الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
التربية بسفر البحر
شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
يوم 14 مايو سنة - 186
انتهينا من الطواف بالرأس ، ولكن ما أعظم ما بذلنا في سبيل ذلك من الجهد،
وما أشد ما عانينا من المشاق. فقد كانت الريح تزفزف ثلاثة أيام وثلاث ليال
زفزفة بلغت من الشدة إلى حد أن ساري سفينتنا الأكبر كان فيها يتنوّد تنوّد القصدة
من يبس الحشيش.
لم يكن يؤلمنا على ظهر السفينة سوى أيدي البحارين في ممارسة أعمالهم ،
وما كان أشدني إعجابًا في نفسي بسيرتهم في تلك الساعات التي قضيناها في مكافحة
البحر ومغالبة الخطر، فليست بسالة الملاح من قبيل بسالة الجندي، ولكنها تفضلها
في رأيي لأن الملاح بما له من الجرأة على الموجودات والفواعل الكونية يكافح
الموت مواجهة فلا يحول بينهما إلا سُمك لوح من الخشب ، وليس غرضه من
الكفاح إبادة نظرائه بل هو في مدافعة عن حياته يعمل لتنجيتهم من الهلاك وناهيك
بالبحر عدوًّا أوتي من العدد ما هو أشدها رهبة في العالم بأسره، فإنك ترى السفينة
على وهنها وكونها ليست إلا دولابًا من الخشب تطاردها الريح والبرد والبرق
وجبال من الموج ، فهي في الحقيقة تقاوم قوى كون من الأكوان برمتها.
ولا مشابهة أيضًا بين قدر الملاح وبين ما يفاخر به السفسطي من اجترائه
على معاندة القدر باستدلالاته الدقيقة اجتراءً باردًا خاليًا من العمل ، هيهات فإن قدر
الملاح هو ما يتجلى في عمله من قوة نفسه وهمتها فتراه مع استعانته بربه
لاستمساكه بدينه لا يعتمد بعد ذلك إلا على نفسه أعني على صحة بصره، وضبط
حركاته وقوة أعصابه فإن قهره عدوه سلم إليه ، ولكن هذا لا يكون إلا بعد أن يرى
آخر سلاح له قد تحطم.
تلك البسالة تكتسب بالتعلم، وهذه الثقة بالنفس تسري بالمعاشرة، يدلك على
ذلك أن (أميل) كان في أول عهده بالملاحة شديد الروع فما لبث أن ذهب عنه
روعه بالتأسي برفقائه؛ لأنه كان يرى من العار أن يرتجف فؤاده وتتزلزل قدماه
أمام هؤلاء الأبطال وهم ثابتون في مواطنهم. كانوا يشغلون حينًا بعد حين بإدارة
الممصات (الطلمبات) ومعالجة الحبال ، فلا شيء كالعمل البدني في تقوية القلب ،
فبطالة المسافرين هي التي عند أدنى هيعة تملأ قلوبهم بالمخاوف وأدمغتهم
بالخيالات، وأما الملاح فليس للخوف متسع في وقته.
من مزايا الملاحة أيضًا أن ما فيها من مكافحة الخطر ينمي في قلوب الملاحين
حب الحياة ، فمن ذا الذي كان يحسب أن الانتحار لا يكاد يكون معروفًا بينهم.
الضجر من الحياة من مميزات العصور الحديثة، وهو أخوفها عندي على
الشبان، وأشدها إيلامًا لنفسي؛ فإني أرى الأطفال يولدون غير مبالين بشيء
سائمين من كل شيء خامدي الإحساس ميتي القلوب، فكم من فتاة إذا انكشف لها
وهمها لأول مرة فيما كانت تعتقده واقعًا تمنت لو أنها ماتت قبل انكشافه. وكم من
فتى كسول لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره ولم يعامله الجد إلا معاملة الغلام
العارم يصيح قائلاً: (ما فائدة الحياة) وليس من غرضي هنا أن أبحث عن أسباب
هذه المصيبة الملمة بالنفوس والأخلاق ، وإنما غرضي أن أقول لكل هؤلاء
المتبرمين: (انظروا إلى الملاح؛ تجدوا أنه هو الذي عرف قيمة الحياة لأنه في
كل يوم يذود عنها أخطارًا حقيقية لغاية نافعة وبذلك صار أهلاً لأن يقدرها حق
قدرها) .
من أجل هذه الأسباب كلها أرى أن (أميل) الآن في ولاية معلمين حاذقين.
وأما (لولا) فإنها - والحق يقال - لم تُبدِ من البسالة شيئًا يذكر لأنها لبثت
مختبأة في إحدى زوايا حجرتها فكانت كالنعامة التي يؤكد العارفون بأخلاقها أنها
تتوهم أن غمر رأسها في الظلام منجاة لها من الخطر الملم بها، وذلك ما اضطر
هيلانة إلى أن تكون قدوة لها في الإقدام تسكينًا لروعها ، وكان هذا موجبًا للإعجاب
بها بحق
شجاعة النساء المحمودة
من الخطأ أن يتوهم متوهم أن لا فائدة في الشجاعة للنساء؛ فإنه إن كان يريد
بها الشجاعة الحربية فإني قليل الاعتداد بها في الرجال فأكون أقل اعتدادًا بها في
المرأة المترجلة، ولكن لا يعزب عن ذهنه أنه يوجد من ضروب الأقدار غير واحد
فإن النساء مستهدفات للمخاطر التي نحن عرضة لها ومضطرات لمغالبة ما نغالبه
من حوادث الكون الخارجي ، وقد يوجد من الأحوال ما تتوقف حياتهن فيها بل
وحياة أطفالهن على سكينتهن ورباطه جأشهن ، فقوة العزيمة وثبات الجنان هما من
الأخلاق اللازمة للمرأة لزومهما للرجل.
من المصائب أن تسوء تربية الفتيات إلى حد أن يتوهمن أن تكلف ضروب
الفزع القاتل عند كل مناسبة خصوصًا بحضرة الشبان مما يلفت الأنظار إليهن
فيقول من يراهن في هذه الحالة: إنهن يقصدن أن يظهرن في شكل الحمائم
المروعة، ويجمل أن يوعظن بأن الخوف لا حسن فيه مطلقًا، وأنه يجب عليهن
لأنفسهن إذا أحدق بهن الخطر أن يجتهدن في استشعار الاطمئنان والسكينة إن كن
يردن أن يصرن مثارًا للإعجاب والاستحسان. ولا صحة لما يعتقدنه على ما يظهر
من أن ثبات جنان المرأة يسيء خلقها، بل إني أجد جمالاً وشرفًا فائقين في تلك
الذات إذا كانت مع تجردها من القدرة على المهاجمة بل ومن قوة المدافعة، تقتحم
الخطر بقوة جأش تكافئ قوة الرجل.
أنا أعلم أن من الأوهام السخيفة اعتقاد أن جفاء الطبع من لوازم الشجاعة ،
ولكني أود لو أدري متى شوهد أن الشجاعة الحقيقية غيرت من رقة المرأة ورحمتها
وغير ذلك من فضائلها ، حاشاها من هذا، وأن الجبن والأثرة لهما اللذان يوجبان
قسوة القلب وغلظه.
سل أمًّا جبانًا أن تشهد عملاً جراحيًّا يعمل في جسم ولدها لتسليه وتسري من
ألمه تجبك بأنها شديدة الإحساس كثيرة التأثر، وبئس العذر عذرها ، فما مرادها إلا
الاحتماء من كلفة التسخير. ثم لا يتخيلنَّ أحد أن قوة العزيمة والسلطان على النفس
أو الشجاعة الحقيقية هي من الأخلاق التي لا ينتفع بها إلا في طائفتين من الأعمال
هما الحرب والملاحة، فإني أرى أن منفعتها تتعدى إلى كثير من الأمور الأخرى لأن
الرجل والمرأة مهددان كل يوم في القوم الذين يعيشان بينهم بآلاف من الأعداء
والمعاطب ، ولأن البحر لا يقصد إلا إزهاق أرواحنا وما أكثر ما يعرض لنا من
الأحوال الخطرة التي يقصد فيها نقص أعراضنا والذهاب بحرماتنا. اهـ
***
يوم 20 مايو سنة - 186
تشق سفينتنا (المونيتور) بجلالة خطرها عباب أمواج المحيط الهادي ،
وتتخذ لها فيه سبيلاً ، وقد عادت (لولا) بعد زوال الخطر إلى ما كانت عليه من
الابتهاج والسرور فهي تمرح وتعدو على ظهر السفينة مع ما لها من الحركات
حافظة لتوازنها ، وتبدو قدماها الصغيرتان في خببها من تحت حلتها كأنهما فأرتان.
اهـ
***
يوم 25 مايو سنة -186
رسونا غداة اليوم في جوان فرناندز لضبط مقياس الزمن (الكرونومتر) .
وهذه البقعة مركبة في الحقيقة من ثلاث جزر يتألف منها مجموع متلاصق الأجزاء ،
وتسمى الأولى منها (ماساتيرا) والثانية (ماسافويرا) والثالثة (إسلادولوبوس) ،
وهي صخرة تكاد تكون جرداء أكثر الثلاثة تطوحًا نحو الجنوب ، ويلقبها الملاحون
بجزيرة القيطس (عجل البحر) لأن القياطس تأوي إليها طلبًا للراحة والدفء.
الجزيرتان الأوليان ماستيرا ومسافويرا معشوشبتان شجراوان ، ومع اجتهاد
الحكومة التابعتان لها في تعميرهما لا تزال قفرًا لا يعمرهما إلا المعز الوحشية،
وهي كثيرة فيهما ، ويقال: إنها كانت تزيد عن ذلك لو لم تسلط عليها كلاب وحشية
مثلها تقاتلها وتفترسها. وليت شعري إلى أي حالة تصير هذه الكلاب إذا أبادت
جميع ما هنالك من المعز؟ لابد أن يأكل بعضها بعضًا.
وجزيرة جوان فرناندز تذكر بواقعة عظيمة جرت فيها وهي:
إنه في سنة 1704 رسا الملاح الإنكليزي دامبير على ماستيرا ، فألقى فيها
وكيله على القوارب المدعو إسكندر شالكرك إثر مشاجرة احتدمت بينهما ترك هذا
التعيس في هذه الجزيرة القفر غير مزود إياه إلا بشيء يسير من الغذاء والعدد ،
فعاش هناك أربع سنين وأربعة أشهر من صيده وصناعته ، وفي سنة 1709 اتفق
لاثنين من صيادي الثيران الوحشية أن نزلا بالجزيرة ، فعثرا على ذلك الرجل فرقَّا
لحاله وحملاه معهما إلى أوربا.
وكان شالكيرك قد قيد بعض مذكرات في طريقة عيشته على تلك الجزيرة
البلقع ، فاستعان بها دانيال روفويه فيما بعد على تأليف كتابه العجيب الذي عرفه
الناس جميعًا ، ولشد ما يبديه الآن (أميل) و (لولا) من الاهتمام بمطالعة وقائع
روبنس كروزويه. اهـ
***
يوم 5 يونية سنة - 186
يا بشرى هذه أرض هذه أرض.
بعد أن سافرنا تسعين يومًا دخلنا خليج قلَاّ وهو من أبهى مناظر الدنيا.
وأبصرنا جزيرة لورنز وترتفع حيالنا. أقول: ترتفع وأقل ما في هذا اللفظ أنه
حقيقة في استعماله هنا ، فقد نتج من حساب أحد العلماء أن سواحل سان لورنزو
كسواحل الشاطئ المجاور لها ارتفعت عن سطح البحر خمسًا وثمانين قدمًا إنكليزية
من عهد العصور التي يعرفها التاريخ.
صخور هذه الجزيرة يغمرها آلاف مؤلفة من الطيور، أخص بالذكر منها
طيرًا رأسه أسمر إلى السنجابية ، وبطنه أبيض ناصع ، وذنبه أسود. يقال: إنه
هو الذي يحصل منه أهل الجزيرة على السماد المعروف بالغوانو ، وهو ثروتهم
الكبرى لأن الذهب والفضة كادا ينضبان من معادن بلاد البيرو فهي تتسلى عن
الحرمان منها ببيع القذر ، ولا غرو فالذهب مُذهب ومُفسد والقذر مُوجد ومُخصب.
اهـ
***
يوم 6 يونيه سنة - 186
رسونا في ميناء سيودال دولوس ريس.
أخص ما أدهش (أميل) و (لولا) عند هبوطهما على البر كثرة العقبان
التي تسكن سواحل هذه الجهة ، فإنها تُرى عند كل خطوة في الشوارع، وعلى
سطوح المساكن ، وقد رأينا منها طائفة تبلغ الستين أو الثمانين نائمة وهى جاثمة
على جدار ورءوسها مختبئة تحت أجنحتها. ذلك أنها ليس من خلقها الجفلان ، ولا
تخشى من السكان شيئًا لأنهم يجلونها. هذه الطيور في غاية الشره ، وشرهها نفسه
نعمة من نعم الله على أهل تلك البلاد لأنه يساعد على حفظ الصحة في المدن،
وكان (لأميل) فيما أرى أخطاء غريبة في شأنها، فإنه لما سمع الزراية عليها ممن
درسوا أخلاقها في الكتب كان يتخيلها سلابة تسكن الهواء ، أكالة دنيئة للرمم ، فلم
يمض إلا ساعات قلائل حتى زال الوهم وتبين له خلاف ما كان يتوهمه أنها محتسبة ،
عيَّنها الخالق سبحانه في البلاد الحارة للقيام على تنظيف الطرق العامة ، فهي
تنقيها مما يلقى على الأبواب من القمام واللحوم الفاسدة، ومما يطرح فيها من
الجيف، ويدل ما تبديه هذه الطيور من الاطمئنان إلى الإنسان والثقة به حق الدلالة
على شعورها بنفعها له.
المسافة بين قلاو وليما فرسخان أسبانوليان ، وسنبلغها غدًا. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مدرسة الجمعية الخيريةفي المحلة الكبرى
الاحتفال بافتتاحها والغرض من تعليمها
ذكرنا في الجزء الخامس من هذه السنة خبر الاحتفال بتأسيس هذه المدرسة ،
وقد تم ولله الحمد بناؤها ، وأهلت بالتلامذة ، وانتظمت عقود الدروس فيها ،
واحتفل بافتتاحها رسميًّا أول أمس بحضور رئيس الجمعية الأستاذ الإمام وإبراهيم
بك الهلباوي من أعضاء مجلس إدارتها ، ومنشئ هذه المجلة من أعضاء الجمعية،
وحضور وجهاء المجلة وعمال الحكومة فيها. وبدئ الاحتفال بتلاوة أحد التلامذة
لآيات من الكتاب العزيز، ثم وقف الرئيس فبسمل وحمد الله تعالى وصلى وسلم على
رسوله ، وشكر للحاضرين عنايتهم بحضور الاحتفال الدالة على رغبتهم في نشر
العلم ومساعدة الجمعية الخيرية على عملها، وذكر الغرض من هذا التعليم الابتدائي
فقال ما خلاصته:
المدرسة تعلم المبتدئين القراءة والخط والحساب ومبادئ العربية ، وتربيهم
على الأعمال الدينية والأدبية تعدهم بذلك للعيشة الصالحة في أنفسهم ومع الناس
الذين يعيشون معهم، وهذه المبادئ لا يستغني عنها إنسان فقيرًا كان أو غنيًّا ،
فالفلاح يحتاج إلى مكاتبة بعض الناس، فإذا كتب بيده أو قرأ ما يكتب إليه حسب
ما يبيعه ويشتريه بنفسه فهو خير له من الاستعانة بغيره على ذلك، ولهذا التعليم
فائدة أعلى من الاستعانة على المعيشة، وهى ارتقاء العقل واستعداده لفهم المصلحة
وتمييزها عن المفسدة ، فإننا نرى كثيرًا من الناس يقع التنازع بينهم فيعتدي بعضهم
على بعض حتى تفنى ثروة الفريقين في التنازع، وإذا حاولت إقناعهم بأن هذا
ضار، وأن الخير والصواب في خلافه لا يسهل عليك ذلك لأنهم لا يفهمون. وأهم
ما تقصده الجمعية من التربية في مدارسها تنشئة المتعلمين على الفضائل كالصدق
والأمانة للذين عليهما مدار السعادة، ما نجحت أمة إلا بهما ولا هلكت إلا بفقدهما،
وقد حث الإسلام وجميع الأديان على هذين الخلقين ، ونهى عن الكذب والخيانة أشد
النهي، وإننا مع ذلك نرى الكذب والخيانة فاشيين في الناس إلى حد سلبت معه ثقة
الناس بعضهم ببعض، وفقد الثقة مؤذن بالخراب والدمار. هذا التعليم سلم يرتقي
عنه الغني إلى التعليم العالي، ويجعل الفقير على مقربة من الغني في الفكر والخلق،
فإما أن يجد فيلحقه، وإما أن يحسن الاستفادة منه بخدمته ومساعدته في أعماله
بالصدق والأمانة، فهذا التعليم لا يستغني عنه أحد حتى الحمّار والجمّال.
وتعلم المدرسة أيضًا مبادئ العلوم ولغة أجنبية لإعداد من يريد خدمة
الحكومة لها. وهذا ما لا ترغب فيه الجمعية نفسها، لكنه من حاجة الناس ، وإنما
رغبتها في الاستعانة به على تعلم الصناعة لمن يريدها، ولها الرجاء بهمة وجهاء
المحلة، وأهل الغيرة في أغنيائها في تأسيس قسم صناعي في هذه المدرسة ، فإن
المحلة بلدة كانت معروفة بالصناعة، وقد وعد صاحب السعادة أحمد باشا المنشاوي
بأنه مستعد لمساعدة الجمعية على إنشاء القسم الصناعي، فلم يبق إلا اهتمام الوجهاء
الحاضرين بالاكتتاب في جميع المركز، وجمع المال الذي يُمكن من إتمام العمل.
وقال: قد علمت بأن أهل المحلة الكبرى ثلاثون ألفًا أو يزيدون، وهي قاعدة
مركز عدده كثير ، وليس فيها إلا مدرسة للقبط ، وأخرى للأمريكان ، وإنني قد
رأيت في بعض سياحاتي في البلاد الأجنبية مدينة عدد سكانها ستة عشر ألف نسمة ،
وقد أنشأ الأهالي فيها مدرسة كلية تعلم فيها جميع العلوم العالية بمساعدة أهل
المركز الذي هي قاعدته أنفقوا عليها كذا من ملايين الفرنكات (نسيت العدد) على
أن فيها عدة مدارس ابتدائية، وفي كل قرية من قرى ذلك المركز مدرسة ابتدائية ،
فنرجو أن نبلغ من مجاراة أمثال هؤلاء الأحياء أن ترتقي مدرستنا هذه ويكون فيها
قسم صناعي ، وأن يكون لنا في القاهرة مدرسة كلية فإن القطر المصري كله لم
يبلغ من التقدم في العلم أن كانت فيه مدرسة كلية تعلم فيها العلوم العالية.
ثم دعي كاتب هذه السطور إلى أن يخطب فيهم فلبى وقام فقال - بعد الافتتاح
بذكر الله -: رغبتم إليّ في الكلام، بعدما سمعتم من حِكَم الأستاذ الأمام، وإن مثل
الذي يعرض ما عنده من ذلك في حضرة الأستاذ إذا هو أحسن كمثل ذلك الوزير
العجمي في الآستانة، إذ كانت له منطقة مرصعة بالجواهر يتمنطق بها فوق ثيابه
يتراءى أمام الناس ويفتخر ، فعلم السلطان بذلك فأمر بعض وزرائه ، ويقال إنه
مصطفى فاضل باشا المصري بأن يدعوه إلى داره ، ويريه ما يصغر منطقته في
عينه ، فدعاه إلى العشاء والسمر فرأى من الآنية والماعون والأثاث المرصعة
بالجواهر ما خطف بصره حتى قيل إنه رأى الشباشب (كلمة مصرية مفردها
شبشب وهو الكوث أو القفش في العربية) وسيور القبقاب في المرحاض مرصعة
بالجواهر ، فصار بعد ذلك يخفي منطقته تحت كسائه، ولكننا نقول شيئًا تلبية
للطلب:
جرت العادة بأن يكون الكلام في مقام الاحتفال بافتتاح مدرسة محصورًا في
مدح العلم والتعليم على أن العلم غني عن المدح باتفاق الناس على فضله، فلا يوجد
جاهل ينكر شرف العلم وشدة الحاجة إليه، ولكن الناس في أمتنا كانوا يعتقدون أن
العلم محصور في أمور مخصوصة يكفي أن يقوم بها بعض الناس فيسقط الطلب
عن الآخرين، وكان يصعب إقناع الجمهور بوجوب تعميم العلم، وبأنه يحتاج إليه
في كل شيء ، ولكن قد تغيرت الآن الأحوال في هذه البلاد، وصرنا نرى جميع
طبقات الناس حتى الطهاة (الطابخين) يقذفون أولادهم ذكرانًا وإناثًا في المدارس
لإحساسهم بأن التعليم لابد منه ، ولكن هذا الإحساس عند الأكثرين مبهم لا يعرفون
حقيقته ولا سببه ولا فائدة التعليم الحقيقية.
والسبب الحقيقي فيه التأثر بحال الأجانب الذين انتشروا في هذه البلاد ، فهو
سبب من الخارج لا من النفس ، فهذه البلاد الآن في طور الانقلاب من حال إلى
حال؛ إذ حدثت فيها مجارٍ جديدة للحياة، أو تيارات تجرف في طريقها الناس من
حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، ومنها تيار تعميم التعليم ، فالناس يرغبون
في تعليم أولادهم وهم لا يدرون ماذا يتعلمون، ولا ما هي فائدة التعلم، ولذلك لا
يميزون بين مدرسة وأخرى. وقد سألت بعض المتعلمين التعليم الثاني في المدرسة
الخديوية عن رأي التلامذة في فائدة التعليم مع العلم بأن أعمال الحكومة لا تفي
بجميع المتعلمين ، فقال أنهم يرون أن المتعلم يقدر على أعمال شريفة يستغني بها لا
يقدر عليها غيره. فقلت له: إن الذي يتعلم ليعيش بعلمه لا غرض له إلا نفسه،
فهو محترف كالصانع والزارع، وقد رأينا كثيرًا من العوام حصلوا من الثروة
بالزراعة والتجارة ما لم يقاربهم فيه متعلم كزعزوع بك وفلان وفلان. والذين
ارتقوا بالتعلم في مصر قليلون كفلان وفلان من القضاة وغيرهم ، ولم نجد فيهم من
حصل بعلمه ثروة كبيرة كأولئك العامة ، فالتعليم في مصر لم يرتق إلى درجة يسهل
معها تحصيل الثروة الواسعة ، على أن نفقات المتعلمين تكون أكثر ، فإذا طلبوا
الثروة ولم يجدوها كانوا أشقى من غيرهم في المعيشة. فقال: هذا صحيح. ثم
قلت له: ألا يوجد في إخوانك المتعلمين من يفكر في التوسل بالعلم إلى خدمة أمته
وبلاده خدمة عامة ، فيكون أفضل من النجار والحداد والفلاح الذين لا يعملون إلا
لأجل بطونهم، وإن كان عملهم الجزئي نافعًا للناس؟ فقال: يوجد قليل منهم يفكر
في إنشاء جريدة لخدمة الوطن. قلت: وماذا رأوا من خدمة الجرائد للناس؟ أي
شيء ضار كانت عليه الأمة فتحولت عنه بإرشاد الجرائد ، وأي شيء نافع كانت
منصرفة عنه فتوجهت إليه بحثها وترغيبها؟ وهل تعرف أنت للجريدة الفلانية
والجريدة الفلانية مذهبًا ورأيًا نافعًا تمتاز بالدعوة إليه لترقية البلاد؟ فقال: لا ،
وكان قصارى الحديث معه أنه ليس لأحد غاية مقصودة من التعلم وراء خدمة
الحكومة (أقول: ويلحق بها الطب والمحاماة عند نفر قليل) .
لهذا التعليم الناقص في مصر سيئات ومضار ، فإن الفتن والمعاصي الضارة
التي ألمت بالبلاد بواسطة الأجانب لم تنتشر فيها إلا بسعي هؤلاء المتعلمين، وقد
قال الأستاذ الأمام: إن من مقاصد المدارس إفادة المتعلمين الصدق والأمانة ، فسلوه
وسلوا غيره من العقلاء المختبرين: ألهم ثقة بصدق أكثر المتعلمين وأمانتهم؟
يجيبوك: لا لا. والسبب في عدم إفادة التعليم أمثال هذه الصفات هو أن القائمين
بأمر التعليم لا يقصدون ذلك ، فإن الحكومة إنما تقصد بمدارسها إيجاد خدم لها
يقدرون على أعمال مخصوصة ، وليس لها عناية بتربية الأرواح وترقية الأمة ،
هذا وإن مدارس الحكومة خير المدارس وأرقاها تعليمًا ونظامًا. وأما المدارس
الأهلية فالمقصود منها التجارة والكسب، وأكثر أصحابها لا يعرفون طريق الجمع
بين الإفادة المطلوبة والاستفادة، وقد دخلت مرة إحدى هذه المدارس وسألت أحد
المدرسين عن الكتب التي يقرأها في الدين - والدين كما لا يخفى أساس التهذيب -
فقال: إنني كنت بدأت بقراءة شيء من السيرة النبوية ، وبمناسبة ذكر المعراج
ذكرت لهم فرضية الصلاة، وأردت أن أذكر شيئًا من أحكامها، فرأيت على وجوه
التلامذة ما يدل على عدم الارتياح، فتركت درس الدين ، يعني أن هؤلاء لا يعلمون
إلا ما ترتاح إليه نفوس التلامذة وتتلذذ به ، أي يريدون أن يكون التلامذة هم نظار
المدارس.
ولا نعرف في البلاد مدارس غرضها تهذيب النفوس غير مدارس الجمعية
الخيرية، وذلك أن رئيس هذه الجمعية ومساعديه في إدارتها هم خيرة رجال هذه
البلاد معرفة وغيْرةً، وأقدرهم على إيجاد التعليم النافع والتربية الصحيحة، ولا
تنتج الأمم الضعيفة أمثالهم إلا بعد مخض الزمان لها في قرون طويلة، فيجب أن
تُغتنم فرصة وجودهم بمساعدة الجمعية على نشر التعليم والتربية على الوجه
الصحيح النافع، فإنه ما قصر بها إلا قلة المال. وقد أحسن وجهاء المحلة صنعًا
بتفويض أمر مدرستهم إلى الجمعية ، وإنني أدعو كل واحد من السامعين إلى
مساعدة هذه الجمعية بنفسه، وبدعوة غيره إلى ذلك ، فإن الأمور العامة لا تحيا
وتبلغ كمالها إلا بالدعوة، فينبغي لكل واحد أن يدعو نفسه ، وكل من يظن فيه
الخير إلى مساعدتها على قدر الاستطاعة من غير تفرقة بين غني وفقير ، فإن الله
تعالى يقول: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا} (الطلاق: 7) أي من كان رزقه ضيقًا فلينفق بقدر
حاله. والقليل من الكثير كثير، فلو أن كل واحد من أهالي القطر بذل للجمعية
قرشًا واحدًا في السنة لكان لها من ذلك ملايين تمكنها من تعميم التعليم في القطر.
وليعلم كل من يبذل شيئًا للجمعية ولو قليلاً أنه شريك في الأجر وفي الشرف
لمن بذل الكثير من حيث أن كل واحد بذل ما في وسعه. ومن حيث أن العمل العام
لم يقم ولا يقوم به واحد ، وإنما بالتعاون والمساعدة ، وباذل القليل ركن من أركان
التعاون.
ثم دعي إلى الخطابة إبراهيم بك الهلباوي فقام وذكر ملخص تاريخ هذه
الجمعية، وبَيَّن أنها جمعية عمل لا جمعية قول، وأنه أحس من نفسه بالعجز عن
الخطابة في احتفال مدرسة للجمعية على تمرنه على الخطابة.
قال: إنني دخلت في هذه الجمعية في أول تأسيسها منذ اثنتي عشرة سنة،
ولم أخطب فيها قط، وقد عرضت مناسبات للخطابة فكنت أستأذن مولانا الرئيس
بالتلويح ، ووكيل الجمعية وبعض أعضاء الإدارة بالتصريح ، فكانوا يضعون
أصابعهم على أفواههم إشارة إلى وجوب السكوت، وقد قامت في هذه المدة جمعيات
قولية كثيرة فذهب بها ودرس رسومها القول والخطابة على أنها لم تصادف من
المقاومة ما لقيت الجمعية الخيرية الإسلامية، وذكر أسماء هذه الجمعيات التي كانت
محترمة في أوقات كان فيها ذكر الجمعية الخيرية مخيفًا ومزدرى به، حتى كان
الداعي إلى مساعدتها لا يتوقع إلا الخيبة، وحتى إن بعض الباشوات هدد محصلها
مرة بالضرب بعد أن أهانه بالقول.
وقد ثبت رجالها مع هذه الصعوبات على عملهم ليثبتوا للناس أن الساعي
بالخير مع الصدق والإخلاص لابد أن يظفر بالنجاح إذا هو ثبت وصبر ووكذلك
كان. ونالت هذه الجمعية الثقة في نفوس الناس بعدما تولى رئاستها مولانا الرئيس
الحاضر ، حتى أحس كثير من العقلاء بوجوب كفالتها للمدارس الأهلية التي ينشئها
الأهالي لتربية أولادهم، وكان السابق لذلك وجهاء المنيا فقد أنشأوا مدرسة في بني
مزار وعهدوا بإدارتها إلى الجمعية رجاء بقائها وثباتها والانتفاع بتعليمها، وكذلك
فعلتم يا وجهاء أهل المحلة ، فإنكم طلبتم من الجمعية أن تدير لكم هذه المدرسة التي
أنشأتموها بأموالكم لمثل ذلك الغرض بمحض الإحساس بالثقة بالجمعية.
وبعدما أتم خطابه المفيد خُتم الاحتفال كما بدئ بتلاوة القرآن الكريم ، ولا صحة
لما ذكر في المؤيد أمس من أن بعض المدعوين تصدوا للخطابة فمنعهم مأمور المركز
…
إلخ. فنثني على وجهاء المحلة أطيب الثناء. ونرجو لهم كمال الارتقاء.
(إرجاء وعد)
وعدنا في الجزء الماضي بأن نكتب في هذا الجزء مقالاً في طريق تعلم النابتة
المصرية ، والروح الذي تحيا به الأمم، وقد حال دون ذلك ما عرض من الكلام في
احتفال مدرسة المحلة. وفي خطبتنا فيه شيء من الموضوع الموعود به، وسنعود
إليه في جزء آخر إن شاء الله تعالى.
_________