المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: المسيو شاتليه - مجلة المنار - جـ ١٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (15)

- ‌المحرم - 1330ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس عشر

- ‌ذكرى الهجرة النبوية الشريفةوجعلها تاريخًا عامًّا للبشر

- ‌علاوة للمقالة

- ‌نقل كلام المخالفين أو المبطلين

- ‌أسئلة من الهند

- ‌أموال الشركات الأجنبية في بلادناوحقوق المعاهدين

- ‌الدخول في الماسونية

- ‌المسألة الشرقية

- ‌ المسألة الشرقية

- ‌خاتمة المقالات.. شجون ومحاورات

- ‌القرابين والضحايا في الأديان

- ‌إنا لله وإنا إليه راجعون [

- ‌صفر - 1330ه

- ‌السيد حسين رضا(1)

- ‌الدولة العلية واليمن

- ‌دعوة سيدي أحمد الشريف السنوسيإلى جهاد الإيطاليين في طرابلس الغرب وبرقة

- ‌اللغة العربية

- ‌الجامعة الإسلامية [*]

- ‌الصلح بين الدولة والإمام

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌ربيع الأول - 1330ه

- ‌الوفاق بين الإسلام والنصرانية

- ‌الاجتهاد والتقليد

- ‌اللغة العربية [*]

- ‌العالم الإسلامي [

- ‌أخبار العالم الإسلامي

- ‌الدين كله من القرآن [*]

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع الآخر - 1330ه

- ‌المقالة الثانيةمن المقالات الروسية عن تركستان

- ‌عراف

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](1)

- ‌التقريظ والانتقاد [*]

- ‌جمادى الأولى - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](2)

- ‌أخبار العالم الإسلامي

- ‌المطبوعات الجديدة [*]

- ‌جمادى الآخرة - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](3)

- ‌رجب - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](4)

- ‌فرنسة في تونس وإنكلترة في مصر

- ‌السكة الحديدية في الحجاز [*]

- ‌طريقة السنوسيةوزواياها بين الإسكندرية ودرنة [*]

- ‌أهمية الإسلام

- ‌ ابن تيمية ولوتر

- ‌فوائد صحيةغذاؤنا في الصيف [*]

- ‌أسرار الثورةأوخواطر ساعة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌التقاريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1330ه

- ‌التربيةووجه الحاجة إليها وتقاسيمها

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](5)

- ‌نهضة آسيوية

- ‌الشعر العصري

- ‌رمضان - 1330ه

- ‌بشائر عيسى ومحمد في العهدينالعتيق والجديد [*](6)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌مجلة العالم الإسلامي الفرنسية

- ‌التقاريظ

- ‌كامل باشاآراؤه السياسية منذ 24 عامًا

- ‌شوال - 1330ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الجامعتان الإسلامية والعثمانية [*](1)

- ‌بشائر عيسى ومحمد [*]في العهدين العتيق والجديد(7)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ذو القعدة - 1330ه

- ‌الحرب الصليبية في البلقان

- ‌السبحةتاريخها والتسبيح والذكر بها

- ‌حديث في استلزام المغفرة للذنوب

- ‌أسئلة من القوقاس

- ‌الجامعتان الإسلامية والعثمانية(2)

- ‌نظرة في الجزء الثاني من كتابتاريخ آداب اللغة العربية [*](2)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌ذو الحجة - 1330ه

- ‌اتخاذ الصور والتصوير الشمسي

- ‌فتاوى المنار

- ‌ميزان الجرح والتعديل [*](2)

- ‌خطبةافتتاح الاجتماع السنوي العام لجماعة الدعوة والإرشاد

- ‌حقيقة أحوال مسلمي جاوه

- ‌بعد تسعة قرون [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌خاتمة السنة الخامسة عشرة

الفصل: الكاتب: المسيو شاتليه

الكاتب: المسيو شاتليه

الغارة على العالم الإسلامي

أو فتح العالم الإسلامي [*]

مقدمة المسيو شاتليه [1]

(1)

إرساليات التبشير البروتستانية

قلنا في سنة 1910 عندما كنا نخوض على صفحات هذه المجلة في موضوع

السياسة الإسلامية:

(ينبغي لفرنسة أن يكون عملها في الشرق مبنيًّا قبل كل شيء على قواعد

التربية العقلية ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتحقق من فائدته ، ويجدر بنا

لتحقيق ذلك بالفعل أن لا نقتصر على المشروعات الخاصة التي يقوم بها الرهبان

المبشرون وغيرهم؛ لأن لهذه المشروعات أغراضًا خصوصية وليس للقائمين بها

حول ولا قوة في هيئتنا الاجتماعية التي من دأبها الاتكال على الحكومة وعدم الإقبال

على مساعدة المشروعات الخاصة التي يقوم بها الأفراد فتبقى مجهوداتهم ضئيلة

بالنسبة إلى الغرض العام الذي نحن نتوخاه ، وهو غرض لا يمكن الوصول إليه إلا

بالتعليم الذي يكون تحت إشراف الجامعات الفرنسية؛ نظرًا لما اختص به هذا التعليم

من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة.

وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام الأوضاع

المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنسية.

هذا ما ارتأيناه يومئذ وسيظهر ما يؤيده في الفصول التالية المتعلقة

بإرساليات التبشير البروتستاني الأنجلو سكسونية والجرمانية الدائبة على العمل

في العالم الإسلامي حتى أصبحت أهميتها تفوق بكثير ما اعتاد الفرنسيون أن

يتصوروه؛ لأن النشاط وقوة الجأش التي يظهرها القائمون بأعمال هذه

الإرساليات تختلف عما تمتاز به أمتنا.

وكنا منذ أمد بعيد نود أن نخوض في ذكر تفاصيل أعمال هذه الإرساليات

التي اشتهرت بخطتها ووفرة الوسائل التي أعدتها وتوسلت بها لمقاومة دين

الإسلام.

وحسبنا أن نستشهد بإرسالية التبشير الكاثوليكية في بيروت لتكون موضوع

التفكير والتأمل في فرنسة. إن (كلية القديس يوسف) اليسوعية التي تدبر أعمالها

هذه الإرسالية لا تأثير لها على النشوء الفكري في المحيط الإسلامي ولكن التعليم الذي

تنشره وتبثه كان له الحظ الأوفر من نشر الأفكار الفرنسية في سورية والقطر

المصري.

نعم إن غاية المدرسة اليسوعية وطريقة التعليم فيها تختلفان عن غاية وطريقة

المدرسة الكلية الفرنسية في غلطة (الآستانة) إلا أن النتائج كانت متقاربة من حيث

تعميم المبادئ والأفكار التي تنشرها اللغة الفرنسية ، ومن هذا يتبين لنا أن إرساليات

التبشير الدينية التي لديها أموال جسيمة وتدار أعمالها بتدبر وحكمة تأتي بالنفع الكثير

في البلاد الإسلامية من حيث إنها تبث فيه الأفكار الأوروبية.

إلا أن لإرساليات التبشير مطامع أخرى كما يتبين من الجملة الآتية التي

أستخرجها من رسالة أرسلها إليَّ من جزيرة البحرين (قرب عمان) في 2 أغسطس

سنة 1911 حضرة القسيس المحترم صموئيل زويمر منشئ مجلة

العالم الإسلامي الإنجليزية، وهو يبني فيها صروح آمال شامخة على أعمال

المبشرين البروتستانيين قال:

(إن لنتيجة إرساليات التبشير في البلاد الإٍسلامية مزيتين - مزية تشييد ومزية

هدم، وبعبارة أخرى مزيتي تحليل وتركيب ، والأمر الذي لا مرية فيه هو أن حظ

المبشرين من التغيير الذي أخذ يدخل على عقائد الإسلام ومبادئه الأخلاقية في البلاد

العثمانية والقطر المصري، وبلاد أخرى هو أكثر بكثير من حظ الحضارة الغربية

منه ، ولا ينبغي لنا أن نعتمد على إحصائيات (التعميد) في معرفة عدد الذين

تنصروا رسميًّا من المسلمين؛ لأننا هنا واقفون على مجرى الأمور ومتحققون من

وجود مئات من الناس انتزعوا الدين الإسلامي من قلوبهم واعتنقوا النصرانية من

طرف خفي) اهـ.

ولا شك في أن إرساليات التبشير من بروتستانية وكاثوليكية تعجز عن أن تقتلع

العقيدة الإسلامية من نفوس منتحليها أو تزحزحها، ولا يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار

التي تتسرب من اللغات الأوروبية، فبنشرها اللغات الإنكليزية والألمانية والهولندية

والفرنسية يتحكك الإسلام بصحف أوروبة وتتمهد السبيل لتقدم إسلامي مادي وتقضي

إرساليات التبشير لبانتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التي لم تحفظ كيانها وقوتها

إلا بعزلتها وانفرادها؟

أما ما يقوله حضرة مكاتبنا من وجود مئات من المسلمين اعتنقوا

النصرانية سرًّا وهم ينتظرون فرصة للجهر بها فذلك أمر لا يمكننا البت فيه

مع حضرة المكاتب ، على أنه ليس من الحوادث الغريبة أن يتنصر بعض أفراد

ينتمون إلى أصل فارسي أو هندي؛ لأن اختلاف النِّحَل والاعتقادات في هذه

العناصر هو من مزاياها الاجتماعية وكذلك الحال في الوسط السامي المتصل

بالأصل العبري ولكن من النادر المستغرب أن تقع حوادث التنصر في بيوت

السادات العلوية وبين الباتان (الأفغانيون الخُلَّص الموجودون في بلاد الهند)

ومشايخ الهند وجيرانهم الأفغانيين والأتراك والتركمان والعرب الحقيقيين

والبربر.

ولا ينبغي لنا أن نتوقع من أكثرية العالم الإسلامي بأن يتخذ له أوضاعًا

وخصائص أخرى إذا هو تنازل عن أوضاعه وخصائصه الاجتماعية إذ الضعف

التدريجي في الاعتقاد بالفكرة الإسلامية، وما يتبع هذا الضعف من الانتقاض

والاضمحلال الملازم له سوف يفضي - بعد انتشاره في كل الجهات- إلى انحلال

الروح الدينية من أساسها لا إلى نشأتها بشكل آخر.

على أن المناقشة في هذه المسألة لا طائل تحتها؛ لأن الآراء تنبعث عن

وجهة التفكير، فتقتصر إذن على القول بأن سير العالم الإسلامي يتدرج نحو

انحلال أفكاره الدينية وزوالها وذلك أمر طبيعي ممكن التحقق، أما فرض

تدرج المسلمين في اعتناق المسيحية فخارج عن حد الإمكان؛ لأن المسلم

كالمسيحي واليهودي لا يجذبه التعليم العصري إلى الاعتقادات الدينية.

ولكننا نعود فنقول: إنه مهما اختلفت الآراء في نتائج أعمال المبشرين من حيث

الشطر الثاني من خطتهم (الهدم) فإن نزع الاعتقادات الإسلامية ملازم دائمًا

للمجهودات التي تبذل في سبيل التربية النصرانية ، والتقسيم السياسي الذي طرأ على

الإسلام سيمهد السبيل لأعمال المدنية الأوروبية، إذ من المحقق أن الإسلام يضمحل

من الوجهة السياسية وسيكون بعد زمن في حكم مدنية محاطة بالأملاك

الأوربية.

قد يظهر لإخواننا المسلمين أننا نتصرف في مستقبلهم بحرية وعدم

تكلف، ولكن من منهم ينكر أن العالم الإسلامي أصبح هدفًا لغلطات فتيان

جمعية الاتحاد والترقي الذين ورثوا عبد الحميد واستعانوا بوسائله السياسية

بعد أن خلعوه، ولم تكن أمامهم وسيلة لإنقاذ السلطنة العثمانية والخلافة

الإسلامية غير تنظيم حكومة مؤلفة من ولايات إسلامية متحدة، وكل وسيلة

غير هذه كانت لنتيجة لا بد منها وهي تقسيم المملكة؟

إننا لم نكن نرمي الكلام على عواهنه وما كنا نقصد غير تقرير حقيقة

راهنة، عندما نبهنا المسلمين من قراء مجلتنا - قبل احتلال طرابلس الغرب

بستة أشهر - إلى ما تخبئه الأيام للآستانة التي ستقع بين مخالب ألمانية

وروسية.

إن إرساليات التبشير البروتستانية الأنجلو سكسونية تعلق أهمية كبرى

على الحال الجديدة التي ظهر بها العالم الإسلامي وقد رأينا أن نذكر معها

إرساليات التبشير الألمانية لما عقد بينهما من الأواصر والروابط في مؤتمري

سنة 1906 وسنة 1911 ولم يبق ارتباطهما مقتصرًا كسابق عهده على

تناوب كرسي الأسقفية البروتستانية في بيت المقدس.

وليس من المستغرب، ونحن نبدي إعجابنا بأعمالها، أن نلح بمزاحمتها

ومسابقتها، خصوصًا، وأن السيطرة على أهم الأسواق البشرية صارت متوقفة على

هذه المزاحمة والمسابقة، وكنا نود لو كان في الوقت متسع لبسط القول وإيضاح

مجرى الأمور في هذه المسألة بحذافيرها؛ لأنها جديرة باهتمام رجال فرنسة بلا

إضاعة وقت، إلا أننا اضطررنا إلى الاقتصار على جمع بعض أمور وقفنا عليها

وسنبينها هنا بقدر الإمكان.

ونحن نكتفي بعرض هذه الأمور من غير تعليق عليها؛ لأننا اقتطفناها من

مؤلفات وفصول شتى ونظمناها على الترتيب المتبع في مثل هذه الظروف، وإن

المسألة التي تهمنا سوف تتبدد شكوك ذوي البصيرة والرواية لدى اطلاعهم على ما

نعرضه أمام أنظار قراء مجلة العالم الإسلامي.

ونؤمل من ذوي الشأن في إرساليات التبشير البروتستانية أن لا ينكروا علينا

انتهاج هذه الخطة التي هي خطة مجلتنا، وهم أعلم الناس بعواطفنا وشعورنا نحو

عملهم الذي لا يمكننا أن نذكر أهميته إلا مقرونة بإلحاحنا في ذكر الضرورات التي

تقتضيها السياسة الفرنسية الوطنية لأجل تحول مجهوداتنا إلى التعليم التابع لطريقة

المدارس الجامعة الفرنسية وذلك أشد العوامل تأثيرًا على بلادنا لندخل في حلبة

المسابقة لنشر التعليم العقلي.

***

(2)

تاريخ التبشير

اقتصرت مجلة العالم الإسلامي في هذا الفصل على تلخيص كتاب (مشروع

التبشير) الذي ألفه المستر (إدوين بلس) البروتستاني، ثم أعاد طبعه قبل عشر

سنوات فزاد عليه زيادات أخرى وسماه (ملخص تاريخ التبشير) ذكر فيه تاريخ

إرساليات التبشير البروتستانية على اختلاف نزعاتها منذ نشأتها في القرون الغابرة

إلى تاريخ الطبعة الثانية لكتابه، مع بيان ما بين هذه الإرساليات من ارتباط

وتضامن.

ثم قالت: (إن هذا السِّفر نفيس في بابه يتسنى لقارئه أن يقف على حقيقة

أعمال الإرساليات البروتستانية في بلاد الإسلام حتى أواخر القرن التاسع عشر،

إلا أننا ننكر على مؤلفه عدم إشارته إلى الإرساليات الكاثوليكية وهذا موضعالضعف

في كتابه بل في أعمال إرساليات التبشير جميعًا على اختلافها، ولو كان المبشرون

الكاثوليك والبروتستان الذين يجتمعون في بلاد إسلامية يتنبهون إلى أن انقسامهم يحط

من قدرهم ويقلل هيبتهم ويوطد أركان الإسلام لكانوا على الأقل يوهمون الناس بأنهم

متفقون ظاهرًا، خصوصًا وأن انقسامهم هذا يمهد للإسلام السبيل لاستمداد مبادئ

الحضارة من إرساليات المبشرين من غير أن يقتبس أفكارها الدينية، ولا ريب أن

نخبة الأذكياء المسلمين في مصر وسورية - عندما يقفون على هذه التفرقة الموجودة

بين الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانية والعلمانية التي تتجاهل كل منهن الأخرى

- لا يترددون في الحكم على مذاهب النصرانية بأنها قد فقدت التوازن بالرغم من

الخدم التي تأتي بها الحضارة الأوربية.

واستأنفت المجلة بعد هذا الاستطراد كلامها على كتاب المستر بلس فقالت:

إنه ينقسم إلى قسمين الأول في تاريخ التبشير العام وطرائقه، والثاني في وصف

موقف الإرساليات البروتستانية وأعمالها في البلاد الإسلامية.

ويقول المؤلف: إن تاريخ التبشير المسيحي يرجع إلى صدر النصرانية

ومبدإ أسيسها، وذكر الذين قاموا بوظيفة التبشير بالنصرانية في القرون الوسطى،

فقال: إن (ريمون لول) الإسباني هو أول من تولى التبشير بعد أن فشلت الحروب

الصليبية في مهمتها. فتعلم (لول) هذا اللغة العربية بكل مشقة وجال في بلاد

الإسلام وناقش علماء المسلمين في بلاد كثيرة.

وذكر المؤلف في الفصل الثالث المبشرين الكاثوليك والدور الذي لعبوه في ثورة

(البوكسر) الصينية وتداخلهم في شئون القضاء، وهنا انتقدت مجلة العالم الإسلامي

الكاثوليكية على هذا المؤلف البروتستاني اقتصاره على ذكر تاريخ المبشرين

الكاثوليك في ثمان صفحات فقط، وقوله: إن المسلمين ينظرون إلى الطقوس

والاحتفالات الكاثوليكية باشمئزاز ، ووصفت المجلة هذا القول بأنه لا يشف عن

محبة مسيحية.

وفي الفصل الرابع: وصف المؤلف تنظيم إرساليات التبشير في القرون

الوسطى في الهند وجزائر السند وجاوه واختلاط المبشرين بالمسلمين منذ ذلك

الحين، وأشار إلى (بترهيلنج) الذي احتك بمسلمي سواحل أفريقية وإلى اهتمام

هولندا بالتبشير في جاوه في أوائل القرن الثامن عشر حتى قسمت جاوه لهذه الغاية

إلى مناطق لكل منها كنيسة ومدرسة، وقال: إن عدد الذين تنصروا فيها

سنة 1721 بلغ 100000 وكان عدد النصارى في سيلان سنة 1722 - وكانت

يومئذ تحت سلطة هولندا - يبلغ 424000 وتساءل عما بقي منهم إلى الآن، وقال

: إن المسلمين كانوا فيها قليلين فصاروا الآن فئة كثيرة.

ثم ذكر تحريك البارون (ده ويتز) ضمائر النصارى سنة 1664 إلى

تأسيس مدرسة كلية تكون قاعدة لتعليم التبشير المسيحي تعلم فيها لغات الشرق

للطلاب الذين يناط بهم أمر التبشير، فارتأى أحد أحبار الكنيسة أن تعهد إلى

الأروام مسئولية تبشير الأتراك ثم فشل البارون في مشروعه.

ثم سرد المؤلف تاريخ تنظيم الإرساليات البروتستانية من دانمركية

وإنكليزية وألمانية وهولندية واتصال بعضها ببعض وما كان من مساعدة

فردريك الرابع وكرستيان السادس ملكي الدانمارك وحكومة هولندا وتأييدهم

لأعمالها في القرن السابع عشر وما بعده في كل أقطار العالم.

وانتقل إلى البحث في أعمال هذه الإرساليات في القرنين الأخيرين فقال:

إن المستر (كاري) هو الذي فاق أسلافه في مهنة التبشير فدرس لغة اللاتين

واليونان والفرنسيس والهولنديين والعبرانيين كما تعلم كثيرًا من العلوم، ولما

نشر كتبه في التحريض على التبشير قوبلت بالاستحسان ففتح له باب الاكتتاب

وذهب إلى الهند لهذا الغرض وصارت الأموال ترسل إليه ثم طلب أن يرسل

إليه ناس يؤازرونه في التبشير فتأسست سنة 1795 (جمعية لوندرة التبشيرية)

وسرعان ما تأسست جمعيات على شاكلتها في (اسكوتلندة) و (نيويورك)

وانتشرت هذه الفكرة في ألمانية والدانمارك وهولندة والسويد ونروِج

وسويسرا وغيرها وتعذر على الفرنسيين أن يقوموا بشيء من هذا القبيل لانشغالهم

بالثورة التي آلت إلى الانقلاب المشهور.

وتأسست جمعيات فرعية كثيرة مثل (جمعية التبشير في أرض التوراة

العثمانية) وبلغ الشغف بهذا العمل أن أسست (إرساليات تبشير طبية) لتلحق

بالإرساليات العامة فنجحت نجاحًا باهرًا؛ لذلك أخذت تنمو وتزداد وتألفت لها

أقسام نسائية وأرسل بعضها إلى الهند والأنضول.

وفي سنة 1855 تأسست جمعية (الشبان المسيحيين) من الإنكليز

والأمريكان ووظيفتها إدخال ملكوت المسيح بين الشبان، وعقد تلاميذ

المدارس النصرانية في (نورثفيلد) مؤتمرًا اجتمع فيه 250 مندوبًا عن 80

مدرسة تكلفت بتقديم 100 شاب للتطوع في نشر الدين المسيحي، ومن هؤلاء

تألفت (جمعية الشبان المتطوعين) للتبشير في البلاد الأجنبية.

ويقول المؤلف: إنها لعبت دورًا هامًّا في تبشير المسلمين على الخصوص!

لأن شعارها كان نشر (الإنجيل بين أبناء الجيل الحاضر) ثم تبع ذلك تأسيس

جمعيات التبشير في كل بلاد البروتستان. وفي سنة 1895 تأسست (جمعية اتحاد

الطلبة المسيحيين في العالم) وهي تهتم بدرس أحوال التلاميذ في كل الأقطار وبث

روح (المحبة) بينهم فالتحق بها 100.000 طالب وأستاذ يمثلون 40 قومًا، فتولد

من وجود هذا العدد العظيم ميل إلى الانتفاع به؛ ولذلك تأسست سنة 1902 (جمعية

تبشير الشبان) ومن وظائف هذه الجمعية الأخيرة استمالة النساء والبنات والشبان

والطلبة إلى استماع صوت المبشرين ، ثم تقرر سنة 1907 أن تؤسس جمعية أخرى

لتبشير الكهول وقد تأسست بالفعل وأخذت تباشر أعمالها وترفع التقارير بهذا الشأن.

هذا ملخص القسم الأول من كتاب المستر (بلس) فيما يتعلق بتاريخ إرساليات

التبشير وأعمالها في بلاد الإسلام ، وأما القسم الثاني فخاص بذكر مراكز تنظيم هذه

الإرساليات وإدارة أعمالها في كل قطر على حدة ، وإلى القارئ ملخص هذا القسم:

***

أفريقية

قال المستر (بلس) : إن الدين الإسلامي هو العقبة القائمة في طريق تقدم

التبشير بالنصرانية في أفريقية ، والمسلم وحده هو العدو اللدود لنا؛ لأن انتشار

الإنجيل لا يجد معارضًا لا من جهل السكان ولا من وثنيتهم ولا من مناضلة الأمم

المسيحية وغير المسيحية وليس خصمنا هو العربي الذي يرتاد البلاد للاتجار بالرقيق

- لأن هذه التجارة صارت صعبة - بل إن هذا الخصم المعارض هو الشيخ أو

الدرويش صاحب النفوذ في أفريقية أكثر مما هو كذلك في فارس ، فالشيخ أو

الدرويش يجوبان شواطئ البحر الأحمر والنيجر ومراكش وواداي ويبثان في

الأهالي أن المهدي ينتظر ظهوره وسينشر الإسلام في كل الأقطار ، وقد ظهر مهدي

منذ سنين فحارب الإنكليز ثم توفي فتولى الأمر بعده خليفة غلب على أمره.

أما الشيخ السنوسي العدو الألد للنفوذ الفرنسي والإنكليزي فله تقاليد

أخرى ، ويقول المستر (بلس) : إن طلبة الأزهر يعتقدون بالمهدي ، وأما

المراكشيون فلا يزال يدور في خلدهم إمكان الجهاد، وهو يرى أن الملحمة الكبرى

بين أوروبة والإسلام ستنشب في غربي أفريقية، أو في شماليها ، لا ينبغي أن نستدل

على حقيقة هذه الملحمة المنتظرة بالقتال الذي حدث في السودان.

دخل المبشرون الكاثوليك ربوع أفريقية منذ القرن الخامس عشر (أي في

أثناء الاكتشافات البرتغالية) وبعد ذلك بكثير أخذت ترد إليها إرساليات التبشير

البروتسانية من إنكليزية وألمانية، وكذلك إرساليات التبشير الفرنسية.

ولم تهتم جمعية الكنيسة البروتستانية بالتبشير في أفريقية الغربية إلا منذ

سنة 1804 حيث تعاضدت إرسالياتها وانكفأت على الكونغو، وهذه الجمعية

تقاتل الآن بمؤازرة الأسقف (صموئيل كرونز) الزنجي سلطة الإسلام المتدفق

في النيجر وأفريقية الغربية. وفي سنة 1819 اتفقت هذه الجمعية مع الأقباط

وألفت في مصر إرسالية عهدت إليها بنشر الإنجيل في أفريقية الشرقية وقررت

إرسال مبشرين إلى الحبشة ولكنها فشلت على أثر المناظرة بين اليسوعيين

والبروتستان ، ثم أخذ المبشرون السويديون والإنكليز يرتادون غربي أفريقية وتبعهم

مبشرو المدرسة الجامعة فهبطوا مدينة (منبسة) ثم عززت ألمانية إرسالياتها عقب

اتساع مستعمراتها لكن سرعان ما ظهرت المنازعات بين الكاثوليك والبروتستان،

وكان أهم ذلك في (أوغندا) بين مبشريها الوطنيين والرهبان البيض

الذين ألف إرساليتهم الكاردينال لافيجري [2] .

وتوافد المبشرون على أفريقية الوسطى عقب بعثة (لفنستون) و (ستانلي)

سنة 1878 فاقتسموا مناطقها مع اختلاف جنسياتهم بين ألماني واسكتلندي

وإنكليزي ومورافي وهؤلاء انتشرت إرسالياتهم بدون انقطاع من شرقي

أفريقية إلى أواسطها حتى الخرطوم والحبشة وبلاد الجلا ، وجاءت هذه

الإرساليات بنتائج حسنة.

أما بلاد المغرب فلها مبشرون خاصون بها ترسلهم (جمعية تبشير شمال

أفريقية) وهم منتشرون في مراكش والجزائر وتونس وسائر بلاد الغرب ومنهم

المبشرون والأطباء التابعون لهم ، ولقد شاع أن ذوي الأمر في فرنسة وإيطالية

حانقون على رجال التبشير، إلا أن حاكم الجزائر طمأن بال الأسقف (هارتزل)

في الأيام الأخيرة، وصرح له بأنه ينظر إلى أعمال المبشرين بعين الاستحسان.

وقبل الانتهاء من الكلام على أفريقية لا نرى بدًّا من الإشارة إلى جزيرة

مدغسكر التي يقوم فيها المبشرون البروتستان بخدمة مهنتهم بكل جد ونشاط.

***

آسية الغربية

كان للمبشر (هنري مارتين) يد طولى في إرسال المبشرين إلى بلاد

آسية الغربية فبعد أن أقام في الهند مدة عرج على فارس والبلاد العثمانية

وتوفي سنة 1812، وهو الذي ترجم التوراة إلى الهندية والفارسية والأرمينية

ومن بعده أخذت إرساليات التبشير تشد الرحال إلى الأنضول وفلسطين واتخذت لها

مراكز في أزمير والقسطنطينية وبيت المقدس وتصدرت للتبشير في صفوف

النسطوريين على حدود فارس والسلطنة العثمانية وفي صفوف اليعقوبيين في

ما بين النهرين ، وفي مقدمة هذه الجمعيات لجنة التبشير الأمريكية إلا أن

جمعيات اليهود الإنكليزية سبقتها إلى بعض البلاد العثمانية مثل أزمير والآستانة

وسلانيك فافتتحت فيها مدارس دينية ومعابد ، ومنذ سنة 1849 أخذت ترد إرساليات

أخرى على هذه البلاد فقسمتها إلى مناطق وأصابت لجنة التبشير الأمريكية

منطقة قبائل النصيرية في سورية فأخذت على عاتقها تنصير هذه القبائل

وذهب قسم من هذه الجمعية إلى بلغاريا لينفذ خطته هناك.

ولما حدثت حوادث سنة 1860 في سورية توجهت الأنظار إلى جبل

لبنان وبعد عشر سنوات انتشرت لجنة التبشير الأمريكية في البلاد العثمانية

عدا سورية ، وعلى أثر تأسيس الكنيسة البروتستانية في الآستانة سنة 1846

صارت الآستانة مركزًا عامّا آمنًا لأعمال المبشرين؟ ! !

أما موقف الحكومات الإسلامية أمام إرساليات التبشير فكان يختلف باختلاف

البلاد. فالقبائل المستقلة في بلاد العرب عدوات لدودات للمبشرين، وبلاد الفرس

سائد فيها نفوذ روسية ، والسلطة الإسلامية في القطر المصري اسمية فقط ،

وكانت الحكومات العثمانية تبدي ضروب الاستبداد نحو المبشرين على اختلاف

مذاهبهم بسبب الدور السياسي الكبير الذي يمثله نفوذ المبشرين على مسرح المسألة

الشرقية ، وكانت معاملة الحكومة العثمانية للمبشرين تتحسن بواسطة سفراء

الولايات المتحدة.

وقد اجتهد المبشرون في ترجمة الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) إلى

كل لغات الشرق بأسلوب سهل يتسنى فهمه لكل الطبقات.

وأكبر ما يثير قلق المستر (بلس) مؤلف هذا الكتاب هو الدور الذي ستقوم به

الدولة العثمانية في الحوادث المقبلة!

ما دامت أنظار القبائل السنوسية الشديدة

البأس متجهة نحو السلطنة العثمانية التي يحكمها أمير المؤمنين فيها بيضة الإسلام ،

ومثل السنوسيين الأمم الأخرى البعيدة عن الآستانة مثل بخارى وخيوة والهند والبلاد

الإسلامية الشاسعة.

***

الهند

انتشرت إرساليات التبشير في الهند عقب إرسالية (جمعية لوندرة

التبشيرية) التي قام بها (كاري) ثم تبعتها الإرساليات الأمريكية والاسكوتلندية

والهولندية والنرويجية وكلها تؤدي وظيفتها بنشاط وتقوم بأعمالها بكل دقة.

وكان كل هؤلاء في بادئ الأمر قد وقعوا في الحيرة؛ لأنهم لم يعلموا بمن

يبدأون التبشير، وهل يسهل بث النصرانية في البرهمي أو المسلم المتنور أو

الهندي العامي!

ثم اهتدوا إلى التقاط الأطفال الذين يعضُّهم ناب الفاقة والفقر وجعلوا

يحسنون إليهم ويستجلبونهم نحوهم.

ومؤتمر التبشير الذي عقد في (شيكاغو) قرر أن ينظر في وسائل تعميم

التبشير في الهند ونشر النصرانية وتفسير تعاليمها بين كل طبقات الأهالي.

***

جزائر الملايو

يوجد في شبه جزيرة الملايو وجزائرها المجتمعة عقائد ونزعات سقيمة؛ لأن

أهل هذه البلاد اعتنقوا الإسلام في القرن الثالث عشر ومزجوا به ما علق بهم من

عقائدهم القديمة ثم اقتبسوا شيئًا من مذهب الكاثوليك عقب ظهور البرتغاليين ومن

مذهب البروتستانت بعد استيلاء الهولنديين على هذه البلاد والهولنديون أبدوا قسوة

وعدم تسامح في القرون الوسطى في نشر عقيدتهم وفي هذه الأيام ذهبت إرساليات

كثيرة إلى الملايو لتبشيرهم بالنصرانية.

***

الصين

في هذه المملكة مسلمون كثيرون بعددهم قليلون بالنسبة إلى مجموع سكان البلاد

وتاريخ ذهاب إرساليات التبشير إلى الصين يرجع إلى سنة 1813 ولما افتتحت

الثغور الصينية بعد ذلك انتشر فيها المبشرون والأطباء والممرضون التابعون لهم

انتشارًا هائلاً واتسع نطاق أعمالهم وجاء بثمرات كثيرة.

(يُتلى)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) عربتها جريدة المؤيد عن مجلة العالم الإسلامي التي تصدرها في فرنسة (الإرساليات العلمية

المراكشية) ونحن ننقلها عنها مع شيء من التصحيح والتصرف ، وقد أنشئت هذه المجلة منذ خمس

سنين وكانت مباحثها علمية ولم تكن تتعرض للمسائل السياسية إلا قليلاً وبعد احتلال مراكش ودخول بلاد فارس تحت النفوذ الروسي الإنجليزي واعتداء إيطالية على طرابلس الغرب ظهرت بمظهر جديد تجلت فيه خطتها من التوسل بالعلم إلى المقاصد السياسية والدينية.

(1)

المسيو شانليه رئيس تحرير هذه المجلة هو أستاذ المسائل الاجتماعية الإسلامية، وممن يكتبون فيها المسيو لويز ملسنيون المستشرق الذي أقام في بغداد سنين عديدة وقد كان في مصر منذ سنتين وهو من أصدقاء فقيدنا الشقيق السيد حسين وصفي وقد رثاه بتعزية أرسلها إلينا ونشرت في الجزء السابق ، ويكتب فيها كثير من العلماء الذين لهم اطلاع على اللغة العربية والعلوم والعادات الإسلامية واللغات الأخرى التي يتكلم بها المسلمون صالح مخلص رضا.

(2)

(المؤيد) هو الذي كان طعن على الإسلام في مسألة الرق فألف سعادة أحمد شفيق باشا كتابًا بالفرنسية رد به عليه وترجمه سعادة أحمد زكي باشا إلى الغربية باسم (الرق في الإسلام) .

ص: 259

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عراف

صادف عراف تاجرًا في السفينة ذاهبًا إلى سوق كذا في بلد كذا ، فقال له: ألا

أنبئك بما تفكر فيه الآن؟ قال التاجر: كم تأخذ على ذلك؟ قال: ما تسمح به حالك ،

قال التاجر: لك ذلك ، فأخذ العراف بيده وجمجم، وقال: إنك تقول في نفسك إذا

أعلنتُ إفلاسي بعد الوصول إلى السوق وصالحت الغرماء أصحاب الديون على

عشرين في المائة فإنني أربح ربحًا كثيرًا ، فلما سمع التاجر هذا الكلام ظهر على وجهه أمارات التغيير والاهتمام ، فقال العراف: أما أصبت المرمى؟؟ قال التاجر:

لا ، ولكنك نبهتني إلى فكرة حسنة ما كانت في بالي.ا. هـ

_________

ص: 259

الكاتب: شبلي النعماني

نقد تاريخ التمدن الإسلامي

بقلم الشيخ شبلي النعماني

(3)

جور العمال

ذكر المؤلف تحت هذا العنوان أنواعًا من الجور والشدة الصادرة من عمال

بني أمية ونحن نذكر بعضًا منها مع كشف الحقيقة.

قال يذكر جور العمال: (وإذا أتى أحدهم بالدراهم ليؤديها في خراجه يقتطع

الجابي منها طائفة ويقول: هذا رواجها وصرفها) (الجزء الثاني صفحة 22

واستند في الهامش إلى كتاب الخراج لأبي يوسف صفحة 62) .

أيها الفاضل المؤلف! أليس لك وازع من نفسك؟ أليس لك رادع من ديانتك؟

أتجترئ على مثل هذا الكذب الظاهر؟ والمين الفاحش جهرة؟ فإن القاضي أبا

يوسف ما تكلم في شأن عمال بني أمية ببنت شفة وإنما ذكر عن عمال هارون

الرشيد وإساءتهم العمل في جباية الخراج وكتاب الخراج لأبي يوسف بين أيدينا وقد

طبع في مصر وتداولته الأيدي وتناقلته الألسن. قال المؤلف:

(وفي كلام القاضي أبي يوسف في عروض وصيته للرشيد بشأن عمال

الخراج ما يبين الطرق التي كان أولئك الصغار يجمعون الأموال بها قال:) بلغني

أنه قد يكون في حاشية العامل أو الوالي جماعة منهم من له به حرمة، ومنهم من له

إليه وسيلة ليسوا بأبرار ولا صالحين يستعين بهم ويوجههم في أعماله، يقضي بذلك

الذمامات فليس يحفظون ما يُوكَلون بحفظه ولا ينصفون من يعاملونه إنما مذهبهم

أخذ شيء من الخراج كان أو من أموال الرعية ثم إنهم يأخذون ذلك كله فيما بلغني

بالعسف والظلم والتعدي

ويقيمون أهل الخراج في الشمس ويضربونهم الضرب

الشديد ويعلقون عليهم الجِرار ويقيدونهم بما يمنعهم عن الصلاة وهذا عظيم عند الله

شنيع في الإسلام (الجزء الثاني صفحة 23 و24 مستندًا إلى كتاب الخراج صفحة

61 و62) .

الله أكبر! هل سمع أحد بأعظم من هذا التدليس والتلبيس؟ يشتكي القاضي

أبو يوسف من عمال هارون الرشيد ويرفع القضية إليه ويبين ما بلغه مما يرتكب

عماله في أخذ الأموال من الرعايا، فيأخذ المؤلف أقواله وينقلها من حيث إنها هي

الطرق التي كان عمال بني أمية يجمعون الأموال بها! ! ها هو كتاب الخراج

بأيدينا قرأناه وقلبناه ظهرًا لبطن وكررنا فيه النظر لا كرة ولا كرتين بل مرات

متوالية متتابعة فما وجدنا فيه كلمة في شأن عمال بني أمية وإنما قال ما قال أبو

يوسف يعظ الرشيد بما بلغه عن عماله إلى أن خاطبه بقوله:

(فلو تقربت إلى الله عز وجل يا أمير المؤمنين بالجلوس لمظالم رعيتك في

الشهر أو الشهرين مجلسًا واحدًا تسمع فيه من المظلوم وتنكر على الظالم رجوت أن

لا تكون ممن احتجب عن حوائج رعيته ولعلك لا تجلس إلا مجلسًا أو مجلسين حتى

يسير ذلك في الأمصار والمدن فيخاف الظالم وقوفك على ظلمه فلا يجترئ على

الظلم.. مع أنه متى علم العمال والولاة أنك تجلس للنظر في أمور الناس يومًا في

السنة ليس يومًا في الشهر تناهوا بإذن الله عن الظلم وأنصفوا من أنفسهم (كتاب

الخراج صفحة 63 و64) .

لا فُضَّ فوك يا أبا يوسف! فقد صدعت بالحق وأمرت بالمعروف واجترأت

على النهي عن المنكر وأخذت على ملك جبَّار كهارون الرشيد صاحب النكبة

بالبرامكة، وما أكبر جرأتك أيها الفاضل؟ ! (جرجي زيدان) إنك تتبعت سيرة

عمال بني أمية وبالغت في الإمعان وكابدت في ذلك محنة التقصي فأعوزك كل هذا

وما وجدت في أعمالهم شيئًا من مثل تلك الفظائع فعمدت إلى سيرة عمال الرشيد

وأوهمت الناظرين أنها سيرة عمال بني أمية!

قال المؤلف: (وكان العمال لا يرون حرجًا في ابتزاز الأموال من أهل البلاد

التي فتحوها عَنوة لاعتقادهم أنها فيء لهم كما تقدم (الجزء الرابع صفحة 75) .

الذي أشار إليه بقوله: (تقدم) هو قوله في الجزء الثاني وهذا نصه:

(وكان من جملة نتائج تعصب بني أمية للعرب واحتقارهم سائر الأمم

أنهم اعتبروا أهل البلاد التي فتحوها وما يملكون رزقًا حلالاً لهم - يدل على ذلك قول

سعيد بن العاص عامل العراق: ما السواد إلا بستان وقول عمرو بن

العاص لصاحب أخنا لما سأله عن مقدار ما عليهم من الجزية فقال عمرو: إنما أنتم

خزانة لنا إن كُثّر علينا كثَّرنا عليكم، وإن خُفف عنا خففنا عنكم (الجزء الثاني

صفحة 19) .

تشبث المؤلف بهذه الأقوال في غير موضع مستدلاًّ على أن العرب وبني أمية

كانوا يتصرفون في أموال الناس كيفما شاءوا ظنًّا منهم أن أموالهم وأعراضهم

أبيحت لهم مطلقًا.

حقيقة القول: أنه لما فتحت البلاد في خلافة الفاروق تقدم بعض الصحابة

كعبد الرحمن بن عوف وبلال وغيرهما وقالوا: إن الأرض مقسومة بيننا كما قسم

رسول الله خيبر وكان الفاروق رأى غير هذا فقام النزاع حتى وفق إلى الاستناد

بنص القرآن فسكتوا ورضوا والقصة مذكورة بتفاصيلها في كتاب الخراج للقاضي

أبي يوسف، ثم إن بعض البلاد فتحت صلحًا فمتى كان الخراج أو الجزية شيئًا مسمًّى

معيّنًا ما كانوا يرون الزيادة عليه وإن أكثرت الأرض خيراتها وزادت غلاتها ،

وفتح بعضها عنوة فكان الخراج أو الجزية عليها بقدر النقص والزيادة وهذا هو قول

عمرو (إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم) وقد أشار إلى ذلك

المقريزي في تاريخه والعلامة السيوطي في حسن المحاضرة. فأما قول سعيد بن

العاص الذي استند إليه المؤلف فتحريف للكلام عن موضعه على جاري عادته، فإن

المؤلف نقل هذه الرواية من الأغاني والمذكور فيه ما حاصله: (إن أحدًا مدح

السواد عند سعيد بن العاص وبالغ فيه فقال بعضهم: نعم ويا ليته كان لأميرنا،

فقال بعض من حضر: لا نُعطِ أرضنا للأمير فقال الرجل: ولو شاء الأمير لأخذه،

فأنكروا قوله فقال سعيد بن العاص: (السواد بستان قريش إلخ) فقال الرجل: لا!

إنه منايح رماحنا فأنت ترى أن النزاع بين الجند وأمير البلد هنا هو النزاع الذي

كان بين بعض الصحابة وعمر الفاروق وأي متشبَّث في ذلك للمؤلف؟ فإن سعيد بن

العاص قال ما قال ردًّا على الجند بدعوى أن الأرض لا تقسم بين فاتحي البلاد بل

هي تحت يد الخليفة أو من ينوب عنه وإنما ذكر سعيد قريشًا؛ لأن الخلافة على

زعمهم لقريش خاصة.

قال المؤلف: (فكان الخلفاء يكتبون إلى عمالهم بجمع الأموال وحشدها

والعمال لا يبالون كيف يجمعونها فقد كتب معاوية إلى زياد) اصطفِ لي الصفراء

والبيضاء (فكتب زياد إلى عماله بذلك وأوصاهم أن يوافوه بالمال ولا يقسموا بين

المسلمين ذهبًا ولا فضة) (الجزء الرابع صفحة 75 وأحال الرواية في الهامش

على العقد الفريد صفحة 18 من المجلد الأول) .

ننقل مآخذ هذه الرواية كما صرح به المؤلف في الهامش لترى خيانات

المؤلف واحدة بعد واحدة، قال صاحب العقد:

(ونظير هذا القول ما رواه الأعمش عن الشعبي أن زيادًا كتب إلى الحكم بن

عمر الغِفَاري وكان على الطائفة أن أمير المؤمنين كتب إليّ أن أصطفي له الصفراء

والبيضاء فلا تقسم بين الناس ذهبًا ولا فضة فكتب إليه: (إني وجدت كتاب الله

قبل كتاب أمير المؤمنين) إلخ ما كتب ثم نادى في الناس فقسم لهم ما اجتمع من

الفيء) (العقد الفريد المجلد الأول صفحة 17 أو 18) .

فانظر! (أولاً) : إنه ليس في هذه الرواية أن معاوية كتب إلى زياد بل إن

زيادًا كتب إلى الحكم أن أمير المؤمنين كتب إليّ إلخ، ولعل زيادًا كذب في ذلك أو

فهم غير ما أراد معاوية بقوله.

(ثانيًا) : إن المؤلف حذف كل ما قال الشعبي وما عمل به من تقسيم الفيء

لدلالته على أن في عمال بني أمية من لا يمنعه عن الصدع بالحق وأداء الواجب

أحد، لا ولاة الأمصار ولا من فوقهم أي الخليفة نفسه.

(ثالثًا) : إنه ليس في هذه العبارة ما يستدل به على استئثار معاوية بالمال

لنفسه فإن مراده أن العمال ليس لهم تقسيم الفيء بل الأمر موكول إلى الخليفة فعلى

العامل أن يجمع الأموال ويرسلها إلى الخليفة وللخليفة أن يضعها موضعها.

قال المؤلف: (فكان العمال يبذلون الجهد في جمع الأموال بأية وسيلة كانت

ومصادرها الجزية والخَرَاج والزكاة والصدقة والعُشور. وأهمها في أول الإسلام

الجزية لكثرة أهل الذمة فكان عمال بني أمية يشددون في تحصيلها فأخذ أهل الذمة

يدخلون في الإسلام فلم يكن ذلك لينجيهم منها؛ لأن العمال عدوا إسلامهم حيلة

للفرار من الجزية وليس رغبة في الإسلام فطالبوهم بالجزية بعد إسلامهم. وأول

من فعل ذلك الحجاج بن يوسف واقتدى به غيره من عمال بني أمية في إفريقية

وخراسان وما وراء النهر فارتد الناس عن الإسلام وهم يودون البقاء فيه وخصوصًا

أهل خراسان وما وراء النهر فإنهم ظلوا إلى أواخر أيام بني أمية لا يمنعهم عن

الإسلام إلا ظلم العمال بطلب الجزية منهم بعد إسلامهم) (الجزء الرابع صفحة

16) .

ذكر المؤلف هذه الواقعة، أي أَخْذ الجزية بعد الإسلام، في غير موضع

بعبارات متنوعة، قوية الأخذ بالنفس، شديدة الوطأة على القلب، يتراءى للناظر

فيها أن الناس أحيطوا من كل جانب جورًا وعدوانًا، فإذا بقوا على الكفر يعانون من

الشدة ما يلجئهم إلى الإسلام، وإذا أسلموا فالجزية باقية على حالها، لا يخفف عنهم

العذاب ولا هم ينصرون.

***

تحقيق مسألة الجزية في الإسلام

1-

اعلم أن الجزية ليست إلا بدلاً عسكريًّا فمن يذب عن بيضة الملك بنفسه

فهو غير مأخوذ بها أما من ضن بالنفس أو كان لا يصلح لذلك فعليه أن يؤدي شيئًا

من المال ليكون عُدة للعسكر وعونًا له. وأول من سن الجزية وجعل لها وضائع

كسرى أنو شروان كما ذكره ابن الأثير وصرح بأنها هي الوضائع التي اقتدى بها

عمر بن الخطاب، وكم تجد في البلاذري والطبري وغيرهما أن أقوامًا من

النصارى في عصر عمر بن الخطاب لما قاموا بالدفاع عن الملك أو دخلوا في الجند

سقطت عنهم الجزية وأعفى عمر بن الخطاب نصارى تغلب من الجزية، وأضعف

عليها الصدقة. وجملة القول أن الجزية لم تكن في الأصل شيئًا يحد بين الكفر

والإسلام ولكن لما كان غالب الحال أن أهل البلاد من النصارى والمجوس واليهود

كانوا أصحاب حرث وزرع وعمالاً في الديوان وكانوا لا يرضون بمخاطرة النفس

واقتحام الحرب لذلك كانوا مطالبين بالجزية والمسلم لا يمكن له الاعتزال عن

الحرب فإنه مضطر إلى الذب عن بلاد الإسلام طائعًا أو مكرهًا - صارت الجزية

كأنها حد فاصل بين الرئيس والمرءوس ثم بين المسلم وغير المسلم.

2-

ولما لم ينفصل الأمر بتةً وبقي للاجتهاد موضع ومتسع كان بعض العمال

يضرب الجزية على حديثي العهد بالإسلام.

3-

ولكن مع هذا لم يتفق ذلك في مدة الخلافة الأموية إلا مرات معدودات

يشهد بذلك الفحص والتقصي وإمرار النظر والكد في البحث والتنقيب ومع ذلك

فكلما وقع مثل هذا لم يكن له بقاء فإما أن تكون الأمة هي التي تقيم النكير على

العامل أو يصل الخبر إلى الخليفة فيرد عمله ويمنعه عن الوقوع في مثله آتيًا ففي

سنة 101 لما كتب الحجاج إلى البصرة برد من أسلم من أهل القرى إلى مساكنهم

وضرب الجزية عليهم ضج القراء وخرجوا يبكون مع البكاة من أهل القرى وبايعوا

عبد الرحمن بن الأشعث مشمئزين من عمل الحَجَّاج منكرين عليه كما هو مشروح

في تاريخ الكامل لابن الأثير وكذلك لما اقتدى الجراح الحكمي بصنيع الحجاج كتب

إليه عمر بن عبد العزيز يأمره بإسقاط الجزية، والواقعة مذكورة في حوادث سنة

100 في تاريخ الكامل، وكذلك لما فعل يزيد بن أبي مسلم في إفريقية سنة

102 هجرية ألّب الناس عليه وقتلوه وكتبوا إلى الخليفة يزيد بن عبد الملك فكتب

إليهم إني ما كنت مستحسنًا عمل يزيد والقصة مذكورة في الكامل تحت حوادث سنة

102 وكان آخر ما وقع من مثل ذلك ما فعل الأشرس في خراسان فأورث ثورة

واشترك العرب مع الثائرين ونصروهم، أما خلفاء بني أمية فلم يثبت عن أحد منهم

مثل ذلك وإنما كان أراد عبد الملك وضع الجزية على من أسلم من أهل الذمة

فكلمه ابن حُجْرة فترك. والقصة مذكورة في المَقْريزي بنوع من التفصيل (انظر

صفحة 28 من الجزء الأول) .

والآن نقص عليك بعض خيانات المؤلف:

1-

ذكر واقعة الحجاج وترك نكير القراء عليه وبيعتهم على يد ابن الأشعث

إنكارًا على صنيع الحجاج.

2-

ذكر واقعة الجراح (الجزء الثاني صفحة 20) وترك إنكار عمر بن عبد

العزيز عليه ومنعه عن ضرب الجزية عليهم.

3-

ذكر واقعة يزيد بن أبي مسلم وترك أن الناس قتلوه وأن الخليفة يزيد بن

عبد الملك استصوب صنيعهم أي قتلهم يزيد بن أبي مسلم.

4-

ذكر واقعة الأشرس ولم يذكر أن العرب قاموا عليه وكانوا مع الثائرين

عليه ولما ثبت أن ضرب الجزية على حديثي العهد بالإسلام لم يأمر به أحد من

خلفاء بني أمية وإنما كان اجتهادًا من بعض العمال بناء على أن إسقاط الجزية

يورث نقصًا في الخراج وأن الخلفاء كلما عثروا على ذلك منعوا العمال عن ضرب

الجزية وردوا عملهم وأنه كلما وقع مثل ذلك تألب العلماء والخيار من الناس وأقاموا

النكير على ضارب الجزية حتى قتلوا بعض العمال واستحسن الخليفة قتله، فهل

للمؤلف أن يحل أوزار بعض العمال على بني أمية كافة؟ وهل يصح قوله؟

(ولم يكن عمال بني أمية يأتون هذه الأعمال من عند أنفسهم دائمًا بل كثيرًا

ما كانوا يفعلونها بأمر خلفائهم كما قد رأيت مما كتبه معاوية إلى وردان) (الجزء

الثاني صفحة 22) .

أما كتاب معاوية إلى وردان فقد مر ذكره وليس فيه للمؤلف موضع حجة.

قال المؤلف (ورأى هؤلاء) أي أهل الذمة (أن اعتناق الإسلام لا ينجيهم من

ذلك فعمد بعضهم إلى التلبس بثوب الرهبنة؛ لأن الرهبان لا جزية عليهم. فأدرك

العمال غرضهم من ذلك فوضعوا الجزية على الرهبان. وأول من فعل ذلك منهم

عبد العزيز بن مروان عامل مصر فأمر بإحصاء الرُّهبان وفرض على كل راهب

دينارًا) (الجزء الثاني صفحة 20 مستندًا إلى المقريزي صفحة 392 من الجزء

الثاني) .

أيها الفاضل المؤلف! ما هذا الاجتراء؟ ما هذا الاختلاق؟ ما هذا الكذب

الظاهر؟

هاك نص المقريزي (ثم قدم اليعاقبة في سنة إحدى وثمانين الإسكندروس فقام

أربعًا وعشرين سنة ونصفًا وقيل: خمسًا وعشرين سنة ومات سنة ست ومئة

ومرت به شدائد صودر فيها مرتين أخذ منه فيهما ستة آلاف دينار وفي أيامه أمر

عبد العزيز بن مروان فأمر بإحصاء الرهبان فأحصوا وأخذت منهم الجزية على كل

راهب دينار وهي أول جزية أُخذت من الرهبان، (الجزء الثاني من المقريزي

صفحة 393 أو 394) .

فهل تجد في هذه العبارة أدنى إشارة إلى أن عبد العزيز أو أحدًا غيره شدّد في

الجزية فاختاروا الرهبنة طلبًا للنجاة من الجزية فما نفعهم؟ لا وإنما فيها أن عبد

العزيز بن مروان وضع الجزية على الرهبان وهذا ليس فيه كبير شيء فإن الرهبان

وإن كانوا معافون من الجزية ولكن لما لم يكن الأمر منصوصًا لا في الكتاب ولا في

السنة كان للاجتهاد فيه مساغ فاجتهد عبد العزيز وأخطأ.

***

إنهاء هذا البحث

لو سردنا كل ما قال المؤلف عن جور بني أمية وعمالهم واستئثارهم بالأموال

وإسرافهم في استلابها وبينا ما في كل قول من التحريف والتدليس وتغيير المعنى

والخيانة في النقل وصرف العبارة عن وجهها لطال الكلام واحتجنا إلى عمل كتاب

منفرد بنفسه؛ فلأجل ذلك اقتصرنا على كشف بعض دسائسه مع أنه قلّ من كل

وغَيْض من فيض [1] .

ونقول بعد كل ذلك: إن موضوع الكتاب ليس إلا بيان تمدن الإسلام فأي

متعلق في ذلك لإبداء مساوئ بني أمية؟ ولعلك تقول: لا بد في تاريخ تمدن الإسلام

من بيان منهج السياسة وأنها هل كانت مؤسسة على الاستبداد والجور أو العدل

والنصفة فجرّ ذلك إلى كشف عوار بني أمية عرضًا. ولكن أناشدك بالله أما كان

لأحد منهم مأثرة تذكر، ومَنْقبة تنقل، وسياسة تنفع البلاد، ومعدلة تعم الناس؟ ؟

نعم إن بني أمية لا يوزنون بالخلفاء الراشدين وليس هذا عارًا عليهم ولا فيه حط

لمنزلتهم فإن إدراك شأو الراشدين واللحوق بهم أمر خارج عن طوق البشر، وليس

فيه مطمع لأحد، ولا موضع رجاء لمجتهد، ولكن التوازن والتكايل بين الأموية

والعباسية وإنما هم ملوك فيهم المحسن والمسيء، والعادل والجائر، والناسك

والخليع، والحازم والمغفل، بل الذي أعدلهم سيرة وأمثلهم طريقة وأوفاهم ذممًا

وأرضاهم طورًا لا يخلو من عثرات لا تقال وهنات لا تذكر - فلو لزم المؤلف جادة

الإنصاف ووفى لكل أحد قسطه وأعطى كل ذي حق حقه لاستراح واسترحنا ولكنه

مال إلى واحد فأطرى في مدحه، ونال من الآخر فأسرف في تهجينه وذمه، ثم إنه

لم يفارق في مدحه وذمه عمود الكتاب أي ذم العرب والحط من شأنهم فإنه ذم بني

أمية؛ لأنهم العرب بحتة ومدح العباسيين لا لأنهم العرب أو أنهم من سلالة هاشم أو

من أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل لأن دولتهم دولة أعجمية وقد مر نصه

في ذلك سابقًا.

وحان لنا أن نذكر طرفًا من مآثر بني أمية وسيرتهم ومبلغهم من حسن السياسة

وتعمير البلاد وتمهيد السبل وتوطيد الأمن وإقامة المرافق وتعميم المعارف.

اعلم أن دولة بني أمية عبارة عن معاوية ويزيد وعبد الملك بن مروان

والوليد وسليمان، وعمر بن عبد العزيز، وهشام فأما ما عداهم فلم تطل مدتهم

وليس العبرة بهم إن أحسنوا أو أساءوا.

***

سيرة معاوية في دولته

فأما معاوية فنذكر من سيرته ما ذكره المؤرخ المسعودي في مُروجه مع نوع

من الاختصار قال:

(كان من أخلاق معاوية أنه كان يؤذن في اليوم والليلة خمس مرات، كان

إذا صلى الفجر جلس للقصَّاص حتى يفرغ من قصصه فيخرج إلى المسجد فيسند

ظهره إلى المقصورة ويجلس على الكرسي ويقوم الأحداث فيتقدم إليه الضعيف

والأعرابي والصبي والمرأة ومن لا أحد له فيقول: ظلمت، فيقول: أعزّوه،

ويقول: عُدي إليَّ، فيقول: ابعثوا معه، ويقول: صنع بي، فيقول: انظروا في

أمره، حتى إذا لم يبق أحد دخل فجلس على السرير ثم يقول: ائذنوا للناس على

قدر منازلهم فإذا استووا جلوسًا قال: يا هؤلاء إنما سميتم أشرافًا لأنكم شرفتم من

دونكم بهذا المجلس، ارفعوا إلينا حوائج من لا يصل إلينا، فيقوم الرجل فيقول:

شهد فلان، فيقول: افرضوا له، ويقول آخر: غاب فلان عن أهله، فيقول:

تعاهدوهم واقضوا حوائجهم، ثم يؤتى بالغداء والكاتب يقرأ كتابه فيأمر فيه حتى

يأتي على أصحاب الحوائج كلهم وربما قدم إليه من أصحاب الحوائج أربعون أو

نحوهم على قدر الغداء.

وأطال المسعودي في بيان أعمال معاوية يوميًّا، ثم قال بعد حكاية معترضة:

(فلنرجع الآن إلى أخبار معاوية وسياسته وما وسع الناس من أخلاقه وما أفاض

عليهم من بره وعطائه وشملهم من إحسانه مما اجتذب به القلوب واستدعى به

النفوس حتى آثروه على الأهل والقرابات) ثم ذكر بعد ذلك عدة وقائع تركناها هربًا

من الإطناب.

***

سيرة عبد الملك بن مروان في دولته

وأما عبد الملك فقال المدايني (كان يقال: معاوية أحلم، وعبد الملك أحزم،

وهو الذي جعل على بيوت الأموال والخزائن رجاء بن حَيْوة ذلك المحدث المشهور

وعلى كتابة الخراج والجند سرحون بن منصور الرومي) وهو نصراني (وحول

الدواوين من الرومية والفارسية إلى العربية وزاد على ما مكان فرض معاوية

للموالي خمسة فبلغها عشرين ودخل في بيعته عبد الله بن عمر ومحمد بن الحنفية)

ذكر كل ذلك صاحب العقد في ترجمته، وقد سبق من نسكه وعبادته ما فيه كفاية

فيما مر.

ومما ينقم عليه تأميره الحجاج ولكن الدولة تحتاج في إبّانها وأول نشأتها إلى

أمثال ذلك وهذا أبو مسلم الخراساني مؤسس الدولة العباسية قتل ستمائة ألف رجل

صبرًا وهذا أبو جعفر المنصور فعل بالهاشميين ما لم يسبق له نظير في الإسلام

ومع ذلك فإني أعوذ بالله أن أقوم ذابًّا عن الحجاج ومدافعًا عنه.

***

سيرة الوليد في دولته

وأما الوليد فكان أهل الشام يفتخرون به وحق لهم ذلك قال صاحب العقد الفريد:

(كان الوليد عند أهل الشام أفضل خلفائهم وأكثرهم فتوحًا، وأعظمهم نفقة في

سبيل الله، بنى مسجد دمشق ومسجد المدينة ووضع المنابر وأعطى المجذومين

حتى أغناهم عن سؤال الناس وأعطى كل مقعد خادمًا وكل ضريرًا قائدًا، وكان يمر

بالبقال فيتناول قبضة فيقول: بكم هذه؟ فيقول بفلس فيقول: زد فيها فإنك تربح)

وهو الذي وسع مسجد النبي وذهَّب البيت.

قال اليعقوبي: (إن الوليد بعث إلى ملك الروم يعلمه أنه قد هدم مسجد رسول

الله فليعنه فيه فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهبًا ومائة فاعل وأربعين جملاً فسيفساء،

وبعث الوليد إلى خالد بن عبد الله القَسْري وهو على مكة بثلاثين ألف دينار

فضربت صفائح وجعلت على باب الكعبة، فكان أول من ذهَّب البيت في الإسلام

وحج الوليد سنة 91 لينظر إلى البيت وإلى المسجد وما أصلح منه وإلى البيت

وتذهيبه) .

وقال اليعقوبي: (كان أول من عمل البيمارستان للمرضى ودار الضيافة،

وأول من أجرى على العميان والمساكين والمجذومين الأرزاق) .

وقال السيوطي في تاريخه للخلفاء: (وكان مع ذلك) أي كونه جبارًا ظلومًا

(يختن الأيتام ويرتب لهم المؤدّين) .

***

فتوحات بني أمية

ثم إن الدول تعرف أقدارها بآثارها ويقضى بفضلها بعملها وأخلد الآثار التي

تتفاضل بها مقادير الملوك وتتطاول بها رتب الدول كثرة الفتوح واستتباب أمور

الملك والرعية وتوطد دعائم العدل وانتشار العلم ودولة بني أمية قد أخذت من كل

ذلك قسطًا وضربت في كل ذلك بسهم.

أما كثرة الفتوح فقد بلغت دولتهم منها غاية ليس وراءها مطلع لطامح.

انقضت أيام الخلافة الراشدة والإسلام يزخر عُبابه في جزيرة العرب وديار الشام

ومصر وبلاد الفرس فلما تسنَّم بنو أمية عرش الخلافة ازداد الإسلام فتوحًا،

واتسعت ممالكه وغلب سلطانه، وامتدت سطوته، ودخلت البلاد النائية المترامية

الأكناف في حوزة حكمه، فملكوا ما لم يملكه أحد من ملوك الإسلام قبلهم ولا بعدهم.

فتحوا طرابلس وطَنْجة وسائر بلاد المغرب والأندلس وبلاد الديلم، والأتراك

والمغول والسند وقبرص وأقريطش (كريد) ورودس وغيرها من جزائر البحر.

وغزوا صقلية وصالحوا النوبة وتوغلوا في بلاد الروم حتى بلغوا سور

القسطنطينية وضربوا السيف على أبوابها، وافتتح السند محمد الثقفي أحد أبناء

قوادهم وهو ابن سبع عشرة سنة، وقد وطئت جيوشهم ثغور الصين وثغور بلاد

الإفرنج وعاصمة بلاد الروم، وحدود بلاد الهند، وملكوا من السند إلى ثغور بلاد

الإفرنج طولاً ومن البحر الأحمر إلى بلاد الخزر عرضًا، ودخل في حوزة ملكهم

العرب وديار الشام والعراق والجزيرة ومصر والبجة وبرقة وطرابلس وتونس

ومراكش والأندلس وأرمينية وخراسان وفارس وتوران والديلم وبلاد الران

وطبرستان وجرجان وسجستان وخوارزم وما وراء النهر وبلاد الخزر وأفغانستان

والسند وبعض بلاد الهند. فمن يدانيهم من الملوك في سعة الملك؟ ومن يباريهم في

كثرة الفتوح؟

***

استتباب أمور الملك والرعية

ليس في سعة الملك كبير فضل إذا لم يكن هناك تأنق في أمور المملكة،

ونظر في أمور الرعية، وقيام بمصالح العباد، وتشمير في عمارة البلاد، ولذلك

كان الذين فتحوا البلاد ولم ينظروا في أمور أهلها ليسوا عند ذوي الخبرة من أهل

التاريخ أسمى منزلة وأعلى مكانة من قطاع الطريق الذين يعيثون في الأرض

مفسدين. أما ملوك بني أمية فقد جمعوا بين بيعة الملك والنظر في أمور العباد،

وكثرة الفتوح وعمارة البلاد، حفروا الأنهار، وعمروا الطرق، وشادوا المصانع،

وابتنوا المساجد، وبذلوا الأموال، وقضوا الحوائج، وكشفوا المظالم، وغمروا

المجذومين والعميان والمقعدين والصعاليك بالجزيل من الإحسان، وأجروا لهم

الأرزاق. ثم رتبوا المصالح ودونوا الدواوين وحصنوا الحصون وبنوا المدن

والقصور وقد مر من ذلك شيء كثير فيما تقدم من سيرهم وأعمالهم وإليك هذه

العجالة التي هي كالطل من الوابل.

(يتلى)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

ومما يناسب ذكره في هذا المقام أن المؤلف لما أنجز الجزء الأول من كتابه أرسله إلىّ فكتبت إليه بعد الإعجاب به: إنه لا بد من ذكر مصادر الروايات في كل موضع؛ وذلك لأجل أني كنت أخاف عليه التدليس، فأظهر المؤلف في مقدمة الجزء الثاني أنه عمل بذلك، ويذكر الكتاب والجزء والصفحة ولكن من الأسف أن كل هذا ما أجدى نفعًا فإنه ما يذكر المطبعة؛ ولأجل هذا كابدت في تطبيق مصادر كتابه محنة عظيمة فإن النسخ مختلفة ولا يُدرى أي نسخة أرادها وبسبب ذلك ما اهتدينا إلى أكثر خياناتها ومن المحقق المتيقن به أنه ما نقل عبارة إلا وعمل فيها شيئًا من التحريف والتغيير ومن كان في ريب من ذلك فليراجع الأصول ويكابد محنة التطبيق ليؤمن بما قلته مع حيرة واندهاش - 12.

ص: 270