق والعين تدمع للرزء الجليل الذي أصيب به الأدب والفضل والخلق الكريم

والغيرة الصادقة. فكان هذا المصاب عامًّا لكل من عرف الفقيد رحمه الله ولم

تُخَصص بذلك أسرته الكريمة. فنتقدم بتعزية الأمة عمومًا ولفضيلتكم خصوصًا.

ألهمنا الله جميعًا الصبر وأعظم لنا ولكم الأجر.

...

...

...

...

محمد علي القصاص

...

...

...

...

عبد الرحمن سلام

...

...

...

...

مصطفى الغلاييني

(8)

وكتب صاحبا الإمضاء من سروات بيروت وكبار وجهائها إلى السيد الحكيم

أدام الله بقاءه.

مصابنا بالحسين عظيم، ووقعه في قلوبنا أليم، وما لهذا الخطب العميم، إلا

جميل الصبر مما يعد من فضائل السيد الحكيم، الصادع بأمر ربه، الراضي بحكمه

وقضائه، فمنك وإليكم سنة التعزية، عظَّم الله أجركم، ويرحم الفقيد العزيز

وعوضنا ببقاء السيد خيرًا والسلام.

...

...

...

... 16 محرم سنة 1330

...

...

...

...

... الداعي سنو

...

...

...

...

الداعي حسن بيهم

(9)

وكتب الكاتب الخطيب الشهير الشيخ أحمد طبارة صاحب جريدة الاتحاد

العثماني في بيروت: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) .

مولانا العلامة الأستاذ الرشيد:

تناولت القلم لأكتب للأستاذ تعزية بالشهيد الحسين، فتراءى لي هول المصاب

وتمثل أمامي فضل الفقيد، وأدبه الغض، وخلقه الكريم، فلم أدر ماذا أقول سوى

أني أدعو إلى الله تعالى بأن يفرغ على قلب الأستاذ الصبر الجميل، والأجر الجزيل

وأن يتغمد فقيدنا بوابل رحمته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والسلام.

...

...

...

19 محرم الحرام سنة 1330

... أحمد حسن طبارة

(10)

وكتب الأديب الفاضل، سليل بيت العلم والفضائل، في بيروت (وهو الآن

بمصر) .

حضرة السيد الفاضل النبيل حفظه الله.

أعرض أن المصاب بأخ الطرفين شقيق حضرتكم، لقد أصاب وايم الله كبدي

الفضل والنُّبل وأضاع الوطن بفقده شهمًا غيورًا وعاملاً بل أملاً كبيرًا نشأ في

حجري العلم والحكمة وشب متشبعًا بالأفكار السامية والمبادئ الراقية إلخ إلخ.

...

...

...

...

...

المخلص

...

...

...

...

محمد مصباح الحوت

(11)

وجاءنا من جمعية الإخاء الإسلامي ببيروت هذا الكتاب فنشرناه بعد حذف

رسوم الخطاب، فإن لم يكن على شطرنا في موضوعه فللجمعية معنى يتصل به

من وجه آخر، وليكن ختام ما ننشره من تعازي بيروت التي هي في مجموعها،

أعرف البلاد السورية بقيمة رجالها:

نبدي أن نبأ الفاجعة الأليمة بوفاة الشقيق قد ملأ القلوب أسفًا وحزنًا، وأسال

من العيون حزنًا، قضى رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه دار الكرامة مع الأخيار،

مضى في سبيل لا بد لكل حي من المسير فيه والمصير إليه بحكم مقدر الأعمار

لأجلها، والآجال لميعادها، فلا ينفع الفائت الحزن، ولا يرفع الهم غير الاعتصام

بالصبر، وكل ذلك لا يخفى على فضيلتكم، ومعالي إرشادكم أحسن الله لكم العزاء

ولقاكم من الصبر أكمله، ومنحكم من الأجر أجزله، ولا أراكم بعده ما تكرهون،

و {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *} (البقرة: 156-157) .

...

...

...

20 محرم الحرام سنة 1330

...

...

...

... عن عموم أعضاء جمعية

...

...

...

الإخاء الإسلامي في بيروت

رئيسها: محمود فرشوخ

(سنذكر في الجزء الآتي نموذجًا من تعازي سائر البلاد والأقطار)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هو أكبر إخوته وأنفعهم وقد مات له غيره.

(2)

إذا أطلقوا لفظ السيد يعنون به صاحب هذه المجلة.

(3)

يريد خطاب شقيقنا السيد صالح.

ص: 97

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدولة العلية واليمن

نشر كاتب إنكليزي شهد حصار صنعاء في العام الماضي وعاد في هذه الأيام

إلى إنكلترة مقالة في التيمس وصف فيها ذلك الحصار وحالة البلاد في هذا الأوان ،

ترجمت جريدة المقطم خلاصتها، فرأينا أن ننشرها لتكون تتمة لما نشرناه من قبل

في مسألة اليمن قال الكاتب: (عقدت الحكومة العثمانية صلحًا غير مجيد مع الإمام

يحيى بعد ما رَشَتْ زعماء الثورة بالأموال الطائلة ووعدتهم بالإصلاح، فنال الإمام

بذلك أكثر مما كان يطمع فيه، وثبت في مركزه حاكمًا على قبائل الزيدية ولم تتغير

الحال في ما سوى ذلك عما كانت عليه قبل بدء القتال ، فالأتراك يملكون صنعاء

وقد استرجعوا معظم المراكز التي كانوا يحتلونها في الماضي، والإمام يملك شهارة

وسائر المعاقل التي كانت له ، وقد أطلق الإمام أخيرًا سراح خمسمائة أسير من

الجنود ولكنه لم يُعِدْ المدافع التي غنمها في هذه الثورة أو في ثوراته السابقة ،

واضطرت الحكومة أن ترسل خمسين ألف عسكري بقيادة عزت باشا وهو من أكبر

قوادها للحصول على النتائج التي مر ذكرها.

ولا يستطيع الواقف على حقيقة أحوال اليمن أن يقابل الأنباء التي وردت من

الآستانة عن استعداد الإمام لتقديم مئة ألف مقاتل ليحاربوا الإيطاليين في طرابلس

الغرب إلا بالابتسام. ذلك؛ لأن سلطة الإمام اسمية أكثر مما هي فعلية؛ ولأن

الحكومة العثمانية تعجز عن نقل هؤلاء المتطوعين إلى ساحة الحرب. فالإمام إذًا

في حِلّ من ذلك ولا تثريب عليه إذا لم يبر بوعده.

قد أتيح لي أن أكون في صنعاء لما كان الإمام محاصرًا لها وظل الحصار من

شهر يناير إلى أواخر شهر إبريل من العام الماضي. وكان عدد الحاصرين يتراوح

بين عشرة آلاف وخمسين ألف مقاتل. ولو هجم الثوار على المدينة بغتة لتيسر لهم

فتحها عنوة؛ لأن حاميتها - وكانت مؤلفةً من خمسة آلاف من المشاة وبعض

الفرسان ونحو 30 مدفعًا - لم يكن في استطاعتها الدفاع عن السور الذي يبلغ

محيطه اثني عشر كيلو مترًا. ويقال: إن الإمام كان عازمًا على إتيان ذلك وأعد

السلالم اللازمة لتسلق الأسوار ولكن المقربين إليه ثنوه عن عزمه.

وقد أنفق الفريقان مقدارًا عظيمًا من الذخائر سدى، ولم يحتدم وطيس القتال

إلا لما دنا عزت باشا بجيشه من صنعاء فكانت الحامية تخرج من المدينة حينئذ

وتهاجم الثوار فتنشب بينهما معارك شديدة يخسر فيها الفريقان خسارة جسيمة.

وكان الثوار مسلحين ببنادق موزر من عيار 74 وغني عن البيان أن هذه

البنادق شديدة الفتك، ولقد كانت الذخائر متوفرة عندهم وإلا ما استطاعوا أن يطلقوا

على الأسوار نارًا حامية أكثر من ثلاثة أشهر، ومما يستغرب في هذا الأمر أن

البنادق والذخائر في شبه جزيرة العرب أرخص منها في أوروبا، ولم يستعمل

الثوار المدافع العديدة التي غنموها من الأتراك كثيرًا؛ لأنه ليس بينهم من يحسن

الرماية بها؟ ؛ ولأن معظم الذين تصيبهم قنابلها داخل المدينة هم من إخوانهم

وأتباعهم.

وحدث أنه لما عصفت ريح الثورة خرج بعض الجنود المحليين من العرب

من المدينة وانضموا إلى الثوار فشدد ولاة الأمور على من تخلف من هؤلاء الجنود

واعتقلوهم هم وسائر الذين اشتبهوا فيهم من الأهالي إلى أن انتهى الحصار، ولم

يشددوا إلا في هذا الأمر وتجاوزوا عن سيئة الذين سعوا في نسف الثكنات، ويأوَّل

تسامحهم هذا بخوفهم من قيام العرب عليهم إذا سقطت صنعاء وانتقامهم منهم

وحرصهم على حياة الجنود الكثيرين الذين أسرهم العرب.

وزحف عزت باشا بجيشه من الحديدة على داخلية البلاد من غير أن يلاقي

المقاومة التي كان يتوقعها، نعم إنه قاتل كثيرًا في طريقه، ولكن الثوار لم يدافعوا

عن معقل من معاقلهم العديدة بين الحديدة وصنعاء مدافعة تستحق الذكر، وقد دلت

النتائج على أن تقاعدهم عن مقاومة الجيش كانت حكمة من الإمام وليس جبنًا منه

ومن رجاله، ولما بلغ الجيش صنعاء رأى أنه لا يستطيع أن يخطو إلى ما وراءها،

ولم تكن خسارته في الحرب عظيمة ولكن الأوبئة فتكت به فتكًا ذريعًا، وزد على

ذلك أنه لقي في طريقه مشاقَّ وصعابًا وأنفق مالاً كثيرًا في الانتقال من مكان إلى

مكان، وشاع بعد رفع الحصار أن الجيش كان ناويًا التقدم، إلى شهارة، ولكن

عرب السواحل استأنفوا القتال الذي انتهى بواقعة جيزان المشئومة فحال ذلك دون

إخراج هذا العزم واضطر ولاة الأمور أن يسرعوا بمفاوضة مشايخ عرب الجبال

ليشتروا خضوعهم وولاءهم بالمال.

ويستدل من هذه النتائج السلبية أن الحكومة العثمانية لا تستطيع إخضاع اليمن

إخضاعًا تامًّا وأن الأسباب التي تمنع الإدريسي من الاتحاد مع الإمام ، وهي

اختلافات دينية - تمنعه أيضًا من الاتفاق مع الحكومة، هذا وإن منع تكرر الثورات

في تلك البلاد ضرب من المحال إلا إذا نزع السلاح من الأهالي ولكن الحكومة بدلاً

من أن تفعل ذلك مكنت العرب من غنم عدد عظيم من البنادق وبعض المدافع من

جيشها وهم يرفضون الآن ما تعرضه عليهم من الاقتراحات لرد هذه الأسلحة أو رد

بعضها رفضًا باتًّا.

وعلاوةً على ما تقدم فإن التغلب على البلاد الجبلية في اليمن محفوف بأخطار

ومصاعب جمة إذا كانت الحال ملائمة لذلك؛ لأن البلاد وعرة المسالك تتخللها

الجبال والهضاب من جميع الأنحاء فتجعل المواصلات أمرًا صعبًا جدًّا إن لم نقل

محالاً، وفيها كثير من المعاقل الطبيعية ويسكنها قوم أشداء عُرفوا بالبسالة والإقدام؛

لأنهم شبوا على الحرب وشن الغارات؛ ولأنهم مستكملو العدة والسلاح، نعم إن

التمرس والتدرب على القتال يعوزانهم ولكنهم متحدو الكلمة تراهم قلبًا واحدًا ويدًا

واحدة في الذود عن كل ما يوجب إذلالهم وإخضاعهم) اهـ.

(المنار)

يعتقد الكاتب أن الدولة لا تستطيع إخضاع اليمانيين بالقوة، ثم هو ينصح لها

بأن تأخذ منهم أسلحتهم فكأنه ينصح لها بأن تستمر على إنفاق الملايين مما تقترضه

من أوربة بالربا الفاحش وعلى بذل دماء الألوف من المسلمين كل عام لأجل أن

يهلك الفريقان ويكونا غنيمة باردة للطامعين فيهم جميعًا. ولو كان مخلصًا في

نصحه لاستنبط من علمه واختباره أنه يجب على الدولة وهي لا يمكنها إذلالهم

وإخضاعهم أن ترضى بأن يتولوا أمور أنفسهم بمساعدتها تحت سلطتها وأن تؤلف

منهم قوة يحمون بها بلادهم من الأجانب إذا اعتدوا عليها ويكونون عونًا للدولة عند

الحاجة إليهم. فحسبها أنها حاربتهم أربعة قرون وخسرت في ذلك الملايين من

الرجال وبذر المال، ولم تستفد في مقابلته شيئًا قط.

_________

ص: 106

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌دعوة سيدي أحمد الشريف السنوسي

إلى جهاد الإيطاليين في طرابلس الغرب وبرقة

المنشور الذي نشره في القبائل

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا

إنه من عبد ربه سبحانه أحمد بن السيد محمد الشريف بن السيد علي السنوسي

الخطابي الحسني الإدريسي إلى كل واقف عليه من عموم المسلمين خصوصًا البلاد

التي استولى عليها أعداء الدين.

الحمد لله العزيز الجبار، والصلاة والسلام على من أطال عز الدين بالبتار،

وعلى آله الأنصار، القائمين بواجب {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ} (التوبة:

123) الصادقين ما عاهدوا الله عليه، الذائقين من حلاوة الشهادة ما أحبوا مفارقة

النعيم المقيم للرجوع إليه.

أما بعد إهدائي أطيب السلام، والدعاء لثبات الإقدام بثبات الأقدام، اعلموا

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: 111) ،

{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ} (التوبة: 111) وجاهدوا متخذين نصره سيفًا وولايته جُنَّة،

واسمعوا ما نبهكم به على الوفاء بتسليم المبيع من الوعد بالربح الجسيم، في قوله:

{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ

فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ

وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ

العَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} (الصف: 13) واحذروا ما توعدكم به المماطل من العذاب والتدمير في قوله:

{مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ

الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَاّ قَلِيلٌ * إِلَاّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} (التوبة: 38-40) .

واعلموا أن الأجل محتوم، فما خائض المعركة ميت إلا به، ولا القصور

المشيدة مانعة ملائكة الموت عن ساكنها، فما أصاب لم يكن ليخطئ، وما أخطأ لم

يكن ليصيب، على أن الموت في الجهاد هو منتهى أرب اللبيب، إذ هو الحياة

الحقيقية، وكمال المنزلة بالرزق في مقام الحضرة الربانية، فلهذا آثره من ينفرد

في الدنيا بعز الخلافة على ما هو فيه، فكيف بمن به يكون خلاصه من أسر الأعداء

وسبيهم نساءه وأولاده وما يحميه.

واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الشهيد لا يجد الموت إلا

كالقَرْسِ لما هو به مشغوف، يجد ريح الجنة، وتتراءى له الحور إذا أثخن. وقد

قال (أنس بن النضر) في وقعة أحد (واهًا لريح الجنة. إني لأجد ريحها دون أحد)

ثم انغمس في المشركين حتى قتل.

ولا تصدنكم عن جهادكم كثرة عدد ولا عدة، فإن قوة الإيمان يتلاشى في

جنبها كل عدد، فجموعهم المعسكرة مكسرة، وعزماتهم المؤنثة مصغرة، وإن

كانت ذواتهم مذكرة مكبرة، وقد وعد الله ناصره بالنصر والتثبيت، والعدو بالتعس

والتشتيت، ولا ترتدُّوا على أدباركم، لضعف من بعض أمرائكم، فإن المرء لو

جاهد لله وحده، لصدق وعده، وأعز جنده، بل جاهدوا ولو فرة، واثبتوا ولو مرة،

فقد كان في الغزوات، يتداول الرايات الجماعات، كلما حيي أمير أخذها الآخر

لينال المرام، وفى الحديث الحث على الجهاد مع كل إمام، فلا تنكسرن قلوبكم لقلة

عدد، ولا تجبنوا لضعف مدد، بل ليقاتل أحدكم ولو وحده، منتظرًا بالنصر وعده،

فقد قال تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 249)

والأحاديث في الترهيب من ترك الجهاد والترغيب فيه لا يحاط بها كثرة، من

الأول (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط

الله عليكم ذلاً لا يُنزع عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) أي الواجب عليكم من جهاد

الأعداء والإغلاظ عليهم وإقامة الإسلام ونصرة الدين وآله وإعلاء كلمة الله وإذلال

الكفر وأهله. ومنه (إن ترك الجهاد خروج عن الدين) إذ لا يرجع إلى الشيء إلا

من خرج عنه. هذا في الجهاد الكفائي فكيف بالجهاد الذي تعيَّن بمفاجأة العدو [1] .

وإذا كان القاعد عنه خارجًا عن الدين فكيف بمن يبايع الكفار بحُطام على قتال

المسلمين وكتابة نفسه في جندهم. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم (من غزا غزوة في سبيل الله فقد أدى إلى الله جميع طاعته

{فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} (الكهف: 29) قال:

قيل يا رسول الله بعد هذا الحديث الذي سمعناه منك من يدع الجهاد: (قال: من

لعنه الله وغضب عليه وأعد له عذابًا عظيمًا. قوم يكونون في آخر الزمان لا يرون

الجهاد، وقد اتخذ ربي عنده عهداً لا يُخلفه: أيُّما عبد لقيه وهو يرى ذلك أن يعذبه

عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين) وفى مسلم (من مات ولم يغزُ ولم يحدِّث نفسه

مات على شعبة من النفاق) ومن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله أي

الناس أفضل (مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله) وفيه أنهم قالوا يا رسول الله:

ما يضحك الرب من عبده؟ قال (غمسه يده في العدو حاسرًا) وفيه (إن درجات

المجاهدين إلى مائة درجة في الجنة ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض) .

فالله الله عباد الله، خلصوا أنفسكم وأعراضكم من أيدي الكفار، واغسلوا يا

ذوي الهمم ملابس مروءتكم من العار، وجاهدوا بالأنفس والأموال، فدرهم الجهاد

بسبعة آلاف، وكونوا كرجل واحد في التعاون والائتلاف، وأبشروا بنصر من الله

وفتح قريب فما أمر بالجهاد إلا ليهدي السبيل ولا حرَّك الألسن بالدعاء إلا ليجيب،

ولا تقر نفس منكم قرارها، حتى تضع الحرب أوزارها، وليكن همُّ كل منكم وهواه

قتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. فالمثابرة المثابرة فما هي إلا القليل ،

وإن قيل إنهم {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ

الوَكِيلُ} (آل عمران: 173) فهم عما قليل مدحورون، وهذا إبان إعطاء

جميعهم الجزية عن يدٍ وهم صاغرون فلا يوجبن لكم -ما المسلمون فيه الآن- جبنًا

ولا تقصيرًا، فالله ولي الذين آمنوا {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} (النساء: 45) واصبروا فإن الفرج قريب، وإني إن شاء الله قادم إليكم عن

قريب، وعليكم منا أتم السلام.

_________

(1)

يراجع القارئ ص 928 من المجلد الرابع عشر يرَ في أولها أننا توقعنا هذا البيان من السنوسية في المقالة السابعة من مقالات المسألة الشرقية التي كتبناها في أواخر شوال ثم ليراجع المقالة العاشرة والبحث في هذه المسألة فيها.

ص: 109

الكاتب: جبر ضومط

‌اللغة العربية

بحث تاريخي فلسفي في موطن العربية المضرية

ونسبتها إلى أخواتها من اللغات السامية [*]

أيها السادة والسيدات: اللغة العربية فرع من أرومة تعرف بالأرومة السامية

ومن فروع هذه الأرومة اللغات الآتية وهي: البابلية القديمة وتعرف بالأشورية

أيضًا، والأرامية (وهي السريانية) والعبرانية الفينيقية، والحميرية، والحبشية أو

الأثيوبية. إلا أن العربية من بين هذه الفروع هي أمدها أغصانًا وأملاها جذمًا

وأورفها ظلاًّ وأنضرها أوراقًا وأطيبها ثمرًا يانعًا شهيًّا.

وعلماء اللغات الغربيون يقولون: إن أرومة هذه الدوحة السامية انشعب منها

فرعان اثنان فرع شمالي وفيه اللغة البابلية القديمة، والأرامية والعبرانية الفينيقية،

وفرع جنوبي وفيه العربية المضرية والسبئية والسقطرية والمهرية والأثيوبية (أو

الحبشية) .

وصحح العلامة أرثر نولدكي على ما في دائرة المعارف البريطانية الأخيرة

سنة 1911 هذا التقسيم فجعل اللغة البابلية القديمة فرعًا مستقلاًّ بنفسه وجعل الفرع

الثاني ينشعب إلى جذمين شمالي وجنوبي وجعل في الشمالي الأرامية، والعبرانية

الفينيقية، وجعل في الجنوبي العربية المضرية، والسبئية، والسقطرية، والحبشية

أو الأثيوبية.

هذا ما يراه العلماء الغربيون في تقسيم اللغات السامية وتفرعاتها عن الأم التي

نشأت منها. ولهم في موطن هذه الأم السامية الأصلي آراء ثلاثة الأول أن موطنها

أفريقيا، والثاني أنه العراق وما يجاور الخليج الفارسي من أعلاه إلى اليمين

والشمال، والثالث أنه شبه جزيرة العرب ، أما الرأي الثاني فرأي العلامة الأستاذ

جويدي صاحب المحاضرات المشهورة في الجامعة المصرية في العام الفائت ، وأما

الرأي الأول فالظاهر من كلام العلامة نولدكي أنه من القائلين به أو الذاهبين إليه ،

وأما الثالث فيقول فيه هذا العلامة: إنه مما ذهب إليه فريق من العلماء الباحثين ولكنه

لا يسمي أحدًا من الذين يقولون به ، ومع أنه يقول في هذا الرأي: إن عليه مسحة

من القبول وفي الظواهر ما يعضده، يعود فيعطف على مقاله هذا ما يُشْتَمُّ منه

تضعيفه والجرح فيه. راجع مقالة هذا العلامة النفيسة المدرجة في المجلد الرابع

والعشرين من دائرة المعارف البريطانية الطبعة الأخيرة سنة 1911 وجه 620 إلى

630.

***

عود إلى تفريع اللغات السامية

قلنا: إن علماء الغربيين يفرعون الدوحة السامية العظمى إلى فرعين كبيرين

شمالي وجنوبي ويشعبون من الفرع الشمالي البابلية القديمة والأرامية والعبرانية

الفينيقية، ومن الجنوبي العربية العدنانية المُضرية والسبئية والمهرية والسقطرية

(نسبة إلى مهرة وجزيرة سقطرة) والإثيوبية ويندرج تحت الإثيوبية الحبشية

والأمهرية. وقد ذكرنا أيضًا تصحيح العلامة نولدكي لهذا التفريع أي أنه جعل

البابلية القديمة فرعًا مستقلاً بذاته وجعل ما سواها من بقية اللغات السامية في الفرع

الثاني وشعب من هذا الفرع شعبتين أو جذمين شمالي وجنوبي على ما مر بنا.

ولم أر سندًا لما ذكره هذا العلامة إلا ما بين اللغات من التقارب والمشابهات

في الألفاظ المفردة والاشتقاقات الصرفية وما يلحق ذلك من التراكيب وأدوات

المعاني ولا سيما أدوات وطرق التعريف والتنكير، وقد أغفل الوجه التاريخي تمام

الإغفال. والذي يظهر لي أن إغفال الوجهة التاريخية نقص في البحث وأنه لو تُنبه

إليها وأضيفت مآخذها إلى مآخذ الأبحاث اللغوية الصرفة لكان فيما يستنتج من

مجموع وجهتي البحث ما يضعف آراء القوم في التقسيم والتفريع ويضعف أيضًا

تصحيح العلامة نولدكي.

وعندي أنه لو أضفنا إلى ما نعرفه من التشابه والتقارب بين الألفاظ

والمشتقات وضروب التراكيب النحوية والإضافية وطرق التعريف والتنكير ما

نعرفه من النقول التاريخية والتقاليد العمومية المتعارفة لأدى بنا ذلك إلى التقسيم الآتي

وهو أن الدوحة السامية العظمى تنقسم إلى فرعين كبيرين هما الفرع القحطاني

والفرع العادي، وأن الفرع الأول أي القحطاني تشعب منه الأرامية والحميرية

والحبشية، وأن الثاني أي العادي انشعب منه البابلية القديمة والعبرانية الفينيقية

والعربية العدنانية المضرية. وأما السبئية التي يشير إليها العلامة نولدكي فإن كان

يراد بها لغة بلاد سبأ أي البلاد التي عاصمتها مأرب ذات السد المشهور، فالتاريخ

يعارض قول هذا العلامة وينافيه؛ لأنه يشير إشارة لا تقوى على معارضتها (إلى)

أن لغة هذه البلاد كانت منذ الجيل الأول للمسيح لحد هذه الساعة لغة عربية

مُضَرية وسنقيم الدليل على ذلك. وعليه فالأرجح أن هذه اللغة السبئية التي يقولها

هذا العلامة إنما هي الحميرية القحطانية يخالطها شيء من العربية المضرية بما

يتخيل معه أنها شعبة من الجذم العربي العادي. وأما لغة مهرة وسقطرة فخليط من

الحميرية والحبشية ولا يبعد أن يكون بين ألفظاها بقية كبيرة من اللغة السبئية

العادية العدنانية التي زعمها العلامة نولدكي قسيمة للعربية وما هي قسيمة لها وإنما

هي لهجة أو لغة من لغاتها على الأرجح.

***

مهد اللغة السامية أو وطنها الأصلي

قبل إقامة الدليل التاريخي على ما ذكرناه في شأن لغة سبأ أي أنها لغة ولهجة

من لهجات العربية وبعبارة أخرى أن أهل بلاد سبأ كانوا يتكلمون العربية المضرية

من (زمن) سيل العرِم إلى الآن. وقبل أن أذكر الدليل في إثبات أن فرعي الأمِّ

السامية هما القحطانية والعادية ومنهما تفرعت بقية اللغات السامية الأخرى لا بد لي

من الرجوع إلى الكلام عن موطن اللغة السامية الأصلي ومهدها الذي ربيت فيه

فأقول:

وجدنا اللغات السامية في البلدان الآتية:

1-

في شمالي أفريقيا على شواطئ المتوسط من الشام شرقًا حتى تصل إلى

بوغاز جبل طارق والأتلانتيكي غربًا ويشتمل ذلك على برقة وطرابلس الغرب

وتونس والجزائر وبلاد مراكش.

2-

في مصر وما يليها جنوبًا من بلاد الإثيوبيين أو ممالك الحبشة.

3-

في جزيرة العرب وما والاها من فلسطين وسوريا حتى تصل آسيا

الصغرى.

4-

في بادية الشام والعراق من رأس الخليج الفارسي جنوبًا حتى تصل

المُوصل وديار بكر شمالاً، وليس في التاريخ ولا في الآثار ولا في التقاليد

المتناقلة ما يشير أدنى إشارة إلى أنها كانت في غير هذه البلدان.

هذه هي البلدان التي عاشت فيها الأمم التي تكلمت اللغات السامية لم يعرف

عنها قط أنها كانت في غيرها من البلاد اللهم إلا حيث كانت المستعمرات الفينيقية

لكنها لم تثبت هناك، بل انقرضت حالاً عند انقراض المستعمرين وتغلب من

حواليهم من الأمم عليهم، ولا شك أن مهد السامية لم يتجاوز البلدان التي ذكرناها

ولا بد أن يكون في إحداها، وعلى هذا أجمع أرباب البحث من علماء اللغات

والتاريخ قديمًا وحديثًا على ما أعلم وهو ظاهر قول العلامة نولدكي أيضًا.

قلنا فيما مر: إن هنالك آراء ثلاثة في موطن السامية، الأول أنه أفريقيا

والثاني أنه جزيرة العرب والثالث أنه العراق أو إقليم بابل وما يليه من بلاد

الآشوريين. فلننظر في كل من هذه الآراء واحدًا واحدًا ولا شك أن الرأي الذي

تتوفر فيه الأدلة التاريخية والعقلية هو أولى من صاحبيه بالقبول، دعونا ننظر أولاً

إلى بلدان شمالي أفريقيا ونسأل تقاليد أهلها عن أهلها من أين جاءوا؟ إن البربر

وأعني بهم سكان شمالي أفريقيا من الذين كانوا يتكلمون باللغة السامية ولا يزالون

يتكلمون بها إلى الآن يرفضون بتاتًا أن يكون أصلهم من زنوج أفريقيا، ويصلون

أنسابهم بأنساب العرب وأهل اليمن والشام، والقول المعتبر في ذلك إنما هو قول

العلامة ابن خلدون صاحب التاريخ المشهور، فراجع ما نقله في أنساب البربر -

المجلد السادس طبعة بولاق من صفحة 89 إلى 98.

إن الواقف على ما يذكره هذه العلامة في أنساب القوم لا يشك أنهم جاءوا إلى

تلك البلاد الواسعة من الشام والبلاد العربية، ولا أقول: إن البربر استعمروا بلادهم

ابتداء لم يكن فيها قبلهم أحد من الأمم ولكني أقول: إن هؤلاء الذين جاءوا البلاد

ولغتهم من الدوحة السامية جاءوا من الشام وجزيرة العرب فتغلبوا مع الأيام على

أهل البلاد، وصارت إليهم الدولة والسلطة واختلطوا مع من غلبوهم بالزواج

فصاروا من ثمَّ جميعهم (الغالبون والمغلوبون) ينتسبون إلى الأمم التي كان منها

الغالبون، لا أستطيع أن أنقل كل ما ذكره العلامة ابن خلدون في أنساب البربر

ولكني أنقل ما جاء له في الجزء الثاني من تاريخه (وجه 51 طبعة بولاق) قال:

قال ابن حزم: هو أفريقش بن قيس بن صيفي أخو الحارث الرائش وهو الذي

ذهب بقبائل العرب إلى أفريقيا وبه سُميت وساق إليها البربر من أرض كنعان مر

بها عند ما غلبها يوشع وقتلهم فاحتمل الغل منهم فساقهم إلى أفريقيا فأنزلهم بها -

ولما رجع من غزو المغرب ترك هنالك من قبائل حمير صنهاجة وكتامة فهم إلى

الآن بها وليسوا من نسب البربر، قاله الطبري والجرجاني والمسعودي وابن

الكلبي والسهيلي وجميع النسابين. انتهى النقل، ويظهر من هذا الذي نقلناه ومن

كثير أمثاله أن التبابعة أجلوا غير مرة العرب وأهل كنعان إلى بلاد المغرب وأقاموا

مهاجرًا فيها لقبائلهم من سبأ وحمير.

ولا أحتاج أن أذكر جاليات الصيدونيين والصوريين إلى تلك البلاد فإن الحالية

منهم التي استعمرت قرطاجنة ومن ثم صار لها الغلب على كل شمالي أفريقيا سنينًا

طويلة هي أشهر من أن تذكر، وكادت دولتهم هناك أن يكون لها الغلب على أشهر

الممالك المعروفة حينئذ لو لم تسبقها رومية العظمى إلى ذلك، وبناء على هذا

جميعه أعيد ما قلته من أن التقاليد والتواريخ كلها تشير إلى جهة واحدة وهي أن

الأمم السامية هم دخلاء على شمالي أفريقيا وقد جاءوا إلى هناك من الشام وجزيرة

العرب، فليس شمالي أفريقيا إذن موطنًا للسامية ولا يعقل أن يكون هناك أيضًا.

فرغنا الآن من الكلام عن شمالي أفريقيا، بقي علينا مصر والحبشة ، أما

مصر فلم أسمع عمن ذهب إلى أنها موطن السامية الأصلي وهذا مما يغنيني على

الإطالة وإقامة الدليل على أمر يُنازع فيه، ومع ذلك أقول: إن الأثري والمؤرخ

الشهير العلامة رولسن يرجح أن التمدن المصري القديم ليس أصليًّا فيها إنما جاءها

عن العراق وبلاد العرب، ومن المشهور في الآثار والتواريخ العربية أن دولة

الرعاة في مصر وكانت سامية جاءتها من البلاد العربية، بقي علينا بلاد الحبش -

وعامة المحققين وعلماء اللغة لا يشكون في أن الحبشة هؤلاء أعني الذين يتكلمون

بهذه اللغة السامية هاجروا إليها من البلاد العربية، ومثل ذلك أقول في الأمهريين إن

لم يكن قد قيل فيهم ذلك من قبل، والفرق بينهم وبين الحبشة أن الحبشة نزحوا

جماعة كبيرة، وأما أولئك فكانوا قلائل في العدد وباختلاطهم مع الزنوج غلبت

عليهم وعلى لغتهم ملامح هؤلاء وألفاظ لغتهم وكثير من عباراتها وتراكيبها ولكن لم

تقو لغتهم الزنجية على إزالة الأصل السامي فبقي من آثاره ما يدل عليه بعد التنقيب

وإمعان الروية، وأرى أن العقل لا يستطيع الحكم بأن هؤلاء الساميين بقوا ما بقوا

في أفريقيا وكانوا ما كانوا ثم خرجوا عن بَكرة أبيهم من موطنهم الأصلي في بلاد

الزنوج ولم يتركوا أثرًا هناك يدل عليهم أصلاً، إن هذا الرأي لا يُقبل إلا مع

البرهان الراجح إن لم نقل البرهان القاطع للشك والنافي للاحتمال.

بقي علينا بلاد العراق من الخليج الفارسي إلى الموصل وديار بكر -

والباحثون على اتفاق بينهم أن الآشوريين جاءوا من بابل وأن لغة الآشوريين ولغة

قدماء البابليين واحدة، والآثار البابلية تقول إن أصحاب آثارها من الذين تكلموا بهذا

اللسان السامي لم يكونوا أصليين في البلاد وإنما كان قبلهم قوم على جانب عظيم من

التمدن، وكان لهم لغة لكن من غير الأرومة السامية وعلى جانب من الارتقاء، فلما

تغلب عليهم هؤلاء الساميون أخذوا عنهم الكثير من آدابهم وترجموا لغتهم

ومكتوباتهم إلى لغتهم السامية، والمأخوذ من هذا عقلاً والواجب اعتماده أيضًا أن

الساميين أو السامية جاءت إلى العراق وبابل من مكان آخر وكان أهلها غزاة فاتحين،

ولا أقرب إلى العقل من أن يكونوا نزحوا إلى هناك من الجزيرة العربية فإن

المشاهد والمعروف في كل العصور التاريخية إلى الآن أن هؤلاء أعني أهل

الجزيرة العربية كانوا يهاجرون من سائر أنحائها إلى الشام والعراق يستوطنون

هناك تجارًا أو زرّاعين يحرثون الأرض ويربون المواشي وإذا وجدوا نهزة للتغلب

والتسلط على مجاوريهم انتهزوها.

***

رجوع إلى تقسيم اللغات السامية

الأرومة السامية تتشعب إلى فرعين: القحطاني والعادي

ظهر لنا مما مرَّ أن البلاد العربية هي موطن السامية والساميين أي المتكلمين

بالسامية (سواء كانوا ساميين أو حاميّين في النسب) فننظر إلى ما في شبه جزيرة

العرب من اللغات فإن كان هناك لغة أو آثار لغة واحدة لا غير فتلك اللغة هي

الأرومة السامية الكبرى وإن كان هناك لغتان فاللغتان هما الفرعان اللذان انشعبا من

الأرومة الكبرى.

إن التقاليد العربية والتواريخ المكتوبة الباقية عندنا إلى اليوم تذكر أن قد كان

في شبه جزيرة العرب لغتان هما القحطانية والعادية. وأن القحطانية كانت بين

السريانية والعبرانية وهي أميل إلى السريانية كما نرجح. وبيانه - قال المسعودي:

وكان الهيثم بن عدي الطائي يقول إسماعيل تكلم بلغة جُرهُم؛ لأن إسماعيل كان

سرياني اللسان على لغة أبيه خليل الرحمن حين أسكنه هو وأمه هاجر بمكة على ما

ذكرنا فصاهر جرهم ونشأ على لغتها ونطق بكلامها ونزار تأبى أن يكون إسماعيل

نشأ على لغة جُرهُم ويقولون: إن الله عز وجل أعطاه هذه اللغة - إلى أن يقول:

ووجدنا ولد قحطان بخلاف لغة ولد نزار بن معد - ويقول: وقد وجدنا (قحطان)

سرياني اللسان وولده (يعرب) بخلاف لسانه. (راجع المسعودي مجلد أول وجه

192 طبع المطبعة الأزهرية المصرية سنة 1353) . وقال العلامة ابن خلدون:

وأما جرهم فكانت ديارهم باليمن وكانوا يتكلمون بالعبرانية - وقيل إنما نزلت

جرهم الحجاز ثم بنو قطور بن كركر بن عملاق لقحط أصاب اليمن فلم يزالوا بمكة

إلى أن كان شأن إسماعيل عليه السلام ونبوته فآمنوا به وقاموا بأمره وورثوا ولاية

البيت عنه حتى غلبتهم عليه خزاعة وكنانة فخرجت جرهم من مكة ورجعوا إلى

ديارهم باليمن إلى أن هلكوا (ابن خلدون مجلد ثان وجه 30 طبعة بولاق) .

وقال العلامة ابن هشام إنهم وجدوا في ركن الكعبة كتابًا بالسريانية قرأه لهم

رجل يهودي (راجع سيرة ابن هشام جزء 1 وجه 66 طبعة بولاق) .

يظهر من النقول التي أوردناها أن الإمامين ابن خلدون والمسعودي متفقان

على أن جرهم قحطانية وكانت ديارهم اليمن أولاً (وهذا نص ابن خلدون) إلا أن

الإمام المسعودي يقول: إن لغة جرهم السريانية، وأما ابن خلدون فيقول: إنها

العبرانية، وأرى أن التوفيق بينهما إذا قلنا: إن القحطانية أقرب إلى السريانية سهل

؛ لأنه يمكننا حمل العبرانية في كلام ابن خلدون على اللغة التي كان يتكلم بها اليهود

في أيامه وهي السريانية أو العبرانية البابلية. وإذا كانت القحطانية هي السريانية

القديمة أو لغة قريبة منها فيترجح عندنا بل ينبغي أن تكون الحميرية التي خلفت

القحطانية، وبقيت في الجزيرة العربية في اليمن إلى الجيل الثالث بعد الهجرة -

على ما نصه العلامة الهمداني [1] قريبة من السريانية أيضًا وأرجح أن قد بقي أثر

كبير من هذه الحميرية في مخلاف حضور وحوالي مدينة ظفار إلى اليوم وفي

الشحر وسواحل حضرموت أيضًا.

قلنا: إن لغات شبه جزيرة العرب لغتان القحطانية الأولى، وقد خلفتها

الحميرية التي بقيت في اليمن إلى الجيل الرابع بعد الهجرة على ما نص العلامة

الهمداني كما أشرنا قبيل الآن، والعادية وهي العربية الأولى، وأهلها من عاد

وثمود وطسم وجديس والعماليق هم العرب العاربة، وقد انقرضوا على ما يقولون

وخلفهم العدنانيون أو النزاريون في أغلب مواطنهم التي كانوا فيها تكلموا بلغتهم.

ولغتهم أى العدنانيين هي هذه اللغة العربية المضرية لغة القرآن والحديث والمعلقات

وغيرها من الشعر العربي المشهور. ونسبتها إلى العربية الأولى لغة عاد وثمود

كنسبة الحميرية إلى القحطانية الأولى على ما أرجح.

دعوني أنقل ما ذكره الطبري في هؤلاء العرب العادية وفي لغتهم ومواطنهم

وسأختصر في النقل ما استطعت. قال رحمه الله فعمليق أبو العماليق كلهم أمم

تفرقت في البلاد وكان أهل المشرق وأهل عمان وأهل الحجاز وأهل الشام وأهل

مصر منهم. ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيون، ومنهم كانت

الفراعنة بمصر، وكان أهل البحرين وأهل عمان منهم أمة يسمون جاسم ، وكان

ساكنو المدينة منهم - وأهل نجد منهم - وأهل تيماء منهم. وكان ملك الحجاز منهم

بتيماء واسمه الأرقم وكانوا ساكني نجد مع ذلك - فكانت طنم وعماليق وأميم

وجاسم قومًا عربًا لسانهم الذي جبلوا عليه لسان عربي - وولد إرم بن سام بن نوح

عوض بن إرم وغاثر بن عوص وعاد بن عوص وعبيل بن عوص، وولد غاثر

بن إرم ثمود بن غاثر وجديس بن غاثر وكانوا قومًا عربًا يتكلمون بهذا اللسان

المضري، فكانت العرب تقول لهذه الأمم العرب العاربة؛ لأنه لسانهم الذي جبلوا

عليه، ويقولون لبني إسماعيل بن إبراهيم العرب المتعربة؛ لأنهم إنما تكلموا بلسان

هذه الأمم حين سكنوا بين أظهرهم ، فعاد وثمود والعماليق وأميم وجاسم وجديس

وطسم هم العرب. فكانت عاد بهذا الرمل إلى حضرموت واليمن كله، وكانت ثمود

بالحِجْر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، ولحقت جديس بطسم فكانوا

معهم باليمامة وما حولها إلى البحرين واسم اليمامة ، إذ ذاك جوّ ٌ، وسكنت جاسم

عمان فكانوا بها.

(انظر الطبري مجلد 1 وجه 213 و214 و214 طبع ليبسك)

يظهر مما نقلناه عن هذا المؤرخ الثقة الصلة التامة في اللغة بين هذه القبائل

البائدة وأشهرها عاد وبين القبائل العدنانية الباقية إلى اليوم وأشهرها كان بعد قريش

قيس وتميم. ويظهر منه أيضًا الصلة بين أهل نجد والحجاز وبين الكنعانيين في

الشام فإنهم جميعًا من العمالقة. ومن الصلة بينهم في النسب نستنتج الصلة في اللغة

وعليه فتكون العربية والعبرانية من فرع واحد؛ لأنها أي العبرانية الفينيقية

والكنعانية من فرع واحد إن لم يكونا لغة واحدة. ويظهر منه أيضًا البلدان التي

احتلتها هذه القبائل، فإن عادا نزلت الأحقاف إلى حضرموت واليمن كله، وثمود

الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وطسم وجديس اليمامة وما حولها

إلى البحرين، وجاسم عمان والعمالقة نجدًا والحجاز وتيماء، فما كان صالحًا للفلح

والزرع فلحوه وزرعوه وما كان في طريق التجارة أقاموا فيه محطات لها من خليج

فارس شرقًا إلى أيلة وبحر الشام، غربًا ومن حضرموت واليمن جنوبًا إلى برية

الشام وفلسطين شمالاً، فكانت من ثم مواطنهم لذلك الحين من أحسن النقط التجارية

. ولذلك كثر غناهم وعظمت دولتهم وأصبحوا مضرب مثل عند من خلفهم في الغني

والقوة والعظمة وتناقلوا عنهم لعظم آثارهم أخبارًا هي أشبه بأخبار القصاص

الموضوعة للتسلية والإغراب منها بالإخبار الممكن أن تقع، فإنهم نسبوا معظمها

إلى الجن وتسخير القوات غير المنظورة كما نسبوا مثل ذلك إلى بعلبك وتدمر

وبعض آثار بابل وآشور.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) خطاب لصديقنا الأستاذ جبر أفندي ضومط معلم اللغة العربية في المدرسة الكلية الأمريكانية

ببيروت ألقاه في تلك المدرسة ثم أتحفنا به.

(1)

همداني وصف جزيرة العرب طبع ليدن وجه 134 - 136.

ص: 112

الكاتب: شبلي النعماني

نقد تاريخ التمدن الإسلامي

بقلم الشيخ شبلي النعماني

(2)

مثالب بني أمية

المقصد الذي جعله المؤلف نصب عينه ومرمى غايته هو أن الأمة العربية إذا بقيت على صرافتها فهي جامعة لجميع أشتات الشر، أي الجور والقسوة والهمجية وسفك الدماء والفتك بالناس. ولكن لما كان لا يقدر على إظهار هذا المقصد تصريحًا

احتال في ذلك فغمض المذهب وجعل الكلام طيب الظاهر وذلك بأن قسم

عصر الإسلام إلى ثلاثة أدوار - فمدح سياسة الخلفاء الراشدين، وقال بعد مدحها:

(على أن سياسة الراشدين على الإجمال ليست مما يلائم طبيعة العمران أو

تقتضيه سياسة الملك وإنما هي خلافة دينية توفقت إلى رجال يندر اجتماعهم في

عصر.

فأهل العلم بالعمران لا يرون هذه السياسة تصلح لتدبير الممالك في غير ذلك

العصر العجيب وأن انقلاب تلك الخلافة الدينية إلى الملك السياسي لم يكن منه بد.

(الجزء الرابع صفحة 29 و30)

فأثبت بذلك أن سياسة الخلفاء الراشدين ليست فيها أسوة للناس، وأنها من

مستثنيات الطبيعة، أما دور العباسيين فمدحه ولكن لا لأجل أنه دولة عربية بل

لكونها فارسية مادة وقوامًا مؤتلفًا ونظامًا وصرح بذلك فقال:

(دعونا هذا العصر فارسيًّا مع أنه داخل في عصر الدولة العباسية؛ لأن تلك

على كونها عريبة من حيث خلفاؤها ولغتها وديانتها فهي فارسية من حيث سياستها

وإدارتها؛ لأن الفرس نصروها وأيدوها ثم هم نظموا حكومتها وأداروا شئونها

ومنهم وزراؤها وأمراؤها وكتابها وحُجَّابها) .

(الجزء الرابع صفحة 106)

ثم أشار في غير موضع إلى أن الدولة العربية الساذجة إنما هي دولة بني أمية

فقال:

(وجملة القول أن الدولة الأموية دولة عربية) (الجزء الرابع صفحة

103) وظل العرب في أيام بني أمية على بداوتهم وجفاوتهم وكان خلفاؤها يرسلون

أولادهم إلى البادية لإتقان اللغة واكتساب أساليب البدو وآدابهم (الجزء الرابع

صفحة 61) .

ولما أثبت أن خلافة الراشدين لم تكن تلائم النظام الطبيعي وأن دولة بني

العباس دولة فارسية وأن الباقية على صرافتها هي الدولة الأموية أخذ يعدد مثالب

بني أمية تحت عنوانات مستقلة منها الاستخفاف بالدين وأهله، ومنها الاستهانة

بالقرآن والحرمين، ومنها الفتك والبطش، ومنها قتل الأطفال، ومنها خزانة

الرءوس. وأتى في مطاوي هذه العنوانات من الإفك والاختلاق والتحريف والتبديل

بما تجاوز الحد وخرج عن طور القياس. والآن أذكر نبذًا منها وأكشف عن جلية

حالها.

***

الاستهانة بالقرآن والحرمين

قال المؤلف تحت هذا العنوان:

(أما عبد الملك فكان يرى الشدة ويجاهر بطلب التغلب بالقوة والعنف ولو

خالف الدين؛ لأنه صرح باستهانة الدين منذ ولي الخلافة.. . ذكروا أنه لما جاءوه

بخبر الخلافة كان قاعدًا والمصحف في حجره فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك -

أو- هذا فراق بيني وبينك. فلا غَرو بعد ذلك إذا أباح لعامله الحجاج أن يضرب

الكعبة بالمنجنيق وأن يقتل ابن الزبير ويحتز رأسه بيده داخل مسجد الكعبة. وظلوا

يقتلون الناس فيها ثلاثًا وهدموا الكعبة وهي بيت الله عندهم وأوقدوا النيران بين

أحجارها وأستارها) (الجزء الرابع صفحة 78 و79) .

الحكاية على الإجمال أن ابن الزبير ادعى الخلافة فملك الحرمين والعراق

وكاد يغلب على الشام وكان أمره كل يوم في ازدياد وبإزائه بنو أمية في الشام فلما

تولى عبد الملك الخلافة أرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره ولاذ ابن الزبير

بمكة فنصب الحجاج المنجنيق على الزيادة التي كان زادها ابن الزبير (كما يجيء

تفصيله) .

يعرف كل من له أدنى إلمام بالتاريخ أن الحجاج ما أراد إلا قتال ابن الزبير

ولكونه لائذًا بالكعبة اضطر إلى نصب المنجنيق على الكعبة، ولكن مع ذلك تحرز

عن رمي الكعبة فحوَّل وجهها إلى زيادة ابن الزبير. فانظر كيف غير المؤلف

مجرى الحكاية فصدر الباب بالاستهانة بالقرآن والحرمين. ثم ذكر أن عبد الملك

قال للقرآن:

هذا فراق بيني وبينك. وأنه أباح للحجاج ضرب الكعبة بالمنجنيق وهدم

الكعبة وإيقاد النيران بين أستارها، فالناظر في عبارته يتوهم بل يستيقن أن

عبد الملك تفرغ من بدء الأمر للاستهانة بالدين والقرآن والحرمين وجعل الاستهانة

نصب عينه ومرمى غايته، وقتل ابن الزبير كان إما لأنه دافع عن مكة أو لكونه

أيضًا جنس الاستهانة بالحرم.

أما تفصيل الواقعة وتعيين بادئ الظلم فهو أن ابن الزبير لما استولى على

الحرمين أخرج بني أمية من المدينة فخرج مروان وابنه عبد الملك وهو عليل مجدر

فاستولى على الشام، وصدرت من ابن الزبير أفعال نقموا عليه لأجلها فمنها أنه

تحامل على بني هاشم وأظهر لهم العداوة والبغضاء [1] حتى إنه ترك الصلاة على

النبي في الخطبة ولما سألوه عن هذا قال: إن للنبي أهل سوء يرفعون رءوسهم إذا

سمعوا به [2] ومنها أنه هدم الكعبة ومع أن هدمها لم يكن إلا لرمتها وإصلاحها ولكن

لم يكن هذا مألوفًا للناس، ولذلك تحرز النبي عليه السلام عن إدخال الحطيم في

الكعبة فاتخذ الحجاج هذه الأمور وسيلة لإغراء الناس على ابن الزبير. ولعل ابن

الزبير كان مضطرًّا إلى هذه الأعمال ولكن من شريطة العدل أن نوفي كل واحد

قسطه من الحق، فإذا اعتذرنا لابن الزبير فعبد الملك أحق منه اعتذارًا، فإن ابن

الزبير هو البادئ والبادئ أظلم. ويظهر من هذا أن عبد الملك ما أراد الحط من

شأن الكعبة ومس شرفها ولكن اضطر إلى قتال ابن الزبير فوقع ما وقع عرضًا غير

مقصود بالذات ولذلك لما نصب الحجاج المناجيق على الكعبة حولها عن الكعبة

وجعل الغرض الزيادة التي كان زادها ابن الزبير، صرح بذلك العلامة البشاري في

أحسن التقاسيم. ثم إن من مسائل الفقه أن البغاة إذا تحصنوا بالكعبة لا يمنع هذا

عن قتالهم ولذلك أمر النبي في وقعة الفتح بقتل أحدهم وهو متعلق بأستار الكعبة

وابن الزبير كان عند أهل الشام من البغاة والمارقين عن الدين.

ولو كان أراد الحجاج الاستهانة بالحرم فما كان مراده من رمته وإصلاحه بعد

قتل ابن الزبير، ومعلوم أن تعمير الحَجاج هو كعبة الإسلام وقبلة المسلمين كافةً.

أما قول عبد الملك للقرآن هذا فراق بيني وبينك، فحقيقته أن عبد الملك كان

قبل الخلافة ناسكًا منقطعًا إلى العبادة لا يشتغل بشيء من الدنيا، قال نافع: ما

رأيت في المدينة أشد نُسكًا وعبادة من عبد الملك، ولما سألوا ابن عمر إلى من

ترجع في الفتوى بعدك؟ قال (ولد لمروان) وكان يقول ابن الزناد الفقهاء في

المدينة سبع أحدهم عبد الملك.

...

...

...

...

وقال الإمام الشعبي: ما جالست أحدًا إلا وجدت عليه الفضل إلا عبد الملك

بن مروان. ذكر كل هذه الأقوال العلامة السيوطي في تاريخه للخلفاء. فلما جاءته

الخلافة وهو يقرأ القرآن تصور خطارة الأمر، وأن مثل هذا العبء لا يمكن تحمله

إلا المنقطع إليه فقال تحسرًا: هذا آخر العهد بك. أي الآن لا يمكن الانقطاع إلى

العبادة وقراءة القرآن كما كان دأبي أولاً، وليس هذا على سبيل الاستهانة بالدين

مطلقًا فإنا نرى اشتغال عبد الملك بالفرائض والسنن فيما بعد فهو يصوم ويصلي

ويحج قال اليعقوبي في تاريخه: وأقام الحج للناس في ولايته سنة 72 الحجاج بن

يوسف وسنة 73 وسنة 74 الحجاج أيضًا وسنة 75 عبد الملك بن مروان وسنة 76

أبان بن عثمان بن عفان، وسنة 77 أبان أيضًا وسنة 78 وسنة 79 وسنة 80 أبان

أيضًا وسنة 81 سليمان بن عبد الملك (وسرد باقي السنوات فتركناها) وعبد الملك

هو الذي كسا الكعبة الديباج، فهل هذا صنيع من يريد الاستهانة بالحرم؟

قال المؤلف:

(ويحتز رأسه بيده داخل مسجد الكعبة)(الجزء الرابع صفحة 79) استند

المؤلف في هذه الرواية بالعِقد الفريد لابن عبد ربه والاستناد بمثل هذه الكتب في

مثل هذه الوقائع هو من إحدى حيل المؤلف المعتادة بها فأنت تعلم أن حادثة قتل ابن

الزبير مذكورة في الطبري وابن الأثير وغيرها من المصادر التاريخية المتداولة

الموثوق بها وعليها المعوَّل وإليها المرجع لكن لما لم تكن كيفية الحادثة في هذه

الكتب وفق هوى المؤلف أعرض عن هذه كلها وتشبث بكتاب هو في عداد

المحاضرات وإنما يرجع إلى أمثاله إذا لم يكن في الباب مستند غيره ومتى لم

يخالف الأصول.

والمذكور في الطبري وغيره أن عبد الله بن الزبير أصيب في الحجون وقتل

هناك قتله رجل من المراد، وما احتز رأسه داخل الكعبة.

قال المؤلف: (وهدموا الكعبة) .

قدمنا أن الكعبة لم تكن غرضًا للحجاج وإنما كان نصب المناجيق على الزيادة

التي زادها ابن الزبير، ولما كانت متصلة بالكعبة نالت الأحجار من الكعبة ولكن

كان أول ما فعله الحجاج بعد ما استتب القتال أمره بكنس المسجد الحرام من

الحجارة والدم كما نص عليه ابن الأثير فهل كنس المسجد الحرام من الحجارة والدم

وهدم الكعبة شيء واحد؟

أما ما نقل المؤلف عن كفر الوليد وأنه أمر بالمصحف فعلقوه وأخذ القوس

والنبل وجعل يرميه حتى مزقه وأنشد:

أتوعد كل جبار عنيد

فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا لاقيت ربك يوم حشر

فقل لله مزقني الوليد

ونقل هذه الرواية عن الأغاني فهي من خرافات الأغاني، ومعلوم أن صاحب

الأغاني شيعي ديانته شنآن بني أمية والحط منهم. وأما الأبيات فأثر التوليد ظاهر

عليها، ومن له أدنى مسكة بالأدب يشهد أن نسجها غير نسج الأوائل، فأما جهابذة

المحدثين المرجوع إليهم في نقد الروايات والذين قولهم فصل في هذا الباب

فيجحدون أمثال هذه الروايات المختلقة. قال العلامة الذهبي: هو رأس الحديث

ومرجع الرواية -: (لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة بل اشتهر بالخمر والتلوط

فخرجوا عليه لذلك) (تاريخ الخلفاء للسيوطي ترجمة الوليد) .

ثم إن هناك أمرًا آخر وهو أن الناقم على الوليد وقاتله هو خليفة أموي،

فكيف ينسب استهانة الدين إلى خلفاء بني أمية عامتهم. ثم إن هذا الذي عزا إليه

صاحب الأغاني الاستهانة بالقرآن قد ذكر له صاحب العقد ما ينبئ عن تعظيمه

للقرآن وتفخيمه شأنه وحث الناس على حفظه وتعهده قال صاحب العقد [1] : إنه

شكا رجل من بني مخزوم دينًا لزمه فقال (الوليد) : أقضيه عنك إن كنت لذلك

مستحقًّا قال: يا أمير المؤمنين كيف لا أكون مستحقًّا في منزلتي وقرابتي؟ قال

قرأت القرآن؟ قال: لا، قال فادن مني فدنا منه فنزع العمامة عن رأسه بقضيب

في يده فقرعه قرعة وقال لرجل من جلسائه ضم إليك هذا العِلْج ولا تفارقه حتى

يقرأ القرآن. فقام إليه آخر فقال يا أمير المؤمنين اقض دَيني، فقال له أتقرأ القرآن؟

قال نعم فاستقرأه عشرًا من الأنفال وعشرًا من براءة فقرأ، فقال: نعم نقضي دينك

وأنت أهل لذلك. فأنت ترى أن الوليد يعد من لا يقرأ القرآن عِلْجًا والمؤلف يعد

الوليد علجًا.

فأما ما ذكره المؤلف من أقوال الحجاج وخالد القسري وأنهما كانا يُفضلان

الخلافة على النبوة فمع أن أكثر هذه الأقوال مأخوذ من العقد الفريد وهو من كتب

المحاضرات لسنا نحتاج إلى الذب عن الحجاج وخالد فإنهما من أشرار الأمة حقًّا،

ولكن كم لنا من أمثال هؤلاء الملاحدة في الدولة العباسية كالعجاردة وابن الرواندي

الذي عمل كتابًا رد فيه على القرآن وسماه بالدامغ، فإذا كان العباسيون مسئولين

عن أوزار هؤلاء عند المؤلف فكذلك بنو أمية. وإن كان عبد الملك والوليد

يرتضيان بسوء أعمال الحجاج فمعلوم أن غيرهما من بني أمية كانوا ناقمين عليه

كافة حتى أن هشامًا قال (هل الحجاج استقر في جهنم أو يهوي إلى الآن) ولما

وصل إلى هشام أن خالدًا القسري استخف بامرأة مؤمنة عزله من الإمارة وسجنه

كما ذكره ابن خلكان.

والحاصل أن المؤلف لو خص رجلاً أو رجلين من بني أمية بالمطاعن لاعترفنا

به، ولكن من سوء مكيدة المؤلف أنه يجعل الفرد جماعة والفذ توءمًا

والنادر عامًا والشاذ مطردًا.

جور بني أمية

سمعنا بمظالم بختنصر، وأحطنا علمًا بشنائع جنكيز خان، واطلعنا على ما

جنته أيدي التتر، فوالله - لو صدق المؤلف - هم ما كانوا أشد قسوة ولا أفظع

أعمالاً ولا أسفك دماء ولا أجمع لأنواع الفتك من بني أمية.

قال المؤلف (حتى في أيام معاوية فإنه أرسل بسر بن أرطاة وأرسل معه

جيشًا ويقال: إنه (أي معاوية) أوصاهم أن يسيروا في الأرض ويقتلوا كل من

وجدوه من شيعة علي ولا يكفوا أيديهم عن النساء والصبيان (الجزء الرابع صفحة

82) .

قبل أن أكشف عن جلية الأمر لا بد من تقديم مقدمة، وهي أن المؤلف مدح

بني العباس وجعل أعمالهم مناطًا للعدل ودلالة على الرفق فقال:

(ولا غرابة فيما تقدم من عمران البلاد في ظل الدولة العباسية فإن العدالة توطد

دعائم الأمن، وإذا أمن الناس على أرواحهم وحقوقهم تفرغوا للعمل فتعمر

البلاد ويرفه أهلها ويكثر خراجها (الجزء الثاني صفحة 81) .

وعلى هذا إذا وجدنا بني أمية معادلين لنبي العباس في جميع أعمالهم سواء

بسواء كان اختصاصهم بالذم دون بني العباس جورًا فاحشًا وميلاً عظيمًا. ثم إن

هناك أمرًا آخر وهو أن المؤرخين بأسرهم كانوا في عصر بني العباس ومن المعلوم

أنه لم يكن يستطيع أحد أن يذكر محاسن بني أمية في دولة العباسيين، فإذا صدر

من أحد شيء من ذلك فلتة كان يقاسي قائلها أنواعًا من الهتك والإيذاء ووخامة

العاقبة، وكم لنا من أمثال هذه في أسفار التاريخ. ومع أننا نفخر بأن مؤلفي الإسلام

كانوا أصدق الناس رواية وأجرأهم على إظهار الحق ما كان يمنعهم عن بيان

الحقيقة سلطة ملك ولا مهابة جائر، ولكن مع ذلك فرق بين تعمد الكذب والسكوت

عن الحق، ولذلك نعتقد أنهم ما قالوا شيئًا افتراء على بني أمية ولكن إن قلنا:

إنهم كثيرًا ما سكتوا عن محاسنهم فذلك شيء لا يدفع وليس فيه غض منهم.

أما بنو العباس فكانوا في عصرهم ولاة البلاد، وملاك رقاب الناس، رضاهم

الحياة، وسخطهم الموت، فالوقيعة فيهم والأخذ عليهم ما كان يمكن إلا بعد

مخاطرة النفس والاقتحام في الهلاك ونصب النفس للموت.

رجعنا إلى قول المؤلف: إن معاوية أمر بقتل النساء والصبيان اعلم أن هذه

الواقعة أي إرسال (بسر بن أرطاة) إلى شيعة علي من أشهر الوقائع المذكورة في

سائر كتب التواريخ، وليس في أحد منها قتل النساء والصبيان بل فيها ما يخالف

هذه الرواية قال المؤرخ اليعقوبي: (ووجه معاوية بسر بن أرطاة وقيل: ابن أبي

أرطأة العامري من بني عامر بن لؤي في ثلاثة آلاف رجل فقال له: سر حتى تمر

بالمدينة فاطرد أهلهم وأَخِفْ من مررت بها وانهب مال من أصبت له مالاً ممن لم

يكن دخل في طاعتنا وأوهمْ أهل المدينة أنك تريد أنفسهم وأنه لا براءة لهم عندك

حتى تدخل مكة ولا تعرض فيهما لأحد وأرهب الناس فيما بين مكة والمدينة ثم

امض حتى تأتي صنعاء فإن لنا بها شيعة وقد جاءني كتابهم. فخرج بسر فجعل لا

يمر بحي من أحياء العرب إلا فعل ما أمره معاوية (اليعقوبي طبع أوربا صفحة

231 من الجزء الثاني) .

فترى في هذه العبارة أنه لم يكن هناك إلا تخويف وتهديد وإيهام. ولما رأى

المؤلف أن المصادر التاريخية الموثوق بها لا يوجد فيها ما يوافق هواه جنح إلى

الأغاني ونقل أمر معاوية بقتل النساء والصبيان ثم اعتذر عن معاوية بأن المظنون

خلاف ذلك لحلمه ودهائه، والظن أن معاوية أطلق يد بسر ولم يعين له حدودًا وكان

بسر سفاكًا للدماء فلم يستثن طفلاً ولا شيخًا.

قد قلنا: إن الأغاني من كتب المحاضرات، فإذا كان الأمر هينًا والحديث

فكاهة أو تسللاً من كد العمل إلى استراحة فلا بأس به وبأمثاله أما إذا كان الأمر ذا

بال وكانت الواقعة معترك الاختلاف ومتعفر الأهواء رافعًا لشأن أو هادمًا لأساس

فأمثال هذه الكتب لا يؤذن لها ولا يلتفت إليها مطلقًا.

ثم إن الرجل (أي صاحب الأغاني) شيعي إذا جاءه شيء مما يشين معاوية

ويدنسه وجد في نفسه ارتياحًا إلى قبوله، ولو كان من أوهن الأحاديث وأكذبها.

نعم إن بسر بن أرطاة قتل طفلين ولكن القتل لم يتجاوز الاثنين [1] فأين هذا

من قول المؤلف:

وكان بسر سفاكًا للدماء فلم يستثن طفلاً ولا شيخًا.

قال المؤلف (فإذا كان هذا حال العمال في أيام معاوية مع حلمه وطول أناته

فكيف في أيام عبد الملك مع شدته وفتكه فهل يستغرب ما يقال عن فتك الحجاج

وكثرة من قتلهم صبرًا، ولو كانوا 120000 (الجزء الرابع صفحة 83) .

نعم قتل الحجاج مئة ألف أو مائتين ولكن أين هذا من صنيعة أبي مسلم

الخراساني القائم بدعوة بني العباس المؤسس لدولتهم فإنه قتل صبرًا بدون حرب ما

يبلغ ستمائة ألف، وقد اعترف به المؤلف في هذا التأليف نفسه (الجزء الثاني

صفحة 112) والمؤلف ينتحل لذلك عذرًا ويحسبه من طبيعة السياسة. فالحجاج

أحق بالعذر وأجدر بالعفو، فإن الحجاج عربي قح طبعه الجفاء والقسوة. أما أبو

مسلم فعجمي تربى في حجر التمدن، وغذي بلُبان الظرف ودَماثة الأخلاق (! !) .

أما قوله إن عبد الملك كان أشد وطأة منه (أي من الحجاج) فلم يأت عليه

بشاهد غير غدره بعمر بن سعيد، وأين هذا من غدر المنصور العباسي بأبي مسلم

الذي هو رب الدولة العباسية، ولولاه لما قامت للعباسيين قائمة، ولا كان لهم ذكر،

وكذلك غدر المنصور بابن هبيرة.

وغاية ما يقضي منه العجب أن المؤلف بعدما ذكر فتك بني أمية بقوله: (وقد

نفعتهم هذه السياسة (أي سياسة الفتك) في تأييد سلطانهم (قال) : صارت سُنَّة

من مَلَك بعدهم من بني العباس وغيرهم وأنت تعلم أن المؤلف يبرئ ساحة العباسية

من الجور والظلم فضلاً عن الفتك، فهل هذا تناقض في القول أو أراد بهم نفعًا

فضرهم من حيث لا يعلم؟ لا والله لا هذا ولا ذاك، بل هي من مكايد المؤلف التي

لا يهتدي إليها إلا فطن خبير لطوية الرجل وكامن ضغنه.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

اليعقوبي طبع أوروبا صفحة 311 من الجزء الثاني.

(2)

الجزء الثاني من اليعقوبي صفحة 311.

(3)

الجزء الثاني صفحة 258.

(4)

المنار: في هذا النفي بل فيما أورده الناقد في هذه المسألة نظر فقد نقل الحافظ في الإصابة عن ابن يونس أن معاوية وجه بسرًا إلى اليمن والحجاز سنة أربعين (وأمره أن ينظر من كان في طاعة علي فيوقع بهم ففعل) فهذا كلام المحدثين لا الشيعة وأهل المحاضرة، وقد أشار في الإصابة إلى أنه لا ينبغي التشاغل بأخبار بسر الشهيرة في الفتن أي لما قيل من أن له صحبة وهل يعقل أن يكون إيقاعه بالمطيعين لعلي قاصرًا على قتله طفلي ابن عباس رضي الله عنهما؟ ؟ .

ص: 121

الكاتب: عن جريدة الطان الفرنسية

‌الجامعة الإسلامية [*]

أرسل إلينا أحد علماء اللغة العربية المقالة الآتية باللغة الفرنسوية في مسألة

هي في الوقت الحاضر أكبر المسائل التي تهم أوربا بمقدار ما تهم المسلمين،

وهي مسألة الجامعة الإسلامية التي نجهل منها أكثر مما نعلم، قال الكاتب:

ولدت الجامعة الإسلامية تحت شمس مصر الحارة وظلت زمانًا طويلاً

محصورة في دائرة عدد صغير من أنصارها، وكانت هذه الجامعة في نشأتها الأولى

دينية محضة أشبه بكنيسة كاثوليكية ترمي إلى ضم جميع الفرق الإسلامية أو

بالحري إلى تجديد ذكرى الوحدة القديمة التي فقدت منذ زمن بعيد، إلا أنها لم يمض

عليها زمن حتى وسعت دائرتها وأصبحت تعقد الرجاء بتكوين دولة إسلامية شديدة

البأس كالدولة التي كانت في زمن الفراعنة لتظهر للعالم في بعض أجزائها أنها

المعيدة بصفة شبه قومية (؟) للتمدن الشرقي الذي توارى خلف مدنية أوربا

المسيحية.

ولما كانت الجامعة الإسلامية لم تزل حديثة النشأة لذلك كانت أعمالها صادرة

عن حمية عمياء حمية الحداثة وعدم الاختبار التي تئن مصر والجزائر من تحتها

إلى أن دخلت في دور السكينة مشتغلة بنشر مبادئها ومنتظرة بلوغ قوتها.

والسيد جمال الدين الأفغاني الحسيني هو أول من اشتغل بنشر فكرة الجامعة

الإسلامية إن لم يكن المحرض على إنشائها وقد ظل زمنًا طويلاً معروفًا بأنه المثال

الحي لتلك الجامعة.

ولد السيد جمال الدين في ولاية كابل في أسعد آباد من أعمال بلاد الأفغان

واشترك في ثورات عديدة أُريقت فيها الدماء، ثم فارق وطنه سائحًا في العالم

خصوصًا في العالم الإسلامي فاخترق الهند الإنكليزية إلى فارس فبلاد العرب

فالسلطنة العثمانية، ثم القطر المصري، ومنه إلى أوربا فراقب كفيلسوف كل

الحوادث العظمى التي شهدها القرن الماضي وراقب أدوار الرقي العقلي في أوربا

بنظر من يود الوقوف على الحقائق، وانخرط في سلك الماسونية في مصر ثم ذهب

إلى الآستانة فتوفي فيها عام 1897 وكان السلطان عبد الحميد قد جذبه إليها وغمره

بإحسانه وهداياه، وفي جملة الذين حظي بصداقتهم وودادهم أثناء سياحاته المسيو

رينان حتى اختصه هذا بالمدح والتقريظ في أحد مؤلفاته.

وكان جمال الدين مَهيب الطلعة، ويقال: إنه مع مقدرته الفائقة في فن

الخطابة كان واسع الاطلاع في الشئون العامة حتى إنه خلف تلاميذ كما فعل

أفلاطون ولم يخلف مؤلفات، وكانت سيرته تاريخًا في العالم الإسلامي الذي كان

جمال الدين يسعى إلى تأليفه فكانت الجامعة الإسلامية أملاً له يحلم به في كل أيام

حياته، وكان ينتقل في العالم الإسلامي من بلدة إلى أخرى رسولاً للوحدة والتضامن

يعظ الناس ويدعوهم للعودة إلى التقاليد القديمة ولكن من غير تعصب فكانت غايته

أن يكون الإسلام عامًّا طيبًا ووسيلة للتسامح وحب المدنية والارتقاء.

وكان في القطر المصري جمعية تدعى (جمعية العروة الوثقى) طلبت من

الأفغاني أن يرفع مدة إقامته في باريس صوت الدعوة إلى الجامعة الإسلامية فأصدر

هناك جريدة (العروة الوثقى) وناط تحريرها بالشيخ محمد عبده الذي ذاع صيته

في ذلك الوقت فظهر منها ثمانية عشر عددًا فقط؛ إذ إن الحكومة الإنكليزية التي

كان يهمها أكثر من غيرها أمر الجامعة الإسلامية الجديدة استعملت الضغط لإيقاف

حركة تلك الجامعة.

ثم ظهرت فكرة عقد مؤتمر إسلامي عام فاتجه نظر الأفغاني نحو مكة

واستحسن العالم الإسلامي ذلك إلا أن السلطان عبد الحميد قد راعه اتجاه الجامعة

الإسلامية نحو بلاد العرب التي أقلقته ثوراتها الماضية فأخفقت فكرة عقد المؤتمر

في مكة.

أما الكواكبي فقد كان مع ذلاقة لسانه في الخطابة صاحب نظر دقيق نير، وقد

أخذ فكرة الأفغاني في عقد المؤتمر الإسلامي فشرحها شرحًا مطولاً في كتابه الذي

صدر باسم (سجل جمعية أم القرى) وضمن هذا الكتاب أعمال المؤتمر الذي لم

يمكن عقده، ووصف بأسلوبه الحسن حالة العالم الإسلامي وشخص أمراضه بكل

انتباه مع ذكر الدواء اللازم لها.

الكواكبي هو العالم النظري الذي نفر للجماعة الإسلامية، وهو المفكر الذي لم

يؤثر فيه الوعيد والتهديد، وإذا كان الأفغاني قد أظهر الميل إلى عبد الحميد بمجيئه

إلى الآستانة حتى مات فيها فإن الكواكبي ظل دائمًا العدو الألد لعبد الحميد حتى ألف

كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) تشنيعًا على حكومته.

أما عبد الحميد فإنه بما اتصف به من الحكمة والدقة أدرك القصد من فكرة

الجامعة الإسلامية فبعد أن كان أول خصم لها أراد أن يرعاها برعايته ليستأثر

بفائدتها، ولذلك جذب الأفغاني وكثيرًا من الأطباء وأئمة الإسلام إلى الآستانة

وأغراهم بالالتحاق به وأجزل الهبات والهدايا والعطايا والألقاب والوسامات وظهر

هو نفسه بمظهر ديني وجعل نفسه نصير الإسلام في العالم ورتب المرتبات للمعاهد

الدينية وللعلماء ومشايخ الطرق وللجوامع والمساجد وشيد أماكن خاصة بضيافة

الحجاج وتسهيل واجباتهم الدينية كما أنشأ السكة الحديدية الحجازية التي لم يكن

ينظر العالم الإسلامي إليها إلا أنها عمل صادر عن شفقة على المسلمين وحنان

عليهم، فتبرع لها المسلمون بمبالغ طائلة إعانة على إتمام هذا المشروع.

ولم يقتصر الأمر على جذب المسلمين والحصول على انعطافهم بل كان من

اللازم أيضًا تنويرهم وضم بعضهم إلى بعض والقبض عليهم فأرسل خليفة الآستانة

إلى أنحاء العالم الإسلامي أولئك العلماء الذين التفوا حوله وجعلهم رسلاً للجامعة

الإسلامية التي كانت محيط أحلامه.

وفوق ذلك فإنه أراد أن يراقب الدول الأجنبية التي كانت تضم بين رعاياها أو

في مستعمراتها فريقًا من المسلمين فبث في كل جهة حتى في الجزر الصغيرة رسله

السريين الذين لم يكن يشعر أحد بوجودهم، وتمكن أيضًا من الحصول على

مخبرين سريين في الدوائر العليا لتلك البلاد، وكان ينقدهم المبالغ الطائلة أجرة

على عملهم.

ولما خلع السلطان عبد الحميد أصبح كل الذين يعيشون من هذا الطريق لا

مورد لهم، والحكومة الدستورية الجديدة لم تشأ أن تعترف بهم، وقطع أعضاء

جمعية الاتحاد والترقي الصلة بينهم وبين الجامعة الإسلامية منذ قاطعوا شخص عبد

الحميد وتظاهروا أيضًا بمقاومة هذه الجامعة ونسخ اللغة العربية وهي لغة الدين

المقدسة بل هي لغة المسلمين العامة التي بزوالها يزول الإسلام وببقائها يبقى ويحيا.

ظل هؤلاء دائبين وراء أمانيهم الجميلة فابتكروا مشروع الإقدام على صبغ

السلطنة العثمانية بالصبغة التركية، وهذا المشروع لم يخطر في بال السلاطين

الفاتحين ولا عللوا النفس بتحقيقه مع ما كان لديهم من القوة التي إن لم تكن أعظم

من قوة أحداث سلانيك الغارقين في الأوهام فهي على الأقل تساويها، وبهذا صارت

الجامعة الإسلامية بلا سند وعادت حقًّا مشاعًا فبدأ كتاب الصحف وحدهم يشتغلون

بها وقوة هؤلاء لا يستخف بها.

انتشرت الصحف الإسلامية في العالم بكيفية غير محسوسة وأكثر هذه

الصحف عربية فتجد منها بآسيا وأفريقيا وأميركا وأوروبا بل في الأوقيانوسية ولو

بنسبة غير متساوية، ولما كانت هذه الصحف حديثة النشأة لذلك ترى لها عيوبًا كما

أن لها مزايا وفوائد، فإذا كان ينقصها الأخبار السريعة من جهة فهي من جهة ثانية

ذات سلطة على قرائها وهي التي تكون الرأي العام بدل أن تردد صداه.

تكثر الصحف العربية بنوع خاص في القطر المصري، وكانت في سوريا قد

نهضت بنشاط في مدة قصيرة حتى جاءها الحكم الحميدي ووقف في وجهها فجعلها

نسيًا منسيًّا إلى أن أعلن الدستور سنة 1908 وكان الكتاب السوريون ينزلون ضيوفًا

في مصر، وهي الأخت الشقيقة لسوريا فانتشرت الصحافة في وادي النيل

وفازت فوزًا باهرًا.

صورة مصطفى باشا كامل تتقدم بما لها من المكانة صحف الجامعة الإسلامية

في القطر المصري، وهذه الجامعة الإسلامية هي الجامعة المدنية التخيلية القريبة

الوصول لكل من بذل ذاته وأبدى سخاء وعلو همة إلا أن هذه الجامعة مصرية أكثر

منها عمومية وقومية أكثر منها دينية.

أما المثل الحي المقدام للجامعة الإسلامية الدينية فهو بلا نزاع الكواكبي

والأفغاني والشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، وكان مرمى آمال الشيخ محمد

عبده أن يكون الإسلام عامًّا حيًّا يرجع إلى حاله الأولى ويتجرد مما زيد فيه بمرور

الزمان.

ومما قاله رحمه الله في كتابه (الإسلام والنصرانية) ص 117 إن ما

يؤخذ على المسلمين في الوقت الحاضر ليس هو من الإسلام في شيء ولكنه شيء

آخر أدخله أهل البدع على الإسلام ودليلنا على ذلك القرآن الذي انصرفوا عن تدبره

واتباع سننه.

إن الجامعة الإسلامية الدينية التي خلفها الشيخ محمد عبده لتلاميذه عند وفاته

يتوسل للعمل لها بثلاث وسائل المؤتمرات والصحافة والتعليم بالمبادئ الصحيحة،

وقد كانت آمال الجامعة الإسلامية ترمي إلى عقد مؤتمر يجمع جميع الطوائف

الإسلامية، وقد سبق لنا الكلام على السبب الذي من أجله لم يفلح مؤتمر أم القرى،

إلا أن العزيمة لم تفتر في هذا الشأن حتى قام قبل بضع سنوات إسماعيل غصبر

نسكي مدير جريدة ترجمان التي تطبع في بغجه سراي في القريم فاقترح عقد

المؤتمر في القطر المصري وقابل المصريون هذا الاقتراح بحمية ونشروا على

العالم الإسلامي منشورات حماسية إلا أن هذا المؤتمر أخفق أيضًا.

وقد قرأت في أحد أعداد مجلة المنار التي تصدر في مصر، وقد تفضل

بإرسالها إليَّ المسيو ماسينيوس اقتراحًا لأحد المكاتبين يقترح به عقد المؤتمر إلا أنه

لم يكن سببَ إخفاق المشروع فسادٌ في إدارته بل كانت هنالك صعوبات مادية تحف

به من كل جانب.

وأما الوسيلة الثانية وهي الصحافة فإنها جعلت فكرة الجامعة الإسلامية تتقدم

تقدمًا سريعًا؛ لأن كل الجرائد الإسلامية في العالم ترمي إلى هذا الغرض وهي

منتشرة في كل مكان. وإذا فتح الإنسان واحدة من هذه الجرائد أو المجلات يأخذه

العجب من الخطوات التي اجتازتها الصحف العربية، وإن كانت إربًا لا تكاد

تحسب لوجودها حسابًا.

وتهتم الصحافة العربية باستعراض أحوال العالم الإسلامي بأسره وتشرحها

وتعلق عليها وتشير بإصلاح المعوج وتشجعها وتحنو عليها حنو الوالدة على رضيعها

وتفيض هذه الصحف بالبحث في تاريخ الإسلام وعلومه وتقاليده في قالب يسهل

فهمه على جميع القراء؛ لأنه يكتب بأسلوب بسيط حديث. وإن مجلة كمجلة

المقتبس تعد كدائرة معارف حقيقية يهم المسلمين الاطلاع عليها وهي تقرأ في كل

جهة من البلاد العربية كما تقرأ في الأوقيانوسية والهند وأميركا.

وقد وقف أحد مسلمي الهند في لاهور مائة نسخة من كتاب تفسير القرآن

الحكيم الذي يكتبه الشيخ رشيد رضا لتوزع هذه النسخ على المساجد وتتلى فيها.

ولدينا أمثلة كثيرة من هذا القبيل تدل على وجود روح التضامن التي تبثها هذه

الصحف بين المسلمين المنتشرين في أنحاء العالم.

وأما الوسيلة الثالثة فهي التعليم الذي اشتد الميل إليه والشوق إلى نشره

فانتشرت المدارس في كل مكان. وكان الإنسان يقرأ منذ حين على كل جدر في كل

مدينة من مدن سوريا هذه الجملة: (تعلم يا فتى فالجهل عار) .

والجامعة الإسلامية لا تكتفي بتأسيس المدارس البسيطة بل هبت لتأسيس

مدارس الجامعة الكبرى. فهذا الجامع الأزهر قد تأهب لتجديد عهد شبابه واستعد

للقيام بالوسائل الحديثة. وهنالك مشروع تأسيس جامعة في الهند وأخرى في سوريا،

وقد تكلموا في هذه منذ مدة ولكن لم يتم شيء من ذلك بعد.

ويرجع فضل حركة النهضة الإسلامية في الهند لأحمد خان الذي ولد في سنة

1871 وتوفي سنة 1897 وهو المؤسس لجمعية الترجمة التي صارت بعد ذلك

باسم جمعية عليكرة العلمية، وهو الذي اهتم بإنشاء جامعة إسلامية ورغَّب الناس

فيها بواسطة جريدته وجسم هذه النهضة الدينية بعمله وكتاباته وخطاباته، وقد

أنشئت في كلكتا مؤتمرات للتربية الإسلامية حتى انتشرت هذه الحركة. وقد تحصل

الراجا محمود أباد أخيرًا على رضاء حكومة الهند بتأسيس مدرسة جامعة إسلامية

كبرى في عليكرة وهو المشروع الذي كان يشتغل به منذ زمن.

وأما مسلمو الأوقيانوسية فقد أسسوا الآن مدرسة إسلامية لتعليم اللغة العربية

في صومطرة، وفي جاوا تنشر الجرائد العربية.

أما المشروع الذي يفوق المشروعات الأخرى ويدل على الجامعة الإسلامية

قبل غيره فهو مشروع (الدعوة والإرشاد) الذي قام به الشيخ رشيد رضا تلميذ

الشيخ محمد عبده الذي سبق لنا الكلام عليه، وكان قصده من هذا المشروع في بادئ

الأمر أن يكون في الآستانة إلا أن حزب الاتحاد والترقي كان يظهر له القبول

والترحاب إلى أن انقلب عليه فعاد السيد رشيد رضا لأرض مصر الكريمة فألف

فيها جماعة الدعوة والإرشاد ووضع بمساعدتها أساس مدرسة كلية إسلامية كبرى

مجانية وتبدأ المدرسة بسنة تمهيدية، ثم يكون لها صنفان مدة كل واحد منهما ثلاث

سنوات أحدهما صنف المرشدين الذي سيحيي بلاغة منبر الخطابة الإسلامية الراقد

منذ أجيال، والصنف الثاني لتعليم الدعاة إلى الإسلام، وهؤلاء ينتخبون من عِلْية

متخرجي صنف المرشدين فيتممون في السنوات الثلاث المعارف اللازمة لتأدية مثل

هذه المهمة العظيمة.

من هذا نعلم أن الجامعة الإسلامية تشعر أنها قادرة ليس على الدفاع عن نفسها

فقط بل على الشروع بفتوحات جديدة.

قال محمد أحمد في مقدمته لكتاب (الإسلام والنصرانية) تأليف الشيخ محمد

عبده: إن هذه الديانة السمحة ستمحو كل دين آخر وتزيل كل طريقة وتبقى وحدها

على الأرض.

والواقع أن الدين الإسلامي ينتشر في أواسط أفريقيا ومن الممكن أن ينتشر

أكثر. ويتضح من إحصائية الحج الأخيرة أن قد ظهرت في الوجود حركة دينية

شديدة. فإن عدد الحجاج صار 17500 بعد أن كان 7500 وعدد الحجاج الذين

مروا بالقطر المصري 16000.

إن الجامعة الإسلامية تسير بصراحة، وأنا أعرف جامعة أخرى لا صلة لها

بالدين. وهذه الجامعة أهلية محضة، والغرض منها إحياء تلك المدنية الإسلامية

الشرقية القديمة وإظهار جمالها وريحها العاطر القديم. وذلك أمل تشترك فيه ضفاف

الفرات الغنية الخصبة ودمشق القديمة من ورائه أن تتجدد عجائب مدائن الأندلس.

وليس هذا الأمل إسلاميًّا فقط بل إن الحمية التي يبديها الكتاب المسيحيون

حديثو السن لا تقل عن حمية إخوانهم المسلمين قوة وشغفًا. إلا أن هذا الميل لا

يمكن اشتراكه بالجامعة الإسلامية الدينية بدون تكلف في الألفاظ وتوسيع للدائرة إلى

حد لا يسعه مجال مقالة واحدة. ومع ذلك فإني أردت أن أشير إلى هذا الميل الذي

يهم البحث فيه كل من يهتم بشئون هذا الشرق القديم الذي لم تزل شهرته قليلة.

...

...

... ك. ت. خير الله

(المنار)

كتب هذا الكاتب اللبناني البليغ مقالته في الطان لتزداد فرنسا وسائر دول

أوروبة مقاومة لكل ما يرتقي به المسلمون ولذلك كبر الصغير، واستعان بالإيهام

والتهويل، فجعل عبد الحميد مؤيدًا لما يسمونه الجامعة الإسلامية وباثًّا لدعاتها،

وهو أشد خصومها وأكبر أعدائها، وإنما كان يصطنع بعض أصحاب الصحف في

البلاد الإسلامية ليمدحوه ويدافعوا عنه بلقب الخلافة كما اصطنع أمثالهم في أوروبة

للدفاع عنه ومدحه، وهو لم يحتل على جذب السيد جمال الدين إلى الآستانة إلا

ليحبسه فيها ويبطل عمله، ومن كلام السيد فيه (إنه سُلّ في رئة الدولة) .

كذلك جعل المقتبس من الصحف الجامعة الإسلامية وأوهم أن قراءه في

الأقطار الأمريكية والأوقيانوسية من أركان الجامعة الإسلامية وأنهم كثيرون يعدون

بالألوف، والصواب أن جلهم إن لم نقل كلهم من النصارى وهم قليلون. وقد صرح

في الجزء الأول من المقتبس بأنه علمي مجرد من النزعات الدينية، وقد صدق،

فإذا كان مع هذا يعد من صحف الجامعة الإسلامية فالمقتطف والهلال منها كذلك! !

وفى المقالة مبالغات أخرى خرج بها الكاتب عن محيط الحقيقة فمثّلها لأوربة

من وراء زجاجة الآلة المكبرة (الميكروسكوب) ولكنه أراد أن يجعل منها مسألة

الحج فأخطأ في الأرقام وجعل الكثير قليلاً والكبير صغيراً.

جعل السيد جمال الدين هو الواضع الأول لأساس هذه الجامعة وقال: إنها

أسست في مصر وأنها كانت دينية محضة. والصواب أن السيد رحمه الله تعالى لم

يَدع في مصر إلى جامعة دينية محضة بل أسس في مصر جامعة شرقية وحزباً

وطنياً دخل فيه السوريون وغيرهم من سكان مصر الشرقيين.

ومن أغلاطه ما ذكره عن جمعية الاتحاد والترقي من مقاومة الجامعة

الإسلامية، وهذا الغلط مبني على الخطأ في دعوى أن السلطان عبد الحميد كان

نصير الجامعة الإسلامية يبث الدعاة لها في أقطار العالم. والصواب أن الاتحاديين

هم الذين حاولوا دون جميع أصحاب السلطة قبلهم أن يستفيدوا من تعلق قلوب

المسلمين بالدولة فبثوا الدعاة لذلك في جميع أقطار العالم الإسلامي في الوقت الذي

يبذلون فيه جهدهم بإضعاف الدين ورجاله في المملكة نفسها، فزعماؤهم المشهورون

يقاومون نفوذ الدين ونشره من حيث هو دين ويحاولون الانتفاع به من حيث علاقته

بالسياسة.

ومن أغلاطه ذكر اسم مصطفى كامل في بحث الجامعة الإسلامية ووطنية

مصطفى كامل والجامعة الإسلامية ضدان لا يجتمعان، وإنما كان يقدس عبد الحميد

لأجل الانتفال بذهبه، وأوسمته ورتبه، وكذلك خليفته محمد فريد نصير زعماء

الاتحاديين ومقاوم مشروع الدعوة والإرشاد بإغرائهم.

وهنالك أغلاط أخرى لا حاجة إلى تتبعها، ومنها ما لا يترتب عليه شيء

كقوله: إن الكواكبي كان خطيباً مصقعًا وهو لم يكن خطيبًا، وقوله: إنه كان في

القطر المصري جمعية تُدعى العروة الوثقى طلبت من الأفغاني كذا وكذا،

والصواب أن الأفغاني هو الذي ألف جمعية العروة الوثقى.

وجملة القول أن الكاتب يعد كل عمل يعمله المسلمون سعيًا إلى الجامعة

الإسلامية، فإذا قرأوا أو كتبوا، أو أكلوا أو شربوا، يقول: إن كل ذلك استعداد

للجامعة الإسلامية ، والمسلمون نائمون يغطون، لم يستيقظ منهم إلا نفر قليلون، قد

رأوا ملكهم ورزقهم يُغتال، وكل ما هو لهم مهدد بالزوال، فهم يقولون لهم في

بعض البقاع استيقظوا، وانظروا كيف تعيشون مع من معكم، ومن جاءكم من

فوقكم، ولا أعرف أحداً يسعى إلى اتحاد حكوماتهم، على أن أوروبا لم تدع لهم

حكومات، وإنما بقي لهم هذه الدولة المنكوبة التي يخربها أصحاب النفوذ فيها من

الداخل، وأوروبا من الخارج، كما قال المرحوم فؤاد باشا الشهير، ونسأل الله

وقايتها من هذه الأرزاء، فقد وصل الأمر إلى حد الدعاء.

_________

(*) مترجمة عن جريدة (الطان) الفرنسية من العدد الذي صدر في 17 ديسمبر وهي لكتاب من

نصارى لبنان.

ص: 129

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الصلح بين الدولة والإمام

رسالة طويلة أرسلها إلى جريدة الحقيقة البيروتية من اليمن ضابط عثماني

شهد الحرب والصلح هنالك بنفسه، لما فيها من الفوائد الجديرة بالتأريخ قال:

كان يوم السبت الواقع في 8 ت 1 سنة 327 يومًا عظيمًا في اليمن حيث

تجلت السعادة على تلك الربوع وانمحى الشقاء والبؤس اللذان كانا يرفرفان عليها

وأراني فخورًا في زف هذه البشرى لإخواني في الدين والوطنية.

إن قرية (دعان) الواقعة على مسافة خمس ساعات من الشمال الشرقي من

قضاء (عمران) سيكون لها شأن في التاريخ حيث عقد فيها الاتفاق، وتم توقيع

شروط الصلح بين الإمام يحيى بن حميد الدين وقائد الحملة عزت باشا فانحسم بذلك

الخلاف وهدأت الخواطر وارتاحت النفوس، ولعمري إن الاتفاق خير وسيلة لحقن

الدماء؛ لأن التطاحن لا يجدي نفعًا بل يكون سببًا لتأصل البغض وضعف القوة.

وقد قام الإمام بحضور القائد وأركان حربه ونواب اليمن وألوف من سكانها

داعية للدولة بدوام العز حتى اعتقد الناظر أن رابطة الاتحاد والإخاء ستكون أبدية

إلى ما شاء الله لما ظهر على الوجوه من علائم الإخلاص وسيماء الاتحاد.

وفي اليوم الرابع من الشهر المذكور كان العلم العثماني يخفق على

(قلعة عمران) بين دخان كثيف حيث كانت أحد عشر مدفعًا تطلق استقبالاً للقائد

وهيئة أركان حربه الذي جاء من صنعاء لاقتطاف ثمرة أتعابه ومساعيه التي صرفها

منذ ستة أشهر في هذه الأصقاع فلم تكد تنتهي أصوات المدافع حتى ظهر ذلك البطل

والتعب بادٍ على وجهه والشيب عام رأسه فشعرت عندئذ بفضله؛ لأن الصلح كان

على يديه وذلك لحكمته ودرايته، وكم من قواد أوفدتهم الحكومة إلى ذلك القطر

رجاء إصلاحه فآبوا من حيث أتوا ولم يستطيعوا أن يفيدوا شيئًا ، وإليك أسماء الذين

جاءوا معه:

الميرالاي أحمد عوني رئيس أركان حرب الحملة. والميرلوا عبد السلام باشا

رئيس أطباء الحملة. والقائمقام رجب بك. البكباشية عاصم وعزت. والقول

غاسية قدري وعصمت بك، واليزباشية عاشور وسيفي وصالح وصفوت

وناظم بك، وياور القائد الملازم سرور بك، والكاتبان إلهامي وسليمان بك،

ومبعوث الحديدة محمود نديم بك مع مبعوث صنعا، وقومندان الجندرمة برتو بك،

ومدير مكتب الرشدية والعسكريةبصنعاء، والبكباشي بهاء الدين بك وأحد علماء

الروضة والميرالاي أحمد بك، والسيد أحمد قاسم من أشراف اليمن وأحد الساعين

في هذا الصلح. وقد ضُرب موعد الاجتماع في قرية دعان الواقعة على بعد خمس

ساعات من الشمال الشرقي من عمران (بينهما) وبين قرية (حمر) التي هي

مركز لاجتماع رجال الإمام يحيى كما ذكرنا.

وقد قدم الإمام يحيى إلى دعان قبل أن يغادر عزت باشا صنعاء لكي يعد

المعدات لاستقباله. وفوق ذلك فإنه أرسل لاستقباله حفيد الإمام الأسبق السيد محمد

بن المتوكل الملقب بسيف الإسلام مع كثير من المشايخ ورؤساء القبائل، وهو الذي

حاصر قلعة عمران قبل ستة أشهر وضيق عليها الحصار بدفاعه مدة أربعة أشهر،

وها هو ذا قد قصد اليوم هذه القرية حيث تستقبله الجنود التي كان يحاربها وتحييه

التحية العظمى.

كانت مخايل النجابة وعلائم الذكاء تتلألأ على ذلك الوجه الذي يخالط سمرة

لونه شيء من الاصفرار فكان يخيل للناظر إليه في أول وهلة أنه في حضرة هونغ

هنغ زعيم الثورة الصينية من حيث بهاء طلعته ورَبعة قامته وقلة شعر لحيته

وسدول شاربيه ولباسه الحرير الأصفر.

وكان بين وفود الإمام الموفدين لاستقبال القائد أيضًا ناصر مبخوت من

مشاهير قواد الإمام، وقد كان مستخدمًا برتبة يوزباشي بالجندرمة (أى الشرطة)

ثم فر منها ولحق بالإمام وهناك ظهر منه ما ظهر من قوة وشجاعة.

وفي صباح يوم الأربعاء توجه عزت باشا من (عمران) إلى (دعان) مع

من ذكرنا أسماءهم وعشرين من الخيالة النظامية وخمسة وعشرين من خيالة

الجندرمة، ولو كان ذلك قبل هذا اليوم لما تسنى لعزت باشا أن يبتعد عن عمران

مسافة ساعتين إلا بقوة ألاي (4 توابير) كامل العدد والعدة؛ لأنها آخر الأراضي

الداخلة تحت إدارة الدولة، أما اليوم فقد أصبح تحرسه قلوب اليمانيين وترعاه

نفوسهم. فلما اقتربنا من دعان مسافة ساعة ونصف وجدنا المستقبلين على وجوههم

آثار الشجاعة والنبل وفي مقدمتهم سيف الإسلام السيد أحمد قاسم والمقدم المشهور

مقداد والشيخ عبد الله أبو منصر وعلي سراجي ويحيى شبام وراجح باشا شيخ

قبيلة (سراح) وكانت الحكومة وجهت عليه رتبة ميرميران لاستمالته إلا أنه بقي

من رجال الإمام حتى الآن. والسيد عبد الله بن إبراهيم وهذا كان قد أرسله الإمام

للآستانة في السنة الماضية للمفاوضة مع الدولة بشروط الصلح.

كان هؤلاء الأبطال يقودون العربان ويحاربون الحكومة من مناخة إلى صنعاء.

ويلقب الإمام ثلاثة من رجاله بسيف الإسلام وهم السيد محمد بن المتوكل والثاني

السيد قاسم والثالث أبو نبيلة إلا أن هذا الأخير لم يكن حاضرًا الاحتفال بل بلغني

أنه موجود مع رجاله بجهة (سعدا) .

أما السيد قاسم فهو عم مبعوث صنعاء الميرلاي أحمد بك، وقد خرج من

صنعاء منذ خمسة وثلاثين سنة وهو من ذاك التاريخ بجانب الإمام، وقد رويت عنه

رواية قالها يومًا: إنني لما خرجت من صنعاء كنت لا أملك سوى بندقية إبراهيمية،

أما اليوم فإننا نملك على مئة ألف بندقية من أحدث طرز وما يقرب من مئة مدفع.

أما علي المقداد فهو من عائلة قديمة يرجع تاريخها إلى ألفي سنة، وقد حارب

الدولة منذ عشرين عامًا إلا أن لذلك أسبابًا عظيمة حملته على محاربتها والوقوف

بوجهها وهي أنه قدم أحد القواد العثمانيين في الزمن السالف وأراد أن ينتقم من

العربان فدعا الأمير إليه فلما حضر لديه أمر أتباعه بربط هذا الجليل بعجل المدفع

ثم أمر بإطلاقه فقطعت يداه من عظم القوة وكادت روحه تخرج من صدره، ثم فكه

وتركه مغمى عليه، فلما أفاق عاهد الله والرسول على أن لا يقرب هو ولا أولاده

من الدولة وأن يقف حياته لمحاربتها ما دام فيه عرق ينبض.

هذا نموذج من الإساءة التي يستعملها رجال الدولة الذين يقصدون اليمن

للإصلاح فلذا كان اليمانيون يقفون في وجه الدولة مهما أرسلت إليهم من المصلحين؛

ذلك لأنهم رأوا الإساءة من السابقين وذهبت ثقتهم من اللاحقين.

يبلغ الأمير من العمر 85 سنة وكان رجاله ينقلونه على ألواح الخشب أثناء

المحاربة لعجزه وعدم استطاعته ركوب الخيل، وكان يصدر أوامره الحربية وهو

على هذه الحالة ويدير شئون المحاربين ويقودهم بكل رصانة.

أما عبد الله أبو منصور فقد كان سببًا في انكسار حملة فيضي باشا سنة 1321

شرقي (كذا والمراد السنة المالية) وكيفية ذلك أنه لما هجم التابور المنسوب إلى

ألاي (ريزا) على (شهاره) ودخلها استولى الرعب على قلوب العربان فأوشكوا

أن يفروا من وجه الجنود، لولا أن قام عبد الله أبو منصور وعقل ركبتيه كي لا

يستطيع الفرار إذا هاجمه العدو - وهي وسيلة استعملها لتشجيع العربان وأمثولة

وضعها ليعلمهم الثبات إبان القتال - وقتل بعض الفارين من العربان عبرة لغيرهم

فكانت النتيجة أن ثبت العربان حتى أفنوا التابور عن آخره وضعفت بذلك قوة

الحملة.

نرجع إلى مسألة الصلح: كنا نتقدم إلى (دعان) وكان يتقدمنا ألوف من

العربان يلعبون بخناجرهم ويطلقون بنادقهم في الفضاء احتفاء بنا وهي نفسها التي

كانوا يطلقونها علينا في الوقائع. وكانوا يسيرون إلى جانبنا وهم ينشدون الأناشيد

الحربية التي لا تحلو إلا بالأمم المتصفة بالشجاعة والوفاء.

هناك أثَّر فيَّ هذا المنظر وقلت في نفسي: ما أحلى هذه المؤاخاة وما أسلم

هذه القلوب التي تزينها النية الصافية.

لا شك أن ما رأيناه من مظاهر الإخلاص وعلائم الاتفاق هو نتيجة سعي قادة

الأفكار من الفريقين في إصلاح ذات البين، وأنا على يقين أنه لولا وجود عزت

باشا في اليمن لما تم الصلح ولا رجعت السكينة إلى تلك الربوع، فكم من قواد أموا

هذه البلاد فأهلكوا الحرث والنسل ولم يتركوا نوعًا من أنواع الظلم إلا فعلوه فكان

ذلك سببًا في إبادة ألوف من الجنود الذين ذهبوا ضحية جور هؤلاء القواد من أبناء

الأناضول والروم أيلي.

تلك هي سياسة القواد السابقين التي لم يلتفت إليها عزت باشا بل نظر إلى

المصلحة العامة قبل كل شيء، ولولا ذلك لما تسنى له الحصول على وفاق ووئام

بين طائفتين من المسلمين تقتتلان، فهيأ للجيش العثماني عضدًا قويًّا يبلغ عدده

ثلاثة ملايين؛ لأن الإمام يحكم على هذا العدد ويمكنه أن يكون محاربًا مع الجيش

العثماني جنبًا لجنب إذا مست الحاجة ولا يستبعد القارئ هذا، فالمثال حسي ظاهر

وهو أنه لما بلغ الإمام إعلان إيطالية الحرب على الدولة أرسل نبأً برقيًّا إلى مقام

الخلافة العظمى يقول بأنه مستعد لتقديم مئة ألف مقاتل كاملي العَدد والعُدد.

بينما كنت غارقًا في بحور هذه التأملات إذ تذكرت صحيفة الماضي حيث

كنت شاهد عدل على المقابلة التي وقعت منذ سنتين مع السيد الإدريسي في صبيا

وجرى لنا استقبال حافل وأرسل لنا الإدريسي رؤساء العشائر والمشايخ وبقينا عنده

ثمانية عشر يومًا لم يدُر في خلالها على ألسنتنا غير حديث وجوب اتحاد المسلمين

يدًا واحدة دفعًا للطوارئ الخارجية المحدقة بنا، وكان السيد يقول لنا: إنه لا سلامة

ولا راحة ولا سعادة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلا بإطاعة أكبر دولة

إسلامية والالتفاف حولها وهي دولة الخلافة العظمى. إلا أن هذا الائتلاف كان وقتيّا؛

لأن بيننا وبينه الآن دماء تجري كالأنهر وسيوف تلعب بالرقاب فشتان ما بين

ائتلاف الأمس واليوم [1] .

كان الاتفاق مع الإدريسي على أثر تهديده فكنا الساعين إليه قبله خوفًا من

إراقة الدماء فعد ذلك ضعفًا من الحكومة، أما اليوم فإن الاتفاق بخلاف ذلك فقد

أدرك الإمام أن لا فائدة من هذه المحاربات ولا نتيجة من التطاحن وأن ذلك يضعف

القوى فتصافحنا مصافحة ولاء وإخلاص وتعاهدنا أن نكون يدًا واحدة في السراء

والضراء.

(دعان) بلد مبني على قمة جبل يتألف من مئة منزل بين دور وأبراج جعل

واحد منها للإمام يحيى والثاني لعزت باشا قائد الحملة، وبعد أن استرحنا من عناء

السفر ساعتين قصدنا البرج الذي نزل فيه الإمام.

هناك وجدنا بعض العربان وقوفًا على الأبواب حاملين سلاحًا حديثًا ثم انتقلنا

إلى رواق ضيق مظلم حتى بلغنا حجرة الإمام حيث كان جالسًا على مقعد بسيط

يلاصق الأرض متكئًا على وسادة وأمامه أدوات الكتابة وأوراق منها ورقة مكتوبة

ممضاة بختم الإمام ولم تكن الغرفة مزينة إلا أننا رأينا على جدران الغرفة سبحة

وساعة ومصحفًا في محفظة قماش خضراء وسيفًا ونظارة.

وأما الإمام فسنه يناهز الأربعين وعلى وجهه أثر الجُدري حنطي اللون أسود

العينين حادهما قليل شعر الحاجبين والشاربين واللحية، وكنا نرى حينما يبتسم

أسنانه الناصعة البياض ، وخلاصة القول فإن سيما الذكاء والنبل كانت تتلألأ على

ذلك الجبين الوضاح والوجه المنير الذي يجذب القلوب.

وسأذكر لكم من قبل الاستطراد أربعة عشر شرطًا من شروط الإمامة سبعة

منها فطرية والباقي كسبي.

الفطري أن يكون علويًّا فاطميًّا سليم الحواس صحيح البنية حرًّا أن لا يكون

ابن أمة عالمًا عادلاً.

والكسبي أن يكون مستقلاً في رأيه سخي الكف جسورًا لا يهرب من القتل وأن

لا يتقاعد عن الحرب إذا كان هناك مسوغ شرعي، وأن يكون وحيدًا في الإمامة

وذكرًا قادرًا على استمالة الأكثرية أي مصيبًا في رأيه [2] .

وقد رأيت أثناء إقامتي في تلك الربوع أن أحسن حكومة ديموقراطية هي إدارة

الإمام.

وجدت الشيخ ناصر مبخوت واقفًا على باب حجرة الإمام حاملاً السلاح كأنه

يؤدي وظيفة الخفر، وكان هذا الشيخ قد قدم للإمام خدمات جليلة حين وفاة والده

وهو الذي سعى مع العلماء في إتمام البيعة له.

إن للإمام يحيى سلطة عظيمة على اليمن حتى إنه يمكن للرجل أن يتجول

الأراضي اليمانية دون أن يمسه سوء إذا كان لديه رخصة من الإمام والعرب

يحترمونه احترامًا زائدًا وذلك لشدة تعلقهم به.

كان الوافد على الإمام حينما يقرب من منزله بدعان يطلق عياره الناري في

الفضاء دلالة على الاحترام والتعظيم.

إن هذا الاحترام العظيم وتلك السلطة المطلقة هما معلقان على كلمة تخرج من

فم شيخ الإسلام الزيدية وذلك إذا ظهر من الإمام عمل استبدادي أو أمر يخالف

الشريعة الإسلامية فعندئذ ينزل عن تلك العظمة وأحيانًا تقود هذه الفتوى الإمام إلى

محل القصاص. وخلاصة القول أن فتوى شيخ الإسلام الزيدية كسيف بتار معلق

فوق رءوس الأئمة.

قبل أن أبين لكم شروط الصلح التي عقدت في هذه المرة أرى أن أذكر للقراء

شروط الصلح السابقة التي طلبها الإمام قبل الدستور لنقابل بين هذه وتلك.

لا يخفى أن الحكومة في الدور السابق كثيرًا ما سعت في الائتلاف والصلح

وكانت الوفود تلو الوفود ولكنه يا للأسف لم يتسن لهؤلاء حقن الدماء ودفع الخسائر

التي كانت تتكبدها الحكومة من إزهاق الأرواح وضياع الأموال، وآخر وفد أرسلته

الحكومة في سنة 1324 هجرية للإصلاح ذات البين بين الطائفتين طلب منه الإمام

الشروط الآتية مفتتحة بهذه المقدمة:

شروط الصلح التي

كان اقترحها الإمام

(وافقت مستمدًّا بعون الله على شروط الصلح ما بيني وبين مأموري سلطان

الإسلام الذي أدعو الله أن يؤيد ملكه لإطفاء نار الحرب الموقدة، وأن نستبدل

الفوضى والعداوة بالصداقة لتسلم البلاد من القلاقل وتحقن الدماء وتزول المحن من

هذه البقعة ويستتب الأمن ويُربط المؤمنون برابطة الإخاء التي لا انفصام لها ويرتفع

الظلم من بينهم.

1-

أن تطبق الأحكام على الشريعة الغراء.

2-

أن يرجع عزل وتعيين القضاء وحكام الشرع إلى الإمام.

3-

أن تكون معاقبة الخائنين والمرتشين منوطة بالإمام.

4-

تخصيص رواتب كافية للحكام وللمأمورين كي لا تدفعهم القلة إلى

الارتشاء.

5-

إحالة الأوقاف إلى عهدتنا لإحياء المعارف في هذه البلاد.

6-

إقامة الحدود الشرعية على مرتكبي الجرائم من المسلمين والإسرائيليين

كما أمر الله بها وأجراها رسوله التي أبطلها المأمورون كأن لم تكن شيئًا مذكورًا.

7-

يؤخذ العُشر من المزروعات التي تُسقى بماء السماء، وأما التي تسقى

بمياه الآبار فيؤخذ منها نصف عشر بعد أن يقدر ذلك أرباب الخبرة، وإذا حصل

اختلاف يرجع إلى الأصول التي وضعها عبد الله بن رواحة في الخرص. ويؤخذ

عن البقر والغنم والإبل النصاب الشرعي، وأما الأراضي التي تغل مرتين أو ثلاثًا

فيؤخذ عنها نصف العشر أو ربعه ورفع ما سوى ذلك من التكاليف.

8 -

إن جباية الأموال المارّ ذكرها تكون بواسطة مشايخ البلاد تحت نظارة

مأموري الدولة، وإذا تجاسر أحد على أخذ زيادة عن التكاليف المار ذكرها فعزله أو

تحديد الجزاء له راجع إلينا ولا يكون لنا علاقة بقبض الأموال الأميرية.

9-

تعفى عشائر حاشد وحولان وحدا وأرحب من التكاليف.

10-

يسلم كل منا الخائنين الذين يلتجئون إليه.

11-

إعلان العفو العمومي في البلاد كي لا يُسأل أحد عن ماضيه.

12-

أن لا يولى أحد من أهل الكتاب على المسلمين.

13-

أن تشمل أحكام هذه المواد المار ذكرها صنعاء وتعز وملحقاتها.

14-

أن لا تتداخل الحكومة في شئون (آنس) ولا تعارضني في تعيين

المأمورين من قِبلي لهذا القضاء لفقرهم وقلة حاصلاتهم، ولما يخشى من وقوع

محظور في مخالطة مأموري الحكومة لهم.

15-

أن تكون المحافظة على هذه البلاد من تعديات الدول الأجنبية راجعة

للدولة.

إن تنفيذ هذه الشروط في البلاد اليمانية يكون سببًا لسلامة الأفراد البشرية

وترقي البلاد وإحيائها فيظهر الأمن بأبهى مظاهره ويحصل منه خير كثير.

لا يخفى أن البعض يستفيدون من كثرة سَوْق العساكر إلى البلاد اليمانية إذ لا

يخلو ذلك من الفائدة المادية لهم، ولعلهم لا يرضون بهذه الشروط؛ لأن باتباعها

يستتب الأمن وينقطع ورود العساكر إلى هذا القطر فيخسرون بذلك ما كانوا يؤملون.

لذلك أطلب صدور فرمان سلطاني يتضمن قبول الشروط المار ذكرها كي

يطمئن اليمانيون وترتاح قلوبهم ولا يعترضني المأمورون في إجراء الأحكام التي

تخولنيها الشروط وإحالة إدارة بلاد (الشرقية) من اليمن التي تشابه بلاد (آنس)

إلى عهدتي.

...

...

...

... 13 صفر سنة 1324

هذه هي شروط الصلح التي كان طلبها الإمام من موفدي الدولة إلا أنه لم يتم

الاتفاق عليها في زمن الحكومة الماضية؛ لأن الذين نيط بهم أمر الصلح لم يكونوا

أهلاً له.

كانت المسألة اليمانية بعد إعلان الدستور شغل الدولة الشاغل، وقد كادت

تقرر أن تترك الجبال الآهلة بقبائل الزيدية للإمام يديرها كيف شاء لولا أن ظهرت

في اليمن تلك الحركة الأخيرة وحصل ما حصل.

أنقل للقراء اليوم الشروط التي حصل الاتفاق عليها وهي أخف وطأة من

الأولى [*][3] :

1-

عقد الاتفاق ما بين الإمام المتوكل على الله يحيى بن حميد الدين وقائد

الحملة اليمانية عزت باشا على إصلاح أمور بلاد صنعاء، عمران، حجه، كوكبان،

حجور، آنس، ذمار، بريم، رداع، حراز، وتعز، التي يقطنها الزيديون

الذين هم اليوم تحت إدارة الدولة.

2-

ينتخب الإمام حكام مذهب الزيدية ويبلغ الولاية ذلك، وهذه تخبر الآستانة

لتصدق المشيخة على ذلك الانتخاب.

3-

تتشكل محكمة استئنافية للنظر في الشكاوى التي يعرضها الإمام.

4-

يكون مركز هذه المحكمة صنعاء وينتخب الإمام رئيسها وأعضاءها

وتصدق على تعيينهم الحكومة.

5-

يرسل الحكم بالقصاص إلى الآستانة للتصديق عليه من المشيخة وصدور

الإرادة السنية به، وذلك بعد أن يسعى الحاكم في التراضي ولا يفلح. ولا ينفذ

الحكم إلا بعد التصديق وصدور الإرادة بشرط أن لا يتجاوز أربعة أشهر [4] .

6-

إذا أساء أحد المأمورين (الحكام والعمال) الاستعمال في الوظيفة يحق

للإمام أن يبين ذلك للولاية.

7-

يحق للحكومة أن تعين حكامًا للشرع من غير اليمانيين في البلاد التي

يسكنها الذين يتمذهبون بالمذهب الشافعي والحنفي [5] .

8-

تتشكل محاكم مختلطة من حكام الشافعية والزيدية للنظر في دعاوى

أصحاب المذاهب (المختلفة) .

9-

تعين الحكومة محافظين تحت اسم مباشرين للمحاكم السيارة التي تتجول

في القرى لفصل الدعاوى الشرعية وذلك دفعًا للمشقات التي يتكبدها أرباب المصالح

في الذهاب والإياب إلى مراكز الحكومة.

10-

تكون مسائل الأوقاف والوصايا منوطة بالإمام.

11-

صدور عفو عام عن الجرائم السياسية والتكاليف (الضرائب) الأميرية

التي سلفت.

12-

عدم جباية التكاليف الأميرية لمدة عشر سنوات من أهالي أرحب

وحولان لفقرهم وخراب بلادهم على شرط أن يحافظوا على صداقتهم وارتباطهم

التام بالحكومة.

13-

تؤخذ التكاليف الأميرية بحسب الشرع [6] .

14-

إذا حصلت الشكوى من جباة الأموال الأميرية لحكام الشرع أو للحكومة

فعلى هذه أن تشترك مع الحكام في التحقيق وتنفذ الحكم الذي يحكم به عليهم.

15-

يحق للزيدية تقديم الهدايا للإمام بشرط أن تكون بواسطة مشايخ الدولة

أو الحكام [7] .

16-

على الإمام أن يسلم عشر حاصلاته للحكومة [8] .

17-

عدم جباية الأموال الأميرية من (جبل شيرق) لمدة عشر سنوات [9] .

18-

يخلي الإمام سبيل الرهائن الموجودين عنده من أهالي صنعاء وما

جاورها وحراز وعمران.

19-

يمكن لمأموري الحكومة وأتباع الإمام أن يتجولوا في أنحاء اليمن بشرط

أن لا يخلوا بالسكينة (بالأمن) .

20-

يجب على الفريقين أن لا يتعديا الحدود المعينة لهما بعد صدور الفرمان

السلطاني بالتصديق على هذه الشروط اهـ[10] .

استفدنا من هذا الاتفاق فوائد جمة أهمها ترك الإمام لقب أمير المؤمنين للخليفة

والاكتفاء بالإمامة.

ثانيًا: ثبوت القطر اليماني تحت إدارة الدولة وإقرار الإمام بحاكمية الدولة

على البلاد اليمانية كما طلب أحمد مختار باشا في تقريره. اليوم بعد أن كانت الدولة

تعتبر الإمام يحيى عدوًّا مبينًا أصبح الصديق الحميم واعترفت له بالإمامة رسميًّا

لتنظيم إدارة الزيديين.

أعلن الإمام يحيى عدم صلاة الجمعة صباح هذا اليوم لأننا كنا مسافرين فذهبنا

لتناول الطعام حيث كنا مدعوين عند الإمام فعند وصولنا إلى المنزل وجدنا العربان

مصطفين بأيديهم البنادق من طرز موزر لأداء السلام.

دخلنا المنزل فوجدنا شرشفًا (أي سماطًا) ممدودًا على الأرض حوله الأرغفة

فجلسنا حوله وكان إذ ذاك الإمام لابسًا لباسًا من الحرير أبيض حاملاً خنجرًا ذا

حمائل من ذهب حتى إن الناظر إلى الإمام كان يرى في شخصه ولباسه حالة السلم.

كان شيخ إسلام الزيدية جالسًا على يمينه وعلى شماله (سيد عمرو) وهو

أول من سعى في الائتلاف والوفاق مع السيد قاسم بين الإمام يحيى وعزت باشا

الذي كان حينئذ بجانب سيد عمرو فكأن هذا يفتخر وهو جالس بالتوفيق بين قائد

الحملة وقائد اليمن.

كان سيف الإسلام جالسًا عن شمال السيد قاسم وعلى يمين شيخ الإسلام رئيس

أطباء الحملة اليمانية عبد السلام باشا الذي كانت له اليد البيضاء في تطمين قلوب

العساكر حين أصابتهم الكوليرا بين صنعاء ومناخة فجمع أطباءه وأوصاهم أن لا

يفشوا خبر وجود الوباء بين الجند لئلا ترتعد فرائصهم وتنحل قواهم.

كان على يسار عبد السلام باشا الميرالاي أحمد عوني بك رئيس أركان حرب

الحملة الذي مكث في اليمن عامين في حملة سنة 1314 مع المرحوم عبد الله باشا

وهو الذى أخمد فتنة الألبان في السنة الماضية، ولم يكد يتم مهمته حتى ندب

للذهاب إلى اليمن حيث كانت المسألة اليمانية في دورها الأخير فلبى الطلب فخورًا.

هناك أقام خطوط الهجوم والدفاع بين صنعاء ومناخه حتى تمكن من

الاستيلاء على الأول وشهد له بالمقدرة الحربية كثيرون.

كنت أرى على وجهه مخايل التعقل فكأني به يقول للناظر إليه والمستطلع

فكره: إن الذي يود فتح اليمن والاستيلاء عليها يجب عليه أن يجذب قلوب أهلها

ويعاملهم بالرقة لا أن يخرب بلادهم ويدعها قاعًا صفصفًا. وكان لا يحول نظره

عن الإمام؛ لأنه لم يتمكن مدة وجوده باليمن عامين من رؤية ذلك الوجه الوضاح.

دار البحث أثناء جلوسنا حول مائدة الطعام في علم الحكمة والكيمياء وخاض

كل في هذين الموضوعين، وكنا نقارن بين اجتهاد الأقدمين والمتأخرين من هذا

العصر.

ولما أزف وقت الظهر من يوم الجمعة قام الأعراب لتأدية فريضة الجمعة فأمر

عندئذ الإمام الخطيب أن يخطب في القوم الخطبة الآتية:

أحمد الله سبحانه وتعالى الذي وفق بين المسلمين الذين تجمعهم كلمة

التوحيد، وفرض عليهم أن يكونوا يدًا واحدة في السراء والضراء، وأمرهم أن

يقاوموا كل من يتعدى عليهم بقوله {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى

عَلَيْكُمْ} (البقرة: 194){وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: 78)

{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران: 103) بعد أن كنتم أعداء تضمرون الوقيعة بعضكم ببعض. عباد

الله! ابتعدوا عن الاختلاف فإنه مدعاة للشر والشر مجلبة الخراب {وَاعْتَصِمُوا

بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا

وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46)[11] إلخ ما قال.

كثيرًا ما دار الحديث بين القواد ورؤساء القبائل عن المحاربات التي كانت

تجري في القطر اليماني وتوصلنا بالحديث إلى أسرار المحاربة، وكم كانت قوة

العربان في المحاربات الأخيرة في كل موقعة.

كان عدد جيش العرب في واقعة بيت شعبان 800 فقتل منهم خمسون وجرح

كثيرون، واضطر الجيش إلى الانسحاب ليلاً.

أما في محاربة مفحق فقد كانت قوة العرب مؤلفة من ثلاثة آلاف محارب وفي

بيت سلوم وغملان كانت عشرة آلاف وقد قال لي أحد المقدمين: إننا نعترف

ببسالة الأرنائوط لأنهم كانوا يهجمون ولا يبالون بالرصاص الذي كان ينصبّ عليهم

كالمطر.

وقد قال لي رئيس ثان من العربان: إننا لا نلتذ بمحاربتكم ولا نقدم عليها إلا

مكرهين؛ لأننا نتدين بدين واحد فلذا كنا في أكثر المواقع مدافعين ولا نهاجم لا

مضطرين ونحن نود أن نكون في محاربة دولة ترغب في التعدي على حقوقنا هناك

ترون منا ما يشيب له الطفل الرضيع وتتأكدون أن العرب يحقرون الموت في سبيل

الدفاع.

إن هذا الاتفاق جعل ما كان بيننا نسيًا منسيًّا غير أننا آسفون محزونون لما

أصاب إخواننا بطرابلس الغرب من تعدي تلك الدولة الطاغية.

كان العرب جميعهم يتألمون من الحرب القائمة بين الدولة وإيطاليا وكثيرًا ما

وفد علينا رؤساء العشائر يسألوننا: هل من سبيل للوصول إلى طرابلس الغرب

لمساعدة إخواننا؟

بينما الجميع في هذا الحديث إذ قام سيف الإسلام بين الجميع وصرخ بصوت

جهوري ملأ الفضاء وقال: إن أعظم قوة للإسلام هي الاتفاق ووحدة الكلمة ثم رفع

يديه ودعا للطرابلسيين بالنصر وسأل الله أن يثبت أقدامهم على محاربة الدولة

الطاغية. وأمن له الجميع.

ثم التفت عزت باشا وخاطب الجميع بقوله: إننا نفضل الموت على أن نرى

الإسلام مستذلاً - فأجابه سيف الإسلام: إن ذلهم يتوقف على انشقاقهم وجهلهم وإني

لا أجد معرة أعظم من هذه فيجب أن تتجدد للإسلام قوته ويرجع مجده وعظمته.

وفى يوم السبت أخذنا نستعد للرجوع فخرج الإمام يحيى بموكب عظيم ودعا

لنا بالتوفيق، وقد أرسل معنا ابن المتوكل وناصر مبخوت لمرافقتنا إلى عمران فلما

اقتربنا منها أطلقت المدافع من القلعة أحد عشر طلقًا كأنها تشير إلى أن السلم في

اليمن قد انتشر والأمن استتب بفضل حكمة القائد عزت باشا.

إن هذا الاتفاق كان سببًا لحقن الدماء وعدم تيتم الأطفال وثكل الأمهات أبناءهم،

ولا شك أنه سيزين تاريخ العثمانية.

كانت الدولة تنظر إلى اليمانيين بنظرة العداء وقد روت أرضهم من دماء أبناء

الرومللي والأناضول (وغيرهم) فقتل فيها ما ينيف على الخمسمائة ألف [12]

وأنفقت الملايين من الدراهم في هذا السبيل إلا أن ذلك يرجع لسوء الإدارة في تلك

القطعة.

لما حصل الانقلاب في المملكة العثمانية أخذ رجالها يبحثون عن علاج يداوون

به هذا الداء العُضال المتأصل في جسم الدولة إلى أن قُدِّر لعزت باشا أن يكون

الشفاء على يديه وقد وُفِّقَ لعقد الائتلاف مع الإمام يحيى الذي هو رئيس مليون

ونصف من الزيدية الذين لا يبالون بالحروب يأتمرون بأمره ويخضعون لإشارته

وللإمام ثروة عظيمة يبلغ ريعها 200000 ليرة سنويُا، وله نفوذ عظيم في اليمن.

يجدر بنا أن نعترف بأن سياسة القوة التي سارت عليها الدولة في اليمن لا

تفيد شيئًا وأنه لمن الظلم الفادح أن تغتصب أموال اليمانيين وتخرب ديارهم لا لذنب

جنوه بل لهوى في نفوس القواد الذين كانوا يؤمون البلاد اليمانية فيهلكون الحرث

والنسل.

أي صلاح أدخلناه في اليمن منذ استيلائنا عليها. وأي صلاحية تخولنا

الحاكمية عليها ما دامت الإدارة سيئة وأرباب الحل والعقد في الحكومة السالفة لا

يرقون لحال اليمانيين ولا يرحمون.

كانت إدارتنا لليمن حتى اليوم بالمدفع وتمنعنا -يا للأسف- عن تنفيذ خطة

الإصلاح التي وضعت له فنحن لا ننكر على الحكومة الحالية ما أجرته في المدة

الأخيرة؛ لأن الإصلاح لا يتأتى إلا بالقوة [13] .

على أن فرنسا لما دخلت الجزائر أدارت أمورها بستين ألف جندي لكنما نحن

العثمانيين لا يجمل بنا أن نفعل فعلها في اليمن من حيث الظلم بل من حيث

الإصلاح.

أخطأ الذين كانوا يقولون بوجوب الزحف على (شهارة) فماذا ينفعنا؟

فقد سبق لنا الدخول إلى (غفلة) غير أننا رجعنا بخُفَّيْ حُنين بعد أن أريقت

دماء كثيرة من الطائفتين الإسلاميتين. فليس الإصلاح في الاستيلاء على البلاد،

وإنما الإصلاح كل الإصلاح أن نجذب قلوب اليمانيين فيميلون بطبيعتهم إلى الدولة

ويعترفون بحاكميتها ويتفيئون ظلالها.

لو استعمل القواد السابقون ما استعمله عزت باشا من الحكمة والدراية لكانت

اليمن جنات تجري من تحتها الأنهار.

إن عزت لما أعلن أنه سيأمر بين الناس بالعدل ما كان من اليمانيين إلا أن

وفدوا عليه في صنعاء زرافات زرافات واثقين من كلامه، ثم كانوا لا يلبثون بعد

دخولهم ومحادثتهم له أن يخرجوا من عنده ملآنة أعينهم بالدموع؛ (لأنهم أيقنوا

إخلاصه في الخدمة) وحاملي الهدايا الثمينة، إلى أن حصل الاتفاق بينهم ورفع

الخلاف، وبدل اليمن ثوبه البالي بثوب جديد.

نعم إن هذا الاتفاق الذي حصل بين الزعيمين سيدر بالخير والبركة على

الأقطار اليمانية فتنجلي سماؤها التي كانت متلبدة بدخان البنادق والمدافع الكثيف

وتحرث أرضها ويشتغل فيها أهلها ويذوقون طعم الأمن والسكنية فيهدأ بالهم،

وتسعد حالهم، وستكون الحوادث الماضية درسًا لرجال الدولة فلا يضعون الشدة

حيث يجب أن يكون اللين اهـ ما نشر في الحقيقة بتصحيح قليل للعبارة.

***

حديث في صلح اليمن لضابط عثماني كبير

نشرت جريدة المفيد البيروتية حديثًا لأحد صاحبيها أو محرريها مع أميرالألاي

إحسان بك الذي كان رئيس أركان الحرب لفيلق اليمن عند إلمامه ببيروت عائدًا من

اليمن قال الكاتب:

ضمني وأميرالألاي إحسان بك مجلس، ولما علمت أن قدومه من اليمن وأنه

من كبار الضباط استطردته في الكلام إلى البحث في شئون الاتفاق مع الإمام. قلت:

وهل لإحسان بك معرفة بعزيز بك؟ قال: نعم هو من أعز أصدقائي وهو الرجل

الذي جمع إلى همة الشباب حكمة الشيوخ، قلت: وما عندك من نبإه؟ قال: إنه

بطل هذا الاتفاق.

(قلت) : وكيف كان ذلك؟ قال: (إن عزيز بك شاب غيور أنِف فخور

يعز عليه أن يستمر القتل بين الجنود العثمانية وبين عرب البادية (كذا) وقد أتى

هذا القطر والتحق بحملة اليمن وفي النية أن يوفق بين عزت باشا والإمام يحيى

حقنًا للدماء، وقد نجح مسعاه لدى قائد الحملة، فإن عزت باشا لم يكن ممن يحبون

سفك الدماء دون طائل ولا ممن يقودون الجيوش بقصد التخريب والتدمير.

هذه العاطفة التي وجدها عزيز بك في قلب عزت باشا سهلت عليه سبيل

الاتفاق مع الإمام.

قلت: إن عزيز بك هو بطل الاتفاق وأؤكد لكم أن هذا البطل هو من أصدق

الرجال الذين خدموا الدولة والأمة معًا، فإن خوفه على دولته من الانقراض

لاشتغالها عن الأمور الخارجية بتجريد الحملات على أبنائها، و (حبه) بقاء

العرب ذخرًا للدولة تستصرخهم عند الحاجة، حملاه على عقد الاتفاق، وقد تمكن

بطلاقة لسانه من إقناع الإمام بأن القتال إذا استمر بينه وبين الدولة فإن الأجانب

الذين يتربصون بنا الدوائر سوف يستولون على هذه البلاد.

على هذه الفكرة بني أساس الاتفاق بين عزت باشا والإمام يحيى ومن ذلك

يظهر لكم أن عزيز بك هو بطل هذا الاتفاق.

- ما وجه الخلاف الذي من أجله كانت تسفك دماء الأبرياء؟

إن الإمام منذ أعوام كثيرة يدعي الإمامة وإنكم إذا قرأتم نص ختمه تعلمون

وجه الخلاف وسبب خروجه على الدولة. كان للإمام قبل الاتفاق ختم كبير نقش

عليه: (نصره الله) ومن تحتها بصورة هلال (السيد يحيى بن محمد حميد الدين)

ويلي ذلك كلمة (أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين) هذا هو ختم الإمام

قبل الاتفاق. وأما بعده فأصبح كذلك (إمام الزيود السيد يحيى بن محمد حميد الدين)

ومن ذلك تعلمون بسبب الحروب اليمنية، فعزت باشا وعزيز بك لم يحقنا دماء

أبناء الأمة اليوم فقط بل إنهما حقنا دماء أبناء كثيرة لم يخلقوا بعد، والله يعلم كم

كانت هذه الحروب تستغرق من الأجيال لولا هذا الاتفاق.

كم يبلغ عدد الجند في اليمن اليوم وما هي خسارتهم في الحرب الأخيرة؟

(يناهزون ستين تابورًا وتقدر خسارتهم بستة آلاف ومعظمهم مات بسبب

الأمراض التي كثيرًا ما تنتشر بين الجنود لحرارة الإقليم) .

- هل يتقاضى الإمام راتبًا من الدولة؟

(نعم يتقاضى ألفًا ومائة ليرة عثمانية مشاهرة ولمشايخ العربان رواتب

مقننة أيضًا) .

- ماذا كانت فوائد الاتفاق بعد أن عقد؟

(وزع الإمام منشورًا على جميع القبائل الموالية له يحذرهم من الخروج

على الدولة والتعدي على الجنود النظامية والانصراف عن مناوئة الدولة إلى

الاهتمام بزراعة الأرض فكان من ذلك أن الجندي النظامي أصبح يروح ويغدو

بسلاحه الكامل في أنحاء اليمن دون أن يعارضه معارض) .

(أما الرسوم الأميرية فتجبى بواسطة رجال الإمام الذين يصحبون رجال

الجندرمة، ولم نسمع بعد عقد الاتفاق بشيء مما كان يقع بين الجباة وبين العربان

الأمر الذي كان يفضي إلى امتشاق الحسام وسفك الدماء بين الفريقين) .

(أكثر بلاد الدولة أمنًا اليوم هو القطر اليماني غير أن اليمن هي اليوم في

حالة البداوة، وإن في خصب أرضها وطيب تربتها ما يساعد الدولة على نقلها من

حال إلى حال) .

(تمد الدولة اليوم خطًّا حديديًّا من الحديدة إلى جميلة وما مدته إلى الآن يقدر

بثلاثة كيلو مترات، إلا أنها ساعية بتسوية الأرض وبسط الطريق لكن مد السكة

الحديدية لا يجدي الأهالي نفعًا؛ إذا لم تكن البلاد غنية، وإذا أتيح لهذه البلاد أن

تغنى فأرضها ستكون كنز هذه الثروة) .

(إن الخط الحديدي يسهل نقل الجنود إلا أن الدولة إذا جرت على سياسة

عزت باشا عقدت مع مشايخ القبائل عقود الاتفاق في بطن الجزيرة وساعدت على

زراعة الأرض أصبح هذا الخط اقتصاديًّا أكثر منه عسكريًّا، فإن اليمانيين متى

قعدوا عن قتال الدولة وتعهدوا معها انصرفوا إلى الزراعة والصناعة، وإن ذكاء

هؤلاء القوم يساعد كثيرًا على انتشار المدنية في تلك الربوع، وإن من مصلحة

الدولة أن يساس هؤلاء سياسة الحلم لا سياسة العنف والشدة.

(فى بعض الأنحاء من اليمن تنبت الأرض أربع مرات في السنة وبعضها

تنبت مرتين فإذا عنيت الدولة بزراعة البلاد اليمنية كان لها مورد جديد يزيد في

ماليتها، وإنه ليؤسفني أن أصرح لكم بأن الحكومة أرسلت كثيرًا من الأدوات

الزراعية ولكنها لم ترسل معلمين زراعيين حتى الآن وهذا الإهمال كان السبب في

تعطيل هذه الأدوات.

(إن حكومة الآستانة لم تغفل هذا الأمر فقط بل إنه مضى على عقد الاتفاق

شهور ولم يصادق عليه إلا أول من أمس، وكثيرًا ما كان عدم وفائنا سببًا في

خروج مشايخ اليمن علينا فإن الوفاء بالعهد عند العرب من الأمور التي يتوقف

عليها بقاء ثقة المحكوم بحاكمه) .

هل تعهد الإمام لقاء الامتيازات التي منحته إياها الدولة بالمساعدة عند الحاجة؟

(نعم وعد بتقديم مائة ألف مقاتل بالعدة الكاملة، وهذه قوة لا يستهان بها.

- ما هي سياسة عزت باشا مع الإدريسي وهل يمكن عقد اتفاق معه؟

(من رأيي أن تعقد الدولة اتفاقًا مع الإدريسي ولكن الامتيازات التي تكون

للإدريسي هي لا شك غير امتيازات الإمام، فإن الإدريسي حديث في المهدوية غير

أن في عزم عزت باشا أن يجرد عليه قوة من الجيش اليمني وستبدأ عما قريب

الحركات العسكرية في عسير، ومن رأي عزت باشا أن الإدريسي قد ادعى

المهدوية حديثًا، وأما الإمام يحيى فنسبه ثابت والإمامة وراثية في عائلته، فإذا عقد

القائد معه اتفاقًا يخشى من ظهور مئات أمثال الإدريسي، فقضاء على كل دعوى

من هذا القبيل يرى القائد من الضرورة خضد شوكة الإدريسي، ولكن رأيي الخاص

هو أن عزت باشا إذا جرد على الإدريسي عسكرًا لا بد وأن يرجع إلى فكرة الاتفاق،

فإذا كان لعقد الاتفاق سبيل فمن واجب الحكومة أن لا تدع هذا السبيل) .

- وهل في تلك الأنحاء غير الإمام يحيى والإدريسي من مشايخ العرب يعتد

بهم؟

(يوجد شرقي اليمن بعض السلاطين وسياسة عزت باشا اليوم استمالة هؤلاء

السلاطين دفعًا لما يتهدد البلاد من الأخطار، فإذا تغاضت الحكومة عن إرضاء

هؤلاء فإن دولة أجنبية تستميل إليها هؤلاء خفية بما تمنحهم إياه من الأموال وما

تقدمه لهم من الأسلحة. وأذكر لكم من هذا القبيل أن سلطانين من سلاطين شرقي

اليمن لما سمعا باتفاق عزت باشا مع الإمام وعلما باستقامة هذا القائد ورويته قدما

إليه وعرضا عليه الإطاعة للدولة، وقد اعترفا لعزت باشا بدسائس بعض الدول

وأطلعاه على رسائل سرية كان عمال تلك الدولة يبعثون بها إليهما.

(إن عزت باشا يتبع الآن سياسة حسناء وقد أحسن وِفادة هذين السلطانين

واعترف بسلطتهما شرقي اليمن وأعطى كلاً منهما علمًا عثمانيًّا وأنعم عليهما بالخلع

ومنحهما الأموال، وعندي أن من الواجب على الحكومة أن تسير على هذه السياسة

مع العرب ومع بقية العناصر العثمانية.

(وقد ينبغي للحكومة حفظًا لهذا الملك من الانقراض أن تسير في الداخلية

على سياسة الحلم واللين وأن تدَّخر هذه القوات للعدو الخارجي الذي يتهدد

البلاد اهـ.

(المنار)

إن ما رآه هذا الضابط العاقل من وجوب اتفاق الدولة مع الإدريسي هو

الصواب المحتم، وإن قتاله خطأ أو خطر، وإنه هو يتمنى الاتفاق والخضوع

للدولة كما نعتقد، وهنا قبل أن تقاتله الدولة وتقاتل الإمام اقترحنا عليها الاتفاق

معهما كليهما، وكلمنا رءوف باشا في ذلك وجزمنا له بأن الإمام والإدريسي يرغبان

فيه ويخلصان للدولة ما وفت بعهودهما، كما بينا ذلك في المنار. وقد تبين صدق

رأينا في الاتفاق مع الأول وسيتبين في الثاني. ثم يتبين صدق رأينا في الاتفاق مع

سائر أمراء جزيرة العرب وزعمائها أيضًا. وكان بعض الزعماء في حضرموت

وغيرها كتبوا إلينا من بضع سنين يخبروننا بدبيب الدسائس الأجنبية في بلادهم،

ورغبتهم في أن ترسل الدولة إليهم أعلامها وعمالها ليديروا أمرهم، فعرضنا ذلك

على أحمد مختار باشا الغازي فقال: إنه الآن غير ممكن لوعورة الطرق وقلة، أو

فقد الرجال الأكفاء الذين يرضون أن يقيموا في تلك البلاد، وتعذر إقناع السلطان

بذلك. والآن قد سنحت الفرصة فعلى الدولة أن تغتنمها، وتجعل جزيرة العرب هي

الركن الأقوى لمظاهرتها وتأييدها، على نحو ما أشرنا إليه في الجزء الأخير من

السنة الماضية.

كان ساسة الدولة يظنون أن إصلاح جزيرة العرب وتقويتها خطر على سلطة

الترك يخشى أن يفضي إلى إيجاد دولة عربية مستقلة يدعي حاكمها الخلافة، وهذا

هو السبب لجعلهم بلاد الحجاز خرابًا، ومتابعة الحرب في اليمن وغيرها كما أشار

إلى ذلك إحسان بك، ولكنه لا يرجى منه أن يذكره بغير الصيغة التي ذكره بها.

ولم يوجد في الدولة رجل أمكنه أن يجعل الجزيرة ولايات تركية أو عثمانية، ولا

أن يجعلها ولايات ممتازة مرتبطة بالدولة بعسكريتها وخارجيتها، مع بقائها مستقلة

في إدارتها.

أما الآن وقد ظهر للعيان أن العرب أشد العناصر العثمانية حرصًا على

الارتباط بالدولة والإخلاص لها، باستقتالهم في حرب إيطاليا بطرابلس الغرب،

وشرائهم بقاء التبعية العثمانية بكل ما يملكون من مال ودم - وظهر أيضًا أن الدولة

تعجز عن حفظ جزيرة العرب - وهي مهد الإسلام - من تعدي الدول البحرية كما

عجزت عن الدفاع عن طرابلس الغرب ونيط الدفاع عنها بأهلها - وظهر أيضًا أن

الدولة العلية نفسها على خطر، بعد ما أجمعت أوروبا على عدم التزام معاملتها

بقوانين حقوق الدول، - أما وقد ظهر كل هذا فقد صار من الواجب المحتم على

الدولة أن تعقد الاتفاق مع جميع أمراء الجزيرة فتقر كل أمير منهم على ما هو عليه،

وتساعده على التعليم والتمرين العسكري وسائر ضروب الإصلاح، ويكون أهم

أصول الاتفاق بينها وبينهم هو الاتحاد العام في الجيش عند الحاجة وكيفية الإنجاد

والدفاع عن المملكة.

***

حال اليمن على عهد السلطان

محمود الثاني

كان ابتداء تحرش الدولة العثمانية باليمن في سنة 934 في عهد السلطان

سليمان القانوني أي زهاء أربع مئة سنة، وقد بينا ذلك في المجلد الثالث عشر نقلاً

عن كتاب (البرق اليماني في الفتح العثماني) ومن ذلك أن الحرب كانت سجالاً

بين الدولة واليمانيين، وبقيت كذلك إلى الآن.

ولما ولي السلطان محمود الثاني كانت الدولة محفوفة بالنوائب والأحداث،

ففي زمنه كانت فتنة الإنكشارية، والحرب الروسية، وعصيان والي يانية ووالي

بغداد، وثورة اليونان، وحرب إيران، وحرب محمد علي باشا ودخوله الشام، ثم

حرب الوهابية في نجد والحجاز، ولكن اليمن كانت راضية في ذلك العهد بالصلح

بينها وبين الدولة العلية على مال تؤديه. وقد وقف بعض أصدقائنا في بعض دور

الكتب في الآستانة على صورة بعض المكتوبات الرسمية في ذلك وهذا نصها:

(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

من خليل باشا إلى الجناب العالي الفاضل الأديب والكامل الأريب العالم

العلامة والمنصح الفهامة حضرة أخينا الشيخ محمد بن أحمد الحرازي سلمه الله

تعالى آمين. وبعد السلام على الدوام وصلت كتاب حضرة أخينا الإمام حفظه الله

تعالى وذكر قدومكم إلى بندر الحديدة وصحبتكم المبلغ المائة الألف الريال الفرنسية

المعجلة فصادر إلى طرفكم معتمدنا الحاج يوسف أغا لقبض المبلغ المذكور وتسليم

البنادر إلى طرفكم ويقيم عندكم لقبض المائة الألف الريال الفرنسية المؤجلة كل شهر

خمسة وعشرين ألف ريال فرنسيًا من أول شهر شوال عام 1234 وآخرها شهر

محرم الحرام عام سنة 1235 فليعلم ذلك.

حرر في شهر رمضان عام ألف ومائتين وأربعة وثلاثين سنة 1234

...

...

...

...

... صورة الختم

...

...

...

...

... رب سهل

...

...

...

...

... أمور خليل

(2)

الحمد لله تعالى

بلغني من يد القاضي محمد الحرازي وسيد الفيروز وأمير اللحية فتح الله

موكلين من طرف الإمام المهدي مائة ألف ريال معجلة التي يوكلني بقبضها أفندينا

خليل باشا حفظه الله تعالى بتاريخ شهر شوال سنة 1234 وقبضتها بالتمام والكمال

من المذكورين الموكلين والسلام ختام.

...

...

...

...

... صورة الختم

...

...

...

...

... يوسف عبده

...

...

...

...

...

1328

_________

(1)

البعد بين الائتلافيين أن الأول كان غير مبني على الإخلاص من مندوب الدولة فيه وهي التي لا ترضى إلى الآن بالصلح مع الإدريسي بل ترى سحقه كما سيأتي بيانه عن ضابط عثماني آخر.

(2)

المنار: هكذا أوردها، وقد خلط فيها بين الكسبي وغيره.

(*) نشرت طنين هذا الاتفاق بالتركية وترجمه مندوب المقطم فرأينا أن نشير إلى الفروق القليلة بين النسختين ونشير إلى المواد بأعدادها في الهامش دون الأصل.

(3)

في المادة الأولى عند ذكر بريم كلمة (ميوم) بين قوسين كما رأيت. وفيها زيادة (وما حولها) بعد سرد أسماء البلاد وآخرها في الذكر تعز ورداع.

(4)

في نسخة طنين أن الفريقين يسعيان في الصلح والتراضي.

(5)

في نسخة طنين (الحكومة تعين الحكام للشافعية والحنفية فيما عدا الجبال) .

(6)

(لا تكلف الحكومة أهل اليمن غير التكاليف الشرعية) .

(7)

للزيدية أن يقدموا الهدايا للإمام إما توًّا وإما بواسطة مشايخ الدولة أو الحكام، ففيها زيادة جواز تقديمها بغير واسطة.

(8)

(يؤدي الإمام عشر أراضيه) وليس فيها ذكر الحكومة.

(9)

في نسخة طنين أن جبل شيرق حوالي آنس وأن أهله في غاية الفقر.

(10)

(بعد التصديق على هذه الوثيقة الائتلافية) ائتلافنامه (بالفرمان السلطاني لا يتعدى أحد الفريقين على البلاد التي هي تحت إدارة الفريق الآخر.

(11)

المنار: نقل الكاتب ما عدا الآية الأولى من الآيات (وكذا سائر الخطبة) بالمعنى؛ لأنه لم يكن يحفظها فزاد ونقص وقدم وأخر فنقلناها كما هي لأنه الواجب.

(12)

يريد الكاتب قتلى الحروب الأخيرة من عهد حملة أحمد مختار باشا إلى حملة عزت باشا، وإلا فالقتلى هنالك يعدون بالملايين إذا ارتقينا في عدهم إلى أول تصدي الدولة لليمن في زمن السلطان سليمان وكان أكثر الجيش الذي يرسل إلى هنالك من العرب المصريين وغيرهم (راجع ص 225 من المجلد الثالث عشر) .

(13)

إن الكاتب على إنصافه لم ير بدًّا من عذر الحكومة الحاضرة على سوقها الحملة التي هو أحد رجالها لحرب اليمن ليبرئ نفسه بتبرئتها والحق أن إثمها كإثم من سبقها أو أكبر، وقد أخطأ في تقليده بعض ساسة الدولة بجعل الترك من العرب كالفرنسيس من أهل الجزائر، وأخطأ أيضًا في جعله هذا الصلح أثر قوة الحملة وهي لم يتم لها الظفر، وكان الإمام قد رغب في الصلح قبلها وكاد ثم في وزارة حلمي باشا لولا أن أوقفه الاتحاديون لتنفيذ سياسة المدفع السابقة.

ص: 138

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات

(هداية الباري، إلى ترتيب أحاديث البخاري)

رتب السيد عبد الرحيم عنبر الطهطاوي أحاديث (التجريد الصحيح لأحاديث

الجامع الصحيح) المعروف بمختصر الزبيدي لصحيح البخاري على حروف

المعجم وسماه بالاسم الذي تراه في العنوان وطبعه مشكولاً بالشكل الكامل، وجعل

في جانب كل صفحة جدولين يذكر في أحدهما اسم الراوي من الصحابة وفي الثاني

اسم الكتاب، وفي الهامش الباب الذي ورد فيه الحديث من كتب صحيح البخاري.

ووضع في هامشه شرحًا وجيزًا للأحاديث مفصولاً بينه وبين المتن بخط عرضي

دالاًّ عليه بالأرقام. فكان مؤلفًا من جزئين صفحاتهما 528 - فهذه النسخة أمثل نسخ

هذا الكتاب للمراجعة والمطالعة فنثني على همة السيد عبد الرحيم عنبر ونشكر له

عمله هذا ونحث القراء على الإقبال عليه.

(توجيه النظر إلى أصول الأثر)

سِفر كبير ألفه الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي نزيل مصر، وطبع على نفقة

الجمالي والخانجي الشهيرين. وظاهر التسمية أن الكتاب في علم أصول الحديث

ومصطلحه، وقد قال المصنف في التعريف به: إنه فصول (ينتفع بها المطالع في

كتب الحديث وكتب السير والأخبار، وأكثرها منقول من كتب أصول الفقه وأصول

الحديث) وكتب على طرة الكتاب: إن الداعي إلى تأليفه ما وقع عليه العزم من

تحرير الكلام في السيرة النبوية المنتقاة مما كتبه ابن هشام.

مهما قال المؤلف في تعريفه، وسبب تأليفه، فلا يخرج عما سبق إلى الذهن

من قراءة اسمه، فهو في علم الحديث. ولكن فيه استطرادات نافعة، ومسائل

محررة، وأوابد مقيدة، لا تكاد توجد مجموعة مع ما يناسبها في كتاب. وناهيك

بسعة اطلاع الشيخ طاهر وحُسن استحضاره واختياره. فمن ذلك الكلام في جمع

القرآن وتدوين الحديث، وابتداء التأليف، وبحث التواتر، والحديث المتواتر، وقد

أطال فيه كما أطال في بحث الحديث الصحيح، وكتابي الصحيحين، وبحث الجرح

والتعديل وعلل الحديث. ومن الاستطرادات المفيدة الاستطراد في كتابة الحديث

وضبطه والتصحيف فيه إلى الكلام في الخط العربي وتدرجه في الترقي وعلائم

الفصل فيه والحركات العربية والوقف وما ينبغي من وضع العلامات له وللإمالة

والإشمام وغيرهما من كيفيات الأداء. وقد أطال في ذلك للحاجة إليه والبحث عنه

في هذا العصر.

وجملة القول أن هذا الكتاب لا يُستغنى عنه بغيره وهو من الكتب الشرعية

النافعة. ويطلب من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز وثمن النسخة منه 15 قرشًا.

_________

ص: 159