المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نظرة في الجزء الثاني من كتابتاريخ آداب اللغة العربية [*](2) - مجلة المنار - جـ ١٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (15)

- ‌المحرم - 1330ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس عشر

- ‌ذكرى الهجرة النبوية الشريفةوجعلها تاريخًا عامًّا للبشر

- ‌علاوة للمقالة

- ‌نقل كلام المخالفين أو المبطلين

- ‌أسئلة من الهند

- ‌أموال الشركات الأجنبية في بلادناوحقوق المعاهدين

- ‌الدخول في الماسونية

- ‌المسألة الشرقية

- ‌ المسألة الشرقية

- ‌خاتمة المقالات.. شجون ومحاورات

- ‌القرابين والضحايا في الأديان

- ‌إنا لله وإنا إليه راجعون [

- ‌صفر - 1330ه

- ‌السيد حسين رضا(1)

- ‌الدولة العلية واليمن

- ‌دعوة سيدي أحمد الشريف السنوسيإلى جهاد الإيطاليين في طرابلس الغرب وبرقة

- ‌اللغة العربية

- ‌الجامعة الإسلامية [*]

- ‌الصلح بين الدولة والإمام

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌ربيع الأول - 1330ه

- ‌الوفاق بين الإسلام والنصرانية

- ‌الاجتهاد والتقليد

- ‌اللغة العربية [*]

- ‌العالم الإسلامي [

- ‌أخبار العالم الإسلامي

- ‌الدين كله من القرآن [*]

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع الآخر - 1330ه

- ‌المقالة الثانيةمن المقالات الروسية عن تركستان

- ‌عراف

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](1)

- ‌التقريظ والانتقاد [*]

- ‌جمادى الأولى - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](2)

- ‌أخبار العالم الإسلامي

- ‌المطبوعات الجديدة [*]

- ‌جمادى الآخرة - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](3)

- ‌رجب - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](4)

- ‌فرنسة في تونس وإنكلترة في مصر

- ‌السكة الحديدية في الحجاز [*]

- ‌طريقة السنوسيةوزواياها بين الإسكندرية ودرنة [*]

- ‌أهمية الإسلام

- ‌ ابن تيمية ولوتر

- ‌فوائد صحيةغذاؤنا في الصيف [*]

- ‌أسرار الثورةأوخواطر ساعة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌التقاريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1330ه

- ‌التربيةووجه الحاجة إليها وتقاسيمها

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](5)

- ‌نهضة آسيوية

- ‌الشعر العصري

- ‌رمضان - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](6)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌مجلة العالم الإسلامي الفرنسية

- ‌التقاريظ

- ‌كامل باشاآراؤه السياسية منذ 24 عامًا

- ‌شوال - 1330ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الجامعتان الإسلامية والعثمانية [*](1)

- ‌بشائر عيسى ومحمد [*]في العهدين العتيق والجديد(7)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ذو القعدة - 1330ه

- ‌الحرب الصليبية في البلقان

- ‌السبحةتاريخها والتسبيح والذكر بها

- ‌حديث في استلزام المغفرة للذنوب

- ‌أسئلة من القوقاس

- ‌الجامعتان الإسلامية والعثمانية(2)

- ‌نظرة في الجزء الثاني من كتابتاريخ آداب اللغة العربية [*](2)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌ذو الحجة - 1330ه

- ‌اتخاذ الصور والتصوير الشمسي

- ‌فتاوى المنار

- ‌ميزان الجرح والتعديل [*](2)

- ‌خطبةافتتاح الاجتماع السنوي العام لجماعة الدعوة والإرشاد

- ‌حقيقة أحوال مسلمي جاوه

- ‌بعد تسعة قرون [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌خاتمة السنة الخامسة عشرة

الفصل: ‌نظرة في الجزء الثاني من كتابتاريخ آداب اللغة العربية [*](2)

الكاتب: أحمد عمر الإسكندري

‌نظرة في الجزء الثاني من كتاب

تاريخ آداب اللغة العربية [*]

(2)

(أمثلة لكل نوع من الخطأ)

أقتصر في هذه العجالة على بعض نماذج من أنواع الخطأ في الأمور الآنفة

ليكون القارئ على بصيرة من أمثالها فمن أمثلة الأمر الأول (وهو الخطأ في الحكم

الفني)

(1)

قول المؤلف في صفحة 137: (وكان أبو حنيفة لا يحب العرب ولا

العربية حتى إنه لم يكن يُحسن الإعراب ولا يبالي به) [1] وعزا في الذيل هذه

العبارة إلى صفحة 165 جزء ثان ابن خِلِّكان.

فالذي يثق بالمؤلف يصدق عبارته هذه بعد أن تبرأ من تبعتها ونسبها إلى

مؤرخ عظيم، ولكنه إذا راجع ابن خلكان في هذه الصفحة بل إذا قرأ ترجمة أبي

حنيفة من أولها إلى آخرها لم يكد يشم منها رائحة هذه الألفاظ بله المعاني. وكل ما

ذكره هو العبارة الآتية:

(ولم يكن يُعاب بشيء سوى قلة العربية، فمن ذلك ما روي أن أبا عمرو بن

العلاء المقرئ النحوي المقدَّم ذِكْره سأله عن القتل بالمثقل هل يوجب القود أم لا؟

فقال: لا، كما هو قاعدة مذهبه خلافًا للإمام الشافعي رضي الله عنه، فقال له

أبوعمرو: ولو قتله بحجر المنجنيق؟ فقال: ولو قتله بأبا قبيس. يعني الجبل المُطلّ

على مكة -حرسها الله-. وقد اعتذروا عن أبي حنيفة بأنه قال ذلك على لغة من

يقول: إن الكلمات الست المعرَبة بالحروف وهي أبوه وأخوه وحموه وهنوه وفوه وذو

مال إعرابها يكون في الأحوال الثلاث بالألف وأنشدوا في ذلك:

إن أباها وأبا أباها

قد بلغا في المجد غايتاها

وهي لغة الكوفيين وأبو حنيفة من أهل الكوفة فهي لغته والله أعلم.

هذه هي عبارة ابن خلكان بنصها فليقابلها القارئ بعبارة مؤلفنا وأترك الحكم له

بلا تشنيع ولا تبشيع فهي وحدها كفيلة بكل ذلك.

على أن بعضهم قد أخذ على مالك ما أخذه خصوم أبي حنيفة عليه إذ قال في

الموطأ (عليه هدي بدنة أو بقرة أو شاة إن لم يجد إلا هي) بوضعه ضمير الرفع

موضع ضمير النصب. ولو اطلع المؤلف على هذا الموضع لقال في مالك ما قال

هو في الخمر.

(2)

قول المؤلف في الصفحة المذكورة (وكان أئمة الفقه في المدينة فأراد

المنصور تصغير أمر العرب وإعظام أمر الفرس؛ لأنهم أنصارهم وأهل دولتهم

فكان من جملة مساعيه في ذلك تحويل أنظار المسلمين عن الحرمين فبنى بناءً سماه

القبة الخضراء حجًّا للناس (كذا) وقطع المِيرة عن المدينة وفقيه المدينة يومئذ

الإمام مالك الشهير فاستفتاه أهلها في أمر المنصور فأفتى بخلع بيعته فخلعوها

وبايعوا محمد بن عبد الله من آل علي، وعظم أمر محمد هذا وحاربه المنصور،

ولم يتغلب عليه إلا بعد العناء الشديد فرجع أهل المدينة إلى بيعة المنصور قهرًا،

وظل مالك مع ذلك ينكر حق البيعة لبني العباس فعلم أمير المدينة يومئذ وهو

جعفر بن سليمان عم المنصور بذلك فغضب ودعا بمالك وجرده من ثيابه وضربه

بالسياط وخلع كتفه) فيفهم من هذه العبارة:

أولاً: أن جمهرة أئمة الفقه كانت بالمدينة فقط.

ثانيًا: المنصور كان يكره العرب كراهة حملته -وهو خليفة المسلمين وأفقه

أهل زمانه- على أنه يرتد عن الإسلام ويحاول صرف المسلمين عن تولية وجوههم

شَطر قبلتهم، وعن أداء فريضة هي أحد أركان الإسلام الخمسة إلى قبته الخضراء

التي بناها فوق قصره ببغداد.

ثالثًا: أنه قطع المِيرة عن المدينة لمجرد بغض الحرمين ولوجود أكثر أئمة

الفقه في المدينة وهي فضلى المدائن العربية، ويستتبع ذلك أن يكون بغضه لمالك

أشد منه لكل فقيه فيها؛ لأنه شيخهم العربي.

رابعًا: أن أهل المدينة استفتوا مالكًا في خلع المنصور وببيعة محمد بعد قطع

الميرة عنهم.

خامسًا: أن مالكًا أفتاهم فِعلاً بذلك.

سادسًا: أن المنصور لم يتغلب على محمد بن عبد الله إلا بعد العناء الشديد

أي بعد وقائع كثيرة وأزمنة طويلة.

سابعًا: أن مالكًا استمر على عناده حتى فعل به جعفر بن سليمان ما فعل.

ثامنًا: أن وقوف المؤلف في العبارة عند هذا الحد يقتضي أن ذلك كان

برضى من المنصور.

وأقول: إن كل هذه اللوازم باطلة، أما عن الأول فلم تكن جمهرة الفقه خاصة

بالمدينة بل كانت ضاربة بجرانها في مصري الإسلام - الكوفة والبصرة - كما

كانت في الشام ومصر على كثب من ذلك، وإنما كان العلم بالحديث يغلب على

فقهاء الحجاز والعلم بالقياس والرأي يغلب على أهل العراق وربما طرأت هذه

الشبهة على المؤلف من قول مالك نفسه في حديث له مع المنصور (وإنما الفقه فقه

أهل المدينة) يرجح مذهبه وأخذه بالحديث ويضعف مذهب أهل العراق في أخذهم

بالرأي، وهذا أقل ما يقول صاحب مذهب في ترجيحه، والمعلوم أن أبا حنيفة

وأصحابه بالعراق أسبق من مالك وأصحابه بالمدينة اشتغالاً بالفقه وتدوينًا له.

وأما عن الثاني: فكيف يكره المنصور العرب هذه الكراهة وهو عربي وابن

عم النبي العربي وخليفته في أمته وشريعته؟ وكيف يحاول تحويل المسلمين عن

قبلتهم وشعائر حجهم إلى قبته الخضراء على غضاضة الإسلام وقرب عهد الناس

بنبيهم مع أن دعوة العباسيين لم تقم إلا بإظهار الدفاع عن حوزة الإسلام وتجديد

شريعته وشعائره؟ وكيف يقع ذلك من المنصور وهو الذي حمل علماء المسلمين في

جميع بقاع الأرض على تدوين علوم الكتاب والسنة فكان عهده مبدأ لتدوينها بإجماع

المؤرخين ومنهم المؤلف.

وبعد فلو كان كل ذلك قد كان فما الذي حمل المنصور على الحج إلى بيت

غير قبته حتى توفي في طريق مكة على أميال منها محرِمًا ناسكًا وكُفِّن ودفن

كذلك.

هذا إلى ما اشتهر عن المنصور من الزهد وتشدده في أمر الدين فلم يُسمع في

داره لهو قط. والتواريخ مفعَمة بمناقبه وإنما كان الرجل ملكًا ومؤسس ملك فاشتدت

وطأته على أعدائه ومزاحميه من بني علي فأذاعوا عليه هذه الشنعة ليصرفوا الناس

عنه كما صرفوا عن بني أمية بمثل ذلك، وأنهم هدموا الكعبة فأخذ المؤلف هذه

العبارة من بعض الكتب التي روت حديث الخصوم من غير تمحيص وتحقيق.

وكيف يبلغ كراهة العباسيين للعرب هذا الحد وهم إنما ولوا السفاح قبل

المنصور؛ لأن أمه عربية، وولوا الأمين قبل المأمون لأن أمه هاشمية، وكل من

المنصور والمأمون أكبر من أخيه. وكانت ثقتهم بالفرس في ضبط الملك ترجح عن

ثقتهم بالعرب؛ لأن أنصار بني أمية من العرب كانوا في مبدأ الدولة أقوياء الشوكة

على أن هذا لم يدم أكثر من قرن ثم تحول إلى الترك وغيرهم.

وأما عن الثالث: فبينا فيه ما تقدم واعتذار المنصور بعد لمالك عما وقع

من جعفر وسؤاله الصفح عنه بعد أن عزله عن ولاية المدينة وأقدمه إلى العراق

على قتب، ودعوة مالك إلى تأليف الموطأ وقوله له: إنه لم يبق على وجه الأرض

أعلم مني ومنك (أي بعلوم الفقه والدين طبعًا) ودعوته له أن يَقْدَم معه إلى العراق

وينشر علمه بها فأبى مالك واختار جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما عن الرابع: فإن المنصور لم يقطع الميرة عن أهل المدينة إلا بعد

مبايعتهم محمدًا، وأن مالكًا إنما أثر عنه ذلك بعد قتل محمد وقدوم جعفر بن سليمان

مجددًا لبيعة المنصور.

وأما عن الخامس: فغاية ما روي أن مالكًا سئل في يمين المكره: هل تقع؟

فقال: لا، وكان جعفر أيام ذلك يأخذ الناس بأيمان البيعة للمنصور طوعًا وكرهًا

فوشى بعض الناس إلى جعفر بأن مالكًا لا يجيز أيمان بيعتكم ففعل ما فعل.

وأما عن السادس: فلم يدم أمر محمد منذ ظهر بالدعوة إلى يوم قتل أكثر من

شهرين وسبعة عشر يومًا ولم يزد الجيش الذي حاربه على خمسة آلاف رجل ولم

يزد أصحاب محمد على نيف وثلثمائة رجل.

وأما عن السادس والسابع: فمفهوم مما تقدم.

(3)

ومن الخطأ في الحكم دعوى المؤلف في صفحة 83 أنه لم يبق من

نظم إبان لكتاب كليلة ودمنة إلا بيتان هما:

هذا كتاب أدب ومحنة

وهو الذي يدعى كليله ودمنه

فيه احتيالات وفيه رشد

وهو كتاب دفعته الهند

...

...

...

...

...

(كذا)

فالمؤلف لم يجد إلا هذين البيتين في الأغاني فنقلهما محرَّفين وادعى أنه لم يبق

غيرهما مع أن كتاب الأوراق للصولي بدار الكتب الخديوية، أي بعدة أبواب من

الكتاب منظومة في أخبار أبان، ومن العجيب أن المؤلف اطلع على هذا

الكتاب ووصفه بما قدر عليه في صفحة 175 من كتابه هذا.

ومن أبيات إبان غير هذين البيتين قوله:

وقيل أيضًا: إنه قد ينبغي

للرجل الفاضل فيما يبتغي

ألا يرى إلا مع الأملاك

أو يعبد الله مع النساك

كالفيل لا يصلح إلا مركبا

لملك أو راعيًا مسيبًا

(4)

ومن الخطأ في الحكم زعم المؤلف أن كتاب الأدب الصغير والكبير

والدرة منقولة عن الفارسية أي أنها مترجمة عنها.

أما الأدب الكبير المطبوع في مصر وسورية باسم الدرة خطأ فقد صرح ابن

المقفع أنه من بنات أفكاره (فليراجع) .

وأما الأدب الصغير فشيء من عند ابن المقفع وشيء نقله عن غيره كما يُعلم

ذلك مما كتبه العلامة البحاثة أحمد زكي باشا في المقدمة التي دبجتها براعته لطبعة

جمعية العروة الوثقى.

وأما الدرة اليتيمة فلم يعثر عليها أحد إلى الآن وليست هي الأدب الكبير كما

زعم المؤلف في هذا الكتاب بقوله: (كتاب الدرة اليتيمة ويسمى أيضًا كتاب الأدب

الكبير) فقد نقلت كتب الأدب منها قطعًا لا توجد في الأدب الكبير المطبوع باسم

اليتيمة خطأ. ووصف المؤلفين لليتيمة لا ينطبق على الأدب الكبير.

هذا ولم يقل أحد أن اليتيمة مترجمة عن أصل فارسي إلا المؤلف. وإنما فيها

بعض نقول عن قدماء الفرس كما يقع في أكثر كتبه.

(5)

ومن الخطأ في الحكم عدّه طاهر بن الحسين فاتح بغداد وقاتل الأمين

في عداد المنشئين كتاب الرسائل مع أن هذا الاسم لا ينطبق عند علماء الأدب إلا

على الكاتب في ديوان الرسائل الذي سمي فيما بعد ديوان الإنشاء، ولم يخدم طاهر

بن الحسين الدولة منشئًا قط كما لم يعرف له كتب ذات بالٍ غير وصية كتبها لابنه

عبد الله عند توليه ديار مصر، ولم يكن طاهر إلا قائدًا عظيمًا وأميرًا داهيًا. ولئن

ساغ لنا أن نعد كل من خلف وصية مطولة بليغة في طبقات الكتَّاب، لقد كان من

الواجب أن نعد الإمام عليًّا والمنصور العباسي والرشيد والمأمون من كتَّاب

الرسائل مع أن لهم مجموعات من الرسائل، وبينما نجد المؤلف لم يتكلم في العصر

الأول العباسي إلا على طاهر بن الحسين وعمرو بن مسعدة من كتاب الرسائل إذ

نراه أهمل ذكر جميع كتاب الرسائل المشهورين كعمارة بن حمزة وأبي عبيد الله

وزير المهدي والقاسم بن صبح ويوسف بن القاسم وأحمد بن يوسف ويحيى بن

برمك وجعفر بن يحيى وإسماعيل بن صالح وابن الزيات وغيرهم وهم

فحول البلاغة وفرسان الكتابة والكتابة صناعتهم وصناعة آبائهم ولا يزال كثير

من رسائلهم وكتبهم محفوظة في بطون الكتب والتواريخ لمن يريد البحث

والفحص.

ويشبه هذا عد المؤلف أبا العباس المبرد وأبا علي القالي من علماء متن اللغة؛

لأن الأول ألف كتاب الكامل وفيه قصائد ومقطعات شرح بعض ألفاظها من اللغة

وعده القالي كذلك؛ لأنه أملى أماليه شارحًا بعض غريبها مع أن هذين الكتابين

باعتراف المؤلف ركنان من أركان كتب الأدب الأربعة مما كان أولى أن يعدهما في

طبقات مؤلفي الأدب.

وعده السكري من المؤلفين في الأدب مع الجاحظ وابن قتيبة مع أن السكري

لم يكن إلا راويًا للشعر جمع أشعار كل قبيلة أو شاعر في ديوان، وليس له فيها

غير الجمع ناقلاً عن أئمة الرواة أو عن الأعراب، وفي الكتاب من أشباه هذا

كثير.

(6)

ومن الخطأ في الحكم زعم المؤلف في صحيفة 207 أن علم الكلام

ومذهب الاعتزال نشآ في العصر الثاني من حكم بني العباس أي بعد 132 هجرية

مع أن المشهور في التاريخ أنه لما كثر المتزندقة والملاحدة في زمن المهدي أوعز

إلى العلماء أن يحاجوهم بالأدلة العقلية ويدونوا في ذلك الكتب ففعلوا وسُموا

المتلكمين لأن علمهم من كلامهم لا من الكتاب ولا من السنة ونشأ من هؤلاء طبقة

في زمن الرشيد ثم أعقبتها طبقة في زمن المأمون كان هو من كبارها ومنهم

ثمامة بن أسرس وأبو الهند بن العلاف وإبراهيم النظَّام وأحمد بن أبي دؤاد

وغيرهم على أن المعتزلة من المتكلمين يبتدئ عصرهم من حياة واصل بن عطاء

بل من قبله أيضًا.

ومن العجيب أن المؤلف حينما أراد أن يترجم علماء الكلام ذكر واصل بن

عطاء وهو من أهل العصر الأول بل هو ممن أدرك كثيرًا من عصر بني أمية.

(7)

ومن الخطأ في الحكم جعله أبا منصور عبد الملك الثعالبي صاحب

يتيمة الدهر هو صاحب التفسير الكبير المعروف بتفسير الثعلبي، والثعلبي هذا هو

الإمام الحجة الثبت أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي المفسر المشهور، ولعل

الذي أوقع المؤلف في هذا الخطأ أن كِلا الرجلين نيسابوري الموطن وأنهما كانا

متعاصرين، وأن وفاتيهما متقاربتان غير أن الأول أديب، وهذا إمام مفسر جليل

وهما شهيران في بابيهما.

وسنذكر في مقالتنا الآتية بقية أنواع الخطأ التي أشرنا إليها في صدر مقالتنا

هذه وكل آتٍ قريب.

ومن أنواع الخطأ التي تضمنها الكتاب الخطأ في الاستنتاج ومن أمثلته ما يأتي:

ذكر المؤلف في صفحة 238 الفصل الآتي بنصه وهو:

(5)

طول القصائد:

وطالت القصائد في هذا العصر عما كانت عليه قبلاً حتى كثرت فيها ذوات

المئات من الأبيات كقصيدة ابن عبد ربه وقصائد الواساني ومع ذلك فإن العرب لم

يدركوا شَأْو الأمم الأخرى في الإطالة كما فعل اليونان بالألياذ والأوذية والفرس في

الشاهنامة وهو الشعر المعروف بالأيبوبة، وتعد أبيات الواحدة بعشرات الألوف.

على أنهم ذكروا لأبي الرجاء محمد بن أحمد بن الربيع الأسواني المتوفى سنة 335

قصيدة أبياتها تعد بالألوف ضمنها أخبار العالم وقصص الأنبياء ومختصر المزني

ويعد من هذا القبيل نظم كليلة ودمنة ونحوها مما ضاع. ولكن ذلك منقول ليس فيه

تفكير، أي لم ينظمه الشاعر من بنات أفكاره، ولا يكون ذلك إلا في نظم القصص

الخيالية أو نحوها)

فهذا الفصل على ما فيه من تضارب الأقوال وتناقض الأحكام يستفاد منه:

أولا: أن القصائد العربية طالت في العصر الثالث من حكم بني العباس عن

كل العصور التي سبقته حتى بلغ بعضها مئات من الأبيات.

ثانيًا: أنهم مع ذلك لم يدركوا شأو اليونان والفرس في تطويل القصائد لأن

تلك تعد بالألوف.

ثالثًا: أن العرب كان لها قصائد قبل هذا العصر تعد بالألوف أيضًا ولكنها

ضاعت كقصيدة الأسواني ونظم كليلة ودمنة وغيرهما.

رابعًا: أن العرب وإن أطالوا في بعض القصائد لم يضمنوا طوالهم بنات

أفكارهم بل نقلوها عن أمم أخرى. وأقول:

أما الأمر فإن أطول القصائد لم يختص بعصر دون عصر فمنذ ظهر امرؤ

القيس في عالم الشعر تطول القصائد وتقصر وكفى بالمعلقات طولاً وهي من نظم

الجاهلية ولم يقصر الإسلاميون ولا المحدثون عن هؤلاء في الطول ، فقصائد جرير

والفرزدق والأخطل والكميت ومروان ومسلم ودعبل وأبي تمام والبحتري

وابن الرومي والناشئ لا تقصر عن قصائد أهل العصر الثالث فلجرير ميمية تقارب

مائة بيت وللفرزدق ميمية تزيد على مائة وأربعين ولدعبل قصيدة في التعصب

لليمانية يرد بها على الكميت المفتخر بالنزارية تبلغ ستمائة بيت. وللناشئ قصيدة

في فنون من العلم على رويّ واحد تبلغ أربعة آلاف بيت وكل هؤلاء قبل العصر

الثالث.

وأما عن الأمر الثاني فإن المؤلف لم يفطن للفرق بين الشعر العربى

والأعجمي. فالشعر العربي تنظم القصيدة فيه من بحر واحد وقافية واحدة وروي

واحد ، وشعر الأمم الأعجمية ليس له قافية، وإن التزمت فيه القافية فلا

تتجاوز بضعة أبيات، فالشاعر العربي إذا نظم قصيدة مائة بيت من قافية واحدة فتلك

الغاية التي لا تدرك في شعر أي أمة أخرى وأغلب شعر اليونانيين والفرس وأمم أوربة

الآن من نوع الدوبيت والزجل أو الشعر المسمط فهو مركب من أدوار وخانات. وإذا

لم يراع الشاعر قافية، فالمائة وألف الألف عنده سواء فليس عليه أي كلفة في

الصناعة وإنما يرجع الأمر في ذلك إلى طول الزمن وقصره كما نظم البستاني

الإلياذة من عدة بحور وعدة قوافٍ.

وأما الأمر الثالث: فلو علم المؤلف أن نظم كليلة ودمنة ونحوه ليس من نوع

القصائد بل من نوع المزدوجات التي لا تكلف الناظم أكثر من قافيتين اثنتين في كل

بيتين لم يكن تجشم التناقض والاعتذار الغريب في كلامه.

وأما الأمر الرابع: فلما رأى المؤلف على توهمه أن للعرب شعرًا طويلاً مثلما

للفرس واليونان مما يعارض دعواه احتاج إلى أن يبرر رميه العرب بالقصور

وتهجين شعرهم بقوله (ولكن ذلك منقول ليس فيه تفكير) فلو أراد المؤلف بطوال

الشعر العربي أرجوزة ابن عبد ربه في تاريخ الأندلس أو علم العروض وأرجوزة

الأسواني في أخبار العالم وقصص الأنبياء ونحوهما فهما لم تعدوا أغراض الإلياذة

والشاهنامة إذ الأولى في وقائع حروب ترواده والثانية في تاريخ الفرس.

على أن كل هذا الكلام جهاد في غير عدو، فالطوال في العصر الثالث ليست

من نوع القصيد بل من نوع الأراجيز وطوال الأمم الأخرى لم يلتزم فيها قافية

واحدة.

ومن الخطأ في الاستنتاج زعم المؤلف أن التصوف لم ينشأ إلا في العصر

الثالث أي بعد سنة 334 وينعي على ابن خلدون وغيره ممن يرى أن اشتقاقه من

الصوف ويرى هو أنه مشتق من كلمة (صوفيا) اليونانية.

قال في صفحة 332:

(وعندنا أنها مشتقة من لفظة يونانية الأصل هي (صوفيا) ومعناها الحكمة

ويتركب منها ومن (فيلوس) محب (فيلو صوفيا) أي محب الحكمة وهي بالعربية

الفلسفة فيكون الصوفية قد لقبوا به نسبة إلى الحكمة؛ لأنهم كانوا يبحثون فيما

يقولونه أو يكتبونه بحثًا فلسفيًّا، ويؤيد ذلك أنهم لم يظهروا بعلمهم هذا ولا عرفوا

بهذه الصفة إلا بعد ترجمة كتب اليونان إلى العربية ودخول لفظة الفلسفة فيها) .

وأقول: إن طريقة القوم قد اشتهرت بهذا الاسم قبل شيوع ترجمة الكتب

اليونانية وانتشار الفلسفة ومن قدمائهم الذين أطلق عليهم اسم صوفية مالك بن دينار

المتوفى سنة 131 وإبراهيم بن أدهم المتوفى سنة 161 ورابعة العدوية المتوفاة

سنة 135 وشقيق البلخي المتوفى سنة 153 وهو أول من تكلم في طريقة الصوفية

وعلم الأحوال بخراسان والفضيل بن عياض المتوفي سنة 187 وغير هؤلاء ممن

ذكرهم القشيري وغيره في تعداد سلف الصوفية الصالح.

فلو كان الأمر كما زعمه المؤلف من أنهم لم يعرفوا بهذه الصبغة إلا بعد

ترجمة الكتب اليونانية وشيوع لفظ الفلسفة فيها أي في أواسط العصر الثاني فلم لم

يسموا فلاسفة إذ (كانوا يبحثون فيما يقولونه أو يكتبونه بحثًا فلسفيًّا.. .) ولم لم

تُسمَّ الفلاسفة صوفية؛ لأنهم أيضًا يبحثون فيما يقولونه أو يكتبونه بحثًا فلسفيًّا! وقد

كان الكِندي وهو أقدم من اشتغل بالحكمة يسمى فيلسوف العرب ولم يسم صوفي

العرب.

وبعد فلو كان هذا الاسم قد عرف بعد أن عرفت الفلسفة وعرف اسمها

ومأخذه ، فلم أُبهم اسم الصوفية على كثير؟ والحقيقة أن طريقة القوم بمعزل عن

الفلسفة، وهم كانوا أشد الناس إنكارًا على المتفلسفين وأن اسمهم مشتق من الصوف

لمداومة أكثرهم لبسه تقشفًا وتخشنًا.

(2)

ومن أمثلة الخطأ في الاستنتاج دعوى المؤلف خمول اسم بشار الشاعر

المشهور قال في صفحة 61 (ولم يخرج في دفنه أحد لأنه مات وخصمه الخليفة،

وربما هذا هو السبب أيضًا في خمول اسمه مع تبريزه في الشعر) .

وأقول: لم يدَّع خمول بشار غير المؤلف، وإلا فكتب الأدب مفعمة بأخباره

ونقد كلامه، وكيف يجهل رأس المحدثين بإجماع كل متكلم في الأدب وغاية ما يقال:

إن ديوانه لم يُجمع، وكم من شاعر جمع ديوانه ولم يشتهر شهرة بشار.

(3)

ومن الخطأ في الاستنتاج ادعاء المؤلف في صفحة (99) أنه لم

يصلنا إلا أخبار الرواة المقربين من الخلفاء أو الوزراء في بغداد كالأصمعي وأبي

عبيدة وليس ذلك بصحيح فإن من كبار الرواة من اتصل بالخلفاء ومنهم من لم

يتصل. فأبو عمرو بن العلاء شيخ الرواة والعربية لم يعرض علمه على خلفاء بني

أمية ولا خلفاء بني العباس، وإليه كانت الرحلة من الآفاق وهذا الخليل بن أحمد

شيخ الأصمعي وأبي عبيدة زهد في صحبة الملوك وتأديب أولادهم، وأخرج كسرة

خبز يابسة لرسولهم، وقال: ما دامت هذه في بيتي فلا حاجة لي فيهم.

وهذا أبو زيد الأنصاري ثالث الثلاثة (الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد) كان

ممن يقبّل الأصمعي رأسه في حلقة درسه ويقول: هذا عالمنا ومعلمنا منذ عشرين

سنة، ولم يُعلم أنه اتصل بخليفة، وهذا خلف الأحمر أروى أهل زمانه للشعر مات

ولم يتصل بخليفة.

وأبو عمرو الشيباني راوي دواوين العرب وجامعها من هذا القبيل، وكذلك

مؤرخ السدوس وأبو عبيد القاسم بن سلام والسكري وغيرهم من مشاهير الرواة

كانوا بمعزل عن الخلفاء.

ومن الخطأ في الاستنتاج ما قاله المؤلف في صفحة 113 (ويقال: إن أول

من علله (أي النحو) أي ذكر أسباب إعرابه عبد الله بن أبي إسحق الحضرمي

المتوفى سنة 117 والغالب في اعتقادنا أن تعليل الإعراب لم ينضج إلا بعد نقل

كتب الفلسفة اليونانية إلى العربية) ولو قال المؤلف: لم يفسد إلا بعد نقل كتب

الفلسفة.. .. إلخ، لكان أولى فقد كان الخلاف بين الكوفيين والبصريين في تعليل

مسائل القياس النحوي، وليس هو إلا تعليل أوجه الإعراب ولم يفتر هذا النضال

بين المصرين إلا بعد انكباب الناس على الفلسفة وانصرافهم عن العربية.

(5)

ومن ذلك ما زعمه من أن إبراهيم بن المهدي لم ينصرف إلى الغناء

إلا بعد استقلال المأمون في الخلافة قال في صفحة 136:

***

الغناء القديم والحديث

(ولما زها العصر العباسي الأول في زمن الرشيد والمأمون وأطلقت الألسنة

والأفكار أخذ المغنون يفكرون في تعديل الألحان واستنباط أسلوب جديد. وأول من

تجرأ على ذلك إبراهيم بن المهدي أخو الرشيد - وكان من الطامعين في الخلافة، فلما

استتب الأمر لأخيه (كذا) المأمون انصرف هو إلى الغناء كما انصرف خالد بن

يزيد الأموي إلى الكيمياء لما يئس من الخلافة) .

والمعروف عند أهل التاريخ والأدب أن إبراهيم كان منصرفًا إلى الغناء منذ أيام

أبيه، وكان في مدة أخيه فحلاً من فحول الصناعة لم يفُقه فيها إلا إسحق، ومن

أهل زمانهما من يقدم إبراهيم عليه لكثرة اختراعه وتصرفه ووقوف إسحق عند ما

رسمه الأوائل. ومناقضات إبراهيم وإسحق وملاحتهما في الصناعة في مجالس

الرشيد أشهر من أن تذكر، بل كانت شهرة إبراهيم بالغناء من أكبر عوائق

استتباب الخلافة له. وبعد: فمتى كان المأمون أخًا لإبراهيم أو أخًا للرشيد وإنما

هو ابن الثاني وابن أخي الأول؟

(6)

ومن خطأ الاستنتاج واضطراب الكلام واختلاطه الفصل الذي كتبه

المؤلف في السيرة النبوية، فلا يكاد القارئ يستنبط منه حكمًا جليًّا، فمن قوله فيه:

***

سيرة ابن هشام

(وأما سيرة النبي كاملة فأقدم ما وصل إلينا منها سيرة محمد بن إسحق

رواية عبد الملك بن هشام وقد اتفقوا على صحتها. (ثم قال) ويرى الناقد فيها

كثيرًا من القصائد يغلب على الظن أنها دخيلة. وذكر صاحب الفهرست أنهم كانوا

يعملون الأشعار ويأتون بها إلى ابن إسحاق ويسألونه أن يدخلها في كتابه في السيرة

فيفعل (ثم قال في ترجمة ابن هشام بعد ذلك بأسطر قلائل) وهو الذي روى سيرة

النبي من المغازي والسير لابن إسحق وهذبها ولخصها وهي الموجودة في أيدي

الناس وفي ترجمة ابن خلكان 290 ج1 (ثم قال في ترجمة ابن إسحق بعد ذلك

بأسطر) ومن كتبه في المغازي أخذ عبد الملك السيرة التي نحن بصددها وقد طبعت

هذه السيرة (أي سيرة ابن هشام) مرارًا.. .. . إلخ إلخ، (إلى أن قال) وأما

النسخة الأصلية رواية (كذا) ابن إسحق فالمظنون أن منها نسخة في مكتبة

كوبريني بالآستانة) .

فأنت ترى أنه (أولاً) جعل سيرة ابن إسحق وابن هشام واحدة وابن هشام

ولم يكن إلا راويًا.

ثم ذكر (ثانيًا) اتفاق الناس على صحتها ثم ناقض هذا (ثالثًا) بنقله طعن

الفهرست في شعرها. ثم ناقض (رابعًا) ما ادعاه أولاً من كون السيرتين واحدة

بقوله في ابن هشام (وهو الذي روى سيرة النبي من المغازي والسير (كذا) لابن

إسحق وهذبها ولخصها) وقوله بعدُ: في ترجمة ابن إسحق (ومن كتبه في المغازي

أخذ عبد الملك السيرة)

ثم ناقض (خامسًا) جميع ما تقدم بقوله (وأما النسخة الأصلية رواية ابن

إسحق فالمظنون أن منها نسخة في مكتبة كوبريلي.. . إلخ إلخ.

والحقيقة أن سيرة ابن إسحق سيرة كبيرة مستقلة عن سيرة ابن هشام وهي

التي يطعن في شعرها ولم يتفق على صحتها. وأن ابن هشام لم يكن هو الراوي

لهذه السيرة بل لخص سيرته النبوية من سيرة ابن إسحق وغيرها من كتبه في

المغازي بحذف الأخبار الضعيفة والأشعار المطعون فيها، وهي المتفق على

صحتها. وإذا لاحظنا أن بين وفاة ابن إسحق ووفاة ابن هشام أكثر من ستين سنة وأن

أكثر حياة ابن إسحق كانت في المدينة وأكثر حياة ابن هشام في مصر ينجلي ما

قلناه فوق ما تقدم.

***

الدعوى بلا دليل

للمؤلف دعاوى عريضة لم يقم عليها برهانًا بل ألقاها على عواهنها يضل فيها

الناشئ ويعجب منها الشادي. فمن ذلك:

(1)

ادعاؤه أو نقله عمن يدعي في صفحة 43 أن الخيال الشعري لا يزال

في مكانه لم يترق عما كان عليه منذ القدم بالرغم من ترقي الجنس البشري في كل

شيء، وأن الشعر العربي له شأن خاص في أسلوبه فقط. ثم ناقض ذلك بعد سطر

واحد بقوله في ترقي الشعر الإسلامي (فضلاً عن تأثير الأحوال الاجتماعية على

الخيال الشعري ولا سيما الانتقال من البداوة إلى الحضارة) ثم عقده فصلاً كاملاً

عنونه هكذا:

(2 - المعاني الجديدة باتساع الخيال إلخ إلخ) ثم فصل آخر عنونه هكذا:

(3 - المعاني الجديدة بالاقتباس)(أي الاقتباس من العلوم الأجنبية) .

وقال في أول هذا الفصل:

(تلك معانٍ شعرية اقتضاها وسع الخيال بالحضارة إلخ إلخ) .

(2)

ومن الدعاوى بلا دليل دعوى المؤلف (ص 107) أن ابن قتيبة أول

من تجرأ على النقد الأدبي فألف في أكثر فنون الأدب المعروفة إلخ إلخ.

يقصد المؤلف بهذا نبذة صغيرة ذكرها ابن قتيبة في مقدمة كتابه الشعر

والشعراء، فإن أراد المؤلف أنه أول من كتب في نقد الشعر فليس بصحيح إذ سبقه

إلى ذلك كثير منهم محمد بن سلام الجُمحي في مقدمة كتابه (طبقات الشعراء) الذي

ذكره المؤلف في صفحة 108 عند كلامه على النسخة التي في المكتبة

الخديوية حيث قال (وتدخل في 210 صفحات تبدأ بنقد الشعر إلخ إلخ) .

وقبله ألف أبو عبيدة كتاب نقائض جرير والفرزدق، وقد ذكره المؤلف في

صفحة 101 وهو نوع من نقد الشعر. وإن أراد المؤلف أنه أول من لفت الناس

إلى فساد طريقة القدماء في بكاء الأطلال ووصف الأظعان، فقد ناقض ذلك بقوله في

صفحة 43: (وأصبح حديث الشعراء في مجالسهم انتقاد تلك الطريقة. وأقدم ما

بلغنا من هذا القبيل اجتماع مطيع بن إياس بفتى من أهل الكوفة ففاوضه بشأن ذلك)

ثم نقل عنه شعرًا يعيب فيه على المتقدمين ونقل عن أبي نواس كثيرًا من الشعر

ينعي به على هذه الطريقة، وادعى أن أبا العتاهية قلد في ذلك أبا نواس وهما فحلا

الشعر المتعاصران فمن يا تُرى قلد منهما الآخر؟ كما ادَّعى أن أبا نواس قلد

الحسن بن الضحاك في وصف الغلمان، والمؤلف معذور في كل هذا فقد نقل مقالة

الشعر برمتها صحيحها وفاسدها من كتاب (التاريخ الأدبي للعرب) لنيكلسن

الإنكليزي وكتاب بروكلمان وتلك الأغلاط مدونة فيهما.

(3)

ومن دعاوى المؤلف في صفحة 49 أن الشعر في العصر الأول من

بني العباس قد بطل استعماله في العصبية كما بطل استدناء الخلفاء للشعراء بسبب

انتصارهم لفريق على فريق.

والحقيقة أن الشعر بقي يستعمل في العصبية طول العصر الأول العباسي

وبعض العصر الثاني، ولأبي نواس ومسلم بن الوليد ودعبل الخزاعي قصائد

طنانة في الانتصار لليمانية على المضرية، بل قد فتح الخلفاء العباسيون في

العصبية بابًا شرًّا من عصبية القبائل وهو تفضيل العباسيين على الطالبيين، ومن

شعرائهم في ذلك مروان بن أبي حفصة ومنصور النمري وعلي بن الجهم وتصدى

للرد على هؤلاء كثير من متعصبي الشيعة كالسيد الحميري ودعبل وديك الجن

وغيرهم.

(4)

ومن دعاوى المؤلف في صفحة 51 قوله (ولم يكن للشاعر العربي بدّ

من الرحلة إلى بلاد العرب لاقتباس أساليبهم) .

فليقل لنا المؤلف ما هي رحلات أبي نواس ومسلم والحسن بن الضحاك

ومطيع بن إياس وحماد عجرد وأبان اللاحقي إلى بادية العرب؟ إن الرحلة إلى

بلاد العرب كانت خاصة بالعلماء ورواة الأدب واللغة مثل والخليل الأصمعي وأبي

عبيدة وأبي زيد والكسائي وكان هؤلاء يسمون في اصطلاح قدماء المؤلفين أدباء

فاشتبهت على المؤلف هذه التسمية إذ هو يعرف أن الشعراء أدباء أيضًا.

(5)

ومن دعاوى المؤلف زعمه أن جوقة الفسق التي ألفها الجاحظ من

حماد عجرد وحماد الراوية وابن الزبرقان وبشار بن بُرد ومطيع بن إياس

ووالبة وبقية من ذكرهم كانوا ينظرون إلى الدنيا من وجهها الأسود. قال في صفحة

51 بعد أن ذكر كثيرًا من هؤلاء المجان والمتزندقة: (وكان هؤلاء المتفلسفون

ينظرون إلى الدنيا من وجهها الأسود فلا يرون فيها حسنًا ولا يعترفون لأحد بفضيلة

نحو من يعبر عنهم الإفرنج بالبسينست) واستدل على هذه الدعوى بحادثة تنطبق

على الاستهتار والمجون أكثر مما تنطبق على الفلسفة قال:

(ذكروا أن مطيع بن إياس مر بيحيى بن زياد وحماد الرواية وهما

يتحادثان فقال (فيما أنتما؟)(كذا) قالا: (في قذف المحصنات) قال (أو في

الأرض محصنة تقذفانها؟ ويدل هذا من جهة أخرى على رأيهم في المرأة) أقول:

إن صح هذا القول فهو لا يدل إلا على اعتقاد مطيع وحده! بدليل أن يحيى وحمادًا

يعتقدان أنهما يقذفان المحصنات لا الفاجرات إذ أجاباه عند سؤاله لهما بذلك وبالأولى

يخرج عن هذا الاعتقاد من لم يحضر القصة من بقية القوم. وبعد فأي لزوم بين

كلمة هذا الخليع الماجن وبين مبدأ أصحاب هذا المذهب؟ على أن المؤلف أفاض

في وصف هؤلاء بأنهم كانوا منكبين على الشراب والمنادمة لا يكادون يفترقون

وكانت أموالهم شركة بينهم. فقوم عكفوا على الملاذّ واللهو والطرب والمنادمة

ومواساة بعضهم بعضًا ينظرون إلى الدنيا من وجهها الأسود؟ ألا إن من ينظر إليها

من وجهها الأبيض بعد هؤلاء لقليل.

(6)

ومن دعاوى المؤلف قوله في حالة الشعر في العصر الثاني صفحة

157 (4 نبغت طبقة من الكتاب انتقدوا الشعر وروايته وكانوا يفعلونه في العصر

السابق بلا تمحيص (كذا) فصاروا في هذا العصر ينظرون فيه ويتدبرون معانيه

وأساليبه بعين النقد ولا سيما بعد إطلاعهم على ترجمة أرسطو في نقد الشعر) .

أقول: أكبر النقدة باعتراف المؤلف هما ابن قتيبة ومحمد بن سلام وهما ممن

ينعي على المتفلسفين ويضلل من ينظر في كتب الفلسفة. ومن قرأ كتبهم شهيد بذلك.

(7)

دعوى المؤلف أن ابن المقفع كان يعرف اليونانية جيدًا ولم تر في

كتب الأدب والتاريخ من ذكر هذا غير مؤلفنا في هذا الكتاب وفي كتابه (التمدن

الإسلامي) الذي نقل معظم الجزء الثالث منه في كتابه هذا، وإذا تفضل حضرته

علينا بمصدر هذه الدعوى كنا لحضرته من الشاكرين.

وإذا لم يكن لهذه الدعوى أصل، فربما توهم المؤلف من قولهم أن ابن المقفع

ترجم كتب أرسطوطاليس المنطقية الثلاثة وهي كتاب قاطيغورياس، وكتاب باري أرميناس. وكتاب أنالوطيفا أنه نقلها عن اليونانية. والحقيقة أن هذه الكتب وغيرها

من كتب اليونانية وترجمت في زمن أنو شروان إلى الفارسية، ولا ينكر المؤلف ذلك

فنقلها ابن المقفع من الفارسية كما نقل غيرها مما تراجمه قبل إلى الفارسية.

(8)

ومن دعاوى المؤلف قوله في صفحة 131 في ترجمة ابن المقفع أنه

اختص بالمنصور وكتب له. والكتب التي ترجمت لابن المقفع ليس فيها شيء من

ذلك والدارس لأحوال خدمة ابن المقفع وتصرفه إلى أن قُتل لا يجد من بينها زمنًا

خدم فيه المنصور بالكتابة في ديوانه، وإنما كان منقطعًا إلى أعماله بالبصرة حتى

مات بها.

والذي أراه أن هذه العبارة (ثم اختص بالمنصور وكتب له) أخطأ المؤلف

نقلَها من عبارة ابن خلكان، وهي بنصها:

(وهو من أهل فارس وكان مجوسيًّا فأسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح

والمنصور الخليفتين الأولين من خلفاء بني العباس، ثم كتب له واختص به)

فالضمير في (كتب له واختص به) يعود حتمًا على عيسى بن علي لا على

المنصور وحده إذ هو مذكور مع أخيه السفاح، ووصف معه بوصف المُثنى وإلا

فلمَ نتحكم بعود الضمير على المنصور لا على السفاح؟

(9)

ومن دعاوى المؤلف في صفحة 207 في الكلام على طريقة أبي

الحسن الأشعري في علم الكلام أن الناس عولوا على رأيه لما فيه من التسوية بين

سائر الأراء.

فكيف يعقل أن مذهبًا يسوي بين آراء كل الطوائف وفيهم من يناقض مذهبه

مذهب الآخر، وغاية الأمر أنه اعتدل بين مذهبي المعتزلة والسلفية من أهل السنة.

(10)

ومن دعاوى المؤلف قوله في صفحة 101 عن المتوكل الخليفة

العباسي (أنه أهلك جماعة من العلماء وحط مراتبهم وعادى العلم وأهله) فمن أين

للمؤلف هذا الكلام؟ ولو كنا كغيرنا ممن يحمل كلام المؤلف على سوء النية لأطلنا

في هذا المقام بما لا يحمده. وكل هذه الغارة من جراء أن المتوكل رفع الفتنة بخلق

القرآن ونهى الناس عن الجدل فيها بعد أن أنهكت دينهم وأخلاقهم وأنه أمر أهل

الذمة بلبس شارات تميز زيهم وأنه صادر بختيشوع الطبيب وبعض الكتاب لخيانة

ظهرت له منهم.

(11)

ومن دعاوى المؤلف أن الإنشاء في العصر الثالث العباسي قد صار

له طريقة خاصة (سماها مدرسية) ! ! أو سماها (كلاسيك) أخذًا من اصطلاح

الإفرنج، ثم أخذ يسرد شروطًا للإنشاء المدرسي بلغت نحو عشرة شروط جعلها

خاصة بإنشاء هذا العصر. والمتتبع لها يجد أن أكثرها لا يختص بعصر دون

عصر وأن أغلبها أمور طبيعية أو عادية في كل زمان، ومن يريد أن يتحقق ذلك

فليراجعها في كتابه إن شاء.

(12)

ومن دعاوى المؤلف زعمه أن العرب نقلت محاضراتها عن اليونان

ولا بأس بإيراد هذا الفصل من الكتاب تفكهة للقراء. قال المؤلف:

(المحاضرات: هي علم من علوم الأدب تحصل بها الملكة على إيراد كلام

الغير بما يناسب المقام. وفائدته الاحتراز عن الخطأ في تطبيق الكلام المنقول عن

الغير على المقام حسب اقتضاء المخاطبة من جهة معانيه الأصلية. وهو من

الفنون الأجنبية يقال: إن مخترعه رجل من اليونان (لعله يريد أيسوب صاحب

الحكايات الجغرافية الجارية على ألسنة الحيوان وغيره) قبل القرن الثالث

للميلاد، وقد أخذه العرب في جملة ما أخذوه عن الأعاجم في خلافة أبي جعفر

المنصور على يد عبد الله بن المقفع عندما ترجم كليلة ودمنة من الفارسية إلى

العربية فكانت ترجمته هذه أساسًا لهذا الفن لكنه لم ينضج إلا في العصر الثالث الذي

نحن في صدده. وأشهر من ألف فيه ابن حيان (كذا) التوحيدي المتوفى سنة

400 ألَّف كتابًا أسماه المحاضرات والمناظرات، وقد تقدم ذكر كتاب

الشريف المرتضي في هذا الموضوع. وأشهر ما بأيدينا من كتب المحاضرات

كتاب (محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء) لأبي القاسم الراغب

الأصبهاني وسيأتي ذكره) .

فإذا تأملت أيها القارئ الكريم في هذا الفصل تجد أن المؤلف نقل تعريف

المحاضرات وفائدتها وهو بهذا التعريف فن عربي بحت كان يطلق قديمًا على عدة

علوم من أنواع التاريخ والأخبار والنوادر والشعر وهو كان بضاعة الأدباء والندمان

عند الخلفاء، ومنه كامل المبرد وأمالي القالي وكثير من كتب الجاحظ وأبي حنيفة

الدينوري وأبي زيد البلخي وسهل بن هارون والعتابي.

ومن أفضل كتبه العقد الفريد لابن عبد ربه، وتسميته بالمحاضرات هي تسمية

خاصة متأخرة وإلا فهو فرع من فروع الأدب، فكيف يكون مخترعه يونانيًّا وهو

بحسب التعريف السابق ضروري في كل أمة.

وإنما يصح أن يكون أيسوب واضع الحكايات الخرافية. مع أن الهنود سبقوه

إلى ذلك بل أثبت علماء الآثار أخيرًا أن أسبق الناس لوضع الحكايات الخرافية هم

قدماء المصريين ثم نقلها عنهم اليونان، وأن أيسوب اليوناني هو نفسه خرافي لا

حقيقة له.

والفصل المذكور على ما يرى القارئ يتضارب بعضه مع بعض فضلاً عن

تحريف اسم أبي حيان التوحيدي فيه (بابن حيان) وفي الكتاب كثير من هذا القبيل.

(13)

ومن دعاوى المؤلف أن كتب السيرافي لم يصلنا منها شيء وعد منها

كتاب النحويين البصريين. والكتاب في دار الكتب الخديوية في نسخة قديمة وأظنها

في كتب الشنقيطي.

(يتلى)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) بقلم الأستاذ الشيخ أحمد عمر الإسكندري.

(1)

هذه العبارة مذكورة في تاريخ التمدن الإسلامي وقد انتقدها الشيخ شبلي النعماني راجع ص (72) من الانتقاد على هذا الكتاب.

ص: 841

الكاتب: جمال الدين القاسمي

ميزان الجرح والتعديل

لعالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي

هذا بحث جليل، ومطلب خطير، طالما جال في النفس التفرغ لكتابة شيء

فيه يكون لباب اللباب في هذا الباب الذي اختلف فيه الناس، لما غلب التعصب

على النفوس ونبذوا مشرب كبار المحدثين رواة السنة، وهداة الأمة، حتى سنحت

لي فرصة كتبت فيها ترجمة حافلة للإمام البخاري جعلتها مفصلة بتراجم منوعة كان

منها (تخريج البخاري عمن رُمي بالابتداع) وهم الذين أسميهم (المبدّعين)[1] .

ذكرت ثمة ما يناسب تأليف الترجمة، ثم رأيت أن المقام يستدعي زيادة بسط

وإسهاب، ودرأ شبه واحتمالات أوردها بعض الفقهاء خالف فيها الحقيقة، فخشيت

أن يطول بإيرادها - في ترجمة البخاري - الكلام، ويشبه الخروج عن الموضوع

فأفردت تتمة هذا البحث في مقالة خاصة تحيط به من أطرافه، وترده على أنحائه

وهذا البحث من جملة المباحث العلمية التي نسيها الخلف أو أضاعوها، ولا غرو

أن يذهل عن الغايات من يقصر في البدايات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

***

منشأ النبز بالابتداع

من المعروف في سنن الاجتماع أن كل طائفة قوي شأنها وكثر سوادها، لا

بد أن يوجد فيها الأصيل والدخيل، والمعتدل والمتطرف، والغالي والمتسامح، وقد

وجد بالاستقراء أن صوت الغالي أقوى صدى وأعظم استجابة؛ لأن التوسط

منزلة الاعتدال، ومن يحرص عليه قليل في كل عصر ومصر، وأما الغلو فمشرب

الأكثر، ورغيبة السواد الأعظم، وعليه درجت طوائف الفرق والنحل، فحاولت

الاستئثار بالذكرى، والتفرد بالدعوى، ولم تجد سبيلاً لاستتباع الناس لها إلا الغلو

بنفسها، وذلك بالحط من غيرها، والإيقاع بسواها، حسب ما تسنح لها الفرص،

وتساعدها الأقدار، إن كان بالسنان، أو اللسان.

وأول من فتح هذا الباب - باب الغلو في إطالة اللسان بالمخالفين - الخوارج

فأتى قادتهم عامَّتهم من باب التكفير؛ لتستحكم النفرة من غيرهم، وتقوى رابطة

عامتهم بهم، ثم سَرى هذا الداء إلى غيرهم، وأصبحت غلاة كل فرقة تكفِّر غيرها

وتفسقه أو تبدعه أو تضلله لذاك المعنى نفسه، حتى قيض الله تعالى من الأئمة

من قام في وجه أولئك الغلاة، وزيَّف رأيهم، وعرف لخيار كل فرقة قدرهم، وأقام

لكل منهم ميزان أمثالهم.

***

من شهر الرواية عن المبدعين

وقاعدة المحققين في ذلك

كان من أعظم من صدع بالرواية عنهم الإمام البخاري رضي الله عنه،

وجزاه عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، فخرَّج عن كل عالم صدوق ثبت من

أي فرقة كان، حتى ولو كان داعية، كعمران بن حطان وداود بن الحصين.

وملأ مسلم صحيحه من الرواة الشيعة [2] فكان الشيخان عليهما الرحمة والرضوان

بعملهما هذا قدوة الإنصاف وأسوة الحق الذي يجب الجري عليه؛ لأن مجتهدي

كل فرقة من فرق الإسلام مأجورون أصابوا أو أخطأوا بنص الحديث النبوي.

ثم تبع الشيخين على هذا المحققون من بعدهما حتى قال شيخ الإسلام الحافظ

ابن حجر في شرح النخبة: التحقيق أن لا يرد كل مكفَّر ببدعته؛ لأن كل طائفة

تدَّعي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر، فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم

تكفير جميع الطوائف (قال) : والمعتمد أن الذي تُردّ روايته من أنكر أمرًا متواترًا

من الشريعة معلومًا من الدين بالضرورة، واعتقد عكسه. وأما من لم يكن كذلك،

أو ينضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله اهـ.

***

آفات الجرح إلا بقاطع

قال الإمام ابن دقيق العيد: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على

شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام.

وقال الإمام النووي في التقريب، وشارحه السيوطي: أخطأ غير واحد من

الأئمة بجرحهم لبعض الثقات بما لا يجرح، كما جرح النسائي أحمد بن صالح

المصري بقوله: غير ثقة ولا مأمون. وهو ثقة إمام حافظ احتج به البخاري ووثقه

الأكثرون، قال ابن الصلاح: وذلك لأن عين السخط تبدي مساوئ، لها في الباطن

مخارج صحيحة، تُعمي عنها بحجاب السخط، لا أن ذلك يقع منهم تعمدًا للقدح مع

العلم ببطلانه اهـ.

وقال الإمام ابن دقيق العيد: والوجوه التي تدخل الآفة منها خمسة:

(أحدها) الهوى والغرض وهو شرها، وهو في تاريخ المتأخرين كثير.

(الثاني) المخالفة في العقائد.

(الثالث) الاختلاف بين المتصوفة وأهل علم الظاهر.

(الرابع) الكلام بسبب الجهل بمراتب العلوم وأكثر ذلك في المتأخرين؛

لاشتغالهم بعلوم الأوائل، وفيها الحق والباطل.

(الخامس) الأخذ بالتوهم مع عدم الورع. وقد عقد ابن عبد الرؤوف بابًا

لكلام الأقران المعاصرين بعضهم في بعض، ورأى أن أهل العلم لا يقبل جرحهم

إلا ببيان واضح [3] .

***

الوجوه التي يعرف بها ثقة الراوي

قال السيوطي: قال في الاقتراح: [4] تُعرف ثقة الراوي بالتنصيص عليه من

راويه، أو ذكره في تاريخ الثقات، أو تخريج أحد الشيخين له في الصحيح، وإن

تُكُلِّم في بعض من خرج له فلا يلتفت إليه، أو تخريج من اشترط الصحة له، أو

من خرج على كتب الشيخين اهـ، فتمت النعمة بتعديل رجال الصحيحين ونبذ كل

وهم سواه، وبذلك عرف للرجال فضلهم، ولأولي العلم قدرهم، وسن للناس طرح

التعصب والتحزب، والتصافح على الأخوة الإيمانية، وتبادل الآراء والأفكار،

واستماع الحكم ومدارك الاستنباط والاجتهاد من ذويها، على هذا جرى أئمة الحديث،

وقادة الروايات، الذين جمعوا ما جمعوا لدلالة الأمة على هدي نبيها وسنة رسولها

صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، حتى أصبحت مرجع الفروع والأحكام،

ومعوَّل الأئمة الأعلام.

***

زيادة إيضاح في حكمة التخريج عن المبدّعين

وفوائد ذلك

إن تخريج أئمة السنة وحفاظ الهدي النبوي -حديث من نُبذوا بالابتداع على

طبقاتهم- فيه حكمة بليغة، وفائدة عظيمة، ألا وهي النهم بالعلم، والسعي وراءه

والجد في طلبه، والتنبه لحفظه من الضياع، وسن نبذ التعصب، والتشيع

والتحزب، والتقاط الحكمة من أي قائل. قال حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر في

كتاب جامع العلم وفضله في (باب جامع في الحال التي تنال بها العلم) ما مثاله:

وروينا عن علي رحمه الله أنه قال في كلام له: العلم ضالة المؤمن، فخذوه ولو

من أيدي المشركين، ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه. وعنه أيضًا

أنه قال: الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أيدي الشرط اهـ، فأئمة الحديث

رأوا أن السنة من الحكمة بل هي الحكمة - في تفسير الإمام الشافعي كما أوضح

ذلك في رسالته الشهيرة [5] في (باب بيان ما فرض الله من اتباع سنة نبيه صلى الله

عليه وسلم) فلذا عمدوا إلى تلقيها من كل ذي علم، واشترطوا للعناية بها أن

تكون من مسلم عدل صدوق، ثبْت في روايته، ولم يبالوا بما غُمز أو نُبز أو رُمي

به، علمًا بأن المسائل النظرية، أو التي دخل على أصولها تأويل بنظر المأول هي

من المجتَهد فيها، والمجتهد مأجور أصاب أو أخطأ، فعلام يُترك الأخذ عن

المأجور، وقد يكون رأيه هو الحق، ومذهبه هو الأدق -ما دام الأمر فيه احتمال

ولا قاطع، أو اعترض النص ما رجعه ظاهرًا- كما يعلمه من أعار نظر الإنصاف

مآخذ الأئمة ومداركهم- وقد أوضح جملاً من ذلك الإمام تقي الدين ابن تيمية في

كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام [6] ) فكان أئمة الحديث بهذا -أعني التلقي

عن كل عالم ثبت- مثال الإنصاف وكبر العقل، وقدوة كل من يلتمس الحكمة،

ويتطلب العلم، فجزاهم الله أحسن الجزاء.

***

عقوق الخلف بهجر مذهب السلف

سبق أني قلت في هذا المعنى كلمة في كتابي (نقد النصائح الكافية [7] ) بعد أن

سبرت رجال من خرَّج لهم الشيخان أو أحدهما في صحيحيهما - ممن نبز

بالابتداع - وهي قولي: فترى من هذا أن التنابز بالألقاب والتباغض لأجلها الذي

أحدثه المتأخرون بين الأمة عقوا به أئمتهم وسلفهم- أمثال البخاري ومسلم والإمام

أحمد بن حنبل، ومن ماثلهم من الرواة الأبرار، وقطعوا به رحم الأخوة الإيمانية

الذي عقده تعالى في كتابه العزيز، وجمع تحت لوائه كل من آمن بالله ورسوله،

ولم يفرق بين أحد من رسله، فإذن كل من ذهب إلى رأي محتجًّا عليه، ومبرهنًا

بما غلب على ظنه، بعد بذل قصارى جهده وصلاح نيته في توخي الحق فلا

ملام عليه ولا تثريب؛ لأنه مأجور على أي حال، ولمن قام عنده دليل على خلافه،

واتضحت له المحجة في غيره، أن يجادله بالتي هي أحسن ويهديه إلى سبيل

الرشاد، مع حفظ الأخوة، والتضافر على المودة والفتوة، هذا ما قلته ثمة مما يبين

أنه لو كانت الفِرق التي رُميت بالابتداع تهجر لمذاهبها وتُعادى لأجلها لَمَا أخرج

البخاري ومسلم وأمثالهما لأمثالهم. نعم إن هؤلاء المبدعين وأمثالهم لم يكونوا

معصومين من الخطأ حتى يعدوهم الانتقاد، ولكن لا يستطيع أحد أن يقول: إنهم

تعمدوا الانحراف عن الحق، ومكافحة الصواب عن سوء نية، وفساد طوية،

وغاية ما يقال في الانتقاد في بعض آرائهم: إنهم اجتهدوا فيه فأخطأوا، وبهذا كان

ينتقد على كثير من الأعلام سلفًا وخلفًا لأن الخطأ من شأن غير المعصوم، وقد قالوا:

المجتهد يخطئ ويصيب، فلا غضاضة ولا عار على المجتهد إن أخطأ في قول

أو رأي، وإنما الملام على مَن ينحرف عن الجادة عامدًا متعمدًا، ولا يتصور ذلك

في مجتهد ظهر فضله وزخر علمه.

***

رد القول بمعاداة المبدّعين

قدمنا أن رواية الشيخين وغيرهما عن المبدعين تنادي بواجب التآلف

والتعارف، ونبذ التناكر والتخالف، وطرح الشنآن والمحادّة، والمعاداة والمضارة؛

لأن ذلك إنما يكون في المحاربين المحادّين، لا في طوائف تجمعها كلمة الدين،

ومن الأسف أن يغفل عن هذا الحق من غفل، ويدهش لسماعه المتعصبون

والجامدون، ويحق لهم أن يذعروا لهذا الحق الذي فجأهم لأنه مات منذ قضى عصر

الرواية والرواة، وانقضى زمن المحدثين والحفاظ، ودال الأمر بعد الأخبار النبوية

للآراء والأقوال، وصار الحق -بعد أن كانت الرجال تعرف به- يعرف بالرجال،

وأصبح مشرب أمثال البخاري وغيره نسيًا منسيًّا، ونُشر لواء التعادي والتباغض

في الأمة وكان مطويًّا، وسبّب على الأمة من التفرق والانقسام، ما أورثها الضعف

والانفصام، فبعد أن كان التسامح في التلقي عن الحكماء والفضلاء من أي طبقة

ركنًا ركينًا في حضارة الإسلام، خلفه التخاذل والتدابر والتعصب والملام، ولم

يكف ذاك حتى ادُّعي أنه من الدين، مع أن الدين يأمر بالتآخي ونبذ التفرق في

محكم كتابه المبين.

(ومن العجب) أن يقول قائل: لا يلزم من الرواية عنهم عدم معاداتهم، أي

يجوز أن نروي عن راوٍ، مع التدين بمعاداتنا له، وبغضنا إياه!

(فنجيب عنه) بأنَّا لا نعرف من قال ذلك من السلف، ولا من ذهب إليه من

الأئمة، والرواية يراد بها هنا تلقي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وهديه

وتشريعه وأقضيته، وفتاويه وشمائله، لتتخذ دينًا يُدان الله به، وشريعة يُقضى بها

في التنازع، ومرجعًا تُحل به المشكلات، فهل يُتلقى ذلك عمن يجب علينا معاداته

في الدين؟ وكيف يتصور أن نأخذ الدين عمن نرى أنه عدو للدين؟ سبحان الله

ما هذا التناقض، إن من يأمرك الدين بأن تعاديه لا يبيح لك أن تأخذ دينك وشريعتك

وعقيدتك عنه، ومن المسلَّم بأن هذا الراوي أدَّاه اجتهاده إلى ما رأى، ومن أدَّاه

اجتهاده إلى ما رأى كيف يُعادى، وقد بذل قصارى جهده، وليس قصده إلا الحق،

والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وكيف يُعادى من أثبت له الشارع الأجر ولو كان

مخطئًا؟ وإنما يعادى الآثم لا المأجور.

***

رد القول بتفسيق المبدّعين

أغرب من ذلك قول البعض بتفسيق من يبدّعه، وإن بلغ ذروة الاجتهاد،

وأصبح معذورًا لا ملام عليه عند الله والملائكة والنبيين، لا بل قد تفضل عليه

الشارع بالأجر. ومتى عهد تفسيق مجتهد إذا أخطأ في المسائل الاجتهادية؟ وهل

يمكن لمثل البخاري -وهو ما هو في نقد الرجال- أن يضم إلى صحيحه من

مجتهدي الفرق من كان فاسقًا ليصبح جانب من كتابه مرويًّا للفسقة وقد جمعه ليجعله

حجة بينه وبين ربه؟ وهل يُعقل أن يجعل رواية الفاسق حجة عند المولى؟ هذا ما

يلزم من تفسيق من يفسق من الرواة فليحكم المتعصب النظر، وليتدبر في المآل،

قبل أن يأخذ في المقال.

نعم: ذهبت طائفة إلى تفسيق من خالفهم في شيء من مسائل الاعتقاد - كما

نقله الإمام ابن حزم في كتابه الفصل [8] إلا أنه قول مردود؛ ولذا قال الإمام ابن

حزم رضي الله عنه: وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في

اعتقاد أو فُتيا، وإن كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه

مأجور على كل حال: إن أصاب الحق فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد. قال:

وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي

رضي الله عن جميعهم، وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من

الصحابة رضي الله عنهم، لا نعلم منهم في ذلك خلافًا أصلاً. اهـ كلامه.

فأين هذا من التسرع في التفسيق، وتقليد من قاله من المتأخرين المقلدين،

الذين ليسوا بأئمة متبوعين، ولا قولهم حجة في الدين، ولا استندوا إلى دليل أو

برهان {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) .

***

خطر النبز بالفسق

ومعنى الفسق

إن النبز بالفسق ليس بالأمر السهل، لأن الفسق كثيرًا ما جاء في القرآن

الكريم مقابلاً للإيمان - كآية: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} (السجدة:

18) وأمثالها، ولذا قيل بأن عطف قوله تعالى (والفسوق) على قوله (والكفر)

عطف تفسير - في آية: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوقَ} (الحجرات: 7) وإن

احتمل أن يكون غيره إشارة إلى نوع آخر، إلا أن النظائر والأشباه في موارده

في التنزيل تدل على أنه عطف تفسير، وهب أنه كان غير الكفر فهو شيء قريب

منه، ونوع أنزل منه بدرجة، وناهيك به. وإليك ما قاله فيه أئمة اللغة

وفلاسفتها. ققال الجوهري في (الصحاح) : فسق الرجل فجر، وفسق عن أمر

ربه أي: خرج وفي المصباح: فسق فسوقًا: خرج عن الطاعة، والاسم

الفسق، ويقال: أصله خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرها وفي القاموس: الفسق: الترك لأمر الله،

والعصيان، والخروج عن طريق الحق، أو هو الفجور - كالفسوق (وقال الإمام

الراغب الأصفهاني في مفرداته) : فسق فلان: خرج عن حجر الشرع، وذلك من

قولهم: فسق الرطب: إذا خرج عن قشره. وهو أعم من الكفر (قال) :

والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير، لكن تعورف فيما كان كثيرًا، وأكثر ما

يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقرَّ به، ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه. وإذا

قيل للكافر الأصلي فاسق - فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة (إلى

أن قال) : فالفاسق أعم من الكافر اهـ.

وقال الإمام محمد بن مرتضى اليماني في كتابه (إيثار الحق) في (فصل في

الفسق) ما نصه: وأما العرف المتأخر: فالفسق يختص بالكبيرة من المعاصي مما

ليس بكفر، والفاسق يختص بمرتكبها اهـ.

فأنت ترى من هذا كله أن الفسق مدلوله الكبائر والمعاصي العظائم؛ لأنه دائر

بين الكفر وما يقرب منه، وإذا كان هذا مدلوله الشرعي، ومعناه العرفي، فكيف

يجوز أن يوصف به عالم ثبت ثقة من ذوي الألباب وأولي الاجتهاد لمجرد أنه أداه

اجتهاده إلى رأي يخالف غيره مع أنه لم يقصد إلا الحق، ولم يتوخَّ إلا ما رآه إلا

وفق، إذ لم يأل جهدًا في اهتمامه بما يراه الصواب، وإن كان في نظر غيره على

خلاف ذلك، إذ هذا من لوازم المسائل النظرية، ومتى عُهد أن يُفسق المخالف فيها

أو يُضلل، لا جرم أنه بدعة قبيحة، وجناية في الدين كبيرة.

وقد قال كثير من أئمة التفسير في قوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} (الحجرات: 11) هو قول الرجل للرجل: يا فاسق رواه ابن جرير عن مجاهد

وعكرمة. وقال قتادة: يقول تعالى: لا تقل لأخيك المسلم: ذاك فاسق، ذاك منافق

نهى الله المسلم عن ذلك وقدم فيه. وقال ابن زيد: هو تسميته بالأعمال السيئة بعد

الإسلام، زان فاسق (ثم قال ابن جرير) والتنابز بالألقاب هو دعاء المرء

صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعم الله بنهيه ذلك ولم يخصص به بعض

الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه، أو صفة

يكرهها (ثم قال) : وقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) أي ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه من

الألقاب، أو لمزه إياه أو سخريته منه، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها

عقاب الله بركوبهم ما نهاهم عنه. ولما لم يكن عند من يرمي أخاه بالفسق إلا الظن

جاء النهي عن سوء الظن إثر تلك الآية في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً

أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (الحجرات: 12) ولما كان الرمي بالفسق مدعاة لتفرق القلوب، وإثارة الشحناء

على عكس حكمة الله تعالى في خلقه الخلق للتعارف والتآلف، جاء ذلك على إثر ما

تقدم بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً

وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13)

فليتدبر المتقي هذه الآيات الكريمة وليقف عند أوامرها وزواجرها، وليعتبر

وليستعبر. قال السيد الطباطبائي في المفاتيح [9] : الفسق أن يتحقق بفعل المعصية

المخصوصة مع العلم بكونها معصية، أما مع عدمه، بل مع اعتقاد أنه طاعة،

بل من أمهات الطاعات فلا. والأمر في المخالف للحق كذلك؛ لأنه لا يعتقد

المعصية، بل يزعم أن اعتقاده من أهم الطاعات سواء كان اعتقاده صادرًا عن نظر

أو تقليد، ومع ذلك لا يتحقق الفسق، وإنما يتفق ذلك ممن يعاند الحق مع علمه

به، وهذا لا يكاد يتفق، وإن توهمه من لا علم له اهـ.

فترى من العجب بعد ما ذكرناه أن يوسَم بالفسق من لا يحل وَسمه به؛ لأن

معناه لا ينطبق عليه بوجه ما، على أنه ورد تسمية رواة الحديث خلفاء فيما رواه

الطبراني والخطيب وابن النجار وغيرهم عن علي مرفوعًا (اللهم ارحم خلفائي

الذين يأتون من بعدي، يروون أحاديثي وسنتي، ويعلمونها الناس) .

إذا علمت هذا فماذا يقال في هؤلاء المفسقين؟ أجهلوا المعنى العرفي للفسق،

أم تجاهلوا؟ أم اجتهدوا فأداهم اجتهادهم أم قلدوا؟ لا غرو أنهم جهلوا وقلدوا، ويا

ليتهم قلدوا إمامًا متبوعًا، بل قلدوا أواخر المقلدة الجامدة المتعصبة. ولو نظروا في

تراجم الرجال، وتدبروا سيرة كثير من أولئك المبدعين الأبطال، لعلموا أن رميهم

بالفسق يكاد أن يهتز له العرش. خذ لك مثلاً من شيوخ المعتزلة عمرو بن عبيد،

وانظر في ترجمته إلى زهده وتقواه. قال الذهبي في الميزان: وقد كان المنصور

الخليفة العباسي الشهير يخضع لزهد عمرو وعبادته يقول شعرًا:

كلكم يطلب صيد

غير عمرو بن عبيد

وذكر ابن قتيبة في (المعارف) أن المنصور رثى عمرو بن عبيد فقال شعرًا:

صلى الإله عليك من متوسد

قبرًا مررت به على مران

قبرًا تضمَّن مؤمنًا متحنفًا

صدق الإلهَ ودان بالقرآن

لو أن هذا الدهر أبقى صالحًا

أبقى لنا حقًّا أبا عثمان

هذا هو التوثيق - أعني توثيق الملوك - لأن كلام الملوك ملوك الكلام. وما

غمز به فكله -إن أنصفت- من عصبية التمذهب، والجمود في التعصب.

نحن لا نقول هذا تحزبًا للمعتزلة أو لغيرهم معاذ الله فإنا في الرأي مستقلون،

ولسنا بمقلدين ولا متحزبين، ولكن هو الحق والإنصاف، وما قولك في قوم يرون

مرتكب الكبيرة كافرًا أو مخلدًا في النار؟

أليس في هذا نهاية التعظيم للدين، وغاية الابتعاد عن المعاصي، والإشعار

بامتلاء القلب من خشية الله بما يزع عن الكذب والافتراء؟ بلى! وألف بلى! فأنى

يستجيز عاقل بعد ذلك تفسيقهم وهم على ما رأيت من التمسك بدين الله، والتصلب

في المحافظة على حدوده؟ فتدبر وأنصف، على أن خبر الفاسق مرغوب عنه في

نظر العقل، ساقط الاحتجاج به في أصول الشرع، ولذا أمرنا بأن نتبينه ولا نلوي

عليه بادئ بدء، فكيف يحكم صاحبه في السنة والأحكام؟

قال الإمام الحجة مسلم في مقدمة صحيحه في باب وجوب الرواية عن

الثقات، وترك الكذابين، والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه

وسلم ما مثاله: اعلم وفقك الله أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح

الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين - أن لا يروي منها إلا ما

عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يبقي منها ما كان عن أهل التهم

والمعاندين من أهل البدع [10](قال) : والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم

دون ما خالفه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن

تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) وقال:

{َأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: 2) قال: فدل بما ذكرنا من هذه الآي أن

خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة. والخبر إن فارق

معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في أعظم معانيها - إذ كان خبر

الفاسق غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم. ثم روي

عن سلام قال بلغ أيوب أني آتي عمرًا [11]، فأقبل عليَّ يومًا فقال: أرأيت رجلاً لا

تأمنه على دينه، فكيف تأمنه على الحديث. فدل ذلك على أن من ائتمنه الشيخان

على الحديث، فقد ائتمنوه على الدين، ومن ائتمن على الدين فليس فاسقًا ولا

مبتدعًا.

(ثم قال الإمام مسلم) وإنما ألزموا -يعني العلماء- أنفسهم الكشف عن

معايب رواة الحديث. وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا - لما فيه من عظيم

الخطر إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم، أو أمر، أو نهي، أو

ترغيب، أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم

على الرواية عنه من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثمًا

بفعله ذلك، غاشًّا لعوامّ المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن

يستعملها، أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أن

الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من

ليس بثقة ولا مقنع اهـ.

فهل بعد هذا يجوز غمز بعض من روى لهم الشيخان من أولئك الأعلام

المبدّعين؟ لا جرم أنه لأمر ما عُني البخاري ومسلم بالتخريج عنهم، وأخذ السنة

منهم، وتبليغها للأمة، وجعلها حجة بينه وبين ربه، وما ذاك إلا إجلالاً لفضلهم،

وإنصافًا لقدرهم.

انظر كيف يتحمل مثل البخاري عن أعلام الشيعة، والمعتزلة، والمرجئة،

والخوارج، ويجعل حديثهم حجة، ومرويهم سنة، ويفخر بذكر أسمائهم في أسانيده

ويخلد لهم أجمل الذكر، في أشرف مصنف. انظر هذا وقابل بينه وبين جمود

المتأخرين، ورميهم علماء الفرق بالفسق والابتداع والضلال، وهجرهم لعلومهم،

وصد الناس عنهم، حتى فات الناس - وا أسفا - علم جمّ، وخير كثير، ولئن دون

ما دون من معارفهم، فما بقي من فوائدهم في خزائن صدورهم مما كان يستثار

بالأخذ عنهم، وينال بمجالسهم - أوسع وأوفر، أفليس في جمود هؤلاء على ما ذكر

عقوق لسلفهم الصالح؟ بلى! وما يضرون إلا أنفسهم لو كانوا يشعرون.

بما ذكرناه استبان لك الخطأ في نبز رواة الصحيح بالفسق والابتداع، وأنه

تعصب يجب التنبيه له والحذر منه. نحن إنما نصدع بهذا - تفقهًا ممن شرب

البخاري ومذهبه، وموافقة له في رأيه الذي لا شك في أنه الصواب الذي تدعو إليه

الأخوة الإيمانية، والإنصاف مع كل راوٍ مجتهد من هذه الأمة لا يروم إلا الحق،

ولا يسعى إلا إليه، ولا يتحمل الأذى والاضطهاد إلا لأجله - إذ لم يصب من رأيه

وما دعا إليه لا دنيا، ولا جاهًا، ولا مُلكًا، فأي دليل أدل على حسن نيته من هذا؟

وبالجملة فتسمية المتفقهة بعض الرواة فسقة جهل بما قاله الأصوليون من أن الفاسق

مردود الشهادة والرواية [12] ومن قبل الشيخان وغيرهما خبره وحكموه في السنة،

وأخذوا عنه، فهل يكون فاسقًا؟ على أن إجماعهم على تلقي الصحيحين بالقبول

موجب لتعديل رواتهما جميعًا؛ لأن التلقي بالقبول فرع صحة الحديث، وهو إنما

يكون من صحة سنده، وهو من عدالة رجاله وتوثيقهم. ولذا قالوا فيمن خرَّج له

الشيخان: جاز القنطرة. بمعنى أنه لا يلتفت إلى ما غمز فيه. وبالجملة فمشرب

المحدثين في التسامح ونبذ التعصب هو الذي تقتضيه الأصول، وتقبله العقول، وما

أحدث من النبز بالفسوق للبعض فلا سند له - لأن دعوى فسق الإنسان إنما يكون

بإتيانه ما فسقه الشارع به، ونص عليه كتاب أو سنة نصًّا قاطعًا لا يحتمل التأويل

وأما مسائل الاجتهاد فلا يصح ذلك فيها بوجه من الوجوه.

والحاصل أن لا تفسيق ولا تضليل، مع الاجتهاد والتأويل، وإن كان ليس

كل اجتهاد صوابًا، ولا كل تأويل مقبولاً، ولكن كلامنا في ذات المجتهد والمأول.

فمن لم يألُ جهدًا فلا ملام عليه ولا كلام، لا بل يُتحمل منه الدين، ويُتلقى

عنه الهدي النبوي، ويحكم في السنة، على هذا جرى البخاري ومسلم وغيرهما من

أقطاب الحديث والأثر، وهو الصواب، بلا ارتياب. وقد نقل الغزالي في

المستصفي [13] عن الشافعي أنه قال: تقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من

الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم في المذهب (ثم قال) ويدل على

مذهب الشافعي قبول الصحابة قول الخوارج في الأخبار والشهادة، وكانوا فسقة

متأولين، وعلى قبول ذلك درج التابعون - لأنهم متورعون عن الكذب، جاهلون

بالفسق اهـ.

فترى من هذا أن الصحابة قبلوا خبرهم، وما ضرهم تسمية الفقهاء لهم

بالفسقة، لأنه فسق بمعنى مخالفة غيرهم، وهذا الإطلاق اصطلاحي للفقهاء،

وربما رجع الخلاف - في تسمية أولئك فساقًا - لفظيًا، وإلا فيستحيل إرادة الفسق

الحقيقي المانع للشهادة والرواية - كما قدمنا - ومعلوم أنه لا يكون مذهب حجة على

مذهب، ولا عرف برهانًا على عرف، وإنما الحجة والبرهان قواطع الكتاب

والسنة. ولما كان البحث المذكور في غاية من الدقة، ترى الكلام في مطولات

الأصول مضطربًا متشعب الأقوال، حتى اختلفوا لذلك في ماهية العدالة، ويقرب

لمذهب المحدثين فيها قول بعض أهل العراق: العدالة عبارة عن إظهار الإسلام فقط -

مع سلامته عن فسق ظاهره اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

بتشديد الدال المفتوحة أي المنسوبين للبدعة، وإنما آثرنا هذا على تسمية الأكثرين لهم بالمبتدعين؛ لأني لا أرى أنهم تعمدوا البدعة لأنهم مجتهدون يبحثون عن الحق، فلو أخطأوه بعد بذل الجهد كانوا مأجورين غير ملومين، فلا يليق تسميتهم مبتدعة بل مبدعة كما سيمر بك البرهان عليه.

(2)

راجع شرح تقريب النووي صفحة 119.

(3)

تدريب السيوطي صفحة 262.

(4)

كتاب في أصول الحديث للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد (كشف الظنون) .

(5)

مطبوعة مرتين.

(6)

مطبوع مرتين في الهند ومصر.

(7)

مطبوع بدمشق.

(8)

جزء (3) صفحة (247) .

(9)

في النقل عن هذا السيد الإمامي الكبير رحمه الله حجة على متعصبة الإمامية في تفسيقهم مخالفيهم أيضًا.

(10)

من هنا يعلم أن رواة الصحيحين المتكلم فيهم لا يوصفون بالابتداع؛ لأن مسلمًا رحمه الله أوجب أن لا يُروى عن مبتدع، فبالأولى البخاري؛ لأن شرطه أدق، ولذلك قلت في عنوان المقالة (المبدّعون) إعلامًا بأن خصومهم لقَّبُوهم بالمبتدعة، وإلا فهم مجتهدون والمجتهد وإن أخطأ لا يوصف بالابتداع كما أسلفناه، ونبسطه الآن اهـ منه.

(11)

هو عمرو عبيد المتقدم وكلام أيوب فيه من كلام المعاصرين بعضهم في بعض وهو مطرح كما نبه عليه ابن عبد البر في كتاب جامع العلم.

(12)

المُستصفى جزء (1) صفحة (158) .

(13)

جزء (1 (صفحة (160) .

ص: 857