الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد توفيق صدقي
بشائر عيسى ومحمد في العهدين
العتيق والجديد [*]
(5)
(1)
ما يدرينا أنه وبخهم ولم يصل إلينا ذلك مع العلم بأن نفس كتَّاب الأناجيل
اعترفوا بأنهم لم يكتبوا كل ما قاله المسيح أو ما فعله فقال يوحنا: إنه لم يكتب كل
ما فعله المسيح ، وأن أعماله كثيرة جدًّا لا يسعها العالم ، فلا بد أن كثيرًا من أقواله
التي قالها حين فعل هذه الأعمال لم تكتب أيضًا (يو21:25) .
على أن المسيح صدق ما فيها من الشرائع والنبوات فقط كما في إنجيل
متى 5: 17 و18 ، ولم يتعرض للتاريخ الذي فيها بشيء كهذا الذي في إنجيل
متى ، فإن كثيرًا من هذا التاريخ غير صحيح وبعضه خرافي لا يمكن أن يقره المسيح
كقصة شمشون ودليلة (قض 16: 4 - 22) ووقوف الشمس ليشوع (يش 10: 13) وغير ذلك كثير.
(2)
لماذا لم يوبخ المسيح اليهود على الكتب الأبوكريفية (الكاذبة) التي كانت
في الترجمة السبعينية وقتئذ ، وكانت مسلَّمة عند اليهود والنصارى كما هي مسلَّمة
عند الكاثوليك والأرثوذكس إلى اليوم؟ فإن قيل: إنهم ربما لم يكونوا يعتقدون أنها
ملهمة من الله في ذلك الوقت ، قلت: وربما أنهم أيضًا لم يعتقدوا صحة نسبة هذه
الكتب إلى موسى عليه السلام وإذا كانوا يسمونها (كتب موسى) فذلك لأن
أهم ما فيها هو تاريخه وتاريخ أمته عليه السلام كما يسمى تاريخ المسيح وتعاليمه
إنجيله (غل 1:7) مع أنه لم يكتبه بنفسه ، فيجوز أنهم ما كانوا يعتقدون أنها
إلهامية ، ويجوز أنهم ما كانوا يضمونها إلى سفر التثنية في مجلد واحد ، وقد يكون
هذا الضم وهذا الاعتقاد في إلهامها وصحتها إنما نشأ بعد المسيح عليه السلام
في أواخر القرن الأول ، فبدأوا حينئذ يعتقدون أن موسى هو كاتبها لا غيره ، ثم
تبعهم النصارى في ذلك وجاروهم ليستميلوهم لدينهم ولأنهم كانوا منهم.
(3)
لماذا لم يبين المسيح للمرأة السامرية التي سألته عن اختلاف اليهود
والسامريين في جبلي عيبال وجرزيم - لم يبين لها بيانًا صريحًا المحق من المبطل
ولِمَ لَمْ يذم المحرف منهما ويشهّر به؟؟ [1](يو4: 21)
(4)
إن المسيح عليه السلام وبخهم على إبطال شريعة موسى بتقاليدهم
وأنهم يعلمون تعاليم ليست من الله بل من الناس ، وأنهم يفعلون أمورًا كثيرة مثل
هذه (مرقص 7: 6-13) فما المانع من أنه يريد بقوله: (أمورًا كثيرة مثل
هذه) وقوله: (تعاليم هي وصايا الناس) أنهم يكتبون أشياء وينسبونها إلى
موسى عليه السلام مدعين أنها من الله وهي ليست منه ، بل هي من
اختراعاتهم ، وقد سبق أننا قلنا: إن ما عدا سفر التثنية من أسفار موسى الأخرى لم
يكتبه هو بل تعتبر من التقاليد (الأحاديث) المروية بالرواية الشفوية ، ثم كتبت بعدُ
فلعل ذلك هو المراد بقول المسيح: (مر 7: 13) (وأمورًا كثيرة مثل هذه
تفعلون) على أن المسيح عليه السلام لم ينبههم إلى ما وقع في نفس سفر
الشريعة (التثنية) من الخطأ العلمي الصريح كالقول باجترار الأرنب الجبلي
(تث 14: 7) لما ذكرناه هنا في الحاشية من أن هذه الشرائع كانت مؤقتة
وأنها زائلة بالإسلام [2] ، وأن محمدًا سيبين لهم كل شيء كما قال عيسى عليه السلام
(يو16: 12 و13) لعدم استعدادهم في زمن المسيح لقبول ذلك.
هذا وقد اعترف بطرس في رسالته الثانية بأن الناس كانوا يحرفون الرسائل
والكتب ، فقال 3: 16 (كما في الرسائل كلها أيضًا متكلمًا فيها عن هذه الأمور ،
التي فيها أشياء عسرة الفهم يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضًا
لهلاك أنفسهم) والتحريف هنا يشمل المعنوي واللفظي أيضًا ، وتخصيصه
بالمعنوي لا دليل عليه ، فإذا كانوا يحرفون الأشياء العسرة الفهم في كتبهم في زمن
الرسل أنفسهم كما يدل عليه هذا القول فما بالك بغير زمنهم بعد أن ماتوا وذهبوا؟
وقال بولس أيضًا غل 1: 7 (إنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحوِّلوا -
يحرفوا - إنجيل المسيح) ، وهو يدل على أن رغبة الناس في تحريف الإنجيل
كانت قديمة منذ نشوء المسيحية ، ولا ندري أي إنجيل من الأناجيل الكثيرة كان
محبوبًا عند بولس ويسميه (إنجيل المسيح) ولعله كان أحد الأناجيل التي
رفضوها وسموها بالأناجيل الكاذبة.
وجملة القول في هذه المسألة: أن المسلم لا يمكنه أن يثق بشيء مما يسمونه
الآن التوراة والإنجيل، اللهم إلا جل الشريعة الموسوية كما في سفر التثنية وبعض
أقوال المسيح ومواعظه كالتي في الإصحاح 5 و6 و7 من إنجيل متى ، فإننا نرجح
أنها صحيحة غير محرفة ، والقرآن الذي ثبتت صحته بالبراهين القاطعة هو
الميزان الذي توزن به هذه الكتب ، فما صدقه منها كان حقًّا وما كذبه كان باطلاً
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم
بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: 48)[3] .
***
تذييل لهذا الفصل الثالث
وفيه مسألتان:
(المسألة الأولى: في كلمات الله ، وفي تسمية المسيح بالكلمة)
يزعم بعض النصارى أن كتبهم المقدسة لا يمكن تحريفها ولا تبديلها لقوله
تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ
رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَاّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} (الأنعام: 114-115) .
أما كون كتب النصارى واليهود محرفة فهذا لا شك فيه كما سبق بيانه ، وأما
كون التوراة والإنجيل منزلين من عند الله لهداية الناس فهذا أيضًا لا شك فيه ، وأما
زعم أن القرآن لم يقُل بتحريفهما اعتمادًا على مثل الآيتين السابقتين فهو قول باطل
لأن القرآن نص على تحريفهما في عدة آيات: منها قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن
يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ} (البقرة: 75) وقوله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ
هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم
مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 79) وقوله: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} (المائدة: 41) وقوله: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ
وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ} (المائدة: 13)، وقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا
يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ} (المائدة: 15) وغير ذلك كثير وهو
دالٌّ على وقوع التحريف والتبديل في هذه الكتب والزيادة عليها والنقص منها ، وقد
أثبتنا ذلك كله في هذا الفصل ولا يزال الإنسان يطلع - كما قال تعالى - على
خائنة منهم إلى اليوم.
أما الآية السابقة التي تمسكوا بها في عدم تبديل كلمات الله فهاك معناها:
قال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} (الأنعام: 114) ، فهم يعلمون ذلك لكثرة ما في كتبهم من البشائر بمحمد صلى الله
عليه وسلم ودينه وأمته ، ووضوح ذلك فيه بحيث لا يمكن انطباقه على أحد سواه ،
وسيأتي بيان ذلك في فصل البشائر ، ثم قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} (الأنعام: 115) أي تحقق وعده بمجيء محمد عليه السلام وقد ورد هذا اللفظ
(تمت) بهذا المعنى أيضًا في قوله تعالى في آخر سورة هود: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود: 119) وقوله بعد ذلك: {صِدْقاً
وَعَدْلاً} (الأنعام: 115) : أي تحقق هذا الوعد وظهر صدقه وكان ما حدث من مجيء
محمد وشريعته مطابقًا لما أخبر به من قبل تمامًا بلا زيادة ولا نقصان ، فإن
معنى (العدل) المساواة كما في قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} (المائدة: 95)
أي: ما يساويه من الصوم ، فوعْد الله بمحمد تحقق بغاية الدقة والضبط ، وقد
حدث كل ما أخبر به عنه في الكتب السابقة ولم يتخلف منه شيء ، فإن وعد الله لا
يمكن أن يتبدل أو يتغير وليس لأحد أدنى قدرة على إخلاف ما أنبأ به تعالى ،
ومصادمة الحوادث وتغييرها حتى لا توافق وعده فإن كل ما قضاه تعالى لا بد أن
يكون ولو حالت السموات والأرض والجبال دونه؛ ولذلك قال تعالى: {لا مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: 115) أي لا مغير لقضائه ولا مخلف لوعده ، فليس المراد
بالكلمات هنا نفس الألفاظ والعبارات ، بل كل ما قضاه الله تعالى وحكم به وقدَّره فلا
يمكن لأحد أن يمنعه من تنفيذه ، وقد ورد مثل هذا المعنى في قوله تعالى: {سَيَقُولُ
المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ
قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ} (الفتح: 15) فالمخلفون لم يريدوا قط أن
يبدلوا نفس ألفاظ قول الله ، وإنما أرادوا أن يعملوا بخلاف ما أمر به وقضاه ،
فسمى ذلك تبديلاً لكلام الله أي تبديلاً لأمره وقضائه ، بأن لا يخرجوا للقتال مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكلمات الله تطلق على عدة معانٍ ، فقد ترد بمعنى كتبه وشرائعه وقد ترد
بمعنى قضائه وقدره كما بينا هنا ، وقد ترد أيضًا بمعنى مخلوقاته تعالى؛ لأنها
خلقت بكلمة (كن) فكانت ، فهي توجد بمجرد صدور هذا الأمر منه بلا تباطؤ ولا
تأخير، قال تعالى لمريم: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ
كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: 47) ، فبكلمته تعالى خلقت السموات والأرض ، كما
قال داود في أحد مزاميره: (مز 33: 6) ومن ذلك تسمية المسيح بكلمة الله ،
فإنه خُلق بدون أب؛ ليكون آية للعالمين دالة على كمال قدرة الله تعالى على سائر
الممكنات ، ولتنبيه البشر إلى عدم الاغترار بمعلوماتهم وأفكارهم ، وإظهار أنهم لا
يزالون عاجزين عن الإحاطة بأسرار نواميس هذا الكون العظيم وسنن الله فيه ،
وأنه تعالى قادر على خرق العادات ونقض ما يتوهمونه ناموسًا لا يمكن نقضه
لقصر عقولهم ونقص معلوماتهم التي اغتروا بها ، وظنوا أن الخالق تعالى مقيد بها ،
وخصوصًا في ذلك الزمن زمن انتشار الفلسفة اليونانية القائلة -مثلاً- باستحالة
الخرق على الأجرام السماوية وغير ذلك من أوهامهم الباطلة ، التي كانت عقبة في
سبيل العقل البشري تحول دون ارتقائه وتوسعه في العلم والعرفان والإبداع
والاختراع.
فمما كان الناس يعدونه من المستحيلات خلق الحيوان بدون أب ، فأظهر الله
تعالى لهم بمسألة المسيح أن الأمر ليس كذلك ، فاستعدت العقول للبحث والتنقيب
حتى هدى الله الباحثين في المخلوقات إلى أمثال لذلك كثيرة ، فشاهدوا في بعض
أنواع الحيوانات الصغيرة: كقمل النبات مثلاً (Aphides) ما يسمونه بالتولد
البكري (Parthenogenesis) وذلك أن الأنثى تلد بدون تلقيح الذكر ، ويتكرر ذلك
في عدة أجيال من نوعها ، وبعد ذلك يحتاج الجيل الأخير للتلقيح، ومن العلماء
المتأخرين من يقول الآن بجواز حصول ذلك في الإنسان أيضًا وغيره من
الحيوانات الراقية قياسًا على ما شهدوه من أن ما يحصل في بعض أنواع الحيوانات
على سبيل القاعدة ، قد يحصل مثله على سبيل الشذوذ في غيرها ، ومن الجنون أن
يتخذ مثل هذا الشذوذ في المخلوقات دليلاً على ألوهيتها كمن يتخذ المرأة التي لها
أكثر من ثديين إلهة ، ويعبدها لأنه لم يَرَ امرأة أخرى مثلها أو لم يسمع بذلك ،
وكمن يعبد امرأة أحصنت فرجها عن الزنا ولكنها حملت وهي عذراء من زوج لها
عنِّين لم يمسسها بالجماع المعتاد بين صحيحين ، بل بالاحتكاك الخارجي فقط مع
الإنزال ، فظن العابد لها أن ذلك مستحيل مع أن الأمر ليس كذلك بل هو واقع
مشاهد.
فليس المسيح عليه السلام وحده آية دون سائر المخلوقات ، بل هو فقط
من أعجب العجائب وأكبر الآيات {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ
يُوقِنُونَ} (الجاثية: 4) وكما أنه سُمي (بكلمة الله) كذلك سائر المخلوقات سميت
بكلمات الله قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ
الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ
الحَمِيدُ * وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (لقمان: 25-28) الآيات ، وقال أيضًا للدلالة على عظم نعيم الجنة وسعته وبقائه:
{قُل لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا
بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف: 109) فالمراد بكلمات الله في هذه الآيات مخلوقاته تعالى
كما يدل على ذلك السياق فيها ، وسمي (المخلوق) بالكلمة من باب تسمية الشيء
بسببه على سبيل المجاز المرسل: كإطلاق اليد على النِّعمة في قول القائل:
(عظمت يد فلان عندي) أي نعمته التي سببها اليد ، فكذلك مخلوقات الله لما
كونت بكلمات الله سميت (بالكلمات) فآدم والمسيح وسائر البشر هم كلمات الله ،
وإنما اشتهر المسيح بين المسلمين بالكلمة دون آدم مثلاً لإيضاح كيفية خلقه لينفي
عنه اعتقاد النصارى بألوهيته واعتقاد اليهود بأنه ابن زنا [4] ولأنه أحدث من آدم
عهدًا بالنسبة إلينا ، ونعلم من أخباره وأحواله ما لا نعلمه عن آدم ، فهو آية لنا
قريبة وله من المعجزات العظيمة ما يجعله أولى بهذا الاسم من سواه ، فإنه فضلاً
عن كونه خلق بدون أب، تكلم في المهد، وخَلق من الطين طيرًا، وأحيا الموتى،
وأبرأ الأكْمه والأبرص بإذن الله ، فلاجتماع هذه الأشياء كلها فيه كانت تسميته
بالكلمة أظهر من تسمية غيره ، وإن كان الناس كلهم كلمات الله كما تقدم ، انظر مثلاً
خالد بن الوليد فإنه سُمي (سيف الله) لشجاعته العظيمة ولإهلاكه أعداء الله ، فهل
اشتهاره بهذا الاسم يدل على أن غيره غير جدير به؟ وكما أن الله أباد بخالد كثيرًا
من أعدائه فسمي (سيفه) كذلك المسيح خلقه الله خلقًا عجيبًا وأجرى على يديه
معجزات عظيمة وآيات كبيرة ، وبه ظهرت قدرة الله تعالى للناس فسماه لذلك
كلمته مبالغة وإكرامًا له ، كأنه هو نفس الكلمة التي فعل الله بها هذه الأشياء على
يديه ، كما أن خالدًا شبه بالسيف الذي يقطع الله به الأشرار ، وفي الحقيقة ليس لله
كلمة ملفوظة عند إرادة الخلق ولا له سيف محسوس ، وإنما هي مجازات معهودة في
اللغات كلها ، ولمثل ذلك سمي المسيح أيضًا روح الله؛ لأنه يحيي النفوس والجماد
والموتى.
ومن هذه المجازات نشأ غلط النصارى لظنهم أن (الكلمة) شيء موجود
ممتاز عن الله امتياز الأشخاص بعضها عن بعض ، وأن هذه الكلمة هي التي
أوجدت جميع المخلوقات ، فزعموا أن المسيح هو الخالق لكل شيء غلوًّا منهم
وإفراطًا ، مع أن الكلمة ليست شيئًا ممتازًا ، بل لا وجود لها في الحقيقة إلا إذا أريد
بها القدرة ، وهي إحدى صفات الله تعالى وليس من المعقول أن الصفات تكون
أشخاصًا (أو أقانيم) ممتازة بعضها عن بعض قائمة بذاتها ، بل هي صفات لا تقوم
إلا بالذات العلية ، والفرق بينها وبين الذات الإلهية في الكنه والماهية كالفرق بين
الجوهر والعرض والصفة والموصوف ، فكيف إذًا يكون الآب (وهو الله) مثل
الكلمة والروح؟ ولماذا لم تجعل الصفات الأخرى لله تعالى (وهي أكثر من ثلاثة)
أقانيم أيضًا: كالعلم والإرادة والسمع والبصر وغيرها؟
وإذا كان الابن خالقًا لكل شيء فما وظيفة الأب إذًا؟ وأي شيء خلقته روح
القدس إذا كانت هي المرادة بقول داود 33: 6 (بكلمة الرب صنعت السموات
وبنسمة فيه كل جنودها) كما يزعمون؟ فما هي الجنود التي صنعتها الروح إذا
صح أن كل شيء بالابن كان وبغيره لم يكن شيء مما كان ، كما قال يوحنا:
(1: 3) ؟
ومن المجاز أيضًا إطلاق كلمة (وحي) على (المُوحى) كما في أشعياء
(13:1) وإطلاق كلمة (الخلق) على (المخلوق) والإرادة على الشيء المراد
كما في قول المسيح لو22: 42 (إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس ، ولكن
لتكن لا إرادتي بل إرادتك) أي ليكن الشيء الذي تريده أنت لا ما أريده أنا ،
وبمثل تعبيرنا نقل هذا القول مرقص في إنجيله (14: 36) .
ومن المبالغة المعتادة تسمية الشيء الجميل بالجمال والحَسَن بالحُسْن ونحو
ذلك كثير ، ومن الناس من سُمي (رحمة الله) و (نعمته) و (حزيئيل) أي بصرُ
الله و (عزري) أي عون الله ، وقد سمي أحد أنبياء بني إسرائيل (بحزقيال) ،
ومعناه (قوة الله) وهو أبلغ في الدلالة على القدرة على الخلق من تسمية المسيح
(بكلمة الله) فإن الكلمة تطلق على معانٍ أخرى منها - كما قلنا - أحكام الله
وشريعته ، ولذلك سميت الوصايا العشر بالكلمات العشر (تث 10: 4) فهل يصح
أن يقال من أجل ذلك: إن (قوة الله) أو قدرته تجسمت حقيقة ، ونزلت إلى
الأرض ، وظهرت للناس كما قال يوحنا في حق المسيح؛ لأنه سمي بكلمة الله؟
(يو1:14) ولماذا اختص حزقيال بهذا الاسم دون سائر الأنبياء؟ وأي فرق بينه
وبين تسمية المسيح بالكلمة؟ الحق أن النصارى أخذت مذهبها في (الكلمة) من
مذهب الرواقيين فيها فإن مذهبهما واحد ، والرواقيون هم أتباع الفيلسوف
(زينون) اليوناني الذي عاش من سنة 340 إلى 260 قبل الميلاد ، وكان يعلِّم
فلسفته في رواق شهير بأثينا ، وكان يعتقد أن الكلمة (Logos) هي الشيء العامل
في الكون والخالق له والكائن فيه ، ومن ذلك نشأ مذهب النصارى في القرون
الأولى ، فقالوا: إن الكلمة صارت جسدًا وحلت بين الناس ، وكانت موجودة في
الأزل ، وهي التي خلقت كل شيء!! وبذلك تقربوا من الرومانيين حتى دخلوا في
دينهم أفواجًا أفواجًا؛ لأن الفلسفة اليونانية كانت هي السائدة على عقولهم ومعتقداتهم؛
ولذلك ترى أن المسيحية أدخلت فيها أشياء كثيرة من أفكار اليونانيين والرومانيين
حتى أن تعظيم يوم (الأحد) بدل (السبت) مأخوذ عنهم كما ستعلم.
ويجوز أن المسيح ما كان يسمى بالكلمة في عصره ، وإنما سمي بذلك فيما بعد
في إنجيل يوحنا أخذًا عن الفلسفة اليونانية ، ولما جاء القرآن أخذ هذا الاسم عن
النصارى وأراهم كيف يمكن تحويل المراد منه عندهم إلى معنى صحيح غير ما
يفهمونه ، يناسب عقيدة القرآن في المسيح عليه السلام من أنه عبد الله ورسوله
المخلوق بكلمة الله وقدرته ، فيكون ذلك من ضمن أسباب تسميته على انفراد بالكلمة
في القرآن.
هذا واعلم أن امتياز المسيح أو غيره ببعض الأشياء أو اختصاصه بها لا يدل
على أنه أفضل من جميع الأنبياء ، كما أن امتياز إبراهيم بكونه خليل الله وموسى
بكونه كليم الله وبكثرة الآيات والمعجزات وعظمها ووضوحها لا يدل على أنه أفضل
من المسيح مثلاً ، بل إن اشتهار الخليل بهذا الاسم لا يدل على أن ليس هناك لله
خليلاً مثل إبراهيم ، أرأيت إذا فاق أحد التلاميذ في علم ما من العلوم جميع أقرانه
فهل يستلزم ذلك أنه أعلمهم في كل شيء وأولهم وأرقاهم؟ كلا!!
***
(المسألة الثانية: في نقض النصارى ناموس الله)
من العجيب أن النصارى تركوا قول المسيح بعدم نقضه الناموس (متى
5:17) واتبعوا أهواءهم وأقوال بولس وأضرابه حتى أبطلوا لأجلها جميع شرائع
التوراة ، ولم يعملوا بواحدة منها كما أمروا في أسفار موسى ، فتراهم مثلاً تركوا
تعظيم اليوم السابع الذي باركه الله وقدسه (تك 2: 3) وأمرهم بحفظه (تث 5:
14 وخر 13: 15 و35: 2 و3) وجعله فرضًا أبديًّا عليهم (خر 31: 15 -
17) وأوجب عليهم أن لا يعملوا أي عمل فيه وأن لا يشعلوا نارًا في مساكنهم ،
وأن يقتلوا كل من خالف هذه الأوامر (خر 35: 2 و3) فاستبدلوا اليوم الأول
(الأحد) باليوم السابع ، ومع ذلك لم يحفظوه أيضًا كما كان يحفظ السبت موسى
وعيسى والأنبياء.
ففي أى موضع من الأناجيل أبدل المسيح (أو تلاميذه) يوم السبت بالأحد
وأجاز لهم العمل فيه ومخالفة أوامر التوراة؟ ولماذا لم يقم عليه السلام من الموت
في اليوم السابع (السبت) حتى يتفق سبت النصارى مع سبت اليهود الذي قدسه
الرب قديمًا؟ أو لماذا لم يقدس الله يوم الأحد منذ البدء ويجعله هو يوم الراحة للأمم
ليكون ذلك إشارة إلى قيامة المسيح المزعومة في ذلك اليوم الذي لم يعرف تعظيمه
في الكتب الإلهية القديمة ، بل كان يعظمه بعض الوثنيين الذين خصصوه لعبادة
الشمس - أعظم آلهتهم - ولذلك سموه ، ويسمى عند بعض الأمم للآن
(يوم الشمس)(Sunday) فالنصارى تركوا أوامر الله التي في التوراة واتبعوا
الوثنيين وعظموا يومهم!!
وكذلك تركوا الختان وهو فرض عليهم في الشريعة الموسوية (لاويين 12:
3) وجعله الله علامة عهد أبدي بينه وبينهم ، وأوجب قتل كل من نكث هذا العهد
ولم يختن في لحم غُرلته (تك 17: 9-14) وقد ختن عيسى عليه السلام
نفسه (لو2: 21) ولكن بولس - وهو لم ير المسيح في حياته - قال لهم: (غلا
5: 2) (إن إختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئًا) وقال: (كو2: 16) فلا يحكم
عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت. فهم لذلك تركوا
جميع أحكام الناموس ولم يبالوا بها ، مع أن المسيح لم يأت لينقضها - كما قال -
ولكنهم رجحوا أقوال بولس هذه على أقوال الله ورسله وتمسكوا بتأويلات ضعيفة
ركيكة مضحكة؛ ليعتذروا بها عن إبطال تعظيم اليوم السابع والختان في لحم الغرلة
وغيرهما من أحكام الله ، مع أن حكمهما كان عليه فرضًا أبديًّا كما بينا ، فلا أدري
كيف إذًا أبطلوه وإذا كانوا هم أنفسهم لا يعملون بأحكام هذه الكتب فما فائدة إيمانهم
بها؟ ولماذا يريدون أن يعمل المسلمون بهذه الشرائع التي هجروها وأبطلوها؟! وما
الداعي إلى المناقشة بيننا وبينهم في هذه الكتب والحال أنهم قد نقضوها ولم يعبأوا
بها؟
ومن أغرب أمورهم أن كل كلام لم يوافق أهواءهم لجأوا إلى تأويله ، وباب
التأويل عندهم واسع جدًّا ، يدخل فيه كل مكابرة وتحريف للأصل ، ولا أدري أي
كلام كان يمكن لموسى أو غيره أن يقوله لهم حتى يوقف سير تأويلاتهم هذه
الفاضحة المخزية ، وحتى يعترفوا بأنهم مكابرون معاندون لله ولشرائعه؟
فانظر مثلاً إلى تأويلهم في مسألة حفظ اليوم السابع (السبت) ومسألة الختان
الجسداني تَرَ العجب العُجاب الذي تضحك منه الثكلى ، فما أعجب عقولهم وما
أغرب أفهامهم ، والله لولا أننا نراهم بأعيننا ما صدقنا بوجود أمثالهم بين البشر.
وقد غرَّ طائفة المبشرين ما وصلت إليه أوربة من العلم والمدنية مع أنها ما
وصلت إلى ذلك بمثل هذه الأفكار القسيسية ولا بعقائدهم الدينية المصادمة للبداهة
العقلية، بل وصلت إلى ذلك باتباع أحكام العقل والحس والوجود والدرس والبحث ،
وبعد أن نبذت الخزعبلات والجمود وهذا الدين وراءها ظِهْريًّا ، وإلا فقل لي بأبيك
في أي شيء يتفق الدين الذي يأمر بالابتعاد عن الدنيا وزخرفها مع تلك المدنية
الأوربية المادية؟ وأي شيء تعمله دول أوربة اليوم وفق تعاليم الدين المسيحي؟
الحق أنه لا يوجد بينهم وبين المسيحية علاقة تذكر إلا بالاسم فقط كما لا يخفى على
أهل البحث والنظر ، ولا تنس أن أكثر أهل العلم في أوربة ماديون ملحدون ، فكان
الواجب على جماعة المبشرين أن يهدوهم إلى دينهم ويحثوا أممهم على العمل به
قبل أن يأتوا إلى المسلمين ، وبعد ذلك يعمل هؤلاء المبشرون أنفسهم بناموس موسى
ثم يدعون المسلمين للأخذ بهذه الكتب المهجورة من جميع أصناف الناس حتى
أتباعها.
فإن قيل: إذا كان بعض الشرائع حكمها أبديًّا في شريعة موسى فكيف إذا نسخ
في شريعتنا الإسلامية؟
فالجواب:
(1)
نحن لا نسلم بجميع ألفاظ هذه الكتب؛ إذ يجوز عندنا أن بعضها زيد أو
تحرَّف سهوًا أو قصدًا - كما بينَّا - ولا يخفى أن اليهود كانوا يظنون أنهم وحدهم
شعب الله الخاص ، وأن دينهم وملكهم باقٍ إلى الأبد ، فلا عجب إذا دخل في كتبهم
شيء من هذه الأفكار المتعلقة بدوام ملكهم ودينهم ومدينتهم (أورشليم) إلى الأبد كما
قيل عنها في كتاب أرمياء: (31: 38 - 40)(لا تقلع ولا تهدم إلى الأبد) ،
وليلاحظ القارئ أن لفظ الأبد بالنسبة للأحكام يندر وجوده في سفر التثنية وهو
السفر الذي نرجح سلامته من الفساد الكبير كما سبق.
(2)
لعل دوام دينهم كان مشروطًا باستقامتهم وحفظهم له ولعهد الله ، فإذا
نقضوا عهد الله نقض الله أيضًا عهدهم وأبطل دينهم كما فعل بملكهم الذي علق
دوامه على صلاحهم وتقواهم - كما بيناه سابقًا - ولذلك قال في أرميا (33: 20
و21) (إن نقضتم عهدي...... فإن عهدي أيضًا مع داود عبدي ينقض فلا يكون
له ابن مالكًا على كرسيه ومع اللاويين الكهنة خادمي) أي يبطل ملكهم وشريعتهم
(راجع أيضًا 2 أي 7: 19 - 22 ولا 26 وتث 28 وغير ذلك) .
أما إذا استقاموا وكان الله -حقيقة- وَعَدَهم ببقاء بعض أحكام شريعتهم إلى
الأبد فمن الجائز أن الله تعالى ما كان لينسخ هذه الأحكام ، ويبقيها في الشريعة
الإسلامية كما هي أو مع بعض تحوير فيها لا يغير جوهرها ويزيد عليها
ما شاء ويُنقص منها ما لم يكن حكمه أبديًّا.
لكن الله تعالى علم أنهم لن يستقيموا ولا بد أن ينقضوا عهده ، فقضى في علمه
الأزلي أن يبعث رسولاً من إخوتهم بني إسماعيل بشريعة غير شريعتهم ، وأخبرهم
بذلك وأوجب عليهم اتباعه حينما يبعث (تث 18: 15 - 21) وقد ظهر
تمردهم وعصيانهم في زمن موسى نفسه حتى سماهم (شعبًا صلب الرقبة) لشدة
عنادهم (تث 6: 6) وأنذرهم بالإبادة إذا عبدوا غير الله وعصوا أوامره
(تث 8: 19 و20) وقد كان ذلك كله فعصوا الله فأبادهم ونسخ دينهم بدين
الإسلام ، وأعطى أرضهم التي كانوا وعدوا بها إلى الأبد (تث 4: 40) للمسلمين
الذين قال فيهم المسيح لليهود: (متى 21: 43) (إن ملكوت الله ينزع منكم
ويعطى لأمة تعمل أثماره) ولا يصح أن يراد بذلك أمة الرومان فإن الأرض
المقدسة كانت إذ ذاك خاضعة لهم ، ولم تكسبهم المسيحية شيئًا جديدًا في تلك الأرض
التي بقيت في أيديهم مؤقتًا حتى أخذها الإسلام منهم ولا تزال تابعة له إلى اليوم.
فكأن الرومانيين أخذوها من اليهود ونزعوها منهم لا لأنفسهم بل ليسلموها
للمسلمين (العرب) أصحاب الحق فيها بعد اليهود ، فإن الله تعالى وعد إبراهيم بأن
تكون هذه الأرض له ولنسله ملكًا أبديًّا (تك 17: 8) فوهبها أولاً لإسحاق (تك
17: 21 وخر 6: 4 ومز 105: 9 - 11) ولما نزعها من يد نسله - لعدم
وفائهم بعهد الله - أعطاها لبني إسماعيل (العرب) الذين جعلهم الله أمة كبيرة (تك
17: 20) وصارت يدهم على الكل (تك 16: 12) وبذلك أبقى أرض
الموعد في نسل إبراهيم إلى الأبد كما وعد تعالى.
أما الرومانيون فهم ليسوا من نسله وليسوا أهلها ، بل كانوا كالمحتلين لها
مؤقتًا إلى زمن العرب أربابها بوعد الله ، فامتلأت بهم للآن وستبقى كذلك إلى الأبد
كما وعد الرحمن (انظر أيضًا دا 2: 44 و7: 18 و27) وهم قديسو العلي كما
سماهم دانيال.
(3)
لعل المراد (بالأبد) الأبد النسبي كقولك لشخص: (افعل ما أمرتك به
دائمًا أبدًا) فالمراد أنه يفعله ما دام حيًّا ، فإذا مات فلا معنى لامتثال هذا الأمر ،
فكذلك قول الله لهم: (افعلوا كذا وكذا إلى الأبد) : معناه أن يستمروا على فعله ما
داموا أمة حية قوية ذات وجود ممتاز ، فإذا ضعفت أمتهم وتبددت وماتت
فلا يمكنهم أن يمتثلوا هذه الأوامر بعد أن يتلاشى وجودهم المستقل.
فاتباع الشريعة الموسوية كان واجبًا على اليهود إلى أن تلاشى استقلالهم
ومُحيت مدينتهم وهيكلهم بعد المسيح ، وتبددوا في الأرض واندمجوا في الأمم
الأخرى ، ولم يبق لهم وجود ممتاز حتى صاروا كالشخص الذي مات وتفرقت
أجزاؤه، ولذلك قال المسيح قبل أن يحصل ذلك: إنه ما جاء لينقض شريعتهم بل
ليكملها ، وأنه لا يزول حرف واحد منها حتى يكون أو يكمل الكل (متى 5: 17
و18) أما إذا أُكملت هذه الشريعة وتبددت الأمة اليهودية وزالت دولتهم ولم يبق
من مدينتهم حجر على حجر (مت 24: 2) فحينئذ يكون تكليفهم بهذه الشريعة
كتكليف الميت بأي عمل بعد موته.
فالإسلام لم يأت إلا بعد أن أكمل الناموس وبعد أن ماتت الأمة اليهودية موتًا
تامًّا ، حتى لم تتم شريعة القرآن إلا بعد أن محي كل أثر من القوة كان لليهود في
بلاد العرب التي تحصَّن فيها بعضهم بعد تشتتهم. فمجيء محمد صلى الله عليه وسلم
بالإسلام كان إذًًا دليلاً على فناء الأمة اليهودية وانمحاء شريعتها وناموسها، ولذلك
قال يعقوب لبنيه إنباءً عما سيحدث في آخر الزمان (تك 29: 1 و10) (لا
يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون [5] وله يكون
خضوع شعوب) فإذا جاء (شيلون) وهو الإسلام (أو السلام كما قالوا) زال
ملكهم وشرعهم أما المسيح فما جاء ليزيل شريعتهم ولا علماءها.
ومما يدلك على أن (الأبد) في التشريع هو الأبد النسبي قول الناس: (فلان
حكم عليه بالسجن المؤبد) ، ويريدون السجن مدة الحياة. على أن الأبد المطلق لا
يمكن أن يكون مرادًا في الشريعة الموسوية بأي حال من الأحوال؛ لأنه من المعلوم
لجميع الأنبياء أن الوجود في هذه الأرض ليس مستمرًّا إلى الأبد ، بل سينقطع بقيام
الساعة ، فلا يمكن أن يكلفوا البشر بشيء إلى الأبد المطلق ، لأن يوم القيامة سيزيل
كل ذلك ، وعليه فالأبد هو قطعًا الأبد النسبي [6] ولا فرق بين حمله على يوم القيامة
(الساعة العامة) أوعلى موت الأمة وفنائها وانمحاء كل مشخصاتها ومميزاتها
(في الساعة الخاصة) فإن من مات فقد قامت قيامته كما ورد في الأثر.
هذا هو جوابنا على هذا الإشكال ، أما النصارى فلا يمكن أن يجيبوا عن هذه
الأحكام المؤبدة في الشريعة الموسوية بمثل هذا الجواب؛ لأنهم:
(أولاً) لا يسلمون بتحريف هذه الكتب ولا بدخول بعض الأفكار الشائعة بين
اليهود فيها ، كما دخل في العهد الجديد بعض خرافات ذلك العصر المنتشرة بين
الناس مثل مسألة دخول الشياطين في الإنسان [7] وخروجهم منه إلى غيره وإلى
الحيوانات الأخرى وتكلمهم فيه وتسببهم في بعض أمراضه الجسدية والعقلية.
(وثانيًا) أنهم لا يقولون بجواز نسخ الشرائع الإلهية عمومًا.
(وثالثًا) أن المسيح لم يأت لينقض الناموس خصوصًا بل ليكمله ، فيجب
عليهم إذًا اتباع كافة أحكام الشريعة الموسوية وعدم تبديل حرف واحد من حروفها ،
وأن يتركوا آراء بولس وفلسفته العجيبة التي تركوا لأجلها حكم الله!!
أما المسلمون فإنهم يقولون بتحريف هذه الكتب وعدم التعويل على كل لفظ
من ألفاظها كما بيناه وبنسخ بعض أحكامها ، كما قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ
أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 79) ، وقال في حق محمد صلى الله عليه
وسلم: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157) ،
وقال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى
الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} (النحل: 124)، وقال:] قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً
عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَاّ مَا
حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا
لَصَادِقُونَ ((الأنعام: 145 - 146)[8] .
فالمسلمون إنما تركوا شريعة الله الموسوية لأوامر صريحة في كتابهم الإلهي
وأما النصارى فتركوها لغير أقوال المسيح نفسه القائل: إنه لم يأت لينقضها بل
ليكملها.
ومما يزيدك يقينًا بأن قول المسلمين بالتحريف في نفس مسألة الأبد [9] هذه
وفي غيرها ليس أمرًا نظريًّا ظنيًّا بل هو حقيقة واقعية ، ما جاء في رسالة بطرس
الأولى قال فيها 1: 23: (مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى بكلمة
الله الحية الباقية إلى الأبد) ، فقوله:(إلى الأبد) لا يوجد باعترافهم في أقدم
النسخ وأصحها التي عثروا عليها ، راجع الترجمة العربية المطبوعة سنة 1909
ميلادية في المطبعة الأمريكانية في بيروت، تجد أن هذه العبارة موضوعة فيها بين
قوسين للدلالة على ما قلنا كما ذكروا في مقدمة هذه النسخة ، وهذه إحدى التحريفات
التي يزعمون أنها لا تتعلق بمسائل هامة فما أكبرهم من مكابرين!!
وكيف بعد ذلك يمكننا أن نثق بأي شيء من نقلهم أو من كتبهم إذا كان
التحريف فيها من العادات الملازمة لقدمائهم؟ وكيف نأمن عليها من تلاعبهم
وإفسادهم لها في غير هذه المواضع التي ظهرت لنا؟ وهل لا يدل انتشار مثل هذه
التحريفات في نسخها على صحة قولنا: إن هذه الكتب في الأزمنة القديمة كان
يسهل على أصحابها تبديلها وتحريفها؟
ومن العجيب أنك ترى النصارى بعد ذلك يدعون المسلمين لترك دينهم واتباع
آرائهم وأهوائهم المخالفة لما جاء به موسى وعيسى وسائر أنبياء بني إسرائيل!!
فأي محاربة لله ولرسله ولكتبه أكبر من ذلك؟ وهل بعد ذلك يعقل أنهم به مؤمنون؟
وقد بينا لك فيما سبق أن عقائدهم لم يأت بها النبيون وأنهم فيها لأحكام العقل
هادمون، وقد أريناك هنا أنهم لشريعة الله محاربون ولكتبه محرفون! ! فبأي شيء
من دين الله بعد ذلك يتمسكون وإليه يدعون؟ وبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟
(يتلى)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) تابع لما نشر في الجزء السابع ص 494 بقلم الدكتور محمد توفيق صدقي.
(1)
حاشية: مما قاله عيسى عليه السلام لهذه المرأة السامرية كما في إنجيل يوحنا 4: 21 (يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب) ، وهذه العبارة تتضمن الإشارة إلى الديانة الإسلامية التي تجيز السجود لله في كل مكان ، والقبلة فيها إلى مكة لا إلى أورشليم ولا إلى غيرها ، واليهود والسامريون الذين أسلموا صاروا يعبدون الله متجهين إلى الكعبة ، وهذه القصة السامرية تدلنا على السبب الحقيقي الذي جعل عيسى لا يبالي بالتصريح ببيان المكان الذي ينبغي أن يسجد فيه؛ لأنه علم أن الشريعة الموسوية في هذه المسألة زائلة ، والشريعة الباقية التي ستأتي يسجد بحسبها الناس في كل مكان وإلى غير أورشليم ولغير جبل السامريين ، وهذا السبب بعينه هو الذي حمل عيسى على عدم بيان الكتب الأبوكريفية وغيرها التي يتخبط في شأنها النصارى إلى الآن؛ لأنه علم أن جميع هذه الكتب ستستبدل بكتاب (الفارقليط) الذي قال فيه يو16: 12 و13: (إن لى أمورًا كثيرة أيضًا لا قول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن ، وأما متَى جاء ذاك الروح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية) ولا يصح حمل هذه العبارة على (روح القدس) كما تدعي النصارى؛ لأنه هو عين الله تعالى كما يزعمون ولا معنى حينئذ لقول المسيح: (لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به) ولم يأتهم روح القدس بشيء لم يكن في زمن عيسى أو كان حمله شاقًّا عليهم ، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يتكلم بما يسمع من وحي الله إليه [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى] (النجم: 3-4) وهو الذي بين للناس الحق من الباطل في أمر هذه الكتب وقال قرآنه:
[فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ](البقرة: 79) وقال: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ](المائدة: 15) وشرع للناس شرائع كثيرة فكأن عيسى عليه السلام لما علم أن هذه الكتب سيحل محلها القرآن الذي قرب مجيئه وجاء هو مبشرًا به ، وأنها ليست باقية إلى الأبد بل سيستعاض عنها قريبًا بالقرآن الذي سيبين أمرها ، لم يهتم كثيرًا بتبيين صحيحها من فاسدها بل أفرغ جهده كله في تبيين حقيقة الدين وروحه وجوهره ، وفي أن الله لا يبالي بالصور والظواهر بل بالقلوب والنفوس ، وبالغ في إيضاح هذه المسائل حتى يردّ اليهود عن غلوهم في اعتبار ظواهر الدين وقشوره (أو طقوسه ورسومه كما يعبرون) ليعد النفوس لقبول الشريعة الإسلامية المتوسطة بين الإفراط والتفريط ، والتي جمعت بين مطالب الروح والجسد وبين الظواهر والبواطن كما قال تعالى:[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ](البقرة: 143) وقد ترك عيسى عليه السلام بيان ما حل بهذه الكتب من الفساد لعلمه أنها كادت تنتهي وظيفتها، وأنها زائلة قريبًا ، وأن العبرة بجوهر الدين لا بقشوره كما ترك الإفصاح عن الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه واختلف فيه اليهود والسامريون؛ لكونه يعلم أن الشريعة الآتية الباقية ستعين موضعًا آخر غير موضع اليهود والسامريين ، وأن أمثال هذه الاختلافات الجزئية ستزول بطبيعة الحال ، ويكفي أن يأخذ أتباعه بلب الدين وجوهره ولا يضيعوا أوقاتهم في الخلاف في جزئياته وقشوره حتى تنطبع نفوسهم على الأخذ بالروح والحقيقة ، لا بالظواهر التي كانوا قد أهملوا كل شيء في سبيل العمل بها، ومتى استعدت النفوس لقبول الحق وإيفاء الروح والجسد مطالبهما من غير إفراط ولا تفريط جاء محمد عليه السلام بالشريعة الوسطى ، وأرشد الخلق لجميع الحق ، كما بشرهم عيسى عليه السلام من قبل فتختم به حينئذ النبوة (دا 9: 24) ، ويحفظ الله دينه إلى الأبد (دا 2: 44) ولو كان عيسى- عليه السلام يعلم أن كتب اليهود ستبقى إلى الأبد لما ترك الناس حيارى في شأنها ، ولوجب عليه تبيين صحيحها من فاسدها حتى لا يبقى أتباعه في أمرها إلى الآن ضالين ، فيرفض بعضهم ما يأخذ به الآخرون ويعتقدون اليوم بكتاب منها أو بإصحاح ، فيظهر لهم غدًا أنهم كانوا مخطئين ، فهم يتلمسون الحقيقة ولا يجدونها إلا بالأخذ بالإسلام، وحينئذ يستريحون من عنائهم في هذه الكتب المجهول أصلها ، هداهم الله إلى سواء السبيل. هذا ولما كان مجيء الساعة التي يسجد فيها الناس لغير قبلة أورشليم وقِبلة جبل السامريين محققًا وأمرًا مقضيًّا من الله ولا بد من وقوعه قال المسيح يو4: 23: (ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب) فكأن الساعة موجودة بالفعل وقت الكلام لتحقق إتيانها ، ولذلك قال:(وهي الآن) وهذا يشبه قوله تعالى: [أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ](النحل: 1)، وورد أيضًا في كتاب حزقيال مثل هذا فقال 39: 1-8: (وأنت يا ابن آدم تنبأ على جوج وقل هكذا قال السيد الرب - إلى قوله - ها هو قد أتى وصار يقول السيد الرب هذا هو اليوم الذي تكلمت عنه) ، مع أن هذا اليوم لم يكن وقتئذ أتى ولا صار فيه شيء مما أنبأ به ، وإنما قال ذلك لتحقق حصوله فكذلك قول المسيح عليه السلام السابق ، وقد قال مثل ذلك أيضًا في يوم القيامة كما في إنجيل يوحنا هذا 5: 25 و28 فورد فيه ما يأتي (الحق الحق أقول لكم أنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون)، إلى قوله: فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته فقوله (وهي الآن) لتحقق إتيانها ولقربه بالنسبة لما مضى من الأزمان ، وكذلك قول متى 26: 64: (وأيضًا أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا على يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء) ، مع أنه إلى زمننا هذا لم يأتِ المسيح على سحاب السماء.
(2)
حاشية: جاء الأمر بالإسلام لله في أقدم كتبهم فقال في سفر أيوب: (ويظن أنه كان قبل إبراهيم) 22: 21 (تعرف به وأسلم)، وفي العبري وشلام أي كن مسلمًا وهذا مصدق لقوله تعالى:[وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ]
(البقرة: 132) .
(3)
حاشية: المهيمن هوالرقيب والشاهد ، فالقرآن المنزل من عند الله الرقيب على كل شيء يشهد على هذه الكتب بما فيها من الحق والباطل ، وبما يدخلها من الفساد ، فيقرر ذلك لنا ويعترف به اعتراف الشاهد الذي رأى وعلم بما يقرره فهو عليها رقيب شهيد ، يحق حقها ويبطل باطلها ، وكذلك الأمة الإسلامية تشهد وستشهد على من سبقها من الأمم الأخرى في الدنيا والآخرة بما أخبرنا الله تعالى من أحوالهم مع أنبيائهم ، فالمسلمون وكتابهم رقباء شهداء على غيرهم وعلى كتبهم بما أعلمهم الله تعالى كالشهيد الذي يرى ، فيقرر ويعترف بما يوقن به ، ولذلك قال تعالى:[لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً](البقرة: 143)، فالشهادة هي الإقرار والاعتراف بما يرى أو يعلم باليقين كأنه مشاهد ومن ذلك قول المسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول
الله) .
(4)
راجع كتابنا (الخلاصة البرهانية على صحة الديانة الإسلامية) المطبوع لأول مرة سنة 1316 هجرية.
(5)
راجع بحث لفظ (شيلون) في فصل البشائر الآتى.
(6)
مما يدل على أن (المؤيد) قد يكون مؤقتًا قوله تعالى في القرآن الشريف: [وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ](الممتحنة: 4) وعليه فجميع الأحكام المؤيدة في الشريعة الموسوية هي مؤقتة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم ، كأن الله قال لهم:(افعلوا كذا وكذا أبدًا حتى يأتيكم رسولي الذي أخبرتكم به فأطيعوه) أعني أن المراد بالأبد الدهر الطويل أو الأبد النسبي كما في المتن.
(7)
حاشية: قول القرآن الشريف: [لَا يَقُومُونَ إِلَاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ](البقرة: 275) لا يقتضي وجود ذلك بالفعل في الخارج فإن من المشبه به ما لا وجود له إلا في الذهن والخيال ، كقوله تعالى:[طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ](الصافات: 65) وكقول الشاعر:
…
...
…
أيقتلني والمشرفيّ مُضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فكذلك قول القرآن هذا فإن المشبه به فيه هو من متخيلات العرب وسائر الأمم ، ويراد به التشنيع والتقبيح ، ومثله يوجد في أعظم الكتب العلمية في أية لغة كانت ، ولا يستفاد منه أن الشيطان له هذا التأثير في الإنسان ولذلك قال تعالى:[إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ](الحجر: 42) ونحوه كثير في القرآن ، ومن العجيب أن القرآن يذكر معجزات المسيح مرارًا وتفصيلاً ومع ذلك لم يذكر منها (إخراج الشياطين) وجميع الأناجيل مفعمة بها حتى الأبوكريفية وأذهان الأمم ممتلئة بها فكيف سلم القرآن من هذه الخرافات الشائعة بين جميع الناس حتى أهل الكتاب لولا أنه وحي الله؟
(8)
حاشية: يفهم من هذه الآية الشريفة حِلّ بعض أجزاء من الشحم لليهود ، ولكن الذي يفهم من سفر اللاويين (3: 16 و17 و7: 23 - 25) هو تحريم كل جزء من أجزاء الشحم فلا بد أن يكون هذا من تحريف الكهنة ليأخذوا كل الشحم من الناس بدعوى إيقاده على المذبح (كما في لا 3: 11) ثم يبقوا منه شيئًا لأنفسهم ، أو يكون هذا الحكم نسخ فيما بعد في زمن موسى أو غيره من أنبياء بني إسرائيل (انظر نحميا 8: 10) كما حرموا استرقاق العبراني مطلقًا بعد موسى بسنين عديدة وكان مباحًا لهم في زمنه (تث 15: 12 - 18) أو أنه حصل خطأ في هذه الشريعة أثناء نقلهم لها في تلك العصور المظلمة الطويلة ، أو أثناء ارتدادهم عنها لعبادة الأصنام مرات عديدة في سنين كثيرة ، ولو أراد أنبياؤهم إصلاح ذلك حينما يرجعون إليها لعارضهم الكهنة وغيرهم لمصلحتهم الشخصية ولسفكوا دماءهم فإنهم كثيرًا ما قتلوا الأنبياء والمرسلين (انظر متى 23: 30 - 37) كلما أرادوا إصلاح أحوالهم وأمورهم ولا يستبعدنّ القارئ وقوع مثل هذا الخطأ في هذه الكتب مع كثرة الأنبياء فيهم ، فقد وقع فيها غيره سهوًا أو قصدًا مما بيناه ومما لم نبينه كمسألة اجترار الأرنب الجبلي (لا 11: 6) ومسألة برص الثياب وبرص البيوت (لا 13 و14) ولعل هذه المسألة الأخيرة هي أيضًا من وضع الكهنة لمصلحة لهم فيها ، ولم يتمكن الأنبياء من إزالتها كما لم يمكنهم منعهم عن عصيان الرحمن وعبادة الأوثان والذي يدلك على أن بعض الشحم أحل لهم كما قال القرآن ، وأن النص على تحريم الكل إما أنه محرف أو منسوخ قول سفر التثنية:(وهو أصح هذه الأسفار على مذهبنا) في نعم الله على بني إسرائيل بعد خروجهم من أرض مصر ما يأتي تث 32: 10 (وجده) أي إسرائيل والمراد بنيه) في أرض قفر وفي خلاء مستوحش خرب - 12 هكذا الرب وحده اقتاده وليس معه إله أجنبي 13 أركبه على مرتفعات الأرض ، فأكل ثمار الصحراء وأرضعه عسلاً من حجر وزيتًا من صوان الصخر 14 وزبدة بقر ولبن غنم مع شحم خراف وكباش وتيوس مع دسم لب الحنطة ودم العنب شربته خمرًا) ، فإذا كان كل الشحم محرمًا عليهم كما في سفر اللاويين فكيف إذًا يمن الله عليهم في سفر التثنية وهو آخر الأسفار الموسوية وأصحها بإطعامهم وهم في البرية شحم الخراف والكباش
والتيوس؟ ألا يدل ذلك على صحة قول القرآن الشريف في هذه المسألة وخطأ كتبهم الأخرى فيها؟ وإلا فكيف يمكنهم التوفيق بينها لإزالة هذا التناقض؟
والعبارة الأخيرة من سفر التثنية وكذا غيرها (تث 18: 4) تدل على حل الخمر لهم ، وإن كان شربها حرِّم على الكهنة فقط عند دخولهم خيمة الاجتماع (لا 10: 8 - 11) وكذلك المسيحية فيها ما يدل على حلها للناس (راجع يو2: 1 - 11 ولو22: 14 - 23) ولذلك فإنا نفخر بأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي حرم الخمر تحريمًا باتًّا ، وكذلك سائر الخبائث ، وأحل الطيبات جميعًا ولولا النصارى لما انتشر شربها بين المسلمين فإنهم هم الذين حملوها إلينا مع ما حملوه من موبقات مدنيتهم الأخرى: كالانتحار والقمار والربا والرقص والخلاعة والفسق والفجور أما لفظ السَّكر (بفتح السين) الوارد في القرآن في سورة النحل (16: 67) فالأصح أنه سُكْر الفاكهة (بضم السين) المسمى عند الإفرنج (Laevulose) ، أوهو لغة في السكر (بضم السين) مطلقًا ، فإن كلا اللفظين معرب من كلمة (شكر) الفارسية بإبدال الشين سينًا كما هو المعتاد في تعريب بعض اللغات الأخرى الشرقية: كموشى العبرية وموسى العربية وغير ذلك ، وقيل: السكر الخل ، وإذا سُلِّم أن السكر (بفتح السين) هنا هو السكر فقوله تعالى بعده:[وَرِزْقاً حَسَناً](النحل: 67) يدل على أن السكر ليس رزقًا حسنًا لأن الأصل في العطف أن يفيد المغايرة ، وهذه الآية المشار إليها هنا نزلت قبل التحريم البات ، فإن الخمر حرمت تدريجيًّا لحكمة لا تخفى على المفكر، والتحريم التدريجي شيء والنسخ شيء آخر فلا منافاة بين ذلك وبين مذهبنا في (الناسخ والمنسوخ) .
(9)
حاشية: جاء في سفر الخروج 2: 6 (ويثقب سيده أذنه بالمثقب، فيخدمه إلى الأبد) والمراد أن العبد يخدم سيده إلى الممات ، وهو عين ما قلناه آنفًا في معنى الأبد وبهذا المعنى أيضًا ورد في سِفر صموئيل الأول 1:22.
الكاتب: المسيو شاتليه
الغارة على العالم الإسلامي
أو فتح العالم الإسلامي [*]
(8)
مؤتمر لكنهوء سنة 1911
مقدمة المجلة الفرنسوية
عقد مبشرو البلاد الإسلامية من البروتستان المؤتمر الثاني العام بمدينتهم في
(لكنهوء الهند) يوم 21 يناير سنة 1911 أي بعد خمس سنوات من انعقاد مؤتمر
القاهرة.
ومعلوم أن المبشرين كانوا قد تفاوضوا في (مؤتمر أدنبرج) بمسألة مقاومة
الإسلام ، ودرسوا وسائل مناضلته من كل الأوجه ، ولما عقدوا مؤتمر لكنهوء
ارتاحوا لما رأوا من نجاحهم واشتركوا مع رئيسهم القسيس (زويمر) في معرفة
موقف الإسلام وقوته وأسبابها ، وأظهروا استعدادًا لتطبيق أعمالهم على الحالة
الحاضرة.
والظاهر من مطبوعات البروتستان ومنشوراتهم أنهم يتذرعون بالتؤدة في بذل
المجهود لمعرفة موقفهم وميدان عملهم ودرس محاسنهما ، وهم لا يدعون شيئًا من
هذا القبيل ، ومنشأ هذا التضامن في جماعة المبشرين البروتستان هو المواهب
العملية التي امتاز بها الأنجلوسكسوني والمزايا النظامية التي اختص بها الجرماني ،
ثم قالت هذه المجلة: طلبنا من القسيس زويمر أن يوافينا بملخص أعمال المؤتمر
أثناءَ انعقاده ، فأجابنا إلى طلبنا وأرسل لنا مجموعة تضمنت أبحاث المبشرين في
ذلك المؤتمر.
***
برنامج المؤتمر وترتيبه
انعقدت جلسات المؤتمر في باحة مدرسة (إيزابلا ثوربون) البروتستانية
الخاصة بالبنات ، وامتدت إلى يوم 29 يناير سنة 1911 وهو ثاني مؤتمر خاص
بالإسلام ، والأول هو مؤتمر مصر الذي عرفه القراء.
والذي يدخل إلى باحة ذلك المؤتمر يرى جدرانه مستورة بالخرائط
والإحصائيات التي يتبين منها مبلغ اتساع نطاق الإسلام وارتقائه وتقدمه في الأيام
الأخيرة ، وعلى المنضدة التي أمام الرئيس كرة أرضية مجسمة وعليها هلال
وصليب ، أما المقصود من هذا الرمز فظاهر ومفهوم.
وفي جانب الباحة غرفتان عرضت فيهما الغرائب المتعلقة بالإسلام مع
مطبوعات جمعية التوراة التبشيرية ، والمظنون أن هذا المعرض سيبقى تحت
مراقبة لجنة مواصلة أعمال مؤتمر مصر.
واشترك في المؤتمر 168 مندوبًا و113 مدعوًّا عن 54 جمعية تبشيرية ،
ونزل كل هؤلاء ضيوفًا على مبشري لكنهوء.
وبين المشتركين في المؤتمر القسيس زويمر - الذي تقول عنه المجلة
الفرنسوية: إنه الرجل الذي لا يهرم؛ لأنه درس الإسلام سنين طويلة بعد أن عاش
سنين أطول بين الشعوب الإسلامية التي يحبها حبًّا جمًّا - ولم يكن القسيس زويمر
رئيسًا للمؤتمر فقط ، بل كان مديره الروحي أيضًا.
ومن هؤلاء المشتركين الدكتور (ويتبرخت) الجرماني الإنكليزي المشهور
والدكتور (وهري) صاحب التعليق المعروف على القرآن ، ومن المتنصرين الذين
حضروا المؤتمر (متري أفندي) الشاب المصري الذي يدير جريدة عربية
والقندلفت (إحسان الله) ، والمبشر (أحمد شاه) الذي يحسن معرفة الإسلام وهو
واضع (قاموس القرآن) .
ومُنع الصحافيون الإنكليز والأميركان من حضور جلسات المؤتمر ، ولم
ترسل لهم مذكراته إلا بعد أن عنيت لجنة القرارات بتنقيحها.
وكانت مجلة العالم الإسلامي الإنكليزية - التي يصدرها رئيس هذا المؤتمر -
قالت قبل أن تذكر ما جرى في لكنهوء: (تمخض الإسلام في السنوات الخمس
التي أعقبت مؤتمر مصر بحوادث خارقة لم يسبق لها نظير ، ففيها حدث الانقلاب
الفارسي والانقلاب العثماني وما نتج عنهما ، وفيها انتبهت مصر لحركتها الحاضرة،
وعُنِيَ المسلمون بمدّ السكة الحجازية ، وتأسست في الهند مجالس إدارية وشورية،
وكان في قوانين انتخاباتها امتيازات للمسلمين ، ودخلت الأمور الإسلامية في قالب
يلائم العصر ازداد به التمسك بمبادئ الإسلام ، والمسلمون يحاولون إحياء دينهم في
الصين ، وانتشر الإسلام في إفريقية والهند الغربية والجزائر الجنوبية.
كل هذه الحوادث تحتم على الكنيسة أن تعمل بحزم وجد ، وتنظر في أمر
التبشير والمبشرين بكل عناية ، وعلى ذلك فسيشمل برنامج مؤتمر لكنهوء الأمور
الآتية:
أولها: درس الحالة الحاضرة
ثانيها: إنهاض الهمم لتوسيع نطاق تعليم المبشرين والتعليم النسائي.
ثالثها: إعداد القوات اللازمة ورفع شأنها.
هذا ما نشرته مجلة الرئيس عن مواد تضمنها برنامج المؤتمر ، أما البرنامج
نفسه فقد عرض على المؤتمرين بعد قراءة الخطب الافتتاحية وانتخاب اللجنة
وتلاوة تقارير لجنة مواصلة أعمال مؤتمر مصر وهذه موادُّه:
الأولى: النظر في حركة الجامعة الإسلامية ومقاصدها وطرقها والتأليف بينها
وبين مسألة تنصير المسلمين.
الثانية: النظر في الانقلابات السياسية في العالم الإسلامي وعلاقاتها بالإسلام
ومركز المبشرين المسيحيين فيها.
الثالثة: موقف الحكومات إزاء إرساليات تبشير المسلمين.
الرابعة: الإسلام ووسائل منع اتساع نطاقه بين الشعوب الوثنية.
الخامسة: تربية المبشرين على ممارسة تبشير المسلمين والمزايا النفسية
اللازمة لذلك ، والبحث في الدروس الإعدادية ودروس التبشير ، وتأليف الكتب
للمبشرين وللقراء المسلمين.
السادسة: حركات الإصلاح الديني والاجتماعي.
السابعة: الارتقاء الاجتماعي والنفسي بين النساء المسلمات.
الثامنة: الأعمال النسائية.
التاسعة: القرارات العملية وتقارير اللجان المالية للمطبوعات والمنشورات.
***
خطبة الرئيس الافتتاحية
افتتح القسيس زويمر مؤتمر لكنهوء بخطبة أنيقة ، تكلم فيها على المسائل
الإسلامية التي سيتناقش فيها الأعضاء ، فقسم خطبته إلى أربعة أقسام:
الأول: الإحصاءات الإسلامية.
الثاني: حالة المسلمين السياسية وارتقاؤها.
الثالث: ما طرأ على الإسلام بعد مؤتمر مصر من الانقلابات السياسية
والفكرية.
الرابع: الخطة التي اتبعتها كنائس أوربة وأميركة بعد مؤتمر مصر.
***
الإحصاءات الإسلامية
قال الرئيس زويمر: ليست لفظتا (العالم الإسلامي شيئًا اخترعه المبشرون
للإشارة إلى معضلة التنصير العام، بل هي كلمة دقيقة تدل على موقف حقيقي.
ثم أشار إلى مجلة العالم الإسلامي الفرنسية وما نشرته عن الإسلام.
ودخل بعد هذا في موضوعه فقال: إن عدد المسلمين يزيد قليلاً على 200
مليون، وذلك بحسب متوسط الإحصائيات الكثيرة التي يتراوح تقدير المسلمين فيها
بين 175 مليونًا و229 مليونًا.
فمسلمو روسية وبخارى وخيوه 20 مليونًا ومسلمو الصين بين 5 ملايين
و10 ملايين ، ويزيد عدد مسلمي الهند على 62.468.077 ولاحظ أن المسلمين
الذين تحت سلطة إنكلترة أكثر من الذين تحت سلطة أي دولة غيرها في
هذه العصور أو في العصور المتوسطة، ومسلمو المستعمرات الإنكليزية والهند يبلغ
عددهم 95 مليونًا أي أنهم يزيدون 5 ملايين على النصارى الذين يحكمهم الإنكليز
ومسلمو الهند الإنكليزية آخذون في النمو ، وقد جاء في كتاب (الهند وحياتها
وأفكارها) الذي ألفه الدكتور (جونس) أن عدد المسلمين ازداد في السنوات العشر
الأخيرة 91 في الألف مع أن زيادة عدد السكان بنسبة 19 للألف وفي جاوه
24.
270.600 مسلم، ومسلمو روسية 20 مليونًا ، وفي السلطنة العثمانية
14.
278.000مسلم ، وعدد المسلمين في كل واحد من أقطار مصر وفارس
ومراكش والجزائر وبلاد العرب والأفغان وغيرها يتراوح بين 4 ملايين و9 ملايين
ولا تخلو بلدة في آسيا وإفريقيا من سكان مسلمين، وقد يكون المسلمون أقل من
غيرهم في بعض هذه البلاد إلا أن هذه الأقلية في نمو مستمر. وفي بلاد التبت
المقفلة أبوابها في وجوه الأجانب 20 ألف مسلم. والإسلام منتشر في الكونغو وبلاد
الكاب. وهو في نماء سريع في بلاد الحبشة. ويدور على الألسنة منذ انعقد مؤتمر
مصر أن كثيرًا من القبائل النصرانية التي في شمال الحبشة دخلت في الإسلام،
وإن كانت أسماء أفرادها لا تزال كما كانت من قبل.
والمبشرون المنتشرون على ضفتي النيل وشرقي إفريقيا وبلاد النيجر
والكونغو يرفعون أصواتهم بالشكوى من انتشار الإسلام بسرعة في هذه الأنحاء.
وبالرغم من أن انتشاره في الهند الهولندية قد لقي موانع من مجهودات جمعيات
التبشير الهولدنية والألمانية فهو يتوطد ويثبت هناك؛ لأن المسلمين أخذوا يستبدلون
التقاليد الحشوية والخرافية ويتمسكون بعقائد ثابتة قوية، ففى (صومتره) اكتسح
الإسلام الأرجاء الوثنية وفي جاوه ظهر بمظهر جديد على أثر تأسيس المدرسة
الجامعة الإسلامية، وكثرة طبع القرآن وازدياد عدد الدعاة والمرشدين المسلمين.
وما زال الوطنيون يدخلون في شبكة الإسلام إلى درجة يتعذر فيها على المبشرين
المسيحيين أن يلقوا لأعمالهم رواجًا.
وفي أميركا عدد كبير من المسلمين لا يُستهان به؛ لأنه صار 56 ألفًا، وفي
مستعمرة (لاغوبان) الإنكليزية فقط 22 ألفًا منهم وفي أميركا الوسطى 20 ألفًا.
والبلاد الإسلامية التي لم يدخلها المبشرون البروتستانت هي التركستان
الروسية، وفيها خمسة ملايين من المسلمين وخيوه وفيها 800 ألف وبخارى وفيها
1.
25.000 والأفغان وفيها 5 ملايين وبرقة (بني غازي) وفيها 100.000
وتونس وفيها مليون ووهران وفيها 1.300.000 وريف مراكش وفيه 2.260.000
وفي وادي مولويه وصحراء مراكش يتنافس الإسلام والنصرانية في الاستيلاء على
الوثنية. ونجد والحجاز وحضرموت لا يوجد فيها مبشر واحد وجزائر مالزية وفيها
أكثر من مليون مسلم خالية من إرساليات التبشير.
***
الانقلابات السياسية والجامعة الإسلامية
انتقل الرئيس زويمر في خطبته الافتتاحية إلى قسمها الثاني الخاص
بالانقلابات السياسية التي حدثت أخيرًا في العالم الإسلامي فشكر الله على حدوث
هذه الانقلابات في غرب آسيا إذ كانت موجبة للإعجاب والاستغراب وبددت معالم
التجسس وأقامت الحرية على أنقاض الاستبداد وصار التجول في البلاد العثمانية
والعربية والفارسية غير ممنوع وأصبح عبد الحميد سجينًا في سلانيك. وارتبطت
المدينة بدمشق بواسطة السكة الحديدية، وتلألأ نور الكهربائية على الروضة النبوية.
كل هذا يعد عصرًا جديدًا في تاريخ آسيا الغربية وإفريقيا الشمالية.
وصار مسلمو روسيا يحاولون تعزيز حقهم في الدوما ويؤلفون الجمعيات
للتدرج في مراقي المدنية.
إلا أن النزعة الجديدة في مصر إسلامية محضة، يراد بها جعل مصر
للمصريين باعتبار أن المصريين مسلمون. ونتيجة ذلك اضطهاد المسيحيين في
مصر! خصوصًا إذا كانت إنكلترا لا تترك خطتها في ترجيح كفة المسلمين.
وأن بوادر الانقلابات قد أخذت تظهر في جزائر مالزية أيضًا فأسس شبان
(جاوه) جمعية الاتحاد العام (بوندي أوتومو) الذي يرمون به إلى إحداث ارتقاء
اجتماعي واتباع مبادئ التربية والاستقلال الإداري. وقد فسروا القرآن بلغتهم.
وتوجد في (طوكيو - اليابان) جريدة باللغة الصينية اسمها (النهضة
الإسلامية) منتشرة في كل بلاد الصين. وجريدة إنكليزية ينشرها مسلم مصري
وآخر هندي. وفي ذلك دلالة على مبلغ حركة الجامعة الإسلامية.
واحتلال الجيش الفرنسي لمقاطعة (واداي) بإفريقيا في العام الماضي أهم
حادث سياسي في هذا العصر؛ لأن واداي كانت أهم مركز في إفريقيا للاتجار
بالرقيق وانتشار الإسلام، وعلى ذلك فإن هذا المركز أصبح تحت سلطة أوربية
تحتفظ به مهما كلفها ذلك. وهذه الحادثة جعلتنا في مأمن من أن تكون واداي بعد
الآن مركزًا للحركات الحربية ضد الحكومات النصرانية، وهي أيضًا ستقلل نفوذ
مشايخ الزوايا السنوسية بحيث لا يستطيعون الوقوف في طريق التقدم الاستعماري
والتجاري في الإسلام.
ولم يبق الآن غير 800. 128. 37 مسلم تحت سلطة حكومات إسلامية
وقد انتقلت السلطة السياسية على أكثرية المسلمين من يد الخلافة الإسلامية إلى يد
إنكلترا وفرنسا وروسيا وهولندا. وعدد المسلمين الذين تحت سلطة كل واحدة من
هذه الدول يفوق عدد المسلمين الموجودين في كل أرجاء السلطنة العثمانية، وإن
عدد المسلمين الذين تحت سلطة الدول النصرانية سيزداد كثيرًا عقيب انقلابات
قريبة الحصول، وبذلك تزداد مسئولية الملوك النصارى في مهمة تنصير العالم
الإسلامي!
***
الانقلابات الاجتماعية والفكرية
قال الخطيب: إن الإسلام قد بدأ ينتبه لحقيقة موقفه. ويشعر بحاجته إلى
تلافي الخطر. وهو يتمخض الآن بثلاث نهضات إصلاحية: الأولى: إصلاح
الطرق الصوفية، الثانية: تقريب الأفكار من الجامعة الإسلامية، الثالثة: إفراغ
العقائد والتقاليد القديمة في قالب معقول.
ومصدر هذا الشعور بالحاجة إلى الإصلاح واحد، وهو التغير الذي حدث في
الإسلام عندما اكتسحت أهله الأفكار العصرية والحضارة الإفرنجية، ولا يمنع هذا
أن يكون الشعور مؤديًا إلى عاطفة الاحتجاج والحذر أو إلى التوفيق والتحكيم؛ لأن
كلا العاطفتين تجتمعان عند جعل الإسلام في مستوى الأفكار العصرية.
قال (إسماعيل بك غصبر نسكي) في جريدته (ترجمان) : إن العالم في
تغير وارتقاء مستمر، ولكن المسلمين لا يزالون متقهقرين أشواطًا بعيدةً.
وقال (الشيخ على يوسف منشئ أهم جريدة إسلامية) في خطاب ألقاه على
جمهور عظيم: إن المسيحيين قد سبقونا في كل شيء. فالمسلمون ليس لديهم
بواخر في البحر، وهم غير منتبهين لموقفهم، ومجهوداتهم متشتتة، وكل ما
يفعلونه أنهم يمشون وراء مرشديهم، ولكن بغير اهتمام ذاتي لإدراك الأمم التي
سبقتهم. ومثل كلام هذين الرجلين ما سمعناه مرارًا في الهند وغير الهند.
ثم قال القسيس زويمر: وإن نهضة الشعوب الإسلامية وانتباهها لمعرفة
مركزها يدعوانها إلى التساؤل عن طريقة التوفيق بين المبادئ الدستورية والمبادئ
الدينية وتاريخ الدستور الفارسي وحركة الارتجاع في البلاد العثمانية يؤيدان وجود
تباين بين الأفكار الديموقراطية ونصوص القرآن (!!!) .
ويمكننا أن نرتاب في صحة التصريح الصادر من شيخ الإسلام عن انطباق
تأسيس مجلس المبعوثان العثماني عن النصوص القرآنية! ومما يؤيد ارتيابنا وقوف
المبعوثين المسلمين المعروفين بالتقى في وجه كل إصلاح يعرض على مجلس
المبعوثان والصحف المصرية تدافع عن الفظائع التي أمر بها سلطان مراكش والبدو
يخربون السكة الحديدية الحجازية بدعوى أن (العربات) المخصصة فيها للصلاة
تنافي الشعائر الإسلامية؟ !
وفي العالم الإسلامي الآن حركتان متناقضتان يحمل لواء الحركة الأولى رجال
الصوفية والمشايخ في اليمن والصومال والبوادي وشعارهم الرجوع إلى التعاليم
المحمدية، والحركة الثانية يتولى زعامتها أنصار الإصلاح ومبشرو الإسلام الجديد
في مصر والهند وجاوه وفارس، وهؤلاء يبنون أساسهم على وضع الطرق المعقولة.
والصحف الإسلامية في (باكو) تتبع رجال الحزب الثاني الذي يقول: إن
الجمود والخرافات مما طرأ على الإسلام وهوغريب عنها كما أن فظائع دواوين
التفتيش في القرون الوسطى ليست مما يأمر به المذهب الكاثوليكي.
ثم أشار إلى كتاب (حقيقة الإسلام) الذي ألفه محمد بك بدر المتخرج في
جامعة أدنبرج فقال: إن هذا الكتاب يدل على أن أشياع الإسلام الجديد! يريدون أن
يرموا من السفينة مشحونها لينقذوها من الغرق.
وقال القسيس زويمر بعد ذلك: إن تأويل سورة الكهف وسورة النساء
وتطبيقهما على مقتضى العقل أمر مستحيل! ولو اقتصرنا على مطالعة ما كتب عن
الحجاب وتعدد الزوجات في الصحف الإسلامية يتضح لنا أن ما يظهر لنا من وحدة
الأفكار في الإسلام غير صحيح وهذه الوحدة مهددة بالنزاع والتناقض.
ولا ريب أن في فارس والسلطنة العثمانية بل والبلاد العربية ألوفًا من
المسلمين مقتنعون بصحة النصرانية [1] ومخالفتها للإسلام؟ !
وأشار إلى قول الدكتور (و. شيد) من أن الإسلام يتحكك في كل قطر
بالمدنية العصرية ومبادئها وملاحظته لهذه الانقلابات يتوقف عليها بقاؤه، فتساءل
عن نتيجة ذلك وعما إذا كان في الإمكان مجاراة تيار الحضارة مع الاحتفاظ بمبادئ
القرآن وتعاليمه، وعما إذا كان التقدم الاجتماعي والعقلي المجرد من كل صبغة دينية
كافيًا لسد الحاجة الروحية في الملايين من المسلمين. أو أن العالم الإسلامي -
رجاله ونساءه - ينهض من كبْوته ليتسلق معالم المجد الذي أبقاه على الأرض يسوع
المسيح ابن الله! ! [2]
***
خطة الكنائس بعد مؤتمر مصر
وانتقل زويمر بعد هذا إلى القسم الرابع من خطابه وهو الكلام على الخطة
التي اتبعتها كنائس أوربا وأمريكا بعد مؤتمر مصر. فذكر أن مؤتمر مصر كان
فاتحة عصر جديد لتنصير المسلمين؛ لأنه كشف الحجاب عن أمور كثيرة كانت
مهملةً ومنسيةً، وحثّ الكتاب على وصف أعمال المبشرين في بلاد الإسلام،
واستنجد بالكنائس واستصرخها. فخاضت الجرائد والمجلات في مسألة الانقلاب
العثماني والانقلاب الفارسي والنهضة المصرية وحركة الجامعة الإسلامية، ومكانها
من الحالة السياسية الحاضرة. وكل هذه الكتابات التي نشرتها الجرائد أبانت عما
يجب أن نعمله في العالم الإسلامي، وصنفت الكتب الكثيرة التي يراد بها تعريفنا
ببلاد الإسلام وحالات المسلمين مثل كتاب (المشرق الأدنى والمشرق الأقصى)
الذي طبع منه000 ' 45 نسخه، ومثل كتاب (أخواتنا المسلمات) ، وكتاب
(العالم الإسلامي) الذي طبع منه 000' 50 نسخة، وأكثر هذه الكتب نشر بلغات
متعددة. وكتب المبشرون في هذه المدة مقدار عشرين كتابًا بحثوا بها في المعضلة
الإسلامية من كل أوجهها وكلها مبنية على بحث واستقصاء. ومن هذه الكتب كتاب
(دين الإسلام) و (الشعائر الدينية الإسلامية) و (الإسلام والنصرانية في الهند
والشرق الأقصى) و (صليبيو القرن العشرين) و (مصر والحرب الصليبية)
و (الإسلام في الصين) .
وختم القسيس زويمر خطابه الافتتاحي بقوله: إذا نظرنا إلى البلاد التي
يحكمها هذا الدين الكبير المخاصم لنا، وإلى البلاد التي يتهددها بحكمه إياها يظهر
لنا أن كل واحدة من هذه البلاد هي رمز لعنصر من المعضلة الكبرى. فمراكش في
الإسلام مثال للانحطاط. وفارس مثال للانحلال. وجزيرة العرب مثال للرقود.
ومصر مثال لمجهودات الإصلاح. والصين مثال للإهمال. وجاوه مثال للتغير
والانقلاب. والهند مركز التحكك بالإسلام. وإفريقيا الوسطى مكان للخطر
الإسلامي.
والإسلام يحتاج قبل كل شيء إلى المسيح!! فهو الذي يرسل أشعة النور إلى
مراكش ويعيد الوحدة لفارس والحياة لجزيرة العرب والنهضة لمصر ويرد إلى
الصين ما أهمله الإسلام فيها. وهوالذي يبقي لأهالي مالزية بلادهم، ويزيل الخطر
العظيم من إفريقيا!
***
بعد مؤتمر مصر
رأى القائمون بمؤتمر لكنهوء أن تقرأ قبل الخوض في موضوعات هذا
المؤتمر تقارير اللجان التي تألفت بعد مؤتمر مصر. فقرأ الدكتور (ويتبرخت)
الألماني تقريرًا عن حالة المؤلفات التي صنفت لتبشير المسلمين. وَأَبَانَ أن دائرة
انتشار هذه المؤلفات قد اتسعت جدًّا باللغات الثلاث التي هي أهم اللغات الإسلامية
ويعني بها العربية والفارسية والأُرْدِيَّة. وأن قسمًا كبيرًا من هذه المطبوعات خاصّ
بالبلاد العثمانية، ومنها ما تكرر طبعه مثل مؤلفات القسيس (بفندر) ومنها ما
هو مكتوب بأسلوب عصري صار يفيد التبشير منذ أخذ العالم الإسلامي يتحكك
بالعلوم العصرية. وأهمية هذه المؤلفات كبيرة في الهند؛ لأن الذين يكتبونها هم
مسلمو الهند المتنصرون مثل (عماد الدين) الذي حصل من مدارس إنكلترا على
لقب (دكتور) في اللاهوت.
وبهذه اللغات الثلاث صار يمكن للمبشرين أن يتحككوا بثلثي المسلمين في
العالم. أما الثلث الثالث، فمؤلف من 10 ملايين صيني، و20 مليونًا من
السلافيين، و25 مليونًا من السود. وهؤلاء لا توجد في لغاتهم كتب تبشير.
ثم تليت تقارير أخرى في بيان ضرورة نشر مؤلفات في المناظرات الدينية
التاريخية التي تكون مكتوبة بأسلوب عصري على ما تقتضيه حالة المسلمين في
مصر والهند وسائر أقطار الشرق. ثم أشاروا إلى مساعدة صحف أوروبة الكبرى
للمبشرين لاهتمامها بالأمور الإسلامية. ومن أدلة هذا الاهتمام إنشاء مجلة العالم
الإسلامي الفرنسية [3] ، ومجلة الإسلام الألمانية ودائرة المعارف الإسلامية التي
نشرت بثلاث لغات.
***
الجامعة الإسلامية
وبعد أن تليت التقارير الكثيرة في موضوعات مختلفة بدأ المؤتمرون بالمسائل
التي عقدوا مؤتمرهم لأجلها. وافتتحوا ذلك بمسألة الجامعة الإسلامية، فقدمت عنها
ثلاثة تقارير: الأول من القسيس (نلسن) عن (حركة الجامعة الإسلامية في
السلطنة العثمانية) . والثاني من القسيس (ورنر) السويسري عن (الجامعة
الإسلامية في إفريقيا) والثالث من القسيس (سيمون) عن (حركة الجامعة
الإسلامية في مالزية) .
قال القسيس نلسن عن الجامعة الإسلامية في السلطنة العثمانية: إن حركة هذه
الجامعة قد ضعفت جدًّا بعد خلع السلطان عبد الحميد، ولكن لا تزال في الأهالي
روح تضامن ملازمة للإسلام وهي سائدة بين مسلمي سورية إلى درجة تدعو
للتبصر في علاقتها بزعماء الفكرة الإسلامية.
ثم قال: إن الألوف من مسلمي الأرض يتجهون في كل سنة إلى (مكة)
ويشربون ماء (زمزم) إلا أنه بالرغم من وجود كل أسباب الارتباط الخارجي
وبالرغم من وجود الاتحاد الذي يجعل لفكرة الجامعة الإسلامية قوة حقيقية إلى حدّ
يستدعي اهتمام المبشرين النصارى والحكومات النصرانية - بالرغم من ذاك وهذا
فإنه يستحيل أن يكون من المسلمين عنصر حي حقيقي في استطاعته أن يجمع شمل
السنيين والشيعة معًا ويضم الأتراك والفرس والهنود إلى العرب، ليكافحوا ويدافعوا
يدًا واحدةً على اتفاق وثقة متبادلة [4] .
وختم القسيس نلسن تقريره بقوله: (اسمحوا لي أن أقول لكم أنه يظهر لي أن
اجتماع المسلمين بجامعة إسلامية بكل المعني الذي يدل عليه هذا اللفظ هو أمر
وهمي لا ثمرةَ له غير توليد أحلام تقلق رجال السياسة الذين يغلب عليهم الخوف
ويعتريهم المزاج العصبي) .
وقال القسيس (ورنر) عن الجامعة الإسلامية في إفريقيا: إن مدينة مكة
والطرق الصوفية هما من أكبر العوامل على بث شعور الوحدة بين المسلمين والنفرة
من كل شيء غير إسلامي، وهذا ما يسمونه بالجامعة الإسلامية.
وإذا كان في إفريقيا عوامل أخرى توجب تقدم الإسلام فيها فهي الأحوال
المساعدة التي يتصف بها الإسلام ومركز بلاده الجغرافي وارتقاء الشعوب الإسلامية
في السودان عن الشعوب الزنجية، ثم إن للحالة الاقتصادية والتجارة الداخلية تأثيرًا
كبيرًا على النيجر وبانوية ومقاطعة بحيرة تشاد؛ لأن التجارة في هذه الأصقاع كلها
بيد القبائل الإسلامية. وأما التجار الأوروبيون فيهتمون ببلاد السواحل على الأكثر
مع أن تجارة الذهب والملح والحديد والجلود والنارجيل (جوز الهند) ، ونقل هذه
المحصولات يستخدم فيه ألوف من الوطنيين الذين يحتك بهم التجار، ومن المحقق
أن التاجر المسلم يبث في هؤلاء الوطنيين مع بضاعته التجارية دينه الإسلامي
وحضارته الراقية. والحالة في السودان الغربي مثلها في السودان الشرقي.
وللإسلام في إفريقيا صديق آخر يساعده على انتشاره، ولعلكم تستغربون إذا
قلت لكم: إن هذا الصديق هو الاستعمار الأوربي، فإن الذي يفعله الاستعمار بعد
أن يسلب من الأمراء المسلمين سلطتهم السياسية هو أنه يقرر الأمن ويمهد السبيل
للمسلمين [5] ، فبعد أن يكونوا منفورين من الوطنيين الوثنيين قبل الاستعمار
الأوربي بسبب الاتجار بالرقيق يصبحون بعد منعه أصدقاء لهم، فيتعامل
الفريقان ويتفاهمان بكل حرية ومحبة.
ومن هذا يتبين أن الاستعمار يسلب من المستعمرات السلطة الإسلامية
السياسية، ولكنه يزيد الإسلام نفوذًا فيها.
ثم أسف صاحب التقرير أن المنافع الإسلامية تتم بإرادة المستعمرين؛ لأنهم
يفضلون استخدام المسلمين وتوظيفهم واستشهد على هذا بقول (أسكنفلد) مفتش
إرساليات التبشير إذ صرح في المؤتمر الاستعماري الألماني بأن الإسلام يتبع
خطوات الأوربيين حيثما ذهبوا، فلا توجد نقطة عسكرية أوربية بدون جنود
مسلمين ولا توجد مصلحة استعمارية أوروبية بدون مستخدمين مسلمين. ولا تكاد
توجد مزرعة خالية من حانوت لمسلم يبيع فيه ويشتري.
وتكلم (ورتر) عن المدرسة التي أسستها إنكلترة في (سيره ليونه) بغرب
إفريقيا لتعليم أطفال القبائل الإسلامية والوثنية باللغة العربية، وعدم تعليمهم الديانة
النصرانية احتفاظًا بمبدإها في الحياد الديني.
ثم قال: ولو اتفق أن المسلمين غضبوا للصور الموجودة في كتب دروس
الأشياء فلا تتأخر إدارة المستعمرات الإنكليزية عن استفتاء علماء الإسلام في
الآستانة ومصر والهند استرضاءً لآباء التلاميذ وأقاربهم.
ثم أشار إلى تقدم الإسلام في إفريقيا، فتساءل عما إذا كان هنالك عمل مرتب
ويد عاملة على نشره أم أنه ينتشر بطبعه؟ وأجاب بأن من الصعب حل هذه المسألة؛
لأن القوات الفعلية التي ينتشر بها الإسلام تختلف عن قوات المبشرين بالنصرانية.
ولكن يظهر أن النظام في نشر دين الإسلام أقل مما نتصوره؛ لأن المسلمين
يجهل بعضهم أخبار البعض الآخر وأحواله، وإذا اتفق أنهم اشتركوا في أمر ما
فإنما يكون ذلك بدون قصد. ومن الخطأ أن يقال إن الجامع الأزهر يرسل ألوف
المبشرين إلى إفريقيا الوثنية للدعوة إلى الإسلام؛ لأن الأزهر ليس معهد تبشير كما
هي مدارس اللاهوت في أوربة، ويقال مثل ذلك عن كل المدارس الإسلامية في
شمال إفريقية. ويستثنى من ذلك المدارس التي يديرها مشايخ الطرق في الصحارى
وفي السودان.
وعاد قبل أن يختم تقريره فقال: إلا أن هنالك قرائنَ كثيرةً تدل على وجود يد
تعمل بقصد لنشر الإسلام. فإنه يظهر في ربوع إفريقية من وقت إلى آخر مبشرون
متنقلون يدعون المهدوية ويثيرون الفتن الشديدة؟ ومن الذي يمكنه أن يبين لنا
علاقة أصول الدين بهؤلاء المبشرين المتنقلين! ولا ريبَ أن بين ناشري القرآن
الكثيرين في إفريقية أناسًا هم أعضاء سِرِّيُّونَ ينتسبون إلى طرق دينية.
وتكلم بعده القسيس سيمون عن حركة الجامعة الإسلامية في مالزية، فقال:
يزعم بعضهم أن الإسلام في الهند تنقصه الحياة، وأنه غير مرتب وأنه صبياني.
ولكن يجب علينا أن لا ننسى ارتباطَ الإسلام في الهند بمكة. وهذا الارتباط يدعو
سكان جزائر مالزية على الاعتقاد بأنهم جزء من مجموع كبير. وأن سلطة
النصارى عليهم شيء مؤقت. وسيأتي يوم يجيئهم فيه السلطان العثماني الذي هو
أكبر أمير في أوربة ومرتبط بأواصر المودة مع إمبراطور ألمانية فينقذهم من يد
النصارى عقب حرب دينية. ونحن نرى البوجيين يبيعون الآن كرات سحرية
لتستعمل في محاربة هولندة يوم تنشب المعركة المنتظرة.
ولكن عبثًا يبني هؤلاء آمالهم على الجامعة الإسلامية؛ لأن التربية النصرانية
قد انبثت في دمائهم بفضل مدارس التبشير وباحتياطات استمدتها حكومة هولندة من
أصول الدين النصراني، ومن شأنها أن تزعزع آمال المسلمين الباطلة!
وقال بعد هذا في ختام تقاريره: إن العامل الذي جمع هذه الشعوب وربطها
برابطة الجامعة الإسلامية هو الحقد الذي يضمره سكان البلاد للفاتحين الأوربيين
ولكن (المحبة) التي تبثها إرساليات التبشير النصرانية ستضعف هذه الرابطة
وتوجِد روابط جديدة تحت ظل الفتح الأجنبي!
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) تابع لما نشر في الجزء السابع ص 511.
(1)
ما أجرأه على الكذب الصراح؟ .
(2)
لم يكن للمسيح مجد أرضي ولم يترك على الأرض إلا التعاسة التي كان يقاسي بلاياها وويلاتها إلى أن قبض ورفعه الله إليه
…
...
…
...
…
... صالح.
(3)
نقلت مجلة العالم الإسلامي مقدمة المنار لهذه المقالات (الغارة على العالم الإسلامي) وعقبتها بمقال تتنصل فيه من الصيغة الدينية وأرسل إلينا أحد أصدقائنا في باريس تلك القطعة وربما عرَّبناها ونشرناها في المنار بعد تذييلها بما يقتضي.
(4)
ليعتبر المفرقون الذين يدَّعون الاتحاد ماذا يقوله المفكرون في شئونهم بعد أن كان لهم اليد الطولي في إيجاد أسباب هذه التفرقة وليعتبر المخربون ممن يسمون أنفسهم بالوطنيين وليعلموا أنهم بهذه التفرقة التي يدْعون إليها إنما يخدمون أوربة السياسية وأوربة الدينية في آن واحد وغاية ما ترمي إليه أوربة هوأن يوجد في الأمة أحزاب مثل الحزب الوطني المصري وجرائد مخربة مثل جرائده وجريدة (الجريدة) إذ أنها من أهم معاول الهدم وعوامل التفرقة وماذا تقول (المجموعة المصرية) والحزب الوطني المصري الآن وقد صرح الإنكليز بعزمهم على جعل الإسكندرية موقعًا دفاعيًا بحريًا؟ أيمنعونها ذلك بقوة (المجموعة المصرية) وحيادها أم بشعور الشيخ عبد العزيز جاويش وأضرابه الذين حالوا بين كثير من فضلاء شبان الحزب الوطني الإسلامي وبين الانتفاع بمواهبهم واستعدادهم وفرقوا شمل الأمة بالغش والخداع والتغرير؟
…
...
…
...
…
... صالح مخلص رضا.
(5)
كأن الخطيب يود أن لا يكون للإسلام غير الأعداء مثله ويضره أن يكون للمسلمين حرية دينية.
الكاتب: محمد رشيد رضا
عجالة من رحلة الهند
لصاحب المنار
(2)
التعليم الديني في الهند
سألت عن مدارس الحكومة الإنكليزية في الهند فقيل لي: ليس فيها تعليم ديني
ألبتة فلا يعلم فيها دين الحكومة ولا دين أحد من الأهالي (كما مر في النبذة الأولى
ج6 ص455) وبلغني أن المجوس يُعَلِّمون دينهم في مدارسهم، ولم يتسنَّ لي زيارة
شيء منها على ما كان من رغبتي في ذلك؛ لما ذكرت من ارتقاء هذه الطائفة في
علومها وآدابها وحضارتها، وكنت أرى أفرادًا من رجالها ونسائها على شاطئ البحر
بعد طلوع الشمس يصلون بما يقرءون من الكتب الدينية، فما كانت عبادة الشمس
والنار والبحر مانعة لهم من الترقي المدني، فكيف يمنع منها دين التوحيد والفطرة؟
وكذلك الوثنيون يعلِّمون دينهم في مدارسهم، وإنْ أدري أذلك عامٌّ فيها وفي
جميع فرقهم أم لا. وقد دخلت في آكرة مدرسة كبيرة لطائفة السنك، فعلمت أنهم
يعلِّمون دينهم فيها. وهذه الطائفة صارت تتصدى للدعوة إلى دينها، ولم يكن هذا
معهودًا عند الوثنيين مِن قبلُ، وبلغني أن بعض الجهلة المنتسبين إلى الإسلام قد
انتحلوا الوثنية إجابةً لدعاتها (راجع الجزء السادس ص 455) ولا عجب في
ذلك بعد فشوّ نزغات الوثنية في المسلمين بدعاء أصحاب القبور واتخاذ قبورهم
أوثانًا، واتخاذ توابيت لهم يطوف بها المسلمون الجغرافيون في أسواق مدن الهند
وشوارعها كما يطوف الوثنيون بأصنامهم، حتى صار يصعب على أكثر علماء
الإسلام في هذا العصر أن يقنعوا علماء الأديان الأخرى بأن دينهم يمتاز على أي
دين من تلك الأديان، وكان المميز الأعلى له في أهله التوحيد الخالص الذي لا
يتحقق إلا بامتثال قوله تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18)
وأمثال هذه الآية من الآيات الكثيرة. فأما التوحيد اللساني الذي يظن أكثر المشتغلين
بالعلوم الإسلامية أنه خاص بالمسلمين، فما هو خاص بالمسلمين، وفي بحثي مع
ذلك البرهمي في مدينة (بفارس) المقدسة عندهم عبرة للمعتبرين، فإنه زعم أن
جميع المِلَل أخذت التوحيد عنهم؛ لأنهم أقدم الأمم فيه، وأن الأولياء الواصلين من
المسلمين إنما يرتقون إلى أصل دين البراهمة الذي هو وحدة الوجود كشمس الدين
التبريزي ومحيي الدين بن عربي (راجع ص 456 من الجزء السادس) وهو
يحفظ كثيرًا من كلامهم ويطبقه على دينه، ولا يرى عبادة بعض المخلوقات التي
لها مزية في نفع البشر تنافي التوحيد والوحدة؛ لأنها لا تُعْبَد إلا لأنها مظهر الفيض
الإلهي كما يزعم، ويؤيد كلامه بنقول عن صوفيتهم وصوفية المسلمين.
وقد أسمعني كاهن السنك عند قبر ملكهم في لاهور طائفة من كتابهم المقدس
كلها من أعلى الكلام في توحيد الله وتقديسه (راجع ج6 ص 455) وعزو كل
شيء في الكون إليه، ولم يتعمد الكاهن اختيار ما قرأه بل فتح الكتاب أمامي وقرأ
من حيث فتح، وإنك على هذا الكلام المؤثر في التوحيد الخاص ترى تجاه قبة قبر
الملك شبه منصة في بناء آخر عليها الصنم ذو الأيدي الثمان الذي يزوره السنك
والمسلمون جميعًا للاستشفاع به إذا أصابهم مرض الجدري؛ {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم
بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) .
أما المسلمون فكانت سوق العلوم الدينية ووسائلها من العلوم العربية نافقة في
كثير من مدنهم ثم كسدت مدةً طويلةً ما كان يظهر فيها إلا قليل من العلماء، ثم
جددها (ولي الله الدهلوي) صاحب كتاب حجة الله البالغة بنزوعه إلى الاستقلال
في الفهم، واجتناب التقليد الأعمى في كل علم، وكان له خلائف يسيرون على
طريقته ثم انحرفوا عنها، وزجوا أنفسهم في غمرة التقليد اتباعًا لجمهور الطلبة
وابتغاء مرضاتهم، والعلم الصحيح والتقليد المحض ضدان لا يجتمعان، وإنما
يجتمع مع التقليد ويحالفه الجدل والمراء، فزال بذلك العلم الاستقلالي أو كاد،
وضعف ما يسمى بالعلم التقليدي أيضًا كما ضعف في سائر الأقطار والبلاد.
على أنني رأيت في مدرسة (ديوبند) التي تلقب بأزهر الهند نهضة دينية
علمية جديدة أرجو أن يكون لها نفع عظيم ، وهذه المدرسة لخلفاء ولي الله الدهلوي.
وقد اقترحت على علماء هذه المدرسة الأخيار عدة اقتراحات في إصلاح
التعليم وزيادة بعض العلوم العصرية في برنامجها (وهم يطلقون كلمة نصاب في
معنى البرنامج أو البرغرام في عرف مصر) وأن يجعلوا دراسة الفلسفة اليونانية
خاصة بطائفة من الطلبة، وهم الذين يُراد منهم الأخصاء في العلوم العقلية والفلسفة
القديمة وتاريخ هذه العلوم، وأن يخصصوا لكل نوع من العلوم طائفة من طلبة
القسم العالي؛ لأجل النبوغ فيها بعد الاكتفاء من غيرها بالقدر اليسير، ويعدوا
بعضهم للدعوة إلى الإسلام، وبعضهم لإرشاد عامة المسلمين، على منهج مدرسة
دار الدعوة والإرشاد، وأن يعلموا المبتدئين اللغة العربية نفسها بالتكلم بها والترجمة
قبل تعليمهم فنونها والفنون الشرعية المتوقفة عليها، وحينئذ يسهل عليهم اقتحام
العقبة الكئود في طريق التعليم عندهم وعند سائر الأعاجم وهي قراءة الكتب العربية
في جميع العلوم والفنون بالترجمة، وإنني بعد مذاكرة بعض أعلامهم في حال
التعليم عندهم خطبت فيهم خطبةً طويلةً في احتفال عام اجتمع فيه المدرسون
والطلبة أودعتها هذه الاقتراحات وغيرها من النصائح التي خطرت على بالي في
ذلك الموقف. فرأيتهم قد وافقوني في جميع ما قلته، بل كانوا قد سبقوا إلى الفكر
والعمل ببعضه من قبل وأسسوا جمعية دينية للمدرسة سموها جمعية الأنصار.
ما قرت عيني بشيء في الهند كما قرت برؤية مدرسة ديوبند، ولا سُرَّت
بشيء هناك كسرورها بما لاح لها من الغيرة والإخلاص في علماء هذه المدرسة.
وكان كثير من إخواني المسلمين في بلاد الهند المختلفة يذكرون لي هذه
المدرسة، ويصف رجال الدنيا منهم علماءها بالجمود والتعصب، ويظهرون
رغبتهم في إصلاح تعميم نفعها، وقد رأيتهم - ولله الحمد - فوق جميع ما سمعت
عنهم من ثناء وانتقاد، وأرجو أن يصدق ظني فيهم بأنهم من أبعد جميع من عرفت
من علماء الإسلام الدينيين عن الجمود والغرور ، وستكون الصلة بين مدرستهم
ومدرسة دار الدعوة والإرشاد وجماعتها دائمة إن شاء الله تعالى ، وسأذكر في
الرحلة خبر زيارتي لهذه المدرسة بالتفصيل، ومنه ما دار من الخطب هنالك ولا
سيما خطبة أحد العلماء في تاريخ المدرسة وسير العلم فيها.
هذا، وإن للعلم الديني بقية في معاهد ومدارس أخرى من المدن الآهلة
بالمسلمين كدهلي ولكهنوء ولاهور ، وإني لأرجو الخير والإصلاح لمدرسة (فتح
بور) في دهلي بهمة ناظرها سيف الرحمن الأفغاني وغيرته وإخلاصه، وقد
سررت بزيارتي واجتماعي بجمهور العلماء والطلبة فيها، ورحب بي بعضهم
بخطبة عربية ارتجالية فأجبته بخطبة وجيزة أودعتها من النصائح في إصلاح
التعليم وأهله ما فتح الله تعالى علَيَّ به هنالك. وحثثتهم على العناية بتعلم اللغة
العربية بالقول والكتابة، وترك قراءة الكتب بالترجمة، فأظهروا الارتياح لذلك.
أما مدرسة ندوة العلماء التي أسست لأجل إصلاح التعليم الديني ودراسة العلوم
الإسلامية والعصرية كلها باللغة العربية، والتي زرت الهند بدعوة جمعيتها، وكنت
رئيس احتفالها (اجتماعها العامّ في هذا العام) فإنني لم أقف على طريقة التعليم
فيها ولم أختبر أحدًا من طلبتها؛ لأن أيام زيارتي لها كانت أيام عطلة الدراسة
واشتغال الناظر والمعلمين بالاحتفال الذي لم يسبق له نظير في كثرة إقبال الناس
عليه من البلاد الإسلامية الكثيرة ، وقد ارتجل أحد طلبتها خطبة بالعربية في مدرسة
(فتح بوري) في دهلي. وسيكتب لي رئيس الندوة بيانًا مفصلاً عن مدرستها ينشر
في الرحلة إن شاء الله تعالى.
يعني أهل الهند بالمعقولات من المنطق والفلسفة القديمة والأصول، فعنايتهم
بها وبالحديث أشد من عناية أهل مصر والشام، بل أقول: إنني لا أعرف أن شعبًا
من شعوب المسلمين يُعْنَى بالحديث كعنايتهم، فهذا الأزهر أشهر المدارس الدينية
وأكبرها كاد يكون علم الحديث فيه نسيًا منسيًّا، ولكن حظ مسلمي الهند من أحاديث
الأحكام الفقهية أنهم يتكلفون تطبيقها كلها على مذهبهم في الفروع وإلا
حملوا ما يعيبهم تطبيقه على النسخ عملاً بقاعدة الكرخي وأمثاله من فقهاء المذاهب
وهي: أن كلام أصحابهم (الحنفية) هو الأصل، وكل من الكتاب والسنة يُعْرَض
عليه فإن وافقَهَ قبل وسُمي حجة له، وإن خالفه أُوِّل أو ادُّعي نسخه، إلا أن يجدوا
مطعنًا ما في سند الحديث، فإنهم يُكفون بذلك أمره كما قال الكرخي. وقد قلت لبعض
كبار العلماء في الهند - وقد أنست منه الصلاح والإنصاف -: أليس هذا عين
التحريف المعنوي الذي نعاه الكتاب العزيز على أهل الكتاب؟ فقال: اللهم
نعم، قلت: فلِمَ لا تقرءون الحديث وتقررون معناه بِحَسَب المتبادر من لفظه،
وتجعلونه فوق المذاهب أو بِمَعْزِلٍ عنها؟ قال: إن هذا لا يرضي الطلبة
ولا يحضرون دروس الحديث إلا إذا قرئ على هذه الطريقة. قلت إذًا تؤثرون
مرضاتهم على مرضاة الحق؟ قال: هذا هو الواقع! ! ولكن بعض علماء ديوبند
قال: إنه يسهل تطبيق جميع الأحاديث على مذهب الحنفية بغير تكلُّف، وضرب
لذلك بعض الأمثلة.
وهذا أغرب كلام سمعته من المشتغلين بالعلم؛ فإن المسائل التي اختلف فيها
أبو حنيفة مع مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة الفقه رضي الله عنهم
أجمعين - كثيرة جدًّا، وهم كانوا أكثر رواية للحديث، وكانوا فيه على نسبة
تأخرهم. فأحمد أكثر رواية من الشافعي، والشافعي أكثر رواية من مالك، وهذا أكثر
رواية من أبي حنيفة. ثم إنهم كانوا أعرق منه في معرفة لغة الحديث؛ لأنهم
أصلاء في العربية وهو دخيل فيها، فإذا فرضنا أنه كان أذكى ذهنًا منهم كلهم، فلا
يعقل أن يصل بالذكاء إلى أن يكون هو المصيب وحده في جميع المسائل المختلف
فيها، ولا يتفق لأحد منهم أن يصيب في مسألة ما على سَعَة علمهم ومعرفتهم
واجتهادهم. ولا يلجأ إلى الجواز العقلي وإنْ كان محالاً عاديًا في مثل هذا إلا الجدل
المماري. على أنه مشترك الإلزام، فكما يجوز أن يصيب هذا في كل مسألة لأنه
ممكن بالإمكان الخاص يجوز أن يكون ذلك هو المصيب، ويجوز أن يخطئوا جميعًا،
وكما يجوز هذا عقلاً يجوز شرعًا؛ إذ ليس أحد منهم معصومًا، ولكن المعقول
الموافق لسنن الله تعالى هو أن كل واحد يخطئ ويصيب إلا المعصوم.
لا يتوهمن متوهم أنني أريد بشيء من كلامي هذا تفضيل بعض هؤلاء
الأعلام في اجتهاده على بعض، وإنما أعتقد أن كل واحد منهم يصيب ويخطئ،
وأن الصواب ليس واجبًا لأحد منهم ولا وقفًا عليه ولا لازمًا له؛ إذ لا عصمةَ لأحد
منهم. وأما قول بعضهم: إن مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ
يحتمل الصواب. فإنما يصح مثله من المجتهد؛ لأن اجتهاده أوصلَهُ إلى الظن بأن
ما ذهب إليه هو الصواب، ومقتضاه أن يظن ما خالفه خطأ، وكل منهما يحتمل
الصواب بطبيعة مفهومه. وأما المقلد فلا مذهب له، وإنما ينتمي إلى المذهب الذي
يجد عليه آباءه وقومه، فإن تحول عنه فإنما يتحول لمنفعة تعرض له في غيره؛
لأن المذاهب عبارة عن طريقة يجري عليها المجتهد في استنباط الأحكام، وأين
المقلد في ذلك؟ ولو كان له مذهب يذهب إليه في الفهم والاستنباط لَمَا انتسب إلى
شخص أحد من العلماء فقيل مالكي وشافعي. وإني أُرَانِي أطلت في هذه المسألة،
ولم أكن أريد الخوض فيها، ولا هذه العُجالة بموضع لها، ولكن جمح القلم، فلنرد
جماحه ولنعد إلى ما كنا فيه.
وإذا كانت قراءة أحاديث الأحكام حجة على من يتعمد تأويلها وإخراجها عما
يتبادر إلى فهمه من معناها وإضلالاً لمن يتلقى هذا التأويل بالقبول، فهذا لا يتعدى
ما اختلفت فيه المذاهب والآراء الفقهية من الأحاديث، ويستفيد المشتغلون بالحديث
من سائر الأحاديث آدابًا وحكمًا وعلومًا لا يجدونها في كتب الفقه ولا في غيرها من
كتب العلم. وقد كان من تأثير الاشتغال بها أن صار في الهند طائفة كبيرة تعمل بها،
وبما يتبادر من الكتاب العزيز لا يقلدون دينهم أحدًا، وإنما يستعينون بكلام العلماء
على فهم الكتاب والسنة. وهم يسمون أنفسهم أهل الحديث، ويطلق عليهم عوام
الحنفية لفظ (وهابية) وقد يكون فيهم من لم يطلع على شيء من كلام الشيخ
محمد بن عبد الوهاب الذي ينسبونهم إليه. وسيرة هؤلاء الشخصية أحسن من سيرة
سائر فرق المسلمين المنتمين إلى المذاهب، فهم يجتنبون الفواحش والمنكرات والبدع
كلها ولا سيما بدع القبور، فإذا زاروها وقفوا عند حدود السنة المأثورة من
الدعاء والاعتبار، ويحافظون على صلواتهم وغيرها من الفرائض ويصدُقون في
معاملاتهم الدنيوية وينصحون.
وجملة القول أن التعليم الديني كان قد ضعف في الهند كما ضعف في سائر
الأقطار، وقد طفق يجدد قوته، ويعيد ما فقد من استقلاله، ويصلح ما فسد من
طرقه وأساليبه، ويوشك أن يظهر أثر الإصلاح ونتيجته في (ديوبند) قبل
ظهورهما في الأزهر.
***
الحالة السياسية في الهند
السياسة فتنة إذا تركها الكاتب والمؤرخ لا تتركه، وإنني رحلت إلى الهند وأنا
أنوي أن أقصر عملي فيها على اختبار حال إخواني المسلمين في الدين والعلم الديني
والدنيوي، لا أحفل بغير ذلك ولا أُعْنَى بالبحث عنه، ولا سيما السياسة، ولكن
الحكومة الإنكليزية هنالك جعلتني في موضع الظنة، واتهمتني بالسياسة فأذكت عَلَيّ
العيون والجواسيس، فكانوا أتبع لي من ظلي من حيث أفطن لهم ومن حيث لا
أفطن. ومنعت جمعية ندوة العلماء عما كانت تريده من إقامة أقواس الزينة وعمدها
أمام محطة (لكنهوء) وفي شوارعها لأجلي، وكادت تمنعها من جعلي رئيسًا
لاحتفالها لولا أن أقنع رئيسها الوالي الإنكليزي بأنني رجل علم ودين لا رجل سياسة
وذكر له أن من رأيي أن الجامعة الإسلامية لا وجود لها ولا ضرر في وجودها
على الاستعمار الأوروبي، واستشهد على هذا بجريدة إنكليزية نقلت هذا الرأي في
خطبة للدكتور مرجليوث الأستاذ في مدرسة أكسفورد الجامعة في إنكلترة.
وقد عملت بما نويت، فلم أتعمد البحث في السياسة لذاتها، وكنت أحسن
التخلص ممن يسألني مسائل سياسية فلا أسيء رده ولا أخوض معه كثيرًا، ولكن
جاء في كثير منها عفوًا أو نافلة تابعة لمباحث أخرى كبحثي مع بعض الأذكياء
المتعلمين في المدارس العالية في الهند وإنكلترا وغيرهم عن رأيهم في مستقبل
المسلمين مع الوثنيين في الهند، وقد جاء الكثير مما سمعته مطابقًا لما كنت أعلمه
أو أعتقده استنباطًا من الأخبار التي تصل إلينا في الجرائد. ولكنني سمعت من
الآراء ما لم يكن يخطر لي ببال.
يعرف أكثر المشتغلين بالسياسة في الأقطار المختلفة أن وثنيي الهند قد ارتقوا
في العلوم العصرية ارتقاءً أشعرهم بالحياة القومية، ودفعهم إلى مطالبة الإنكليز
بحقوقهم في إدارة بلادهم وأحكامها، وإنهم صاروا يهددون الحكومة باغتيال رجالها
ونسف سككها الحديدية ومبانيها الأميرية بالديناميت، وقد فعلوا ذلك غير مرة، وهم
يحتجون على الحكومة بأنهم مستعدون لكل عمل في الحكومة كاستعداد الإنكليز
وغيرهم أو هم أحسن استعدادًا، ويطلبون منها أن تمتحنهم مع رجالها في أي
القوانين الإدارية والقضائية، وفي أي العلوم التي يتوقف على إتقانها أي عمل من
الأعمال في أي فرع من فروع الحكومة ومصالحها، فإن لم يكونوا أعلم منهم فلا
تقبل لهم طلبًا. وكذلك يطلبون تجربتهم في تلك الأعمال، فإن لم يقوموا بها كما
يقوم بها العمال من الإنكليز، وأحسن فإنهم يعذرونها في حرمانها إياهم أو إعطائهم
دون حقهم منها.
وهم في إقليم بنغاله أرقى منهم في غيره وأشد عصبية. وكانت الحكومة
قسمت هذا الإقليم إلى ولايتين، وكان من مصلحتها في ذلك أن المسلمين يكثرون
في إحدى هاتين الولايتين فيكون لها العذر بأن تكثر من عمالهم فيه - وضلعهم معها -
فيضعف بذلك نفوذ الوثنيين، فما زالوا يلحون في جعله ولاية واحدة كما كان،
ويهددون الحكومة إذا لم تفعل حتى أنفذ ذلك ملك الإنكليز عند إلمامه بالهند للاحتفال
بتتويجه، وقد ساء ذلك المسلمين أشد الاستياء وعدوه جبنًا من الحكومة وخوفًا من
الوثنيين، ويقال: إن أمر الملك بجعل (دهلي) قاعدة الممالك الهندية ومركز
حاكمها العام بدلاً من (كلكته) قد قصد به إرضاء المسلمين وتطييب قلوبهم؛ لأنه
كثيرون في دهلي وولايتها، وكانت عاصمة ملكهم من قبل. وقد التزمت الحكومة
للمسلمين حفظ حقوقهم في الوظائف في بنغاله، وإن كانوا الآن ستة في المئة من
مجموع أهلها (كالقبط بالنسبة إلى مسلمي مصر) وكانوا في أحد قسميها السابقين
زهاء الثلث.
لم يمنع هذا بعض المسلمين من إظهار السخط الشديد للحكومة والتشديد في
انتقادها ولومها في الجرائد وكان النواب وقار الملك ممن كتب في ذلك كتابة شديدة
على أناته ووقاره وسنه، فما بالك بالشبان كالكاتب البليغ صاحب جريدة (زميندار)
التي أنشئت حديثًا في لاهور، فإنه كان شديد المعارضة، قوي العارضة، حتى
أحرج صدر الحكومة فحمَّلته غرامة حملتها عنه الأمة وأظهرت الميل إليه،
والحدب عليه، وانبرى للرد عليه صديقنا صاحب جريدة (وطن) وحمي الوطيس
بينهما، ولم تخل الردود بينهما من المطاعن الشخصية، ورأيت عقلاء المسلمين في
المدن التي زرتها قبل زيارة لاهور متألمين من هذا الخلاف بين الجريدتين،
ويتمنون إصلاح ذات بين الكاتبين، ولا يجدون إلى ذلك سبيلاً، وقد وفقني الله
تعالى للإصلاح بينهما، فإن كل واحد منها قد أكرمني بتحقيق رجائي بعد أن حاول
إقناعي بعذره وكون الحق معه، فأنا أشكر لهما ذلك، وأسأل الله لهما التوفيق في
خدمة أمتهما.
كان المعروف عندنا بمصر أن حكومة الهند تتألف المسلمين وتساعدهم على
الارتقاء لتجعلهم في وجه الوثنيين الذين طفقوا يجاذبونها زمام الحكم في بلاد، وأن
المسلمين ضلعهم مع الحكومة يعتزون بها على الوثنيين ولا يريدون الاتفاق مع
الوثنيين عليها. وقد ظهر لي من كلام كثير من أهل البصيرة تفصيل في هذه المسألة
مجمله أن سياسة الحكومة غامضة فيها، فبعض رجالها يظهر الميل إلى المسلمين
والرغبة في ارتقائهم ولكن مع الاحتراس في العمل، وبعضهم يظهر الميل إلى
مراعاة قوة الوثنيين، ولأجل هذا يوجد في المسلمين أناس يرجحون الاتفاق مع
الوثنيين وأن يكونوا معهم إلبًا [1] واحدًا على الحكومة، وأكثرهم يرجحون جانب
الحكومة، ويرجون بالإخلاص لها أن يرتقوا في العلوم والوظائف، ويرون أن
الوثنيين لا ينصفونهم، ولا يجعلون لهم حظًّا من الحكم يليق بهم إذا هم ظفروا بما
يسعون إليه من الاستقلال. وقد سمعت من بعضهم أن الوثنيين يستميلونهم إليهم،
ويقولون لهم: إننا أمة واحدة يجمعنا وطن واحد، وهؤلاء الإنكليز يحتقروننا جميعًا
فيجب أن نكون إلبًا واحدًا عليهم.
الحكومة الإنكليزية بارعة في إقامة ميزان السياسة ببين الشعوب والانتفاع من
الخلاف بينهم، ولكنني أظن أن الموازنة الحاضرة بين مسلمي الهند ووثنييها لا
يطول أمدها، فإما أن تجمع هذه الحكومة أمرها في مساعدة المسلمين على الارتقاء
الصحيح الذي يساوون به الوثنيين فيكونوا كلهم معها ظاهرًا وباطنًا، وإما أن تلهيهم
بالتافه حتى يعتقدوا أنها تعبث بهم فيكونوا كلهم مع الوثنيين إلبًا واحدًا، وحينئذ
يتغير وجه السياسة في الهند وإن كانت قوى الإنكليز الإدارية والسياسية والمالية
والآلية تكفل لهم طول زمن الاستيلاء التام على تلك الممالك الواسعة ما دامت لا
تخاف أن تعارضها فيه قوة خارجية، بل هي تضم قسمًا كبيرًا من إيران إلى الهند
وبلوخستان وتطمع فيما هو أعظم من ذلك، وإلى الله المصير.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الإلب القوم يجتمعون على عداوة واحد.