الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة السابعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} (الحج: 66) أحيانا بتلك الروح التي نفخها في
البلاد العربية، ثم أماتنا بالإعراض عن تلك الهداية السماوية، أحيانا بضع قرون
وأماتنا بضع قرون، فنسأله إتمام وعده المشار إليه في الآية الكريمة بأن يؤيدنا
بروح منه، وينزل علينا السكينة، ونصلي ونسلم على محمد عبده ورسوله رسول
الرحمة، ومعلم الحكمة، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بتأييد دعوته، ونصرة
حزبه.
وبعد ، فقد دخل المنار في العام السابع من حياته، وهو سن التمييز في الحياة
الشخصية، ولعل حياته تكون في هذا الطور خيرًا منها فيما قبله إن شاء الله تعالى،
فإذا كان في طفوليته قد نجا من الماكرين، وانتصر على المعارضين ، وقابل ما
صادفه من الوثبات بكل صبر وثبات. فالرجاء بفضل الله وعنايته أن يجعله في
طور التمييز أحسن هداية ورشدًا، وأقوى ناصرًا، وأكثر مددًا، وما بلغ المسلمون
من الضعف والتخاذل أن لا تعيش لهم صحيفة مفيدة ، وأن حاجتهم إليها لا بد مع
حاجتهم إلى الصحف السياسية، كيف وهم يرون الأمم التي هي دونهم في الاعتصام
بالدين، وفوقهم في الاشتغال بالدنيا، وقد سبقتهم في إنشاء الصحف الدينية. ففي
مصر وبيروت، كثير من هذه الصحف باللغة العربية فما بالك بسائر اللغات،
وهي لغات القوم الأصلية.
بل إن جميع الأمم والشعوب قد سبقوا المسلمين في جميع الأعمال الاجتماعية
التي ملاكها التعاون لا في الصحف الملية فقط.
والتعاون فرض في ديننا مأمور به في كتابنا، ولكن أين نحن من الكتاب
وفرائضه. فيا ليت الذين لا يعاونون العاملين منا للأمة لا يخذلونهم، ولا يعارضونهم
في أعمالهم ومشروعاتهم ، كلا إننا نحن أعداء أنفسنا، وإننا نحن مرض أمتنا،
وإننا نحن آفة نجاحنا، ولو غفل الذين يشكون من الأجانب لشكوا من قومهم، ولو
شعر الذين يشكون من أخوتهم لشكوا من أنفسهم.
أرأيت هذا المنار الذي أنشئ لخدمة الأمة، والدفاع عن الملة. إنه ليطالب
الذين ينكرون فائدته، أو يدعون مضرته بأن يبينوا له وجه الضر ليتقيه، ووجه النفع لينتحيه، وأنه لا يطالب الذين يقولون: إنه نافع، ولا الذين يقولون: إنه أنفع
ما يكتب للمسلمين في هذا العصر بأن يتبرعوا له بمال لتوسيع دائرته، أو لزيادة
مادته، وإنما يرضى منهم أداء حقه، وحقه على جميع قرائه أداء قيمة الاشتراك التي
هي قوام العمل، وأداته التي لا يوجد إلا بها، وحقه على الخواص منهم
الدعوة إليه والترغيب فيه عندما تسنح لهم الفرص، ويخاطبون من يتوسمون فيه
الاستشهاد.
لست أعني بالخواص الأغنياء ولا كبار الموظفين، فإن منهم من يملك
الألوف وعشرات الألوف من الفدادين أو الدنانير، وهو يماطل في دفع قيمة
الاشتراك عدة سنين، وإنما أعني بهم كل من له عقل يتفكر به في مصلحة الأمة،
وقلب يشعر بمعنى الشرف والفضيلة؛ أولئك هم خواص الأمم الذين لم تنجح أمة
إلا بكثرتهم فيها.
لا يكثر في الأمة العقلاء المفكرون إلا بالتعليم العالي، وأَنَّى لنا به، ولم
ترتق هذه البلاد إلى أن يكون فيها، مدرسة كلية، ولا يكثر في الأمة أهل الشمور
بالصرف حتى ترتقي التربية النفسية فيها وأَنَّى لنا بذلك ولم ترتق معارف الناس
إلى أن يفصلوا بين التعليم وبين التربية، فترى كبراءنا وأذكياءنا يخصون بلقب
التربية نفرًا من الناس تلقوا شيئًا من التعليم المصري الناقص، وأعلاهم تربية في
عرفهم مَنْ دخل في مدارس أوربا، وإن كان أكثرهم كما يعرف العارفون في
أخلاقهم وأعمالهم لا سيما الذين تعلموا في فرنسا منهم.
إن ارتقاء الفكر والشعور لا يعرف إلا بأثره في العمل للأمة؛ فإذا قلنا: إن
خواص الأمة هم العاملون لها المخلصون في خدمتها، الذين لا يشترون مصلحتهم
بمصلحتها فكم رجلا نُعد من هؤلاء فينا؟ هل نُعد منهم من يَرَى منتهى الشرف أن
يشتري رتبة يتزيا بحلتها، وأوسمة يتزين بحليتها؟
هل نعد منهم سماسرة الرتب والأوسمة الذين يأخذون عليها الأجور من أهل
الدثور، ثم يطرونهم بالأماديح قائلين: إنهم ما وصلوا إلى هذه الحلي والحلل، إلا
بإخلاصهم للبلاد ولسيد البلاد وممثل الأمة؟
هل نعد منهم الذين يقولون ويكتبون ما يراه غيرهم حسنًا، وإن رأوه قبيحًا،
ويدعون إلى ما يشعر غيرهم بفائدته أو لذته، وإن كانوا يشعرون بغائلته ومرارته؟
هؤلاء هم الذين ورد في أمثالهم {لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف:
179) وإنما يعقلون بقلوب من ينتفعون منهم {وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الأعراف: 179) وإنما يسمعون بآذان من باعوهم حواسهم ومشاعرهم، كما باعوهم
قلوبهم وأفكارهم {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ} (الأعراف: 179) لأنهم
خرجوا عن قانون فطرتهم بما أوتوه من الدهاء والأنعام لم تخرج عن الفطرة؛ ولأن
في الأنعام منافع للناس وهم ضارون للناس {أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف:
179) عما يحل بأمتهم وينزل بها من المصائب بإفسادهم لأخلاقها، ومحوهم لوجدان
الفضيلة والشرف الحقيقي منها، ويا حسرة على أمة تعد هؤلاء من خواصها ومن
مرشديها.
الخواص: هم أصحاب الأخلاق والعزائم، وهم الذين ينهضون بالأمم في كل
عمل نافع، فاللهم أكثر عددهم فينا، ووفقنا اللهم جميعًا للإحسان في العمل،
والتعاون على البر والتقوى والإخلاص لك في السر والنجوى، عسى أن نكون من
المفلحين.
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كلمة ثانية في أهل الذمة
هذه المقالة منقولة عن الجزء الثالث من تاريخ (أشهر مشاهير الإسلام) لرفيق
بك العظم، وهو تحت الطبع، وله كلمة أخرى في حسن معاملة الإسلام لأهل الذمة
في الجزء الثاني من الكتاب، وقد أورد هذه الكلمة بمناسبة كتاب من عمر بن
الخطاب إلى عمرو بن العاص يوصيه فيه بأهل العهد والذمة، ويذكره بوصية النبي
بهم عامة، وبالقبط خاصة، ومن ذلك حديث (من ظلم معاهدًا، أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة) .
هذا الكتاب يمثل لنا سيرة عمر بن الخطاب مع أهل الذمة، ويبين شدته على
العمال في منعهم عن إيذاء أهل الكتاب؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم
وعملاً بأمره، ومن تكون هذه سيرته مع أهل الذمة، أفيعقل أن يريد بهم أذى بقول
أو فعل؟ كلا، إن العقل والبديهة يرفضان نسبة أي قول أو فعل إليه يَشْتَمُّ منه
ولو رائحة الجفاء، فضلاً عن امتهان الذمي أو ظلمه.
وإذ علم هذا فالذي يدعو إلى العجب هو غفلة نقلة الأخبار، ورواتها عن
مقاصد عمر رضي الله عنه التي هي مقاصد الشرع الإسلامي الذي جاء للتأليف
بين القلوب وعدم استحيائهم، وعدم جمع المتناقضات من الأخبار، ونقلهم
الموضوعات منها بلا تمحيص لصحيحها من كاذبها، وبدون ترو في النافع والضار
منها.
كتبنا في الجزء الثاني فصلاً عن أهل الذمة نقلنا فيه رواية لابن الجوزي في أن
عمر تقدم إلى أحد عماله بختم رقاب أهل الذمة بالرصاص [1] ، وأبنا ثمة وجه
الضعف في هذا الخبر، وعجبنا من مثل ابن الجوزي كيف ينقل مثل ذلك الخبر، مع
أنه ليس في الدرجة التي تؤلم النفس؛ إذ لو صح لحمل على قصد سياسي أو إداري
على تعبير المتأخرين يراد به ضبط إحصاء أهل الجزية من الذميين لا امتهانهم
اقتداء بالدول الفاتحة قبل الإسلام، كالرومان والفرس الذين ثبت أنهم كانوا يضربون
على الرعية الجزية، وربما كانت هذه العادة متبعة عندهم في إحصاء أهل الجزية،
وقد زاد عجبنا أضعافًا الآن؛ إذ رأينا هذا الخبر في الخطط نقله صاحبها المقريزي
عن ابن عبد الحكم بزيادة أحر بها أن تكون محض افتراء على عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وإذ قلنا بوهن الرواية الأولى في جانب العقل، وهي لأحد حفاظ
الحديث فما أحرانا بتكذيب الرواية الثانية. وإليكها بنصها مع الزيادة التي أوردها
المقريزي قال:
كان عمرو بن العاص يبعث إلى عمر بالجزية بعد حبس ما كان يحتاج إليه،
وكانت فريضة مصر لحفر خلجها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها، وقطع
جزائرها مائة ألف وعشرين ألفًا (أي: من العمال) معهم الطور، والمساحي والأداة
يعتقبون ذلك لا يدعون ذلك صيفًا ولا شتًاء.
ثم كتب إليه عمر أن تختم في رقاب أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا
مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، ويركبوا على الأكف - جمع أكاف وهو البردعة -
عرضًا، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي، ولا يضربوا على
النساء، ولا على الولدان ولا يتشبهوا بالمسلمين.
فانظر أيها العاقل إلى هذا الكتاب، وقابله بكتاب عمر الذي يوصي فيه عمرو
بن العاص بأهل الذمة، هل تجد بينهما التئامًا بالوجهة؟ أم بينهما من البون البعيد ما
بين الحق والباطل، وقد أوضحنا في الجزء الثاني ضعف أمثال هذه الأخبار بما فيه
الكفاية، وإنما عدنا إليها الآن لأمر ظهر لنا بعد البحث والروية، وهو: أن واضعي
هذه الأخبار إنما ألجأهم لوضعها أمران:
الأمر الأول: أن الشئون الإدارية - وأهمها دواوين الخراج - كانت تناط في
أكثر الأوقات بأهل الذمة، بل استمرت تكتب بلغتهم أيضًا إلى عهد عبد الملك بن
مروان فكانوا يستطليون أحيانًا على رجال الدولة، وأهل المكانة وربما تحرج منهم
أحيانًا بعض الفقهاء، فوضعوا لهم أمثال تلك الأخبار تنقيصًا، لهم وحطًّا من
مكانتهم عند الخلفاء والملوك، وإبعادًا لهم عن مناصب الدولة، وإنما ألجأهم إلى نسبة
هذه الأخبار إلى عمر كونه كان رضي الله عنه قدوة فيما لم يرد بخصوصه شيء
في الشرع.
وهذا بلا ريب يعد من أولئك الوضاعين تناهيًا في ضعف الرأي، لا سيما إذا
علموا بأحوال أهل التقى والعدل من الخلفاء، ومعاملتهم الجميلة لأهل الذمة كعمر ابن
عبد العزيز، ومن حذا في ذلك حذوه من الخلفاء، وبالأخص الخلفاء من بني
العباس الذين كان أكثرهم متفقهًا في الدين، واقفًا على أخبار السلف كالمنصور
والمهدي والرشيد والمأمون وأمثالهم ممن أتى بعدهم؛ فكانوا يوسدون كثيرًا من شؤون
الدولة إلى أهل الذمة، ويقربونهم منهم لا سيما الأطباء والكتاب؛ بلا أدنى
تحرج في الدين، وأي حرج في الدين يمنع من محاسنة الذميين، وعدم إيذائهم
بمثل ذلك الامتهان المشين من كلام الوضاعين، ومن وقف على أخبار
ماسويه، وحنين بن إسحق وأضرابهما مع المأمون والمتوكل يعلم هذا. وكذلك كان
حالهم مع خلفاء الفاطميين في مصر؛ فكان القبط أرباب الكلمة العليا عند
الخلفاء، وكانوا - كما نقل المقريزي - يتولون دواوين الخراج، ويركبون البغال
الفارهة، ويتصرفون بأموال الدولة، بل بلغ بالخلفاء أن كانوا يعطون ألقاب التشريف
الخاصة بالعلماء والملوك - وهي الألقاب المضافة إلى الدين - للأطباء والكتبة من
النصارى واليهود وما نذكره من هؤلاء الشيخ موفق الدين ابن البورى الكاتب
النصراني، والحكيم موفق الدين بن المطران، وغيرهما ممن لم تحضرني أسماؤهم
الآن.
هذا هو السبب الأول ، وأما السبب الثاني لوضع تلك الأخبار فمنشؤه نزوع
بعض الأمراء إلى إجهاد الرعية من مسلمين وذميين بالضرائب، ونكث عهود هؤلاء
القديمة، ولما لم يروا في الشريعة مخرجًا لهم يتوصلون به إلى الاستبداد بالرعية،
وتحميل الذمي فوق ما حدده الشرع من الخراج والجزية كما حملوا المسلم - لا سيما
والأخبار النبوية آمرة بالوفاء معهم بالعهد، والمحافظة على ما لهم من حقوق الذمة
والجوار- وأنهم أهل ذمة الله وذمة رسوله - مهدوا لأغراضهم السبيل بالإيعاز إلى
بعض مقربيهم بوضع مثل ذلك الخبر مقدمة لاستباحة امتهانهم، ثم إجهادهم
بالضرائب يدلك عليه ما حدث في عهد المروانيين من الاجتراء على استزادة الخراج
والجزية في مصر وغيرها من غير حقها، كما ستراه مبسوطًا في محله إن شاء الله.
على أن سيرة الصحابة، ورجال الفتح في الصدر الأول مع أهل الذمة وحدها
كافية لدحض أمثال تلك الأقوال الواهية، حتى إنهم افتتحوا بحسن السيرة وجميل
المجاورة والمعاملة ما لا يقوى عليه الحسام، ويخرج عن طوق عددهم القليل بالنسبة
لبقية الأقوام [2] ، وحسبك من أدبهم مع أهل الذمة من الكتابيين أن ما روي عنهم من
أخبار الحروب مع الروم لم يستعملوا فيه لفظ الكافرين والمشركين ألبتة مع أنهم كانوا
يعبرون عن مجوس الفرس ووثنيي العرب - قبل الإسلام - بالمشركين، ويقولون
عن أولئك: الروم والقبط - مثلاً كانهزام الروم، وقاتل القبط ونحوه - يؤيد هذا كتب
التاريخ التي نقلت إلينا أخبار الفتح بالرواية كالطبري وأشباهه، ولو فرض وجود
شيء من تلك الألفاظ فيها فإنه نزر يسير، وهو من حشو النساخ، وأما كتب
المتأخرين أو المقلدين فإن أصحابها لم يراعوا فيها ما راعاه السلف من الأدب،
وحسن الأداء؛ لما وقر في نفوسهم من التعصب الذي حدث في القرون الوسطى، ولم
يكن له أثر في النفوس في صدر الإسلام؛ لعلم أهل ذلك الصدر أن الإسلام جاء
للتأليف والوئام، لا للتفريق بين الأقوام، وأن اختلاف الأديان لا يوجب الفرقة
والخصام لقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) ولأن القرآن نطق
بأن أهل الكتاب أقرب مودة للمؤمنين، وذلك في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم
مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة: 82) ولهذا سر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بانتصارهم على مجوس الفرس كما ذكرنا ذلك في الجزء الثاني في حكاية هرقل
مع الفرس، وهي القصة التي جاءت في قوله تعالى:{الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} (الروم
: 1-2) الآية، فلتراجع في محلها.
هذا ما أردنا بسطه ليكون فيه ذكرى للذاكرين، وإنما أطلنا الكلام في هذا الباب
إظهارًا لبراءة عمر رضي الله عنه مما عزي إليه، وتنبيها لأوُلي النُهى من
المسلمين إلى أن دينهم يأمر بمحاسنة الذميين، وينهى عن مخاشنة الكتابيين، وأن
مرض التعصب الذميم إنما طرأت أعراضه على الأمة تدريجًا سيما على عقب
الحروب الصليبية، وإن من آثار ذلك التعصب القبيح ما يلاقيه المسلمون لهذا العهد
من ضروب الإهانة، والعسف من الدول المسيحية التي حكمت بعض الممالك
الإسلامية، ولم تراع في حكم المسلمين حقوق الإنسانية ولا الدين بحجة الانتقام
للمسيحية.
والمسيحية والإسلام يبرآن إلى الله من ظلم البشر بعضهم لبعض ،
ولكن ما الحيلة والإنسان مهما ترقت مداركه، وسمى عقله فإنه لا يزال يتقاصر
دون الوصول إلى مرتبة العلم الكامل الذي يجعل البشر كلهم بالإضافة إلى وجوب
التعاون والاجتماع سواء، وإن اختلفوا في المذاهب والأهواء؛ إذ كل امرئ مسؤول
عن اعتقاده عند الله. وإنه سبحانه يبين آياته للناس ، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل
فعليها، ولكن إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. اهـ
_________
(1)
المراد بختم رقاب أهل الذمة بالرصاص هو: حمل طوق فيه علامة من الرصاص كما في بعض التواريخ.
(2)
قد كان المسلمون كلهم كعمر من حيث العمل بمراعاة أهل الذمة ، ولزوم تجنب إيذائهم بالقول أو الفعل خصوصًا عماله يدلك عليه ما ذكره في سراج الملوك في حكاية طويلة لا محل لذكرها هنا،وخلاصتها أن عمير بن سعد عامل عمر على حمص وفد عليه مرة فسأله عن أشياء ، ثم قال له: عد إلى عملك. فقال عمير: أنشدك الله ألا تردني إلى عملي فإني لم أسلم منه حتى قلت لذمي: أخزاك الله، ولقد خشيت أن يخصمني له محمد صلى الله عليه وسلم ولقد سمعته يقول:(أنا حجيج المظلوم فمن حاججته حججته) ولكن ائذن لي إلى أهلي. فأذن له فأتى أهله
…
إلى آخر الحكاية فإذا كان مثل عمير بن سعد يستعفي من عمله لكلمة قالها لذمي وخاف أن يخصمه رسول الله عليها لأنه قال: (من ظلم ذميًّا فأنا خصمه يوم القيامة) فهل يسوغ العقل أن يؤذي عمر وعماله الذميين بمثل جز النواصي والركوب على الأكف ونحو ذلك من أنواع الإيذاء الذي لا شيء بالنسبة إليه قول عمير للذمي: أخزاك الله. فاللهم إنا نبرأ إليك مما كتبه الوضاعون، وأخذ به الفقهاء على غير روية ولا تحكيم للعقل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
شبهات النصارى وحجج المسلمين
سوريا والإسلام
سوريا في حاجة شديدة إلى اتفاق عناصرها لا سيما المسلمون والنصارى ، فإذا
لم يتفقوا فلا عمران في سوريا ولا حياة. المسلم في سوريا محتاج إلى مسالمة
النصراني ، وربما كان هذا أحوج منه إلى هذه المسالمة، النصارى في سوريا
أجدر من المسلمين بالسعي في الوفاق والمسالمة؛ لأنهم سبقوهم إلى العلم، فكان يجب
أن يسبقوهم بإحساس حاجة بعضهم إلى بعض، ولأن الحاجة إذا لم تكن متساوية
في الفريقين فالأضعف يكون هو الأحوج كما أشرنا إليه آنفًا، وهذا ما آنسته من
أكثر فضلاء النصارى الذين ذاكرتهم في المسائل الاجتماعية.
نرى عقلاء المسلمين وطلاب الإصلاح فيهم يكتبون في صحفهم ومؤلفاتهم ما
يقنع المسلمين بأن دينهم يرشدهم إلى محاسنة أهل الكتاب ومسالمتهم ، ويفرض
عليهم مساواتهم في الحقوق ، ويحرم عليهم إيذاءهم ، ويخص النصارى بأنهم أقرب
مودة إلى المسلمين من غيرهم ، وبأن مصلحة البلاد تقضي مع ذلك باتفاقهم في
الأعمال الدنيوية، وتعاونهم في الكسب إلى غير ذلك من الإرشاد ، وبينا نحن نطبع
تاريخ رفيق بك العظم - وفيه ما رأيت (في النبذة السابقة) من الكلام الحسن في أهل
الذمة - إذا نحن بجريدة (المناظر) ترد علينا بمقالات غريبة عن موضوعها عنوانها
(سوريا والإسلام) ينفث فيها صاحبها من سموم التعصب الأعمى، والقدح في
الإسلام والمسلمين ما يحول دون التأليف والتوفيق ، ويدفع في صدور طالبي
الإصلاح فيردهم على أعقابهم.
قلنا: إن هذه المقالات غريبة عن موضوع (المناظر) فإن هذه الجريدة قد
سبقت جميع الجرائد العربية في العناية بالدعوة إلى الوطنية الصحيحة النافعة ،
وترك التعصب الذميم الذي يلقي الشقاق بين أهل البلاد حتى يحل بها الدمار وتكون
طعمة للأغيار، وقد عجبنا من قبوله لهذه المقالات التي تخالف خطته الحسنة.
ما راعى الكاتب المصلحة ، ولا صدق التاريخ، ولكنه اقتبس جذوة من جذى
دعاة الحروب الصليبية فألقاها في الأمة التي صوَّح التعصب نجمها وشجرها
فصيره هشيمًا ، وناهيك بما تفعل النار بالهشيم.
* * *
(1)
كلمة جديدة
جاء الكاتب بملخص من سيرة الإسلام وسريرته في (كلمة جديدة) له لا
يعرفها الإسلام ولا المسلمون. لا يعرفها القرآن ولا السنة الصحيحة. لا يعرفها
التاريخ ولا الفقه الإسلامي ، ولكن يوشك أن يكون عرفها أو ادعاها أو مثلها بطرس
الراهب، أو أعضاء محكمة التفتيش، أو قسوس أسبانيا في القرن السادس عشر ، وقد
أنصف الكاتب إذ اعترف بأن كلمته في الإسلام جديدة!
نعم إنها جديدة لم يقل بها قبله أحد فيما نعرف ، ولو أردنا أن نبرئ الإسلام
مما رماه به الكاتب - وهو بريء منه - ونبرئ التاريخ مما أسنده إليه بغير رضاه ولا
معرفته؛ لما بقي من تلك المقالات الطويلة إلا رأي الكاتب. فملخص
تلك المقالات أن الكاتب يرى أو يحب أن يرى قومه أن الإسلام في طبيعته ،
والمسلمين خاصتهم وعامتهم منابع للتعصب كذلك كانوا في ماضيهم ، وكذلك هم في
حاضرهم ، وكذلك يكونون في مستقبلهم فلا يطمعن المسيحيون في وفاقهم والاتحاد
معهم على ترقية سوريا أو غيرها ولكن ماذا يعملون بالمسلمين؟
للكاتب أن يرى ولغيره أن يقبل أو يرفض ، ونحن لا يهمنا إلا أن نبين
الحق وندعوا إلى الخير والوفاق ما استطعنا، ولا نسمح بكثير من صحائف المنار للرد
عليه، بل نكتفي بالإشارة فنقول:
* * *
(2)
لماذا ظهر الدين الإسلامي؟
مهد لجواب هذا السؤال تمهيدًا من التاريخ خالف فيه مؤرخي الأمم كلها
صور بتمهيده الأمم التي أظلها الإسلام بجناحيه في أول ظهوره بصور بهية سنيعة
انتهت إليها الحضارة والمدنية في سوريا ومصر، ولكن جميع المؤرخين يصورونها
بصورة شنيعة قبيحة ، لا سنيعة ولا مليحة ، ويقول المتعصبون منهم على الإسلام:
إنه لولا ذلك الفساد في الأخلاق والعقائد والأعمال ، ولولا ذلك الاستبداد في الأحكام
والاستعباد للأقوام ، ولولا تلاشي العلم والمدنية في مصر وفارس والشام لما
نجحت في هذه الممالك دعوة الإسلام ، ولما تيسر لتلك الأمة الأمية أن تسود في
بضع سنين على جميع أمم القوة والمدنية.
ونحن نقول لهؤلاء: نعم إن الإسلام لم ينتصر إلا لأنه الحق قذف به على
الأباطيل، ونور الهدى المشرق في ظلمات الأضاليل.
ونقول لكاتبنا ومؤرخنا الجديد: إذا كان المسلمون على بداوتهم وبعدهم عن
العلوم والمعارف والحق والعدالة (بزعمك) قد انتصروا (على التمدن الفينيقي
ينشئ المستعمرات على الشطوط الأفريقية، والتمدن المصري يفغر فاه ليبتلع
سورية) واصطادوا (النسر الروماني يظلل بجناحيه القارة الأوربية والقسم الأعظم
من الأسيوية) فلا شك أن انتصارهم هذا أعجوبة سماوية قد حدثت بمحض
العناية الإلهية، ويقول الكاتب: إن انتشار النصرانية في بلاد العرب كان السبب
الوحيد لتغير حالة البدو وطلبهم المحافظة على حريتهم واستقلالهم ، فالإسلام لم
يظهر إلا بسبب المبادئ النصرانية.
ونقول له: إن حوادث الزمان التي أعدت العرب لظهور دين المدنية
والعلم فيها - على أميتها - كثيرة ، فإذا كان منها خوفهم من النصارى المعتدين على
استقلالهم كما قال؛ فلا يصح أن تجعل النصرانية هي السبب الوحيد لظهور
الإسلام ، ولا يقول ذلك إلا الغالي في التعصب والتحمس الديني، وإن للحرية نشوة
كنشوة الخمر، وطغيانًا كطغيان الغنى ، وإنها لأعظم ثروة وأكبر لذة. فللمتمتع بها
أن يقول ويكتب ما يلذ له ويطيب.
* * *
(3)
النبي العربي
ذكر الكاتب ههنا ملخصًا لتاريخ النبي عليه الصلاة والسلام فقال: إنه (ولد
بين سنة 570 و578 للمسيح) والصواب أنه ولد في نيسان (أبريل) سنة 571.
وقال: إن أباه مات بعد ولادته بشهر. والصواب أنه مات قبل ولادته. وقال: إن
عمه أبا طالب سافر به وهو ابن اثنتي عشرة سنة. والصواب أنه كان ابن تسع
سنين. وقال: إنه بعد ذلك كان يسافر إلى الشام من وقت الى آخر. والصواب أنه
ما سافر بعد ذلك إلا مرة واحدة مع ميسرة غلام خديجة. وقال: إنه تزوج خديجة (سنة 595) حين بلغ العشرين. والصواب أنه تزوج بها وله خمس وعشرون سنة
وشهران وأيامًا قيل: عشرة ، وقيل: خمسة عشر. وكل هذه الأغلاط في سطور
لا تُكَوّن صفحة واحدة من المنار. ومن الاختصار الذي أشرنا إليه أن لا نستقصي
أمثال هذه الأغلاط التاريخية ، وإنما نعنى بالآراء والنتائج الجوهرية ، ومنها في
هذه النبذة إشارة الكاتب إلى أن ما جاء في القرآن من الكلام في المسيح، وإثبات أن
مريم ولدت بشرًا لا إلهًا قد أخذه النبي من النساطرة إذ عرج به عمه على ديرهم في
سفره به إلى الشام ، وقد علم القارئ أنه كان يومئذ في التاسعة من عمره ، فلا
عجب عند كاتبنا أن يحفظ ابن تسع بعض كلام الرهبان، ويسره في نفسه زيادة عن
ثلاثين سنة لا ينطق به في صباه ولا في شبابه، ثم يبني عليه دينًا عظيمًا!! إن
هذا الاستدلال يشبه ما قاله بعض الظرفاء من كتاب المحاكم في قصيدة نظمها شاعر
بليغ: إنه سرق قصيدته مني؛ لأنه جاء فيها:
سليل بني الزهرا ولله نسخة
…
لقد قوبلت بالأصل في اللفظ والفحوى
قال: فإننا نكتب على ما نبيضه من الصحف أنه قوبل بالأصل! ! . أو يشبه قول
بعض ملاحدة أوربا: إن مواعظ الإنجيل الحسنة مأخوذة من حكم كونفشيوس
الصيني، وبعض فلاسفة اليونان، وأورد أمثلة في ذلك منها: الأمر بأن يعامل
المرء الناس بما يحب أن يعاملوه به ، فإنها مأثورة عن كونفشيوس ، ومن الخطأ
العظيم قول الكاتب: إن الإسلام ثبت في البادية بالسيف ، وإن النبي أجبر اليهود
والنصارى على الإسلام. كيف والله تعالى يقول فيه: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) ويقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) وأما الحرب فقد
كانت بعد قوة الإسلام وانتشاره بالدعوة لمدافعة المعتدين على أهله، والمهددين
لدعوته ، وسنبين هذا بمقال مسهب في فرصة أخرى.
* * *
(4)
أمؤسس شريعة أم مؤسس مملكة؟
قال الكاتب في جملته الرابعة التي رأيت عنوانها: (لقد صور لنا التاريخ
محمدًا نبيًّا ومؤسس شريعة؛ أما العقل فيصوره سلطانًا ومؤسس مملكة؛ لأنه لا يرى
فيه غير صورة مؤسسي الدول والممالك ، وليس صورة بوذه وكونفشيوس والمسيح، التاريخ يرى وضع الإسلامية لأجل هداية قبائل العرب وردهم عن الوثنية، أما
العقل فسيرى أنه أبقاها على ما كانت عليه في زمن الجاهلية) نعوذ بالله من مكابرة
الحس.
ثم استدل على أن الإسلامية ليست بملة جديدة ولا شريعة وبأن العقل - أي:
عقله وحده - يحكم بأن التاريخ كاذب ، وبأن محمدًا أخذ التوحيد عن النساطرة ،
وأضاف إليه كثيرًا من التقاليد والعوائد النصرانية واليهودية! وقال: إنه إذا تجرد
عن كل غاية - أي: إلا غاية التعصب الذي يعمي ويصم - فإنه يحكم بأن تصوير
العقل - أي: عقله - هو الحقيقي دون تصوير التاريخ. ولخص الإسلام كله
بالتوحيد. وقال: إنه عن النساطرة ، وكذلك إنكار ألوهية المسيح ، وتعيين أوقات
الصلوات الخمس! ! وبالختان والغسل قبل الصلاة ، وقال: إنهما عن اليهود ،
وبتعدد الزوجات وقال: إنه عن العرب! ! أي: فلم يبق في الإسلام شيء من
الإسلام! ! يا أرض اشهدي ، ويا سماء شاهدي هذا الكاتب البريء من كل غاية
الذي يعيب التعصب على المسلمين، فيسمي الضياء ظلامًا، والنهار ليلاً لأن الشمس
طلعت عليهم فغمرهم ضياؤها.
ثم قال: ولو أن غاية محمد دينية فقط - لو أنها سامية كغايات جميع مؤسسي
الأديان لوضع التعاليم التي قام يبثها ويبشر بها بالسيف على أسس الإخاء والحب
والحرية والمساواة ، ولما كان عوَّل قبل وفاته على الزحف إلى سوريا. ثم زعم أن
الغاية سياسية ، وهي حب الرئاسة والسلطة ، وتفيهق في ذلك بما أملاه عليه
إحساس التساهل والبراءة من كل غاية! !
أظن أن الذين يكتبون الينا دائمًا بوجوب استقصاء شبهات النصارى المصوبة
إلى الإسلام من كل صوب لا يسمحون لي بأن أبين خطأ كل كلمة من هذا الكلام؛
لأنه ليس من قبيل الشبهات وإنما هو على حد: الشمس مظلمة ، والسماء تحتنا ،
والأرض فوقنا. لكنني أستأذنهم بأن أسأل الكاتب المنصف: لماذا لم يذكر في
مؤسسي الشرائع موسى مع أن شريعته هي شريعة المسيح الذي يعبده ، وفيها: قال
المسيح كما تروى أناجيله: (ما جئت لأنقض الناموس) وهذا الناموس هو بعينه
الذي يأمر بإفناء جميع الذكور من المحاربين ، واغتنام النساء والأولاد من أهل
المدن البعيدة ، ويأمر بإبادة الشعوب القريبة كبارًا وصغارًا رجالاً ونساءً كما في
سفر تثنية الاشتراع من توراتهم (20: 10 - 16) فهل ينكر التوراة وموسى
لأجل الطعن بمحمد؟ وإذا هو فعل هذا فمن أين يأتي بشبهة على ألوهية المسيح أو
على نبوته ، والعقل الذي يحكمه لا يتصور أن يكون بشرًا إلهًا خالقًا لمن كانوا قبل
ولادته ولمن يكونون بعد موته! ! فحجته إنما تقوم على صحة دين بوذه فقط.
إن مسألة الطعن في الإسلام لمشروعية الجهاد فيه مسألة سياسية ، وقد بينا في
المنار غير مرة أن الجهاد في الإسلام ما شرع إلا للمدافعة عن الحق وأهله وتأمين
الدعوة وحرية الاعتقاد. وقد نشرت جريدة المناظر الغراء في ذلك ما كتبه إمامنا
الحكيم في مقالات (الإسلام والنصرانية) ولكن شره الكاتب على الطعن في الإسلام
ينسيه ما يقرأ ، أو يحمله على رفضه والاكتفاء بما يصوره له تعصبه فقط. ولولا
السياسة لما أكثروا من ذم الإسلام بالجهاد ، وكتابهم التوراة يحكم بما تقدم آنفًا،
وتؤيد ذلك أناجيلهم بروايتها عن المسيح أنه قال: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا
على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا) (متى 10-34) وقال: (أما أعدائي
الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) (لوقا 19-
27) وهو صريح في أن المسيح طالب ملك ، وأنه يبيح دم من لا يقبلون ملكه
عليهم ، ثم إن تاريخهم ملطخ بالدماء لأجل الإكراه على الدين. وآية الجهاد في
القرآن هي: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (الحج: 39) إلخ ، ولعلنا نفي
بوعدنا بتفصيل القول في تخطئة قول الذين يدعون أن الإسلام قام بالسيف ، وأن
الجهاد فيه مطلوب لذاته.
ثم انتقل من الاستدلال بالوهم والتخيل إلى الاستدلال بشيء له أصل في
التاريخ ، ولكنه لا يدل على ما استدل به عليه. استدل على كون غاية محمد صلى
الله عليه وسلم سياسية بتنازع الصحابة على الخلافة ، ويصح لنا أن نحتج بهذا على
نقيض زعمه ، وهو أنه لو كان الغرض من الإسلام تأسيس الملك لوضع المؤسس
قاعدة للحكومة ، وجعل الملك في أسباطه وأبنائهم ، ولكنه فوض ذلك إلى الأمة بعد
بيان الأصول التي لا يضل متبعها ما اتبعها كقاعدة (الشورى) ومنع الخروج على
الأمير.
ولو أوصى بالملك لذريته لما نازعهم أحد. وأمر الملك دنيوي مبني على
القوة والعصبية. ولما اتسعت فتوحات الإسلام ، ودخل الناس في الدين أفواجًا أمكن
لمثل معاوية أن يتخذ لنفسه عصبية في الشام ، ورأى أنه أهل لهذه السلطة فتصدى
لها ، وكان من الواجب على أمير المؤمنين أن يقاومه ويحاربه عند عدم الخضوع؛
لئلا تتفرق الكلمة ، فهل يقول عاقل بأن طمع معاوية في السلطة والملك يكون دليلاً
على أن محمدًا عليه الصلاة والسلام كان طالب ملك ، وهو الذي كان يعيش
عيشة المساكين ، ويفيض بجميع ما يملك على الناس ، ويقيد من نفسه (أي: يمكن
الناس من القصاص منه) ولا ينتقم لها إلخ إلخ؟ ؟
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تأييد علماء الآفاق للفتوى
بحل طعام الكتابي ولباسه
نشرنا في الجزء الرابع والعشرين من السنة الماضية مقالين في ذلك لعالمين
من علماء المغرب الأدنى (تونس) ، والمغرب الأقصى (مراكش) ، وذكرنا في مقدمتها أننا رأينا في الجرائد الهندية مقالات في الموضوع، وعلمنا أن بعض القراء يودون لو يعرب شيء منها للمنار، ولكننا نعتذر لهم بأن الأكثرين قد اكتفوا بما كتبناه في المسألة وأهل المشرق الهند وغيرها كأهل المغرب مقتنعون بما قلناه، ومؤيدون له ولكننا نذكر المقدمة الوجيزة التي افتتحت الكلام بها في الموضوع جريدة المسلمين في (عليكده) منبع الحياة العلمية، وموطن النهضة الإسلامية في الهند ، فقد جاء في العدد الصادر من تلك الجريدة في 8 فبراير سنة 1904م ما تعريبه:
(هل ولد السيد أحمد خان ثانية في مصر، وظهرت جريدته (تهذيب الأخلاق)
بشكل المنار؟)
إن الله وهب للمرحوم السيد أحمد خان طبعًا سليمًا، ودماغًا عجيبًا فبينا العلماء
الأعلام، والفقهاء الكرام يشتغلون عامة بوسائل التقليد، وطرقه، وينهمكون في
البحث بعبارات أمثالهم كان السيد يبحث في أصول الدين، ومقاصده بحث المجتهد
المحقق، وانبرى بهمة (أسدية) قوية لإظهار الإسلام بصورته الأصلية الأولى
بنزع لباس التقليد عنه وإزالة شوائبه منه؛ إذ كان شيوخ الملة المقيدين بقيود
التعصبات والأوهام قد جعلوا أحكام الحنيفية السمحة البريئة من الحرج في غاية
الضيق والشدة، وحكموا فيها الرسوم والعادات فجعلوها مذهبًا، وشريعة.
عنى السيد بتحقيق العقائد والأحكام، وبيان الحق، ولم يخف في مخالفة
الجمهور لومة لائم ففصل بين العادة والعبادة، وبين الرسوم الموضوعة والأحكام
المشروعة؛ ليخرج المسلمين من تلك الأوهام، ويعود بهم إلى أصل الإسلام، ولما
أنشأ يطبع تحقيقاته، وينشرها علت الجلبة والضوضاء، وصاح مع العامة العلماء
والفقهاء: قد كفر قد كفر.
وطلبوا من الحرمين الشريفين الفتوى بتكفير السيد، والغالب أنه لم يكن في ذلك
الوقت أحد من المسلمين في الهند إلا وهو ينظر إلى أفكار السيد وتصوراته بعين
الحيرة والتعجب.
لعل أكثر الناس يتذكرون ذلك الزمان الذي أجاز السيد فيه لباس الإنكليز،
وأباح الأكل معهم، وقال: إن اللباس ليس من الأمور الدينية، بل من الرسوم
والعادات، ولم يحكم الشرع بالتزام زي يختص به المسلمون، وأما الأكل فهو حل
بنص الآية القرآنية ، ويتذكرون كيف هب العلماء للرد عليه، واستدلوا بحديث:
(من تشبه بقوم فهو منهم) ، وكفروا السيد، ولكن الأقوال التي قالها السيد منذ ثلاثين
سنة يقولها الآن أشهر العلماء في الممالك الإسلامية، والأفكار التي أظهرها السيد
في الماضي يظهرها في هذا الوقت مفتي الديار المصرية بالحرية التامة،
و (النظافة) ، ونحن الآن نترجم الفتوى بحل طعام أهل الكتاب ولباسهم، ولكن لا
ندري ماذا يقول الناس في هذا؟ - اتفاق الحاضر مع الماضي - فإن كان المسلمون
قائلين بالتناسخ؛ فليقولوا ضرورة بأن السيد قد ولد (ثانية) في مصر، وظهرت
جريدته (تهذيب الأخلاق) في شكل (المنار) اهـ المقدمة.
(المنار)
لتعتبر الجريدة المحدثة بأقوال علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فإن كانت كتبت ما كتبته من الطعن في الفتوى عن جهل، وكانت تريد باستنجاد مسلمي الآفاق بيان الحق؛ فهاهم أولاء قد أيدوا الفتوى، فعليها أن تعترف بخطئها،
وتتوب إلى ربها، ويا ليت أصحاب الجمود ودعاة التأخير يعلمون أن الأستاذ الإمام وحزبه هم الذين يخدمون الإسلام والمسلمين في هذه البلاد دون سواهم، وأن عقلاء المسلمين في جميع الأقطار معهم، ومؤيدون لدعوتهم، ومرتبطون معهم
بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم، فلا يغتر حزب التأخير، بمال
فلان الغني، وجاه فلان الأمير، فإن الحق يعلو ولا يُعْلى ، وإن حزب الله هم
الغالبون.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
الزي والدين
(س1) الزي والدين ر. ع: بالقاهرة
إن بعض الكتابيين من أهل إنكلترا وأمريكا أسلموا، ولم يغيروا زيهم في
اللباس (كالبرنيطة والبنطلون)، فهل يصح إسلامهم أم لا؟ فإن قلتم: لا يصح؛
فهل من دليل نقلي على ذلك؛ إذ ما نعلمه من التاريخ أن الشعوب التي أسلم منها
من أسلم في العصور الأولى ما كان يشترط في إسلامهم تغيير الزي، وما كانوا
يلبسون لباسًا مخصوصًا بأهل الإسلام؟ وإن قلتم: يصح إسلامهم، ويقرون على
لبس البرنيطة والبنطلون؛ فكيف جاز لبعض الناس لهذا العهد القول بحرمة لبس
البرنيطة على المسلم، مع أن حرمتها - على ما أعتقد - يقتضي أن يكون الإسلام
بالزي لا بالعمل أو بكليهما معا؟ وإذا كان ذلك كذلك فإسلام من أسلم من أهل
أمريكا وإنكلترا غير صحيح ما لم يغيروا أزياءهم، وهذا من الإشكال في
الدرجة القصوى، كما لا يخفى على بصير؛ إذ ربما كان ذلك مدعاة لعدم انتشار
الإسلام بين الأقوام الذين تقضي عوائدهم بعدم التخلي عن لبس البرنيطة وما شابهها،
وأمر آخر وهو أَنَّا نرى عشرات الملايين من المسلمين يلبسون لباس الإفرنج
(بنطلون) فإذا صح قولهم بعدم جواز هذا اللبس، وأن الإسلام بالأزياء أو
بالأزياء والأعمال فما حكم هؤلاء؟ هل يعتبرهم القائلون بهذا مرتدين مع
أن المسلمين لم يكونوا يذكرون ذلك في دعوتهم إلى الإسلام؛ بل كانوا يكتفون
بالشهادتين فيه ، وورد في الحديث: (من قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله
ودمه إلا بحقه وحسابه على الله) وهؤلاء المسلمون الذين يلبسون البنطلون يقولون:
(لا إله الله. ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) ، فما رأيكم في هذا كله؟ نرجو
الجواب ولكم الثواب.
(ج) لا يوجد دليل في الكتاب، ولا في السنة، ولا في أقوال الأئمة على
اشتراط زي مخصوص للمسلم، بل هناك أدلة على عدم الاشتراط كما رأيتم في
المقالات التي نشرناها في الموضوع ، والذين قالوا ما قالوا في منافاة لبس قلانس
النصارى (البراطل أو البرانيط) للإسلام لا يعرفون من الإسلام إلا التقاليد العامة
التي يعرفها الحوذي.
قلتم: إن الذين أسلموا في الصدر الأول لم يشترط عليهم تغيير
أزيائهم، ونزيدكم على هذا أن الصحابة كانوا يلبسون الثياب التي يغنمونها من
المشركين والمجوس وأهل الكتاب، بل النبي صلى الله عليه وسلم لبس من
لبوسهم أيضًا كما ذكرنا من قبل، ولو أراد الله أن يتعبدنا بزي مخصوص لاختار
زيًّا وألزمنا به، فإن لم يكن الزي الإسلامي مخترعًا جديدًا من الشارع فموافقته لزي
أهل الكتاب أولى من موافقته لأزياء المشركين؛ لأن الإسلام يفضل الكتابي الرومي
أو الروسي على المشرك الهاشمي القرشي، هذا وإن المسلمين لم يلتزموا زيًّا واحدًا
في عصر من الأعصار، فأي أزيائهم كان زي الدين، وأيها كان زي الكافرين أو
المرتدين.
وما ذكرتم من مفاسد جعل الزي داخلاً في مفهوم الإسلام صحيح، وأهمه
امتناع من يصعب عليهم تغيير أزيائهم من قبوله، وأقول: إن كل أمة من الأمم
التي تعقل تهزأ بدين يجعل الزي ركنًا من أركانه، أو عملاً من أعماله فلو قيل
لأهل أوربا أو أمريكا: إن الإسلام يشترط أن يلبس الداخل فيه (فرجية) واسعة
الأكمام، وجبة طويلة الأذيال، وحذاء أصفر يظهر منه معظم الرِّجْل لقالوا: إن
هذا دين لا يليق إلا بالكسالى والبطالين من أهل البلاد الحارة، وما قاربها، ولا ينبغي
لأهل العمل والنشاط، ولا يرضى به ذو عقل ولا ذوق.
أما حديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) فهو غير صحيح، ولو صح لما أفاد
المشاغبين في مسألة، فإن معناه أن من تكلف أن يكون شبيهًا بقوم؛ فإنه يلتحق
بطبقتهم، فإن تشبه بالكرام في أخلاقهم وأعمالهم عُدَّ منهم، وإن كان متكلفًا والعكس
بالعكس، ومثل هذا التشبه لا يحصل إلا بتكلف السجايا الخاصة بالقوم، فإن من
يلبس لباس الشجعان أو الأسخياء لا يعد منهم، فالحديث إذن في معنى قول الشاعر
الذي اقتبسه:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
…
إن التشبه بالكرام فلاح
* * *
زيارة المسلم لغير المسلم
(س2) ح. ح في الجبل الأسود معلوم عند جنابكم أننا تحت تصرف
حكومة نصرانية، وأن النصارى يزوروننا يوم عيدنا للتهنئة بالعيد، ويطلبون منا
مثل هذه الزيارة في أعيادهم، فهل نحن معذورون إذا زرناهم أم لا؟
(ج) ثبت في الحديث الصحيح عند أحمد والبخاري وغيرهما أن النبي
صلى الله عليه وسلم عاد غلامًا يهوديًّا كان يخدمه قبل مرضه وقد استكبر الغلام،
وأبوه الفقير هذه العناية، ودعا النبي الغلام الى الإسلام فقال له أبوه: أطع أبا
القاسم. فأسلم، والحديث يدل على مشروعية الابتداء بالزيارة. قال الماوردي:(عيادة الذمي جائزة والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة)
- أي: إن العيادة في المرض ومثلها الزيارة جائزة، ولكنها لا تكون عبادة يتقرب بها
إلى الله إلا إذا اقترن بها شيء مما هو مطلوب في الشرع كحرمة الجوار والقرابة -
وحسبك أن تكون الزيارة في العيد وغيره مباحة. على أن القواعد الإسلامية ترشدنا
إلى أن حسن النية في الأعمال المباحة تلحقها بالعبادات.
هذا وأنت تعرف الفرق بين الذمي الداخل في حكمنا وبين من نحن داخلون
في حكمهم ، فإذا صح لنا أن نجامل من نحكمهم عملاً بمكارم الأخلاق التي هي
أساس ديننا، أفلا يصح لنا أن نجامل من يحكموننا من غيرنا، ونحن أحوج إلى
مجاملتهم؛ لأجل مصالحنا، كما أننا نرى أنفسنا أحق منهم بمكارم الأخلاق؟
وكأني بمتعصب يقول: قال ابن بطال: (إنما تشرع عيادة المشرك إذا رجي
أن يجيب إلى الإسلام) .
وأقول أولاً: إن كلامه في العيادة المشروعة؛ أي: المطلوبة شرعًا، ونحن
نتكلم في العادات المباحة.
وثانيًا: إن الحديث السابق لا يدل على الاشتراط، وقد أورد الحافظ ابن حجر
كلامه في شرح البخاري ثم قال: (والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد،
فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى) ، وظاهر أن مصالح أهل الوطن الواحد مرتبطة
بمحاسنة أهل بعضهم بعضًا، وأن الذي يسيء معاملة الناس يمقته الناس فتفوته
جميع المصالح، لا سيما إذا كان ضعيفًا وهم أقوياء، وإذا أسند سوء المعاملة إلى
الدين، يكون ذلك أكبر مطعن في الدين؛ فلك أيها السائل ولغيرك من المسلمين أن
تزوروا النصارى في أعيادهم، وتعاملوهم بمكارم الأخلاق أحسن مما يعاملونكم،
ولا تعدوا هذا من باب الضرورة؛ فإنه مطلوب لذاته مع حسن النية واتقاء
مشاركتهم في المحرمات كشرب الخمر مثلاً والله أعلم وأحكم.
* * *
صوم يوم عرفة
(س3) ومنه: هل وردت أحاديث صحيحة في صوم يوم عرفة؟ ولماذا يصومه المؤمنون؟
(ج) ورد في حديث أبي قتادة عند البخاري وغيره ما يدل على استحباب
صوم يوم عرفة، ووردت أحاديث أخرى في النهي عن صومه أصحها حديث عقبة
بن عامر عند أحمد وأبي داود والترمذي وصححه وغيرهما، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) . وورد النهي عنه للحاج بخصوصه وعللوه بأنه يضعفه
عن الأذكار المشروعة في ذلك اليوم للواقف بعرفات ، وحمل أكثر العلماء حديث
أبي قتادة على هذا التخصيص ، وقالوا: إنه يستحب صومه لغير الحاج، وقال
بعضهم: يستحب إفطاره. فأما علة الإفطار فلكونه ملحقًا بأيام العيد، وأما علة
الصوم عند القائل به فلعلها مشاركة الحجاج بالعناية بالعبادة الممكنة في ذلك اليوم،
فيصوم غير الحاج ويكثر من التكبير؛ فيكون ذلك مذكرًا له بعبادة الحج ومشوقًا
إليها حتى تتيسر له إن شاء الله تعالى.
* * *
صندوق التوفير في إدارة البريد
وبيان حكمة تحريم الربا
(س4) مصطفى أفندي رشدي المورلي بنيابة الزقازيق: ما هو رأي
سيادتكم في صندوق التوفير بعد تعديله الأخير؟ وهل يجوز الادخار فيه وأخذ
أرباحه شرعًا؟ ولا يخفى على حضرتكم فوائده سيما أنه يربي ملكة الاقتصاد في
الإنسان وهو ما يؤيده الشرع في ذاته أفيدونا آجركم الله.
(ج) : إن التعديل الذي تعنونه قد كان برأي لجنة من علماء الأزهر جمعها
أمير البلاد لأجل تطبيق إيداع النقود في الصندوق على قواعد الفقه المعروفة، وقد
كتبوا في ذلك ما ظهر لهم وأرسلته (المعية) إلى الحكومة فعرضته على المفتي،
وبعد تصديقه عليه أمرت بالعمل به. هذا ما اشتهر ونحن لم نقف على ما كتبوه
فنبدي رأينا فيه ، ولكننا مع ذلك لا نرى بأسًا من العمل به؛ لأننا إنما ننتقد من الحيل
على علماء الظاهر أو علماء الرسوم - كما يقول الغزالي - وينافي مقاصد الشرع
الثابتة بالكتاب والسنة، كالحيلة في منع الزكاة والحيلة في الربا الحقيقي، الذي
علل القرآن تحريمه بقوله تعالى: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279)
والذي فصل بينه وبين التجارة بقوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا} (البقرة: 275) فالتعاقد في عمل يفيد الآخذ والمعطي ببيع أو تجارة،
والذي يفهم سبب تحريمه من قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً
مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) وذلك أنه: كان في المدينة وغيرها من اليهود
والمشركين من يقرض المحتاج بالربا الفاحش كما نعهد من اليهود والخواجات في
هذه البلاد، وفي ذلك من خراب البيوت ما فيه.
فالحكمة في تحريم الربا إزالة نحو هذا الظلم ، والمحافظة على فضيلة التراحم
والتعاون أو فقل: أن لا يستغل الغني حاجة أخيه الفقير إليه - كما قال الأستاذ
الإمام - وهذا هو المراد بقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا
تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) ولا يخفى أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ
والمعطي والتي لولاها لفاتتهما المنفعة معًا لا تدخل في هذا التعليل {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا
تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) ؛ لأنها ضده على أن المعاملة التي يقصدها البيع
والإتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج،
ولا يخفى أن إدارة البريد هي مصلحة غنية من مصالح الحكومة ، وأنها تستغل
المال الذي يودع في صندوق التوفير فينتفع المودع والعمال المستخدمون في
المصلحة والحكومة فلا يظلم أحدهم الآخر؛ فالأرجح أن ما قالوه ليس من الحيل
الشرعية وإنما هو من قبيل الشركة الصحيحة؛ من قوم المال ومن آخرين
الاستغلال؛ فلا مانع إذن في رأينا من العمل بتعديلهم، على أن العبرة في نظر
الفقه بالعقد؛ ولذلك يحتال بعض علماء الرسوم في الربا الحقيقي فيأكلونه بلا عقد،
ويقولون: إن ذلك من قبيل البيوع الفاسدة، وهي صغيرة أو مكروهة، وهذا شيء
لا يحل ولا نقول به، والحاصل أن المسألة قد أحلوها من طريق الفقه الظاهر،
والباحث في الفقه الحقيقي، وهو حكمة الشرع وسره لا يرى ما ينافي حلها بناء
على ما تقدم، والتضييق في التعامل يفقر الأمة، ويضعفها ويجعلها مسودة للأمم،
والله أعلم وأحكم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع
حب القوة.. رابطة المدنية
(تمهيد)
(ما اجتمع اثنان فأكثر اجتماعًا تراد به المصلحة إلا احتاجوا في انتظام
شملهم وتحصيل مصلحتهم إلى ناموس، إما فطري بشيء من التعليم، وإما تعليمي
مشوب بمقتضيات الفطرة) لتحفظ هذه الكلمة، فإننا نحسبها أصل الأصول في
الأخلاق والشرائع. ولكن لا يحيط بها سريعًا إلا ذهن الذين سيروا تلك الأصول
وسيجدونها عينًا صغيرة تتفجر منها مياه كثيرة أو عينًا صغيرة تنطبع فيها
محسوسات كبيرة. أو مرآة صغيرة تقابلها أشكال متعددة فترى فيها صورها، وأما
غيرهم فيناسبهم شرح هذه الكلمة.
فافرضوا أن المجتمعين أربعة: امرآن وامرأتان ، وافرضوا أن مصلحتهم
الأولى من الاجتماع أن يحفروا لهم غارًا ليسكنوا فيه ويأمنوا العوادي من حر وبرد
ووحش، ويجمعوا أقواتهم فيه.
هذا القدر، افرضوا فقط فإنكم ستروننا نشرح لكم في هذا الاجتماع إجمال
كثير مما يدعو علماء الأخلاق والشرائع أن يبحثوا فيه. وإليكم هذا النموذج من
بيان ذلك:
(الأول) مما يلزم لأولئكم قبل مباشرة حفر الغار محبة كل منهم ذاته إذ لو
كانوا بحيث لا يحب كل منهم ذاته لما كانوا ليقدموا على هذا العمل الذي تحصل به
لجميعهم مصلحة لكل منهم حصة من فوائدها. ولو كان واحد منهم لا يحب ذاته
لنكف وحده عن العمل (امتنع أو عدل) فيكون الثلاثة قد خسروه وما خسروا إلا
معينًا، ولو نكف اثنان لخسر الآخران معينين ولو نكف ثلاثة لعمت المصائب
الأربعة.
فأنتم ترون أن حب الإنسان ذاته هو أول ما يلزم للمجتمعين وهو أول ما
يبحث فيه فلاسفة الأخلاق؛ إذ هو الأصل الأعظم في صلاح الأخلاق إن صلح،
وفي فسادها إن فسد، وهو موجود في الفطرة ولكن لطروء المرض يحتاج لطب
التعليم.
(الثاني) مما يلزم لهؤلاء محبة كل منهم غيره؛ إذ محبة الغير هي الأصل
في تحصيل مصالح الذات وهي الأصل الأعظم في اجتماع المتعددين ، ولولاها
لكان هؤلاء الأربعة متنافرين متناحرين، لا متضافرين متناصرين.
(الثالث) مما يلزم لهؤلاء العدل، ومعناه إعطاء المرء لغيره عدل ما أعطاه
أي شيئًا يعادله. فإذا عمل كل واحد من هؤلاء مثل ما يعمل صحبه كان ذلك من
دواعي محبة بعضهم بعضًا ومما يطِد اجتماعهم. وأما إذا أراد أحد منهم أن يفضل
نفسه عليهم فلا يعمل معهم كما يعملون ويريد أن ينتفع بما عملوا، أو أن ينتفع
بنصيب هو أكبر من أنصبائهم، فربما أوجب أن ينقموا منه ذلك؛ لأن (بدل الأصل
سبب الوصل، وبدل الفضل سبب الفصل) .
(الرابع) مما يلزم لهؤلاء الإحسان، ومعناه: رضا النفس بإيجاد الحسن
ولو من غير بدل أو ببدل أقل مما هو عدله. فإذا كان أحد هؤلاء أضعف من
الباقين فيحسن بهم أن يحسنوا فيعملوا عمل الأقوياء، ويقبلوا من الضعيف عمل
الضعفاء، على أنهم في النصيب سواء وفي الإحسان مباحثات ومحاورات ليس هذا
محلها ، وربما أتينا بها في محل آخر. والذي لا خلاف فيه بين المعتدلين هو أن
الإحسان لا يجب وجوبًا كالعدل بل يحسن بالإنسان التحلي به وقد يشتد لزومه في
المجتمعين القليلين.
(الخامس) مما يلزم لهؤلاء المعرفة، إذ كل عمل لا يكون إلا بعلم فإن
صلح العلم صلح العمل، وإن فسد العلم فسد العمل. ومعنى العلم وجدان الذهن: ما
هو الشيء؟ أو كيف هو؟ أو أين هو؟ أو لم هو؟ أو متى هو؟ أو كم هو؟ أو
بم هو؟ فيلزم هؤلاء أن يعرفوا أين يحفرون؟ وكيف يحفرون؟ وبم يحفرون؟
وكم يحفرون؟
(السادس) مما يلزم لهؤلاء التعريف. ومعناه: إحضار ما وجده العارف
بقوة ذهنه بغير واسطة إلا الإلهام إلى ذهن من لم يجد ذلك بواسطة الدلالات على
اختلافها. ومن البديهي أن الأذهان مختلفة في قبول الفائضات، ولا يتم العمل
اللازم للكثيرين إلا بتعليم من علم لمن لم يعلم، ومن ثمة عندما تكثر اللوازم ويقل
العالمون بها يعد تعليمها أو تعليم الوسائل المؤدية إليها عملاً عظيمًا يعادل أكبر عمل
من أعمال الموجدين للوازم.
هذا وبينما كان هَمُّ هؤلاء واحدًا ومصلحتهم واحدة أي تعاونهم في حفر الغار
ليأووا إليه؛ إذ حدثت لهم بعد حفر الغار مصالح أخرى منها: حراسة المنزل خشية
أن يطرقه طارق من وحش؛ إذا خرجوا جميعًا، ومنها: الاشتراك في تحصيل
القوت رجاء أن يكونوا باجتماعهم أقوى إذا انفردوا، ومنها التراضي في أمر الوقاع؛ لأن في فطرة كل من المرء والمرأة اقتضاء الوقاع، وإن ترك هذا الأمر بلا
قاعدة بينهم يتراضون بها يؤدي إلى تفرقهم أو تجادلهم أو تذابحهم، وهم أشد من في
الأرض احتياجًا للاجتماع والتآلف والتناصر، فهم في هذه المصالح المتعددة (وهي
من أولى المصالح) محتاجون الى تدبيرها. وفي تدبيرها محتاجون على الأقل إلى
ثلاثة أشياء: (1) اقتسام الأعمال، و (2) نظام العائلة ، و (3) نظام التساكن.
فاقتسام الأعمال هو اللازم (السابع) وهو عبارة عن أن يعمل كل واحد عملاً
يحتاجه الكل على أن يكون له نصيب في عمل الآخر. فمن قام في المنزل حارسًا
فله حق بما يأتي به من سار للقوت محصلاً.
ونظام العائلة هو اللازم الثامن (الثامن) وهو عبارة عن العهد الذي يقيمه
المرء مع المرأة على أن يكون كل منهما للآخر زوجًا بشرط كذا وكذا.. على ما
يظهر لهما من المعاهدة.
ونظام التساكن هو اللازم (التاسع) وهو عبارة عن السبيل الحسن الذي
يسير عليه جماعة أقامتهم الحاجة في منزل واحد، ثم بينما هم في حاجة لأفراد
آخرين ليتم بهم تعاونهم على مشاق الأعباء التي لا يستطيعون وحدهم تحملها لما
يصادفهم من الطوارئ الخارجية كغلبة الوحوش ، والداخلية كالضعف بنحو مرض
أو تغير قلوب متحدة، أو اختلال نظام عائلة أو نظام تساكن؛ إذ جبر نقصهم،
وسدت حاجتهم بالأنسال التي أخذت تتزايد في كل عام.
ولكن هل يوجد خير غير مشوب بما يقابله من ضد؟ كلا: إن هؤلاء لما
أصابهم هذا الخير الذي هو توفير العدد لإتمام العدد أصابهم في مقابلته شر هو
توسع الفرق والتفاوت بين أفراد المجتمعين، فأصبحوا كثيرين بينهم الضعفاء من
صغار، ومرضى مثلاً، وأصبح الأقوياء فيهم منهم عارف بقيمة الحي (وإن كان
صغيرًا، فإنه يكبر وإن كان مريضًا فإنه يصح) ، ومنهم غير عارف، ومنهم
محسن، ومنهم غير محسن، ومنهم واف بالعهود، ومنهم غير وافٍ، وبالجملة
أصبحت تلك الوحدة ممزقة، وهاتيك الأوضاع متغيرة، أو ضاق بهم ذلك الوطن
الواحد فاضطروا إلى تعديد الوطن وبتعديده انقلب شكل تلك الوحدة فبينما كانوا
أربعة يتفكرون بتدبير مصالح لهم مشتركة باتحاد القلوب وتعادل الأعمال إذ صاروا
أربعين مثلاً، وبينما كان غار واحد إذ صارت غيران عشرة مثلا.
وبينما كان العمال متعادلين صار العمال متفاوتين ، وبينما كانوا يضربون
في جهة واحدة لتحصيل القوت صاروا يضربون في جهات متعددة، وبينما
كانوا يخافون من الوحوش فقط، صاروا يخاف بعضهم من بعض؛ لأنه وجد بينهم
غير العادل وغير الوافي بالعهود، ولولا أن وجد هؤلاء لكان مليار من البشر
المتناسلين من أولئك المفروضين أولاً على وتيرة واحدة في كل شيء، فلا أريد مليارًا
على هذا النحو، ولا مليونًا، ولا مائة ألف، ولا عشرة آلاف، ولا ألفًا، ولا
مائة أريد اثني عشر إنسانًا ليس فيهم مخادع.
التفاوت بين البشر أمر طبيعي - أي: من جملة سنة الله في خلقه - ومن
اقتضاء التفاوت أن يكون التضاد، ومن اقتضاء التضاد أن تكون المنازعات، ومن
اقتضاء المنازعات أن يتعاون المتقاربون -في أكثر الأشياء المحسوسة والمنصورة-
على المتباعدين عنهم - المتقاربين أيضًا في أكثر الأشياء - ومن اقتضاء
الاجتماع تقارب المنازل. ومن اقتضاء تقارب المنازل اقتسام الأعمال ، ومن اقتضاء
العدل التراضي بتعيين الحدود والمقادير، ومن اقتضاء التراضي تكون
نظام، ومن اقتضاء النظام وجوب حفظه، ومن اقتضاء حفظه إيجاد قوة حافظة له،
ولا بد للقوة من مركز ومحور لحركتها، ولا بد من أن يكون هذا المركز حيًّا سميعًا
بصيرًا عليمًا مريدًا قادرًا متكلمًا - أي: إنسانًا بالغًا سن الرشد والقوة سالمًا من
نواقص الجسد والعقل.
انظروا كم ترون في هذه الحالات من حاجات. كل هذه الحاجات مرت على
الإنسان، وكل حلقة من هذه الحلق بقيت محفوظة في هذه السلسلة حتى هذا اليوم ،
وفي هذه الحاجات والمقتضيات كانت تحدث لهؤلاء المجتمعين القليلين صناعات
يتبادلونها فيما بينهم ، ويغلب في الظن أن صنع آلات الدفاع والهجوم له حظ من
التقدم، ويظهر أن أول ما صنع الإنسان من هذا القبيل - بعد حفر الغيران التي
هي معاقل - هو ترقيق شبا الصلد من الحجارة بواسطة حجارة أخرى، حتى يقطع
بها ما شاء.
ربما صنعت هذه المدى الصوانية لأمر، ثم تبين أن لها نفعًا في أمور أخرى
كثيرة، ويظهر أنه بها نجر الشظايا من الأشجار على هيئات مختلفة لمقاصد متعددة، فكان لهم من تلك الشظايا مغزل يفتلون به أوبار الحيوانات التي يصطادونها،
وكان لهم منها منسج يجمعون عليه الخيوط المفتولة، حتى تكون كسفًا، وكان لهم
منها مخيط يضمون به بعض الكسف إلى بعض ليكون لهم من مجموع ذلك أكسية (يستبدلونها بما كانوا يكتسونه من جلود المصيدات من الحيوانات، أو المنسوج من
الأعواد ولحاء الأشجار أو بعض الأوراق) وأخبية (يستبدلونها بما كانوا يختبئون
فيه من الغيران الطبيعية أو الصناعية) ، ولا يخفى أن الحاجة كانت هي الدافعة
بهم إلى استبدال الأكسية والأخبية المنسوجة من الأوبار بالجلود والغيران؛ إذ
الجلود ثقيلة مثقلة للحركة، ولا تفي بستر البدن على الوجه الكافي ، وهذه الأكسية
الجديدة - التي شرح وصفها - يتكون منها لباس كاف واف بالحاجة. منه الرقيق
والصفيق، ومنه الطويل والقصير ، ومنه الصغير والكبير؛ وإذا تراكمت عليه
الأوضار كانت تنحيتها متيسرة ، وهذه الأخبية الجديدة يتكون منها مآوٍ كافية وافية
بالحاجة للظعن والإقامة فإذا استوبلوا أرضًا تركوها ونزلوا فيما استطابوا لا
يحتاجون الى حفر مآو جديدة.
ومما يغلب في الظن أيضًا أنهم شعروا باحتياجهم لادخار زوائد من المكسوبات
اللازمة للقوت والكساء والخباء والزينة، نعم، إن الادخار للمجتمعين لابد منه
ليكون بالزوائد المحفوظة غناء يوم لا يغني سعيهم في الكسب شيئًا.
وقد سمي الزائد المدخر - في لغتنا - مالاً كأن أهل هذا اللسان سموه بهذا
الاسم المشتق؛ لأن النفوس تميل إليه بالفطرة أو بحسب التجربة والاحتياج ، وهم
يقولون لمن حوى مكسوبات زائدة تمول.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(ع. ز)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: سائح بصير
بلرم صقلية
(4)
(دور الآثار وبساتين النبات)
لا تبخس أهل سيسليا (صقلية) حقهم فإنهم فهموا مسألة لا بأس بفهمها ،
وأظنهم عرفوا ذلك من إخوانهم أهل شمالي إيطاليا وبقية الأوربيين، وهي المحافظة
على الآثار القديمة والجديدة، أما القديمة فتحفظ بذواتها ، وأما الجديدة فتحفظ ولو
بنموذج منها.
بنوا ملعبًا في بلرم فصنعوا له مثالاً من الخشب ووضعوه في دار
الآثار. مدينة بلرم لها مثال مجسم رسمت فيه البساتين والجبال والكنائس مجسمة
مصغرة بألوانها الطبيعية وألوان الأرض نفسها ، وذلك المثال في دار الآثار.
حفظوا لباس امرأة مسلمة من مسلمي صقلية وهو زي يشبه الأزياء الأوربية مع
ساتر للوجه يدل على أن ستر الوجه كان عامًّا حتى في صقلية، وإن كان ذلك قد
يغضب قاسم بك أمين فإنه يجد له أضدادًا في مسلمي أوربا فضلا عن مسلمي آسيا
وأفريقيا.
يحفظ القوم في متاحفهم هذه كل ما يوجد من آثار المتقدمين من مصنوعات،
وأشجار، وأحجار، ولا يدخرون جهدًا في حفظ ذلك حتى إذا وجدت اسم شيء في
كتاب تاريخ مثلاً أو عرض لك اسم في علم من العلوم كان يدل على معنى في
الزمن السابق؛ أمكنك أن تعرف المدلول بالعيان والمشاهدة، وتتحقق صحة الوصف
والتعريف فما استعمله الأقدمون من آلات وأدوات، وأنواع ثياب، وضروب
مراكب، ونحو ذلك تجد شيئًا منه في متحف من المتاحف ، أو في قصر من
القصور، أو في كنيسة من الكنائس، أو في داهية من الدواهي التي هناك.
وهذا مما يفيد في تحقيق المعاني التاريخية واللغوية فائدة لا يعرف مقدارها
إلا من يسمع اسم اللأمة، والدلاص، والدرع والخوذة، والعمامة (عمامة الحرب)
ونحو ذلك من الألفاظ العربية الكثيرة الاستعمال، ثم يراجعها في القاموس أو
غيره من كتب المعجمات، وبعد ذلك لا تستقر في خياله صورة لمدلول من مدلولات
هذه الألفاظ، وقد يتخيل صورة لا مناسبة بينها وبين الحقيقة، وهو جهل باللغة
فاضح، وكثير منا يأكلون اللوز والجوز، وينطقون باسمه في البيت، وعند البائع؛
إذا طلبوا شراء شيء منه ، وهم إذا رأوا شجرة الجوز أو اللوز لا يميزون بينها وبين
شجرة الجميز أو الفلفل، أما الجماعة فعندهم في بساتين النبات جميع هذه الأنواع
من الأشجار، وما لا تناسبه درجة الحرارة في الهواء يحدثون له جواء
تناسبه بالتسخين أو التبريد حتى يعيش في جو مثل جوه ولكل من يريد معرفة
شيء أن يذهب ويعرفه بعينه ذلك. وقد رسموا صور هذا كله فيما كتبوا من كتب
اللغة ومعجمات العلوم ، ويتيسر للحاذق أن يعرف هذه الأشياء بصورها المرسومة
في تلك الكتب؛ أما إذا قال لك صاحب القاموس: الجوز شجرم؛ أي: معروف فماذا
تستفيد من هذا وأنت في مصر وليس في قرب الأزهر شيء من شجر الجوز بل ولا
في الأزبكية نفسها، فكيف يصير هذا عندك معروفًا؟ وكيف يمكنك أن تحدث عن هذا
الشجر إذا كنت كاتبًا أو شاعرًا أو طبيبًا أو عالمًا أو أديبًا.
* * *
الصور
والتماثيل وفوائدها وحكمها
لهؤلاء القوم حرص غريب على حفظ الصور المرسومة على الورق والنسيج،
ويوجد في دار الآثار عند الأمم الكبرى ما لا يوجد عند الأمم الصغرى كالصقليين
مثلاً، يحققون تاريخ رسمها، واليد التي رسمتها، ولهم تنافس في اقتناء ذلك
غريب حتى إن القطعة الواحدة من رسم روفائيل مثلاً ربما تساوي مائتين من
الآلاف في بعض المتاحف، ولا يهمك معرفة القيمة بالتحقيق، وإنما المهم هو
التنافس في اقتناء الأمم لهذه النقوش، وعد ما أتقن منها من أفضل ما ترك المتقدم
للمتأخر، وكذلك الحال في التماثيل، وكلما قدم المتروك من ذلك كان أغلى قيمة،
وكان القوم عليه أشد حرصًا، هل تدري لماذا؟
إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر، وضبطه في دواوينه، والمبالغة
في تحريره خصوصًا شعر الجاهلية، وما عني الأوائل رحمهم الله بجمعه
وترتيبه؛ أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من
الرسوم والتماثيل؛ فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع ، والشعر
ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى.
إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة،
ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات
والأحوال البشرية. يصورون الإنسان أو الحيوان في حال الفرح والرضى
والطمأنينة والتسليم، وهذه المعاني المدرجة في هذه الألفاظ متقاربة لا يسهل عليك
تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهرًا باهرًا
يصورونه مثلاً في حالة الجزع والفزع والخوف والخشية، والجزع والفزع مختلفان
في المعنى، ولم أجمعهما ههنا طمعًا في جمع عينين في سطر واحد؛ بل لأنهما
مختلفان حقيقة، ولكنك ربما تعتصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف
والخشية ، ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع ومتى يكون الجزع؟ وما الهيئة
التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك؟
أما إذا نظرت الى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت؛ فإنك تجد الحقيقة بارزة
لك تتمتع بها نفسك، كما يتلذذ بالنظر فيها حسك إذا نزعت نفسك إلى تحقيق الاستعارة
المصرحة في قولك: رأيت أسدًا: تريد رجلاً شجاعًا فانظر إلى صورة
أبي الهول بجانب الهرم الكبير؛ تجد الأسد رجلاً أو الرجل أسدًا، فحفظ هذه الآثار
حفظ للعلم في الحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها إن كنت فهمت من
هذا شيئًا فذلك بغيتي، أما إذا لم تفهم فليس عندي وقت لتفهيمك بأطول من هذا،
وعليك بأحد اللغويين أو الرسامين أو الشعراء المفلقين ليوضح لك ما غمض عليك؛
إذا كان ذلك من ذرعه.
ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه الصور في
الشريعة الإسلامية؛ إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في
انفعالاتهم النفسية أو أوضاعهم الجثمانية، هل هذا حرام أو جائز أو مكروه أو
مندوب، أو واجب؟ فأقول لك: إن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها،
ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان؛ فإما أن تفهم الحكم
من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة؛
فإذا أوردت عليه حديث: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون، أو ما في
معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك: إن الحديث
جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببين: الأول: اللهو،
والثاني: التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين،
والثاني مما جاء الإسلام لمحوه. والمصور في الحالين شاغل عن الله، أو ممهد
للإشراك به؛ فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة كان تصوير الأشخاص
بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي
المصاحف وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء مع أن الفائدة في نقش
المصاحف موضع النزاع أما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر [1]
وأما إذا أردت أن ترتكب بعض السيئات في محل فيه صور طمعًا في أن الملكين
الكاتبين، أو كاتب السيئات على الأقل لا يدخل محلاًّ فيه صور كما ورد فإياك أن
تظن أن ذلك ينجيك من إحصاء ما تفعل؛ فإن الله رقيب عليك، وناظر إليك حتى
في البيت الذي فيه صور، ولا أظن أن الملك يتأخر عن مرافقتك إذا تعمدت دخول
البيت لأن فيه صورًا، ولا يمكنك أن تجيب المفتي بأن الصورة على كل حال
مظنة بالعبادة فإني أظن أنه يقول لك: إن لسانك أيضًا مظنة الكذب، فهل يجب
ربطه مع أنه يجوز أن يصدق كما يجوز أن يكذب.
وبالجملة إنه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة
من أفضل وسائل العلم بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة
ولا من وجهة العمل. على أن المسلمين لا يتساءلون إلا فيما تظهر فائدته ليحرموا
أنفسهم منها وإلا فما بالهم لا يتساءلون عن زيارة قبور الأولياء، أو ما سماهم بعضهم
بالأولياء، وهم ممن لا تعرف لهم سيرة ولم يطلع لهم أحد على سريرة، ولا
يستفتون فيما يفعلون عندها من ضروب التوسل والضراعة وما يعرضون عليها من
الأموال والمتاع، وهم يخشونها كخشية الله أو أشد ، ويطلبون منها ما يخشون أن لا
يجيبهم الله فيه، ويظنون أنها أسرع إلى إجابتهم من عنايته سبحانه وتعالى، لا شك
أنه لا يمكنهم الجمع بين هذه العقائد، وعقيدة التوحيد، ولكن يمكنهم الجمع بين
التوحيد، ورسم صور الإنسان والحيوان لتحقيق المعاني العلمية، وتمثيل الصور
الذهنية.
هل سمعت أننا حفظنا شيئًا حتى غير الصور والرسوم مع شدة حاجتنا إلى
حفظ كثير مما كان عند أسلافنا؟ لو حفظنا الدراهم والدنانير التي كان يقدر بها
نصاب الزكاة ولا يزال يقدر بها إلى اليوم أفما كان يسهل علينا تقدير النصاب
بالجنيهات والفرنكات، ونحو ذلك ما دام المثال الأول موجودًا بين أيدينا؟ ولو حفظ
الصاع والمد وغيرهما من المكاييل أفما كان ذلك مما ييسر لنا معرفة ما يصرف في
زكاة الفطر وما تجب فيه الزكاة من غلات الزرع بعد تغيير المكاييل؟ وما كان
علينا إلا أن نقيس مكيالنا بتلك المكاييل المحفوظة فنصل إلى حقيقة الأمر بدون
خلاف؟ أظنك توافقني على أنه لو حفظ درهم كل زمان وديناره ومده وصاعه لما
وجد ذلك الخلاف الذي استمر بين الفقهاء يتوارثونه سلفًا عن خلف كل منهم يقدر
للمكيال والميزان بما لا يقدره به الآخر حتى جاء في آخر الزمان أحمد بك الحسيني
يخطئ بعضهم ويوفق بين أقوال البعض الآخر بدون أن يكون بين يديه صاع ولا
مد من تلك الآصع والأمداد، وما أصعب التخطئة والتوفيق؛ إذا لم يكن العيان هو
المميز بين فريق وفريق.
لو نظرت إلى ما كان يوجب الدين علينا أن نحافظ عليه لوجدته كثيرًا لا
يحصى عده ولم نحفظ منه شيئًا فلنتركه كما تركه من كان قبلنا ، ولكن ما نقول في
الكتب وودائع العلم هل حفظناها كما كان ينبغي أن نحفظها أو أضعناها كما لا
ينبغي أن نضيعها؟ ضاعت كتب العلم وفارقت ديارنا نفائسه؛ فإذا أردت أن تبحث
عن كتاب نادر، أو مؤلف فاخر، أو مصنف جليل أو أثر مفيد فاذهب إلى خزائن
بلاد أوربا تجد ذلك فيها. أما بلادنا فقلما تجد فيها إلا ما ترك الأوربيون ولم يحفلوا
به من نفائس الكتب التاريخية والأدبية والعلمية ، وقد تجد بعض النسخة من الكتاب
في دار الكتب المصرية مثلاً وبعضها الآخر في دار الكتب بمدينة كمبردج من البلاد
الإنكليزية، ولو أردت أن أسرد لك ما حفظوا وضيعنا من دفاتر العلم لكتبت لك في
ذلك كتابًا يضيع كما ضاع غيره وتجده بعد مدة في يد أوربي في فرنسا أو غيرها
من بلاد أوربا.
نحن لا نعنى بحفظ شيء نستبقي نفعه لمن يأتي بعدنا، ولو خطر ببال أحد
منا أن يترك لمن بعده شيئًا جاء ذلك الذي بعده أشد الناس كفرًا بتلك النعمة، وأخذ في
إضاعة ما عني السابق بحفظه له ، فليست ملكة الحفظ مما يتوارث عندنا وإنما الذي
يتوارث هو ملكات الضغائن والأحقاد، تنتقل من الآباء إلى الأولاد حتى تفسد
العباد وتخرب البلاد ويلتقي بها أربابها على شفير جهنم يوم المعاد.
(للرحلة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: إن الذين رسموا الصالحين والأنبياء إنما أرادوا التبرك بصورهم وتعظيمها إكرامًا لها، وهذا التعظيم يسمى في كل اللغات عبادة ، وجميع الصور والتماثيل التي كانت عند العرب كانت معظمة للدين؛ ولذلك سمي في القرآن تعظيمها عبادة وكذلك النصارى كانوا يصرحون أن تعظيم الأيقونات ونحوها من الصور عبادة فلما عارض المصلحون في ذلك صار بعض المصرين عليه يسمي تعظيمها إكرامًا وأصر بعضهم على تسميته عبادة، وإن النهي عن التصوير في الإسلام لم يزد على النهي عن تعظيم القبور وتشريفها وبناء المساجد عليها وإيقاد السرج عليها ، وقد فعل المسلمون هذا مع بقاء علته وهم يتركون التصوير وفوائده مع انتفاء علة النهي عنه أفنؤمن بظاهر بعض الدين ونكفر بحقيقة بعض.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(الاشتراك في المنار)
كل من قبل هذا الجزء من المنار يعد مشتركًا إلى سنة كاملة ويجب عليه دفع
قيمة الاشتراك كاملة، وإن رد المجلة في أثناء السنة فمن لم يرض بهذا الشرط
فليرجع إلينا الجزء. ونرجو أن لا يطلب أحد منا الاشتراك بدون القيمة المقررة.
* * *
(الأسطول العثماني)
بشرتنا أنباء الآستانة بأن سيجهز أسطول عثماني مؤلف من السفن الجديدة
التي ابتاعتها الدولة العلية من عهد قريب، ومن السفن القديمة التي أصلحتها في
أوربا حقق الله الآمال.
* * *
(منشور شيخ الإسلام في تفليس)
كتب شيخ الإسلام في تفليس عاصمة بلاد القوقاس الروسية منشورًا ينصح
فيه للمسلمين بالطاعة والإخلاص لدولتهم، وبذل النفس والنفيس في مساعدتها على
حرب دولة اليابان الوثنية، وقد أحسن فيما فعل ، ونوافقه عليه في جملته، وكان
في عزمنا أن ننشر في المنار الماضي نصيحة لمسلمي روسيا بأن يفترضوا الحرب
لإقناع دولتهم بإخلاصهم لها؛ لأن هذا هو الذي ينفعهم، ولا يغتروا ببعض اليهود
والأرمن الشامتين بدولتهم، فالغدر والخيانة يحرمهما الإسلام في كل حال، هذا وإن
النصرانية أقرب إلى الإسلام من الوثنية، وما قلناه من ميل المسلمين إلى اليابان
فسببه سياسي لا ديني.
* * *
(تغاير العلماء في روسيا)
كتب إلينا فيض الرحمن أفندي أحمد القزاني المجاور رسالة ملخصها أن أحد
علماء (خان كرمان) تلقى العلم في الآستانة، ولما رجع إلى وطنه سعى بإنشاء
مدرسة خيرية وكان يعلم فيها حتى وشى عليه بعض المعممين إلى الحكومة بأنه
يستميل التلامذة إلى تركيا بتعليمه على الطريقة التركية فأقفلت الحكومة المدرسة ،
ثم سعى فاستصدر أمرًا بفتحها فعاد أصحاب العمائم إلى الوشاية حتى أقفلوها، ولا
شك أن أولئك السعاة الوشاة هم أكبر بلاء على أمتهم وملتهم، وقد خجلنا من ذكر
صنيعهم مع كثرة ثنائنا على أخلاق مسلمي تلك البلاد، فعسى أن يتوبوا إلى ربهم،
ويثوبوا إلى رشدهم.
* * *
(استعمار مصر ومراكش)
إنكلترا وفرنسا تتباحثان في وسائل الوفاق في المسائل الاستعمارية بينهما،
ومنها: مسألة مصر التي تستعمرها إنكلترا بدون نطق بكلمة حماية أو امتلاك إلا ما
لونت به رسم مصر في خريطة أفريقية، وهو لون بلاد السودان وبلاد الترنسفال
وبلاد الكاب أو رأس الرجاء الصالح، ومسألة مراكش التي تريد فرنسا أن تستعمرها
هذا النوع من الاستعمار، ويوشك أن تتفق الدولتان على أن إحداهما لا تنازع
الأخرى في مسألتها، ولكن ماذا يفعل سلطان مراكش وأمير مصر في هذه الأيام؟
أما أمير هذه البلاد فلا نبحث في أعماله، وأما سلطان مراكش فلم يكتف بما عنده
من آلات اللهو الأوربية، وما اجتلبه من حور الآستانة وولدانها حتى أرسل يطلب
من مصر جوقة من المطربين والمطربات، وشاع هنا أن محمد بن شعرون سافر
بالجوقة، وهي تسعة رهط، وفيها بعض الراقصات المشهورات وتعهد لها بدفع
1500 جنيه في الشهر، وقيل أقل، ومعلوم أن السلطان يقترض المال من فرنسا،
وأن الدين هو أوسع الأبواب لدخول أوربا في البلاد، وإننا ندعو الله تعالى أن
يوفقه وسائر أمراء المسلمين إلى ما فيه الخير الحقيقي للأمة والبلاد كيفما جاء، ومن
أيِّ طريق جاء.
* * *
(مسألة الرتب والأوسمة)
قد وصل الإتجار بالرتب في الآستانة إلى حد التزوير فصار السماسرة
مزورين، وقد حوكم من عهد قريب طاهر بك صاحب جريدة (معلومات) وغيرها
متهمًا بتزويرها، وقد اقتدت مصر بالآستانة فصار المقربون من الأمير ومنهم
بعض أصحاب الصحف يتوسلون إليه بهذه الرتب والأوسمة حتى علم الخاص
والعام أن أكثر من نالها من غير الحكومة قد اشتراها بالمال، وقد انتهى الأمر
بدخول اللورد كرومر في الأمر، وتقرر إلغاء بعض الرتب والأوسمة التي أنعم بها
على المرتكبين والمزورين، وفي ذلك عبرة للمعتبرين.
_________