الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة السابعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} (الحج: 66) أحيانا بتلك الروح التي نفخها في
البلاد العربية، ثم أماتنا بالإعراض عن تلك الهداية السماوية، أحيانا بضع قرون
وأماتنا بضع قرون، فنسأله إتمام وعده المشار إليه في الآية الكريمة بأن يؤيدنا
بروح منه، وينزل علينا السكينة، ونصلي ونسلم على محمد عبده ورسوله رسول
الرحمة، ومعلم الحكمة، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بتأييد دعوته، ونصرة
حزبه.
وبعد ، فقد دخل المنار في العام السابع من حياته، وهو سن التمييز في الحياة
الشخصية، ولعل حياته تكون في هذا الطور خيرًا منها فيما قبله إن شاء الله تعالى،
فإذا كان في طفوليته قد نجا من الماكرين، وانتصر على المعارضين ، وقابل ما
صادفه من الوثبات بكل صبر وثبات. فالرجاء بفضل الله وعنايته أن يجعله في
طور التمييز أحسن هداية ورشدًا، وأقوى ناصرًا، وأكثر مددًا، وما بلغ المسلمون
من الضعف والتخاذل أن لا تعيش لهم صحيفة مفيدة ، وأن حاجتهم إليها لا بد مع
حاجتهم إلى الصحف السياسية، كيف وهم يرون الأمم التي هي دونهم في الاعتصام
بالدين، وفوقهم في الاشتغال بالدنيا، وقد سبقتهم في إنشاء الصحف الدينية. ففي
مصر وبيروت، كثير من هذه الصحف باللغة العربية فما بالك بسائر اللغات،
وهي لغات القوم الأصلية.
بل إن جميع الأمم والشعوب قد سبقوا المسلمين في جميع الأعمال الاجتماعية
التي ملاكها التعاون لا في الصحف الملية فقط.
والتعاون فرض في ديننا مأمور به في كتابنا، ولكن أين نحن من الكتاب
وفرائضه. فيا ليت الذين لا يعاونون العاملين منا للأمة لا يخذلونهم، ولا يعارضونهم
في أعمالهم ومشروعاتهم ، كلا إننا نحن أعداء أنفسنا، وإننا نحن مرض أمتنا،
وإننا نحن آفة نجاحنا، ولو غفل الذين يشكون من الأجانب لشكوا من قومهم، ولو
شعر الذين يشكون من أخوتهم لشكوا من أنفسهم.
أرأيت هذا المنار الذي أنشئ لخدمة الأمة، والدفاع عن الملة. إنه ليطالب
الذين ينكرون فائدته، أو يدعون مضرته بأن يبينوا له وجه الضر ليتقيه، ووجه النفع لينتحيه، وأنه لا يطالب الذين يقولون: إنه نافع، ولا الذين يقولون: إنه أنفع
ما يكتب للمسلمين في هذا العصر بأن يتبرعوا له بمال لتوسيع دائرته، أو لزيادة
مادته، وإنما يرضى منهم أداء حقه، وحقه على جميع قرائه أداء قيمة الاشتراك التي
هي قوام العمل، وأداته التي لا يوجد إلا بها، وحقه على الخواص منهم
الدعوة إليه والترغيب فيه عندما تسنح لهم الفرص، ويخاطبون من يتوسمون فيه
الاستشهاد.
لست أعني بالخواص الأغنياء ولا كبار الموظفين، فإن منهم من يملك
الألوف وعشرات الألوف من الفدادين أو الدنانير، وهو يماطل في دفع قيمة
الاشتراك عدة سنين، وإنما أعني بهم كل من له عقل يتفكر به في مصلحة الأمة،
وقلب يشعر بمعنى الشرف والفضيلة؛ أولئك هم خواص الأمم الذين لم تنجح أمة
إلا بكثرتهم فيها.
لا يكثر في الأمة العقلاء المفكرون إلا بالتعليم العالي، وأَنَّى لنا به، ولم
ترتق هذه البلاد إلى أن يكون فيها، مدرسة كلية، ولا يكثر في الأمة أهل الشمور
بالصرف حتى ترتقي التربية النفسية فيها وأَنَّى لنا بذلك ولم ترتق معارف الناس
إلى أن يفصلوا بين التعليم وبين التربية، فترى كبراءنا وأذكياءنا يخصون بلقب
التربية نفرًا من الناس تلقوا شيئًا من التعليم المصري الناقص، وأعلاهم تربية في
عرفهم مَنْ دخل في مدارس أوربا، وإن كان أكثرهم كما يعرف العارفون في
أخلاقهم وأعمالهم لا سيما الذين تعلموا في فرنسا منهم.
إن ارتقاء الفكر والشعور لا يعرف إلا بأثره في العمل للأمة؛ فإذا قلنا: إن
خواص الأمة هم العاملون لها المخلصون في خدمتها، الذين لا يشترون مصلحتهم
بمصلحتها فكم رجلا نُعد من هؤلاء فينا؟ هل نُعد منهم من يَرَى منتهى الشرف أن
يشتري رتبة يتزيا بحلتها، وأوسمة يتزين بحليتها؟
هل نعد منهم سماسرة الرتب والأوسمة الذين يأخذون عليها الأجور من أهل
الدثور، ثم يطرونهم بالأماديح قائلين: إنهم ما وصلوا إلى هذه الحلي والحلل، إلا
بإخلاصهم للبلاد ولسيد البلاد وممثل الأمة؟
هل نعد منهم الذين يقولون ويكتبون ما يراه غيرهم حسنًا، وإن رأوه قبيحًا،
ويدعون إلى ما يشعر غيرهم بفائدته أو لذته، وإن كانوا يشعرون بغائلته ومرارته؟
هؤلاء هم الذين ورد في أمثالهم {لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف:
179) وإنما يعقلون بقلوب من ينتفعون منهم {وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الأعراف: 179) وإنما يسمعون بآذان من باعوهم حواسهم ومشاعرهم، كما باعوهم
قلوبهم وأفكارهم {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ} (الأعراف: 179) لأنهم
خرجوا عن قانون فطرتهم بما أوتوه من الدهاء والأنعام لم تخرج عن الفطرة؛ ولأن
في الأنعام منافع للناس وهم ضارون للناس {أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف:
179) عما يحل بأمتهم وينزل بها من المصائب بإفسادهم لأخلاقها، ومحوهم لوجدان
الفضيلة والشرف الحقيقي منها، ويا حسرة على أمة تعد هؤلاء من خواصها ومن
مرشديها.
الخواص: هم أصحاب الأخلاق والعزائم، وهم الذين ينهضون بالأمم في كل
عمل نافع، فاللهم أكثر عددهم فينا، ووفقنا اللهم جميعًا للإحسان في العمل،
والتعاون على البر والتقوى والإخلاص لك في السر والنجوى، عسى أن نكون من
المفلحين.
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كلمة ثانية في أهل الذمة
هذه المقالة منقولة عن الجزء الثالث من تاريخ (أشهر مشاهير الإسلام) لرفيق
بك العظم، وهو تحت الطبع، وله كلمة أخرى في حسن معاملة الإسلام لأهل الذمة
في الجزء الثاني من الكتاب، وقد أورد هذه الكلمة بمناسبة كتاب من عمر بن
الخطاب إلى عمرو بن العاص يوصيه فيه بأهل العهد والذمة، ويذكره بوصية النبي
بهم عامة، وبالقبط خاصة، ومن ذلك حديث (من ظلم معاهدًا، أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة) .
هذا الكتاب يمثل لنا سيرة عمر بن الخطاب مع أهل الذمة، ويبين شدته على
العمال في منعهم عن إيذاء أهل الكتاب؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم
وعملاً بأمره، ومن تكون هذه سيرته مع أهل الذمة، أفيعقل أن يريد بهم أذى بقول
أو فعل؟ كلا، إن العقل والبديهة يرفضان نسبة أي قول أو فعل إليه يَشْتَمُّ منه
ولو رائحة الجفاء، فضلاً عن امتهان الذمي أو ظلمه.
وإذ علم هذا فالذي يدعو إلى العجب هو غفلة نقلة الأخبار، ورواتها عن
مقاصد عمر رضي الله عنه التي هي مقاصد الشرع الإسلامي الذي جاء للتأليف
بين القلوب وعدم استحيائهم، وعدم جمع المتناقضات من الأخبار، ونقلهم
الموضوعات منها بلا تمحيص لصحيحها من كاذبها، وبدون ترو في النافع والضار
منها.
كتبنا في الجزء الثاني فصلاً عن أهل الذمة نقلنا فيه رواية لابن الجوزي في أن
عمر تقدم إلى أحد عماله بختم رقاب أهل الذمة بالرصاص [1] ، وأبنا ثمة وجه
الضعف في هذا الخبر، وعجبنا من مثل ابن الجوزي كيف ينقل مثل ذلك الخبر، مع
أنه ليس في الدرجة التي تؤلم النفس؛ إذ لو صح لحمل على قصد سياسي أو إداري
على تعبير المتأخرين يراد به ضبط إحصاء أهل الجزية من الذميين لا امتهانهم
اقتداء بالدول الفاتحة قبل الإسلام، كالرومان والفرس الذين ثبت أنهم كانوا يضربون
على الرعية الجزية، وربما كانت هذه العادة متبعة عندهم في إحصاء أهل الجزية،
وقد زاد عجبنا أضعافًا الآن؛ إذ رأينا هذا الخبر في الخطط نقله صاحبها المقريزي
عن ابن عبد الحكم بزيادة أحر بها أن تكون محض افتراء على عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وإذ قلنا بوهن الرواية الأولى في جانب العقل، وهي لأحد حفاظ
الحديث فما أحرانا بتكذيب الرواية الثانية. وإليكها بنصها مع الزيادة التي أوردها
المقريزي قال:
كان عمرو بن العاص يبعث إلى عمر بالجزية بعد حبس ما كان يحتاج إليه،
وكانت فريضة مصر لحفر خلجها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها، وقطع
جزائرها مائة ألف وعشرين ألفًا (أي: من العمال) معهم الطور، والمساحي والأداة
يعتقبون ذلك لا يدعون ذلك صيفًا ولا شتًاء.
ثم كتب إليه عمر أن تختم في رقاب أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا
مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، ويركبوا على الأكف - جمع أكاف وهو البردعة -
عرضًا، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي، ولا يضربوا على
النساء، ولا على الولدان ولا يتشبهوا بالمسلمين.
فانظر أيها العاقل إلى هذا الكتاب، وقابله بكتاب عمر الذي يوصي فيه عمرو
بن العاص بأهل الذمة، هل تجد بينهما التئامًا بالوجهة؟ أم بينهما من البون البعيد ما
بين الحق والباطل، وقد أوضحنا في الجزء الثاني ضعف أمثال هذه الأخبار بما فيه
الكفاية، وإنما عدنا إليها الآن لأمر ظهر لنا بعد البحث والروية، وهو: أن واضعي
هذه الأخبار إنما ألجأهم لوضعها أمران:
الأمر الأول: أن الشئون الإدارية - وأهمها دواوين الخراج - كانت تناط في
أكثر الأوقات بأهل الذمة، بل استمرت تكتب بلغتهم أيضًا إلى عهد عبد الملك بن
مروان فكانوا يستطليون أحيانًا على رجال الدولة، وأهل المكانة وربما تحرج منهم
أحيانًا بعض الفقهاء، فوضعوا لهم أمثال تلك الأخبار تنقيصًا، لهم وحطًّا من
مكانتهم عند الخلفاء والملوك، وإبعادًا لهم عن مناصب الدولة، وإنما ألجأهم إلى نسبة
هذه الأخبار إلى عمر كونه كان رضي الله عنه قدوة فيما لم يرد بخصوصه شيء
في الشرع.
وهذا بلا ريب يعد من أولئك الوضاعين تناهيًا في ضعف الرأي، لا سيما إذا
علموا بأحوال أهل التقى والعدل من الخلفاء، ومعاملتهم الجميلة لأهل الذمة كعمر ابن
عبد العزيز، ومن حذا في ذلك حذوه من الخلفاء، وبالأخص الخلفاء من بني
العباس الذين كان أكثرهم متفقهًا في الدين، واقفًا على أخبار السلف كالمنصور
والمهدي والرشيد والمأمون وأمثالهم ممن أتى بعدهم؛ فكانوا يوسدون كثيرًا من شؤون
الدولة إلى أهل الذمة، ويقربونهم منهم لا سيما الأطباء والكتاب؛ بلا أدنى
تحرج في الدين، وأي حرج في الدين يمنع من محاسنة الذميين، وعدم إيذائهم
بمثل ذلك الامتهان المشين من كلام الوضاعين، ومن وقف على أخبار
ماسويه، وحنين بن إسحق وأضرابهما مع المأمون والمتوكل يعلم هذا. وكذلك كان
حالهم مع خلفاء الفاطميين في مصر؛ فكان القبط أرباب الكلمة العليا عند
الخلفاء، وكانوا - كما نقل المقريزي - يتولون دواوين الخراج، ويركبون البغال
الفارهة، ويتصرفون بأموال الدولة، بل بلغ بالخلفاء أن كانوا يعطون ألقاب التشريف
الخاصة بالعلماء والملوك - وهي الألقاب المضافة إلى الدين - للأطباء والكتبة من
النصارى واليهود وما نذكره من هؤلاء الشيخ موفق الدين ابن البورى الكاتب
النصراني، والحكيم موفق الدين بن المطران، وغيرهما ممن لم تحضرني أسماؤهم
الآن.
هذا هو السبب الأول ، وأما السبب الثاني لوضع تلك الأخبار فمنشؤه نزوع
بعض الأمراء إلى إجهاد الرعية من مسلمين وذميين بالضرائب، ونكث عهود هؤلاء
القديمة، ولما لم يروا في الشريعة مخرجًا لهم يتوصلون به إلى الاستبداد بالرعية،
وتحميل الذمي فوق ما حدده الشرع من الخراج والجزية كما حملوا المسلم - لا سيما
والأخبار النبوية آمرة بالوفاء معهم بالعهد، والمحافظة على ما لهم من حقوق الذمة
والجوار- وأنهم أهل ذمة الله وذمة رسوله - مهدوا لأغراضهم السبيل بالإيعاز إلى
بعض مقربيهم بوضع مثل ذلك الخبر مقدمة لاستباحة امتهانهم، ثم إجهادهم
بالضرائب يدلك عليه ما حدث في عهد المروانيين من الاجتراء على استزادة الخراج
والجزية في مصر وغيرها من غير حقها، كما ستراه مبسوطًا في محله إن شاء الله.
على أن سيرة الصحابة، ورجال الفتح في الصدر الأول مع أهل الذمة وحدها
كافية لدحض أمثال تلك الأقوال الواهية، حتى إنهم افتتحوا بحسن السيرة وجميل
المجاورة والمعاملة ما لا يقوى عليه الحسام، ويخرج عن طوق عددهم القليل بالنسبة
لبقية الأقوام [2] ، وحسبك من أدبهم مع أهل الذمة من الكتابيين أن ما روي عنهم من
أخبار الحروب مع الروم لم يستعملوا فيه لفظ الكافرين والمشركين ألبتة مع أنهم كانوا
يعبرون عن مجوس الفرس ووثنيي العرب - قبل الإسلام - بالمشركين، ويقولون
عن أولئك: الروم والقبط - مثلاً كانهزام الروم، وقاتل القبط ونحوه - يؤيد هذا كتب
التاريخ التي نقلت إلينا أخبار الفتح بالرواية كالطبري وأشباهه، ولو فرض وجود
شيء من تلك الألفاظ فيها فإنه نزر يسير، وهو من حشو النساخ، وأما كتب
المتأخرين أو المقلدين فإن أصحابها لم يراعوا فيها ما راعاه السلف من الأدب،
وحسن الأداء؛ لما وقر في نفوسهم من التعصب الذي حدث في القرون الوسطى، ولم
يكن له أثر في النفوس في صدر الإسلام؛ لعلم أهل ذلك الصدر أن الإسلام جاء
للتأليف والوئام، لا للتفريق بين الأقوام، وأن اختلاف الأديان لا يوجب الفرقة
والخصام لقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) ولأن القرآن نطق
بأن أهل الكتاب أقرب مودة للمؤمنين، وذلك في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم
مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة: 82) ولهذا سر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بانتصارهم على مجوس الفرس كما ذكرنا ذلك في الجزء الثاني في حكاية هرقل
مع الفرس، وهي القصة التي جاءت في قوله تعالى:{الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} (الروم
: 1-2) الآية، فلتراجع في محلها.
هذا ما أردنا بسطه ليكون فيه ذكرى للذاكرين، وإنما أطلنا الكلام في هذا الباب
إظهارًا لبراءة عمر رضي الله عنه مما عزي إليه، وتنبيها لأوُلي النُهى من
المسلمين إلى أن دينهم يأمر بمحاسنة الذميين، وينهى عن مخاشنة الكتابيين، وأن
مرض التعصب الذميم إنما طرأت أعراضه على الأمة تدريجًا سيما على عقب
الحروب الصليبية، وإن من آثار ذلك التعصب القبيح ما يلاقيه المسلمون لهذا العهد
من ضروب الإهانة، والعسف من الدول المسيحية التي حكمت بعض الممالك
الإسلامية، ولم تراع في حكم المسلمين حقوق الإنسانية ولا الدين بحجة الانتقام
للمسيحية.
والمسيحية والإسلام يبرآن إلى الله من ظلم البشر بعضهم لبعض ،
ولكن ما الحيلة والإنسان مهما ترقت مداركه، وسمى عقله فإنه لا يزال يتقاصر
دون الوصول إلى مرتبة العلم الكامل الذي يجعل البشر كلهم بالإضافة إلى وجوب
التعاون والاجتماع سواء، وإن اختلفوا في المذاهب والأهواء؛ إذ كل امرئ مسؤول
عن اعتقاده عند الله. وإنه سبحانه يبين آياته للناس ، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل
فعليها، ولكن إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. اهـ
_________
(1)
المراد بختم رقاب أهل الذمة بالرصاص هو: حمل طوق فيه علامة من الرصاص كما في بعض التواريخ.
(2)
قد كان المسلمون كلهم كعمر من حيث العمل بمراعاة أهل الذمة ، ولزوم تجنب إيذائهم بالقول أو الفعل خصوصًا عماله يدلك عليه ما ذكره في سراج الملوك في حكاية طويلة لا محل لذكرها هنا،وخلاصتها أن عمير بن سعد عامل عمر على حمص وفد عليه مرة فسأله عن أشياء ، ثم قال له: عد إلى عملك. فقال عمير: أنشدك الله ألا تردني إلى عملي فإني لم أسلم منه حتى قلت لذمي: أخزاك الله، ولقد خشيت أن يخصمني له محمد صلى الله عليه وسلم ولقد سمعته يقول:(أنا حجيج المظلوم فمن حاججته حججته) ولكن ائذن لي إلى أهلي. فأذن له فأتى أهله
…
إلى آخر الحكاية فإذا كان مثل عمير بن سعد يستعفي من عمله لكلمة قالها لذمي وخاف أن يخصمه رسول الله عليها لأنه قال: (من ظلم ذميًّا فأنا خصمه يوم القيامة) فهل يسوغ العقل أن يؤذي عمر وعماله الذميين بمثل جز النواصي والركوب على الأكف ونحو ذلك من أنواع الإيذاء الذي لا شيء بالنسبة إليه قول عمير للذمي: أخزاك الله. فاللهم إنا نبرأ إليك مما كتبه الوضاعون، وأخذ به الفقهاء على غير روية ولا تحكيم للعقل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
شبهات النصارى وحجج المسلمين
سوريا والإسلام
سوريا في حاجة شديدة إلى اتفاق عناصرها لا سيما المسلمون والنصارى ، فإذا
لم يتفقوا فلا عمران في سوريا ولا حياة. المسلم في سوريا محتاج إلى مسالمة
النصراني ، وربما كان هذا أحوج منه إلى هذه المسالمة، النصارى في سوريا
أجدر من المسلمين بالسعي في الوفاق والمسالمة؛ لأنهم سبقوهم إلى العلم، فكان يجب
أن يسبقوهم بإحساس حاجة بعضهم إلى بعض، ولأن الحاجة إذا لم تكن متساوية
في الفريقين فالأضعف يكون هو الأحوج كما أشرنا إليه آنفًا، وهذا ما آنسته من
أكثر فضلاء النصارى الذين ذاكرتهم في المسائل الاجتماعية.
نرى عقلاء المسلمين وطلاب الإصلاح فيهم يكتبون في صحفهم ومؤلفاتهم ما
يقنع المسلمين بأن دينهم يرشدهم إلى محاسنة أهل الكتاب ومسالمتهم ، ويفرض
عليهم مساواتهم في الحقوق ، ويحرم عليهم إيذاءهم ، ويخص النصارى بأنهم أقرب
مودة إلى المسلمين من غيرهم ، وبأن مصلحة البلاد تقضي مع ذلك باتفاقهم في
الأعمال الدنيوية، وتعاونهم في الكسب إلى غير ذلك من الإرشاد ، وبينا نحن نطبع
تاريخ رفيق بك العظم - وفيه ما رأيت (في النبذة السابقة) من الكلام الحسن في أهل
الذمة - إذا نحن بجريدة (المناظر) ترد علينا بمقالات غريبة عن موضوعها عنوانها
(سوريا والإسلام) ينفث فيها صاحبها من سموم التعصب الأعمى، والقدح في
الإسلام والمسلمين ما يحول دون التأليف والتوفيق ، ويدفع في صدور طالبي
الإصلاح فيردهم على أعقابهم.
قلنا: إن هذه المقالات غريبة عن موضوع (المناظر) فإن هذه الجريدة قد
سبقت جميع الجرائد العربية في العناية بالدعوة إلى الوطنية الصحيحة النافعة ،
وترك التعصب الذميم الذي يلقي الشقاق بين أهل البلاد حتى يحل بها الدمار وتكون
طعمة للأغيار، وقد عجبنا من قبوله لهذه المقالات التي تخالف خطته الحسنة.
ما راعى الكاتب المصلحة ، ولا صدق التاريخ، ولكنه اقتبس جذوة من جذى
دعاة الحروب الصليبية فألقاها في الأمة التي صوَّح التعصب نجمها وشجرها
فصيره هشيمًا ، وناهيك بما تفعل النار بالهشيم.
* * *
(1)
كلمة جديدة
جاء الكاتب بملخص من سيرة الإسلام وسريرته في (كلمة جديدة) له لا
يعرفها الإسلام ولا المسلمون. لا يعرفها القرآن ولا السنة الصحيحة. لا يعرفها
التاريخ ولا الفقه الإسلامي ، ولكن يوشك أن يكون عرفها أو ادعاها أو مثلها بطرس
الراهب، أو أعضاء محكمة التفتيش، أو قسوس أسبانيا في القرن السادس عشر ، وقد
أنصف الكاتب إذ اعترف بأن كلمته في الإسلام جديدة!
نعم إنها جديدة لم يقل بها قبله أحد فيما نعرف ، ولو أردنا أن نبرئ الإسلام
مما رماه به الكاتب - وهو بريء منه - ونبرئ التاريخ مما أسنده إليه بغير رضاه ولا
معرفته؛ لما بقي من تلك المقالات الطويلة إلا رأي الكاتب. فملخص
تلك المقالات أن الكاتب يرى أو يحب أن يرى قومه أن الإسلام في طبيعته ،
والمسلمين خاصتهم وعامتهم منابع للتعصب كذلك كانوا في ماضيهم ، وكذلك هم في
حاضرهم ، وكذلك يكونون في مستقبلهم فلا يطمعن المسيحيون في وفاقهم والاتحاد
معهم على ترقية سوريا أو غيرها ولكن ماذا يعملون بالمسلمين؟
للكاتب أن يرى ولغيره أن يقبل أو يرفض ، ونحن لا يهمنا إلا أن نبين
الحق وندعوا إلى الخير والوفاق ما استطعنا، ولا نسمح بكثير من صحائف المنار للرد
عليه، بل نكتفي بالإشارة فنقول:
* * *
(2)
لماذا ظهر الدين الإسلامي؟
مهد لجواب هذا السؤال تمهيدًا من التاريخ خالف فيه مؤرخي الأمم كلها
صور بتمهيده الأمم التي أظلها الإسلام بجناحيه في أول ظهوره بصور بهية سنيعة
انتهت إليها الحضارة والمدنية في سوريا ومصر، ولكن جميع المؤرخين يصورونها
بصورة شنيعة قبيحة ، لا سنيعة ولا مليحة ، ويقول المتعصبون منهم على الإسلام:
إنه لولا ذلك الفساد في الأخلاق والعقائد والأعمال ، ولولا ذلك الاستبداد في الأحكام
والاستعباد للأقوام ، ولولا تلاشي العلم والمدنية في مصر وفارس والشام لما
نجحت في هذه الممالك دعوة الإسلام ، ولما تيسر لتلك الأمة الأمية أن تسود في
بضع سنين على جميع أمم القوة والمدنية.
ونحن نقول لهؤلاء: نعم إن الإسلام لم ينتصر إلا لأنه الحق قذف به على
الأباطيل، ونور الهدى المشرق في ظلمات الأضاليل.
ونقول لكاتبنا ومؤرخنا الجديد: إذا كان المسلمون على بداوتهم وبعدهم عن
العلوم والمعارف والحق والعدالة (بزعمك) قد انتصروا (على التمدن الفينيقي
ينشئ المستعمرات على الشطوط الأفريقية، والتمدن المصري يفغر فاه ليبتلع
سورية) واصطادوا (النسر الروماني يظلل بجناحيه القارة الأوربية والقسم الأعظم
من الأسيوية) فلا شك أن انتصارهم هذا أعجوبة سماوية قد حدثت بمحض
العناية الإلهية، ويقول الكاتب: إن انتشار النصرانية في بلاد العرب كان السبب
الوحيد لتغير حالة البدو وطلبهم المحافظة على حريتهم واستقلالهم ، فالإسلام لم
يظهر إلا بسبب المبادئ النصرانية.
ونقول له: إن حوادث الزمان التي أعدت العرب لظهور دين المدنية
والعلم فيها - على أميتها - كثيرة ، فإذا كان منها خوفهم من النصارى المعتدين على
استقلالهم كما قال؛ فلا يصح أن تجعل النصرانية هي السبب الوحيد لظهور
الإسلام ، ولا يقول ذلك إلا الغالي في التعصب والتحمس الديني، وإن للحرية نشوة
كنشوة الخمر، وطغيانًا كطغيان الغنى ، وإنها لأعظم ثروة وأكبر لذة. فللمتمتع بها
أن يقول ويكتب ما يلذ له ويطيب.
* * *
(3)
النبي العربي
ذكر الكاتب ههنا ملخصًا لتاريخ النبي عليه الصلاة والسلام فقال: إنه (ولد
بين سنة 570 و578 للمسيح) والصواب أنه ولد في نيسان (أبريل) سنة 571.
وقال: إن أباه مات بعد ولادته بشهر. والصواب أنه مات قبل ولادته. وقال: إن
عمه أبا طالب سافر به وهو ابن اثنتي عشرة سنة. والصواب أنه كان ابن تسع
سنين. وقال: إنه بعد ذلك كان يسافر إلى الشام من وقت الى آخر. والصواب أنه
ما سافر بعد ذلك إلا مرة واحدة مع ميسرة غلام خديجة. وقال: إنه تزوج خديجة (سنة 595) حين بلغ العشرين. والصواب أنه تزوج بها وله خمس وعشرون سنة
وشهران وأيامًا قيل: عشرة ، وقيل: خمسة عشر. وكل هذه الأغلاط في سطور
لا تُكَوّن صفحة واحدة من المنار. ومن الاختصار الذي أشرنا إليه أن لا نستقصي
أمثال هذه الأغلاط التاريخية ، وإنما نعنى بالآراء والنتائج الجوهرية ، ومنها في
هذه النبذة إشارة الكاتب إلى أن ما جاء في القرآن من الكلام في المسيح، وإثبات أن
مريم ولدت بشرًا لا إلهًا قد أخذه النبي من النساطرة إذ عرج به عمه على ديرهم في
سفره به إلى الشام ، وقد علم القارئ أنه كان يومئذ في التاسعة من عمره ، فلا
عجب عند كاتبنا أن يحفظ ابن تسع بعض كلام الرهبان، ويسره في نفسه زيادة عن
ثلاثين سنة لا ينطق به في صباه ولا في شبابه، ثم يبني عليه دينًا عظيمًا!! إن
هذا الاستدلال يشبه ما قاله بعض الظرفاء من كتاب المحاكم في قصيدة نظمها شاعر
بليغ: إنه سرق قصيدته مني؛ لأنه جاء فيها:
سليل بني الزهرا ولله نسخة
…
لقد قوبلت بالأصل في اللفظ والفحوى
قال: فإننا نكتب على ما نبيضه من الصحف أنه قوبل بالأصل! ! . أو يشبه قول
بعض ملاحدة أوربا: إن مواعظ الإنجيل الحسنة مأخوذة من حكم كونفشيوس
الصيني، وبعض فلاسفة اليونان، وأورد أمثلة في ذلك منها: الأمر بأن يعامل
المرء الناس بما يحب أن يعاملوه به ، فإنها مأثورة عن كونفشيوس ، ومن الخطأ
العظيم قول الكاتب: إن الإسلام ثبت في البادية بالسيف ، وإن النبي أجبر اليهود
والنصارى على الإسلام. كيف والله تعالى يقول فيه: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) ويقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) وأما الحرب فقد
كانت بعد قوة الإسلام وانتشاره بالدعوة لمدافعة المعتدين على أهله، والمهددين
لدعوته ، وسنبين هذا بمقال مسهب في فرصة أخرى.
* * *
(4)
أمؤسس شريعة أم مؤسس مملكة؟
قال الكاتب في جملته الرابعة التي رأيت عنوانها: (لقد صور لنا التاريخ
محمدًا نبيًّا ومؤسس شريعة؛ أما العقل فيصوره سلطانًا ومؤسس مملكة؛ لأنه لا يرى
فيه غير صورة مؤسسي الدول والممالك ، وليس صورة بوذه وكونفشيوس والمسيح، التاريخ يرى وضع الإسلامية لأجل هداية قبائل العرب وردهم عن الوثنية، أما
العقل فسيرى أنه أبقاها على ما كانت عليه في زمن الجاهلية) نعوذ بالله من مكابرة
الحس.
ثم استدل على أن الإسلامية ليست بملة جديدة ولا شريعة وبأن العقل - أي:
عقله وحده - يحكم بأن التاريخ كاذب ، وبأن محمدًا أخذ التوحيد عن النساطرة ،
وأضاف إليه كثيرًا من التقاليد والعوائد النصرانية واليهودية! وقال: إنه إذا تجرد
عن كل غاية - أي: إلا غاية التعصب الذي يعمي ويصم - فإنه يحكم بأن تصوير
العقل - أي: عقله - هو الحقيقي دون تصوير التاريخ. ولخص الإسلام كله
بالتوحيد. وقال: إنه عن النساطرة ، وكذلك إنكار ألوهية المسيح ، وتعيين أوقات
الصلوات الخمس! ! وبالختان والغسل قبل الصلاة ، وقال: إنهما عن اليهود ،
وبتعدد الزوجات وقال: إنه عن العرب! ! أي: فلم يبق في الإسلام شيء من
الإسلام! ! يا أرض اشهدي ، ويا سماء شاهدي هذا الكاتب البريء من كل غاية
الذي يعيب التعصب على المسلمين، فيسمي الضياء ظلامًا، والنهار ليلاً لأن الشمس
طلعت عليهم فغمرهم ضياؤها.
ثم قال: ولو أن غاية محمد دينية فقط - لو أنها سامية كغايات جميع مؤسسي
الأديان لوضع التعاليم التي قام يبثها ويبشر بها بالسيف على أسس الإخاء والحب
والحرية والمساواة ، ولما كان عوَّل قبل وفاته على الزحف إلى سوريا. ثم زعم أن
الغاية سياسية ، وهي حب الرئاسة والسلطة ، وتفيهق في ذلك بما أملاه عليه
إحساس التساهل والبراءة من كل غاية! !
أظن أن الذين يكتبون الينا دائمًا بوجوب استقصاء شبهات النصارى المصوبة
إلى الإسلام من كل صوب لا يسمحون لي بأن أبين خطأ كل كلمة من هذا الكلام؛
لأنه ليس من قبيل الشبهات وإنما هو على حد: الشمس مظلمة ، والسماء تحتنا ،
والأرض فوقنا. لكنني أستأذنهم بأن أسأل الكاتب المنصف: لماذا لم يذكر في
مؤسسي الشرائع موسى مع أن شريعته هي شريعة المسيح الذي يعبده ، وفيها: قال
المسيح كما تروى أناجيله: (ما جئت لأنقض الناموس) وهذا الناموس هو بعينه
الذي يأمر بإفناء جميع الذكور من المحاربين ، واغتنام النساء والأولاد من أهل
المدن البعيدة ، ويأمر بإبادة الشعوب القريبة كبارًا وصغارًا رجالاً ونساءً كما في
سفر تثنية الاشتراع من توراتهم (20: 10 - 16) فهل ينكر التوراة وموسى
لأجل الطعن بمحمد؟ وإذا هو فعل هذا فمن أين يأتي بشبهة على ألوهية المسيح أو
على نبوته ، والعقل الذي يحكمه لا يتصور أن يكون بشرًا إلهًا خالقًا لمن كانوا قبل
ولادته ولمن يكونون بعد موته! ! فحجته إنما تقوم على صحة دين بوذه فقط.
إن مسألة الطعن في الإسلام لمشروعية الجهاد فيه مسألة سياسية ، وقد بينا في
المنار غير مرة أن الجهاد في الإسلام ما شرع إلا للمدافعة عن الحق وأهله وتأمين
الدعوة وحرية الاعتقاد. وقد نشرت جريدة المناظر الغراء في ذلك ما كتبه إمامنا
الحكيم في مقالات (الإسلام والنصرانية) ولكن شره الكاتب على الطعن في الإسلام
ينسيه ما يقرأ ، أو يحمله على رفضه والاكتفاء بما يصوره له تعصبه فقط. ولولا
السياسة لما أكثروا من ذم الإسلام بالجهاد ، وكتابهم التوراة يحكم بما تقدم آنفًا،
وتؤيد ذلك أناجيلهم بروايتها عن المسيح أنه قال: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا
على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا) (متى 10-34) وقال: (أما أعدائي
الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) (لوقا 19-
27) وهو صريح في أن المسيح طالب ملك ، وأنه يبيح دم من لا يقبلون ملكه
عليهم ، ثم إن تاريخهم ملطخ بالدماء لأجل الإكراه على الدين. وآية الجهاد في
القرآن هي: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (الحج: 39) إلخ ، ولعلنا نفي
بوعدنا بتفصيل القول في تخطئة قول الذين يدعون أن الإسلام قام بالسيف ، وأن
الجهاد فيه مطلوب لذاته.
ثم انتقل من الاستدلال بالوهم والتخيل إلى الاستدلال بشيء له أصل في
التاريخ ، ولكنه لا يدل على ما استدل به عليه. استدل على كون غاية محمد صلى
الله عليه وسلم سياسية بتنازع الصحابة على الخلافة ، ويصح لنا أن نحتج بهذا على
نقيض زعمه ، وهو أنه لو كان الغرض من الإسلام تأسيس الملك لوضع المؤسس
قاعدة للحكومة ، وجعل الملك في أسباطه وأبنائهم ، ولكنه فوض ذلك إلى الأمة بعد
بيان الأصول التي لا يضل متبعها ما اتبعها كقاعدة (الشورى) ومنع الخروج على
الأمير.
ولو أوصى بالملك لذريته لما نازعهم أحد. وأمر الملك دنيوي مبني على
القوة والعصبية. ولما اتسعت فتوحات الإسلام ، ودخل الناس في الدين أفواجًا أمكن
لمثل معاوية أن يتخذ لنفسه عصبية في الشام ، ورأى أنه أهل لهذه السلطة فتصدى
لها ، وكان من الواجب على أمير المؤمنين أن يقاومه ويحاربه عند عدم الخضوع؛
لئلا تتفرق الكلمة ، فهل يقول عاقل بأن طمع معاوية في السلطة والملك يكون دليلاً
على أن محمدًا عليه الصلاة والسلام كان طالب ملك ، وهو الذي كان يعيش
عيشة المساكين ، ويفيض بجميع ما يملك على الناس ، ويقيد من نفسه (أي: يمكن
الناس من القصاص منه) ولا ينتقم لها إلخ إلخ؟ ؟
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تأييد علماء الآفاق للفتوى
بحل طعام الكتابي ولباسه
نشرنا في الجزء الرابع والعشرين من السنة الماضية مقالين في ذلك لعالمين
من علماء المغرب الأدنى (تونس) ، والمغرب الأقصى (مراكش) ، وذكرنا في مقدمتها أننا رأينا في الجرائد الهندية مقالات في الموضوع، وعلمنا أن بعض القراء يودون لو يعرب شيء منها للمنار، ولكننا نعتذر لهم بأن الأكثرين قد اكتفوا بما كتبناه في المسألة وأهل المشرق الهند وغيرها كأهل المغرب مقتنعون بما قلناه، ومؤيدون له ولكننا نذكر المقدمة الوجيزة التي افتتحت الكلام بها في الموضوع جريدة المسلمين في (عليكده) منبع الحياة العلمية، وموطن النهضة الإسلامية في الهند ، فقد جاء في العدد الصادر من تلك الجريدة في 8 فبراير سنة 1904م ما تعريبه:
(هل ولد السيد أحمد خان ثانية في مصر، وظهرت جريدته (تهذيب الأخلاق)
بشكل المنار؟)
إن الله وهب للمرحوم السيد أحمد خان طبعًا سليمًا، ودماغًا عجيبًا فبينا العلماء
الأعلام، والفقهاء الكرام يشتغلون عامة بوسائل التقليد، وطرقه، وينهمكون في
البحث بعبارات أمثالهم كان السيد يبحث في أصول الدين، ومقاصده بحث المجتهد
المحقق، وانبرى بهمة (أسدية) قوية لإظهار الإسلام بصورته الأصلية الأولى
بنزع لباس التقليد عنه وإزالة شوائبه منه؛ إذ كان شيوخ الملة المقيدين بقيود
التعصبات والأوهام قد جعلوا أحكام الحنيفية السمحة البريئة من الحرج في غاية
الضيق والشدة، وحكموا فيها الرسوم والعادات فجعلوها مذهبًا، وشريعة.
عنى السيد بتحقيق العقائد والأحكام، وبيان الحق، ولم يخف في مخالفة
الجمهور لومة لائم ففصل بين العادة والعبادة، وبين الرسوم الموضوعة والأحكام
المشروعة؛ ليخرج المسلمين من تلك الأوهام، ويعود بهم إلى أصل الإسلام، ولما
أنشأ يطبع تحقيقاته، وينشرها علت الجلبة والضوضاء، وصاح مع العامة العلماء
والفقهاء: قد كفر قد كفر.
وطلبوا من الحرمين الشريفين الفتوى بتكفير السيد، والغالب أنه لم يكن في ذلك
الوقت أحد من المسلمين في الهند إلا وهو ينظر إلى أفكار السيد وتصوراته بعين
الحيرة والتعجب.
لعل أكثر الناس يتذكرون ذلك الزمان الذي أجاز السيد فيه لباس الإنكليز،
وأباح الأكل معهم، وقال: إن اللباس ليس من الأمور الدينية، بل من الرسوم
والعادات، ولم يحكم الشرع بالتزام زي يختص به المسلمون، وأما الأكل فهو حل
بنص الآية القرآنية ، ويتذكرون كيف هب العلماء للرد عليه، واستدلوا بحديث:
(من تشبه بقوم فهو منهم) ، وكفروا السيد، ولكن الأقوال التي قالها السيد منذ ثلاثين
سنة يقولها الآن أشهر العلماء في الممالك الإسلامية، والأفكار التي أظهرها السيد
في الماضي يظهرها في هذا الوقت مفتي الديار المصرية بالحرية التامة،
و (النظافة) ، ونحن الآن نترجم الفتوى بحل طعام أهل الكتاب ولباسهم، ولكن لا
ندري ماذا يقول الناس في هذا؟ - اتفاق الحاضر مع الماضي - فإن كان المسلمون
قائلين بالتناسخ؛ فليقولوا ضرورة بأن السيد قد ولد (ثانية) في مصر، وظهرت
جريدته (تهذيب الأخلاق) في شكل (المنار) اهـ المقدمة.
(المنار)
لتعتبر الجريدة المحدثة بأقوال علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فإن كانت كتبت ما كتبته من الطعن في الفتوى عن جهل، وكانت تريد باستنجاد مسلمي الآفاق بيان الحق؛ فهاهم أولاء قد أيدوا الفتوى، فعليها أن تعترف بخطئها،
وتتوب إلى ربها، ويا ليت أصحاب الجمود ودعاة التأخير يعلمون أن الأستاذ الإمام وحزبه هم الذين يخدمون الإسلام والمسلمين في هذه البلاد دون سواهم، وأن عقلاء المسلمين في جميع الأقطار معهم، ومؤيدون لدعوتهم، ومرتبطون معهم
بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم، فلا يغتر حزب التأخير، بمال
فلان الغني، وجاه فلان الأمير، فإن الحق يعلو ولا يُعْلى ، وإن حزب الله هم
الغالبون.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
الزي والدين
(س1) الزي والدين ر. ع: بالقاهرة
إن بعض الكتابيين من أهل إنكلترا وأمريكا أسلموا، ولم يغيروا زيهم في
اللباس (كالبرنيطة والبنطلون)، فهل يصح إسلامهم أم لا؟ فإن قلتم: لا يصح؛
فهل من دليل نقلي على ذلك؛ إذ ما نعلمه من التاريخ أن الشعوب التي أسلم منها
من أسلم في العصور الأولى ما كان يشترط في إسلامهم تغيير الزي، وما كانوا
يلبسون لباسًا مخصوصًا بأهل الإسلام؟ وإن قلتم: يصح إسلامهم، ويقرون على
لبس البرنيطة والبنطلون؛ فكيف جاز لبعض الناس لهذا العهد القول بحرمة لبس
البرنيطة على المسلم، مع أن حرمتها - على ما أعتقد - يقتضي أن يكون الإسلام
بالزي لا بالعمل أو بكليهما معا؟ وإذا كان ذلك كذلك فإسلام من أسلم من أهل
أمريكا وإنكلترا غير صحيح ما لم يغيروا أزياءهم، وهذا من الإشكال في
الدرجة القصوى، كما لا يخفى على بصير؛ إذ ربما كان ذلك مدعاة لعدم انتشار
الإسلام بين الأقوام الذين تقضي عوائدهم بعدم التخلي عن لبس البرنيطة وما شابهها،
وأمر آخر وهو أَنَّا نرى عشرات الملايين من المسلمين يلبسون لباس الإفرنج
(بنطلون) فإذا صح قولهم بعدم جواز هذا اللبس، وأن الإسلام بالأزياء أو
بالأزياء والأعمال فما حكم هؤلاء؟ هل يعتبرهم القائلون بهذا مرتدين مع
أن المسلمين لم يكونوا يذكرون ذلك في دعوتهم إلى الإسلام؛ بل كانوا يكتفون
بالشهادتين فيه ، وورد في الحديث: (من قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله
ودمه إلا بحقه وحسابه على الله) وهؤلاء المسلمون الذين يلبسون البنطلون يقولون:
(لا إله الله. ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) ، فما رأيكم في هذا كله؟ نرجو
الجواب ولكم الثواب.
(ج) لا يوجد دليل في الكتاب، ولا في السنة، ولا في أقوال الأئمة على
اشتراط زي مخصوص للمسلم، بل هناك أدلة على عدم الاشتراط كما رأيتم في
المقالات التي نشرناها في الموضوع ، والذين قالوا ما قالوا في منافاة لبس قلانس
النصارى (البراطل أو البرانيط) للإسلام لا يعرفون من الإسلام إلا التقاليد العامة
التي يعرفها الحوذي.
قلتم: إن الذين أسلموا في الصدر الأول لم يشترط عليهم تغيير
أزيائهم، ونزيدكم على هذا أن الصحابة كانوا يلبسون الثياب التي يغنمونها من
المشركين والمجوس وأهل الكتاب، بل النبي صلى الله عليه وسلم لبس من
لبوسهم أيضًا كما ذكرنا من قبل، ولو أراد الله أن يتعبدنا بزي مخصوص لاختار
زيًّا وألزمنا به، فإن لم يكن الزي الإسلامي مخترعًا جديدًا من الشارع فموافقته لزي
أهل الكتاب أولى من موافقته لأزياء المشركين؛ لأن الإسلام يفضل الكتابي الرومي
أو الروسي على المشرك الهاشمي القرشي، هذا وإن المسلمين لم يلتزموا زيًّا واحدًا
في عصر من الأعصار، فأي أزيائهم كان زي الدين، وأيها كان زي الكافرين أو
المرتدين.
وما ذكرتم من مفاسد جعل الزي داخلاً في مفهوم الإسلام صحيح، وأهمه
امتناع من يصعب عليهم تغيير أزيائهم من قبوله، وأقول: إن كل أمة من الأمم
التي تعقل تهزأ بدين يجعل الزي ركنًا من أركانه، أو عملاً من أعماله فلو قيل
لأهل أوربا أو أمريكا: إن الإسلام يشترط أن يلبس الداخل فيه (فرجية) واسعة
الأكمام، وجبة طويلة الأذيال، وحذاء أصفر يظهر منه معظم الرِّجْل لقالوا: إن
هذا دين لا يليق إلا بالكسالى والبطالين من أهل البلاد الحارة، وما قاربها، ولا ينبغي
لأهل العمل والنشاط، ولا يرضى به ذو عقل ولا ذوق.
أما حديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) فهو غير صحيح، ولو صح لما أفاد
المشاغبين في مسألة، فإن معناه أن من تكلف أن يكون شبيهًا بقوم؛ فإنه يلتحق
بطبقتهم، فإن تشبه بالكرام في أخلاقهم وأعمالهم عُدَّ منهم، وإن كان متكلفًا والعكس
بالعكس، ومثل هذا التشبه لا يحصل إلا بتكلف السجايا الخاصة بالقوم، فإن من
يلبس لباس الشجعان أو الأسخياء لا يعد منهم، فالحديث إذن في معنى قول الشاعر
الذي اقتبسه:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
…
إن التشبه بالكرام فلاح
* * *
زيارة المسلم لغير المسلم
(س2) ح. ح في الجبل الأسود معلوم عند جنابكم أننا تحت تصرف
حكومة نصرانية، وأن النصارى يزوروننا يوم عيدنا للتهنئة بالعيد، ويطلبون منا
مثل هذه الزيارة في أعيادهم، فهل نحن معذورون إذا زرناهم أم لا؟
(ج) ثبت في الحديث الصحيح عند أحمد والبخاري وغيرهما أن النبي
صلى الله عليه وسلم عاد غلامًا يهوديًّا كان يخدمه قبل مرضه وقد استكبر الغلام،
وأبوه الفقير هذه العناية، ودعا النبي الغلام الى الإسلام فقال له أبوه: أطع أبا
القاسم. فأسلم، والحديث يدل على مشروعية الابتداء بالزيارة. قال الماوردي:(عيادة الذمي جائزة والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة)
- أي: إن العيادة في المرض ومثلها الزيارة جائزة، ولكنها لا تكون عبادة يتقرب بها
إلى الله إلا إذا اقترن بها شيء مما هو مطلوب في الشرع كحرمة الجوار والقرابة -
وحسبك أن تكون الزيارة في العيد وغيره مباحة. على أن القواعد الإسلامية ترشدنا
إلى أن حسن النية في الأعمال المباحة تلحقها بالعبادات.
هذا وأنت تعرف الفرق بين الذمي الداخل في حكمنا وبين من نحن داخلون
في حكمهم ، فإذا صح لنا أن نجامل من نحكمهم عملاً بمكارم الأخلاق التي هي
أساس ديننا، أفلا يصح لنا أن نجامل من يحكموننا من غيرنا، ونحن أحوج إلى
مجاملتهم؛ لأجل مصالحنا، كما أننا نرى أنفسنا أحق منهم بمكارم الأخلاق؟
وكأني بمتعصب يقول: قال ابن بطال: (إنما تشرع عيادة المشرك إذا رجي
أن يجيب إلى الإسلام) .
وأقول أولاً: إن كلامه في العيادة المشروعة؛ أي: المطلوبة شرعًا، ونحن
نتكلم في العادات المباحة.
وثانيًا: إن الحديث السابق لا يدل على الاشتراط، وقد أورد الحافظ ابن حجر
كلامه في شرح البخاري ثم قال: (والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد،
فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى) ، وظاهر أن مصالح أهل الوطن الواحد مرتبطة
بمحاسنة أهل بعضهم بعضًا، وأن الذي يسيء معاملة الناس يمقته الناس فتفوته
جميع المصالح، لا سيما إذا كان ضعيفًا وهم أقوياء، وإذا أسند سوء المعاملة إلى
الدين، يكون ذلك أكبر مطعن في الدين؛ فلك أيها السائل ولغيرك من المسلمين أن
تزوروا النصارى في أعيادهم، وتعاملوهم بمكارم الأخلاق أحسن مما يعاملونكم،
ولا تعدوا هذا من باب الضرورة؛ فإنه مطلوب لذاته مع حسن النية واتقاء
مشاركتهم في المحرمات كشرب الخمر مثلاً والله أعلم وأحكم.
* * *
صوم يوم عرفة
(س3) ومنه: هل وردت أحاديث صحيحة في صوم يوم عرفة؟ ولماذا يصومه المؤمنون؟
(ج) ورد في حديث أبي قتادة عند البخاري وغيره ما يدل على استحباب
صوم يوم عرفة، ووردت أحاديث أخرى في النهي عن صومه أصحها حديث عقبة
بن عامر عند أحمد وأبي داود والترمذي وصححه وغيرهما، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) . وورد النهي عنه للحاج بخصوصه وعللوه بأنه يضعفه
عن الأذكار المشروعة في ذلك اليوم للواقف بعرفات ، وحمل أكثر العلماء حديث
أبي قتادة على هذا التخصيص ، وقالوا: إنه يستحب صومه لغير الحاج، وقال
بعضهم: يستحب إفطاره. فأما علة الإفطار فلكونه ملحقًا بأيام العيد، وأما علة
الصوم عند القائل به فلعلها مشاركة الحجاج بالعناية بالعبادة الممكنة في ذلك اليوم،
فيصوم غير الحاج ويكثر من التكبير؛ فيكون ذلك مذكرًا له بعبادة الحج ومشوقًا
إليها حتى تتيسر له إن شاء الله تعالى.
* * *
صندوق التوفير في إدارة البريد
وبيان حكمة تحريم الربا
(س4) مصطفى أفندي رشدي المورلي بنيابة الزقازيق: ما هو رأي
سيادتكم في صندوق التوفير بعد تعديله الأخير؟ وهل يجوز الادخار فيه وأخذ
أرباحه شرعًا؟ ولا يخفى على حضرتكم فوائده سيما أنه يربي ملكة الاقتصاد في
الإنسان وهو ما يؤيده الشرع في ذاته أفيدونا آجركم الله.
(ج) : إن التعديل الذي تعنونه قد كان برأي لجنة من علماء الأزهر جمعها
أمير البلاد لأجل تطبيق إيداع النقود في الصندوق على قواعد الفقه المعروفة، وقد
كتبوا في ذلك ما ظهر لهم وأرسلته (المعية) إلى الحكومة فعرضته على المفتي،
وبعد تصديقه عليه أمرت بالعمل به. هذا ما اشتهر ونحن لم نقف على ما كتبوه
فنبدي رأينا فيه ، ولكننا مع ذلك لا نرى بأسًا من العمل به؛ لأننا إنما ننتقد من الحيل
على علماء الظاهر أو علماء الرسوم - كما يقول الغزالي - وينافي مقاصد الشرع
الثابتة بالكتاب والسنة، كالحيلة في منع الزكاة والحيلة في الربا الحقيقي، الذي
علل القرآن تحريمه بقوله تعالى: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279)
والذي فصل بينه وبين التجارة بقوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا} (البقرة: 275) فالتعاقد في عمل يفيد الآخذ والمعطي ببيع أو تجارة،
والذي يفهم سبب تحريمه من قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً
مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) وذلك أنه: كان في المدينة وغيرها من اليهود
والمشركين من يقرض المحتاج بالربا الفاحش كما نعهد من اليهود والخواجات في
هذه البلاد، وفي ذلك من خراب البيوت ما فيه.
فالحكمة في تحريم الربا إزالة نحو هذا الظلم ، والمحافظة على فضيلة التراحم
والتعاون أو فقل: أن لا يستغل الغني حاجة أخيه الفقير إليه - كما قال الأستاذ
الإمام - وهذا هو المراد بقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا
تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) ولا يخفى أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ
والمعطي والتي لولاها لفاتتهما المنفعة معًا لا تدخل في هذا التعليل {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا
تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) ؛ لأنها ضده على أن المعاملة التي يقصدها البيع
والإتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج،
ولا يخفى أن إدارة البريد هي مصلحة غنية من مصالح الحكومة ، وأنها تستغل
المال الذي يودع في صندوق التوفير فينتفع المودع والعمال المستخدمون في
المصلحة والحكومة فلا يظلم أحدهم الآخر؛ فالأرجح أن ما قالوه ليس من الحيل
الشرعية وإنما هو من قبيل الشركة الصحيحة؛ من قوم المال ومن آخرين
الاستغلال؛ فلا مانع إذن في رأينا من العمل بتعديلهم، على أن العبرة في نظر
الفقه بالعقد؛ ولذلك يحتال بعض علماء الرسوم في الربا الحقيقي فيأكلونه بلا عقد،
ويقولون: إن ذلك من قبيل البيوع الفاسدة، وهي صغيرة أو مكروهة، وهذا شيء
لا يحل ولا نقول به، والحاصل أن المسألة قد أحلوها من طريق الفقه الظاهر،
والباحث في الفقه الحقيقي، وهو حكمة الشرع وسره لا يرى ما ينافي حلها بناء
على ما تقدم، والتضييق في التعامل يفقر الأمة، ويضعفها ويجعلها مسودة للأمم،
والله أعلم وأحكم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع
حب القوة.. رابطة المدنية
(تمهيد)
(ما اجتمع اثنان فأكثر اجتماعًا تراد به المصلحة إلا احتاجوا في انتظام
شملهم وتحصيل مصلحتهم إلى ناموس، إما فطري بشيء من التعليم، وإما تعليمي
مشوب بمقتضيات الفطرة) لتحفظ هذه الكلمة، فإننا نحسبها أصل الأصول في
الأخلاق والشرائع. ولكن لا يحيط بها سريعًا إلا ذهن الذين سيروا تلك الأصول
وسيجدونها عينًا صغيرة تتفجر منها مياه كثيرة أو عينًا صغيرة تنطبع فيها
محسوسات كبيرة. أو مرآة صغيرة تقابلها أشكال متعددة فترى فيها صورها، وأما
غيرهم فيناسبهم شرح هذه الكلمة.
فافرضوا أن المجتمعين أربعة: امرآن وامرأتان ، وافرضوا أن مصلحتهم
الأولى من الاجتماع أن يحفروا لهم غارًا ليسكنوا فيه ويأمنوا العوادي من حر وبرد
ووحش، ويجمعوا أقواتهم فيه.
هذا القدر، افرضوا فقط فإنكم ستروننا نشرح لكم في هذا الاجتماع إجمال
كثير مما يدعو علماء الأخلاق والشرائع أن يبحثوا فيه. وإليكم هذا النموذج من
بيان ذلك:
(الأول) مما يلزم لأولئكم قبل مباشرة حفر الغار محبة كل منهم ذاته إذ لو
كانوا بحيث لا يحب كل منهم ذاته لما كانوا ليقدموا على هذا العمل الذي تحصل به
لجميعهم مصلحة لكل منهم حصة من فوائدها. ولو كان واحد منهم لا يحب ذاته
لنكف وحده عن العمل (امتنع أو عدل) فيكون الثلاثة قد خسروه وما خسروا إلا
معينًا، ولو نكف اثنان لخسر الآخران معينين ولو نكف ثلاثة لعمت المصائب
الأربعة.
فأنتم ترون أن حب الإنسان ذاته هو أول ما يلزم للمجتمعين وهو أول ما
يبحث فيه فلاسفة الأخلاق؛ إذ هو الأصل الأعظم في صلاح الأخلاق إن صلح،
وفي فسادها إن فسد، وهو موجود في الفطرة ولكن لطروء المرض يحتاج لطب
التعليم.
(الثاني) مما يلزم لهؤلاء محبة كل منهم غيره؛ إذ محبة الغير هي الأصل
في تحصيل مصالح الذات وهي الأصل الأعظم في اجتماع المتعددين ، ولولاها
لكان هؤلاء الأربعة متنافرين متناحرين، لا متضافرين متناصرين.
(الثالث) مما يلزم لهؤلاء العدل، ومعناه إعطاء المرء لغيره عدل ما أعطاه
أي شيئًا يعادله. فإذا عمل كل واحد من هؤلاء مثل ما يعمل صحبه كان ذلك من
دواعي محبة بعضهم بعضًا ومما يطِد اجتماعهم. وأما إذا أراد أحد منهم أن يفضل
نفسه عليهم فلا يعمل معهم كما يعملون ويريد أن ينتفع بما عملوا، أو أن ينتفع
بنصيب هو أكبر من أنصبائهم، فربما أوجب أن ينقموا منه ذلك؛ لأن (بدل الأصل
سبب الوصل، وبدل الفضل سبب الفصل) .
(الرابع) مما يلزم لهؤلاء الإحسان، ومعناه: رضا النفس بإيجاد الحسن
ولو من غير بدل أو ببدل أقل مما هو عدله. فإذا كان أحد هؤلاء أضعف من
الباقين فيحسن بهم أن يحسنوا فيعملوا عمل الأقوياء، ويقبلوا من الضعيف عمل
الضعفاء، على أنهم في النصيب سواء وفي الإحسان مباحثات ومحاورات ليس هذا
محلها ، وربما أتينا بها في محل آخر. والذي لا خلاف فيه بين المعتدلين هو أن
الإحسان لا يجب وجوبًا كالعدل بل يحسن بالإنسان التحلي به وقد يشتد لزومه في
المجتمعين القليلين.
(الخامس) مما يلزم لهؤلاء المعرفة، إذ كل عمل لا يكون إلا بعلم فإن
صلح العلم صلح العمل، وإن فسد العلم فسد العمل. ومعنى العلم وجدان الذهن: ما
هو الشيء؟ أو كيف هو؟ أو أين هو؟ أو لم هو؟ أو متى هو؟ أو كم هو؟ أو
بم هو؟ فيلزم هؤلاء أن يعرفوا أين يحفرون؟ وكيف يحفرون؟ وبم يحفرون؟
وكم يحفرون؟
(السادس) مما يلزم لهؤلاء التعريف. ومعناه: إحضار ما وجده العارف
بقوة ذهنه بغير واسطة إلا الإلهام إلى ذهن من لم يجد ذلك بواسطة الدلالات على
اختلافها. ومن البديهي أن الأذهان مختلفة في قبول الفائضات، ولا يتم العمل
اللازم للكثيرين إلا بتعليم من علم لمن لم يعلم، ومن ثمة عندما تكثر اللوازم ويقل
العالمون بها يعد تعليمها أو تعليم الوسائل المؤدية إليها عملاً عظيمًا يعادل أكبر عمل
من أعمال الموجدين للوازم.
هذا وبينما كان هَمُّ هؤلاء واحدًا ومصلحتهم واحدة أي تعاونهم في حفر الغار
ليأووا إليه؛ إذ حدثت لهم بعد حفر الغار مصالح أخرى منها: حراسة المنزل خشية
أن يطرقه طارق من وحش؛ إذا خرجوا جميعًا، ومنها: الاشتراك في تحصيل
القوت رجاء أن يكونوا باجتماعهم أقوى إذا انفردوا، ومنها التراضي في أمر الوقاع؛ لأن في فطرة كل من المرء والمرأة اقتضاء الوقاع، وإن ترك هذا الأمر بلا
قاعدة بينهم يتراضون بها يؤدي إلى تفرقهم أو تجادلهم أو تذابحهم، وهم أشد من في
الأرض احتياجًا للاجتماع والتآلف والتناصر، فهم في هذه المصالح المتعددة (وهي
من أولى المصالح) محتاجون الى تدبيرها. وفي تدبيرها محتاجون على الأقل إلى
ثلاثة أشياء: (1) اقتسام الأعمال، و (2) نظام العائلة ، و (3) نظام التساكن.
فاقتسام الأعمال هو اللازم (السابع) وهو عبارة عن أن يعمل كل واحد عملاً
يحتاجه الكل على أن يكون له نصيب في عمل الآخر. فمن قام في المنزل حارسًا
فله حق بما يأتي به من سار للقوت محصلاً.
ونظام العائلة هو اللازم الثامن (الثامن) وهو عبارة عن العهد الذي يقيمه
المرء مع المرأة على أن يكون كل منهما للآخر زوجًا بشرط كذا وكذا.. على ما
يظهر لهما من المعاهدة.
ونظام التساكن هو اللازم (التاسع) وهو عبارة عن السبيل الحسن الذي
يسير عليه جماعة أقامتهم الحاجة في منزل واحد، ثم بينما هم في حاجة لأفراد
آخرين ليتم بهم تعاونهم على مشاق الأعباء التي لا يستطيعون وحدهم تحملها لما
يصادفهم من الطوارئ الخارجية كغلبة الوحوش ، والداخلية كالضعف بنحو مرض
أو تغير قلوب متحدة، أو اختلال نظام عائلة أو نظام تساكن؛ إذ جبر نقصهم،
وسدت حاجتهم بالأنسال التي أخذت تتزايد في كل عام.
ولكن هل يوجد خير غير مشوب بما يقابله من ضد؟ كلا: إن هؤلاء لما
أصابهم هذا الخير الذي هو توفير العدد لإتمام العدد أصابهم في مقابلته شر هو
توسع الفرق والتفاوت بين أفراد المجتمعين، فأصبحوا كثيرين بينهم الضعفاء من
صغار، ومرضى مثلاً، وأصبح الأقوياء فيهم منهم عارف بقيمة الحي (وإن كان
صغيرًا، فإنه يكبر وإن كان مريضًا فإنه يصح) ، ومنهم غير عارف، ومنهم
محسن، ومنهم غير محسن، ومنهم واف بالعهود، ومنهم غير وافٍ، وبالجملة
أصبحت تلك الوحدة ممزقة، وهاتيك الأوضاع متغيرة، أو ضاق بهم ذلك الوطن
الواحد فاضطروا إلى تعديد الوطن وبتعديده انقلب شكل تلك الوحدة فبينما كانوا
أربعة يتفكرون بتدبير مصالح لهم مشتركة باتحاد القلوب وتعادل الأعمال إذ صاروا
أربعين مثلاً، وبينما كان غار واحد إذ صارت غيران عشرة مثلا.
وبينما كان العمال متعادلين صار العمال متفاوتين ، وبينما كانوا يضربون
في جهة واحدة لتحصيل القوت صاروا يضربون في جهات متعددة، وبينما
كانوا يخافون من الوحوش فقط، صاروا يخاف بعضهم من بعض؛ لأنه وجد بينهم
غير العادل وغير الوافي بالعهود، ولولا أن وجد هؤلاء لكان مليار من البشر
المتناسلين من أولئك المفروضين أولاً على وتيرة واحدة في كل شيء، فلا أريد مليارًا
على هذا النحو، ولا مليونًا، ولا مائة ألف، ولا عشرة آلاف، ولا ألفًا، ولا
مائة أريد اثني عشر إنسانًا ليس فيهم مخادع.
التفاوت بين البشر أمر طبيعي - أي: من جملة سنة الله في خلقه - ومن
اقتضاء التفاوت أن يكون التضاد، ومن اقتضاء التضاد أن تكون المنازعات، ومن
اقتضاء المنازعات أن يتعاون المتقاربون -في أكثر الأشياء المحسوسة والمنصورة-
على المتباعدين عنهم - المتقاربين أيضًا في أكثر الأشياء - ومن اقتضاء
الاجتماع تقارب المنازل. ومن اقتضاء تقارب المنازل اقتسام الأعمال ، ومن اقتضاء
العدل التراضي بتعيين الحدود والمقادير، ومن اقتضاء التراضي تكون
نظام، ومن اقتضاء النظام وجوب حفظه، ومن اقتضاء حفظه إيجاد قوة حافظة له،
ولا بد للقوة من مركز ومحور لحركتها، ولا بد من أن يكون هذا المركز حيًّا سميعًا
بصيرًا عليمًا مريدًا قادرًا متكلمًا - أي: إنسانًا بالغًا سن الرشد والقوة سالمًا من
نواقص الجسد والعقل.
انظروا كم ترون في هذه الحالات من حاجات. كل هذه الحاجات مرت على
الإنسان، وكل حلقة من هذه الحلق بقيت محفوظة في هذه السلسلة حتى هذا اليوم ،
وفي هذه الحاجات والمقتضيات كانت تحدث لهؤلاء المجتمعين القليلين صناعات
يتبادلونها فيما بينهم ، ويغلب في الظن أن صنع آلات الدفاع والهجوم له حظ من
التقدم، ويظهر أن أول ما صنع الإنسان من هذا القبيل - بعد حفر الغيران التي
هي معاقل - هو ترقيق شبا الصلد من الحجارة بواسطة حجارة أخرى، حتى يقطع
بها ما شاء.
ربما صنعت هذه المدى الصوانية لأمر، ثم تبين أن لها نفعًا في أمور أخرى
كثيرة، ويظهر أنه بها نجر الشظايا من الأشجار على هيئات مختلفة لمقاصد متعددة، فكان لهم من تلك الشظايا مغزل يفتلون به أوبار الحيوانات التي يصطادونها،
وكان لهم منها منسج يجمعون عليه الخيوط المفتولة، حتى تكون كسفًا، وكان لهم
منها مخيط يضمون به بعض الكسف إلى بعض ليكون لهم من مجموع ذلك أكسية (يستبدلونها بما كانوا يكتسونه من جلود المصيدات من الحيوانات، أو المنسوج من
الأعواد ولحاء الأشجار أو بعض الأوراق) وأخبية (يستبدلونها بما كانوا يختبئون
فيه من الغيران الطبيعية أو الصناعية) ، ولا يخفى أن الحاجة كانت هي الدافعة
بهم إلى استبدال الأكسية والأخبية المنسوجة من الأوبار بالجلود والغيران؛ إذ
الجلود ثقيلة مثقلة للحركة، ولا تفي بستر البدن على الوجه الكافي ، وهذه الأكسية
الجديدة - التي شرح وصفها - يتكون منها لباس كاف واف بالحاجة. منه الرقيق
والصفيق، ومنه الطويل والقصير ، ومنه الصغير والكبير؛ وإذا تراكمت عليه
الأوضار كانت تنحيتها متيسرة ، وهذه الأخبية الجديدة يتكون منها مآوٍ كافية وافية
بالحاجة للظعن والإقامة فإذا استوبلوا أرضًا تركوها ونزلوا فيما استطابوا لا
يحتاجون الى حفر مآو جديدة.
ومما يغلب في الظن أيضًا أنهم شعروا باحتياجهم لادخار زوائد من المكسوبات
اللازمة للقوت والكساء والخباء والزينة، نعم، إن الادخار للمجتمعين لابد منه
ليكون بالزوائد المحفوظة غناء يوم لا يغني سعيهم في الكسب شيئًا.
وقد سمي الزائد المدخر - في لغتنا - مالاً كأن أهل هذا اللسان سموه بهذا
الاسم المشتق؛ لأن النفوس تميل إليه بالفطرة أو بحسب التجربة والاحتياج ، وهم
يقولون لمن حوى مكسوبات زائدة تمول.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(ع. ز)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: سائح بصير
بلرم صقلية
(4)
(دور الآثار وبساتين النبات)
لا تبخس أهل سيسليا (صقلية) حقهم فإنهم فهموا مسألة لا بأس بفهمها ،
وأظنهم عرفوا ذلك من إخوانهم أهل شمالي إيطاليا وبقية الأوربيين، وهي المحافظة
على الآثار القديمة والجديدة، أما القديمة فتحفظ بذواتها ، وأما الجديدة فتحفظ ولو
بنموذج منها.
بنوا ملعبًا في بلرم فصنعوا له مثالاً من الخشب ووضعوه في دار
الآثار. مدينة بلرم لها مثال مجسم رسمت فيه البساتين والجبال والكنائس مجسمة
مصغرة بألوانها الطبيعية وألوان الأرض نفسها ، وذلك المثال في دار الآثار.
حفظوا لباس امرأة مسلمة من مسلمي صقلية وهو زي يشبه الأزياء الأوربية مع
ساتر للوجه يدل على أن ستر الوجه كان عامًّا حتى في صقلية، وإن كان ذلك قد
يغضب قاسم بك أمين فإنه يجد له أضدادًا في مسلمي أوربا فضلا عن مسلمي آسيا
وأفريقيا.
يحفظ القوم في متاحفهم هذه كل ما يوجد من آثار المتقدمين من مصنوعات،
وأشجار، وأحجار، ولا يدخرون جهدًا في حفظ ذلك حتى إذا وجدت اسم شيء في
كتاب تاريخ مثلاً أو عرض لك اسم في علم من العلوم كان يدل على معنى في
الزمن السابق؛ أمكنك أن تعرف المدلول بالعيان والمشاهدة، وتتحقق صحة الوصف
والتعريف فما استعمله الأقدمون من آلات وأدوات، وأنواع ثياب، وضروب
مراكب، ونحو ذلك تجد شيئًا منه في متحف من المتاحف ، أو في قصر من
القصور، أو في كنيسة من الكنائس، أو في داهية من الدواهي التي هناك.
وهذا مما يفيد في تحقيق المعاني التاريخية واللغوية فائدة لا يعرف مقدارها
إلا من يسمع اسم اللأمة، والدلاص، والدرع والخوذة، والعمامة (عمامة الحرب)
ونحو ذلك من الألفاظ العربية الكثيرة الاستعمال، ثم يراجعها في القاموس أو
غيره من كتب المعجمات، وبعد ذلك لا تستقر في خياله صورة لمدلول من مدلولات
هذه الألفاظ، وقد يتخيل صورة لا مناسبة بينها وبين الحقيقة، وهو جهل باللغة
فاضح، وكثير منا يأكلون اللوز والجوز، وينطقون باسمه في البيت، وعند البائع؛
إذا طلبوا شراء شيء منه ، وهم إذا رأوا شجرة الجوز أو اللوز لا يميزون بينها وبين
شجرة الجميز أو الفلفل، أما الجماعة فعندهم في بساتين النبات جميع هذه الأنواع
من الأشجار، وما لا تناسبه درجة الحرارة في الهواء يحدثون له جواء
تناسبه بالتسخين أو التبريد حتى يعيش في جو مثل جوه ولكل من يريد معرفة
شيء أن يذهب ويعرفه بعينه ذلك. وقد رسموا صور هذا كله فيما كتبوا من كتب
اللغة ومعجمات العلوم ، ويتيسر للحاذق أن يعرف هذه الأشياء بصورها المرسومة
في تلك الكتب؛ أما إذا قال لك صاحب القاموس: الجوز شجرم؛ أي: معروف فماذا
تستفيد من هذا وأنت في مصر وليس في قرب الأزهر شيء من شجر الجوز بل ولا
في الأزبكية نفسها، فكيف يصير هذا عندك معروفًا؟ وكيف يمكنك أن تحدث عن هذا
الشجر إذا كنت كاتبًا أو شاعرًا أو طبيبًا أو عالمًا أو أديبًا.
* * *
الصور
والتماثيل وفوائدها وحكمها
لهؤلاء القوم حرص غريب على حفظ الصور المرسومة على الورق والنسيج،
ويوجد في دار الآثار عند الأمم الكبرى ما لا يوجد عند الأمم الصغرى كالصقليين
مثلاً، يحققون تاريخ رسمها، واليد التي رسمتها، ولهم تنافس في اقتناء ذلك
غريب حتى إن القطعة الواحدة من رسم روفائيل مثلاً ربما تساوي مائتين من
الآلاف في بعض المتاحف، ولا يهمك معرفة القيمة بالتحقيق، وإنما المهم هو
التنافس في اقتناء الأمم لهذه النقوش، وعد ما أتقن منها من أفضل ما ترك المتقدم
للمتأخر، وكذلك الحال في التماثيل، وكلما قدم المتروك من ذلك كان أغلى قيمة،
وكان القوم عليه أشد حرصًا، هل تدري لماذا؟
إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر، وضبطه في دواوينه، والمبالغة
في تحريره خصوصًا شعر الجاهلية، وما عني الأوائل رحمهم الله بجمعه
وترتيبه؛ أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من
الرسوم والتماثيل؛ فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع ، والشعر
ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى.
إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة،
ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات
والأحوال البشرية. يصورون الإنسان أو الحيوان في حال الفرح والرضى
والطمأنينة والتسليم، وهذه المعاني المدرجة في هذه الألفاظ متقاربة لا يسهل عليك
تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهرًا باهرًا
يصورونه مثلاً في حالة الجزع والفزع والخوف والخشية، والجزع والفزع مختلفان
في المعنى، ولم أجمعهما ههنا طمعًا في جمع عينين في سطر واحد؛ بل لأنهما
مختلفان حقيقة، ولكنك ربما تعتصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف
والخشية ، ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع ومتى يكون الجزع؟ وما الهيئة
التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك؟
أما إذا نظرت الى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت؛ فإنك تجد الحقيقة بارزة
لك تتمتع بها نفسك، كما يتلذذ بالنظر فيها حسك إذا نزعت نفسك إلى تحقيق الاستعارة
المصرحة في قولك: رأيت أسدًا: تريد رجلاً شجاعًا فانظر إلى صورة
أبي الهول بجانب الهرم الكبير؛ تجد الأسد رجلاً أو الرجل أسدًا، فحفظ هذه الآثار
حفظ للعلم في الحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها إن كنت فهمت من
هذا شيئًا فذلك بغيتي، أما إذا لم تفهم فليس عندي وقت لتفهيمك بأطول من هذا،
وعليك بأحد اللغويين أو الرسامين أو الشعراء المفلقين ليوضح لك ما غمض عليك؛
إذا كان ذلك من ذرعه.
ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه الصور في
الشريعة الإسلامية؛ إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في
انفعالاتهم النفسية أو أوضاعهم الجثمانية، هل هذا حرام أو جائز أو مكروه أو
مندوب، أو واجب؟ فأقول لك: إن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها،
ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان؛ فإما أن تفهم الحكم
من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة؛
فإذا أوردت عليه حديث: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون، أو ما في
معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك: إن الحديث
جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببين: الأول: اللهو،
والثاني: التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين،
والثاني مما جاء الإسلام لمحوه. والمصور في الحالين شاغل عن الله، أو ممهد
للإشراك به؛ فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة كان تصوير الأشخاص
بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي
المصاحف وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء مع أن الفائدة في نقش
المصاحف موضع النزاع أما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر [1]
وأما إذا أردت أن ترتكب بعض السيئات في محل فيه صور طمعًا في أن الملكين
الكاتبين، أو كاتب السيئات على الأقل لا يدخل محلاًّ فيه صور كما ورد فإياك أن
تظن أن ذلك ينجيك من إحصاء ما تفعل؛ فإن الله رقيب عليك، وناظر إليك حتى
في البيت الذي فيه صور، ولا أظن أن الملك يتأخر عن مرافقتك إذا تعمدت دخول
البيت لأن فيه صورًا، ولا يمكنك أن تجيب المفتي بأن الصورة على كل حال
مظنة بالعبادة فإني أظن أنه يقول لك: إن لسانك أيضًا مظنة الكذب، فهل يجب
ربطه مع أنه يجوز أن يصدق كما يجوز أن يكذب.
وبالجملة إنه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة
من أفضل وسائل العلم بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة
ولا من وجهة العمل. على أن المسلمين لا يتساءلون إلا فيما تظهر فائدته ليحرموا
أنفسهم منها وإلا فما بالهم لا يتساءلون عن زيارة قبور الأولياء، أو ما سماهم بعضهم
بالأولياء، وهم ممن لا تعرف لهم سيرة ولم يطلع لهم أحد على سريرة، ولا
يستفتون فيما يفعلون عندها من ضروب التوسل والضراعة وما يعرضون عليها من
الأموال والمتاع، وهم يخشونها كخشية الله أو أشد ، ويطلبون منها ما يخشون أن لا
يجيبهم الله فيه، ويظنون أنها أسرع إلى إجابتهم من عنايته سبحانه وتعالى، لا شك
أنه لا يمكنهم الجمع بين هذه العقائد، وعقيدة التوحيد، ولكن يمكنهم الجمع بين
التوحيد، ورسم صور الإنسان والحيوان لتحقيق المعاني العلمية، وتمثيل الصور
الذهنية.
هل سمعت أننا حفظنا شيئًا حتى غير الصور والرسوم مع شدة حاجتنا إلى
حفظ كثير مما كان عند أسلافنا؟ لو حفظنا الدراهم والدنانير التي كان يقدر بها
نصاب الزكاة ولا يزال يقدر بها إلى اليوم أفما كان يسهل علينا تقدير النصاب
بالجنيهات والفرنكات، ونحو ذلك ما دام المثال الأول موجودًا بين أيدينا؟ ولو حفظ
الصاع والمد وغيرهما من المكاييل أفما كان ذلك مما ييسر لنا معرفة ما يصرف في
زكاة الفطر وما تجب فيه الزكاة من غلات الزرع بعد تغيير المكاييل؟ وما كان
علينا إلا أن نقيس مكيالنا بتلك المكاييل المحفوظة فنصل إلى حقيقة الأمر بدون
خلاف؟ أظنك توافقني على أنه لو حفظ درهم كل زمان وديناره ومده وصاعه لما
وجد ذلك الخلاف الذي استمر بين الفقهاء يتوارثونه سلفًا عن خلف كل منهم يقدر
للمكيال والميزان بما لا يقدره به الآخر حتى جاء في آخر الزمان أحمد بك الحسيني
يخطئ بعضهم ويوفق بين أقوال البعض الآخر بدون أن يكون بين يديه صاع ولا
مد من تلك الآصع والأمداد، وما أصعب التخطئة والتوفيق؛ إذا لم يكن العيان هو
المميز بين فريق وفريق.
لو نظرت إلى ما كان يوجب الدين علينا أن نحافظ عليه لوجدته كثيرًا لا
يحصى عده ولم نحفظ منه شيئًا فلنتركه كما تركه من كان قبلنا ، ولكن ما نقول في
الكتب وودائع العلم هل حفظناها كما كان ينبغي أن نحفظها أو أضعناها كما لا
ينبغي أن نضيعها؟ ضاعت كتب العلم وفارقت ديارنا نفائسه؛ فإذا أردت أن تبحث
عن كتاب نادر، أو مؤلف فاخر، أو مصنف جليل أو أثر مفيد فاذهب إلى خزائن
بلاد أوربا تجد ذلك فيها. أما بلادنا فقلما تجد فيها إلا ما ترك الأوربيون ولم يحفلوا
به من نفائس الكتب التاريخية والأدبية والعلمية ، وقد تجد بعض النسخة من الكتاب
في دار الكتب المصرية مثلاً وبعضها الآخر في دار الكتب بمدينة كمبردج من البلاد
الإنكليزية، ولو أردت أن أسرد لك ما حفظوا وضيعنا من دفاتر العلم لكتبت لك في
ذلك كتابًا يضيع كما ضاع غيره وتجده بعد مدة في يد أوربي في فرنسا أو غيرها
من بلاد أوربا.
نحن لا نعنى بحفظ شيء نستبقي نفعه لمن يأتي بعدنا، ولو خطر ببال أحد
منا أن يترك لمن بعده شيئًا جاء ذلك الذي بعده أشد الناس كفرًا بتلك النعمة، وأخذ في
إضاعة ما عني السابق بحفظه له ، فليست ملكة الحفظ مما يتوارث عندنا وإنما الذي
يتوارث هو ملكات الضغائن والأحقاد، تنتقل من الآباء إلى الأولاد حتى تفسد
العباد وتخرب البلاد ويلتقي بها أربابها على شفير جهنم يوم المعاد.
(للرحلة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: إن الذين رسموا الصالحين والأنبياء إنما أرادوا التبرك بصورهم وتعظيمها إكرامًا لها، وهذا التعظيم يسمى في كل اللغات عبادة ، وجميع الصور والتماثيل التي كانت عند العرب كانت معظمة للدين؛ ولذلك سمي في القرآن تعظيمها عبادة وكذلك النصارى كانوا يصرحون أن تعظيم الأيقونات ونحوها من الصور عبادة فلما عارض المصلحون في ذلك صار بعض المصرين عليه يسمي تعظيمها إكرامًا وأصر بعضهم على تسميته عبادة، وإن النهي عن التصوير في الإسلام لم يزد على النهي عن تعظيم القبور وتشريفها وبناء المساجد عليها وإيقاد السرج عليها ، وقد فعل المسلمون هذا مع بقاء علته وهم يتركون التصوير وفوائده مع انتفاء علة النهي عنه أفنؤمن بظاهر بعض الدين ونكفر بحقيقة بعض.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(الاشتراك في المنار)
كل من قبل هذا الجزء من المنار يعد مشتركًا إلى سنة كاملة ويجب عليه دفع
قيمة الاشتراك كاملة، وإن رد المجلة في أثناء السنة فمن لم يرض بهذا الشرط
فليرجع إلينا الجزء. ونرجو أن لا يطلب أحد منا الاشتراك بدون القيمة المقررة.
* * *
(الأسطول العثماني)
بشرتنا أنباء الآستانة بأن سيجهز أسطول عثماني مؤلف من السفن الجديدة
التي ابتاعتها الدولة العلية من عهد قريب، ومن السفن القديمة التي أصلحتها في
أوربا حقق الله الآمال.
* * *
(منشور شيخ الإسلام في تفليس)
كتب شيخ الإسلام في تفليس عاصمة بلاد القوقاس الروسية منشورًا ينصح
فيه للمسلمين بالطاعة والإخلاص لدولتهم، وبذل النفس والنفيس في مساعدتها على
حرب دولة اليابان الوثنية، وقد أحسن فيما فعل ، ونوافقه عليه في جملته، وكان
في عزمنا أن ننشر في المنار الماضي نصيحة لمسلمي روسيا بأن يفترضوا الحرب
لإقناع دولتهم بإخلاصهم لها؛ لأن هذا هو الذي ينفعهم، ولا يغتروا ببعض اليهود
والأرمن الشامتين بدولتهم، فالغدر والخيانة يحرمهما الإسلام في كل حال، هذا وإن
النصرانية أقرب إلى الإسلام من الوثنية، وما قلناه من ميل المسلمين إلى اليابان
فسببه سياسي لا ديني.
* * *
(تغاير العلماء في روسيا)
كتب إلينا فيض الرحمن أفندي أحمد القزاني المجاور رسالة ملخصها أن أحد
علماء (خان كرمان) تلقى العلم في الآستانة، ولما رجع إلى وطنه سعى بإنشاء
مدرسة خيرية وكان يعلم فيها حتى وشى عليه بعض المعممين إلى الحكومة بأنه
يستميل التلامذة إلى تركيا بتعليمه على الطريقة التركية فأقفلت الحكومة المدرسة ،
ثم سعى فاستصدر أمرًا بفتحها فعاد أصحاب العمائم إلى الوشاية حتى أقفلوها، ولا
شك أن أولئك السعاة الوشاة هم أكبر بلاء على أمتهم وملتهم، وقد خجلنا من ذكر
صنيعهم مع كثرة ثنائنا على أخلاق مسلمي تلك البلاد، فعسى أن يتوبوا إلى ربهم،
ويثوبوا إلى رشدهم.
* * *
(استعمار مصر ومراكش)
إنكلترا وفرنسا تتباحثان في وسائل الوفاق في المسائل الاستعمارية بينهما،
ومنها: مسألة مصر التي تستعمرها إنكلترا بدون نطق بكلمة حماية أو امتلاك إلا ما
لونت به رسم مصر في خريطة أفريقية، وهو لون بلاد السودان وبلاد الترنسفال
وبلاد الكاب أو رأس الرجاء الصالح، ومسألة مراكش التي تريد فرنسا أن تستعمرها
هذا النوع من الاستعمار، ويوشك أن تتفق الدولتان على أن إحداهما لا تنازع
الأخرى في مسألتها، ولكن ماذا يفعل سلطان مراكش وأمير مصر في هذه الأيام؟
أما أمير هذه البلاد فلا نبحث في أعماله، وأما سلطان مراكش فلم يكتف بما عنده
من آلات اللهو الأوربية، وما اجتلبه من حور الآستانة وولدانها حتى أرسل يطلب
من مصر جوقة من المطربين والمطربات، وشاع هنا أن محمد بن شعرون سافر
بالجوقة، وهي تسعة رهط، وفيها بعض الراقصات المشهورات وتعهد لها بدفع
1500 جنيه في الشهر، وقيل أقل، ومعلوم أن السلطان يقترض المال من فرنسا،
وأن الدين هو أوسع الأبواب لدخول أوربا في البلاد، وإننا ندعو الله تعالى أن
يوفقه وسائر أمراء المسلمين إلى ما فيه الخير الحقيقي للأمة والبلاد كيفما جاء، ومن
أيِّ طريق جاء.
* * *
(مسألة الرتب والأوسمة)
قد وصل الإتجار بالرتب في الآستانة إلى حد التزوير فصار السماسرة
مزورين، وقد حوكم من عهد قريب طاهر بك صاحب جريدة (معلومات) وغيرها
متهمًا بتزويرها، وقد اقتدت مصر بالآستانة فصار المقربون من الأمير ومنهم
بعض أصحاب الصحف يتوسلون إليه بهذه الرتب والأوسمة حتى علم الخاص
والعام أن أكثر من نالها من غير الحكومة قد اشتراها بالمال، وقد انتهى الأمر
بدخول اللورد كرومر في الأمر، وتقرر إلغاء بعض الرتب والأوسمة التي أنعم بها
على المرتكبين والمزورين، وفي ذلك عبرة للمعتبرين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
موعظة للمسلمين بآيات الكتاب المبين
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ
الغَرُورُ} (فاطر: 5) ، {مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ
هُوَ يَبُورُ} (فاطر: 10) {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا
لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ المَصِيرُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى
وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ
وَلَا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ} (فاطر:
18-
22) ، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا
وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ
وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ *
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ
تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر:
27-
30) .
لك الحمد اللهم أن أنزلت هذه الآيات البينات بلسان عربي مبين على عبدك
ورسولك محمد خاتم النبيين، وإمام المصلحين، فأنرت بها وبأمثالها تلك الظلمات،
وأحييت بها أولئك الأموات، فأقاموا ما أنزلت من الكتاب والميزان [1] وأدبوا
بالحديد من أباهما من أهل الطغيان، حتى تزلزلت في الممالك تلك التقاليد، وألقت
اليهم الأمم بالمقاليد فكانوا وهم الأميون أئمة أهل الكتاب والحكمة، وسادة أهل
السلطان والقوة؛ فصل وسلم اللهم على ذلك النبي المرشد الحكيم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ
رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) .
ثم خلف من بعد هذا السلف الصالح خلف كفروا بنعمة آياتك فاستبدلوا بها
مذاهب وتقاليد هم بها عاملون {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) وغرتهم الحياة الدنيا فطغوا بالميزان ، وغرهم بالله
الغرور فانحرفوا عن صراط القرآن، وطلبوا العزة بالكلم الخبيث دون العمل
الصالح والسعي الحثيث؛ فكانت عزتهم ذلاًّ وكثرهم قلاً، ومكروا السيئات فقادوا
العلماء والفقهاء بسلاسل سياسة السلاطين والأمراء، وأوهموا الوازرين والخاطئين
بأن سيحمل أثقالهم عنهم نفر من صلحاء الميتين؛ ففسدت الأعمال والنيات، واتكل
الأحياء على شفاعة الأموات، وتبع ذلك تفرق الكلمة بالباطل، وعدم الاجتماع على
نصرة الحق؛ فخلا الجو للأمراء الظالمين والرؤساء الغارِّين، وفسد بذلك على الأمة
أمر الدنيا والدين.
طغوا في الكتاب ففضلوا الأعمى على البصير، وطغوا في الميزان، فاختاروا الظلمات على النور؛ وأخرجوا الأمة من الظل إلى الحرور ، وفقدوا حياة العمل والتعاون فاستمدوا المعونة من أصحاب القبور.
جهلوا آيات الله في الأكوان ، وحكمه في اختلاف الأوضاع والألوان،
ورغبوا عن معرفته تعالى بآياته في الآفاق وفي أنفسهم كما أرشدهم القرآن،
وحاولوا معرفته بنظريات فلسفة اليونان فتماروا بالبيان، وقلدوا في الدليل
والبرهان؛ فكانوا بلا علم ولا عرفان، ولا خشية ولا إذعان؛ وإنما هي دعاوي يلوكها اللسان، وأماني يسولها الشيطان.
وجملة القول أنهم أضاعوا مقاصد القرآن كلها، وإن شئت قلت: أضاعوا
دين الإسلام كله فإن الإسلام هو القرآن وما جاء في بيانه من سنة النبي - عليه
الصلاة والسلام - قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان شيء من أمر دينكم
فإليَّ؛ وإذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه
عن أنس، والأخير عن عائشة، وقال أيضًا:(أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواه مسلم
عن أنس وعائشة.
وقد حرم علينا الخلف الطالح الاهتداء بالقرآن والسنة في أمر ديننا، ولم
يعطونا حرية للعمل في أمر دنيانا، وزعموا أن الدين هو حكم بذلك التحريم،
وبسلب هذه الحرية. فإذا احتجت عليهم بالكتاب والسنة على أن طريقتهم هي
المخالفة للدين؛ قالوا: إنما نحن وإياك من المقلدين. وإذا استدلت عليهم بالعقل؛
قالوا: إنما أنت من الملحدين، ولا يرضيهم إلا اتباع آرائهم وآراء بعض المؤلفين
الميتين. على هذا جرى علماء الرسوم مع الحكام والسلاطين فهدموا ذلك البناء المتين
وما زالوا هادمين، وكذلك أهلك الله من أهلك من الأمم باستبداد الرؤساء المترفين.
ليت هذه الأمة التي نكبت بهؤلاء الرؤساء في دينها ودنياها تعلم ما هي قوتهم
التي يستعينون بها عليها. ليتها تعلم أنها هي قوتهم التي بها يعتزون، وأنها هي
معاولهم التي بها يهدمون، وإنها هي قوتهم التي بها يحتجون، ذلك بأنهم إذا قالوا:
إن وضع كتب الشريعة بصفة سهلة كوضع كتب القوانين بدعة منكرة، قالت العامة: بدعة منكرة. وإن أدى هذا القول إلى استبدال القانون الفرنسي بالشريعة. وإذا
قالوا: إن العلوم الطبيعية والرياضية كفر أو طريق إلى الكفر قالت العامة: هي
كفر وأي كفر، وإن حرمت الأمة بذلك من مجاراة الأمم الحية، وصارت تحت
أقدام الأمم التي يسمونها كافرة فاجرة، فيا ليت هذه الأمة تعلم من أضاع شريعتها
ودينها ومن أفسد عليها أمر دنياها، ويا ليتها تعلم أنهم ما قدروا عليها لولاها.
طال زمن الهدم في هذه الأمة لاتفاق رؤساء الدين مع رؤساء الدنيا عليه،
ولكن قد تباينت الرغائب في هذا العصر لا سيما في البلاد الهندية والعثمانية
والمصرية؛ فقد دخلت في الأمم بعض العلوم العصرية، والأعمال المدنية؛
فانقسمت الأمم إلى قسمين عظيمين: قسم يريد المحافظة على التقاليد والعادات
القديمة باسم الدين، وسلاحه موافقة العامة، وقسم يريد الانسلاخ منها، وأكثر أهله
من الخاصة. وأهم ما استفاد هذا القسم من التعليم الجديد حرية الفكر؛ لذلك تولد من
بين هذين الزوجين قسم ثالث يريد التوفيق بينهما وإقناع الجميع بأن الإسلام دين
الفطرة والمدنية ودين العلم والعقل، والمنار إنما أنشئ لهذه الدعوة وتأييد هذا
الحزب وتنميته، والرجاء بالله أن يكون هذا الحزب هو الفائز والعاقبة له {فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) .
_________
(1)
قال تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ](الحديد: 25) والمراد بالميزان: البرهان العقلي في العقائد والعدل في الأحكام.
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطبة من خطب عمرو بن العاص
منقولة من الجزء الثالث من كتاب أشهر مشاهير الإسلام
رأينا في تاريخ ابن عساكر خطبة نفيسة لعمرو بن العاص من أحسن أقواله،
يوصي بها الناس بالقصد، وعدم السرف، وحسن معاملة القبط، وصرف العناية إلى
خيل الجند بالقيام على تربيتها وسمنها، وغير ذلك من الوصايا الجميلة النافعة رواها
ابن عساكر عن بُحَير بن داخر المعافري قال:
ركبت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة، وذلك آخر الشتاء بعد حمم (كذا)
النصارى بأيام يسيرة فأطلنا الركوع؛ إذ أقبل رجال بأيديهم السياط يؤخرون الناس
فذعرت، فقلت: يا أبت من هؤلاء؟ قال: يا بني هؤلاء الشُّرَط. وأقام المؤذن
الصلاة فقام عمرو بن العاص على المنبر فرأيت رجلاً قصير القامة أدعج أبلج [1]
عليه ثياب موشية (أو موشاة) كأن بها العقيان [2] تتألق عليه وعمامة وجبة ، فحمد الله
وأثنى عليه حمدًا موجزًا، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ووعظ الناس
فأمرهم، ونهاهم فسمعته يحض على الزكاة وصلة الرحم وينهى عن الفضول وكثرة
العيال، وقال في ذلك:
يا معشر الناس إياي وخلالاً أربعًا فإنها تدعو إلى النَّصَب بعد الراحة، وإلى
الضيق بعد السعة وإلى الذلة بعد العز؛ إياي وكثرة العيال، وانخفاض الحال
وتضييع المال، والقيل بعد القال في غير دَرَك ولا نوال، ثم إنه لا بد من فراغ يؤول
المرء إليه في توديع جسمه والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، فمن
صار إلى ذلك؛ فليأخذ بالقصد [3] والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء في فراغه
نصيب نفسه من العلم، فيكون من الخير عاطلاً، وعن حلال الله وحرامه عادلاً، يا
معشر الناس قد تدلت الجوزاء وركبت الشعرى، وأقلعت [4] السماء وارتفع الوفاء
وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرجت السمائم [5] وعلى الراعي حسن النظر. فحي بكم على بركة الله على ريفكم، فتناولوا من خيره ولبنه ومرافقه وصيده ،
وأربعوا بخيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها فإنها جنتكم [6] من عدوكم وبها
تنالون مغانمكم، وتحملون أثقالكم، واستوصوا بمن جاورتم من القبط خيرًا. وإياي
والمومسات [7] المفسدات؛ فإنهن يفسدن الدين، ويقصرن الهمم، حدثني عمر أمير
المؤمنين، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله سيفتح عليكم
بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرًا فإن لكم منهم صهرًا وذمة) فكفوا أيديكم،
وفروجكم وغضوا أبصاركم فلأعلمن ما أتاني رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه [8]
من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك ، واعلموا أنكم في رباط الى يوم القيامة؛
لكثرة الأعداء حولكم، ولإشراف قلوبهم إليكم وإلى داركم، معدن الزرع والمال
والخير الواسع والبركة التامة. حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: (إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندًا كثيفًَا فذلك الجند
خير أجناد الأرض) فقال له أبو بكر: ولِمَ ذاك يا رسول الله؟ قال: (لأنهم في
رباط إلى يوم القيامة) . فاحمدوا ربكم معشر الناس على ما أولاكم وأقيموا في ريفكم
ما بدا لكم. فإذا يبس العود، وسحق العمود، وكثر الذباب، وحمض اللبن،
وصوَّح [9] البقل، وانقطع الورد، فحي على فسطاطكم على بركة الله ، ولا يقدمن أحد
منكم على عياله إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطلق من سعته أو عسرته) اهـ.
(المنار)
هكذا كانوا يخطبون الناس يعلمونهم ما به صلاح دينهم ودنياهم،
ويرشدونهم إلى حسن العمل في المعايش، وحسن المعاملة مع الموافق والمخالف،
فليعتبر بهذا خطباء التقليد في هذا العصر إن كانوا يفقهون. و (السمائم) نوع من
الطير: و (السماسم) النمل و (الشعرى) الكوكب الذي يطلع في الجوزاء، وذلك
عند إقبال الحر فهو يقول: ذهب الشتاء وجاء وقت العمل والحرث. والوصية من
النبي وعمر وبالمرابطة في مصر تدل على أن هذه البلاد لا تحفظ من اعتداء الأجانب
إلا بالقوة الجندية الدائمة، فإنها مقصودة من الفاتحين لخيرها وضعف أهلها، ولكن
المسلمين المتأخرين والمتوسطين لم يفهموا ما يؤثر عن الأولين.
_________
(1)
الأدعج: أسود العينيين، والأبلج: المضيء المشرق.
(2)
العقيان: الذهب الخالص.
(3)
أي: بالاعتدال.
(4)
وأقلعت السماء أي: كفت وهو كناية عن انقطاع المطر.
(5)
كذا في الأصل ولعلها: السوائم وهي الماشية.
(6)
الجنة هي: الوقاية.
(7)
العواهر.
(8)
جواب قسم محذوف أكد بالنون الثقيلة، وما: مصدرية؛ أي: فوالله لأعلمن إتيان رجل موصوف بما ذكر وفي طيه من الترهيب البليغ ما لا يخفى، وقد بين بعد جزاء من فعل ذلك بقوله فمن أهزل فرسه إلخ.
(9)
صوح؛ أي: يبس أعلاه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
البعث الجثماني
(س5) عبد الرحيم أفندي محمد القناوي الحسيني بمدرسة الحقوق
بمصر تحادثت مرة مع صديق عن كيفية البعث والنشور ، وهل الحشر والحساب
يكونان بالأجسام التي نحن بها في عالم الدنيا كما جاء في أصول الشريعة، أم بغير
ذلك، فأنكر عليَّ أن الحشر يكون بالأجساد ، وعد ذلك من المستحيلات مستندًا في
رأيه على ما درسه من علوم الطبيعة حيث تقرر بها أن العلم التجريبي أثبت أن
المادة لا تزيد ولا تنقص ولا تنعدم مطلقًا، وأن جميع الكائنات من نبات وجماد
وحيوان تتداخل وتتناسخ، فإذا مات الإنسان وصار رفاتًا تحلل جسمه إلى العناصر
البسيطة الأولية التي يتركب منها كالكربون والأزوت، وقد ذهب بعض علماء
الكيمياء إلى أن الجسم يتركب من سبعين عنصرًا مختلفة، فهذه العناصر التي
يتركب منها الجسم حال وجوده لا تنعدم بعد فقده، وإنما تحلل تحليلاً كيماويًّا،
وينفرد كل عنصر على حدته، ثم يمتزج بما يلائمه من المواد الأخرى، ومن
ذلك تتكون الأسمدة والأسبخة التي تتغذى منها النباتات والأشجار، ومنها يأكل
الإنسان؛ فيتغذى جسمه وينمو، وبهذه الواسطة تتكون الأجسام الحية من
ثمرات البالية المندثرة ، وهكذا تتقدم تلك الأجسام الحية وتتكون منها أجسام أخرى
حتى يأذن الله؛ إذا تقرر ذلك نتج بلا شك أن جثمان أحد معاصرينا مثلاً مركب
من عدة أجسام تحللت ، وقد دخلت في تكوينه بواسطة الطريقة المتقدمة؛ فإذا
سلمنا بأن الحشر سيكون بالأجساد التي نحن بها في الدنيا فكيف يمكن حشر هذه
العناصر إذا جاء يوم الحساب؟ بل كيف يمكن حشر العالم بأجمعه منذ خلق الدنيا؛
لأن المادة الموجودة لا تكفي لذلك؟ فدعتني الحالة إلى تحرير ذلك إليكم؛ لتزيلوا
بفضل علمكم كل شبهة تتعلق بهذا الموضوع، والسلام عليكم.
(ج) إن علم الكيمياء قد قرب بارتقائه مسألة حشر الأجساد من العقل، وأدناها
من التصور حتى صرنا نبحث في كيفيتها بحثًا علميًّا. على أن أمور الآخرة من
عالم الغيب التي يكتفى فيها بالتسليم الإجمالي من غير بحث في الكيفية، وإنما
يشترط فيها أن تكون من غير المحال عقلاً؛ فليس لنا أن نبحث عن كيفية البعث،
ولا عن كيفية الحساب، ولا عن كيفية الجزاء في دار النعيم ودار العذاب متى علمنا
أنها ممكنة.
أما شبهة محادثك التي صورت له البعث بالروح والجسم معًا محالاً فهي واردة
على أقوال بعض العلماء أو أكثرهم؛ إذ زعموا أن البعث إنما يكون بالجسم الذي
عمل به الإنسان أعماله التي يجازى عليها. ولم يرد هذا القول في النصوص
الإلهية؛ وإنما هو شيء استنبطوه بأقيستهم، وفلسفتهم النظرية؛ إذ قالوا: لا يجوز
أن يقع الجزاء إلا على الجسم الذي تلبس بالعمل لئلا يكون الجزاء على غير العامل.
ويا ليت شعري! ماذا يقول هؤلاء إذا اطلعوا على ما أثبته العلم حديثًا من تبدل
مادة جسم الإنسان في كل بضع سنين مرة؟ ! بمعنى أن الأجسام التي نعيش بها
اليوم ليست عين الأجسام التي كانت لنا قبل هذه المدة. أيقولون فيمن ارتكب ما
يوجب الحد وغاب مدة يثبت العلم أنه قد تحلل فيها كل جسمه الذي زاول به ذلك
العمل السيء أنه لا حد عليه، ولا جزاء؛ لأن الجسم الذي عمل قد ذهب وحل
محله جسم آخر؟
إن الدين قد أثبت أن للناس حياة أخرى بعد هذه الحياة، وإنما الناس خلق
مركب من جسد وروح؛ وسيكونون في الحياة الثانية ناسًا كما كانوا في الحياة
الأولى؛ إلا أن تلك الحياة أرقى من هذه الحياة للراقين، وأسفل منها للمتسفلين.
فمن عرف ما هو الإنسان بحسب العلم الحديث سهل عليه أن يقبل هذا الاعتقاد؛ لأنه
يعلم أن الحياة صفة لازمة للروح وأن ظهور الأرواح في الصور المادية هو الذي
يعطي المادة الحياة، وبهذه الحياة تأخذ من عناصر الطبيعة ما يكون ممدًّا للجسم
الذي تظهر فيه ، وعوضًا عما يتحلل منه ويندثر كل آن، وبها يكون الجديد كالقديم
في وضعه، وصفاته الصورية والمعنوية بحيث لا يكون الإنسان المعين بتحلل جسمه
الأول وحدوث جسم جديد له إنسانًا آخر.
وإذا فهمنا هذا نفهم أنه لا يشترط في تحقق الحياة الثانية أن تكون مادة الجسم
هناك عين مادته هنا مادة ثابتة مستقرة بذاتها وعينها، وإنما هي مواد معينة بالتعيين
النوعي دون الشخصي؛ فالعناصر البسيطة لا تشخص في أجزائها ما يميز جزءًا عن
جزء، وإنما هي كالثياب تتجدد على كل حي ويبق هو هو {وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا
تَعْلَمُونَ} (الواقعة: 61) .
والقول بأن كل جزء من أجزاء العناصر دخل في بدن إنسان لا بد أن يعود بعينه
في الآخرة إليه فلسفة باطلة، وهو محال كما قال محدث السائل؛ لأن هذه الأجزاء
كما دخلت في بدن زيد دخلت في أبدان الألوف وألوف الألوف من الناس والحيوان
والنبات؛ ولأن هذا القول يقتضي أن يكون كل شخص في الآخرة كبير الجرم جدًّا
إلى درجة لم تخطر على بال أحد، حتى الذين قالوا: إن طول الإنسان في الجنة يكون
ستين ذراعًا.
ولا يقال: إن مادة الأرض لا تكفي لأجسام جميع من عاشوا عليها إذا عادوا
كلهم أحياء في ذلك اليوم الآخر؛ لأن الحياة الأخرى ليست على هذه الأرض وإنما
تكون {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَات} (إبراهيم: 48) وإنما يكون
خراب العالم باصطدام الأرض بأحد الأجرام السماوية، ثم بانتثار الكواكب
ورجوعها هباء (أو سديمًا) كما كانت قبل هذا التكوين {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجاًّ *
وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَساّ} (الواقعة: 4-5) أي: تفتت {فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثاًّ} (الواقعة:
6) ، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} (الانفطار: 1-2) وفي
معنى هذه الآيات آيات كثيرة فالنشأة الآخرة تكون في كوكب أو عالم أكبر من هذا
العالم، والأرواح الخالدة تأخذ منه مادتها؛ ويكون الناس هم هم كما يتبدل جسم
الإنسان في الدنيا عدة مرات ويبقى هو هو في عقائده وأخلاقه وعاداته، والله أعلم
وأحكم.
* * *
علم الغيب للأنبياء
ومسألة كتابة عمر للنيل
(س6 و7) الدكتور نصر أفندي فريد بالمنصورة: جمعنا مجلس
علمي تناقشنا فيه مع أحد أفاضل الأزهريين إذ تنبأ أن المحكمة ستبرئ متهمين في
قضية ، فقلنا له: لا يعلم الغيب إلا الله. فقال: إن لي حجة في قوله تعالى: {إِلَاّ
مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 27) قلنا: لست برسول. فقال: يقصد
برسول هنا في اللغة ما يعم، لا النبي المرسل المصطلح عليه فقط. فحاججناه فلم
يقتنع ، ثم دار بنا الحديث على مسألة كتابة عمر رضي الله عنه ورقة للنيل في
مسألة الفيضان المعلومة. فقلنا له: إنها خرافة وثنية مخالفة للدين ، وقد كنا قرأنا
ذلك في مناركم الأغر لكننا لم نعثر عليه الآن فنرجو نشر ذلك مع الفتوى في
مناركم الأغر إحقاقًا للحق وإزهاقًا للباطل حتى لا تعم هذه الخرافات التي أضرت
بالدين الحنيف.
(ج) قوله تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَاّ مَنِ
ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) يراد بالرسول فيه: النبي المرسل المبلغ
عن الله تعالى دينه بدليل قوله تعالى في الآية التي بعد هذه: {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا
رِسَالاتِ رَبِّهِم} (الجن: 28) فقول الأزهري: إن لفظ الرسول هنا عام يشمل
النبي المرسل وغيره باطل لا وجه له ويا ليتكم سألتموه عن هذا العموم اللغوي أيدخل
فيه كل رسول أرسله إنسان في حاجة له أم يشمل بعض رسل الناس دون بعض؟
وما معنى العموم حينئذ؟ وإننا لنعلم أن كثيرًا من الذين أخذوا بعض قشور العلم
يحرفون كل كلام حتى كلام الله تعالى ليؤيدوا دعاويهم أمام الناس ، وأن هذا من أكبر
أبواب الفساد الذي طرأ على العلم والدين ، ولكنهم كانوا يحرفون ويأولون ما يحتمل
ذلك بحسب اللفظ في الجملة. وما رأينا أحدًا تجرأ مثل أزهريكم على تحريف
القطعي تفسيرًا للقرآن برأيه وهواه نعوذ بالله ، ولو صح أن يكون مثل هذا رسولاً
لما كان ممن ارتضى الله.
ثم إن المراد بالغيب الذي يظهر الله من ارتضى من رسله عليه هو: عالم
الآخرة فقد أظهرهم على أمر الحساب والجزاء، وأعلمهم بأن هناك دارًا للنعيم، ودارًا
للعذاب وأطلعهم على عالم الملائكة
…
إلخ، ما أبلغوه من رسالات ربهم كما هو
منصوص في الكتاب العزيز، وليس معناه أن الله تعالى يطلع الرسل على ما غاب من
أمر العباد وما يجري لهم في الدنيا من رزق ونعيم وبلاء وغير ذلك، والدليل على أن
هذا غير مراد ما أمر الله تعالى خاتم النبيين أن يبلغه للناس عن نفسه بقوله: {وَلَوْ
كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) وما حكاه أيضًا عن غيره من رسله، كقوله عن لسان
نوح عليه السلام: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي
مَلَكٌ} (هود: 31)
…
إلخ، وأمر نبينا بمثل هذا في سورة الأنعام.
وأما مسألة النيل فقد كان من وثنية قدماء المصريين الاعتقاد بأن النيل مقدس أو
إله، وأن عمر بن الخطاب عليه الرضوان أبطل خرافة إلقاء البنت العذراء فيه كما
نقل، والقصة مبسوطه مع تأويلها في مجلد المنار الثاني فلتراجع في مبحث الكرامات
المأثورة (ص 550) .
* * *
البدعة الدينية والبدعة الدنيوية
(س 8) ا. ش. التتاري بروسيا: إيش معنى البدعة والمحدثة في قول
النبي صلى الله عليه وسلم: (وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في
النار) ومعنى السنة الحسنة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة
حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها) ؟ وقد قسم بعض العلماء البدعة إلى حسنة
وسيئة وبعضهم يقول: إن كل بدعة سيئة، وضلالة كما في الحديث والمراد من السنة
الحسنة الشيء الآخر فكيف العمل دام فضلكم؟
(ج) كل ما أحدثه الناس في أمر الدين ولم يأخذوه من كتاب الله أو سنة
رسوله المبينة لكتابه فهو بدعة سيئة وضلالة يستحق متبعها العقوبة في النار، وإن لم
يصح في الحديث زيادة: (وكل ضلالة في النار) فقد أتم الله الدين وأكمله فمن
زاد فيه كمن نقص منه كلاهما جان عليه وغير راض بما شرعه الله، وأعني
بالدين هنا: مسائل العقائد والعبادات والحلال والحرام دون الأحكام الدنيوية التي
فوض الشرع أمرها إلى أولي الأمر ليقيسوها على الأصول العامة التي وضعها
لها. ذلك أن الجزئيات لا تنحصر فيحددها الشرع؛ بل تختلف باختلاف العرف
والزمان والمكان؛ فمن ابتدع طريقة لتسهيل التعامل أو التقاضي غير ما كان
عليه السلف؛ وكانت نافعة غير منافية للأصول الشرعية العامة كبعض نظام
المحاكم الجديد؛ كان له أجر ذلك.
وأما ما يعتقد في الله واليوم الآخر ، وما يتقرب إلى الله تعالى به من العبادة فهو
لا يختلف ولذلك لا يقبل رأي أحد فيه ، بل يؤخذ كما ورد عن الشارع من غير زيادة
ولا نقصان، وإننا لنعجب من الذين زادوا في العبادات أحكامًا وأذكارًا، وأورادًا كيف
غفلوا عن تقصير الناس في القيام بما ورد فقاموا يطالبونهم بأكثر منه ، وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأعرابي الذي حلف أنه لا يزيد على ما فرض الله
عليه شيئًا ، ولا ينقص منه شيئًا:(أفلح الأعرابي إن صدق) وهذه أذكار
القرآن وأدعيته لا نكاد نرى مسلمًا من أهل الأوراد يدعو بها كلها، فهل كانت أدعية
شيوخهم المخترعة خيرًا منها؟ على أن الدعاء بغير ما ورد لا يعد بدعة إلا إذا كان
مخالفًا لما ورد، أو كان معه بدعة أخرى كاتخاذه شعارًا دينيًّا والتزامه في مواقيت
معينة.
وأما السنة الحسنة والسنة السيئة في الحديث الآخر فهي تشمل كل ما يخترعه
الناس من طرق المنافع والمرافق الدنيوية أو طرق المضار والشرور ، فمن اخترع
طريقة نافعة؛ كان مأجورًا عند الله تعالى ما عمل الناس بسنته، وله مثل أجر كل
عامل به؛ لأنه السبب فيه، وكذلك حكم مخترعي طرائق الشرور والمضار،
كالضرائب والغرامات والفواحش عليهم وزرها ما عمل الناس بها كما تقدم، ونظن أن
قد سبق لنا الإلمام بهذا المعنى ، وقد أوضحناه أتم الإيضاح في كتابنا (الحكمة
الشرعية) فعسى أن نوفق لطبعه.
وقالوا: بدعة حسنة وبدعة سيئة وهو يصح في البدعة اللغوية أو الدنيوية،
ومن قال من العلماء: إن البدعة لا تكون إلا سيئة أراد البدعة الشرعية - أي:
الابتداع في الدين - وقد ذكر نحو هذا ابن حجر في الفتاوى الحديثية.
* * *
كيفية زيارة قبور الصالحين
(س 9) محمد أفندي صدقي بزفتى طالعنا ما نشرتموه في شأن البدع التي
تحصل عند زيارة مقامات الأولياء مما تكافئون عليه من الله بأحسن الجزاء،
ونسأل الله أن يوفقكم إلى تربيتنا وهدينا إلى سواء السبيل، ونرجو أن ترشدونا إلى
ما يحسن اتباعه عند زيارة هذه المقامات خصوصًا مقامات آل البيت ولكم الشكر.
(ج) لم يرد في الكتاب ولا السنة التي يحتج بها شيء في زيارة قبور
الصالحين خاصة ، بل كان النهي عن زيارة القبور في أول الإسلام مقصودًا به إبعاد
المسلمين عن مظنة تعظيم قبور الصالحين، ولما أذن النبي بعد ذلك بالزيارة
للرجال ، وعلل ذلك بأنها تذكر بالموت أو بالآخرة ظل ينهى عن تشريف
القبور وبناء المساجد عليها، وعن الصلاة بالقرب منها ، وعن إيقاد السرج عليها
وكان يلعن فاعلي ذلك ، وقال في بعض هذه الأحاديث: (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا
…
إلخ) كما في مسند أحمد وصحيحي
البخاري ومسلم وغيرها من الكتب. فعلم من هذه الأحاديث أن زيارة قبور الصالحين هي مظنة الفتنة وتعظيم ما لم يأذن الله بتعظيمه، لا سيما إذا كانت هذه القبور
محاطة بالبدع كبناء المساجد عليها ، وإيقاد الشموع عندها، والصلاة بالقرب منها،
والتمسح بأحجارها ونحاسها، والتماس الخير ودفع الشر منها بالاستقلال أو
الواسطة. فهذه البدع والمنكرات تجعل زيارة قبور الصالحين دون زيارة سائر
القبور التى تقل عندها المنكرات إلا إذا كان من يحضر عند تلك القباب والمساجد
يأمر بالمعروف وينهى عن كل منكر يراه. فإن كان لا يفعل هذا فأي فائدة له من حمل حرمة السكوت على المنكرات الكثيرة لأجل فائدة الزيارة التى لم تفرض عليه ، ولم تسن له، ولم تعهد من الصحابة عليهم الرضوان، وغاية ما فيها أن النبى صلى الله عليه وسلم أذن بها لأجل الاعتبار بعد النهي والمنع، والأمر الوارد على منهي عنه يفيد الإباحة وأكثر ما فيه أن يقال: هو مستحب إذا خلا من
كل منكر.
على أننا مع العلم بهذا كله قد اهتدينا لحكمة ومنفعة خاصة لزيارة قبور
المعروفين بالعلم والصلاح، وبيناها فى المنار من قبل، وهى تذكر تاريخهم
وسيرتهم الحسنة، وما يبعث فى النفس حب التأسي بهم فى طاعة الله، وخدمة الحق،
وخذلان الباطل، وهذا المعنى هو المراد من قول بعض العلماء: إن فى زيارة قبور
العلماء العاملين والصالحين بركة، فإن البركة هي الزيادة، والزيادة لا بد أن تكون
فى شيء مزيد فيه، ولا شيء في مقام الزيارة موضع للمزيد إلا الاعتبار المقصود
من الزيارة شرعًا. ويستحب للزائر أن يسلم ويدعو للمزور، كما ورد فيقف متأملاً
معتبرًا داعيًا مستعبرًا. فهذه هى الزيارة المحمودة، والأحاديث صريحة في أن
الرخصة فى زيارة القبور خاصة بالرجال فلا تجوز للنساء.
* * *
(تشييع الجنازة)
(س10) ومنه: نرجو الإفادة عما يجب اتباعه في تشييع جنازة الميت وهل
يجوز ما هو شائع الآن من قراءة القرآن والأذكار والصلوات وغير ذلك في الشوارع
والأسواق أم لا؟ والله المسؤول أن يبقيكم ويجعلكم خير مرب للأمة آمين.
(ج) الذي يستفاد من الأحاديث الصحيحة أنه يستحب الإسراع بالجنازة،
ويحرم اتباع المصحوبة بنائحة، وقد ذكرنا من قبل أن هذه الأذكار والأشعار والترانيم
التي يصيح بها المسلمون أمام الجنازة مبتدعة، وأنها سرت إليهم من الملل الأخرى ،
وأظن أن أكثر الناس لا يزالون يعرفون هذا فإننا نسمعهم يقولون فى الجنازة التى لا
أصوات معها: إنها على السنة. وإن لكل حالة عبادة تناسبها ولا أفضل لمشيع
الجنازة من التفكر فى الموت وما بعد الموت.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع
حب القوة.. رابطة المدنية
ويظهر أن أول مال تموله الإنسان هو ما أسره من الحيوانات الكثيرة التي سهل
عليه أسرها وتأنيسها؛ أي: جعلها أنيسة غير نافرة ولا عادية. وبهذه الحيوانات التي
طفقت تتناسل وتتزايد في ظل حمايته ورعايته وعنايته قد استغنى أولئك الأوائل
بعض الاستغناء عن الكد في الصيد. فإن الفاطر أوحى إليهم أن يجربوا ألبان
الحيوانات المأسورة فرأوا أن ألبان البعض منها غذاء طيب ساد عن كل شيء ،
ووجدوا بعد هذا أن اللحوم أمر زايد يجنحون إليها إذا ما وجدوا في أنفسهم سآمة من
الألبان.
ولا يبعد أنهم قبل أن يتمولوا هذا المال كانوا يجتزءون بالعشب والحبوب يوم
لا يجدون مصيدًا؛ ولذلك بقوا يحنون إلى بعض الأعشاب التي استطابوها بعد أن
جربوا هذا الغذاء الكافي. وربما كان تخصيص بعض الحبوب والنباتات بالأكل تطلبًا
بوحي وإلهام، ثم اعتادوها دائمًا حتى صاروا يدخرونها؛ ولذلك يجوز لنا أن نظن أن
المال الثاني الذي تموله النوع هو ما اعتاد أكله الإنسان مما تخرج الأرض من نباتها
وحَبها؛ فكأن طفق فريق منهم يجمعونها ويدخرونها، ثم وجدوا حرجًا في جمعها حبة
حبة مثلاً من كل بقعة فرأوا أن يبذروها في بقاع خاصة فحدثت لهم صناعة الحرث
والزرع، ولا تنسوا تلك المدى الصوانية فهي التي نجرت لهم المحراث الذي
يبحثون به في الأرض ليدفنوا به الحبوب ، وهي التي نجرت المدق لاستخراج
الحبوب.
ولما كان المزروع يستدعي الحفظ من الحيوانات طواعم الأعشاب ، وادخار
الحبوب ليوم البذار؛ ليستدعي أماكن يؤمن فيها من البلل الضار بها؛ احتاج الذين
عنوا بهذا المال الثاني إلى الإقامة بجوار الأرضين التي يبذرون فيها، واحتاجوا إلى
اتخاذ بدل عن تلك الأخبية التي لا تقي الحبوب الكثيرة من البلل، فرأوا أن يقلدوا
الغيران، ويتخذوا لهم ولحبوبهم أماكن ثخينة يؤلفونها من الحجر والتراب، أو من
الأعواد والتراب، وليس ببعيد أن يكونوا تعلموا صنعة البناء من الحيوانات الصغيرة
التي تدخر الحبوب كالنمل مثلاً كما تعلموا صنعة النسيج من الحيوانات التي تنسج
كالعنكبوت مثلاً، ولكن الأقرب أن يكونوا تعلموا كل أوائل الأشياء بإلهام من الفاطر
كما أن الحيوانات كلها تعلمت ما تحتاج إليه بحسب خلقتها بإلهام منه - جل وعلا -
ثم عجز هؤلاء الزراع عن أن يتمولوا الكثير من الحيوانات المأسورة؛ لأن
العناية بها تقتضي الرحيل الدائم لأجل تتبع الأرضين التي فيها الكثير من العشب
الطبيعي ، وعجز أولئك الرعاة عن أن يتمولوا الكثير من تلك الحبوب التي تقتضي
الإقامة، والاشتغال بالحرث وتوابعه؛ فانقسم الذين كانوا مجتمعين إلى فريقين: فريق
المتمولين من الحيوانات، وفريق المتمولين من الحبوب. واختار كل من الفريقين ما
مالت إليه نفسه من المال، ودأب يسعى في تنميته والإثراء منه، وبحسب هذا
الانقسام انقسم الوطن إلى قسمين، وطن الرحَّل، ووطن المقيمين. وأصبح كل من
الرحل والمقيمين محتاجين في الحقوق والمعاملات التي بينهم أنفسهم إلى ناموس.
ومحتاجين إلى ناموس آخر في الحقوق والمعاملات التي بينهم وبين الآخرين.
ويمكننا أن نسمي الأول بالسياسة الداخلية، والثاني بالسياسة الخارجية.
وههنا حان لنا أن نأتي القراء بالإشارة إلى أقسام النظامات التي تندرج تحت
تينكم السياستين؛ لتعلموا أن الشرائع كتربية الأخلاق قديمة جدًّا ينتهي قدمها إلى
أوائل المجتمعين من البشر، وذلك لا يعلمه إلا الذي خلق. وبذلك تعلمون قدم عهد
المدنيات التي بسطنا هذا الكلام لتشريح شيء من بنيتها التي عظمت جدًّا. والخالق
أعلم بما سيكون.
فمن تلكم الأقسام نظام المبادلات والمعادلات ، وبدون هذا النظام لا يتم اجتماع
صالح للنمو والأمن والتميز على الحيوانات، وفيه أقسام:
(1)
شريعة البيوع، وهو اللازم العاشر.
(2)
شريعة الإجارات وهو اللازم الحادي عشر.
(3)
شريعة القسمة: وهو اللازم الثاني عشر.
و (4) شريعة القروض والودائع والعواري، وهو اللازم الثالث عشر.
و (5) شريعة الغصب والإتلاف، وهو اللازم الرابع عشر.
ومنها نظام المواريث ، وهو اللازم الخامس عشر، وهذا أيضًا من
الضروري؛ لأنه إذا مات الواحد لابد من أن يأخذ ماله الأحياء فمن هو الأحق بأخذه.
ومنها نظام الجزاء: وهو اللازم السادس عشر فبدون الجزاء يتمادى المعتدي
وينتفي الأمن.
ومنها نظام حماية الضعفاء: وهو اللازم السابع عشر فبدون تي الحماية يؤول
الأمر إلى عدم تكاثر القليلين، وهم إلى ذلك محتاجون.
ومنها نظام المعاهدات الخارجية: وهو اللازم الثامن عشر فبدونه لا يتسنى
لسكان الأرض من البشر أن يستريحوا طرفة عين، ولولاه لما نما البشر ، ولما أخذ
النوع حظه من التميزات، والارتقاء البديع.
ومنها نظام إحداث القوة وهو اللازم التاسع عشر.
وفي هذا أقسام:
(1)
ركز القوة في مركز؛ أي: إقامة الرئيس ونصبه.
(2)
طاعة المرءوسين للرئيس.
(3)
تسليم القوة للرئيس.
(4)
شروط الرئيس والرئاسة والطاعة ، واستلام القوة والتصرف بالقوة،
وحدود كل من المذكورات ومقاديرها.
ومنها نظام وضع النظامات. وهو اللازم العشرون. وما أخرناه في الذكر إلا
لأنه يتأخر حدوثه في المجتمعين؛ لأنهم يضعون النظامات أولاً من غير نظام
فيظهر فيها خلل ما قليل أو كثير؛ فيحتاجون لنظام النظامات، قانون القوانين
ناموس النواميس، شريعة الشرائع.
هذه الشرائع والنظامات، أو هذه اللوازم والمقتضيات هي جُل، أو كل
الأصول التي يخوض في جداول فروعها علماء الأخلاق وعلماء الشرائع. وإن
كنت قد نسيت شيئًا فليس على من قرأ هذا النموذج أن يحصي ما نسيت مع ما
ذكرت.
وكل ما أحصيناه يحتاج إليه الفريق الرحَّل كالفريق المقيمين غير أن الرحَّل
الرعاة بما جمدوا على ذلك المال الواحد ، وبما رضوا من الحياة البسيطة التي لا
زينة فيها؛ بقوا في أمر هذه الشرائع على سذاجة الفطرة أو ما هو قريب منها،
وأما المقيمون فإنهم ما زالوا يتقلبون في الحاجات التي يسوقهم إليها حب الزينة
(الذي يألف المقيمين وينيخ لديهم) حتى توسعوا في الحياة؛ فاحتاجوا أن يتوسعوا
في أمر الشرائع. ويظهر أن هؤلاء المقيمين بعد أن اختاروا الإقامة لأجل زرع
الحبوب وحفظها، وما هو من بابها بدأوا يطلعون بواسطة البحث في الأرض للبذر
فيها على ما في خزائن الأرض مما نسميه (المعدن) وهو المال الثالث ، ثم أخذوا
يصطنعون من المعدن، وبواسطة المعدن مصنوعات كثيرة زائدة وهي المال الرابع.
ولا مجال للظن في معرفة أول معدن اطلع عليه البشر، وعرفوا خاصته
ولكن يمكننا أن نظن أن الإنسان بقي في أبسط الحالات حتى اكتشف سر النار ،
وأنه لم ينفعه شيء من المعادن مثل ما نفعه الحديد؛ لأن الحديد أبو الآلات كلها ،
ففي اليوم الذي عرف الإنسان خاصة الحديد دخل في دور جديد؛ وذلك لأن
اجتماع مائة إنسان مثلاً في أرض واحدة، وتجاورهم في المساكن يقضي عليهم أن لا
يكونوا متحدين في الصنعة لوجوه كثيرة.
منها: أن قواهم البدنية تختلف فمنهم من يستطيع الحرث، ومنهم من لا
يستطيع، أفيترك من لا يستطيع الحرث سدى أم يعمل شيئًا آخر؟ وماذا يعمل؟
ومنها: أن قواهم العقلية تختلف فمنهم من يجد ذهنه أعمالاً غير الحرث، فهل
يجبر على الحرث أم يعمل كما وجد ذهنه؟ وما هو؟
ومنها: أن قواهم القلبية تختلف فمنهم من يقنع بحالة واحدة ، ولا يغرم بالزينة ،
ومنهم من لا يقنع ويكلف بها. أفيموت قهرًا؛ لأنه لم يجد ما يقنعه؟ أم يتفكر
بإيجاد ما يقنعه؟ وما هو؟
ومنها: أن المال الواحد إذا عمل الكل على تنميته؛ نما جدًّا حتى يتعسر حفظه،
أو يصير العمل بتنميته على الدوام مع كثرته الهائلة عبثًا، فهل يشتغلون بالعبث؟ أم
يتفكرون بمال آخر؟ وما هو؟
هذه الوجوه المبينات هي الحاكمة على مائة مجتمعين معًا أن يتفكروا فيجدوا
بأذهانهم ما هي تلك الأشياء المسئول عنها من الأعمال والصنائع اللازمة، وبعد أن
يجدوا بأذهانهم يعمل كل واحد منهم في العمل الذي استعد له بحسب بدنه، بحسب
عقله، بحسب قلبه؛ وإذا كان عشرة من المائة يكفونهم جميعهم الهم في تحصيل
الحبوب اللازمة مع الزيادة، فماذا يصنع التسعون؟ ثم إذا وسعنا هذا المقياس نرى
أن ألف ألف من البشر يكفيهم في الحرث مائة ألف مثلاً فماذا يصنع (900000) ؟
ليس شيء أسهل من أن يقول السامع: يشتغل هذا العدد بصناعات متعددة.
نعم، ولكن بم يصنعون؟ أبأيديهم اللحمية؟ أم بآلاتهم الأولى الخشبية؟ أم بمداهم
الأولى الصوانية؟
لا يسهل الجواب عن هذا إلا من بعد معرفة خاصة الحديد والاستفادة منه ،
فإنه في ذلك اليوم الذي عرف فيه الحديد تعددت المصانع، فاتسعت المزارع،
فتوفرت المتاجر، فتعظمت الشرائع.
وإننا لنعلم أنه ليس لأحد غير الخالق علم بكل ما تقلب فيه الإنسان من
الأطوار لا سيما التي في بدء أمره، ولكن جرأنا على هذه الظنون اعتقادنا أن هذا
النوع لم تخلق له كل العلوم والصنائع التي نراها اليوم مثلاً يوم خلق، وحملنا
عليها اعتقادنا أن الاجتماعات العظيمة في النوع إنما كانت على التدرج ، واعتقادنا
أن لكل اجتماع خواص تقتضي ظهور أمور جديدة، فتتبعها تلك المقتضيات وتظهر
بسرعة أو بطء على قدر الاقتضاء.
على أننا إذا لم نجل الخاطر فيما جرى للأولين لا يكمل تفقهنا في أحوال
الحاضرين، ولا نكون قد أخذنا لأنفسنا حظًّا من لذة النظر في مرائي الكون
الإنساني التي تتجلى فيها الصور على أنحاء شتى بعضها في نظرنا أجمل من
بعض، ولاحَظَّ من فائدة التفكر لوجدان أسباب معقولة لمسببات محسوسة، ووجدان
حلق مجهولة تتصل بها الحلق المعلومة.
نحن اليوم في قرى ومدن، وبين أيدينا ما لا يحصي من مزارع ومصانع
ومعادن وحيوانات، ونحن اليوم جماعات كثيرة بعضنا لبعض عدو، وبعضنا
لبعض ظهير، أفخلقنا هكذا؟ أم أوصَلَنَا إلى هذا الحاضر ماضٍ طويل؟ أجيِّد لنا
هذا الحاضر؟ أيوجد أجود منه؟ هل الأجود في الحاضر؟ إن كان في الماضي فما
محاه؟ إن كان في الآتي فكيف يأتي ومتى؟
يا إخوان القراءة ألا تخطر في بالكم هذه الأسئلة؟ ألا تهيئ شئون هذه الحياة
الاجتماعية الملفقة من لبنات متعددة الألوان؟
وكيف يمكننا الجواب عنها إذا لم نجل الخاطر يمنة وشمالاً في التقلبات
الماضية؟
من أجل ذلك تكلمنا في (رابطة القومية) على نبذة من ماضي الإنسان في
تناسله وتقاربه وتباعده حتى بينا أن تلك الرابطة نافعة غير أن نفعها أبتر، وأنه قد
ينقلب نفعها ضررًا؛ إذا قاومت بأحكامها ما هو أنفع منها ، ثم تكلمنا في (رابطة
الدين) على نبذة من ماضي الإنسان في احتياجاته للمصطفين الأخيار الذين يوحى
إليهم أن يعلموا البشر أعظم أركان الحكمة، وأصل الأصول في مصلحة النفس في
انفرادها واجتماعها ، وبينا فوائدها في شئون نظام الاجتماع من حيث هو.
وبالجملة قد بينا في الاثنتين الأسباب التي تدعو إليهما، والنتائج التي تنتج
منهما ، وبديهي لمن قرأ أنهما كلتيهما لم تنتج عنهما وحدهما هذه البزة الحاضرة
للبنية الاجتماعية. أفلا يقال: ما أحدثتها؟
إن أقل: إنما أحدثها (حب الزينة) و (حب التميز) ؛ فما كان الصواب
ليعدوني في هذه القولة، وقد قلتها من قبل في مناسبة أخرى، ولكن هل يكفي حب
الشيء في تحصيله من غير آلات؟ إن ذلك لم يكن قط. فالآلات التي تحصل
للنوع (أفرادًا ومجموعًا) ما به الزينة - على حسب اعتبار كل - وما به التميز (على حسب تصور كل) هي أعضاء هذه البنية. وحب الزينة وحب التميز روح
حركتها. والنظام الناموس، القانون، الشريعة، المنهاج روح تَعَظُّمِها وتكملها
وانبساطها.
ونسمي المجموع (رابطة المدنية) أو (رابطة الوطنية) و (رابطة
الاجتماع) أو (رابطة الحكومات) ، وقد اخترنا الأول واقتصرنا عليه؛ لأنه أظهر
دلالة بحسب اللغة والاصطلاح والحقيقة. وللكلام في هذه الرابطة التي تحدث قوة
كبرى للأمم المجتمعة نحرر هذه النبذة، وقدمنا بين يديها هذا التمهيد عسى أن يكون
موقظًا للتفكر؛ فإنما يسطع العلم في الأفكار المتهيئة.
(لها بقية)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(ع. ز)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: أحد علماء الشيعة الأماجيد
تقريظ المنار ورسالة التوحيد
لأحد علماء الشيعة الأماجيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه، وسيد أنبيائه ورسله
وعلى آله، وصحبه أجمعين.
لَمْ أكن منذ تصديت لاكتساب المعارف، والنظر في علوم الدين أرغب في
الاطلاع على جريدة، أو صرف مدة في إمعان النظر في مجلة لما انغرس في
فكري من قلة الفائدة بذلك، وتضييع الوقت حتى ملأت مسمعي ضوضاء المجلات
وتعرضها للدين. كل على حسب أغراضه ودواعيه فتاقت نفسي لمطالعة بعضها
وتفريغ وقت لتسريح النظر فيها، وأولها وقع في يدي كراريس وصحف متفرقة من
مجلة الإسلام في عصر العلم فأعجبني من منشئها الفاضل الحمية للإسلام، وعلو
همته، وتعلقه بأمور عالية يعم نفعها، وتكثر حاجة الوقت إلى بسطها ونشرها،
ونسأله تعالى أن يمده بسعة الباع، وكثرة الأعوان، وعوز الاطلاع، وقد رأيته
يدور حول مركز لا يعدوه، ويقرع بابًا ربما يفتح له إن أدمن، وإلا فحسبه ثواب
حسن النية، ولكل امرئ ما نوى، وقد انقطع صوته عني منذ برهة. وعسى أن
تفتح له أبواب مقاصده، ويتسع عليه مجاله، وتزول العوائق عن سير مجلته،
وينفع الخاصة والعامة بما يهتدي إليه ويهديه للأمة من دواء دائها العضال.
ومنذ أيام أتحفت بالمجلد الخامس من مجلتكم الغراء حسنة هذه الأيام، ونتيجة
سعد هذا الدور (منار الإسلام) بل النور الساطع في كافة الأنام، والماحي بلألائه
حنادس الظلام، ولا بدع إذا انبثق من فرع زيتونة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه
نار، وغصن شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومن طابت أرومته وزكت
جرثومته ، فهو الجدير بأن يحلو جناه، وتعرب عن طيب أصله أقواله وسجاياه.
مما استعذبته - وكلها عذب سائغ - تأليفكم بين فرق الإسلام، ورفع الوحشة
التي نشأت عليها أحداث الأمة في الأعصر الأواخر، وفشت بين العامة والخاصة
حتى فتت في عضد الاجتماع، وحلت عرى الارتباط ، وخيل للسواد أن لا جامع
ولا رابط، وأن البون بعيد المسافة، والقرن مبتول ومنفصم، وجعلوا لكل فرقة
نبزًا تمتاز به، ونسبة تنحاز إليها، وما هي إلا فتنة ألقحها من الماضين حب تشتت
الرأي في ذوي الآراء، وإلجائهم للمناظرة واستحكام شبهة للبعض، حتى أصر كل
على رأيه، ولم يكن في شيء من دعائم الدين، ولا في الضروريات من أصوله،
ولا في أمهات فروعه، أترى فيهم حاشاهم من يشك في التوحيد، أو ينازع في
النبوة أو يخالف في المعاد، أو يتأمل في وجوب الصلاة ، أو ينتظر في افتراض
الزكاة ، أو يناقش في الحج، أو يثبط عن حفظ بيضة الإسلام وحوزته؟ كلا،
وإنما ذاك في أمور، وربما يعذر المخطئ بها بل يؤجر بعد الاجتهاد، وبذل الوسع
والطاقة في النظر بالمقدمات التي يتوقف عليها البرهان، وإتقانها وأحكامها حسب
الجهد والإمكان {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) وما هو إلا
كاختلاف الأئمة - رضوان الله عليهم - (الذي هو رحمة للأمة) في فروع لم تعلم
من نص الكتاب ولا من السنة المتواترة، ولا من إجماع الأمة والأصحاب. على
أن ذلك في الكثير يسير، وفي الباقي لفظي يئول إلى الوفاق في المقصد، والاتحاد
في المراد، وإن اختلف التعبير.
وحسبك في ذلك ما يقتبس من رسالة التوحيد لأستاذ الكل ووحيد هذا العصر
أو من نظيره قل ، عليم العلوم الذي عم مده، الشيخ محمد عبده كثر الله في الأمة
أمثاله، وزاد بين الورى إعظامه وإجلاله، فكم له فيها من حز أصاب المفصل
ورمية لم يخط بها الغرض، وإن خفي على المتأمل، وتحقيق كشف به الحُجَّاب
لأولي البصائر والألباب، ولم يدع بعده عذرًا لمنكرٍ ولا مرتاب ، وحاشا أن تخلو
الأرض من عامل يعمل فيها بخير وهدى، وداع يدعو فيها إلى طريق نجاة ورشاد
للورى، فكم دافع عن الإيمان بلسان أمضى من السنان، وعن الإسلام بأقلام أمض
وقعًا في الكفر من مريشات السهام، وعن الحنيفية البيضاء بمسود مداد أقطع من
البيض الحداد، أوضح مع الإيجاز أدلة التوحيد بعد إثبات الواجب بما لا يطلب
المتأمل بعده من مزيد ، وجال جولة في بيان ما يمكن الوصول إليه من الصفات -
أغنى بها المنصف عن اللجاج والتعرض للهلكات - وأوجز في صفتي الكلام
والبصر ما فيه البلاغ والعبر، وتكلم في أفعاله تعالى بما يسبق إلى القلوب اعتقاده،
وألف بين الفريقين كما هو حري أن يتبع، وقرب ما توهم استبعاده، وسلك في
الجبر والاختيار جادة الاعتدال، ومال في مبحث حسن الأفعال إلى أحسن الأقوال،
وبسط القول في النبوة والرسالة حتى أوضح الحق وقمع الجهالة ، وألف في مبحث
الرؤية بين الفريقين، ورفع الوحشة، وأزال النزاع من البين ، وذلك الفضل من الله
يؤتيه من عبادة من يشاء ، ويمنحه من سبقت له العناية فيه منذ فطر الأشياء؛
فجدير بمصر أن تفتخر بمن فيها من أفاضل العصر ، وحقيق بحملة العلم في كل
قطر أن ترفع أيدي الابتهال لعزة ذي الجلال بالدعاء لكم بدوام التأييد والمجد ،
والتوفيق لنصرة الدين، وإيضاح الحق، ودحض الباطل، وإرشاد الضال ، وجمع
الكلمة وإحكام الألفة بين المسلمين. إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير آمين آمين.
(لها بقية)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(ع. ز)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: حافظ إبراهيم
الفتاة اليابانية والحرب
لا تلم كفي إذا السيف نبا
…
صح مني العزم والدهر أبى
رب ساع مبصر في سعيه
…
أخطأ التوفيق فيما طلبا
مرحبا بالخطب يبلوني إذا
…
كانت العلياء فيه السببا
عقني الدهر ولولا أنني
…
أوثر الحسنى عققت الأدبا
إيه يا دنيا اعبسي أو فابسمي
…
لا أدري برقك إلا خلبا
أنا لولا أن لي من أمتي
…
خاذلاً ما بت أشكو النوبا
أمة قد فت ساعدها
…
بغضها الأهل وحب الغربا
وهي والأحداث تستهدفها
…
تعشق اللهو وتهوى الطربا
لا تبالي لعب القوم بها
…
أم بها صرف الليالي لعبا
ليتها تسمع مني قصة
…
ذات شجو وحديثًا عجبا
* * *
كنت أهوى في زماني غادة
…
وهب الله لها ما وهبا
ذات وجه مزج الحسن به
…
صفرة تنسي اليهود الذهبا
حملت لي ذات يوم نبأ
…
لا رعاك الله يا ذاك النبا
وأتت تخطر والليل فتى
…
وهلال الأفق في الأفق حبا
ثم قالت لي بثغر باسم
…
نظم الدر به والحببا
نبأوني برحيل عاجل
…
لا أرى لي بعده منقلبا
ودعاني موطني أن أغتدي
…
علني أقضي له ما وجبا
نذبح الدب ونفري جلده
…
أيظن الدب أن لا يغلبا
قلت والآلام تفري مهجتي
…
ويك ما تصنع في الحرب الظبا
ما عهدناها لظبي مسرحا
…
يبتغي ملهى به أو ملعبا
ليست الحرب نفوسًا تشترى
…
بالتمني أو عقولا تستبى
أحسبت القد من عدتها
…
أم ظننت اللحظ فيها كالشبا
وتقحمت الردى في غارة
…
أسدل النقع عليها هيدبا
قطبت ما بين عينيها لنا
…
فرأيت الموت فيها قطبا
جال عزرائيل في أنحائها
…
تحت ذاك النقع يمشي الهيدبى
فدعيها للذي يعرفها
…
والزمي يا ظبية البان الخبا
فأجابتني بصوت راعني
…
وأرتني الظبي ليثًا أغلبا
إن قومي استعذبوا ورد الردى
…
كيف تدعوني أن لا أشربا
أنا يابانية لا أنثني
…
عن مرادي أو أذوق العطبا
أنا إن لم أحسن الرمي ولم
…
تستطع كفاي تقليب الظبى
أخدم الجرحى وأقضي حقهم
…
وأواسي في الوغى من نكبا
هكذا (الميكاد) قد علمنا
…
أن نرى الأوطان أما وأبا
ملك يكفيك منه أنه
…
أنهض الشرق فهز المغربا
وإذا مارسته ألفيته
…
حوَّلا في كل أمر قلبا
كان والتاج صغيرين معًا
…
وجلال الملك في مهد الصبا
فغدا هذا سماء للعلا
…
وغدا ذلك فيها كوكبا
بعث الأمة من مرقدها
…
ودعاها للعلا أن تدأبا
فسمت للمجد تبغي شأوه
…
وقضت من كل شئ مأربا
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محمد حافظ إبراهيم
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(الخلافة أو الترك والعرب)
ما رأينا جريدة بينها وبين مشرب صاحبها من البون مثل ما نراه في جريدة
الجوائب المصرية فإن صاحبها خليل أفندي المطران لا يرى منه جليسه إلا الأدب
والذكاء، ونبذ التعصب والتحمس الديني ، ولكنه يرى من جريدته أحيانًا ما يخالف
هذه المزايا. ذلك أن هذه الجريدة كانت أيام فتنة بيروت نارًا تتلظى من التعصب
على المسلمين ، ولو كانت منتشرة في سوريا لما خمد لهيب الفتنة إلى اليوم، وإلى ما
شاء الله تعالى.
والشاهد المقصود لنا بالذات ما كتبه في مسألة (دعوى الخلافة) التي ناقشنا
فيها جريدة ترك الغراء. إذ ادعت أن العرب في جميع البلاد وسائر الشعوب
الإسلامية تحسد الترك على لقب الخلافة ، ويدعي كل منها أنه أحق بالخلافة من
الترك ، وإذ قامت تفاخر هذه الشعوب بتفضيل الترك عليهم ، ولمَّا كنا على علم
يقيني بأن النداء باسم الجنسية والتفاخر بها والتعصب لها مما لا يبيحه دين الإسلام،
ومما يفرق كلمة المسلمين ويجعل بأسهم بينهم شديدًا؛ أنكرنا على رصيفتنا هذه
الخطة ، وأكدنا لها القول بأنه لا يوجد إسلامي يفكر في منازعة الترك السلطة لأجل
لقب الخلافة ، وأن العرب في الحجاز ونجد والشام ومصر وغيرها من الأقطار
يتمنون لو تدوم سلطة الدولة العثمانية مؤيدة بالقوة والعدل ما دامت الأرض والسماء ،
وأنه لا يضر هذه السلطة شيء مثل المفاخرة بالجنس التركي واحتقار سائر
الشعوب الإسلامية لإثبات فضله عليها. وقد قلنا: إن جميع من لقيناهم من كبار
رجال الترك الفضلاء قد وافقونا على اعتقادنا هذا.
فتطفلت جريدة الجوائب المصرية على الجريدتين الإسلاميتين ، وافتاتت علينا
بالحكم ، فكتبت في العدد الـ 354 الصادر في 12 المحرم نبذة افتتحتها بقولها:
(تشغل الخلافة أفكار المسلمين في جميع الأقطار لكثرة ادعاء الملل الإسلامية بها
فالعرب والترك يتزاحمون عليها) إلخ ما قاله مناقضًا لقولنا في الرد على جريدة
(ترك) .
وقد جعل ملة الإسلام الواحدة مللاً متعددة فكنا نداوي علة اختلاف الجنس
بمرهم الاتحاد الملي ، فحكمت علينا جريدة الجوائب المصرية الغراء بأنه ملل
متعددة لا ملة واحدة ، فما هذا الافتئات؟ وما هو الغرض منه يا ترى؟
ومن العجب أن هذه الجريدة على تحكمها قد تبرأت من التحكم ، وزعمت أن
كلامنا ومناقشتنا تنتج التفريق الضار بجميع الأمم الشرقية فانتحلت لنفسها القصد
الذي دفعنا إلى الكلام ، وكلامها ينتج نقيضه إذ أثبتت أن التنازع بين الترك والعرب
واقع بالفعل ، فإذا صدقها الشعبان فإن كلاًّ منهما يعتقد أن الآخر خصمه ، وإنما
نحاول نحن إقناع الفريقين بأن هذا التنازع وهمي أو خيالي لا وجود له إلا على
ألسنة أفراد من المنافقين.
ثم استدلت الجريدة على أن الترك أحق من العرب بالخلافة بدليل يثبت نقيض
المدعى ، وهي أبلغ المطاعن في السلطان عبد الحميد قالت: (لا بأس أن نذكر
كلمة تنسب لجلالة السلطان الأعظم عبد الحميد فقد أوصل إليه بعض المقربين
لجلالته صوت تشكي الحجاج عمومًا من عون الرفيق باشا شريف مكة، وظلمه
واستبداده الفائقي التصور والحد طمعًا بأن يصدر جلالته إرادته السنية بعزله وتعيين
خلف له ، فدرى جلالته بالغرض من التشكي وقال: إنني لا أعزل عون الرفيق
باشا ولن أعزله كل حياتي ، بل أتركه عبرة ومثالاً للذين يستثقلون ظلم خليفة الترك
لأريهم كيف يكون ظلم خليفة العرب) اهـ كلام الجوائب المصرية بحروفه.
فهذه الجريدة تريد أن تقنع قراءها من العرب بأن ظلم الشريف الذي يشكون
منه مع غيرهم إنما هو جزء من ظلم السلطان التركي؛ لأنه على قولها قد أقامه هناك
ليظلم، ولن يردعه عن ظلمه في الحرم لغرضه السياسي في ذلك، وكل الناس يعلمون
أن أمراء مكة يربون في الآستانة على ما تحب الدولة العثمانية وترضى ، وأنهم
عمال للحكومة العثمانية، فإن أساءوا وظلموا فالإساءة والظلم ينسبان إلى من ولاهم
وأقرهم على ظلمهم
ومن يربط الكلب العقور ببابه
…
فكل بلاء الناس من رابط الكلب
هذا ما تنشره هذه الجريدة ، وأصحاب جريدة ترك الفضلاء يطبعون جريدتهم
في مطبعتها فيعلمون ما هنالك ، ولا يردون عليها، ولا يدافعون عن جنسهم وسلطانهم
إلا الأوهام التي يسندها الجواسيس ودعاة الفتنة إلى العرب فحسبنا الله ونعم الوكيل.
كتبنا هذه الكلمات بمداد الثأثر مما كتبت جريدة الجوائب الغراء، ويغلب على
ظننا أن هذه النبذة المردودة ليست من قلم صاحب الجريدة، ولا اطلع عليها قبل
نشرها لما لنا من حسن الظن بقصده وأدبه ، فعسى أن نرى فيها بعدما يحقق حسن
ظننا.
عرف قراء المنار أن من منهجه الدعوة إلى الوحدة ، والنهي عن الفرقة،
والتسليم لذوي السلطة ، وقد كتبنا في السنة الأولى مقالات في الخلافة والخلفاء مثلنا
فيها تاريخ الإسلام ومناشئ علله وأمراضه من هذه الجهة كما مثلناها في مقالات
أخرى في العلماء والمرشدين ، وقد قلنا في فاتحة المقالة الأولى ما نصه: (كما في
العدد (33 ص 257) :
(ليس من غرضنا في الكلام على الخلافة بيان شرطها وانطباقها على القائم
في مقام الخلافة الآن أو عدم انطباقها ، فإن هذه المباحث إنما يأتيها أرباب
الأغراض الدنيوية، بل الأمراض الروحية الذين يثيرون رواكد الأوهام، ويسرون في دياجير الظلام ، ونقول قبل الدخول في المبحث: إن كل من يحاول إشراب الأفهام
وجوب نزع الإمامة من بني عثمان فهو عامل على الإجهاز على السلطة
الإسلامية، ومحوها من لوح الوجود ، وما لهؤلاء النوكى تكأة يتكئون عليها إلا
قولهم: (الخلافة في قريش) وغفلوا أو أغفلوا الشروط المهمة التي لا تكاد
توجد اليوم في قرشي ، كالعدالة على شروطها الجامعة ، والعلم المؤدي إلى الاجتهاد
في النوازل والأحكام ، والرأي الصحيح المفضي إلى سياسة الرعية، وتدبير
المصالح، وجمع الكلمة) .
وكل الذين توسوس لهم أمانيهم بالخلافة ، وتطريهم جرائدهم باستحقاقهم لها
عراة من هذه الصفات التي هي أركان بناء الخلافة ، وما جعل النبي صلى الله عليه
وسلم الخلافة في قريش إلا لما كان لهم من المكانة في النفوس التي من أثرها
اجتماع القلوب عليهم ، والإذعان لسلطانهم عن رضى واختيار ، وقد نال هذا
المعنى آل عثمان فحصل المقصود الشرعي به) .
هذا ما كتبناه من بضع سنين ، ولم يكن قد مضى علينا في هذه البلاد الحول ،
فكنا نتوهم صدق بعض أقوال المرجفين ، ونحاول إقفال هذا الباب وإيئاس الناس
منه لما فيه من الضرر.
وكتبنا في تقريظ جريدة اللواء كما في (ص702) من السنة الثانية ما نصه:
(وقد انتقدنا عليها (أي: جريدة اللواء) أمرًا ذا بال وهو الإرجاف بأن بعض
الناس في مصر يسعون في إقامة خلافة عربية ، كأن الخلافة من الهنات الهينات
تنال بسعي جماعة أو جماعات ، ولا يمكن احتقار مقام الخلافة الأعلى بأكثر من هذا
الإرجاف.
مقام الخلافة أسمى من أن يتطاول إليه أحد ، وقد سلم السواد الأعظم من
المسلمين زمامه لبني عثمان تسليمًا. والرابطة بين الترك والعرب هي (كما قال
المرحوم كمال بك الكاتب الشهير) موثقة بالأخوة الإسلامية والخلافة العثمانية ، فإن
كان أحد يقدر على حلها فهو الله وحده ، وإن كان أحد يفكر في ذلك فهو الشيطان.
ويعلم كل خبير بحال هذا الزمن أنه لا يرجف بالخلافة إلا رجلان: رجل اتخذ
الإرجاف حرفة للتعيش وأكل السحت أو التحلي بالوسامات والألقاب الضخمة ،
ورجل اتخذه الأجانب آلة لخداع بسطاء المسلمين بإيهامهم أن منصب الخلافة
ضعيف متزعزع يمكن لأي أمير أن يناله ، ولأية جمعية أن تزحزحه عن مكانه
ليزيلوا هيبته من القلوب ، ويقنعوا نفوس العامة الأغرار بإمكان تحويله في وقت
من الأوقات ، وبأن المسلمين ليسوا راضين من الخلافة العثمانية جميعًا.
(كان مصطفى كامل أفندي يوم ألف كتاب المسألة الشرقية ينسب هذا الطمع
الأشعبي للإنكليز ، واليوم نرى مصطفى كامل بك يلقي القول فيه على عواهنه في
خطبته وجريدته ، ويدع نفوس البسطاء تذهب فيه كل مذهب ، وإذا سئل الإفصاح
وبيان المجمل؛ يجمجم ويغمغم. فإن كان على رأيه الأول فليصرح به ليرجع
العامة عن أوهامهم، والخاصة عن سوء الظن به ، وأنه أحد الرجلين اللذين ذكرناهما
آنفًا ، ولا نظنه إلا على مذهبه الأول وعلى اللواء في البيان المعول) اهـ.
فيرى القارئ أننا في عبارة السنة الأولى كنا مغترين بكلام بعض المرجفين ،
وأننا في السنة الثانية علمنا حق العلم أن مسألة الخلافة لا يلغط بها من أصحاب
الأغراض كما قلنا في مقالة (دعوى الخلافة) ويرى أن لهجتنا قوية في الإنكار
على كل من تكلم في هذه المسألة، لاعتقادنا بضرر الخوض فيها ، فقد عادانا صاحب
جريدة اللواء لتشديدنا في الإنكار على ما كتبه بذلك في أول ظهورها ، وما قاله في
خطبة له تلاها في ذلك العهد. وقد كنا في غنى عن إحراج مثله بعدما كان راضيًا
عنا وعن المنار حتى إنه كان يهنئنا على بعض المقالات ، ويقول: إن هذه الخطة
أنفع ما يكتب للمسلمين. فليعذرنا أصحاب جريدة ترك ، وصاحب جريدة الجوائب
فإننا لا يمكننا السكوت عن الإنكار على كل من يذكر الناس بما يوجب التفرق
والخلاف لأجل لقب الخلافة المشئوم ، أو اختلاف الجنسية اللغوية ، فحسبنا ما منينا
به من المصائب والنوائب واستبداد الحكام وسلطة الأجانب.
* * *
(أخبار الحجاز والحجاج في هذا الموسم)
كتب إلينا كاتب مرافق للمحمل المصري بمثل ما كتب إلينا آخر من سوريا
عن فقد الأمن، وعموم المخاوف في بلاد الحجاز، وما حل بالحجاج في هذا الموسم
من القتل والسلب والنهب، وكتب كاتب مصري مع المحمل من ينبع إلى صديق له
في مصر كتابًا في تسع خلون من المحرم، قال فيه ما نصه:
(الحج في هذا العام لم يطرأ عليه أي طارئ وبائي فضلاً عن كثرة الحجاج
وازدحامهم وقذارة الطرق وإهمال موظفي الصحة العثمانية.
الأمن مفقود في كل بلدة مر بها الحجاج ، والعربان مسلحون بسلاح جيد،
وأغلبه مكتوب عليه بالحروف الإفرنجية (س. إيتمنس) والأهالي مجردون من
السلاح، والحكومة تمنع حمل السلاح بكل تدقيق إلا الأعراب، كما أنها لا تحرك
ساكنًا؛ إذا وقع أمامها أيّ مقتلة ، وقد حدث ليلة نزولنا عن عرفة قتال بالبنادق أمام
مركز الحكومة الحميدية بمكة بقرب الحرم المكي الذي يقول الله فيه: {وَمَن دَخَلَهُ
كَانَ آمِناً} (آل عمران: 97) وقتل في تلك الليلة بجهة خيام المحمل (ديده بان)
من العسكر المصري أثناء تأدية وظيفته ، ولابد أن تكونوا عرفتم تفصيل الحادثة؛
لأن أمير الحج بادر بإخبار الحكومة المصرية بذلك بالبرق وبالبريد، وإلى الآن لم نر
من الحكومة العثمانية نتيجة.
قتل وجرح وسلب عدد ليس بالقليل من الحجاج الذين لم يكونوا مرافقين
للمحمل على الطريق بين جدة ومكة ، ومن وصل من الجرحى لم تسعفهم الحكومة
ولا بشربة ماء إلى أن وصل المحمل وأسعفهم بالقوت والعلاج. لجأ واحد منهم إلى
بيت الشريف، فلم يسمع له قول، وحتم عليه أن يفصل واقعته على ورق تمغة
وهو أمامهم مجروح مجرد ، ولو كان معه ثمن ورقة تمغة لسد به رمقه، وستر به
بدنه.
تعدد خروج الحجاج المسافرين من مكة وكانت الجمالة تقتل بعض الركاب
معهم ، وتسلب أمتعة الجميع وتهرب بالأجرة وبما سلبت، ولما طالب أمير الحج
الوالي ولو برد الأجرة (أي: الثابتة عند حكومة الحجاز رسميًّا) وعد بالنظر، ولم
يكن لوعده أقل فائدة!
أخذ المطوفون من الحجاج إعانة لسكة الحديد الحجازية، ومن تأخر عن الدفع
كانوا يشيرون بحبسه، والذي يأمر بالحبس يكفي أن يكون واحد من عبيد الشريف
بحيث تعددت السلطة ومصادرها، فلا يدري الإنسان من يخافه ومن يتقيه!
الباعة في الأسواق، والمطوفون في الحرم، وأعوان الشريف في كل مكان،
وكل من في مكة إلا القليل عبارة عن منصر حرامية (زعماء لصوص) يسلبون
الناس أموالهم بحيث يهلك الفقير جوعًا؛ لأن الأسعار غالية جدًّا، والشيء الذي
كانت قيمته في مكة خمسة قروش وصل إلى ريالين ذلك؛ لأن كل ما يرد من
المأكولات وما يذبح يلتزمه أحد (محاسيب) الشريف، ويبيعه بالثمن الذي يرضيه
للباعة ، وأولئك قوم من جهة يشترون بأغلى الأثمان ، ومن جهة أخرى يستوفون
من الناس أضعاف القيمة. والفقير حائر كيف يقتات ، وهو مجبور على الإقامة
أيامًا معدودات.
بماذا أحدثك أيها الأخ (الشفوق) ؟ أين المنصفون من أصحاب النظر
يشاهدون ما شاهدناه، ويعودون إليكم شارحين الحال واصفين بلسان المقال؟
تعددت الشكاوي إلى أمير الحج المصري، فكتب وتوجه بنفسه إلى الوالي
والشريف فاعترف الأول بالكتابة بأن المطوفين يحبسون الحجاج، والثاني كذب.
ولما أراد سعادة أمير الحج إثبات الأمر رسميًّا خاطبه الشريف بقوله: (يا حضرة
الباشا ما لكم حق في التداخل) وكررها مرارًا. خاطبت واحدًا من التجار الأجانب:
هل يعاملونكم كما يعاملون باقي التجار المكيين؟ فقال: لا، وإنما نتيجة السلب
واحدة فإننا ندفع أجرة نقل بضائعنا بين جدة ومكة أضعافًا. قلت: أما تشكون
لقناصلكم؟ فقال لي: كأنهم متحدون مع السالب تمام الاتحاد، فالسلب عام من
الجميع، والكيفية مختلفة.
سمعت أن بائعي السبح قد منعوا من بيعها أولاً ، وكانوا قد استعدوا على
كميات وافرة منها فساءهم هذا الأمر ، ولكنهم أدركوا المقصود فجمعوا مبلغًا من
المال وقدموه فألغوا تنبيههم الأول وأباحوا لهم بيع السبح ، وانظر بعد ذلك أثمان
السبح
…
آه! لو سمعت (الفرمان العلي الشأن) وهو يتلى في صيوان الشريف ثاني
العيد ذلك الفرمان الطويل العريض مملوء بعبارات الثناء العاطر ، وتعديد صفات ما
سمعت تركيًّا وصف بها نبيًّا من الأنبياء. ولو رأيت النياشين المرصعة في صدر
الشريف، والخلع التي ألبسها في هذه الحفلة بعضها فوق بعض ، والوزراء
والأمراء والوجهاء واقفون وقوفهم للصلاة وكذلك العسكر، ولو رأيت ما حوله من
الجياد المطهمة عليها السرج المثقلة بالذهب الخالص الوهاج، ولو نظرت جميع
الحاضرين يقبلون يد الشريف أو ثيابه (إلا أنا فإنني - ولله الحمد - لم أسلم عليه
ولا بالإشارة) وهو لا يتحرك لأكبرهم؛ لاستكبرت الأمر واستنكرته ، وعلمت أن
المسلمين في غفلة أينما كانوا في كل قطر وفي ظل كل دولة لكن بؤسهم يتفاوت
بحسب حال دولهم.
لا شك أننا وصلنا إلى حال يتبرأ منها الدين، ويحل بنا غضب الله بسببها.
كيف نصدق فرمان خليفة المسلمين وشاهد الحال يناقضه في نفس الحفلة؟ كيف
نسمع أن الشريف مؤمن الطرق وقاطع الأشرار، والسالك نهج آبائه الأطهار، وأنه
مقيم الدين، وناشر لواء شريعة سيد المرسلين - أي هذه بعض الألقاب التي
يوصف بها في الفرمان وهي عشر معشار ألقاب رئيسه السلطان - أين أثر الدين
فيما شاهدنا، والإسلام يتبرأ من هذا الذي رأينا، أين الهداة الداعون إلى الإسلام؟
هل ألغي حكم آية: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
خاطبت واحدًا - قيل لي: إنه من علماء مكة - في شأن ما أشاهده وما حل
بالحجاج فقال: لا يهولنك الأمر فقد ورد في القرآن في حق الحرم {وَيُتَخَطَّفُ
النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: 67)(كذا) وقال لي آخر: {لَّمْ تَكُونُوا
بَالِغِيهِ إِلَاّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} (النحل: 7) ألفاظ لا يعون لها معاني، ولن ترى أمامك إلا
عمائم لا تفضل أمثالها في باب المزينين فما دونه! وحدث عن الوثنيات هنا بما لا
تحتمله الروايات، واسمع من المطوفين ما يثقل على الآذان خرافات وموضوعات
تخرج الضعيف من الإسلام، إلى عقائد أولئك الجهلة الطغام والجهل سائد عام،
والضال المضل سيد وإمام.
يأسف الإنسان على بلاد كانت مشرق شمس الإسلام، وفيها بيت الله الحرام،
ويكون هذا مصيرها. أريد الكلام ويمنعني أنك سريع التأثر ، ولكن القلب والقلم
يحتمان عليَّ الكتابة، لعلك تنيبني عنك في صدقة مقبولة هي في مقدمة الصدقات ،
ألا أصرف على حسابك ما تجود به نفسك على عسكر الدولة الأنفار الصابرين
الذين هم يبيعون الأشياء التافهة على الحجاج وحالهم أسوأ حال.
كنا نسمع عن دراويش التعايش أنهم يلبسون المرقعات، ولكن الفرق بين
مرقعاتهم وكساوي عسكر الدولة أن مرقعات الدراويش تخاط من أول أمرها،
وثياب العسكر هنا من أرثِّ ما يكون مرقعة في أغلبها رقعًا متراكمة فوق بعضها
مختلفة الألوان، وهي بجملتها في أشد حالات البلى والرثاثة، وهم مع ذلك من
أصبرالناس على هذه الحال، وأمرهم في ذلك معروف، وبأسهم الحرب موصوف ،
والذي سمعته أن ذلك لم يكن من تقتير الدولة، بل من سلب رؤسائهم حقوقهم.
وملبسهم سواء يوم الاستعراض والأيام المعتادة، وكثير منهم يلبس النعال القديمة أو
(المراكيب) الحمر بدل (الجزم) حتى وقت (التشريفة الكبرى) .
قد رافق المحمل الشامي من المدينة إلى مكة (البيجم) وهي ملكة بهوبال
التابعة للحكومة الإنكليزية، وكاد العرب يقتلونها وهي في ركب المحمل طمعًا في
المال ، لولا أن هربوها من تحتها في شقدف كواحدة من الناس، ولولا أن أمير
الحج الشامي أرضاهم لفتكوا بها إن لم تعطهم كل ما طلبوا ، وقد قتل أحد
اليوزباشية الأتراك ، وجرح بيكباشي في هذه الواقعة. وقد قابلني ابنها الثاني (أي:
ابن الملكة) الذي يلقبونه بالنواب ، وكنت أنا وسعادة أمير الحج على سطح الحرم
المكي ودعانا إلى بيته، ثم دعا بعض رجال المحمل معنا ، وتوجهنا إلى مقر
(البيجم) فأكرمونا ، ثم ألقت علينا خطابًا من خلف ستار ترجمه لنا (فليس) قنصل
الإنكليز بجدة، وقد أجاب عليه سعادة أمير الحج، ومتى عدت إلى مصر أعدت إليكم
أكثر ما شاهدته ، وقد سافرت (أي: الملكة) إلى بلادها ساخطة على فقد الأمن،
وبلغني أنها شافهت الشريف بعبارات شديدة، وقد انتقد ابنها على شهامة العرب
قائلاً: كيف يتعدون على امرأة؟
رافقنا من مكة إلى ينبع الصدر الأعظم السابق لدولة إيران لنزور المدينة معًا،
فلما وصلنا إلى ينبع تعنت الأعراب معنا ، ومنعونا المرور للأسباب التي
سأذكرها لكم بعد، ولما كان يهمه دخول المدينة باكرًا ليحضر بها يوم عاشوراء
(والقوم أمثال القوم) اتفق مع العرب على دفع خمس جنيهات عن كل نفر معه جُعْلاً
للعرب نظير المرور فقط، لا في نظير خدمة، وترك مرافقة المحمل وسافر ،
ورافقنا من مصر وزير المغرب الأقصى إلى ينبع، ورافقنا من مكة أمير حج ابن
دينار وجماعة ، فقال عنهم الأعراب: إن معكم سلطان مراكش، وسلطان دارفور لا
تمرون إلا بما يناسب مقام الدولة، ومقام ذينك السلطانين.
وصلنا إلى ينبع يوم السبت الماضي ، ولا نزال بها إلى اليوم ننتظر عودة
سعادة أمير الحج من جدة الذي ذهب ليخابر الحكومة المصرية بالتلغراف بما يرغبه
الأعراب لخلو ميناء ينبع من التلغراف، ومحصل مسألتهم أنهم في العام الماضي
طلبوا من أمير الحج أن يصرف لهم مرتبات لم تصرف إليهم منذ ثلاثين سنة،
وهي آلاف من الريالات فقال لهم: إني لا أعلم بأثر من مرتباتكم هذه، ولكن لكم
أن تكتبوا طلبًا إلى الحكومة بها، وأن تتنازلوا عن الماضي إلى الآن ، ومتى وجد
لمرتباتكم أثر تصرف إليكم من جديد، عاد بطلباتهم واستكشف عنها فلم يجد لها
أثرًا فأعادوا الطلب منه الآن، وامتنعوا عن التنازل عن ما مضى ، وأغلظوا القول،
وبعثوا إليه الكتاب بالتهديد والإنذار والممانعة من المرور، وليتنا رأينا فيهم رشيدًا،
بل هم أراذل أدنياء قليلو الأدب يكذب بعضهم بعضًا، ويحتقر أحدهم الآخرين،
كثيروا اللغط بلا فائدة، ومع محاسنتنا لهم ، وتعب أمير الحج والمحافظ معهم سرًّا
وعلانية لم يفد كل ذلك فيهم فاضطر إلى السفر إلى جدة للمخابرة ، ولا بد أنكم
تعلمون النتيجة قبل أن نعلمها هنا.
التلغراف: في هذه البلاد يؤخذ فيه عن كل كلمة ثلاثة فرنكات تقريبًا ، وواو
العطف كلمة، ولو كانوا قومًا يفقهون لرخصوا الأجرة فيقبل الحجاج عليهم
ويتخاطبون مع أهليهم بتلغرافات عديدة، ولربحوا الأموال الطائلة. غريبة في كل
أحوالها التي لا تتفق مع المعقول، ولا أمان فيها على المراسلات حتى إنني لا
أدري أيصل إليكم هذا أو يصل إلى الشريف؟ وقد كتبته وكلا الأمرين مفيد عندي.
رأيت وأنا على جبل عرفات عربية على رأسها برنيطة فقلت لها: بيعيني مظلتك
هذه. فقالت: الشمس تؤذيني. قلت: هذه شمسيتي الثمينة خذيها فهي أنفع وتعبت
معها حتى أقنعتها وسأحضرها معي. اهـ المراد منه.
(المنار)
قد كتب بمعنى هذا الكتاب كثيرون من الحجاج إلى أهليهم وأصدقائهم، وأعجب
شيء فيه عندي تحريف ذلك الجاهل المعمم في مكة لقوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا
جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: 67) فإن الله يمتن
بهذه الآية على من في الحرم بأنه وهبهم الأمن في بلاد المخاوف فهم آمنون ،
والبلاد التي وراء الحرم من كل ناحية أي: التي حوله لا أمن فيها ، وقد جعل ذلك
الجهول الآية مثبته لنفي الأمن من الحرم نفسه ، ومثله في الجهل من حرف امتنان
الله تعالى على أهل مكة والناس عامة بالأنعام؛ إذ جعل من منافعها أنها تحمل
أثقالهم إلى البلاد التي لا تبلغ لولاها إلا بشق الأنفس فجعلها مثبتة لوجوب إهانة
الحجاج والتعدي عليهم. ويقصد الكاتب بأمثالهم في باب المزينين أهل الأزهر، وقد
رأى القراء في باب السؤال والفتوى نموذجًا من تحريف بعضهم لكتاب الله تعالى.
اللهم إن بني إسرائيل لم يحرفوا كتابك التوارة بأكثر مما تحرف هذه العمائم كتابك
الفرقان فافرق بينهم وبين عبادك المعذورين بغرورهم بهم ، وافصل بينهم بالحق
وأنت خير الفاصلين (انتظر الكلام على الحج في الجزء الآتي) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رزء الشام بالشيخ محمد علي أفندي مسلم
وافانا نبأ وفاة هذا النابغة قبيل طبع الصحيفة الأخيرة من هذا الجزء. عاجلته
المنية بالأمس عن أربعين سنة أي: عندما بلغ أشده، واستوى، وصار يرجى منه
في تحمل أعباء الدعوة إلى الإصلاح أكثر مما سبق له؛ فكان ألم المصاب به
عامًّا، وأشد وقعة على أنصار العلم والإصلاح الذي فقدوا بفقده ركنًا ركينًا، وأخًا
كريمًا. وقد قال صديقه رفيق بك العظم هذه الأبيات المؤثرة في رثائه رحمه الله
وأحسن عزاءنا فيه:
أيها الموت كم هززت نفوسًا
…
طالما هزت الخطوب الجساما
نحن كنا كالصلد إن مسه الخطـ
…
ـب ورت ناره وأذكت ضراما
فاصطلمت الجلادة اليوم منا
…
فغدا القلب يشتكي الآلاما
وتجاوزت غاية الصبر حتى
…
قد فقدنا السكون والاحتشاما
مذ صدعت القلوب بالنبأ الفا
…
جع صدعًا لن يقبل الالتئاما
ورميت الصديق منك بسهم
…
دأبه أن يصيب منا الكراما
قد كفانا بالأمس فقد همام
…
فلم اليوم قد فقدنا هماما
عمرك الله ما نطيق حياة
…
بعد ذا الخطب أو نريد سلاما
كلما أنعم الزمان بفرد
…
ورجونا أن ينفع الإسلاما
فجعتنا به المنون كأن الـ
…
ـموت يفدي بالأكرمين الطغاما
أم كأن المنون حاكم قوم
…
مستبد يصادر الأحلاما
يا عليا بت العلي وإنَّا
…
لم نزل بالدنا نعاني السقاما
ما رعينا فيك الذمام وإلا
…
لتبعناك لو رعينا الذماما
مذ رأيت الحياة في الشرق أضحت
…
نكدًا يؤلم النفوس العظاما
كبرت نفسك العظيمة حتى
…
ما تطيق الدنيا ولا الأجساما
فمضت للسماء تطلب فيها
…
عالم الروح منزلاً ومقاما
حبذا منزلا ولكن في عيـ
…
ـشك للناس حاجة ومراما
كنت للحق والفضيلة ركنًا
…
فتداعى وللثبات قواما
ولقيت الخطوب ممن يعادي الـ
…
ـعقل والعلم أو يحب الخصاما
فلك اليوم في النفوس مقام
…
نلت فيه محبة واحتراما
فعليك العيون تبكي دماء
…
وعليك السلام يتلو السلاما
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سوريا والإسلام
(2)
(5)
سوريا قبل الفتح العربي
أراد صاحب مقالات (سوريا والإسلام) أن يثبت أن التعصب لم يكن في
سوريا قبل الفتح الإسلامي ، فذكر أن تلك الشعوب العظيمة التي عاشت هناك منذ
أول عهد التاريخ حتى انقراض الدولة الفينيقية كانت الحروب بينها وبين الفراعنة
مستمرة، وكانت سجالاً ، والغالبة تأخذ الجزية من المغلوبة، ولكن لم يكن ذلك
لأجل الدين، بل لأجل السلطة والعظمة.
ثم ذكر أن الإسرائيليين الذين هجموا على فلسطين هجوم العرب على سوريا
(حاولوا) أن يلبسوا حروبهم صبغة دينية ، لكن قبائل الكنعانيين والحيثيين
والأموريين واليبوسيين وغيرها حاربهم دفاعًا عن الوطن، وعن الحرية
والاستقلال. ثم ذكر أن (هذا التعصب والثوب الديني الذي (حاول) الإسرائيليون
أن يلبسوه لحروبهم ، وأن يضموا به جامعتهم وينهضوا مملكتهم) ما لبث أن تمزق
بعد سليمان، ثم بلي.
ما أعجب شأن هذا الكاتب، وما أشد تعصبه لما يعلم أو لما لا يعلم! كان
بالأمس يمثل بديانة بوذه للدين الصحيح الذي لا حرب فيه، ويستدل على أنه شارع
محق، ولا يذكر موسى ولا شريعته عند التمثيل للديانات الصحيحة، بل يعرض بأنها
باطلة ، وهو اليوم يفضل تلك القبائل الهمجية الوثنية التي كانت تقيم في سوريا قبل
الفينقيين على شعب إسرائيل شعب الله كما يفضل عليهم فراعنة مصر وأهلها
الوثنيين، ويفضل عليهم أيضًا تلك القبائل الوثنية التي كانت في بلاد فلسطين ،
وإن كان الله قد فضل شعب إسرائيل على هؤلاء أجمعين ونجاه من سلطة بعضهم ،
وجعل له السيادة على الآخرين. كل هذا يخالف دينه واعتقاده وهكذا يفعل الغلو في
التعصب حتى يجني الغالي على ما يتعصب له! !
أي مزية لقبائل (نيفليم) و (أميم) و (رفايم) و (زوزيم) و (عناقيم)
و (زمزوميم) تلك الحيوانات الوثنية على بني إسرائيل سلالة النبيين وحملة الكتاب
والدين. إنه قد أثبت لليهود عين ما ينسبه إلى الإسلام، ولم يتلطف معهم إلا بكلمة
(حاولوا) وهي لغو حيث وضعها فإن كان ينكر الديانة الموسوية لأجل الإنكار على
الديانة المحمدية لشرهه وإسرافه في بعض هذه؛ أفلا يتذكر أنه يهدم بذلك الديانة
المسيحية أيضًا؟ ؟
وإن كان لا يبالي بهدم الأديان السماوية بغضًا بالمسلمين فليجعل المفاضلة بين
الديانة الوثنية وديانة التوحيد الإلهية. وإن كان يرى تحريم الحرب لأجل حرية
الدين ونشره وهو ما لا يفعله الآن أحد إلا المسيحيون - وإن سبقهم به اليهود
والمسلمون - هو الذي يفضل به دين دينًا فلا شك أن الوثنية أفضل من المسيحية
وغيرها من الديانات السماوية فما باله يخص المسلمين بالذم والقدح؟
هذا الكاتب نصراني في الظاهر، ولكنه في الواقع إما وثني وإما معطل يحكم
العقل فقط. فإن كان وثنيًّا؛ فلا كلام لنا معه إلا بعد المناظرة في أصل الوثنية ،
فإن أثبتها؛ فله الفلج فيما يتفرع عنها ، وإلا فكلامه ساقط. وإن كان يحكم العقل
فكيف ساغ له أن يعد الحرب السياسية لأجل (توسيع الحدود وبسط السلطة
والعظمة) جائزة وخيرًا ونافعة ، والحرب لأجل حرية الدين ونشر دعوة الحق التي
يعتقد صاحبها أن فيها سعادة الدارين ممنوعة وشرًّا وضارة؟ وكيف ذكر بعبارة
الرضى والاستحسان إغارة البابليين على الإسرائيليين، وسبيهم، وتخريب هيكلهم ،
وزحف الرومانيين إلى سوريا وإحراق الهيكل بعدما بني ثانية، وتدمير المدينة بفعل
طيطس؟ أليس هذا اضطهادًا للدين لم يفعل مثله المسلمون؟
ثم ذكر أن الرومانيين قد قضوا على بقية تعصب اليهود في سوريا بما فعله
طيطس الوثني الظالم ، وأنه لم يظهر التعصب في سوريا بعد ذلك إلا بعد الفتح
العربي، وطوى في هذه الدعوة تاريخ النصرانية، وما كان منها من التعصب الذي
تقشعر منه الجلود، والذي جعل اليهود من أنصار المجوس على النصارى تشفيًا
وانتقامًا، ثم انتصار المسلمين عليهم أيضًا ليستنشقوا في ظل هذا الدين نسيم الحرية
الدينية الرطب اللطيف بعد النجاة من رمضاء التعصب النصراني وسمومه التي
تلفح القلوب دون الجلود. وهذا الذي نومئ إليه مدون بالبسط في كتب أحرار
الإفرنج المنصفين وغيرهم، الذين لهم الفضل على محبي الحقائق في كل زمان
ومكان.
قال الكاتب المؤرخ: إن التعصب الإسرائيلي زال من سوريا بعد تدمير
طيطس مدينة أورشليم سنة 70 بعد المسيح.
ولكن التاريخ يقول بغير ما قال هذا المؤرخ، يقول التاريخ: إن اليهود قد
حقدوا زمنًا وكتموا تعصبهم عجزًا، ثم دفعهم الحقد إلى ثورة عظيمة ادعى زعيمها
بعزة قوشير أنه هو المسيح فاجتمع عليه اليهود ، واشتعلت نار الحرب بينهم
وبين الرومانيين على عهد الإمبراطور هارديان ثلاث سنين حتى قتل الزعيم.
ويقال: إنه قتل في هذه الحرب من الإسرائيليين خمس مائة ألف ونيف، وأمر
هارديان بمحو خرائب أورشليم، وطمس أطلالها ورسومها وأن تبنى هناك مدينة
جديدة تسمى عاصمة إيليا، فكان ذلك في سنة 132 للمسيح، وأباح للمسيحيين
الوثنيين الإقامة في هذه المدينة، وأخرج اليهود منها ، ثم لم يبح لهم الرومان الدخول
فيها إلا في القرن الرابع وإنما أذن لهم أن يدخلوها مرة واحدة في السنة زائرين من
شاء منهم فكانوا يدخلونها باكين نادبين. وقد اضطهد النصارى هؤلاء اليهود
في وطنهم أشد الاضطهاد ومنعوهم من كثير من بلادهم لا من مدينتهم
المقدسة فقط.
ولما زحف الفرس في عهد خسرو على سوريا وفلسطين كان اليهود أنصارًا
لهم حتى إذا ما فتحوا أورشليم ذبحوا سكانها النصارى، واصطلموهم اصطلامًا ولما
انتصر هرقل على الفرس وأجلاهم عن سوريا ومصر انتقم من اليهود شر انتقام،
وعاملهم بقانون هارديان، ومنه أنه يجب أن يكونوا على بعد ثلاثة أميال من
أورشليم على الأقل ، وكان الإسلام قد ظهر والمسلمون قد زحفوا على سوريا
وفلسطين.. إذن إن التعصب الديني بين اليهود والنصارى كان على أشده في سوريا
عند ظهور الإسلام ولم يكن قد زال قبل النصرانية كما زعم الكاتب الذي جنى
تعصبه على التاريخ والدين؛ لأجل تمكين العداوة في سوريا بين النصارى
والمسلمين. ولولا أن اشترطنا الاختصار لأطلنا في بيان هذا التعصب بين اليهود
والنصارى في سوريا وبيَّنا أن الإسلام أضعفه، بل أضعف التعصب المطلق، بل
أماته حتى أحيته الحروب الصليبية التي أضرمها تعصب النصارى.
* * *
(6)
سوريا والفتح العربي
يقول الكاتب: إن التعصب ظهر بعد فتح المسلمين أورشليم، وعقد المعاهدة
بينهم وبين النصارى في البيت المقدس، وذكر نص المعاهدة نقلاً عن المؤرخ
الإيطالي قيصر كنو وهي مزورة على نسق المعاهدات الأوربية مؤلفة من 15
مسألة (بند) ، ولا شك أن هذه المعاهدة مختلفة من الإيطالى أو غيره من غلاة
التعصب، وكل من قرأها من العارفين باللغة العربية وأساليبها والعارفين بحال الناس
في ذلك العصر يعرف أنها مكذوبة بالبداهة. وإننا نذكر نص المعاهدة التي أوردها
إمام المؤرخين والمحدثين ابن جرير الطبري في تاريخه، ثم ما أورده هذا الكاتب
المتعصب عن أساتذته متعصبي أوربا ليقارن صاحب جريدة المناظر الغراء
وأمثاله من فضلاء النصارى المنصفين بين الروايتين، ويعلموا من أين جاءنا
النزاع والخصام، أما نص ما في الطبري فهو:
(عهد سيدنا عمر لأهل بيت المقدس)
(بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم
أمانًا لأنفسهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها أن لا تسكن كنائسهم،
ولا تهدم، ولا ينقص منها، ولا من حيزها، ولا من حليهم ولا من شيء من أموالهم ،
ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود
وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن ، وعليهم أن يخرجوا
منها الروم واللصوص فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم.
ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان (كذا ولعله تحريف) فمن شاء منهم
قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ، ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء
رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا
الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم
من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن
عوف ومعاوية بن أبى سفيان. وكتب وحضر سنة 15. اهـ وفيه دليل على ما
نقلناه من التاريخ من منعهم اليهود من سكنى بيت المقدس، وأما المعاهدة المكذوبة
التي أوردها الكاتب المتعصب في جريدة المناظر فهي:
1-
يسمح للمسيحيين الذين سلموا للمسلمين أن يبقوا في مدينتهم المقدسة ،
وأن يقيموا فروض ديانتهم وطقوسهم كما يشاءون ، ولكن لا يسمح لهم أن ينشئوا
معابد، ولا كنائس جديدة لا في المدينة، ولا في نواحيها.
2-
يجب على المسيحيين أن يتركوا أبواب كنائسهم مفتوحة أوان الصلاة
واستعمال الطقوس، ويباح للمسلمين الدخول إليها عندئذ لمراقبة ما يصنعون خوفًا
من أن يتآمروا سرًّا على المسلمين.
3-
يجب أن تكون أبواب المسيحيين مفتوحة لجميع ضيوف المسلمين.
4-
يجب على المسيحيين أن يقدموا للمسلمين الذين يأتون لزيارة المدينة
المقدسة (أعني أورشليم) طعامًا ليوم واحد فقط بدون أن يأخذوا ثمنه ، وإذا مرض
أحد أولئك الضيوف التزموا بخدمته حتى يبرأ.
5-
لا يجوز للنصارى أن يمنعوا أولادهم من تعلم القرآن، ولا يجوز لهم أن
ينهوهم عن اعتناق المذهب الإسلامي إذا أرادوا.
6-
يجب أن يعتبر المسيحيون المسلمين أسيادًا لهم، وأن يكون لهم فيه المقام
الأول في كل شيء.
7-
لا يجوز للمسيحيين أن يلبسوا لباس الاسلام، ولا أن يتسموا بأسمائهم ،
ولا أن يتصفوا بصفاتهم، بل يجب أن يكونوا على خلاف منهم في كل شيء.
8-
يجب على المسيحيين إذا أرادوا أن يركبوا أن لا يركبوا خيلاً، ولا نوقًا،
بل حميرًا وبغالاً، ولا يجوز لهم أن يقلوا سلاحًا، ولا أن يستعملوه في بيوتهم،
وكذلك لا يجوز أن تكون منازلهم مزينة بمثل الزينة والتحف والأشياء التى يزين
بها المسلمون منازلهم، حتى ولا براذع حميرهم يجوز أن تكون كبراذع حمير
المسلمين.
9-
لا يجوز للمسيحيين أن يبيعوا خمرًا، ولا كحولاً ألبتة، ولا أشربة
روحية ما إلا بإذن الخليفة أو ممثليه فقط، ولا يجوز لهم أن يتركوا خنازيرهم
ومواشيهم تسرح في الأسواق.
10-
يجب على المسيحيين أن يلبسوا ثياب الحداد دائمًا، وأن يشدوا وسطهم
بسيور من جلد سواء كانوا في المدينة أم في الخارج.
11-
لا يجوز للمسيحيين أن يرفعوا صلبانًا فوق الكنائس، ولا أن يدقوا
جرسًا، والأجراس والصلبان الموجودة حالاً متى وقعت لا يجوز أن يوضع غيرها
في مكانها.
12-
لا يجوز للمسيحيين أن يطلوا على المسلمين في معابدهم.
13-
يجب أن يقدموا الجزية في أوانها، ولا يتأخروا عن جمع الضرائب
التى يفرضها عليهم المسلمون.
14-
يجب أن يحترموا الخلافة الاسلامية والمسلمين كسادة للبلاد وأصحابها،
ولا يتآمروا عليهم ألبتة.
15-
يلتزم الخليفة بتأمين النصارى الطائعين والخاضعين لجميع شروط
ونصوص هذه المعاهدة.
ومما ينتقد من هذه المعاهدة أن المسلمين لم يكونوا يقولون: (مدينتهم المقدسة)
ولا كلمة (الطقوس) ولم يكونوا يرحلون لزيارة تلك البلدة، ولم يكن لهم لباس
مخصوص، بل كانوا يلبسون ملابس الروم التى يغنمونها، ولم يكونوا يزينون
بيوتهم، ولم يكن في زمانهم شيء يسمى (الكحول) ، ولا الأشربة الروحية، وإنما
كانوا يسمون كل مسكر خمرًا إلا النبيذ، إذا صار يسكر. ويمتنع شرعًا أن يقيد بيع
الخمر بإذن الخليفة، ولم يكن لهم معابد يمنعون المسلمين من الإشراف عليها، ولم
يضربوا على أهل تلك البلدة ضرائب، ولم يكونوا يعبرون عن السلطة بالخلافة
الإسلامية، ولا عن عمر بالخليفة، هذا ولم يكونوا يخافون من المؤامرة عليهم ،
فإنهم غلبوا القوم، وهم مستعدون للقتال، ومعهم الروم فكيف يخافونهم بعد ذلك ،
ولو خافوا أو احتاطوا لم يكن ذلك معيبًا ولا منتقدًا ولا باعثًا للتعصب، فإنه أمر
طبيعي معهود من جميع الفاتحين ، والسيادة بطبيعتها للفاتح فلا معنى لاشتراطها،
ولم يكن من فائدتهم المنع من التشبه بهم، ورؤية عباداتهم، وتعلم كتابهم والتسمي
بأسمائهم.
فالظاهر أن المعاهدة وضعت في هذا العصر؛ لأن أسلوبها واصطلاحاتها كلها
عصرية. فأين المنصفون يميزون بين تساهل المسلمين وتعصب غيرهم. إنهم
ليختلفون على سلفنا حتى في هذا العصر عصر الحرية والعلم؛ ليعيبونا، وينفروا
قومهم وسائر الناس منا فهل فعلنا نحن شيئًا من مثل هذا؟ ؟
أكتفي بهذه الإشارات في تفنيد مسائل هذه المعاهدة المختلقة، ولكني أقول:
إنني لا أنكر أن منها ما له نظير في بعض كتب المسلمين، ولكن لا ثقة بروايته
ومن المأثور في ذلك ما رواه البيهقي من طريق حزام بن معاوية قال: كتب إلينا
عمر: (أدبوا الخيل، ولا يرفع بين ظهرانيكم الصليب، ولا تجاوركم الخنازير) ،
ولكن إسناده ضعيف، ولو صح لأمكن حمله على جماعة المسلمين على أن أقوال
الصحابة ليست حجة في الدين عند جمهور علماء الأصول، إلا أن يجمعوا عليها،
أو ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو يكون لها حكم المرفوع بأن يكون هناك
دليل على أنها ليست من اجتهادهم بل سمعوها عن الشارع صلى الله عليه وسلم.
ومنها ما رواه البيهقى عن ابن عباس: (كل مِصْرٍ مَصَّرَه المسلمون لا تبنى
فيه بيعة ولا كنيسة، ولا يضرب فيه ناقوس، ولا يباع فيه لحم خنزير) ، وفي
إسناده حنش، وهو ضعيف على أن المسلمين أحرار في مصْرٍ مَصَّروه لأنفسهم أن
يمنعوا غيرهم من الإقامة معهم فيه مطلقًا أو بشروط، وكذلك أهل الذمة، إذا كانت
لهم أرض وجعلوها بلدًا، ولم يقبلوا أن يبيعوا منها شيئًا لمسلم فإن الإسلام لا يكرههم
على بيعها، ولو لأجل المسجد. ومفهوم كلام ابن عباس أنه لا يمتنع بناء الكنائس في
غير المصر الذي مصره المسلمون كالأمصار القديمة ، وما مصره غيرهم ولو
بشركته معهم.
ولو صحت هذه المعاهدة التي نقلها لما كانت أبعد مما يعامل به أهل أوربا
المسلمين وغيرهم في مستعمراتهم لا سيما في أثناء الفتح إذ تكون السياسة عسكرية
بل هي أخف منه. وقد أعجبني قول إلياس أفندي الحداد من وجهاء نصارى
طرابلس الشام جوابًا عن قول آخر: إن بعض الأحكام التي عامل بها المسلمون
أهل الذمة قاسية.
قال إلياس أفندي: إن هذه سياسة عسكرية وهى ضرورية في أثناء الفتح
لا بد منها لكل فاتح مهما كان عادلاً ومتساهلاً. وأقول: إنها مع كونها عسكرية
كانت أعدل وأرحم سياسة - كما قال بعض فلاسفة أوربا - (راجع علوم العرب
واكتشافاتهم في المجلد الخامس من المنار أو ص 105 من كتاب الإسلام
والنصرانية) . ثم إننى لم أر في كتب الحديث والمغازي المأثورة شيئًا في معاملة
أهل الذمة. قال راويه: إن الصحابة اتفقوا أو أجمعوا عليه رأيًا إلا ما رواه ابن
عساكر عن الوليد عن عمر وغيره وهو:
(إن عمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمع رأيهم على إقرار
ما كان بأيديهم من أرضهم يعمرونها ويؤدون منها خراجها إلى المسلمين ، فمن أسلم
منهم؛ رفع عن رأسه الخراج، وصار ما كان في يده من الأرض وداره بين
أصحابه من أهل قريته يؤدون عنها ما كان يؤدي من خراجها، ويسلمون له ماله
ورقيقه وحيوانه، وفرضوا له في ديوان المسلمين، وصار من المسلمين له ما لهم،
وعليه ما عليهم، ولا يرون أنه - وإن أسلم - أولى بما كان في يده من أرضه
من أصحاب من أهل بيته وقرابته، ولا يجعلونها صافية للمسلمين. وسموا من ثبت
منهم على دينه وقريته ذمة للمسلمين، ويرون أنه لا يصلح لأحد من المسلمين شراء ما
في أيديهم من الأرضين كرهًا لما احتجوا به على المسلمين من إمساكهم كان عن قتالهم
وتركهم مظاهرة عدوهم من الروم عليهم. فهاب لذلك أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وولاة الأمر قسمهم وأخذ ما في أيديهم من تلك الأرضين،
وكره أيضًا المسلمون شراءها طوعًا؛ لما كان من ظهور المسلمين على البلاد
وعلى من كان يقاتلهم عنها ، ولتركهم كان البعثة إلى المسلمين وولاة الأمر في طلب
الأمان قبل ظهورهم عليهم. قال: وكرهوا شراءها منهم طوعًا لما كان من إيقاف
عمر وأصحاب الأرضين محبوسة على آخر الأمة من المسلمين المجاهدين لا تباع
ولا تورث قوة على جهاد من لم يظهروا عليه بعد من المشركين ، ولما ألزموه
أنفسهم من إقامة الجهاد) اهـ بحروفها كما في (كنز العمال) .
وأغرب ما في هذه الرواية أن يسلم الذمي فتنزع منه أرضه وتعطى لأصحابه
الذميين من ذوي قرباه، ويفرض له بدل ذلك من بيت مال المسلمين. فليقارن
المنصف بين هذا وبين انتزاع أعظم دول أوربا وطنية وحرية ومدنية أرض
المسلمين من أيديهم حتى أوقافهم الدينية، وذلك بوسائل لا مروج لها إلا القوة
القاهرة والبلاد التى يجري فيها ذلك قريبة منا، ويعرف ما فيها العارفون.
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تنوير الأفهام في مصادر الإسلام
تفنيد الكتاب بكلمة
نشرت الجمعية الإنكليزية المكلفة بالدعوة إلى النصرانية كتابًا سُمي بهذا الاسم
خاضت في أمره الجرائد الإخبارية، ويا ليتها لم تخض، فإنها بتهويلها تشوق
الناس إلى الاطلاع على هذا الهزء والتمويه الباطل من حيث لا تزيل تمويهه ولا
تبين هزؤه، حتى إنه ربما علقت ببعض الأذهان الضعيفة بعض شبهه وإن كانت
سخيفة، وقد رمينا بالبصر إلى جمل منه في مواضع متفرقة؛ فرأيناه قد سلك في
الرد على الإسلام المسلك الذي جرى عليه بعض علماء أوربا في هدم الديانتين
اليهودية والنصرانية؛ إذ ألفوا كتبًا بينوا فيها مصادر كتب العهد العتيق المُسَّمَى
بالتوراة، وكتب العهد الجديد المُسَّمَى بالإنجيل أو الأناجيل، ورسائل الرسل.
يعرف الناظرون في كتب العهد الجديد أن مؤلفيها لم يستدلوا على الدين
المدون فيها بأدلة عقلية نظرية أو كونية وإنما يقيمون أساسه على كلمات انتزعوها
من العهد العتيق على أنها بشارات أنبياء بني إسرائيل فهذا الدين الذي يسمونه
مسيحيًّا ونسميه نحن وبعض فلاسفتهم وعلمائهم (كتولستوي الروسي (بولسيا) ؛
مبني على كتب العهد العتيق، وينهدم بهدمها، وتبطل الثقة به بظهور بطلان الثقة
بها. وقد قال الحكيم الأفغاني ما مثاله: إن الناظر في كتب العهدين يتراءى له أن
مؤلفي كتب العهد الجديد قد فصلوا ثوبًا من كتب العهد العتيق، وألبسوه للمسيح بما
زعموا من انطباقه عليه.
ماذا فعل هؤلاء العلماء في بيان مصادر اليهودية والنصرانية؟ بينوا بالدلائل
التاريخية والأثرية واللغوية مصدر عقائد هذه الكتب، ومآخذ أحكامها من ديانات
الأولين وتقاليدهم، وأثبتوا أن الأسفار المنسوبة إلى موسى قد كتبت بعده، وكذلك
سائر الأسفار قد كتبت بعد من نسبت إليهم أو زيد فيها بعدهم، فهم يقولون مثلاً:
إن السفر الفلاني فيه كلمة كذا وكذا من اللغة البابلية، وهي لم تدخل اللغة العبرانية
إلا بعد السبي الأول أو الثاني، وفيه حكم كذا، وهو من تقاليد البابليين دون
العبرانيين بدليل كذا وكذا. وقد وضع بعض علماء الألمان جدولاً للكلام الدخيل في
الكتاب الذي يلقبونه بالمقدس، وبين ذلك بالتاريخ تحديدًا أو تقريبًا. فهذه المطاعن
في الكتاب الذي ظهر بالبراهين أنه غير مقدس، لا معارض لها؛ لأن هذا الكتاب
مؤلف من كتب كثيرة لم تعرف أزمنة تأليفها ، ولم تنقل بالتواتر، وكانت عرضة
للتغيير والتبديل والتحريف من الرؤساء الذين كانوا مستقلين بها في الأزمنة
الماضية، إذ لم تكن مما يتناوله سائر الناس.
ونحن معاشر المسلمين نعتقد أن منها ما هو وحي من الله في الأصل، وقد
وفقنا في المجلد السادس للجمع بين شهادة القرآن لها وبين ما أثبته العلم من كونها
وضعيه مقتبسة من أديان الأمم السابقة؛ فليراجع ذلك في مقالة (النبأ العظيم) التي
شرحنا فيها اكتشاف شريعة حمورابي التي ظهر أن معظم التوارة الحاضرة مأخوذ
منها.
صدم القسيسون ودعاة النصرانية بهذا النحو من الطعن بدينهم وهو ما يسميه
علماء أوربا - الانتقاد العالي أو الأعلى - فكانت صدمة صادعة حاروا فيها
فأرادوا أن يحاربوا الإسلام بالسلاح الذي حوربوا به ، وجهلوا الفرق بين الزجاج
الملون والياقوت، والفرق بين بيت الحديد وبيت العنكبوت. فالإسلام أصلب من
الياقوت، وأقوى من الحديد؛ لأن كتابه قد ظهر على لسان النبي الأمي الأمين ،
وحفظ من حوادث التاريخ وعبث العابثين.
نشرت جمعية التبشير أو التنصير الإنكليزية الكتاب الذي تبحث فيه عن
مصادر الإسلام فرأينا أن مؤلفيه قد أخذوا ألفاظًا وردت في الكتاب والسنة مما كان
مستعملاً عند العرب أو غيرهم من الأمم، ودخلت في اللغة العربية قبل الإسلام،
وألفاظًا قريبة في اللفظ من ألفاظ أعجمية أخرى، ولكن لم يعرف أن العرب نقلوها
عنها وجعلوا هذه وتلك دلائل على أن دين الإسلام نفسه مأخوذ عن الأمم التي وجد
في الكلم العربي ما هو معرب عنها، أو يشبه أن يكون معربًا، فهذا أصل من أصول
مطاعنهم في ذلك الكتاب، وهناك أصل آخر وهو أن ما أقره الإسلام مما كانت
عليه العرب وسواها قد عد دليلاً على أن الإسلام مأخوذ عن الجاهلية ومن هم على
مقربة من الجاهلية في اصطباغ أديانهم بصبغة الشرك وإن كان لبعضها أصل
صحيح.
وإنني أذكر قبل الكلمة الموعودة مثالاً من الأمثلة التي وردت في الكتاب؛
ليعرف سخافته من لم يره من أولي الألباب؛ فمن ذلك زعمه أن الإسلام أخذ حكم
توحيد الله تعالى عن العرب؛ لأنه ورد اسم (الله) واسم (الإله) في أشعارهم قبل
البعثة، وأورد شواهد منها قول النابغة:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم
…
من الجود والأحساب غير موارب
محلتهم ذات الإله ودينهم
…
قويم فما يرجون غير العواقب
وقد جهل المؤلف المسكين أن كل الأمم تعتقد بالله تعالى، ولكنها تشرك به
وتزعم أنه له أبناء أو أولياء يعمل بواسطتهم فهو غير مستقل بإرادته تمام الاستقلال،
ولا يقدر أن يكفر خطيئة آدم مثلاً بدون خطيئة صلب المسيح! ! فما كل من عرف
اسم الله موحدًا لله، وأنه هو يعرف هذا الاسم، ولكنه لا يعرف التوحيد، ولينظر
قول النابغة: (محلتهم ذات الإله) وكان يغنيه عن التعب في استخراج الاسم
الكريم من أشعار العرب استخراجه من القرآن في إثبات اعتقاد العرب وغيرها بالله
مع الاحتجاج على نفي الشرك {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ *
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ
عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ} (المؤمنون: 84-92) ، وأمثال هذه الآيات التي تثبت لهم الإيمان
بالله والشرك به جميعًا مع إقامة البراهين على التوحيد، والاعتقاد الصحيح كثيرة
جدًّا فهل كان مثل هذا عند العرب أو عند النصارى؟ !
أراد مؤلف الكتاب أن يقلد علماء أوربا في هذه المسألة فأساء التقليد، فإن
أولئك قد بينوا أن كلمة الإله والآلهة في التوراة مأخوذة من لغة أخرى، وأن
العبرانيين استعملوها كما كانت مستعملة في الملة التي أخذوها منها ، ولعلنا نفصل
ذلك في فرصة أخرى بترجمة ما قالوه، ولكن صاحبنا أساء التقليد ، وشبهته أن
الإسلام وافق الجاهلية في تسمية خالق الكون، وهل ينطق النبي إلا بلسان قومه أم
جاء نبي بلغة جديدة لا يعرفها أحد فأفاد الناس بها؟ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ
بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) .
مثل هذا المؤلف في صنيعه هذا كمثل الذي قلد جوابًا فأساء التقليد، سمع
جماعة رجلاً ينادي: يا عبد الله. فقال له أحدهم: كلنا عبيد الله فمن تعني؟ وكان
فيهم رجل بليد سمع مرة أخرى رجلاً ينادي: يا حمزة. فأجابه: كلنا حماميز الله
فمن تعني؟ ورأى أمير على غلام مخايل الذكاء والنجابة فامتحنه بأسئلة منها: ما
أطيب الدجاج؟ قال: جلدها؛ فأجازه جائزة حسنة ، وكان له أخ بليد فحسده
وتعرض للأمير قائلاً: سلني كما سألت أخي، فقال له الأمير: ما أطيب شيء في
الجاموسة؟ قال: جلدها؛ فأمر بجلده.
أما الكلمة التي أهدم بها هذا الكتاب فهي أن محمدًا النبي الأمي بعث ليهدي
الناس إلى صراط الفطرة السليمة بإصلاح ما أفسدوا من دين الأنبياء وإقامة الدين
على أساس الاستدلال والعلم دون التقليد للرؤساء ، وهذا الكتاب يثبت للنبي الأمي
الاطلاع على جميع أديان الأمم وتقاليدها، وعاداتها، ولغاتها، وانتخاب قواعد
الإسلام وأحكامه منها كأنه كان ناشئًا في مكتبة كمكاتب باريس وبرلين ولندره
حيث الكتب في جميع اللغات والعلوم والفنون تأتي طالبها بآلات كهربائية كلمح
البصر مع أنه لم يقرأ، ولم يكتب، ولا نشأ بين قوم قارئين كاتبين ، وإنما كان أميًّا
ناشئًا في أمة جاهلية لا كتب عندها ولا علوم. ثم إن هذا الكتاب لا يعتبر الدين
صحيحًا إلا إذا كانت أحكامه كلها مخالفة لما عليه البشر، وإن كان حقًّا وخيرًا
وفضيلة كأنه يشترط في الدين أن يكون مصادمًا للفطرة في كل شيء حتى إذا ما
أقرَّ شيئًا من الخير الذي لا يخلو من الناس كان فاسدًا ومقتبسًا كله من الناس.
فجميع طعن هذا الكتاب في الإسلام لا يعدو موافقة بعض أحكامه لما كان عند الناس
وإن كان عندهم فاسدًا فأصلحه أو ناقصًا فأتمه ، وقد رأيت مثالاً من طعنه ،
وسنريك غيره فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رأي في سلب الأمن من الحجاز
تواترت الأخبار تواترًا حقيقيًّا أصوليًّا باختلال الأمن في بلاد الحجاز، وبأن
حكومة الحجاز التي ألقي زمامها بيد أمير مكة ووالي الحجاز قد كانت من عوامل هذا
الخلل. ظهر للناس كلهم من سبب ذلك الطمع في مال الحجاج الذي كانت الحكومة
تسلبه منهم وتنهبه باسم إعانة سكة الحديد الحجازية، واسم زيادة أجرة الجمال،
وبأسماء أخرى سمَّتها ما أنزل الله بها من سلطان، والسبب الخفي الذي يعتقده بعض
الخواص دون بعض هو أن كل ما قد جرى، فإنما جرى بتمهيد وإيعاز من الآستانة،
ولا نبحث في أدلتهم على ذلك الآن، وإنما نقول: إنه لا يبرئ الدولة العثمانية من
هذه الجناية الكبرى إلا عزل أمير مكة وواليها، ومحاكمتهما، ومجازاتهما، وعزل
وكيلهما أيضًا؛ فإن فعل السلطان ذلك فقد استبرأ لدينه ومنصبه، وإلا ثبت لجميع
مسلمي الأرض ما يتهامس به بعضهم الآن من أن كل ما جرى مُوعز به من
الآستانة، وأن الغرض منه منع الحج بالمرة ، أو منع خواص المسلمين وعلمائهم من
زيارة تلك البلاد لئلا يتآمروا هناك، وينصبوا لهم خليفة بالانتخاب الشرعي، وذلك أن
الخواص وأهل العلم هم الذين يعلمون أن الفريضة تسقط عنهم عند عدم الأمن على
الأرواح أو الأموال ، وهم الذين يحافظون على حياتهم كما يجب، وهم الذين
تخشى جانبهم سياسة التفريق التي يصعب عليها أن يجتمع اثنان أو ثلاثة من
أهل العلم والرأي، ولو في بلد غمره الاستبداد وتغلغلت فيه العيون والجواسيس.
فكيف يسهل عليها أن يجتمع العلماء والفضلاء من جميع الأقطار في موقف مقدس
يتمتعون مع ذنب الاجتماع بالأمن على أرواحهم وأموالهم؟ وأكبر أمانينا أن يُكَذِّب
سلطاننا - وفقه الله - هذه الظنون بما ذكرنا، ويعين للحجاز أميرًا وواليًا
آخرين يجعل عليهما تبعة كل المصير في حفظ الأموال والأرواح في تلك البلاد
المقدسة؛ لأجل لقب الخلافة هو الذي ينزع منه اللقب العظيم، وينفر من الدولة
قلوب جميع المسلمين.
ليس أمر العبث بالأمن في الحجاز كأمر العبث بالأمن في بلاد مكدونية
وأرمينية ، ولا الإلحاد في الحرم كالإلحاد في بلاد الروم وإن كانت باية إستانبول
العلمية - أعلى في قانون الدولة من - باية الحرمين؛ فإن ملاك هذا الأمر الذي
يسمونه الخلافة هو في اعتقاد أكثر المسلمين القائلين به حفظ الحرمين وتسهيل إقامة
هذا الركن الديني ، فإذا صار مهددًا بالهدم برضاء السلطان أو بعجزه فأي عمل من
أعمال الخلافة يبقى له؟
وظيفة الخليفة إقامة الدين وحفظه فإذا كان المرتد لا يقتل، وإذا كان الألوف
من المسلمين يكلفون بترك صلاة الجمعة للوقوف أمام الجامع الحميدي عند
صلاتها؛ وإذا كان ركن الزكاة قد هدم ، والسلطان العثماني لا يبالي بهدمه كما
بالى الخليفة الأول؛ إذ حارب مانعي الزكاة بإقرار الصحابة ، وإذا كان الصوم
سرًّا بين العبد وربه؛ فهل بقي من ركن من الخمسة تطلب فيه عناية سلطان
المسلمين غير الحج؟ وهل يطلب منه في ذلك شيء أقل من حفظ الأمن، ومنع تعدي
العمال وأعوانهم من الأعراب على أنفس الحجاج وأموالهم؟ ألم ير السلطان كيف
أقبل المسلمون على إعانة سكة الحديد الحجازية بالألوف وألوف الألوف مع إهمالهم
فضيلة التعاون على الأعمال العمومية في هذا الزمان؟ ألم يعلم أن السبب في هذا هو
اعتقادهم بأن هذه السكة تسهل لهم طريق الحجاز؟ فإذا رأوها آلة لسلب الأمن على
المال والأنفس في الحال، فكيف يصدقون أن الغرض منها حفظ الأمن في الاستقبال؟
ألا يعلم السلطان أن كل مسلم يسائل نفسه اليوم: هل السلطان قادر على تأمين
الحرمين الشريفين أم لا؟ وأنهم لا يجدون في أنفسهم إلا أحد جوابين: إما أنه قادر
ولكنه يريد سلب الأمن، وإما أنه غير قادر. فأي الجوابين يرضيه إذا لم يبادر إلى
معاقبة أمير مكة وواليها وعزلهما مع وكيلهما، ووضع آخرين مسؤولين عن الأمن في
موضعهما وإعلام جميع الأقطار بذلك.
أيظن أن المسلمين في مشارق الارض ومغاربها ينخدعون بقول جرائد الآستانة
وجرائد بيروت: إن أمير الحجاز وواليه قد حفظا الأمن أتم حفظ، وأن الحجاج كانوا
في غاية الرفاهة والراحة لا شغل لهما إلا تكرار الدعاء للخليفة الأعظم والسلطان
الأفخم كما جاء في المنشور الرسمي الذي أرسلاه إلى الآستانة حسب العادة المتبعة في
كل عام؟ كيف ينخدع من يرى هذه الجرائد - وقليل ما هم - بقولها وقد انبث
في الأقطار مائتا ألف حاج، وكلهم يخبرون بكذبها؟ إذا حدث كل حاج عشرة من
الناس بما رأى وسمع وقاسى وعانى يكون مجموع العارفين مليونين، وكم يخبر كل
واحد من هذين المليونين؟ إن هذا أمر ليس كسائر الأمور فينفع فيه تضليل الجرائد
التي ينخدع بها الجاهلون بسلطة السياسة عليها. على أن الجرائد الحرة في مصر
وغيرها أكثر من تلك الجرائد انتشارًا وأصدق أخبارًا، وقد أجمعت على تمثيل فَقْد
الأمن في الحجاز لا سيما بعدما ورد تقرير أمير الحج المصري على الحكومة
ونشرته في الجريدة الرسمية، وفيه من تمثيل المخاوف والاعتداء على الأموال
والأنفس ما يؤكد رسائل الحجاج الكثيرة.
يسند بعض المنافقين من أصحاب الجرائد وغيرهم كل إلحاد في الحرم إلى
شريف مكة، وجريدة (ترك) تملأ ماضغيها بذم العرب والأشراف مستدلة بسوء
سيرة الشريف، ولكن العاقل والجاهل يعلم أن الشريف أحد عمال السلطان، ويذهب
كثير من الناس إلى صحة ما قالته جريدة الجوائب المصرية، كما في الجزء الماضي
أن السلطان قد أقامه هناك وأقره على الظلم؛ ليكون حجة على العرب والشرفاء أمام
المسلمين، ولكن هذا غير معقول فإن الناس يعرفون أن السلطان قادر على عزله
وعلى تأديبه في كل آن، ويعرف الكثيرون أن الشريف لم يكن له أمر ولا نهي على
عهد عثمان باشا والي الحجاز السابق، بل كان ذلك الوالي قد ألجأه إلى تَرْكِ المقام
في مكة، فأقام في المدينة المنورة حتى عزلت الدولة عثمان باشا عن الحجاز. وكان
أول عمل كسر به شرته أن أمر فرقتين من العسكر بحمل مدفعين والإحاطة ببيت
الشريف، وطلب جانٍ التجأ إليه منه وقال لهم: إن أبى تسليمه فضعوا الحديد في يد
الشريف نفسه ، وأحضروه إلى هنا بالقوة.
وقد بادر البكباشي إلى إخبار الشريف بذلك فأرسل الجاني حالاً، وكان يهزأ
قبل ذلك بالحكومة إذ تطلبه منه.
لعل بعض القراء يمتعض من شدة إنكارنا لميله مع ريح السياسة أكثر من ميله
إلى خدمة الدين، وربما يسبق إلى وهمه أن للنفس هوى في هذه الكتابة لما تعود عليه
من كتابة أهل السياسة. ولي أن أقول لهذا الواهم: إنني - ورب الكعبة - أتمنى لو
أحج ، وإنني - ورب الكعبة - لا آمن على نفسي، بل أعتقد أن الحج حرام عليَّ
ما دام هؤلاء الحكام على سيرتهم هذه في الحجاز ، وإنني - والله - أتمنى لو تصلح
حكومة الدولة العثمانية فتكون خير حكومة في الأرض، ولكنني أحب صلاح الدولة
لأجل الإسلام ، لا إنني أحب الإسلام لأجل الدولة.
إن الله تعالى امتن علينا بجعل البلد الحرام والبيت الحرام أمنًا للناس كما نطق
بذلك القرآن الكريم، وما نحن من تفسير بعض آياته في ذلك ببعيد ، منها قوله تعالى:
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل عمران: 97) ،
وقوله عز وجل {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج:
25) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته بعرفة يوم النحر من حجة
الوداع: (فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في
بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد،
فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مُبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب
بعضكم رقاب بعض) رواه أحمد والبخاري فجعل حرمة الدماء والأموال مشبهًا ،
وحرمة البلد الحرام والشهر الحرام مشبهًا به كأنه أبلغ في التحريم، فكيف صارت
الأموال والدماء تباح في البلد الحرام في الشهر الحرام، ولا يوجد من يسأل عنها؟
وكيف يحرم الله في ذلك المكان والزمان قتل القمل والحشرات، وقلع النبات،
وتحلل الحكومة العثمانية قتل النفوس المنيبة إلى ربها اللاجئة إلى بيته الداخلة في
ضيافته وسلب الأموال المحرمة كذلك ، ثم ندهن لها ونكون من المؤمنين!
إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده
فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه أحمد
ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم، ونحن قادرون على الإنكار بألسنتنا فكيف نسكت،
والواجب على المسلمين أنَّى خرجوا عن طاعة هذه الحكومة إذا ثبت أنها تتهاون
بأمر الأمن في الحجاز، ولا تمنع الظلم منه ، فإن سكتوا ورضوا كانوا ملعونين في
القرآن ، ويوشك أن يسلط الله عليهم من ينزع منهم ما بقي بأيديهم يعيثون فيه فسادًا
حتى الحجاز {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78-79) .
هذا وإننا إنما نشدد في الإنكار رجاء التأثير، ونسأل الله تعالى أن يوفق هذه
الدولة إلى المبادرة إلى تلافي هذا الأمر بطريقة تقنع القريب والبعيد، والذكي
والبليد، بأن الأمن قد عاد إلى تلك البلاد المقدسة، وإلا فإن العاقبة تنذر بخطر
عظيم يشعر به المتفكرون، وإن عمي عنه الطامعون، وتغافل عنه المنافقون،
وجهل مثاره الغافلون، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء:
227) .
_________
الكاتب: سائح بصير
بلرم صقلية
(5)
أمير وأميرة من الأسرة الخديوية
البحر هادئ والهواء عليل. وقد قرب الغروب واليوم آخر أيام السفر، وأنا
محبوس في هذا المكان الضيق لتحرير هذه الأحرف إجابة لطلب بعض الناس،
وبودي لو أستنشق الهواء لكن بقيت عليَّ قصة أقصها ولو تركتها اليوم، لم يعد
إليها القلم في يوم.
صعدت إلى المركب من مسينا وجلست أنتظر مسيره، وبينا أنا كذلك وإذا
بأمير من أعضاء العائلة الخديوية يصعد من السلم إلى السطح فنهضت للسلام عليه
وتساءلنا عن مراحل أسفارنا، وفهمت منه أن معه حرمه، وهي من أعضاء العائلة
الخديوية كذلك. فقلت: أمير جليل رُبِّي على الطريقة الأوربية، وتعود السفر إلى
بلاد أوربا مع حَرَمِهِ وهي كذلك قد ربيت على العظمة والحرية فلا ريب أن نرى
الأميرة مع الأمير، ولا يقدح ذلك في كرامة واحد منهما فإن الأميرات المصونات
قد يرين الناس من حيث لا يراهن الناس لا لأنهن من عالم غير عالمهم، ولكن لأن
الناس يغضون الطرف احترامًا لهن، ولا حظر عليهن في رؤية من لا يراهن.
لكني مكثت مع الأمير إلى وقت العصر، ثم تركته وذهبت إلى محل الأكل لأتناول
شيئًا مما يتناول في هذا الوقت فكان جلوسي مع بعض أرباب البيوت من الفرنسيين
المقيمين في الإسكندرية. فبدؤوني بالكلام فتكلمت، وامتد بي وبهم الحديث إلى حالة
المركب وازدحامه بالركاب وضيقه عنهم ، فقال قائل أو قالت قائلة: ما أسوأ ما
صنعت الشركة مع البرنسيس فإنها وضعتها في قُمْرَةٍ ضيقة لا شباك لها، وهي
ملازمة لها ليلها ونهارها، ولو كانت ممن يخرجن ويستنشقن الهواء لسهل الأمر،
ولكن الأميرة لا تخرج أبدًا؛ لأنها لم تخرج قط من يوم ركبت المركب، ومن
القُمرات ما هو أفضل من قُمْرَتِها وأوسع. فسألت: هل بها شيء تألم له لو خرجت؟
فقيل لي: لا ، الظاهر أنها في غاية الصحة، وكمال العافية غير أنها لا تحب أن
تخرج، والقُمرة مقفلة في جميع الأوقات.
أمكنني بعد ذلك أن أسأل حتى يتم سروري بما فرحت لأوله فعلمت أن الأميرة
كانت في أوربا تسدل على وجهها نقابًا أزرق على نحو ما يسدل نساء الآستانة أو
سوريا بحيث لا يميز الناظر شيئًا من وجهها، ومتى ركبت المركب لزمت قُمرتها ،
وأغلقتها عليها إلى أن تصل إلى غاية سفرها، وكل ذلك تفعله حرصًا منها على
كرامتها، ومحافظة على المعروف من عوائدها من حيث هي أميرة مسلمة. فقلت:
مَثَلٌ صالح لا بد من ذكره، والثناء عليه، حتى يتعلم أولئك المقلدون أن من أمرائهم
وأميراتهم من هم أَوْلَى بتقليده، وأن خيرًا لهم أن يقلدوا أميرًا مصريًّا من العائلة
الخديوية الكريمة من أن يقلدوا جماعة من الأوربيين غير معروفين لهم، ولا
يحسون بتقليدهم، ولا يستفيدون من حذوهم إلا تجردهم مما يميزهم من حيث هم
مصريون أو مسلمون، واختفاءهم في غمرة أولئك الأوربيين لا يتميزون عن
عامتهم في شيء، وسريان ما يشكو منه القوم من الفساد إلى أنفسهم أو أنفس نسائهم
فبارك الله في الأمير والأميرة، وأرشد الله شبابنا إلى التأسي بهما إن كان لا بد
لنسائهم أن يذهبن إلى أوربا لمداواة علة، أو إيناس في غربة.
لعلك تسأل: مَنْ هذا الأمير، ومَنْ هذه الأميرة؟ فإني أقول لك: الأمير هو:
الأمير عباس باشا حليم والأميرة هي: الأميرة خديجة أخت أفندينا الخديوي عباس
باشا حلمي ومما يسرك - إن كنت مثلي تحب العفة، ووضع الشيء موضعه -
أن الأمير لا ينفق في سفره إن كان وحده أكثر من ثلاث مائة وخمسين جنيهًا، وإذا
كان مع الأميرة فلا ينفق أكثر من ستمائة جنيه في مدة شهرين ونصف، وهو
يعيش عيشة الأمراء.
تقول: لعله يقتصد ليكتنز، ويوفر ليستكثر، فأقول لك: إني علمت أنه ينفق
من ماله في تربية تلامذة في مصر، وفي الآستانة وفي إنكلترا يتعلمون العلوم
العالية في المدارس الحربية أو مدارس الطب أو الزراعة. فما قولك في نفقة مثل
هذه بدل النفقة في الشهوات وفوائت اللذات؟ ألست توافقني على أنه من أفضل
الأمراء عملاً، ومن أنبلهم قصدًا فإنه يربي أناسًا يقومون بشئون بيوتهم أعرف
بعضهم وأجهل بعضًا، ألا يكسب بهذا حسن الأحدوثه وتخليد الذكر خصوصًا إذا
استزاد من هذا الخير فإنه بذلك يقوي عناصر العلم في البلاد ، وهو الأصل الذي
نحتاج إليه، لا سيما إذا انضم إليه حُسن التربية كما هو مقصد الأمير. ولو اقتدى
به الأمراء لأصبحنا في ثروة من العلم، ولم تصب حضراتهم بالإفلاس من المال.
بعد الإفلاس من الكمال، وفقه الله وأرشدهم ، والسلام. اهـ
(المنار)
تمت ملاحظات السائح البصير في تعريجه على صقلية وقد كتبت النبذة الرابعة
في الجزء الـ 24 من السنة الماضية ثالثة (3) ولعله يتكرم علينا بشيء من
ملاحظاته النافعة في البلاد الأخرى التي ساح فيها ليعلم السائحين الكثيرين من
أمته كيف ينتفع البصير بالسياحة، وكيف يأمن مضرتها ومن أجدر من سائحنا
بهذا الإرشاد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(تقريظ المنار لعالم غير مقلد)
قال بعد رسوم الخطاب:
منارك مرغوب المؤمن المحب لربه ، ولما أبدع ربه من الوجود البديع
الواقف عند حدود سنته ، وجدير بمن أكرمه الله بالمرغوب أن يأخذ بحظ وافر من
ذكره سبحانه الذكر المتعاقب الذي لا يلبث معه النسيان إلا خلسًا قليلة. ذلك ذكر الله
الذي تطمئن به القلوب، ويتوحد به المحبوب، ولا يفوت معه مرغوب، اللهم أعنا
على ذكرك.
نشكرك وأنت العليم بذات الصدور- يا من أكرمتنا بكتاب (المنار) المنير.
نشكرك أن أتممت على ظهوره السنة السادسة سائرًا سيرته التي نعتقد أنها ترضيك.
نشكر لك الفضل، ولك الحمد، ولك المنة، ومنك العون، ومنك التوفيق.
ويا صاحب المنار ، لقد قمت فينا مقام المصلحين. فعليك منا الثناء نعلنه لك
ليكون من آيات إثمار غرسكم النافع. ومن آيات حبنا إياك في الصراط المستقيم
الذي نرجو أن نصل فيه إلى المجد الحقيقي والسعادة التي لا ينكرها أحد- ولا
السوفسطائية.
انتهت السنة السادسة ، أما أشواق الملأ إلى بدائع ما تحيون من السنن؛ فلما
تنته ، ولما ينهها خاطر من الخواطر ، بل هنالك حداة بها يزيدون في سيرها. تلك
أشواق الذين ذاقوا كنه الأمور فأصبحوا يميزون بين الحقائق والأوهام، كالتمييز
بين وقائع اليقظة والأحلام.
وهذه السابعة أقبلت فعسى أن يكون مباركًا إقبالها ، وعسى أن يزيد المنار فيها
إشراقًا يستنير به المخلصون المنصفون، ويشرق به الحسدة والمعاندون.
وإليك أرسلنا هذا الكتاب نصف فيه مسرتنا بأننا من محبي المنار المتمنين
دوام سطوع أضوائه. وفي كل حرف حررناه نطق للفؤاد بأدعية خالصة بها
تضرعنا للقوي سبحانه أن لا يخيب أملنا ، وأن يخلص إليه عملنا، وأنت اللهم ولي
المؤمنين.
***
(الجزء الثالث من كتاب أشهر مشاهير الإسلام)
قد صدر الجزء الثالث من هذا التاريخ الاسلامي الوحيد في بابه ، وهو في
سيرة أشهر قواد الخليفة الثاني وعماله - أبي عبيدة عامر بن الجراح فاتح الشام،
وسعد بن أبي وقاص فاتح بلاد الفرس، وعمرو بن العاص فاتح مصر، وقد جرى
مؤلفه (رفيق بك العظم الشهير) في تراجمهم على الطريق التي جرى على تراجم
من سبقهم أعني طريق التمحيص والتحقيق ، وبيان أسباب الحوادث ونتائجها ،
والإرشاد إلى وجوه العبر فيها ، وبسط الكلام في موضوعات استطرادية نافعة يعبر
عنها بالكلمات، فمنها كلمة في العمال وكلمة في القبور ، وقد سبق لنا نشرها في
المنار ، وكلمة ثانية في أهل الذمة، وقد نشرناها أيضًا.
ومعظم الكتاب في ترجمة عمرو بن العاص فإنه أعظم عمال عمر دهاءً
وسياسةً وأعمالاً ، وإن كان أبو عبيدة أعظمهم أمانة واستقامة وورعًا وديانة ، ويليه
في ذلك سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وقد اعتذر المؤلف عن عمرو أن زج
نفسه في غمرة الفتنة بين أمير المؤمنين علي ومعاوية بأنه لم يسعه على حبه
للرياسة والتقدم في الأمور ما وسع النفر المعتزلين من حب السلامة؛ بل رأى أن
انتفاع فريق من أولئك المختلفين برأيه ربما كان فيه تعجيل بإطفاء شواظ الفتنة
وحسم لمادة الاختلاف الذي أهريق فيه دم الأمة ، وأنه في ذلك كغيره من الصحابة
الذين دخلوا مدخله، وأنه أراد أن يجعل معاوية وسيلة يعمل به ، ثم يعمل لنفسه
إذ كان يطمع في الخلافة، وأنه في ذلك كعظماء الدين في هذا الزمان وفي كل
زمان ، فإن كثيرًا من الملوك قتلوا إخوتهم أو أولادهم لأجل الملك ، ولم يطعن
الناس في أصل دين أحد منهم وأكثر ما يقال فيهم: إنهم عصوا الله إذ رجحوا
دنياهم على دينهم. وبين المؤلف أن عَمْرًا كان يعتقد أن معاوية على الخطأ ، وقال
بعد ذلك: (وهذا يدل على أن عليًّا رضي الله عنه لو تألف عَمْرًا واستدناه إليه
لانتفع به ولصدقه الخدمة أكثر منها لمعاوية ، ولكن إغراق علي في حب الفضيلة
دعاه إلى ترك الحيلة بمثل عمرو كما دعاه إلى عدم قبول إشارة من أشار عليه
بتأليف معاوية وتثبيته على ولاية الشام كما سترى بعد) اهـ. وهذا يؤكد أن تلك
الأعذار عين الذنوب.
أما الكتاب فهو في غنى عن التشويق إليه والترغيب فيه فإنه قد راج رواجًا
عظيمًا حتى إنه ليوشك أن يعاد طبع الأجزاء السابقة ، وطبع هذا الجزء في مطبعة
المنار ، وهو أحسن من سابقيه طبعًا وتصحيحًا. وثمن النسخة منه خمسة قروش
صحيحة ، وأجرة البريد قرش ونصف ، ويطلب من مؤلفه، ومن مكتبة المنار بشارع
درب الجماميز وغيرها من المكاتب المشهورة.
***
(الدولة العلية وماليتها)
رسالة نافعة مفيدة لكاتب عثماني غيور رمز إلى اسمه بحرفي (م. ق) بَيَّنَ
فيها النفقات الرسمية القانونية التي تنفقها الدولة في الوزارات والمصالح وغير
الرسمية ، وقد كان الكاتب أرسلها إلينا لننشرها تباعًا في المنار ، فنشرنا منها نبذة،
ثم رأينا بعد إشارة غير واحد من القراء عدم نشر الباقي ، ولكن الكاتب لم يرد أن
يحرم الأمة من الانتفاع بها فطبعها على حدتها. ومن هذه الرسالة يعلم أن كبار
رجال الدولة يأخذون رواتبهم الشهرية مضاعفة ويزادون من المكارم السلطانية ما لا
حصر له. وأما صغار العمال والجند فإنهم لا يصلون إلى رواتبهم القليلة إلا في كل
أشهر مرة. وقد اقترح الكاتب في آخر رسالته عشرين أمرًا رأى أن إصلاح الدولة
بدونها محال وهي:
1-
تنقيح دوائر الحكومة ، وتقليل المرتبات التي لا لزوم لأربابها، وإرجاعها
لأصل القانون العثماني ، والتخفيض من ذلك الجيش الجرار الموجود في تلك
المجالس المشكلة في الآستانة كما تقدم ذكره إلى عدد لا يتجاوز ما نص عليه في
القانون.
2-
إحالة أغلب القواد الحائزين على رتبة المشيرية والفريق الذين لا ينتظر
منهم خدمة حقيقية على المعاش ، والإقلال من الإنعام بهذه الرتب السامية ذات
المرتب ، وجعل عدد كل من الرتبتين لا يتجاوز حدًّا معلومًا أسوة بباقي الدول.
3-
إحالة قسم من الياوران على الجيش ، وخصم راتب الكوردون ، والاكتفاء
براتب الرتبة كما هي الحالة المتبعة عند الدول الأجنبية.
4-
قطع المرتبات عن الجرائد.
5-
حل جيوش الجواسيس واقتصاد رواتبهم.
6-
إلغاء الوظائف التي لا عمل لها ، وإبطال إسدائها لغير مستحقها لانتمائه
لبعض الكبار المعبر عنه بالمحسوبية.
7-
زيادة رواتب صغار المستخدمين ، ورواتب ضباط الجيش من رتبة الصاغ
وما تحتها.
8-
قطع دابر الرشوة من دواوين الحكومة.
9-
ترتيب الترقي في الخدمات الأميرية على الخطة الجارية في أوربا.
10-
عدم عزل الموظف إلا بعد محاكمته ، وعدم استخدام من يعزل لثبوت
جريمة عليه.
11-
عدم إعطاء امتيازات ذات ضمان للأجانب؛ بل حصرها في أهل البلاد.
12-
تنشيط التجارة والزراعة ، وتأليف شركت تجارية وصناعية.
13-
وضع رسم قليل على كل تلميذ يتعلم بالمدارس الأميرية للاستعانة بذلك
على توسيع دائرة التعليم.
14-
إعطاء الحرية للجرائد والمطبوعات.
15-
إصلاح المكاتب العمومية (الكتبخانات) بالآستانة أو جمعها بمكتبة
واحدة ، وفتحها دائمًا للمطالعة ، ويوضع رسم طفيف على كل داخل إليها.
16-
قطع المرتبات التي تعطى من البلديات إلى المنفيين أو بعض
(المحاسيب) .
17-
إعطاء الوزارة الحرية بالعمل.
18-
عمل ميزانية سنوية ونشرها في الجرائد.
19-
تنفيذ أحكام القانون بالمساواة واستقلال القضاء عن الإدارة والسياسة وهو
الأهم.
وفي الرسالة فوائد كثيرة وكلام في مستقبل الدولة ، وثمن النسخة منها قرش
واحد، وتطلب من مكتبة المنار.
***
(تقويم المؤيد لسنة 1322)
أصبح هذا التقويم أشهر من نار على علم، وهو يزداد فائدة عامًا بعد عام حتى
يقول الناظر فيه: ليت شعري! أي شيء جديد يكون فيه بعد هذا، وهو الآن
مؤلف من خمسة عشر بابًا يدخل في كل باب من الفوائد ما هو سمير السامر،
وأنيس المسافر، وفي باب التاريخ من هذه السنة تراجم سلاطين آل عثمان ،
وتاريخ أشهر الممالك الأوربية ، وكلام في مستعمراتها ، وجداول لتاريخ الملوك
والرؤساء من كل أمة. وفي بابي أحوال مصر والسودان ما لا يستغنى عن
معرفته، وفي باب القضاء معجم يشرح فيه الاصطلاحات القضائية. وفي باب
المعاهدات والسياسة كلام طويل في المسألة المكدونية والمسألة المراكشية والمسألة
اليابانية الروسية وغير ذلك. وفي باب تدبير المنزل ما يفيد كل منزل ، وفي سائر
الأبواب من الفوائد ما لا محل هنا للإشارة إليه. ولكننا نقول كلمة واحدة في تقريظ
هذا التقويم وهي: (إنه مكتبة في الحبيب) وهو مجلد تجليدًا جميلاً ، وثمن النسخة
منه خمسة قروش صحيحة فقط ، ويطلب من مؤلفه محمد أفندي مسعود المحرر
بجريدة المؤيد.
***
(تقويم العرب)
يطبع في مصر كثير من التقاويم المختصرة التي يسمونها (النتائج) وهي
لمعرفة تاريخ الشهور الهجري مع الإفرنجي والقبطي ، ويزيد بعضها العبري. وقد
جرت عادتهم بأن يكتبوا بإزاء الأيام ما يكون فيها، أو يحسن من احتفال ملي أو
عمل زراعي وغير ذلك. ويسمون ذلك بالتوقيعات ، والكثير من هذه التوقيعات يدخل
في باب العادات المنتقدة والأوهام الضارة. وقد وضع محمد أفندي حسين
مساعد سكرتير شركة طبع الكتب العربية تقويمًا جديدًا لهذه السنة بمساعدة خضر
أفندي إبراهيم. رغب فيه عن توقيعات العادات العمومية المعتادة إلى ذكر أشهر
الوقائع والحوادث التاريخية ، ولم يهمل ذكر الأعمال النافعة في أوقاتها كابتداء
زراعة القطن وغيره. فهذا التقويم على صغره تاريخ إسلامي وجيز فيه ذكر مواليد
أعظم رجال الإسلام ووفياتهم وأشهر الوقائع.
وقد طبعته شركة طبع الكتب على نفقتها ، ونرجو أن يفوق سائر النتائج في
الرواج والاشتهار ولو بعد حين. وثمن النسخة منه قرش واحد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(خطر علينا وعلى الدين)
نشر المقتطف مقالة بهذا العنوان لعبد القادر أفندي حمزة المحامي بالإسكندرية
أعجبني منها نظم الكلام وأسلوبه وترتيبه ، وتنسمت منه الغيْرَة، وحسن القصد،
فخطر لي عند القراءة أن أكتب إلى صاحب المقالة مُبينًا له رأيي فيها، ثم رأيت أن
أكتب ذلك في المنار بالإسهاب اللائق بالموضوع فلم تسمح لي الموضوعات
العارضة مع ما لا بد منه في كل جزء كالتفسير من كتابة ما أردت في الجزءين
السابقين، وقد كاد يتم هذا الجزء أيضًا، ولم يبق منه ما يسع كل ما أريد فأكتفي
ببعضه.
قال: إن الأمة إذا كانت متأخرة جاهلة لا تخطو إلى الإمام إلا بعد التقلب في
أدوار طبيعية، أولها: أن يكثر فيها الناصحون والمرشدون. وحكم بأن الأمه
المصرية في هذا الدور، والقاعدة صحيحة كما قال، ولكن المرشدين لم يكثروا إلا
أن نقول: إن المراد بالمرشدين من يتصدى للنصح على أن كثرتهم مرجوة، فنحن
في هذا الدور.
ثم قال الكاتب: إن هذه الأمة - على كثرة الصائحين فيها من
المرشدين - لا تفقه كلمة من عشر كلمات مما يلقون عليها، ولا تدري إلى أين تساق.
وهذه جملة مسلمة أيضًا ، فإنك كنت تجد المتعلمين يصدقون الأحداث إلى الأمس
فيما يخبرون عن مستقبل مصر، وإخراج فرنسا الإنكليز منها ، ويصدقون صاحب
الخمارة في أن العالم الفُلاني أخطأ في بحث القضاء والقدر! !
ثم انتقل الكاتب إلى مسألة الدين فزعم أن جميع المرشدين المختلفين في كل
شيء، متفقون على دعوة الأمة إلى الدين ، وأن الأمة متفقة معهم في ذلك فإذا
اختبرت الناس في كل بلد، وإذا راقبت معلمي المدارس، ومربي الأطفال، وإذا
نظرت إلى المؤلفات الجديدة، وإذا همت في أودية الشعر مع أهله ، وإذا تلوت
الجرائد والمجلات؛ فإنك لا تجد في هذا كله إلا دعوة الدين وإقناع النفوس بأن
النجاح والترقي لا يكون إلا به.
وهذه دعوى غير مسلمة قد غلا الكاتب فيها غلوًّا كبيرًا، فلو درت في البلد
واختبرت حال الناس؛ لقلت: إنهم لا دين لهم، ولا هَمَّ لهم في الدين ، ولكنك تجد
عند الفلاحين شيئًا من التقاليد المنسوبة إلى الدين ، وأكثرها ليس منه في شيء،
وهؤلاء لا ينظر إليهم في هذه المسألة؛ لأنهم لا رأي لهم وهم لم يأخذوا ذلك عن
المرشدين في هذا الدور.
ولو عرفت حالة معلمي المدارس لما رأيت فيهم عشرة في المائة، أو في
المجموع يؤدي الواجب عليه في قانون الحكومة من تعليم الدين، بل إن منهم من
يشغل وقت درس الدين بتعليم العربية، ويقول للتلامذة: هذا أنفع لكم؛ لأن درس
الدين لا شأن له في (نمر الشهادة) وقد اقترح واحد من الذين عهدت إليهم نظارة
المعارف بالنظر في قانونها (البروغرام) أن يضاف إليه درس ديني في القسم
التجهيزي فرفض طلبه بأكثر الآراء! ! ولو علم الناس ما علل به الرافضون
رفضهم لقضوا عجبًا! !
ولو التفت إلى الشعراء وطلاب الخيال لوجدتهم لا ينظمون شيئًا في ترقي
الأمة، ولا يذكرون ذلك إلا أن يحثوا الأمة على الفناء في حب الأمير وتفويض الأمر
كله إليه، والتعويل في السعادة عليه. أما المصنفات فالديني منها قليل جدًّا.
وأما الجرائد والمجلات، فليس فيها ما هو ديني إصلاحي إلا (المنار) ولا
أدري هل قلب صحائفه من قلب الدعوة الدينية على جميع وجوهها حولين كاملين أم
لا؟ ولا أنكر أنه يوجد أحيانًا في الجرائد كلام أَوْكلم في الدين، ولكنه يوجد عرضًا
يرمون به غرضًا لا أعرف جريدة لها دعوة دينية، أو رأي في الإصلاح الديني
تحاول إقناع الناس به ، فإن كان الكاتب يعرف فأرجو أن يدلني على هذه الجريدة
لأستعين بها في عملي.
من هذه الجرائد المعروفة ما هي للأمير خاصة تدور معه حيث دار، فإذا
حضر الأمير احتفالات الموالد والمواسم المبتدعة في الإسلام قامت تنادي بإحياء هذه
الأمور خدمة للإسلام، وإذا احتفل بمرقصه السنوي، وفيه ما فيه من شرب الخمور،
وهصر الخصور؛ قامت تنوه بفضل هذا الاحتفال وتعده من أصول المدنية
والعمران، ومرقيات الأمة، ومنهم ما لا هم لصاحبه إلا المال والفخفخة فهو يسلك
لأجله كل مسلك، ويسير في كل فج، ناصبًا للمال والجاه كل فخ، ومن ذلك
إظهار الغيرة على الدين عند سنوح الفرص وحدوث الحوادث، ويقل فيها ما يكتب
لمجرد الغيرة على الدين، وإن خالف أهواء العامة والحاكمين، ثم إن وجد هذا أحيانا
فإنه لا يلتزم دائمًا.
وهذا الذي قلناه قد اعترف به الكاتب ، وقال: إنهم يتاجرون بكلمة
الدين، ويتخذونها مطية للتغرير والتضليل، ولكننا نذكره بأنه لا يوجد واحد منهم
رسم لنفسه خطة، وفرض على نفسه الدعوة. إذًا لا يوجد فيهم من يشغل الأمة
بالدين عن أي عمل من أعمال الترقي فلا خطر علينا ولا على الدين منهم.
ثم انتقل إلى مسألة (ميراثنا الديني) فأحسن وأصاب في قوله: إن أهم
أسباب ما نحن فيه من الخلل الديني التقليد، ولكنه غلا في تمثيل إرثنا بعض
الشيء، ولا حاجة للبحث فيه ، وإنما ننتقل معه إلى البحث في النتيجة.
قال: (إن في الداء بالدين اليوم، وهو كما هو من الانحراف عن صورته
الأصلية خطرًا عليه لا يبعد إذا لم تتداركه أن ينتهي بانحلاله وضياع أصله في قليل
من السنين) .
ثم استدل على ذلك بسوء حال طلاب المدارس، وعلماء الشرع
وسائر طبقات المسلمين، وبَيَّن بُعْد الجميع عن الدين. وهذا صحيح، ولكنه لا
ينتج ما قال أولاً؛ لأن هذا ليس أثرًا لنداء المرشدين أو المتصدين للإرشاد بالدين،
وإنما هو أثر التقاليد المتبعة بالعمل قبل أن تدخل الأمة في هذا الطور أو الدور الذي
قال أولاً: إنه أول أدوار ترقي الأمم ، فليس الخطر علينا وعلى الدين إذًا من هذا
النداء الجديد - إن كان - وإنما الخطر كل الخطر في بقائنا على التقاليد الموروثة
بالتربية والعمل أو (بالبدع والخرافات والتقاليد والعادات) التي لها باب مخصوص
في المنار، فإننا لا نقوى بها على معارضة المدنية الجديدة، ولا على مجاراتها،
ولا نقدر أن نكون بها أمة عزيزة قوية.
ثم ضرب لنا مثلاً ما كان من الانقلاب الديني في أوربا ، وفي سياقه مجال
للبحث، ولكنه غير جوهري فهو لا يشغلنا عن الحقيقة البيضاء النقية في قوله: (ألا
فلنعرف جيدًا ولو ساءتنا هذه المعرفة أننا بجهلنا الأعمى وتشيعنا الكاذب أوصلنا
الدين اليوم إلى حال إن استمرت ولم نقف في طريقها؛ أدت ولا محالة إلى زواله)
ثم بين الكاتب طريق تلافي الخطر المتوقع بالإجمال فقال:
(لا يقولن مندفع أني أريد بهذا أن يترك الدين جانبًا! ! فمعاذ الله، ثم
معاذ الله أن أريد ذلك، أو أن يخطر على فكري شيء منه. إنما أريد أن يلبس
الدين بيننا ثوبه الحقيقي، ذلك الثوب الأبيض الطاهر الذي تنظره الأبصار فيعجبها
جماله، وتسرها حقيقته، أريد أن ترمى تلك التقاليد والعادات الموروثة التي تلبست
بالدين بعيدًا ليعود خاليًا من الشوائب يتسع المجال فيه للفهم السليم، والنظر
الصحيح، أريد أن تحفظ للدين كرامته، فلا يجعل هدفًا لكل متشدق مغرور يتجر
بالمناداة به على جهل ولغير داع، أريد أن تمحى من بيننا آثار التغالي والتشيع؛
فنعلم أن القرآن لم ينزل إلا بقواعد عامة للناس جميعًا، فلنا ولكل أمة أن تتصرف
في مدلولاتها بما يناسب الزمان والمكان دون تقييد، أو حجر على الأفهام، إلا ما
يخرج عن الدين، أريد أن لا يؤتى بكلمة الدين أمام العلم ليقال: إن آية أو حديثًا
يعارض معناهما شيئًا من العلم، فإن الدين لم ينزل ليعلم الناس العلم، أو لينافي
العقل في شيء حتى يعارضهما، ولو في بعض الأحايين، أريد أخيرًا أن لا نكثر
من الصياح باسم الدين؛ حتى لا تلتفت العقول الناشئة إليه قبل أن يظهر في ثوبه
الحقيقي لئلا تنفر منه ، ونكون قد جنينا من حيث طلبنا الفائدة) . اهـ
نقول: هذا هو صفوة المقالة، وجوهرها، ونحن نسلم له بكل ما يريد مع
بحث في الأمر الأخير المبني على المقدمات التي منعناها. وقلنا ونقول الآن: إن
الذين ينادون باسم الدين على قلتهم فيما نعلم وكثرتهم فيما قال - لا يضرون الدين
ولا أهله وإن كان الدين على غير وضعه؛ إذ لا نعرف بدعة جديدة حدثت بهذا
النداء، بل منه ما زعزع كثيرًا من البدع والتقاليد التي يريد الكاتب محوها، ثم
نقول له: كيف السبيل إلى الرغائب التي يريدها، ويريد أن لا يذكر الدين معلم،
ولا مُرَبٍّ، ولا كاتب، ولا مؤلف قبل وجودها؟
هل يريد ذلك إرادة حقيقية أم هي خواطر سنحت عند الكتابة، أو عند تصور
موضوعها؟ إن (المنار) يدعو منذ بضع سنين إلى مثل ما دعا إليه الآن، وكل ما
ذكره فهو إشارة إلى موضوعات مجملة، نشرت في المنار مبينة مفصلة، منها
ما هو لصاحب المنار، ومنها ما هو لأكبر المسلمين المعروفين عقلاً، وعلمًا كالأستاذ
الإمام وصاحب سجل جمعية أم القرى. فهل نظر في ذلك أم لا؟ إن كان لم ينظر
فيه فكيف يصح قوله: إنه لم يكتب في الموضوع إلا بعد أن قلبه، وعرف ظاهره
وباطنه، وإن كان نظر فيه فما هو رأيه في هذه الدعوة؟ إن كان يقول بها؛
فكيف اقترح إسكات كل متكلم بالدين؟ وإن كان يراها كغيرها مع تضمنها
لمراداته فما هي السبيل إلى هذه المرادات؟ أم هي أمانٍ ميئوس منها؟ عن هذه
الأسئلة نطالبه بالجواب، ولم نخاطبه ونطالبه إلا لأننا رأيناه بحث في أصول
دعوتنا بعقل نعترف به بالإجمال، ولذلك عنينا بكلامه على أننا قلما نتم قراءة شيء
مما يكتبه أكثر الكاتبين في هذه المسألة لأننا نراه من اللغو. ولعلنا لا نعدم من هذا
الكاتب الباحث رأيًا جديدًا، وإرشادًا مفيدًا. فإنه بذلك جدير، {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ
وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
* * *
(الوفاق الفرنسي الإنكليزي)
أصبحت الممالك الاسلامية بفضل ملوكها وأمرائها طعمة للأمم لا يصرفها عن
ابتلاعها صارف إلا التنازع وكالأرض الموات، مَنْ سبق إلى شيء منها مَلَكَه وقد
سبق الإنكليز إلى احتلال مصر بطلب من أميرها ليحمونه من أمته، وبرضى من
السلطان ليكفوه شر الحكومة الخديوية التي طالما نازعته في سلطته، وقد كان
لمصر من الأمل الوهمي أن حقوق الدول المالية في مصر تحول دون استئثار
إنكلترا بالسلطة فيها. فما زال هذا الأمل يذوب ويضمحل بفضل السلوك الذي سلكه
الأمير مع المحتلين، وهو مصادمة الضعيف للقوي أولاً، واستسلامه له ثانيًا حتى
فني بالمرة بالمعاهدة الأخيرة.
حقوق الدول في مصر مالية وبها يراقبون على مالية مصر؛ فلا تستطيع أن
تقوم بمشروع مالي دون إذن من صندوق الدين الرقيب من قبل أوربا على المالية
والمال المقصود من الاستعمار، وقد حمل مستشار المالية السابق دكريتو من الأمير،
وسافر الى أوربا لا يدري أحد ماذا يريد إلا الأمير واللورد كرومر والنظار،
وعلى هذا الدكريتو بني الاتفاق الجديد على مسألة مصر بين فرنسا وإنكلترا،
وبمقتضى هذا الوفاق صارت إنكلترا حرة في جميع تصرفاتها في مصر، فهي
تنفق باسم الحكومة الخديوية جميع الملايين المتوفرة، والتي تتوفر من مالية مصر
في المشروعات التي تراها، وبمقتضى هذه المعاهدة صار الاحتلال الإنكليزي غير
موقت، ولا يطلب توقيته. عاهدت فرنسا إنكلترا على هذا، وعلى مساعدتها في
إرضاء الدول ، وأعطتها إنكلترا مراكش بدلاً عن حقوقها في مصر! ! وفرنسا أكثر
الدول حقوقًا، فروسيا حليفتها راضية تبعًا لرضاها وإيطاليا وديدة الإنكليز راضية،
وكذلك النمسا راضية وألمانيا لا تشذ عن أوربا كلها فقد قضي أمر المسألة
المصرية من جهة الدول والأريكة الخديوية، ولم يبق للأمة رجاء إلا بعناية الله
تعالى، واستعدادها للارتقاء؛ فاذا صارت أمة فالمستقبل لها؛ وإذا بقيت لاهية
بالشهوات؛ فهي مستعبدة إلى ما شاء الله تعالى.
* * *
يطلب منا كثير من الناس أن نحط عنهم بعض قيمة الاشتراك، ولو علمنا من
هؤلاء الطالبين العجز عن دفع عشرة قروش، أو عشرين في السنة مع شدة الرغبة
في المطالعة كما يقولون لحططنا عنهم القيمة كلها كما حططناها عن قوم آخرين ،
ولكن ما يثقل بذله كل سنة في مثل هذه السبيل يخف بذله وبذل أضعافه كل يوم في
السُبل الأخرى.
وإن الذي يريد أن ينقصنا بعض الثمن، أو كله لا يفكر في كثرة أمثاله وفي
أن الكثير ينهض بالواحد، والواحد لا يقدر على النهوض بالكثير.
إن المنار أرخص المجلات العربية المنتشرة ثمنًا، وكم من مجلة وقد زادت
في قيمة اشتراكها عما قررته في أول إنشائها، ومنها ما قارن الزيادة في ثمنها
نقص في مادتها. وقد زدنا في مادة المنار وتحسينه مع بقاء قيمة الاشتراك على
أصلها. وإنا لنعلم أن طلب النقص لا بد منه سواء علينا أزدنا في القيمة أم نقصنا
فلو جعلناها ثلاثين لقال باذلها الآن: إنني لا أقدر على أكثر من عشرين: ولو
جعلناها ثمانين لجادت يده بالأربعين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه الخامس والخمسون)
قولكم: قد قال أُبَيٌّ: (ما اشتبه عليك فكله إلى عالمه) ، فهذا حق وهو
الواجب على من سوى الرسول؛ فإن كل أحد بعد الرسول لا بد أن يشتبه عليه
بعض ما جاء به، وكل من اشتبه عليه شيء وجب عليه أن يكله إلى من هو أعلم
منه فإن تبين له صار عالمًا مثله، وإلا وكله إليه، ولم يتكلف ما لا علم له به.
فهذا هو الواجب علينا فى كتاب ربنا وسنة نبينا، وأقوال أصحابه، وقد جعل الله -
سبحانه - فوق كل ذي علم عليمًا، فمن خفي له بعض الحق فوكله إلى من هو أعلم
منه فقد أصاب ، فأي شيء في هذا من الإعراض عن القرآن والسنن، وآثار
الصحابة، واتخاذ رجل بعينه معيارًا على ذلك، وترك النصوص لقوله، وعرضها
عليه، وقبول كل ما أفتى به، ورد كل ما خالفه، وهذا الأثر نفسه من أكبر الحجج
على بطلان التقليد، وإن أوله: (ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكله
إلى عالمه) ، ونحن نناشدكم الله إذا استبانت لكم السنة هل تتركون قول من قلدتموه
لها وتعملون بها، وتفتون أو تقضون بموجبها، أم تتركونها وتعدلون عنها إلى قوله ،
وتقولون: هو أعلم بها منا، فأَُبَيُّ رضي الله عنه مع سائر الصحابة على هذه
الوصية، وهي مبطلة للتقليد قطعًا، وبالله التوفيق.
ثم نقول: هلا وكلتم ما اشتبه عليكم من المسائل إلى عالمها من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ هم أعلم الأمة، وأفضلها، ثم تركتم
أقوالهم، وعدلتم عنها، فإن كان من قلدتموه ممن يوكل ذلك إليه، فالصحابة أحق
أن يوكل ذلك إليهم.
(الوجه السادس والخمسون)
قولكم: كان الصحابة يفتون ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حي
بين أظهرهم، وهذا تقليد للمستفتين لهم، فجوابه أن فتواهم إنما كانت تبليغًا عن
الله ورسوله، وكانوا بمنزلة المخبرين فقط. لم يكن فتواهم تقليدًا لرأي فلان وفلان
وإن خالفت النصوص، فهم لم يكونوا يقلدون في فتواهم، ولا يفتون بغير
النصوص، ولم تكن المستفتين [1] لهم تعتمد إلا على ما يبلغونهم إياه عن نبيهم
فيقولون: أمر بكذا، أو فعل كذا ونهى عن كذا.
هكذا كانت فتواهم فهي حجة على المستفتين لهم فى ذلك، إلا في الواسطة
بينهم وبين الرسول وعدمها. والله ورسوله وسائر أهل العلم يعلمون أنهم وأن
مستفتيهم لم يُعَلِّمُوا إلا بما علموه عن نبيهم وشاهدوه وسمعوه منه؛ هؤلاء بواسطة ،
وهؤلاء بغير واسطة، ولم يكن فيهم من يأخذ قول واحد من الأمة يحلل ما حلله
ويحرم ما حرمه، ويستبيح ما أباحه. وقد أنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
على من أفتى بغير السنة منهم، كما أنكر على أبي السنابل وكذبه، وأنكر على
من أفتى برجم الزاني البكر، وأنكر على من أفتى باغتسال الجريح حتى مات،
وأنكر على من أفتى بغير علم كمن يفتي بما لا يعلم صحته، وأخبر أن إثم
المستفتي عليه. فإفتاء الصحابة فى حياته نوعان: أحدهما كان يبلغه ويقرهم عليه
فهو حجة بإقراره لا بمجرد إفتائهم. الثاني: ما كانوا يفتون به مبلغين له عن نبيهم
فهم فيه رواة لا مقلَّدون ولا مقلِّدون.
(الوجه السابع والخمسون)
قولكم: وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ
فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (التوبة:
122) فأوجب قبول نذارتهم، وذلك تقليد لهم؛ جوابه من وجوه:
(أحدها) أن الله سبحانه إنما أوجب عليهم قبول ما أنذروهم به من الوحي
الذي ينزل فى غيبتهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فى الجهاد فأين في هذا
حجة لفرقة التقليد على تقديم آراء الرجال على الوحي.
(الثاني) أن الآية حجة عليهم ظاهرة؛ فإنه سبحانه نوع عبوديتهم وقيامهم
بأمره إلى نوعين أحدهما: نفير الجهاد، والثاني: التفقه في الدين، وجعل قيام الدين
بهذين الفريقين وهم: الأمراء والعلماء أهل الجهاد، وأهل العلم ، فالنافرون يجاهدون
عن القاعدين، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين؛ فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا
ما فاتهم من العلم بإخبار من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وهنا للناس فى الآية قولان أحدهما: إن المعنى: فهلا نفر من كل فرقة طائفة
تتفقه وتنذر القاعدة، فيكون المعنى في طلب العلم، وهذا قول الشافعي وجماعة
من المفسرين ، واحتجوا به على قبول خبر الواحد؛ لأن الطائفة لا يجب أن يكون
عدد التواتر.
والثاني: إن المعنى؛ فلولا نفر من كل فرقة طائفة تجاهد لتتفقه
القاعدة، وتنذر النافرة للجهاد إذا رجعوا إليهم ويخبرونهم، بما نزل بعدهم من
الوحي، وهذا قول الأكثرين وهو الصحيح؛ لأن النفير إنما هو الخروج للجهاد كما
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وإذا استنفرتم فانفروا) وأيضًا فإن
المؤمنين فى المقيمين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والغائبين عنه
والمقيمون مرادون، ولا بد فإنهم سادات المؤمنين، فكيف لا يتناولهم اللفظ؛ وعلى
قول أولئك يكون المؤمنون خاصًّا بالغائبين عنه فقط.
والمعنى: وما كان المؤمنون لينفروا إليه كلهم؛ فلولا نفر إليه من كل فرقة
منهم طائفة، وهذا خلاف ظاهر لفظ المؤمنين ، وإخراج للفظ النفير عن مفهومه فى
القرآن والسنة، وعلى كلا القولين فليس فى الآية ما يقتضي صحة القول بالتقليد
المذموم، بل هى حجة على فساده، وبطلانه فإن الإنذار إنما يقوم بالحجة؛ فمن لم
تقم عليه الحجة لم يكن قد أنذر.
كما أن النذير من أقام الحجة فمن لم يأت بحجة فليس بنذير ، فإن سميتم ذلك
تقليدًا؛ فليس الشأن في الأسماء، ونحن لا ننكر التقليد بهذا المعنى فسموه ما شئتم،
وإنما ننكر نصب رجل معين يجعل قوله عيارًا على القرآن والسنن ، فما وافق قوله
منها قبل، وما خالفه لم يقبل، ويقبل قوله بغير حجة، ويرد قول نظيره أو أعلم
منه والحجة معه. فهذا الذي أنكرناه، وكل عالم على وجه الأرض يعلن بإنكاره وذمه
وذم أهله.
(الوجه الثامن والخمسون)
قولكم: إن ابن الزبير سئل عن الجد والإخوة فقال: أما الذي قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذته
خليلاً) يريد: أبا بكر رضي الله عنه فإنه أنزله أبًا. فأي شيء في هذا مما يدل
على التقليد بوجه من الوجوه، وقد تقدم من الأدلة الشافية التي لا مطمع في رفعها
ما يدل على أن قول الصديق في الجد أصح الأقوال على الإطلاق، وابن الزبير لم
يخبر بذلك تقليدًا، بل أضاف المذهب إلى الصديق لينبه على جلالة قائله، وإنه
ممن لا يقاس غيره به لا ليقبل قوله بغير حجة، ويترك الحجة من القرآن والسنة
لقوله.
فابن الزبير وغيره من الصحابة كانوا أتقى لله، وحجج الله وبيناته أحب إليهم
من أن يتركوها لآراء الرجال، ولقول أحد كائنًا من كان، وقول ابن الزبير: إن
الصديق أنزله أبًا متضمن للحكم والدليل معًا.
(الوجه التاسع والخمسون)
قولكم: وقد أمر الله بقبول شهادة الشاهد وذلك تقليد له: فلو لم يكن فى آفات
التقليد غير هذا الاستدلال لكفى به بطلانًا، وهل قبلنا قول الشاهد إلا بنص كتاب
ربنا وسنة نبينا، وإجماع الأمة على قبول قوله، فإن الله سبحانه نصبه حجة يحكم
الحاكم بها، كما يحكم بالإقرار، وكذلك قول المقر أيضًا، حجة شرعية، وقبوله
تقليد له، كما سميتم قبول شهادة الشاهد تقليدًا فسموه ما شئتم ، فإن الله سبحانه أمرنا
بالحكم بذلك، وجعله دليلاً على الحكام ، فالحاكم بالشهادة والإقرار منفذ لأمر الله
ورسوله، ولو تركنا تقليد الشاهد لم يلزم به حكمًا، وقد كان النبي صلى الله عليه
وآله وسلم يقضي بالشاهد وبالإقرار، وذلك حكم بنفس ما أنزل الله لا بالتقليد
فالاستدلال بذلك على التقليد المتضمن للإعراض عن الكتاب والسنة وأقوال
الصحابة، وتقديم آراء الرجال عليها، وتقديم قول الرجل على من هو أعلم منه،
وإطراح قول من عداه جملة من باب قلب الحقائق، وانتكاس العقول والأفهام،
وبالجملة فنحن: إذا قبلنا قول الشاهد لم نقبله لمجرد كونه شهد به؛ بل لأن الله
سبحانه أمرنا بقبول قوله، فأنتم معشر المقلدين إذا قبلتم قول من قلدتموه قبلتموه
لمجرد كونه قاله ، أو لأن الله أمركم بقبول قوله، وطرح قول من سواه.
(الوجه الستون)
قولكم: وقد جاءت الشريعة بقبول قول القائف، والخارص، والقاسم،
والمقوم، والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد، وذلك تقليد محض، تعنون به أنه
تقليد لبعض العلماء فى قبول أقوالهم، أو التقليد لهم فيما يخبرون به؟ فإن عنيتم
الأول؛ فهو باطل؟ وإن عنيتم الثاني؛ فليس فيه ما تستروحون إليه من التقليد
الذي قام الدليل على بطلانه! وقبول قول هؤلاء من باب قبول خبر المخبر والشاهد
لا من باب قبول الفتيا في الدين من غير قيام دليل على صحتها، بل لمجرد إحسان
الظن بقائلها مع تجويز الخطأ عليه، فأين قبول الإخبار والشهادات والأقارير من
التقليد في الفتوى؟ والمخبر بهذه الأمور يخبر عن أمر حسي طريق العلم به إدراكه
بالحواس والمشاعر الظاهرة والباطنة، وقد أمر الله سبحانه بقبول خبر المخبر به
إذا كان ظاهر الصدق والعدالة، وطرد هذا ونظيره قبول خبر المخبر عن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه قال أو فعل، وقبول خبر المخبر عمن أخبر
عنه بذلك، وهلم جرًّا. فهذا حق لا ينازع فيه أحد، وأما تقليد الرجل فيما يخبر به
عن ظنه فليس فيه أكثر من العلم بأن ذلك ظنه واجتهاده. فتقليدنا له في ذلك بمنزلة
تقليدنا له فيما يخبر به عن رؤيته وسماعه وإدراكه، فأين في هذا ما يوجب علينا
أو يسوغ لنا أن نفتي بذلك، أو نحكم به، وندين الله به، ونقول: هذا هو الحق،
وما خالفه باطل ونترك له نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة، وأقوال من عداه
من جميع أهل العلم.
ومن هذا الباب تقليد الأعمى فى القبلة، ودخول الوقت لغيره. وقد كان ابن أم
مكتوم لا يؤذن حتى يقلد غيره فى طلوع الفجر، ويقال له: أصبحت أصبحت،
وكذلك تقليد الناس للمؤذن في دخول الوقت، وتقليد مَنْ في المطمورة لمن يعلمه
بأوقات الصلاة، والفطر، والصوم، وأمثال ذلك. ومن ذلك التقليد في قبول
الترجمة، والرسالة، والتعريف، والتعديل، والجرح كل هذا من باب الأخبار التى
أمر الله بقبول المخبر بها إذا كان عدلاً صادقًا.
وقد أجمع الناس على قبول خبر الواحد فى الهدية، وإدخال الزوجة على
زوجها، وقبول خبر المرأة ذمية كانت أو مسلمة فى انقطاع دم حيضها لوقته،
وجواز وطئها وإنكاحها بذلك، وليس هذا تقليدًا فى الفتيا والحكم، وإذا كان تقليدًا
لها فالله سبحانه شرع لنا أن نقبل قولها، ونقلدها فيه، ولم يشرع لنا أن نتلقى
أحكامه عن غير رسوله؛ فضلاً عن أن نترك سنة رسوله لقول واحد من أهل العلم ،
ونقدم قوله على قول من عداه من الأمة! ! !
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
كذا في الأصل ولعل كلمة سقطت كقوله (جماعة) أو (فئة) قبل المستفتين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
سوريا والإسلام
(7)
نهوض الدولة العربية وسقوطها
ما ناقشنا أحدًا وكنا عند الرد على كل جملة من كلامه نلوم النفس على
التصدي له إلا كاتب مقالات (سوريا والإسلام) فإن من كان يخلق ما يقول ،
ويفتحر له علله ونتائجه افتحارًا لا ينبغي إضاعة الوقت في الرد عليه ، وإن ساء
تأثير قوله، وقد خطر لنا الآن أن نترك الرد عليه لولا أننا لا نحب أن نشرع في
شيء وندع إتمامه مختارين.
قال: إن سبب تأسيس تلك المملكة العربية العظيمة هي:
(1)
كون جنات عدن لا يدخلها إلا المجاهدون. وهذا الحصر غير صحيح
في الإسلام.
(2)
والغنائم والتحف التي كانت ترسل من سوريا إلى بلاد العرب. وهذا
هذيان ظاهر ، فإن كل فاتح يغنم، وما كل من غنم أسس مثل ذلك الملك العظيم،
ثم إن إرسال الغنائم من الفاتحين بالفعل إلى المقيمين في بلاد العرب لا ينبغي أن
يزيد في همتهم إنما يزيد فيها استئثارهم بما يغنمون.
(3)
وتولية كل قائد على البلاد التي يدوخها، وهذا غير صحيح ، وإذا
صح فهو لا يصلح سببًا؛ لأن القائد في العرب لم يكن حاكمًا مستبدًّا مستعبدًا لجيشه
يسيرهم لمصلحته، ولأن أكثر أولئك القواد الكرام لم تكن لهم عناية بالولاية.
والسبب الصحيح لتأسيس الدولة العربية هو أن الأمم التي فتحت العرب
بلادها كانت كلها فاسدة الدين والأخلاق، مختلة النظام، معتلة الأحكام، فجاء
الإسلام وجمع كلمة العرب المتفرقة على الاعتقاد الصحيح، والتهذيب الكامل،
والعدل الشامل؛ فكانوا بذلك سادة لتلك الأمم التي سبقتهم بالمدنية، وبكل مقومات
الأمم قبل انحطاطها وتقدمهم.
وقد جاءت في كلامه كلمة فيها روح الحق لو فهم ما ترمي إليه لما كتبها؛
وهي أن العرب قنعوا أولاً بامتلاك سوريا، ولولا أن رأوا أنفسهم مهددين بالروم
الذين يحيطون بهم من كل جانب؛ لما تصدوا لافتتاح غيرها. وروح الحق في هذه
الجملة هو أن السبب الصحيح في زحف المسلمين إلى سوريا هو اعتداء أهلها من
العرب المتنصرة وغيرهم على من يدخل في الإسلام ، وقطع الطرق عليهم ومنعهم
من التجارة، وإنما شرع الجهاد في الاسلام لأجل تأمين الدعوة؛ ليكون الإنسان
على الدين الذي يختاره بلا إكراه ولا إجبار ، ثم إنهم بعد ذلك صاروا محاربين
للروم الحاكمين على سوريا ومصر وغيرهما من الأقطار، ومثل هذه الحرب لا
تنتهي إلا بتدويخ إحدى الطائفتين الأخرى.
ومثل هذا المقام يشتبه على الأكثرين، وسنبينه في المقال الموعود به في
تاريخ الحرب وإصلاح الإسلام فيه.
ثم أراد الكاتب أن يبين أسباب سقوط الدولة العربية فذكر أمورًا:
(أحدها) أن ما بني على الظلم مهدوم ، فإن الأمم التي خضعت للعرب
كرهًا كانت كالماء المحصور بسد عظيم يطلب ثغرة ينفجر منها، ولو كان سقوط
الدولة العربية بخروج السوريين والمصريين والفرس عليها، وإشعالهم نيران
الثورات والفتن الأهلية في بلادهم لإسقاطها، أو إزالة ظلمها؛ لكان لقوله وجه،
ولكن شيئًا من ذلك لم يكن إذ لم ير أهل هذه الممالك أرحم ولا أعدل من دولة
العرب فهذا السبب مخترع من مخيلة الكاتب المتعصب كما ترى.
(ثانيها) أن اتساع المملكة، وعدم وجود رابطة بين أممها غير الدين كان
يجزئها، ولهذا وجه يشرح بغير ما قرره.
(ثالثها) عدم مهادنة دولة الروم، وهو كما ترى لا قيمة له.
(رابعها) أن إطلاق الخلفاء لحكام المقاطعات والولايات الحرية التامة في
تدبير شئون ولاياتهم؛ حمل هؤلاء على الاستبداد والاستقلال عند ضعف الدولة.
وهذا سبب صحيح مسطور في الكتب لا ينازع فيه ، ولكنه لا يبرد غليل تعصب
الكاتب.
(خامسها) وهو المهم عنده: أن التعصب الديني واضطهاد المسلمين لتلك
العناصر المختلفة والتضييق عليهم في كل شيء بسبب الاختلاف الديني حمل هذه
العناصر على كره الإسلام وخلفائهم وولاتهم، وحمل مسيحيي سوريا على الأخص
على مد يد الاستغاثة إلى إخوانهم في أوربا حتى جروا على المسلمين الحروب
الصليبية المشهورة.
وهذا كما ترى مكرر مع الأول لا يزيد عليه إلا في ذكر نتيجة كراهة نصارى
سوريا للمسلمين، وقد أنسى الكاتب تعصبه أن الحروب الصليبية ما حدثت إلا بعد
انحطاط الدولة العربية، فكيف يكون الشيء سببًا لما وجد قبله؟ !
التاريخ الصحيح يشهد للعرب بأنهم كانوا أعدل الحاكمين، والحروب
الصليبية لم تحدث بسوء معاملتهم، ولكن بتعصب نصارى أوربا. وذكر كُتَّابُ
النصارى العارفون بالتاريخ أن الذين أساءوا معاملة زوار القدس هم السلجوقيون،
وإن تعصب أوربا إنما ثار لذلك. جاء في دائرة المعارف أن زوار النصارى كانوا
يفدون إلى بيت المقدس على عهد الدولة العربية ويذهبون (بأمان وطمأنينة، ولا
سيما في زمن العباسيين، حتى قيل: إن هارون الرشيد الذي استحكمت الصداقة
بينه وبين معاصره شرلمان بعث إليه بمفاتيح بيت المقدس تأمينًا لقلوب الزوار
وتطييبًا لخواطرهم. فكان القبر المقدس وكنيسة القيامة في أيديهم يتمتعون بزيارتها
بلا معارض ، ولا يدفعون إلا اليسير من المال. ولما انتقلت الخلافة إلى الفاطميين،
واستولوا على القدس سنة 972م ساروا على أثر العباسيين، وظلوا يحسنون إلى
المسيحيين وزوارهم إلى أن قام الخليفة الحاكم بأمر الله فضيق على النصارى،
وشوه الأمكنة المقدسة عندهم، وآذى الزوار، فقلقت أوربا لذلك، ولكنها ما لبثت أن
عادت إلى السكون؛ لأن خلفاء الحاكم رجعوا فأحسنوا السياسة.
ولما استولى السلاجقة على بلاد فلسطين ظلموا النصارى، وضايقوا زوارهم؛
فهاجت الخواطر في أوربا..) إلخ، فقد رأيت ما اعترف به مؤلف الدائرة، وهو
نصراني عالم بالتاريخ يقل نظيره في كتاب العربية. اعترف بأنه لم يظلم النصارى
أحد من ملوك العرب إلا الحاكم العُبيدي، وقد كان مجنونًا يظلم النصارى يومًا،
والمسلمين يومًا، ويحرم أكل الملوخية يومًا، ويحلها يومًا.. .
ولا يسع هذا الموضع ذكر الشواهد التاريخية على حسن معاملة العرب
للنصارى وسائر الملل بالعدل والمساواة، وكيف كان هؤلاء يفضلون سلطتهم على
سلطة أبناء دينهم لا سيما في أول الإسلام؛ إذ كان العمل بالدين دون السياسة. ولا
يسع أيضا ذكر الأكاذيب التي افتراها قسوس أوربا على الإسلام والمسلمين ليهيجوا
شعوبهم على غزو البلاد السورية، وإبادة المسلمين منها. فقد خلقوا لنا من العقائد
الوثنية والتقاليد الكفرية، والعيوب الدينية والخلقية ما تقشعر منه الجلود، ولا
يخطر على بال أحد من البشر أن يخترعه إلا أمثال هؤلاء المتعصبين الذي خلفوا
لنا من بعدهم (رفول سعادة) فورث تعصبهم وقرائحهم القادرة على الاختراع.
ومن شاء أن يرى العجب العُجاب من ذلك؛ فليقرأ كتاب (الإسلام- خواطر
وسوانح) لكونت كستري الفرنسي الذي عربه أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة
مصر.
ولد التعصب الدينى الذميم في أوربا وتربى فيها، وساح إلى الشرق فأفسده
على أهله، ولم يكن قبل حرب الصليب غلو في التعصب على المخالف في الدين
يذكر بعدما علم العرب الناس التساهل بالعدل والمساواة بينهم وبين غيرهم؛ فسكن
بذلك ما كان بين اليهود والنصارى من قبل. وكل ما كان يقع من النزاع والخلاف
بين المختلفين في الدين فقد كان يقع مثله بين أهل الدين الواحد، والجنس الواحد
ومن شاء زيادة البيان في هذا فليراجع مقالات (التعصب) التي نشرناها في السنة
الأولى للمنار ، فقد كانت موضع إعجاب النصارى والمسلمين.
افتات رفول سعادة على العرب ، وجردهم من مزية العدل والإنصاف التي
شهد لهم بها العالم أجمع، ولم يكتف تعصبه بهذا، بل جردهم أيضًا من سائر
المزايا العلمية فقال: (وهكذا سقطت الدولة العربية، ولا أسف عليها؛ لأنها لم تترك
أثرًا صالحًا إلا نشرها اللغة العربية في أطراف المعمورة. ولو سأل مؤرخي
الفرنجة وفلاسفتها وعلمائها عن آثارهم؛ لقالوا له: إن العرب أحيوا العلم بعد موته،
والفلسفة بعد دفنها، والفنون بعد تلاشيها، وأنهم أساتذتنا في كل العلوم والمعارف
فيا أسفى على دولتهم، ويا أسفى على أيامهم، ويا ليتها دامت أو طالت ، وبلغت
من السعي في الفضل ما أرادت؛ ليأخذ العالم عنها كل شيء كاملاً. ليقرأ تاريخ
.... [*] المؤرخ ، وكتاب الفيلسوف جيون ، وغيرها من الكتب الإفرنجية، بدلاً
من رسائل ذلك الراهب ، وخطبه التحمسية التعصبية ، فذلك خير له إن كان
يريد أن يكتب كلامًا مقبولاً عند العقلاء، ويخدم سوريا العربية التي يملك معظمها
المسلمون.
إن الكاتب يفتخر بالسوريين الأصليين الذين انقرضوا وبادوا ، وصارت
سوريا بعدهم عربية خالصة فليخبرنا أي أًثَارَةٍ من علم تركها السوريون الأصليون؟
وهم قبائل نيفليم وأميم ورافاييم وزوزيم وعناقيم. وإن ذَكَرَ الفنيقيين؛ أَقُلْ له: إنهم
جاءوا سوريا من جبال كردستان، وليسوا بسوريين أصليين، فهم فاتحون كالعرب ،
ولم يكن لهم من الآثار العلمية مثل ما للعرب، وإنما كانوا أصحاب ملاحة وتجارة.
أعود في آخر هذه النبذة إلى معاتبة نفسي على تفنيد كلام مخترع ككلام هذا
المتعصب الغالي الذي غرني بأوائله نشر جريدة المناظر محبة الإنصاف له ، ولعلها
تنشر الرد عليه؛ ليكون هذا كفارة لذلك، والله يتولى هدانا أجمعين.
للرد بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) بياض بالأصل لم نقف عليه بعد البحث عنه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
الدليل على وجود الله تعالى
(س 11) أحمد أفندي الألفي في ميت سمنود: ما هو الدليل العقلي على
وجود الله سبحانه وتعالى الذي لا يمكن لمشكك أن يشتبه فيه؟
(ج) إن الناس قد اشتبهوا في المشاهدات وغيرها من المحسوسات، وأنكر
السوفسطائية منهم حقائق الأشياء، وطفقوا يشككون الناس في ذلك قائلين: كيف
نثق بما نراه، وقد ظهر لنا الغلط في بعضه، ويجوز على بعض المتساويين ما جاز
على الآخر. مثلاً إننا نرى العود مستقيمًا خارج الماء ونراه معوجًّا في الماء، ونرى
النجم صغيرًا وكلنا يعلم أنه كبير، ويذوق من يسمونه الصفراوي العسل مرًّا ويذوقه
غيره حلوًا، ويرى المحموم أو النائم أمامه أشياء كثيرة يقول من في حضرته: إنها
لا وجود لها. فأمثال هؤلاء إذا كانوا يشكون أو يشككون في وجود الله تعالى لا
ينفع معهم دليل ولا برهان. وأما طالب الحقيقة فهو الذي لا يشتبه في الحق إلا
لعارض يصرفه عن الدليل؛ فإذا نبه إليه تنبه ورجع.
ومن الناس من يسهل تنبيهم وهم أصحاب الأفكار المستقلة، ومنهم من يتعذر
أو يتعسر تنبيهه على حسب بعده من التقليد وقربه من استقلال الفكر. وفي
المشتغلين بالعلم والفلسفة من المقلدين نحو ما في المشتغلين بعلم الدين فإن أحدهم
يسمع أو يقرأ أن فلانًا الفيلسوف، الذي يعجب به قال: إنه لم يثبت عندي دليل
على وجود الله تعالى ، فيقول هذا المقلد له: لو كان هناك دليل قطعي لما خفي على
ذلك الفيلسوف. ويكلف نفسه بأن تشك، وترتاب أو تنكر وتفند كل دليل من هذا
القبيل.
ذهب بعض العلماء والحكماء إلى أن معرفة الله تعالى فطرية في البشر لا
حاجة بهم إلى إقامة الدليل عليها لولا ما أحدثته الاصطلاحات العلمية من البحث في
الضروريات والبديهيات كعلم الإنسان وشعوره ووجدانه. واستدلوا على ذلك بأن
جميع أصناف البشر من أرقاهم كالأنبياء والحكماء إلى أدناهم كالقبائل الضاربين في
معامي الأرض وأغفالها كلهم يعتقدون بقوة غيبية وراء الطبيعة سواء منهم من تعلم
شيئًا من صفات ذي القوة ، وما يجب له من العبادة ومن لم يتعلم، وبأن المعطلين
نفر قليل يعدون من الشواذ، ويحال شذوذهم على مرض عرض على هذا الشعور
الفطري كما يعرض للإحساس بالحلاوة مرض يمنع من إدراكها، وكما يعرض
لبعض مراكز المخ شيء يحول دون إدراك بعض المعلومات مع سلامة سائر
المدارك، فقد ثبت أن بعض الناس نسي بعض أرقام الحساب، فكان لا يحسن
عملية حسابية هي فيها، ويحسن غيرها، ومثل هذا كثير فلا يقال: إن من
المعطلين من لا يشك أحد بسلامة عقولهم ، فإن من الناس من يضعف إدراكه لشيء
واحد وإن كان قويًّا في غيره، ولم يعرف أحد قويت مداركه في كل فرع من أنواع
الإدراك.
وذهب بعضهم إلى أن المسألة نظرية، وأنه لا بد من إقامة البراهين على
إثبات وجود البارئ تعالى؛ لأن الأنبياء والحكماء قد استدلوا وأقاموا الحجج على
ذلك. ونقول جمعًا بين القولين: إن المسألة فطرية في الحقيقة، وإن إقامة الأنبياء
والحكماء الحجج عليها هي لإصلاح فطرة من عرضت لهم الشبه فيها، كما تعرض
في غيرها من الأمور الفطرية والضرورية، ولإزالة غلط المعتقدين بتلك القوة
الغيبية، أو بالله تعالى في بعض صفاته، وفي نسبة المخلوقات إليه؛ إذ أشركوا به
وجعلوا له وسطاء وشفعاء كالملوك الظالمين؛ لذلك قال الله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ
فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (إبراهيم: 10)
…
إلخ فأشار أولاً إلى أن الإيمان به
أمر ثابت في الفطرة لا موضع للشك فيه، ثم ذكر بعض صنعه الدال على قدرته،
وانفراده بالتأثير، والتدبير وهو كونه فطر السموات والأرض؛ أي: شق وفصل
بعضها من بعض بعد أن كان الجميع مادة واحدة
…
إلخ ما جاء في الآية.
وإنني وجدت أقرب الدلائل تنبيهًا، وإقناعا لعقول المشتغلين بالعلوم العصرية
كما ثبت لي بالتجربة والمناظرات معهم هو أن جميع ما نعرفه من الموجودات
حادث عندهم، حتى إنهم ليقدرون للأرض والشمس والكواكب أعمارًا لقطعهم
بحدوثها، ثم إنهم قاطعون بأن الموجود لا يصدر عن نفسه، ولا عن معدوم كما قال
تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ} (الطور: 35) فتعين أن
يكون لهذه الموجودات كلها مصدر وجودي، ثم إنهم قاطعون بأن مصدر الكائنات
والأصل الذي وجدت منه غير معروف في ذاته ، وإنما يجب أن يكون موجودًا ذا
قوة، فالمادي منهم يقول: المادة مع القوة هي أصل الموجودات كلها؛ فإذا سألته:
ما هي المادة التي تعنيها؟ يقول: إن حقيقتها غير معروفة ، فكأنه اختلف مع غيره
في التسمية، واتفق الجميع على أن هذه الكائنات كلها قد صدرت عن موجود ذي
قوة حقيقية غير معروفة الكنه ، وهو ما عليه المسلمون؛ ولذلك قلنا في المنار: إن
الفلاسفة الأوربين الذين أنكروا إلههم ما أنكروا إلا إله الكنيسة؛ أي: الإله الذي تصفه
الكنيسة بصفات غير معقولة ككونه مركبًا من ثلاثة أقانيم وكون أحدها حل في
أحشاء امرأة فأولدها إلهًا كاملاً، وإنسانًا كاملاً إلى غير ذلك من الصفات التي لا
يقبلها عقل.
هذا الاعتقاد هو الذي صرح به سسل رود الذي قالوا: إنه كان غير مؤمن
بالله، وهو الذي كان يعتقده هكسلي وسبنسر وغيرهم من الفلاسفة الذين نقل عنهم
التعطيل، {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
***
البيع في الذمة والسلم
أو المضاربة العصرية
(س 12) محمد أفندي حسن وبعض تجار البورصة بالإسكندرية:
ما قولكم - دام فضلكم - في رجل من المسلمين اشترى من القطن ألف قنطار
مثلاً موصوفة في ذمة البائع بثمن معلوم في شهر المحرم مثلاً، على أن يستلمها
منه في أجل معلوم شهر ربيع الأول كذلك، ودفع بعض الثمن عند التعاقد وأجل
باقيه إلى الاستلام. فهل للمشتري قبل قبض المبيع، وقبل حلول الميعاد أن يبيع
ذلك القطن الموصوف في الذمة، ويكون تمكين البائع للمشتري من البيع في أي
وقت من أوقات الميعاد قبضًا وتخلية، حتى يكون ذلك البيع صحيحًا؛ لأنه معرض
للربح والخسران الذي هو قانون البيع، ويكون ما عليه المسلمون اليوم في تجاراتهم
من المضاربة، وبيع الكنتراتات جائزًا في دين الله تعالى، أم يكون ذلك بيعًا فاسدًا
وعملاً باطلاً مشابهًا للميسر كما يزعمه بعض الناس؟ وإذا كان باطلاً فأي فرق بين
قبضه بنفسه، وبين إذن البائع له بالبيع في أي وقت؟ وما السر في ذلك؟ وأين
اليسر في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة:
185) ، بل هو عين الحرج في البيع والشراء وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) أم كيف يحرم المسلمون من منفعة هذه
التجارة العظيمة التي تعود على الكثير منهم؟ نطلب من حضرتكم الجواب الموافق
لكتاب الله وسنة رسوله ودينه الصحيح من غير تقيد بمذهب من المذاهب مفصلاً
مبنيًّا، فيه سند الجواز أو المنع على لسان مجلتكم الغراء التي أخذت على عاتقها
خدمة الإسلام والمسلمين؛ لأن الإجابة على هذا السؤال بما يوافق الشرع أعظم
شيء يستفيده التجار المسلمون من أمر دينهم، وكلهم بلسان واحد يطلب من حضرتكم
الإجابة في أقرب وقت على صفحات المنار سواء كانوا بالإسكندرية أو غيرها
وفيهم مشتركون في مجلة المنار الغراء، والكل مشتاق إليها اشتياق الظمآن للماء
ليطمئن الجميع، نسأل الله تعالى أن يعلي شأنكم، ويعضد عملكم ، ويجعلكم
ملجأ للقاصدين.
(ج) نهى الكتاب العزيز عن أكل أموال الناس بالباطل؛ أي: بغير حق
يقابل ما يأخذه أحد المتعاوضين، وأحل التجارة، واشترط فيها التراضي فقط،
ومن أكل أموال الناس بالباطل ما ورد في الأحاديث من النهي عن بيع الغرر، وعن
الغش، وعن بيع ما لا يملك لعله لا يقدر عليه، وقد ورد في حديث ابن عمر في
الصحيحين وغيرهما أنهم كانوا يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق، فنهاهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يحولوه، وفي رواية: ينقلوه. وقال: (من
ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه) وفي رواية لأحمد: (من اشترى طعامًا بكيل أو
وزن فلا يبعه حتى يقبضه) .
وروى أحمد ومسلم من حديث جابر: (إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى
تستوفيه) وهذه الأحاديث خاصة بالطعام، وبالتجارة الحاضرة تدار بين التجار
كما يدل عليه كونهم كانوا يفعلون ذلك في السوق، وأُمروا بالتحويل. وفي حديث
حكيم بن حزام عند أحمد والطبراني قال: قلت: يا رسول الله إني أشتري بيوعًا فما
يحل لي منها وما يحرم؟ قال: (إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه) وهو عام
ولكن في سنده العلاء بن خالد الواسطي ضعفه موسى بن إسماعيل. وهناك حديث زيد
بن ثابت عند أبي داود وابن حبان والدارقطني والحاكم قال: إن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
وقد خص بعض العلماء النهي بالطعام، واستدلوا على ذلك بأحاديث أخرى تدل
على صحة التصرف بالمبيع قبل القبض، ومن هذه التصرفات ما هو مجمع عليه،
كالوقف، والعتق قبل القبض. وقد علل ابن عباس النهي بأن الشيء الحاضر إذا
تكرر بيعه ولم يقبض؛ كان ذلك بمنزلة بيع المال بالمال - أي: فإن المال ينتقل من
يد إلى يد - والشيء حاضر لا يمس كأنه غير محتاج إليه ولا مراد. رواه الشيخان،
قال مسلم: إنه قال لما سأله طاووس عن ذلك: ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام
مرجأ، وحاصل هذا التعليل أن النهي لمنع الاحتيال على الربا، ولا بد في التجارة
أن تكون السلع هي المقصودة فيها لا سيما ، فإذا كانت حاضرة فما معنى شراء فلان
السلعة الحاضرة بعشر جنيهات وبيعها من آخر بخمس عشرة، وهي حاضرة وهم
حاضرون إلا الحيلة على الربا؟ وأي فائدة للناس في حل مثل هذا اللعب بالتجارة،
وإننا نعلم أن بيع البورصة ليس من هذا القبيل، ولكن أحببنا أن نورد أصل مآخذ
العلماء في تحريم بيع الشيء قبل قبضه؛ ليميز المسلم بين البيوع التي تنطبق
عليها الأحاديث وغيرها.
ثم إن علماء المسلمين كافة يجيزون إرجاء الثمن أو إرجاء القبض، ولكن
أكثرهم يمنع بيع الشيء قبل قبضه مطلقًا؛ فإن احتجوا بالأحاديث المذكورة آنفًا فقد
علمت أنها لا تدل على هذا الإطلاق، وإن قالوا: إن بيع ما في الذمة لا يخلو من
غرَر، وربما يتعذر تسليمه، نقول: إن هذا رجوع إلى القواعد العامة التي وضعها
الدين للمعاملات، وكلها ترجع إلى حديث:(لا ضرر ولا ضرار) فكل ما ثبتت
مضرته، ولم يكن في ارتكابه منع ضرر أكبر منه؛ فهو محرم، وإلا كان حلالاً،
وهذا ينطبق على قاعدة بناء الشريعة على اليسر ودفع الحرج، ولا شك أن في
مبايعات البورصة ما هو ضار وما هو نافع، وتحرير ذلك بعد العلم بأصول الأحكام
التي ذكرناها متيسر للتاجر المتدين.
وقد جاء في الصحيح النهي عن بيع المخاضرة، وهو بيع الثمار والحبوب
قبل بدو صلاحه، وذلك لما كثر تشاكيهم، ودعوى البائعين أن الآفات والجوائح
أصابت الثمر قبل بدو صلاحه، وإنما هذا في ثمر شجر معين؛ لقوله صلى الله
عليه وسلم: (إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ !) والحديث في
البخاري. ولا يدخل في هذا بيع كذا قنطارًا من القطن قبل بدو صلاحه إذا لم يعين
شجر القطن، ويدل على ذلك جواز السلم الذي يدخل في جميع شروطه وأحكامه
المشروحة في كتب الفقه؛ فنذكر حقيقة ما جاء فيه في الأحاديث الصحيحة فيه إنارة
للموضوع؛ فإننا غير واقفين على تفصيل ما يجري في البورصة من البيوع فنكتفي
بالكلام فيها.
روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن من حديث ابن عباس قال: قدم النبي
صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين؛ فقال: (من
أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم) فالكيل المعلوم أو
الوزن المعلوم شرط؛ لأنهم كانوا يسلفون في ثمار نخيل بأعيانها، وفيه غَرَر
وخطر كما علم مما تقدم.
وأما الأجل؛ فقالت الشافعية: إنه ليس بشرط، وإن الجواز حالاً أولى، وهو
الراجح وإن خالفهم الجمهور، وأقل التأجيل عند المالكية ثلاثة أيام. وروى أحمد
والبخاري من حديث عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى، قالا: (كنا
نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتينا أنباط من أنباط
الشام فنسلفهم في الحنطة، والشعير، والزيت إلى أَجَلٍ مُسَمَّى، قيل: أكان لهم
زرع أو لم يكن؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك) ، وفي رواية لأحمد وأبي داود
والنسائي وابن ماجه (وما تراه عندهم) أي: المسلم فيه، وهو دليل على أنه لا
يشترط في المُسَلَّمِ فيه أن يكون عند المُسَلَّمِ إليه. قال ابن رسلان: وأما المعدوم
عند المسلم إليه وهو موجود عند غيره فلا خلاف في جوازه: وأجاز الجماهير السَلَم
فيما ليس بموجود عند العقد خِلافًا للحنفية، ويدل عليه حديث ابن عباس السابق،
فإن السلف في الثمار إلى سنتين نص فيه؛ إذ الثمار لا تمكث سنتين.
وروى أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره) وفي إسناده عطية بن
سعد العوفي قال المنذري: (لا يحتج بحديثه) وإذا كان هذا الحديث غير صحيح
ولا حسن ، فلا يوجد حديث غيره يدل على امتناع جعل المسلم فيه ثمنًا لشيءٍ قبل
قبضه أو امتناع بيعه قبل القبض. ثم إن بيعه قبل القبض ليس فيه شيء مما لم
يكن في العقد الأول فيحال عليه الفساد فهو جائز.
فعلم من هذا كله أن بيع ما في الذمة جائز كالحوالة فيه إلا إذا كانت التجارة
غير مقصودة، بل حيلة للربا أو المقامرة، أو كان في ذلك غش أو تغرير، ومنه
أن يبيع الإنسان ويشتري، وليس له مال ولا سلع تجارية، وإنما يخادع الناس فإن
ربح طالبهم، وإن خسر لا يأخذون منه شيئًا. فليحاسب مؤمن بالله نفسه بعد العلم
بأحكام دين الله، والله الموفق والمعين.
***
سادة أصناف البشر
وآية الكرسي
(س 13) محمد أفندي حلمي كاتب سجون حلفا:
جاء في كتاب المخلاة ما نصه: قال صلى الله عليه وسلم: (سيد البشر آدم،
وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد
الحبشة بلال، وسيد الجبال الطور، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن،
وسيد القرآن سورة البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي) ثم أورد في هذا الموضوع
فضائل آية الكرسي بكثرة، فهل ذلك حقيقي أرجو منكم إرشادي إلى الحقيقة، ولكم
مزيد الشكر والأجر.
(ج) هذا الحديث تشهد عبارته وأسلوبه والغلو فيه بأنه موضوع، ولكن
المحدثين قالوا: إنه ضعيف. وفي إسناده مجالد بن سعيد قال فيه الإمام أحمد: إنه
ليس بشيء وهو في الديلمي وابن عساكر. وقد ورد في سورة البقرة أحاديث
أمثلها حديث أبي هريرة عند الترمذي: (لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة
البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن - آية الكرسي) .
***
قضاء الفوائت في النار
(س14) ومنه: رجل بلغ من العمر نحو ثلاثين سنة وفي خلالها لم
يؤد الصلوات المفروضة عليه ، وابتدأ في تأدية الفريضة بعد هذه المدة ، هل هو
ملزم شرعًا بأن يعوض ما مضى في الدنيا؟ وإن كان لم يعوضها في الدنيا فهل
يؤديها يوم القيامة؟ أفيدونا بالصريح، ولجنابكم الثواب.
(ج) قضاء الصلوات الفائتة واجب، وما يتناقله العوام والصبيان من أن
من عليه فائتة يقضيها على بلاط جهنم غير صحيح لقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن
سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (القلم: 42) إلى قوله: {وَقَدْ
كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} (القلم: 43) .
***
القرآن لقضاء الحوائج
(س15) ومنه: ما قولكم - أدام الله النفع بكم للإسلام - فيما هو متبع،
وشائع، ومعلوم لكل إنسان من تلاوة بعض الآيات طلبًا للنجاة، أو السلامة فمنها ما
يقرأ قبل النوم، ومنها ما هو عند ركوب البحر، وللدخول أمام الحكام، وكذا
استعمالها لمداواة بعض الأمراض، مثل: وجع الرأس، والجنون، والحفظ من
الشيطان
…
إلخ، وكل هذا عمل بالحديث المتداول بين الناس وهو: (خذ من
القرآن ما شئت) فهل هو صحيح؟ أرجو التكرم بالإفادة ، ولكم الفضل.
(ج) لا أذكر أنني رأيت هذا الحديث في الكتب التي يعول عليها، وقد
راجعت عنه الآن في مظانه فلم أجده، وما أظنه إلا من اختراع أصحاب العزائم
والنشرات التي ورد في حديث جابر وغيره أنها من عمل الشيطان. فقد حول
هؤلاء فائدة القرآن إلى غير ما أنزل لأجله من الهداية، وجعلوه آلة لأكل أموال
الناس بالباطل؛ فإنك لتجد الذي يكتب لك ما تتقرب به إلى الحكام عاجزًا عن
التقرب إليهم، والقبول عندهم، وتجد الذي يكتب لك ما تغنى به من أفقر الناس إلا
حيث يروج الدجل، ويبذل المال الكثير في الوسائل الوهمية؛ فإن البارع في
الإيهام والدجل قد يستغني في أمثال هذه البلاد، ولكن ببركة جهل الناس لا بتأثير
عزائمه ونشراته، وكذلك الذين يكتبون لشفاء الأمراض تجدهم أو عيالهم غير
مُمَتعين بالصحة. ولو صح الحديث؛ لكان معناه: (خذ من القرآن ما شئت من
آيات الهداية والعبر لما شئت من أمراض النفس وعلل القلب) ، فإنه كما قال الله:
{وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُور} (يونس: 57) لا شفاء لما يقول الدجالون من أمراض
العظام والجلود.
***
المهدي المنتظر
(س16) ومنه: مشهور بين الكافة من أهل الإسلام على مر الأعصار أنه
لابد في آخر الزمان من ظهور رجل يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون،
ويستولي على الممالك الإسلامية، ويُسَمَّى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما
بعده من أشراط الساعة الثابتة بعده، وأن سيدنا عيسى عليه السلام ينزل من
بعده؛ فيقتل الدجال أو ينزل معه
…
إلخ - وإني نظرت ذلك في متن صحيح
البخاري - فرأيت أن أكتب لجنابكم في هذه المسألة لكي تتكرموا علينا بالإفادة
ولحضرتكم الأجر.
(ج) ليس في متن البخاري ذكر صريح للمهدي، ولكن وردت فيه أحاديث
عند غيره منها ما حكموا بقوة إسناده، ولكن ابن خلدون عني بإعلالها وتضعيفها
كلها. ومن استقصى جميع ما ورد في المهدي المنتظر من الأخبار والآثار،
وعرف مواردها ومصادرها؛ يرى أنها كلها منقولة عن الشيعة، وذلك أنه لما استبد
بنو أمية بأمر المسلمين وظلموا وجاروا وخرجوا بالحكومة الإسلامية عن وضعها
الذي يهدي إليه القرآن وعليه استقام الخلفاء الراشدون، وهو المشاورة في الأمر،
وفصل الأمور برأي أهل الحل والعقد من الأمة، حتى قال على المنبر - مَنْ يُعَد
مِنْ خِيَارِهم - وهو عبد الملك بن مروان: (من قال لي: اتق الله ضربت عنقه) لما
كان هذا، كان أشد الناس تألمًا له، وغَيْرَةً على المسلمين - آل بيت النبي عليه
وعليهم السلام - وكانوا يرون أنهم أولى بالأمر، وأحق بإقامة العدل، فكان من
تشيع لهم يؤلفون لهم عصبية دينية يقنعونها بأن سيقوم منهم قائم مبشر به يقيم العدل،
ويؤيد الدين، ويزيل ما أحدث بنو مروان من الاستبداد والظلم، وعن هذا
الاعتقاد صدرت تلك الروايات، والناظر في مجموعها يظهر له أنهم كانوا ينتظرون
ذلك في القرن الثاني، ثم في الثالث، وكانوا يعينون أشخاصًا من خيار آل البيت
يرجحون أن يكون كل منهم القائم المنتظر فلم يكن. وكان بعضهم يسأل من يعتقد
أنه صاحب هذا الأمر فيجيبه ذاك بأجوبة مبهمة، ومنهم من كان يتنصل ويقول:
إن الموعد ما جاء ولكنه اقترب، ومنهم من كان يضرب له أجلاً محدودًا، ولكن
مرت السنون والقرون، ولم يكن ما توقعوا أن سيكون.
وقد جرت هذه العقيدة على المسلمين شقاءً طويلاً؛ إذ قام فيهم كثيرون بهذه
الدعوى، وخرجوا على الحكام، فسفكت بذلك دماء غزيرة، وكان شر فتنها فتنة
البابية الذين أفسدوا عقائد كثير من المسلمين، وأخرجوهم من الإسلام ووضعوا لهم
دينًا جديدًا، وفي الشيعة ظهرت هذه الفتنة - وبهم قامت - ثم تعدى شرها إلى
غيرهم، ولا يزال الباقون منهم ومن سائر المسلمين ينتظرون ظهور المهدي،
ونصر الإسلام به، فهم مستعدون بهذا الاعتقاد لفتنة أخرى، نسأل الله أن يقيهم
شرها.
ومن الخذلان الذي ابتلي به المسلمون أن هذه العقيدة مبنية عندهم على القوة
الغيبية، والتأييد السماوي؛ لذلك كانت سببًا في ضعف استعدادهم العسكري
فصاروا أضعف الأمم بعد أن كانوا أقواها، وأشدهم ضعفًا أشدهم بهذه العقيدة تمسكًا
وهم مسلمو الشيعة في إيران، فإن المسألة عندهم اعتقادية أما سائر المسلمين فالأمر
عندهم أهون، فإن منكر المهدي عندهم لا يعد منكرًا لأصل من الدين. ولو كانوا
يعتقدون أنه يقوم بالسنن الإلهية والأسباب الكونية لاستعدوا لظهوره بما استطاعوا
من قوة، ولكان هذا الاعتقاد نافعًا لهم.
وجملة القول أننا لا نعتقد بهذا المهدي المنتظر، ونقول بضرر الاعتقاد به ،
ولو ظهر ونحن له منكرون لما ضره ذلك إذا كان مؤيدًا بالخوارق كما يقولون. وقد
بينا ذلك في كتابنا (الحكمة الشرعية) وفي هذه الأيام ألف أحد علماء الفرس
(زعيم الدولة الدكتور ميرزا محمد مهدي خان رئيس الحكماء) المقيم بالقاهرة كتابًا
في تاريخ البابية يطبع عندنا الآن واسمه (مفتاح باب الأبواب) ، وقد ذكر فيه
أصل هذا الاعتقاد وما ورد فيه وتاريخ من ادعى المهدوية مجملاً ، وماذا كان من
أثر ذلك فلينتظر صدوره محبو التفصيل فإن العاقل يستنبط منه ما سكت المصنف
عن استنباطه عمدًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
حب القوة.. رابطة المدنية
(تمهيد ثان) البر وطن البشر، يسبحون فيه كما تسبح الحيتان في البحر.
يوجد في الأرض بران عظيمان: أحدهما عُرف قديمًا، والآخر عرف أخيرًا (سنة
898هـ - 1492م)
البر القديم قطع ثلاث كبرى: أوربا في الغرب الشمالي، وأفريقية في
الغرب الجنوبي، وآسيا في الشرق من الشمال إلى الجنوب: والبر الجديد قطعة لا
شرقية ولا غربية.
وفي البحار قطع متجاورات من الجزائر صغيرة وكبيرة تتبع في اصطلاح
المقسمين لواحد من هذه البرور، إلا الجزائر التي تقع في الأوقيانوس الجنوبي فإنها
تحسب قطعة وحدها. على أنه حيث كان البر مهما عظمت مساحته فهو جزيرة في
البحر. وإذا كانت البرور كلها جزائر فأول بشر في أية جزيرة وجد؟ وكيف انتقل
البشر من جزيرة إلى أخرى؟ وفي أي الجزائر حدثت له مراقي المدنية؟ فلبيان
هذه المسائل حررت هذا التمهيد الثاني:
يلهج كثيرون بقولهم: إن آسيا مهد البشر، ولكن لا دليل على ذلك، بل لا
دليل على أن هذا النوع وجد بادىء بدء في البر القديم مطلقًا، كما لا دليل على أنه
وجد بادىء بدء في البر الجديد. وإنما لهج الناس بهذه القولة؛ لأن ما حفظه التاريخ
يدل على قدم سكان آسيا، ويدل على أن سكان أوربا أتوها مهاجرين من جهات
آسيا.
وفريق من الحكماء تقدست أفكارهم عن الجمود فراموا نبأ عن البشر قبل
العهد الذي حدثت فيه صناعة الكتابة، ولم يعبأوا بكثير من أساطير الأولين. ومنهم
من أوحى إليهم الروح الطاهر أن يستهدوا بطبقات الأرض فاهتدوا بها إلى معرفة
أنواع من الحيوانات كانت فبادت. وهدوا إلى معرفة العهد الذي وجد فيه الإنسان.
فمن هؤلاء يرجى أن نقتبس المعرفة في هذه المسألة. فسائلوهم إن حرصتهم على
هذه المعرفة، ولكن أوصيكم لا تقنعوا منهم بجواب مجرد عن الدليل، واعلموا أنه
لا يتم لهم دليل حتى يثبتوا أنهم نقبوا في كل جزيرة في كل طبقاتها. أما الآن فلتبق
هذه المسألة مجهولة لدينا، والله بكل شيء عليم.
ومن الناس من يزعمون أن البشر ينتهون إلى أصول متعددة وجدت في
جزائر متعددة وهو وَهْمٌ نَاجم من عدم التدقيق، ومن جمود الفكر على بعض
المحسوسات، وما أقبح جمودًا ينتهي بصاحبه إلى جهل يظنه علمًا. ويصرفه عن
علم يخاله جهلاً.
وإننا قدَّمنا إشارات نافعة إلى كيفية تحكم الحاجات على الإنسان مع مشاركة
فطرته لها بالتحكم، ومنها علمتم كيف تحدث له الصنائع والأعمال، على قدر
الحاجات والآمال.
والآن نبني على ما قدمنا فنقول: إن من فطرة الإنسان، وجملة خواصه
الحرص على ادخار الزوائد عن حاجته، وإن الحرص يحمله أن لا يقف موقفًا
واحدًا في اجتلاب المكسوبات والمدخرات، ففريق الرُّحَّل يحتاجون في توفير
الحيوانات المأسورة والاستكثار منها إلى التنقل الدائم في المراعي، ومتى كثروا
وكثرت أموالهم تلك؛ يحتاج كل طائفة منهم إلى ديار واسعة يتنقلون فيها في
الصيف والشتاء والاعتدالين، ولا يزالون يستولون على الديار ويتقاتلون من أجلها
حتى تضيق بهم؛ ويحتاج الأضعفون منهم أن يرحلوا إلى ديار لا ديَّار فيها من
الأقوين.
وفريق المقيمين يحتاجون في توفير الحبوب، والمعادن، والمصنوع من
المعادن إلى المبادلات الدائمة؛ فلا تزال طوائف منهم يضربون في الأرض يبتغون
أن يبدل بعضهم من بعض ما صنعوا وملكوا، ومتى كثروا وكثرت أموالهم - كثرت؛
على هذه النسبة - مقراتهم، ثم اضطروا أن يتغالبوا على أحسن الديار وأوسعها
ليتخذوا فيها أوطانهم. ولا يزالون يتغالبون حتى يضطر الأضعفون للرحيل إلى ديار
أخرى يتخذونها وطنًا. وعلى هذا الوجه حدث ما نسميه القُرى أو البلاد ، وتباعدت
بينها المسافات، وصار السفر للمقيمين ضربًا من اللوازم يقوم به طوائف منهم
على نسبة اقتسام الأعمال، وكثرة الأموال والآمال.
فافرضوا على هذا الوجه أن طائفة من الأضعفين القريبين من البحار ضايقهم
الأقوون من جيرانهم حتى اضطروهم إلى الرحيل، ولم يبق أمامهم إلا الموت أو
تجربة الحياة على متن ما كانوا قد جربوه فرأوه يطفو في البحر (وهم جيرته) من
ألواح الأخشاب، فأي الأمرين يختارون؟ أفلا يختارون أن يركبوا ما جربوه من
الطوافي، ويجربوا على ظهره كيف يحيون، ويأملوا أن يتاح لهم من الغيب ما به
يحيون؟
افرضوا أنهم سلموا أنفسهم للبحر على متن الألواح آملين ما هم آملون،
وبينما هم كذلك؛ إذ أشرفوا على بر في بحر، ودنت بهم الألواح حتى نزلوا إلى
ذلك البر، ووجدوا فيه ما كان يجده أوائل البشر من رزق، أفلا يصيرون أمة كما
صار من الزوج الأول أمم لا تحصى.
هكذا افرضوا إن أبيتم أن تقولوا: إن نفرًا من جيران البحر أولئكم جربوا
السير في البحر على الألواح من غير ضرورة ألجأتهم؛ كالتي مثلناها، بل أوحي
إليهم أن يجربوا تلك التجربة، وفي سيرهم وجدوا برًّا في بحر، ثم أحبوا أن
يتخذوا لهم وطنًا لِمَا وجدوا فيه من رَغدِ زائد على ما في وطنهم الأول. على أي
الوجهين بنى الباني يمكنه أن يقول: هكذا كان أول سير في البحر. وهكذا كان
أول انتقال من جزيرة إلى أخرى.
وهكذا عرف البشر أن في البحر برورًا؛ فصاروا يتنقلون حسب الحاجات أو
حسب الآمال من جزيرة إلى أخرى، حتى ملئت الجزائر بشرًا وملئوا بها.
أما الجزيرة الأولى التي حدثت فيها للنوع مراقي المَدَنية بادىء بدء؛ فلا يبعد
أن تكون هي البر المعروف قديمًا، ثم لا يبعد أن تكون قطعة آسيا منه هي مهد
المدنية وفرق بين قولنا: مهد البشر، وبين قولنا: مهد المدنية.
(ثمة بقية)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
ع. ز
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(تاريخ التمدن الإسلامي)
صدر الجزء الثاني من هذا التاريخ المفيد الذي يجب على الناطقين بالضاد
الاعتراف لمؤلفه جرجي أفندي زيدان بفضل السبق إلى خدمتهم به، ويا ليتهم
يتحدونه ويتلون تلوه فيه. صدر هذا الجزء من نحو تسعة أشهر، وقد أرجأنا الكلام
عليه لنطالعه كله، وننتقده إجابة لطلب المؤلف ، ولم نجد سعة في كل هذه المدة
لمطالعته على شدة الشوق، وصدق الرغبة فرأينا أن لا بد من التنويه به شكرًا لمؤلفه
، وتوجيهًا للنفوس إليه، وإن لم نقرأ منه إلا قليلاً.
الجزء في ثروة الدولة الإسلامية وأسباب تكونها وانحطاطها، وثروة المملكة
مدنها وقُراها. وقد أحسن المؤلف أن أشار في أخريات صفحات الكتاب إلى عزو
النقل إلى الكتب التي أَخَذَ عنها عملاً باقتراح بعض الفضلاء، ولكن الطريقة التي
جرى عليها، وسبقه بها غيره لا تخلو من إيهام وإبهام؛ فإنه يذكر أمرًا، ويضع
في آخره رقمًا يصنع مثله في أسفل الصفحة تحت خط أفقي، ويذكر عند الرقم اسم
الكتاب أو المؤلف الذي أخذ عنه، فيتوهم القارئ أن ذلك الأمر كله من ذلك الكتاب،
وربما كان المراد بعضه كما يظهر لك من أول عزو في الكتاب، وستراه قريبًا.
قسم المؤلف ثروة الدولة الإسلامية إلى خمسة أدوار أو أعصار، عصر النبي
صلى الله عليه وسلم، وعصر الخلفاء الراشدين، وعصر الأمويين، وعصر
العباسيين الأول، وعصرهم الثاني؛ فقال في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ما
نصه:
(إذا كان المراد بثروة الدولة ما يزيد من دخلها على خرجها، أو ما تختزنه
بعد نفقاتها من الأموال ونحوها، فالدولة الإسلامية في عصر النبي صلى الله عليه
وسلم لم يكن عندها ثروة حقيقية؛ لأنهم لم يكونوا يختزنون مالاً، ولا كان عندهم
بيت مال، بل كانوا إذا أصابوا غنيمة فرقوها فيما بينهم، وكذلك الصدقات؛ فإنها
كانت تفرق في أولها؛ وإذا ظل منها شيء؛ استبقوه لحين الحاجة إليه. وكان
النبي صلى الله عليه وسلم يتولى ذلك بنفسه، وأكثر الصدقات من الماشية والإبل
والخيل فكان يسمها بميسم خاص بها، تمتاز بها عن سواها.
(فكانت ثروة الدولة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن بقايا
الزكاة من إبل أو خيل أو ماشية، وتمتاز عن أموال سائر الناس بمراع خاصة
كانت تحبس فيها بالبقيع قرب المدينة يعبرون عنها بالحمى [1] ، وبميسم كان النبي
صلى الله عليه وسلم نفسه يسمها به [2] ، وبلغت الأموال في أيام النبي صلى الله
عليه وسلم نحو 40.000 بين إبل وخيل وغيرها [3] ومن هذه الأموال وما يلحق
بها من مال الصدقة النقد كانوا ينفقون على غزواتهم، وعلى تحصيل الزكاة، وإعالة
الفقراء ونحوهم) اهـ.
فترى أنه أشار عند الرقم (1) إلى النقل عن الماوردي فتتوهم أن الجملة من
قوله: (فكانت ثروة الدولة) إلى الرقم معزوة إلى الماوردي، والصواب أن
المأخوذ عن الماوردي هو تسمية المراعي بالحمى، وأنها كانت بالبقيع وقد وقع في
هذا السهو أيضًا كما تعرفه من عبارة الماوردي نفسها قال: (وحمى الموات - أي:
الأرض التي لا ملك لها - هو المنع من إحيائه أملاكًا ليكون مستبقى الإباحة لنبت
الكلأ، ورعي المواشي قد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وصعد
جبلاً بالبقيع، قال أبو عبيد:(هو النفيع بالنون)، وقال: هذا حماي، وأشار بيده
إلى القاع ، وهو قدر ميل في ستة أميال حماه لخيل المسلمين من الأنصار
والمهاجرين) : اهـ بنصه (ص 176) .
وعبارة صاحب التاريخ تفيد أن الخيل من مال الزكاة ، والصواب أنه لا زكاة
فيها والمراد بالخيل في عبارة الماوردي: خيل المسلمين المملوكة لهم. ومثل هذا
الغلط لا يسلم منه من يأخذ العلم عن الكتب من غير تلقي كل علم عن أهله.
فالمصنف جعل الخيل من مال الزكاة، وجعل الحمى خاصًّا بإبل الزكاة وخيلها
وماشيتها، وكلا الأمرين غلط كما رأيت. ثم قال في عصر الخلفاء ما نصه:
(هذا هو عصر الإسلام الذهبي، عصر العدل والتقوى، كانت الحكومة
جارية فيه على سنن العدل والاستقامة والغَيْرة الحقيقية على الدين، ونبذ الدنيا،
وهو العصر الذي اتخذه المسلمون منوالاً ينسجون عليه، وكلما حادت دولة من
دولهم عن جادة الحق، طلبوا إليها الرجوع إليه، والسير على خطوات الخلفاء
الراشدين؛ لأن الحكومة انتقلت بعدهم إلى طور جديد، وانقلبت من الخلافة الدينية
إلى الملك السياسي، ونشأت في الخلفاء والعمال المطامع، وأخذوا في حشد الأموال
بأية وسيلة كانت) اهـ.
فليتأمل قول هذا المؤرخ المنصف صاحب مقالات (سوريا والاسلام) ، وكم
في أبناء ملته من حجة مثله عليه ثم قال:
(فلما كثرت الأموال في أيام عمر، ووضع الديوان؛ فرض الرواتب للعمال،
ومنع ادخار المال، وحرم على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة أو المزارعة؛
لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم تدفع لهم من بيت المال، حتى إلى عبيدهم ومواليهم -
أراد بذلك أن يبقوا جندًا على أهبة الرحيل، لا يمنعهم انتظار الزرع، ولا يقعدهم
الترف والقصف؛ فإذا أسلم أحد من أهل الذمة سكان البلاد الأصليين صار ما كان
في يده من الأرض وداره إلى أصحابه من أهل قريته تفرق بينهم، وهم يؤدون
عنها ما كان يؤدي من خراجها، ويسلمون إليه ماله ورقيقه وحيوانه، ويفرضون له
راتبًا في الديوان مثل سائر المسلمين)
…
إلخ ما ذكره في هذا المقام نقلاً عن ابن
عساكر، وهو موافق لما نقلناه في الجزء الماضي ردًّا على صاحب مقالات سوريا
والإسلام. ثم ذكر أن الخلفاء الراشدين لم يتأثلوا مالاً، ولا عقارًا؛ لما كانوا عليه
من الزهد، وشدة التمسك بالدين. وذكر أن أكثر عمالهم كانوا كذلك، فليعتبر بهذا
ذلك المتعصب الذي ينسب إلى المسلمين في الصدر الأول ما هم براء منه بشهادة
جميع العلماء من جميع الملل.
ثم ذكر أن رأي عمر بعدم اختزان المال، ينافي المبدأ الأساسي الذي تقام
عليه الدول، وتتأيد به السلطات، وأن سببه النزعة الدينية، وأن المسلمين عادوا
بعد ذلكم إلى الأصل الطبيعي في الدول، فجمعوا الأموال في عهد بني أمية، حتى
إنهم بدءوا في زمن عثمان لتساهله مع عماله منهم، وأن معاوية اقتنى الأرضين ،
واقتدى به الناس في الاقتناء والبيع.
وبعد أن ختم الكلام بمثل ما بدأه من الثناء على الراشدين انتقل إلى عصر بني
أمية، وذكر ما كان فيه من اقتدائهم بالروم والفرس في الترف، وبسطة العيش
وما جرهم ذلك إليه من الظلم والجور، ولكن معظم ثروتهم كانت تنفق في الحروب
وأنهم ابتدعوا ضرائب جديدة، وظلموا الرعية حتى جاء عمر بن عبد العزيز
العادل فيهم فرد المظالم، وأنصف الناس مؤمنهم وكافرهم من أهله وولده وسائر
الناس، وعزل الولاة الظالمين، ثم قال: (فترى مما تقدم أن القواعد الأساسية
التي قام عليها الإسلام تدعو إلى الإنصاف والرفق، ولكنها تختلف مظاهرها
باختلاف الذين يتولون شئونها. ولو أتيح لعمر بن عبد العزيز أن يعيدها إلى ما
كانت عليه في عهد ابن الخطاب؛ لامَّحت مظالم بني أمية، ولكن جاء في غير
أوانه فذهب سعيه هدرًا، ولما مات عادت الأمور إلى مجاريها ورافقها رد الفعل)
…
إلخ.
ونقول: إن السبب الصحيح في تمكن بني أمية من الظلم هو هدم قاعدة
الشورى، وسيطرة الأمة على الحكام التي صرح به أبو بكر في خطبته يوم ولي
الخلافة، ثم صرح بها عمر كذلك يوم ولي (راجع المنار ص 234م4) . وقالها
عثمان يوم قام الناس عليه، قال على المنبر:(أمري لأمركم تبع) وقد تمكن بنو
أمية من هدم هذا الركن الركين بعصبتهم المؤلفة من الموالي وغيرهم ممن لم يتمكن
الإسلام من نفوسهم، واستعانوا على ذلك بالمال الذي يأخذوه من غير حقه، كما هو
مفصل في الكتاب الذي نقرظه ، ثم انتقل إلى الكلام على بني العباس، فأسهب
وأفاد، ولعلنا نعود إلى مطالعة ما كتبه واقتباس بعض فوائده ، وصفحات هذا الجزء
190 وثمنه 15 قرشًا، ويطلب من مكتبة الهلال.
***
(السعادة العظمى)
صدرت في تونس مجلة عربية جديدة بهذا الاسم، وهي مجلة علمية أدبية
إسلامية تصدر في غُرة كل شهر عربي، وفي سادس عشرة لمنشئها عبده محمد
الخضر بن الحسين المحصل على رتبة التطويع العلمية بجامع الزيتونة الأعظم ،
وقيمة الاشتراك فيها بالمملكة التونسية 8 فرنكات في السنة وبالجزائر وطرابلس
الغرب عشرة فرنكات، وبالممالك الشرقية ومراكش 12 فرنكًا والعدد منها يتألف من
كراستين، وهو مطبوع على ورق جيد بالحرف الإستانبولي. وقد سَرَّنَا من هذه
المجلة أنها دلت على تساهل من دولة فرنسا مع المسلمين في نشر العلم كما توقعنا،
وعلى توجه المشايخ المشتغلين بالعلوم الاسلامية إلى الصحافة؛ فنسأل الله تعالى أن
يوفقنا، ويوفق صاحب هذه المجلة إلى خدمة الإسلام الخدمة النافعة، وأن يُنَجِّح عملنا
وعمله آمين.
_________
(1)
الماوردي.
(2)
البخاري 190 ج 1.
(3)
شرح الموطأ.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التعليم الإسلامي في سيراليون
جاء في مجلة سيراليون الأسبوعية الإنكليزية (عدد 29م 20) تحت هذا
العنوان ما يأتي:
يخضع سكان هذه المستعمرة منذ بدء استعمارها أتم الخضوع للحكومة
الإنكليزية، وقد كان السير تشارلس ماك كارثي حاكم سيراليون - بين ثمانين
وتسعين سنة مضت - أول من وجه أنظار الحكومة الإنكليزية إلى فائدة تسهيل
المواصلات مع المسلمين القاطنين في البلاد الواقعة شرق سيراليون وسنغال ،
وكان يومئذ حاكم المقاطعتين إذ كانت سنغال من الأملاك الإنكليزية، وهو أول من
حول تجارة مقاطعات البربر إلى الشاطئ الغربي، وذلك بما كان يبديه من الكرم
والمجاملة لزعماء القبائل المحمدية الذين كانوا يأتون إلى الشاطئ تباعًا تلبية
لدعوته.
ولكن أعمال السير تشارلس ماك كارثي كانت تجارية بحتة؛ فإنه لم يحلم بأن
سيصبح أولئك الأقوام جزءًا من الإمبراطورية الإنكليزية في وقت من الأوقات،
وأنهم يحتاجون حينئذ إلى الدرية العلمية والسياسية ليكونوا عضوًا عاملاً في جسم
المملكة.
ولم يكن إلا في الثلاثين سنة الأخيرة أي منذ تولى السير أرثور كنيدي إدارة
تلك البلاد، أن اعتنى بتوسيع دائرة التعليم في المستعمرة لكي تضم المسلمين إليها.
وقد كان السير أرثورك كنيدي وخلفه السير جون بوب هنيسي ميالين أشد الميل إلى
تعليم المسلمين العلوم الغربية؛ لأنهما رأيا فيهم نشاطًا يُمَكِّن الحكومة من الاعتماد
عليهم في أعمالها الداخلية، وقد لحظا أن المسلمين هم الشعب الوحيد المستنير بنور
المدنية، والذي يؤلف هيئة اجتماعية في تلك الأقطار المظلمة، وأنه يمكن
بواسطتهم إخضاع جميع القبائل العظيمة في داخلية البلاد.
وفي عهد هذين الرجلين تمهدت الطرق للإنكليز في جميع المقاطعات الواقعة
بين سيراليون وسوكوتو، وكان في إمكانهم إنشاء مراكز سياسية، ودورًا علمية
متصلة بعضها ببعض بين سيراليون وهوسالاندر ، ولكن ذلك أصبح مستحيلاً الآن
لدخول القوات الأجنبية ، ومدها نفوذها في تلك الجهات. ومع ذلك فإن الساسة
الإنكليز يرون أن انتشار التعليم بين المسلمين في سيراليون لا يخلو من التأثير فيما
بقي من الأراضي الواقعة وراء المستعمرة في قبضة الإنكليز. ولا شك في أن إقامة
مدرسة للمسلمين ينطبق تعليمها على معتقدهم تجذب إلى المستعمرة جميع أهل
وطنهم والمتدينين بدينهم في قلب القارة.
ولكن أهم ما حمل الحكومة على إنشاء مدارس إسلامية أساسية في سيراليون
هو أن هذه المستعمرة التي هي المستعمرة الإنكليزية الوحيدة على الشاطئ، والتي
يتكلم باللغة الإنكليزية في جميع أنحائها يجب أن تكون قاعدة لمدرسة جامعة يعلم
فيها الشبان المسلمون العلوم العالية من علوم الإنكليز والغرب، وقد أشار الحاكم
ناتان إلى شيء من هذا القبيل في خطابه الذي ألقاه في 7 أغسطس 1899؛
إذ افتتح المدرسة الإسلامية في مدينة فوله قال:
إني أعتقد أن فتح هذه المدرسة سيكون فجر يوم باسم في التعليم الإسلامي ،
وأنه لا يمضي بضع سنين حتى يكون في سيراليون مدرسة جامعة تنبعث منها
الحكمة والمعرفة، وتنبسطان فوق جميع أرجاء غربي أفريقيا.
وهذا القول الذي فاه به الحاكم المذكور في ذاك الحين قد رددت صداه السياسة
الإنكليزية في الوقت الحاضر، وذلك بالنظر إلى ما تراه من التبعة الملقاة عليها
إزاء العدد العديد من الشعب الإسلامي الذي يقطن غربي أفريقيا وقلبها.
وقد انتبه الرأي العام الإنكليزي إلى أهمية تعليم مسلمي أفريقيا العلوم الغربية
على أثر قيام اللورد كتشنر ومناداته بطلب المال لتأسيس مدرسة جامعة في
الخرطوم لتعليم النشء الإسلامي.
وقد قال اللورد كتشنر في مخاطبته الشعب الإنكليزي: (إن علينا تبعة كبيرة
ملقاة على عواتقنا؛ فإن على الفاتح أن يهذب ويمدن. والعمل الذي قامت العقبات
في سبيله بعد موت غوردون يجب أن يجدد الآن؛ ولذلك أقترح أن تؤسس في
الخرطوم مدرسة جامعة بمال الإنكليز تنسب إلى اسم غوردون لإحياء ذكره، ولتدل
على أننا لا نزال نذكر هذا الرجل العظيم، ولنحقق أمانيه التي كان يسعى إلى
الحصول عليها، ولا يلزمني أن أضيف إلى قولي هذا أنه لا يجب أن نتداخل بعملنا
هذا في دين القوم، والمدرسة التي اقترحت إنشاءها ستوضع لها خطة تعليمية بحتة،
ولا يجب أن يدخل عليها شيء من الدروس الدينية. وسنجلب إليها التلامذة من
مسلمي السودان، وإني واثق بأن اتخاذ المدرسة للتعاليم الدينية يذهب بالفائدة
المطلوبة منها) .
وقد اقترح اللورد كتشنر هذا الاقتراح بعد ستة أشهر من إلقاء الماجور ناتان
لخطابه عند افتتاح مدرسة فوله.
فغربي أفريقيا في حاجة الآن إلى مدرسة جامعة كالمدرسة التي أسسها اللورد
كتشنر. فالحكومة الإنكليزية أنشأت خمس كليات في الهند على طراز كلية لندره.
وهذه الكليات أنشئت في كلكوتا ومِدْرَاس وبومباي والله أباد وبنجاب. ومن
الأسف أن يقال: إنه رغم التسهيلات الكبيرة التي أوجدت للتعليم في تلك الجهات
مدة جيلين على الأقل لم يكن للتلامذة حتى الذين حازوا قصب السبق منهم أدنى إلمام
بالحياة العملية، والحالة هناك سائرة من سيئة إلى سوءى.
والوطنيون الأذكياء قد شعروا بهذه الحالة السيئة منذ سنين عديدة. وجميع
حكام المستعمرة انتقدوا الخطة التي تسير عليها المدارس، والسير أرثور كنيدي
شعر بهذا الاحتلال بين عامي 1868 و1872. وفي عام 1872 تقدم بعض زعماء
الوطنيين بقيادة المرحوم المستر ويليام غرانت من السير جون بوب هنيسي الذي
كان حاكمًا على المستعمرة يومئذ، ورفعوا إليه عريضة يطلبون فيها من الحكومة
إنشاء كلية لغربي أفريقيا في سيراليون، فأعجب الحاكم بشعورهم هذا، ووافق
على مشروعهم، وأبدى آراء عديدة بهذا الشأن أدرجت في ذاك الحين في جريدة
(النيجرو) ، ولم يفكر في إنشاء كلية للأشراف وذوي الثروة، بل كان من رأيه
تأسيس كلية جامعة في غربي أفريقيا غير مختصة بأولاد الرؤساء وذوي اليسار،
بل يدخلها أيضًا أبناء الفقراء الذين فيهم قابلية للعلم ليتغذوا بلبان العلوم أسوة بأبناء
الكبار، كما كانت الحالة في كليات أيرلندا وفي كليات أوربا. وقد كتب الحاكم بهذا
الشأن إلى اللورد كمبرلي الذي كان وزير المستعمرات في ذاك الحين؛ ولم يعارض
الوزير في هذا الأمر، ولكن الحاكم كنيسي الذي كان مصممًا على إنفاذ هذا
المشروع غادر المستعمرة في أثناء المناقشات التي كانت جارية بهذا الصدد فأهمل
المشروع يومئذ ، ولكن تأثير هذه المناقشات ظل سائرًا، وقد لوحظ أن إلحاق
مدرسة خليج فوره العليا بكلية درهام كانت نتيجة ذلك المشروع.
ولا يوجد بلاد في العالم أحوج إلى التعليم من هذه البلاد؛ لأن عليه وحده
يتوقف الإصلاح. فالآراء التي تحكم العالم في هذه الأيام تتشعب جذورها ببطء،
ولكن تشعب الجذور في هذه البلاد أبطأ منه في غيرها، فالرجل الذي يُرجى منه
أن يكون معلمًا أو مُصْلِحًا في هذه البلاد يجب أن يعامل بمنتهى الصبر والأناة.
ولكن النتيجة لابد أن تكون مرضية، ولو بعد حين، ولذلك لا يجب أن يهمل
أي مشروع يكون من ورائه النجاح عاجلاً أو آجلاً. ففي الختام نزف التهاني إلى
السير تشارلس كنج هارمان حاكم المستعمرة الذي قام بهذا المشروع العظيم، ولا
شك أن مسلمي تلك البلاد يقدرون أعماله حق قدرها. اهـ وكتبت المجلة في هذا
العدد أيضا ما يأتي:
***
افتتاح مدرسة إسلامية
جديدة أميرية في سيراليون
بعد ظهر الاثنين في 14 مارس احتفل حاكم مستعمرة سيراليون السير
تشارلس كنج هرمان بافتتاح مدرسة إسلامية أميرية بحضور جم غفير، وقبل
الموعد المحدد اجتمع عدد كبير من المسلمين وغيرهم في الشوارع منتظرين قدوم
الحاكم وأتباعه، وعند قدومه أحاط به القوم تتقدمهم (البالانجاي) وهي موسيقى
وطنية فأخذ بعض مشاهير العازفين يعزفون عليها، وانتخب اثنتان من نساء
(البللي) لتنشدا مديح الحاكم، واللاِّدي كنج هارمان اتباعًا لعادة بعض قبائل البلاد
الداخلية، وهي أنه عند إقبال أحد الرجال العِظَام عليهم يَأْتُون ببعض النساء
المغنيات ليعدوا مآثره بالنشيد. وقد أحدثت هاتان المغنيتان تهييجًا بعبارات الإطراء
التي فاهتا بها. ولما دخل الحاكم غرفة المدرسة التي كانت الطريق المؤدية إليها
مزدانة بالأعلام وبأغصان النخل، نهض الأولاد وأنشدوا نشيد الملك، ثم مشى
الحاكم وجماعته وصعدوا إلى فسحة مرتفعة حيث كانت الكراسي معدة للزائرين.
وقد كانت غرفة المدرسة قبلاً قذرة وغير منتظمة، ولكنها أُصْلِحت الآن،
وأصبحت آية في النظام والرونق.
وقد أنشئت هذه المدرسة بناءً على مشروع جديد أُريد به ضم مدرستي
ماندينفو وفوله وجعلها مدرسة واحدة، وانتخب لها ناظر مدرب، ومعلمون ذوو
كفاءة. وقد كان تحاسد القبيلتين حائلاً دون هذا الضم والوحدة في العمل، ولكن ما
أُلقي على زعمائهما من الوعظ والإرشاد جعلهم يقدرون الاتحاد والتعاضد حق قدره
فنبذوا التباغض والتحاسد وراء ظهورهم، وتوافقوا على المنفعة العامة لأولادهم.
وبعد استقبال الحاكم بدأ الإمام عبد العزيز بالدعاء ، ثم رتل التلامذة ترنيمة
إسلامية باللغة العربية، ثم تلا الألفا إسكندر تقرير مدرسة الماندينغو، وعقبه الألفا
الحسين بتقرير المدرسة الإسلامية، وقدم التقريران إلى الحاكم، ثم قام الحاكم
لإبداء ملاحظاته ، فقوبل بأصوات الابتهاج. وبدأ أولاً بشكر الجمع الحاضر من
مسلمين ومسيحيين على حسن استقبالهم له وللاِّدي كنج هارمان، وأبدى لهم عظيم
ارتياحهما إلى المهمة التي أتيا من أجلها، وهي ضم المدرستين، وجعلهما مدرسة
واحدة. وقال: إن مدرسة الماندينغو أسسها الحاكم ناتان في عهد توليته إدارة
المستعمرة، وأراد بتأسيسها تعليم أولاد القبائل الداخلية اللغتين العربية والإنكليزية،
وقال: إنه لما زار المدرسة في أبريل العام الماضي وجد فيها ما لا يسر الخاطر،
فبدلاً من أن تكون مدرسة إسلامية وجدها مدرسة مسيحية خلافًا لما كانت تنويه
الحكومة من إنشائها. فرأى إذ ذاك أن يسحب من متولي المدرسة رخصة الحكومة؛
لأنهم لم يسيروا بموجبها، وسرَّ بأن عمله هذا أدى إلى نتيجة حسنة. وقد عاش
بينهم مدة طويلة، وعرف الطرق التي تعود عليهم بالمنفعة من وراء التعليم ، فبينما
كانت الحكومة راغبة في تعليمهم ما ينطبق على دينهم كانت أيضًا راغبة في
تعليمهم اللغة الإنكليزية التي تساعدهم على العمل والارتزاق. وإنه ليدهش حين
يرى قسمًا منهم يعارض في تعليم اللغة الإنكليزية ، فلا يبرحن أذهانهم أنهم مع
كونهم مسلمين فهم أيضًا رعايا الحكومة الإنكليزية، وتعلم اللغة الانكليزية يوصلهم
إلى معرفة ما هو جار من الأعمال العظيمة في العالم، وليس في نية الحكومة أن
تبدل جنسيتهم فتجعلهم إنكليزًا، بل تريد أن يبقوا أفريقيين، ولكن تعلم اللغة
الإنكليزية يساعدهم على حياتهم القومية، وعلى أعمالهم.
ثم أبدى أسفه لوفاة ناظر المدرسة الأول سانا جاوارا فقد كان رجلاً طيب
القلب، وصديقًا له، ولكنه سُرَّ بعد وفاته أن رأى الوسائل متخذة لإصلاح حالة
التعليم في المدرستين، وأنهم عولوا على إزالة النفور من بينهم ، وعلى العمل يدًا
واحدة لمنفعة أولادهم. فلا يتمكن شعب من الشعوب من السعي في خير وطنه إلا
بتكاتف أعضائه، والمباراة تعود بالربح في بعض الأحيان، ولكنها إذا أفضت إلى
سفك الدماء؛ فلا تكون عاقبتها إلا الخراب والدمار. وإنه ليسر بأن يراهم الآن
متعاضدين، ويشتغلون يدًا واحدة للنفع العام.
وفي الختام حرضهم الحاكم على التمسك بالطرق المعدة لهم الآن، واتخاذها
وسيلة لإصلاح حالهم، وقال إنه واثق بأن كل فرد منهم يسعى في جعل المدرسة
مركزًا للنور تنبعث منه الأشعة إلى القبائل التي يتألف منها الشعب، ثم أعلن الحاكم
فتح المدرسة.
وبعد ذلك أديرت المرطبات، ثم أخذ التلامذة ينشدون الأناشيد ، وانصرف
الجمع في الساعة الخامسة ونصف، وصحبت الموسيقى والمغنيتان الحاكم وقرينته
إلى دار الحكومة.
وقد كان في جملة الذين جلسوا مع الحاكم الإمام جامبوريا والألفا دارامي،
وعبد العزيز، والمستر باكارد، والمس باكارد، والمستر جونسون، وقرينته،
والمستر توماس، ورئيس الشمامسة ماكولي والمستر كومبر مدير عموم سكة حديد
سيراليون، والمستر ماي. وقام بإعداد معدات هذه الحفلة الدكتور بليدن مدير
المدارس الإسلامية. اهـ
(المنار)
إننا نوهنا في مجلد المنار الرابع (ص 707) بافتتاح مدرسة فوله في
سيراليون، وقلنا في فاتحة الكلام: (إنه لا توجد بلاد إسلامية أعطي أهلها من
حرية التعليم ما أعطي البلاد التي استعمرها الإنكليز. فعلى مسلمي تلك البلاد أن
يهتموا بالتعليم بالعربية، والإنكليزية، وأن يتركوا التنازع المبيد. ولنا عودة
لنصحهم إن شاء الله تعالى.
***
المنار
وجاء في العدد 30 من مجلة سيراليون أيضًا تحت هذا العنوان ما تعريبه:
هذا اسم مجلة عربية تطبع في القاهرة. وقد ورد علينا عدد فبراير منها، وفيه
مقالة ضافية الذيول عن مسلمي سيراليون يتضمن إلماعًا إلى بدء نشر التعليم
الإنكليزي بينهم. وفي هذه المقالة أيضًا إشارة إلى كتاب الدكتور بليدن عن
النصرانية والإسلام، والجنس الأسود مع إبداء الأسف والتصريح بأن هذا العمل لم
يعد معروفًا عند مسلمي الشرق.
وقد علمنا أن كاتب هذه المقالة هو مسلم شرقي متوطن في فريتون، وعلمنا
أيضًا أنه كان حاضر افتتاح المدرسة الإسلامية الجديدة في يوم الاثنين 14 مارس،
ولابد أن ينشر بعض مقالات أخرى في المجلة المذكورة.
وقد ذكرت المنار وصول هارون الرشيد إلى القاهرة منذ بضعة أشهر، وهو
شاب مسلم من مدينة فوله في هذه البلاد.
وقد تمكن الشاب المذكور من دخول الأزهر بمساعدة صاحب المجلة، وهذا
الجامع لا يزال يجذب إليه الطلبة من جميع أقطار العالم الإسلامي، وحبذا لو أمكننا
الحصول على معلمين من ذاك الجامع الشهير ليقوموا بتعليم تلامذتنا التعاليم
الإسلامية. اهـ
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
النساء المسلمات في الهند
قد سبقت الهند مصر وغيرها من بلاد المسلمين في المدنية الحديثة حتى صار
النساء فيها يخطبن في الأندية العامة على الملأ من الرجال والنساء. وقد تُلي في
مؤتمر التربية الإسلامية في هذا العام خطاب كتبته عَقيلة من فضليات نساء
المسلمين، وتلته عقيلة أخرى بالنيابة عنها لغيبتها.
أما الكاتبة فهي صبيحة زوج المير سلطان محيي الدين صاحب النائب
السياسي في مِدْرَاس، وأما التي خطبت به فهي فاضلة تسمى كابراجي. والخطاب
متضمن لتذكير الرجال بما منح الإسلام للنساء من الحقوق، وما حث عليه من
تعليمهن وتربيتهن، وشكر أعضاء المؤتمر على (تجديد السنة الإسلامية) بقبول
دخول النساء فيه ، واشتراكهن مع الرجال في البحث والائتمار بوسائل ترقي
المسلمين، وقالت عن هذه المزية: إنها كادت تجدد عندنا الإسلام لأول ظهوره،
وما أعطيت المرأة فيه من الحرية التامة فلا يعزب عن أذهانكم هدي هذا الدين
ووصاياه ، بل مثلوا عظمته وارتفاع شأنه وسعة ممالكه في أذهانكم وأحيوا أحكامه،
وانصروا برهانه فقد أمسى لهذا العهد على عظمته وقوته كالأسد المحتضر. ثم
اقترحت أن ينشئ المؤتمر معرضًا في وسط البلاد تعرض فيه مصنوعات أيدي
النساء ترغيبًا لهن في الصناعة، وتبرعت لذلك بخمسين روبية على أن تكون
فاتحة اكتتاب للعمل إذا أمكن ، وإلا فهي للمؤتمر.
***
رأي فاضلة هندية
في العرب والعربية
وخطبت في احتفال المؤتمر فاضلة تسمى (نفديدا) خطبة ضافية عن حال
الإسلام والمسلمين، ومن الأفكار العالية التي تكلمت فيها توسيع الإسلام دائرة
الوفاق والتأليف بين البشر بإلغاء الجنسية النسبية والوطنية، وجعل المؤمنين إخوانًا
حيث كانوا، وأين حلوا.
وأطنبت في الكلام عن العرب وما قاموا به من خدمة العلم والمدنية،
وإحيائهما بعد موتهما، وقالت ما معناه: إن الهند التي عاشت بالعلم بعد الدخول في
الإسلام إنما حُييت بإرشاد العرب، بل بامتزاج دم العرب بدم الهنود، حتى قالت:
إن الدم العربي لا يزال يجري حارًّا في عروقنا، وهو الذي يحركنا إلى الترقي
الآن، ووصفت الإسلام بأنه دين الفطرة والاستقلال والعلم وأنه يمشي معه الترقي
حيث مشى. وقالت: إن العلة في قلة انتشاره في الهند هو جهل الهنود باللغة
العربية فإنها أقل في الهند انتشارًا منها في سائر البلاد الإسلامية. قالت: ومن
البعيد أن نرجو تقدمًا في ديننا مع عدم التمكن من لغته، ولنا الرجاء في الوصول
إلى مقصدنا قريبًا بمساعدة المسلمين من أهل البلاد العربية بالرأي والعمل خدمة
للإسلام.
فلله در هذه الفاضلة! ! التي يقل نظيرها في علمائنا المدرسين في مصر
والهند، وقد سبق لنا من بيان فوائد ما دار عليه خطابها المفيد ما يمنع من العود إليه
الآن. أكثر الله من أمثالها في رجالنا ونسائنا فإننا لا نحيا إلا بأمثال الذين على هذا
المثال.
***
الجمعية الخيرية الإسلامية
دعا رئيس هذه الجمعية جميع المشتركين فيها للاجتماع في 29 المحرم
الماضي لعرض أعمال مجلس الإدارة عليهم وإطلاعهم على مشروع أعمال سنة
1322هـ وميزانيتها، وانتخاب خمسة أعضاء لمجلس الإدارة؛ فلبى الطلب بعض
واعتذر بعض، وتخلف الأكثرون. وقد بَيَّن الرئيس فائدة الحضور، ومضرة
التخلف، ومنه أن إشراف الجمهور على أعمال البعض يَحمِل على الإتقان
والنشاط ، ويُعوِّد الناس على الأعمال المشتركة والتعاون ، وبه قوام الأمم. ومن
مشروعات الجمعية الجديدة إنشاء مدرسة في المحلة الكبرى، وسنتكلم عليها في
الجزء القادم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتاب تنوير الأفهام
كلمة ثانية في هدم الكتاب
ذكرنا في الجزء الثالث كلمة هادمة لذلك الكتاب الذي زعم أنه بيَّن مصادر
الإسلام وليس للإسلام إلا مصدر واحد وهو الوحي، وذكرنا هنالك أننا لم نقرأ من
الكتاب إلا جملة قليلة. ثم إننا عدنا إليه؛ فألفيناه يبتدىء الكلام في الإسلام ابتداء
مَن يتوهم أنه عرفه، وأنه يتكلم في قواعده وأصوله، ولكن لم نلبث أن رأينا فيه
من الجهل والافتئات على الإسلام ما أثبت لنا أن واضعه كغيره من الطاعنين لم
يكتب ما يرى ويعتقد ، ولم يعتقد ما عرفه وعَلِمَه، بل خبَّط خبط عشواء فظلم
نفسه، وأتعب عقله وحسه، وكان بعد ذلك من الخاسرين.
انظر تعلم أننا نَصفه لا نَشْتُمه - ذكر أن أساس الدين القرآن والسنة أو
الحديث كما قال ، وذكر أن الحديث مُبَيِّن للقرآن فإن خالفه لا يقبل؛ لأن القرآن هو
الأصل، وذكر أن كُتب الحديث المعتمدة عند أهل السنة ستة، وعَدَّ منها المُوطأ
وأهمل سُنن النَّسائي، ولا بأس بذلك، وذكر الكتب المعتمدة عند الشيعة كذلك، ثم
بَنَى طَعْنَه في القرآن على ما فسره به من الحديث بزعمه ، وههنا الخلط والاختراع
وسُوء القَصْد كما ترى فيما نورد عنه من الشواهد.
أول مثال أورده لبيان القرآن بالسنة آية {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} (الإسراء:
1) فزعم أن حديث المعراج مُبَيِّن لها فأَوْهَمَ القارئين أن ما ورد من عروج النبي
صلى الله عليه وسلم إلى السماء - بروحه فقط كما عليه قوم من المسلمين أو بروحه
وجسده كما عليه آخرون - مُفَسِّر ومُبَيِّن لآية من القرآن، مع أن المسلمين مجمعون
على أن المعراج مأخوذ من الحديث لا من القرآن، ولذلك لا يقولون بكفر منكره،
بل نقلوا أن من الصحابة من أنكره بالمرة حتى السيدة عائشة زوج النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم -.
وأردف هذا المثال بآخر فقال: (وكذلك لولا الحديث لما فهم أحد معنى: (ق)
وهو اسم إحدى سور القرآن؛ فالأحاديث هي التي أوضحت أن المراد بالحرف (ق)
اسم جبل قاف؛ ولهذا عزمنا بحوله تعالى طلبًا للاختصار أن لا نورد في هذا
الكتاب شيئًا مختصًّا بمصادر الإسلام من عقيدة إسلامية، أو تعليم إلا ما كان له
أصل وأساس في القرآن ذاته، ويكون ورد له تفسير وشرح في الأحاديث المشهورة
المتواترة بين كل المسلمين سواء كانوا من أهل السنة أو الشيعة.
انظر إلى ما اشترطه على نفسه في الاعتماد على الأحاديث المُبَيِّنَة والمُفَسِّرَة
للقرآن؛ اشترط أن تكون الأحاديث مشهورة متواترة بين كل المسلمين، مع أن
تفسير حرف (ق) بأنه اسم جبل لم يرد في حديث مرفوع لا متواتر، ولا مشهور
ولا آحادي صحيح، ولا ضعيف، ولم يذكر في كتاب من الكتب الستة التي ذكر أن
أهل السنة وهم القسم الأكبر من المسلمين يعتمدون عليها. فكيف يوثق بكلام مؤلف
ويصدق بأنه التزم ما اشترطه على نفسه في هذا الكتاب.
نعم، إن في كتب التفسير التي لا يكاد يخلو واحد منها من سرد الأقوال
الإسرائيلية أثرًا في ذكر جبل قاف، وقد قال القرافي - من محققي الأمة -: إنه لا
يعول عليه، ولا يصح، وإن هذا الجبل لا يوجد، ولا يهمنا أن بعض عشاق
الروايات الكثيرة سلَّم به، وإنما نقول: إنه شيء لم يصح في الكتاب، ولا في السنة،
ولم يوجد في الكتب المعتمدة الذي ذكرها، ولا في غيرها مرفوعًا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إن للإسرائيليات منبعًا آخر في غير كتب التفسير - هو أغزر مادة أو أكثر
رواية -: وهو كُتب القَصص الخُرافية التي أسندت إلى مؤلفين لا شأن لهم ككتاب
(عرائس المجالس) وغيره في قَصص الأنبياء، و (خريدة العجائب) ، وأمثالها،
وهي كتب طافحة بالمَوْضُوعات والأكاذيب، كما نَبَّه على ذلك حُفَّاظُ الحديث،
حتى كان الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - يقول: (لا يصح في التفسير
شيء) ، وعلى أمثال هذه الكتب يَعْتَمِدُ صاحب كتاب (تنوير الأفهام في تفسير
القرآن) ، وبيانه مع ما علمت من شَرْطه الخادع. ومن ذلك ما أورده في الصفحة
(42)
وما بعدها من قصة إبراهيم عليه السلام أخذها من (عرائس المجالس)
ينبوع الكذب، واستدل منها على أن القرآن يستمد أحكامه وأخباره من كتب
اليهود، ثم اعترف بأن ما في القرآن، وعرائس المجالس غير مطابق لما في كتبهم،
وسببه بزعمه أن محمدًا أخذها عن اليهود مشافهة، ولم يرها في كتبهم! ! على
أن موافقة القرآن نفسه أو الحديث الصحيح لبعض ما في كتب اليهود دون بعض لا
يدل على أنه أخذ عنهم، وإنما يدل على أن الله تعالى بيَّن له حق كلامهم من باطله،
وصدقه من كذبه، فإن كتبهم كأقوالهم لا يعتمد عليها كلها لظهور الكذب والتناقض
فيها إلى اليوم، ولظهور تلفيقها واقتباسها من الأمم الأخرى كما بيَّنَّا ذلك مرارًا فهي
ككتب القصص عندنا فيها شيء من القرآن والسنة، ولكنه ممزوج بالأكاذيب
والآراء المقتبسة من الأمم. ولا شيء يعول عليه في صحة بعض أقوال كتب
اليهود دون بعض، بعدما طرأ عليها من الضياع والتحريف والخلط إلا الوحي،
وقد ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالدلائل الساطعة، والآثار النافعة، وهم
يقولون: إن المسيح فَرَّقَ بين الأنبياء الصادقين، والأنبياء الكذبة بآثارهم وثمارهم،
فوجب الاعتماد على ما جاء به هذا النبي الكريم دون غيره. والبحث بأنه سمع
أو اطلع من الهذيان. وأَنَّى يعول النبي الذي لا ينكر الكافرون رجحان عقله على
قول أولئك اليهود الذين شرح للناس مكرهم وكذبهم ، وتلطَّف في شأن ما يَعْزُونه
إلى الوحي، فأمر أصحابه بأن لا يصدِّقوهم فيه ولا يكذِّبوهم!!
كذلك تراه قد اعتمد على (عرائس المجالس) في قصة سليمان مع ملكة سبأ
(كما في ص 61) ، وفي قصة (هاروت وماروت)(كما في ص64) وقد مرَّ
تفسير القصة في المجلد السادس من المنار بما يكذب القَصاصين، كصاحب
(عرائس المجالس) وغيره ومَنْ على رأيهم من المفسرين (راجع ص 443 من
المجلد المذكور) ، وفي (سبع دركات الأرض)(كما في ص 85) واعتمد على
كتاب (قَصص الأنبياء) في وصف اللوح المحفوظ بناء على أنه تفسير لقوله
تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (البروج: 21-22) ذكر ذلك
في (ص 93) وعبر عنه بمعلومات المسلمين التي استفادوها من أحاديثهم. ثم
رَجَّحَ في الصفحة الـ 99 أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتبس هذه الكلمة من
اليهود حين سمعهم يقولون: إن الوصايا التي أعطاها الله لموسى كتبت في لوحين.
كأنه يرى أن محمدًا - عليه أفضل الصلاة والسلام - ما كان يعرف هذا اللفظ (لوح
محفوظ) لولا أنه سمعه من اليهود، وإن كان اللفظ عربيًّا، والسورة التي ورد فيها
مكية أنزلت قبل أن يعرف النبي أحدًا من اليهود؛ إذ كانوا في المدينة لا في مكة.
ثم رَجَّحَ بناءً على تحكمه هذا أن المسلمين لم يفهموا معنى قوله (لوح محفوظ)
فكذَّبُوا له تلك الكذبة المذكورة في قَصص الأنبياء! !
وليت شعري! كيف لم يفهموا هذه الكلمة وهي من لسانهم، والكتابة في
الألواح معهودة عندهم؟ وكيف اختص النبي بالسماع من اليهود دونهم؟ مع أنه كان
يراهم ويحاجهم إذ يدعوهم إلى الإسلام والمسلمون حاضرون، ولم يُعْرَفْ أنه كان
يخلو بهم! ! نعم إن ما ذكره صاحب قصص الأنبياء يجوز أن يكون بسوء فَهْم،
وأن يكون بسوء قَصْد، ثم عاد إلى تفصيل القول في تفسير (ق) بجبل قاف ناقلاً
عن (عرائس المجالس) ، وقصص الأنبياء، وذكر موافقة ما فيهما لما قاله أحد
اليهود في كتابٍ لهم اسمه (حكيكاه) .
ويا ليت مؤلف الكتاب كان سأل أحد علماء المسلمين عن كتاب (عرائس
المجالس) ، وكتاب (قصص الأنبياء) قبل أن يطالعهما، ويستخرج منهما تفسير
القرآن: هل هذان الكتابان معتمدان عندكم في التفسير وغيره؟ وهل تعدُّ روايتهما
صادقة؟ إذن لأجابه بما كان يكفيه مؤنة التعب والعناء بمطالعة تلك الخُرافات
والأكاذيب، وتلخيص الأخبار منها. إننا نشفق عليه من مطالعة كتب يحرم
المسلمون قراءتها لما فيها من الكذب والكفر؛ إذا كان قد طالعها ظانًّا أنها معتمدة
يحتج بها، ولكن الراجح أنه يعلم أنها كتب خرافية، بدليل أنه ذكر كتب الحديث
المعتبرة عند المسلمين وإن كانوا لا يحتجون بجميع ما فيها، ولكنه مع وعده بأنْ
سينقل منها المشهور والمتواتر؛ لم ينقل منها حتى ما لم يشتهر ولم يتواتر. لماذا؟
لأنه يريد أن يشكك عوامّ المسلمين في دينهم بإيهامهم أنه يعرف كتبهم المعتمدة،
وينقل عنها وينتقدها، وعند ذلك يتسنى له أو لغيره من شيعته أن ينصر بعض
هؤلاء العوام الجهال بعد تشكيكهم مرغبًا لهم بمنفعة دنيوية، كما عهد من المبشرين
في دعوة المسلمين. ولم يعلم المسكين أن من عرف من الإسلام شيئًا يصعب أن
يهين نفسه بالنصرانية ويعبد البشر (المسيح) من دون الله ويقول: إن الله مولود
من أنثى.
إن كتاب (عرائس المجالس) و (قصص الأنبياء) على شحنهما بما يخالف
عقائد الإسلام وأخباره وأحكامه هما أمثل من كتب النصرانية ، ولا يرضى لنفسه من
لم يعرف من الدين والعلم شيئًا غير خرافاتهما أن يستبدل بها عقيدة النصارى الوحيدة
التي هي مناط الخلاص عندهم، وهي أن الإله عجز عن التوفيق بين صفتَيْه
المتناقضتين من الأزل وهما العدل والرحمة فلم يهتد وسيلة لذلك إلا منذ 1904؛ إذ
رأى أن يحل في بطن امرأة ويولد منها فيكون إنسانًا ، ثم يصلب كارهًا راضيًا
ويجعل نفسه ملعونًا لأجل أن يخلِّص الناس؛ بحملهم على تصديق هذه القصة التي لا
تعقل ، ويجعل من يصدق بها من أهل الإباحة ، له الملكوت وإن كان أفسق
الفاسقين وأظلم الظالمين! ! ! هل يمكن لمَن له ذرة من العقل أن يفضل هذا
الاعتقاد الخرافي على خرافات عرائس المجالس وقصص الأنبياء؟ لا، لا، لا.
هذا نموذج من الشواهد التي زعم مؤلف الكتاب أن القرآن أخذها من كتب
اليهود بناءً على تفسير الأحاديث المتواترة المشهورة في كتب المسلمين على زعمه
وما هي إلا في كتب الخرافات كما علمت.
وقد ذكرنا لك في الجزء الثالث شاهدًا مما طعن فيه بالقرآن من حيث اقتباسه
من العرب، ونذكر لك الآن شاهدًا آخر على سبيل الفُكاهة لتعرف مبلغ علم هذا
المؤلف بالعربية وأساليبها، كما عرفت مبلغ علمه بالأحاديث المتواترة، وهي
عند المسلمين ما رواه جَمْع عظيم في كل زمن من عهد النبي صلى الله عليه وسلم
إلى الآن، وما أورده لم يروه جمع ولا واحد.
جاء في الصفحة الرابعة والعشرين وما بعدها عقيب الكلام في التوحيد الذي
مَرَّ الشاهد فيه، وفي الختان - الذي لم يذكر في القرآن - ما نصه:
(قال المعترضون: وبصرف النظر عن كل هذا؛ فإن بعض آيات القرآن
مقتبسة من القصائد التي كانت منتشرة ومتداولة بين قريش قبل بعثة محمد،
وأوردوا بعض قصائد منسوبة إلى امرىء القيس مطبوعة في الكتب باسمه لتأييد
قولهم هذا. ولا شك أنه ورد في هذه القصائد بعض أبيات تشبه بل هي عين آيات
القرآن على حد سواء، أو تختلف عنها في لفظة أو لفظتين، ولكنها لا تختلف عنها
في المعنى مطلقًا. وهاك الأبيات التي يوردها المعترضون وقد أشرنا على العبارات
التي اقتبسها القرآن بوضع علامة تحتها كهذه ـ:
دنت الساعة وانشق القمر
…
عن غزال صاد قلبي ونفر
أحور قد حرت في أوصافه
…
ناعس الطرف بعينيه حور
مر يوم العيد في زينته
…
فرماني فتعاطى فعقر
بسهام من لحاظ فاتك
…
فتركني كهشيم المحتظر
وإذا ما غاب عني ساعة
…
كانت الساعة أدهى وأمر
كتب الحسن على وجنته
…
بسحيق المسك سطرًا مختصر
عادة الأقمار تسري في الدجى
…
فرأيت الليل يسري بالقمر
بالضحى والليل من طرته
…
فرقه ذا النور كم شيء زهر
قلت إذ شق العذار خده
…
دنت الساعة وانشق القمر
وله أيضًا:
أقبل والعشاق من خلفه
…
كأنهم من حدب ينسلون
وجاء يوم العيد في زينته
…
لمثل ذا فليعمل العاملون
لولا أن في القراء بعض العوامّ؛ لما كنت في حاجة إلى التنبيه على أن هذه
القصيدة يستحيل أن تكون لعربي، بل يجب أن تكون لتلميذ أو مبتدئ ضعيف في
اللغة من أهل الحضر المخنثين عشاق الغِلمان، فهي في ركاكة أسلوبها وعبارتها
وضعف عربيّتها، وموضوعها بريئة من شعر العرب لا سيما الجاهليين منهم،
فكيف يصح أن تكون لحامل لوائهم، وأبلغ بلغائهم، هب أن امرأ القيس زير
النساء كان يتغزل بالغلمان - وافرضه جدلاً - ولكن هل يسهل عليك أن تقول: إن
أشعر شعراء العرب صاحب (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) يقول:
أحور قد حرت في أوصافه
…
ناعس الطرف بعينيه حور
وتضيق عليه اللغة فيكرر المعنى الواحد في البيت مرتين؛ فيقول: أحور
بعينيه حور. أتصدق أن عربيًّا يقول: انشق القمر عن غزال، وهو لغو من القول؟
وما معنى: دنت الساعة في البيت؟ وأي عيد كان عند الجاهلية يمر فيه الغلمان
متزينين؟ وهل يسمح لك ذوقك بأن تصدق أن امرأ القيس يقول: فرماني فتعاطى
فعقر، وأي شىء تعاطى بعد الرمي، والتعاطي: التناول ، ومعناه في الآية
{فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} (القمر: 29) أنه تناول رمحًا، أو خنجرًا،
فعقر الناقة به، والإبل تعقر في نحورها، والعُشَّاق إنما يرمون باللحاظ في قلوبهم،
فهل يقول العربي - بعد ما قال: إن محبوبه رماه -: إنه تعاطى بعد ذلك فعقر؟
وهل يقول امرؤ القيس: لحاظ فاتك؟ فيصف الجمع بالمفرد. وهل يشبه العربي
طلوع الشعر في الخد بالسُرى في الليل؟ مع أنه سير في ضياء كالنهار؟ وكيف
تفهم وتعرب قوله:
بالضحى والليل من طرته
…
فرقه ذا النور كم شيء زهر
وهل يقول عربي، أو مستعرب فصيح في حبيبه: إن العذار شق خده شقًّا؟ !
أما البيتان الآخران فهما أبعد عن ذوق العرب وعباراتهم، وأذكر أنني رأيت
من عزاهما إلى بعض المولِّدين، لا أدري هل هو ابن حُجَّة أو غيره على أنهما
اقتباس من القرآن. على أن في الإشارة إلى موضع الاقتباس هنا خطأ نحو الخطأ
في القصيدة ففي الآية {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} (الأنبياء: 96) .
وأنت ترى أن المعنى في البيت لا يستوي، فإن الحدب هو النَّشْز؛ أي:
المرتفع من الأرض ، والعشاق لم يكونوا يسرعون مقبلين من ذلك المحل الذي يشبهه
مثل هذا الشاعر بالحدب، وإنما يصح أن يكونوا مقبلين إليه! ! أما مخالفة
لفظ القرآن في البيت الثاني ففي استبدال ذا بهذا وانظر وزنه المجروح.
بعد هذه الإشارات الكافية في بيان أن الشعر ليس للعرب الجاهليين، ولا
للمخضرمين، وإنما هو من خنوثة وضعف المتأخرين، أسمح لك بأن تفرض أنه
لامرىء القيس إكرامًا واحترامًا للمؤلف، ولكن هل يمكن لأحد أن يكرمه ويحترمه
فيقول: إن الكلمات التي وضع لها العلامات هي عين آيات القرآن؟ أما البيتان فقد
رأيت ما فيهما، وأما ما في البيت الأول من القصيدة فهو دون جملة ولا يستقيم له
معنى. وليس في القرآن (فرماني فتعاطى فعقر) وقد ذكرنا لك الآية آنفًا. وقوله:
(تركني كهشيم المحتظر) مثله ، وإنما الآية الكريمة: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً
وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ} (القمر: 31) فالمعنى مختلف والنظم مختلف،
وليس في البيت إلا ذكر المشبه به، وهو فيه في غير محله؛ لأن تشبيه الشخص
الواحد بالهشيم يجمعه صاحب الحظيرة لغنمه لا معنى له، وإنما يحسن هذا التشبيه
لأمة فُنيت وبادت كما في الآية، ولعل في الأصل تركتني بدل (فتركني) وبها
يستقيم اللفظ والمعنى في الشطر. وليس في القرآن أيضًا: كانت الساعة أدهى
وأمر، وإنما فيه {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ
أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 45-46) ، فههنا وعيدان شرهما الساعة المنتظرة فصح
أن يقال: إنها أدهى وأمر، وليس في البيت شيء يأتي فيه التفضيل على بابه.
واعلم أن هذا الشعر من كلام المولدين المتأخرين هو أدنى ما نظموا في
الاقتباس، ولم ينسبه إلى امرىء القيس إلا أجهل الناس.
ثم إن المعنى مختلف، والنظم مختلف، فكيف يصح قول المؤلف: إن هذه
الكلمات من آيات القرآن، وإنها لا تختلف عنها في المعنى، ولو فرضنا أن هذه
الكلمات العربية استعملت في معنى سخيف في الشعر ليس فيه شائبة البلاغة، ثم
جاءت في القرآن العربي بمعان أخرى وأسلوب آخر، وكانت آيات في البلاغة كما
أنها في الشعر عِبرة في السخافة، فهل يصح لعاقل أن يقول: إن صاحب هذا
الكلام البليغ في موضوع الزجر والوعظ مأخوذ من ذلك الشعر الخنث في عشق
الغلمان، وأن المعنى واحد لا يختلف؟ فمن كان معتبرًا باستنباط هؤلاء الناس
وتهافتهم في الطعن والاعتراض على القرآن فليعتبر بهذا، ومن أراد أن يضحك من
النقد الفاضح لصاحبه الرافع لشأن خصمه فليضحك. ومن أراد أن يزن تعصب
هؤلاء النصارى بهذا الميزان فليزنه ، وإنه ليرجح بتعصب العالمين. ومن أراد أن
يقيس سائر ما قاله هذا المؤلف في الاستشهاد على كون القرآن مقتبسًا من كلام
العرب وعقائدهم بعد ما أعياهم أمره، وقلَّب طباعهم هديه، ومن كتب سائر الملل
في مشارق الأرض ومغاربها، وإن لم يسمع بها، بهذا الشاهد وبالشاهد الذي سبق،
فله أن يقيس فإن كل مزاعمه من هذا القبيل.
وإن لنا كلمة أوضح في الرد عليه نؤخرها لجزء آخر، وهي فصل الخطاب
إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
قصص القرآن
(س 17) الشيخ محمد نجيب بالمدرسة الشمسية بتونتار (روسيا) :
هل القَصص الواردة في القرآن أنزلت لأجل الاعتبار والاتعاظ؟ أم هي
وقائع تاريخية؟ أم على التبعيض؟ أرجو بيان هذه المسألة المهمة في أحد أعداد
المنار ولكم الأجر والمنة.
(ج) تقدم الإلماع في التفسير غير مرة إلى أن قصص القرآن لا يراد بها
سرد تاريخ الأمم أو الأشخاص وإنما هي عبرة للناس كما قال تعالى في سورة هود
بعد ما ذكر موجزًا من سيرة الأنبياء عليهم مع أقوامهم: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ
عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (يوسف: 111)
ولذلك لا تذكر الوقائع والحوادث بالترتيب، ولا تستقصى؛ فيذكر منها الطمّ
والرمّ، ويؤتى فيها بالذرة، وأذن الجرة كما في بعض الكتب التي تسميها الملل
الأخرى مقدَّسة. وللعبرة وجوه كثيرة، وفي تلك القصص فوائد عظيمة، أذكر أنني
كتبت منها نحو ثلاثين؛ إذ وجهت نفسي للبحث عن فوائد التكرار فيها ، وهذه
الوجوه تذكر مفصلة في مواضعها من التفسير الذي ننشره في المنار. وأفضل
الفوائد وأهم العبر فيها التنبيه على سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، وتأثير
أعمال الخير والشر في الحياة الإنسانية، وقد نبه الله تعالى على ذلك في مواضع
من كتابه كقوله: {ِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} (الحجر: 13)، وقوله: {سُنَّتَ
اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ} (غافر: 85) يذكر أمثال
هذا بعد بيان أحوال الأمم في غمط الحق والإعراض عنه والغرور بما أوتوا ونحو
ذلك، فالآية الأولى جاءت في سياق الكلام عن المعرضين عن الحق لا يلوون عليه،
ولا ينظرون في أدلته لانهماكهم في ترفهم وسرفهم وجمودهم على عاداتهم
وتقاليدهم. والآية الثانية جاءت في سياق مُحَاجَّة الكافرين والتذكير بما كان من
شأنهم مع الأنبياء، وبعد الأمر بالسير في الأرض والنظر في عاقبة الأمم القويّة
ذات القوة والآثار في الأرض، وكيف هلكوا بعدما دعوا إلى الحق والتهذيب، فلم
يستجيبوا لما صرفهم من الغرور ، وبما كانوا فيه، ولم ينفعهم إيمانهم عندما نزل
بهم بأس الله وحَلَّ بهم عذاب التفريط والاسترسال في الكفر وآثاره السوءى.
وليس المراد بنفي كون قصص القرآن تاريخًا أن التاريخ شيء باطل ضار
ينزه القرآن عنه. كلا ، إن قصصه شذور من التاريخ تُعَلِّم الناس كيف ينتفعون
بالتاريخ، فمثل ما في القرآن من التاريخ البشري كمثل ما فيه من التاريخ الطبيعي
من أحوال الحيوان والنبات والجماد، ومثل ما فيه من الكلام في الفلك - يراد بذلك
كله التوجيه إلى العبرة والاستدلال على قدرة الصانع وحكمته، لا تفصيل مسائل
العلوم الطبيعية والفلكية التي مكَّن الله البشر من الوقوف عليها بالبحث والنظر
والتجربة، وهداهم إلى ذلك بالفطرة وبالوحي معًا، ولذلك نقول: لو فرضنا أن
المسائل التاريخية والطبيعية المذكورة في الكتاب ليست مطابقة إلا لما يرى، أو
يعتقد الناس كلهم أو بعضهم في زمن التنزيل؛ لِمَا كان ذلك طعنًا فيه؛ لأن هذه
المسائل لم تقصد بذاتها، بل المراد منها توجيه النفوس لطريق الاستفادة بما أشرنا
إليه فتنبه.
* * *
المذاهب الاسلامية في الأصول وطريقة المنار
(س 18) أحمد أفندي صبحي بأشمون: إننا نود ، وغيرنا من إخوانكم
المسلمين يودّون من حضرتكم أن تدرجوا في المجلة طريقة كل مذهب من المذاهب
الأخرى مثل الشيعة والزيدية والوهَّابية والجبرية، وغيرهم لنطلع على ذلك،
ولنعرف ما عليه هذه المذاهب؛ فإن البعض من إخوانكم المسلمين يعتقدون أنهم
مسلمون، وعلى الكتاب الشريف، والبعض يقول غير ذلك.
(ج) كل هؤلاء الذين ذكرتم مسلمون، وأصل الدين عندهم كتاب الله تعالى
ويقرون بوحدانية الله، وبرسالة خاتم النبيين، وكون ما جاء به حقًّا ويقيمون
الصلاة، ويُؤْتون الزكاة، ويصومون رمضان، ويحجُّون البيت الحرام، ويصبرون
على ظلم الحكومة العثمانية فيه. ولكنهم يختلفون في تأويل بعض الآيات وبيان
المراد منها ، وفي رواية الحديث وسيرة السلف اختلافًا قريبًا أو بعيدًا من الحقِّ،
فللشيعة ومنهم الزيدية روايات غير معروفة، أو غير معتمدة عند أهل السنة،
وبذلك اختلفوا في مسائل كثيرة أغلبها في فروع الأحكام، ولهم أيضًا طرق في
الاستنباط يخالفون في بعضها طرق فقهاء المذاهب الأخرى، وأما الوهابية فليس لهم
كتب تعتمد في الحديث غير كتب أهل السنة، وهم أقرب إلى العمل بالسنة من
جميع المسلمين على غلوّ في بعضهم، وليس من موضوع المنار تفصيل مسائل
الخلاف، وإنما هو مجلة المسلمين عامة يخاطبهم ويعظهم بالأصل المتفق عليه عند
الجميع، وهو كتاب الله تعالى، والسنة العملية التي كان عليها السلف الصالح بلا
خلاف، ويدع لهم كل ما اختلفوا فيه حتى يفيئوا إلى أصل الوفاق إن شاء الله تعالى.
فالدين واحد، والكتاب واحد، والله يقول فيه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا
شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ويقول في قوم غير مرضيين عنده:
{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) ،
ولم يَسْلَم المسلمون مما جرى لمن قبلهم من الأمم باختلاف التأويل والروايات الآحادية
وأهواء الرؤساء والتعصب للمرشدين، ونرجو أن يعودوا بتربية الزمان القاسية إلى
الوفاق بالعود إلى الأصل المجمع عليه، وهو الكتاب والسنة العملية المتفق عليها،
ويعذر بعضهم بعضًا في الروايات القولية الآحادية ، مع البحث والمجادلة بالتي هي
أحسن حتى يفيء المخطئ إلى أمر الله الذي لا خلاف فيه.
هذه هي الطريقة المثلى في إرشاد المسلمين في رأينا، وقد أخطأها الوهابية
فحاولوا بغرارة البداوة، وقسوتها أن يرجعوا المسلمين عن البدع بالقوة القاهرة
فكانوا من الخائبين، وأساء الظن فيهم سائر المسلمين، ومن العجائب أن عند
المسلمين إحساسا عامًّا بأنه لا يصلح حالهم، ويعود مجد دينهم إلا بإبطال المذاهب
كلها، والرجوع إلى الأصل الأول، والإمام المبين، وهو القرآن إذ اتفق سنيهم
وشيعيهم على أن المصلح المسمى بالمهدي سيبطل المذاهب كلها؛ أي: أن الإصلاح
لا يكون إلا بذلك، ولكنهم جعلوا طريق ذلك غير معقول ، وهو شخص مخصوص
يظهر بالخوارق دون السنن كما تقدم في الجزء الماضي.
***
إثبات الولاية بالرؤى والأحلام
(س 19) أمين أفندي عبد الكريم بالزقازيق: ما هو رأي المنار فيما رواه
مُكاتب إحدى جرائد العاصمة (اللواء) بمركز ميت غمر تحت عنوان (ميت
يتكلم) وخلاصة روايته تنحصر في أنه رأى في منامه كأن شخصًا يخبره بأنه
مدفون في جزيرة بقريتهم، ويسأله تكليف العمدة بنقله لقبر آخر ، فقصّ الرجل
على العمدة رؤياه، وهذا قال له: من أين لنا معرفة محله؟ وفي الليلة التالية رأى
من أتاه أولاً في نومه، يقول له: أخبر عمدتكم أن اسمي (عمرو بن وهب)
وسأجعل لكم علامة على قبري فانقلوني ، فكان بعد ذلك أنهم وجدوا علامتين
عرفوا بهما محل القبر ففتحوه ووجدوا فيه ميتًا نظيف الثياب أسود اللحية؛ فنقلوه
إلى قبر في غير الجزيرة إلى آخر ما في رسالة المكاتب.
هذا ملخص تلك الرواية المدهشة التي نطلب من المنار الزاهر أنه يفيض
القول عليها من جهة مطابقتها للعلم، سواء كان شرعيًّا أو وضعيًّا، مع مراعاة
الجواب على تصور وضع العلامتين، وعدم طروء التحليل على هيكل ذلك الجسم،
ووجه الاتصال بين الروح والجسد، وسماع صوت من جانب الميت على ما
ورد في رسالة أخرى بتلك الجريدة جاءت تصديقًا للرواية الأولى، وذلك أن ناقلي
الميت عندما رأوا جثته ذعروا، وولوا مدبرين فسمعوا (أقبلوا أقبلوا فإن الجنة هي
المأوى) ومن هو (عمرو بن وهب) في سير السابقين إن صح في رأي حضرتكم
أن المسألة خوارق العادات، وتنطبق على الدين الحنيف من جهة إمكان وقوعها
ولكم الفضل.
(ج) أصابت الشمس جرة ماء فسخن جانبها الذي أصابته فجاء الفيلسوف
فحول الجرة، وجعل الجانب الساخن إلى جهة الأرض والجانب البارد إلى الشمس ،
ثم نادى تلامذته وسألهم يمتحنهم عن العلة في كون الجانب المقابل للشمس باردًا
والجانب الملاقي للأرض الباردة سخنًا؟ فطفقوا ينتحلون العلل، وهو يردها ويبيِّن
فسادها حتى اعترفوا بالعجز، وسألوه بيان العلّة الصحيحة، فقال لهم: إن الواجب
أن يتثبت في معرفة الشيء أولاً، ثم يبحث عن سببه، وعلّته، وما سألتكم عنه
غير حقيقي، وإنما قلبت الجرة لأختبر فطنتكم.
وهكذا نقول: أثبت لنا أن الأمر وقع حقيقة بلا حيلة، وسل بعد ذلك: هل
يصح أن نعتقد بأن الميت الذي رأوه أولاً في المنام، ثم كلمهم في اليقظة، هو من
الأولياء؟ وما هو تاريخه؟ أمثال هذه الحكايات تكثر في الأمم الجاهلة المستعبدة
للخرافات، ولقد روي أمثالها عن أهل أوربا في القرون المظلمة، حتى كان في
بعض بلاد فرنسا موضع يسمونه (الشهداء) كانت الأموات تظهر فيه جهارًا
لا سيما في الليل، ولماعقل الناس لم تعد تظهر! ! فمن الناس من يكذب في هذه
الحكايات المنقولة، ومنهم من يظهر غريبة من هذه الغرائب بالمواطأة مع أشخاص
آخرين لمنفعة ما، ومنهم من تعرض له شبهات في ذلك نعرف كثيرًا منها، وليس
هذا موضع شرحها، ولكننا سنذكر بعض الشواهد.
أما حكم الرُؤى والأَحْلام في الشرع فهو أنه لا يُبْنَى عليها حُكم، ولا يثبت بها
شيء من الأشياء، حتى صرّح العلماء بأن من يرى النبي - صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم - في الرؤيا ويتلقى منه أمرًا أو نهيًا لا يجوز له في اليقظة أن يعتمد
على ذلك؛ لعدم الثقة بضبطه لِمَا يرى وانتفاء اختلاط الأمر عليه فيه، ولأن الله
تعالى لم يتوف نبيه إليه إلا بعد أن أتم الدين على يديه، ولم تبق حاجة إلى بيان
آخر فيه (إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن) كما ورد، ولكن عوامَّ المسلمين
وجهالهم كجهال سائر الملل يرون أن الرؤى والأحلام من أَرْكان العلم والعِرْفَان،
لا سيما إذا كان موضوعها الخرافات والأوهام.
وأما القول ببقاء أجساد الأولياء بعد الموت فهو من القول بغير دليل مع تكذيب
الحسِّ لذلك، ومخالفته لسنة الله تعالى في تحليل الأجساد {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) وورد في الأنبياء حديث عند أحمد وغيره ، ولا يفيد
القطع فيعارض الحس والنصّ؛ لأنه من الآحاد، وورد ما يخالفه في يوسف - عليه
السلام - فقد أخرج الطبراني والحاكم من حديث أبي موسى والخرائطي في مكارم
الأخلاق من حديث عليّ أن موسى عليه السلام استخرج عظام يوسف من قبره
بأمر من الله قبل خروجه من مصر، وصيغة الأمر هكذا: (إنك عند قبر يوسف
فاحمل عظامه معك) ، وفيه أنهم أخرجوا عظام يوسف والناس يزورون قبر يوسف
في جامع الخليل بفلسطين مع العلم بأنه دُفِنَ في مصر اعتمادًا على هذا الحديث،
وأن موسى أحضر عظامه ودفنها هناك؛ فإذا بحثوا في سند الحديث، أو قالوا: لا
يعتمد عليه لأنه من الآحاد، نقول: نعم، ولكنه موافق لسنة الله والحديث الآخر
على كونه من الآحاد معارض بسنة الله في الخلق التي قال في كتابه، وأثبت النظر
في خليقته أنها لا تتبدَّل، ولا تتحوَّل؛ فإنْ لم تأخذ به فلنترك كل ما يقال في ذلك،
ونهدم ذلك القبر، حتى لا نكون مزورين.
وكذلك كلام الموتى مخالف لسنن الكون الثابتة بالعقل والنقل قطعًا، فلا نقول
به إلا بدليل قطعيٍّ، كأنْ نشاهد بأعيننا ميتًا قد ثبت موته قطعًا، ثم تكلم، ونحن
نسمع منه من غير مظنة شعوذة ولا تلبيس. أما طرق التلبيس في هذا المقام
فكثيرة نذكر حادثتَيْنِ منها على سبيل النموذج.
في طرابلس الشام قبر وليّ يسمى (سيدي عبد الواحد) في حجرة عند باب
مسجد منسوب إليه، وقد كانت الحكومة أسكنت في هذا المسجد طائفة من مهاجري
الشركس بعد الحرب الروسية العثمانية الأخيرة، وقد حدث ذات ليلة أن فر أولئك
المهاجرون من الجامع بنسائهم وأولادهم ومتاعهم زاعمين أنهم رأوا السيد
عبد الواحد الولي خرج من قبره بهيئة نورانية ، وصعد المنبر ووجْهه يتلألأ نورًا،
وطردهم من هناك. اعترف بهذه الكرامة كبيرهم وصغيرهم وذكرهم وأنثاهم،
وكانت شهادة حالهم أقوى دلالة على صدقهم من لسان مقالهم؛ إذ لولا ذلك لما
خرجوا من ذلك المأوى الكثير المرافق ، المتدفق الأمواه بتلك الهيئة المنكرة.
حقًّا إنهم قد رأوا رجلاً خرج من القبر يتألق وجهه نورًا محسوسًا ، وصعد
المنبر وأشار بطردهم من المسجد، ولكن من هو ذلك الرجل؟ هل هو السيد
عبد الواحد المدفون هناك من عدة قرون كما ينقلون؟ كلا، إنه الشيخ أحمد المغربي
إمام المسجد وخطيبه، وابن ناظره ضاق بوساختهم ذرعًا، ولم يجد حيلة لطردهم
من المسجد إلا هذه الطريقة؛ لأن العوام عبيد الخرافات والأوهام، وقد استحضر مادة
فسفورية ، واختبأ بحيلة لم يدركوها تحت تابوت الخشب الموضوع على القبر
من أول الليل وكان أخبر بعض أصحابه بما دبره من الكيد. فلما جنَّ الليل وأخذ القوم
مضاجعهم مسح وجهه بالمادة النيِّرة، ثم أحدث في مرقده اضطرابًا وصوتًا نبههم فهبوا
وأسرعوا إلى جهة الحجرة فرأوا التابوت قد ارتفع، وخرج من الأرض رجل
يزهر وجهه بالنور فولوا مذعورين وفتح هو الباب الذي كان يظنُّونه مقفلاً، ولكن
مفتاحه كان معه وابتدر المنبر وأشار إليهم بوجوب الخروج من المسجد فلبوا
خاضعين خاشعين. وقد سمعت هذا الحديث منه كما سمعه كثيرون.
وحدثني إلياس أفندي الحداد الطرابلسي المقيم في القطر المصري أنه مرَّ في
عهد الحداثة بمقبرة ليلاً فرأى رجلاً خرج من أحد القبور ومشى أمامه على بعد ،
ورأى معه نورًا فلم يشك في أنه أحد القديسين أو الشهداء لأن اعتقاد عوامّ النصارى
في ذلك كاعتقاد عوامّ المسلمين أخذ هؤلاء عن أولئك ما أخذوه عمّن قبلهم بالتقليد لِمَا
يسمعون من العجائز والبله. فملكه الرعب ولم يكن له مندوحة عن السير، حتى إذا
قرب من العمران الذي يقصده نبح كلب على هذا الرجل النوارني الذي كان يمشي
بالنور أمام إلياس أفندي فأجابه هذا بالنُباح؛ فإذا هو كلب، وإذا بالموضع الذي
خرج منه قبر منبوش، وإنما مثله الخيال رجلاً لأن الرائي لم يكن يعرف أن
الكلاب ونحوها تبرق أعينها في الليل، وكانت الخرافات متمكنة من خياله، فلَمَّا
رأى شيئًا غير معهود؛ إذ خرج من بطن الأرض بنور معه لم يشك في أنه مثال
لتلك الحكايات التي كان سمعها من بعض الجاهلين، وغلب خياله على حسِّه فكان
من الواهمين.
أمثال هَذَيْنِ الشاهدَيْنِ يحار فيهما العقل الصغير قبل أن يسمع تأويلهما، وبيان
الحقيقية فيهما، ولكن ذلك لا يمنعه أن يصدق ما يشابههما من الحكايات مما لا يظهر
له تأويله إلا إذا نضب ينبوع الخرافات من خياله، وزال سلطان الوهم من قلبه.
وهكذا يقيس الجاهل ما لا يعرف سببه على ما لم يعرف سببه، كما يرد العاقل ما
لا يعرف إلى ما يعرف.
وقد حدث مثل هذا الحُلم لرجل من أغنياء مديرية الجيزة رأى في نومه وليًّا
أخبره أنه مدفون في مكان كذا، وأخبره بنسبه فاشترى قطعة من الأرض بثمن غال
وبنى له فيها قبرًا مُشْرِفًا، وقبة عظيمة فخسر بذلك من دينه وعقله أضعاف ما
خسر من ماله.
ومن المصائب أن الجرائد التي من وظيفتها محاربة الأوهام، هي في مصر
تزيد الناس غِشًّا؛ فقد سمعنا أن جريدة (اللواء) لما نشرت خرافة السؤال أقرَّتْها.
فمثل هذه الجرائد كمثل رؤساء الأديان المضلِّين الذين يوافقون العامة على أهوائها
لأجل الانتفاع بما عندها من الحُطَام، ولتمكين الجاه في نفوسها، فلا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
المدنية وما هيه؟
للمدنيَّة تعريفان: أحدهما يُبَيِّن حقيقتها، والآخر يصف من مزاياها خواصَّها،
وآثارها وثمراتها، وللقارىء هنا حظه من التعريفين:
كلمة المدنيَّة من الكلمات المحدثة عند المتمدنين، والمقصود منها: (التعاون
في العلوم والأعمال لاكتساب المطالب التي تقتضيها حياة الإنسان النوعية) ، هذا
هو القول الشارح لحقيقتها.
المطالب آلام في آمال، وهي طبيعية للحياة النوعية من جملة سنة الله في
الإنسان، والمدنية طِبُّ هذه الآلام، وقد وهم مَنْ يزعمون أن المدنية هي مجلبة تلك
الآلام، بل الآلام طبيعية من اقتضاء الآمال التي لا تقف عند حدٍّ، وهي من
اقتضاء الفطرة.
وما المدنيَّة إلا علاج تلك الآلام، وتسكين ما هنالكم من الانزعاجات التي
يثيرها الطلب الحثيث لما فوق الحاجات. فلا تُقلدوا الواهمين، ولا يلفتنكم شعر
أولئكم الذين يهجون الحياة النوعية - التي يمتاز بها الإنسان - ويمدحون الحياة
الجنسية - التي للبهائم وغيرها - فإن الله ورسله والحكماء براء من الذين يحبون
أن لا تظهر فطرة الإنسان بأبهى مظاهرها.
المدنيَّة: هي التعاون في العلوم والأعمال. والإنسان مدني بالطبع، ولكن
مدنيَّة كل إنسان على مبلغه من العلم والعزم، ومدنية كل أمة على مبلغ أفرادها
النوابغ من النَّصَبِ في سبيل أمتهم. وكم من امرىء يعيش بين المتمدنين لا حظ له
من الشعور بالمدنيَّة وأسبابها إلا تقليد القوم بمآتيهم، ومآخذهم وشعاراتهم في كل
شيء، بل هذا حظ الجمهور الآن في كل المشرق. وكم من امرىء يعيش بين
المتوحشين فلا يلبث إلا قليلاً حتى ينهض بهم في المدنية إلى الدرجات العُلى.
علم أسباب المدنيّة يقال له: (طِبُّ الاجتماع)، والعالم بهذا العلم يقال له:
(سياسي) ، وللسياسيين تأثير في العالم كل بقدر، وهم الذين يغيرون بإذن الله
أطوار الأمم من هبوط إلى رِفْعَة، ومن رِفْعَة إلى هبوط؛ ولذلك كان مدار التاريخ
في الغالب على أحبار السياسيين، فالذين أخلصوا لله في مصنوعاته وأحسنوا عملاً
رَفَعُوا أُممهم، وأُممًا مع أُممِهم إلى منازل السعادة، وأوردوهم مناهل السيادة،
أولئك تزدان بهم سور الحمد في كل سفر من أسفار الأمم، وكل عصر من
أعصارهم، وكل مَصْرٍ من أَمْصَارِهم، يمجدهم الجمهور الأعداء كالأولياء،
والوضعاء كالأعلياء، والذين حادُّوا الله وحَادُوا في مصنوعاته عن حدود الإخلاص
والإصلاح هَووْا بأممهم وأمم مع أممهم إلى مهاوي البوار، وثَووْا معهم في مثاوي
النار، لا تخفف عنهم الأحمال، ولا توزن لهم الأعمال، ولا يبلغون في شيء
الآمال، ومن أخسر عملاً مِمَّنْ كفر بالنِّعَم فأضاعها، وأحاطت به خطيئته؟
المدنيَّة: جمال معقول مع جمال محسوس، عدل وإحسان، أدب وعرفان،
صنائع وبدائع، أموال وبضائع، أفهام وأوهام، آمال وأعمال، جمال وتجمل،
مجد وتمجد، ميزة وتميز.
المدنيَّة: مواهب الإنسان تتجلى للعيان، يشكرها أولو الألباب السليمة،
وينكرها أولو الأذهان السقيمة.
المدنيَّة: رابطة يحشر السياسيون تحت لوائها أقوامًا كثيرين مختلفين
بالأنساب، مختلفين بالأديان، فهي الرابطة التي يتجلّى نفوذها وتأثيرها في حفظ
نظام الاجتماع.
وللرابطتين المارتين - رابطة القومية ورابطة الدين - فضل في تعظيم شأنها
وتكبير سلطانها، وفضل آخر في تهديدها إذا طغت في الميزان، وأسرفت بالإثم
والعدوان، وهي الرابطة التي بواسطتها قامت هذه البنية الحاضرة للاجتماع
البشري العظيم. فاذكروا أيها البشر إذ كنتم في الأوجار، تأكلون الأعشاب
وتخصفون من ورق الأشجار، وإذ فَرَّق بَيْنَكُم شيطان الشهوات، وأوقعكم في
البغضاء والعداوات، وإذ أنتم اليوم في المدن الزاهرة، والمظاهر الباهرة، ترجون
ما فوق الزرقاء، ويرهبكم ما تحت الغبراء، قد ألفت بينكم قرابة الآمال
والمعاملات، أكثر مما ألفت قرابة الأبدان واللغات، يرحم الكبير الصغير،
والصحيح المريض، وابن البلد ابن السبيل، والآسر للأسير.
واذكروا ما أنتم فيه من الوابور، والبالون، والشمندفر، والتليفون،
والتلغراف، والفونوغراف، والفوطغراف، والليطوغراف، والتلسكوب،
والمكرسكوب، وما هنالكم مما لم نحصه، لتعلموا ما فعلت لكم المدنيَّة من خير وما
رفعت لكم من قَدْر على الأنعام.
في أقصى المشرق تأخذون نبأً عن أقصى المغرب في لحظة من الزمن لا
تتجاوز أن يطعم الواحد غداءه. من المسافات البعيدة يسمع أحدكم صوت صاحبه
كأنه في حضرته.
إلى حين من الدهر يُحفظ صوت أحدكم ، ثم يؤديه المستحفظ كما استودعه.
في الدقيقة الواحدة ينسخ لكم ألوف من الصحف السيارة التي تنقل إليكم أنباء
المَسْكُونَة وسكانها.
في البر تقطعون مسافة الأيام الكثيرة بساعات قليلة على مَتْن ذلول من الحديد
لا يَكِل، يطوي بكم البيد طيًّا.
في البحر على متن الوابور أَنَّى شِئْتُم تسيرون.
في الجو في بطن البالون حَيْثُ رُمْتُم تطيرون.
الأرض ألقت إليكم من أفلاذها ما لم تكونوا تعلمون، السماء عرفتم من أسرار
كونها كثيرًا مما كنتم تجهلون.
العُمْي في عَهْدِكُم يقرأون، والصُّم البكم يكتبون، ومن العجماوات عوارف
لما تقولون، فواعل لما تَأْمُرون، توارك لما تنهون وتزجرون.
هذه آثار المدنيَّة، وهذه ثمراتها، ولكن هل بلغ الإنسان فيها الكمال؟ كلا،
فإن كثيرين مِنَ البشر لم تدخل المدنيَّة في عَهْدِنا هذا ديارهم، وفي ديار المدنيَّة
يوجد كثيرون غير متمدنين حَق التمدن. والمتمدنون أنفسهم لا يزالون سائرين في
طرق التكمل. فلا المدنية عَمَّتْ كل الأرض، ولا المتمدنون بلغوا الكمال.
وقد عمر الأرض من قبلنا كثير من الأمم كان لهم نصيب من المدنيَّة، ثم
أبادهم ومدنيّاتهم إفساد السياسيين، وأقام غيرهم مقامهم إصلاح السياسيين. ولَمْ
توجد أُمة خلقها الخالق مُتَمدّنة، وإنما هو التَّدرج تراه في كل شيء. سنة الخالق
في خلقه.
فإذا رأيتم اليوم في إحدى الجزائر قومًا متوحشين (التوحش يقابل التمدن)
وقد غُبّيَ عليكم تاريخهم؛ فلكم أن تظنوا أن التمدن لم يدخل جزيرتهم قط؛ لأن
التوحش سابق دائمًا، ولكم أن تظنوا أنهم كانوا قد تمدنوا يومًا من الأيام، ثم أبادهم
وتمدنهم فِسْقَهم عن الناموس والنظام، كذلك عاقبة الظالمين.
يوجد الآن في الأرض أقوام كثيرة متوحشة، لا يزالون على ما هو قريب من
الأطوار الأولى للبشرية؛ إذا شئتم أن تجدوا فرقًا بينهم وبين الحيوانات العليا
يصعب عليكم أن تجدوا ذلك الفرق وذلك أعظم سيئات التوحش.
يوجد أولئكم المتوحشون هذا التوحش في كثير من مجاهل أفريقيا التي لم
تدخلها جيوش الفاتحة الإسلامية، ويوجدون في كثير من فدافد أمريكا التي لم تختلط
بعد بالمكتشفة الأوربية، ويوجدون في مجاهل أوستراليا (الجزائر الأوقيانوسية) ،
وفي جوار القطبين توجد هذه الضالة التي ينشدها محبو السذاجة.
أما الأمم الآسياوية الحاضرة - وفي حكمهم أمم أفريقيا الشمالية - فأكثرهم
وارثون لأسلاف متمدنين. ولكنهم أضاعوا ذلك التراث، ولم يرعوه حق رعايته
فلولا التمدن المستعار الذي وجد بواسطة الأوربيين لصحّ لنا أن نقول: إن آسيا لا
تفضل أفريقيا في التمدن إلا ببقية من تراث الأولين معرضة للزوال.
فمن أخذته الحمية الآسياوية، وكان حريصًا على أن يدّعي للآسياويين مقامًا
بين المتمدنين يجب عليه أن يرد العواري، ثم لينظر هل يجد ثمّة إلا العوار؟
إن يكن في آسيا تمدن غير مستعار؛ فإنه ناقص جدًّا. الأديان من التمدن وقد
ضعفنا بها علمًا وعملاً. الحكومات من التمدن وقد خسرنا بها حسًّا ومعنًى.
الزراعات من التمدن ونحن لا نتقنها. الصناعات من التمدن ولا خبرة لنا بأنواعها
الكثيرة، التجارات من التمدن وإننا فيها متأخرون، الزينة من التمدن وإننا فيها
مرضى الأذواق، العلوم من التمدن وهي عندنا كاسدة، الآداب من التمدن وهي
لدينا فاسدة، القوانين من التمدن ونحن فيها جامدون، الأعمال العظيمة من التمدن
ونحن فيها خامدون، الاختراعات من التمدن ولكننا فيها موتى، الاكتشافات من
التمدن ولكن لا تسمعون لنا فيها صوتًا.
فأعلموني يا رفاقي الآسياويين ما هو تمدننا المحلي الذي نقصه ليس بفاحش
وأنتم بعد ذلك غير محاسبين على النقص القليل؟
ثم هلموا ننظر نظرة في مدنيَّة أوربا وما أوربا؟ - أوربا الزاهرة ذات المدن
الباهرة، والصناعة الفاخرة الماهرة، مقر العلوم العالية، والأعمال الفائقة مهبط
السياسة السامية، وملتقى الساسة الناميّة.
هنالكم الاختراعات النافعة، والاكتشافات الهادية، على يدهم ظهرت الأرواح
الباطنة، فأصبحت أسرارها سارية في الأجسام الجامدة والجارية ، منهم ظهرت
الآلات المنبئة، وبهم تأتيكم أنباء الأمم النائية في اللحظة الواحدة، صحفهم ناشرة
للأنباء الجائبة، والأفكار الدائبة، أولئك هم السابقون في المدنية الرافعة.
هذه أوربا وهذا مجدها ، وأنا أريكموها من تلك الجهة الثانية جهة النواقص
التي فيها:
الاستبداد الذي حاربوه، وأهرقوا في سبيل محوه كثيرًا من دمائهم لا يزال له
أثر كامن في صدور العلية منهم ومقلديهم من الدهماء. ومن آثاره أنواع التعصبات
الباقية.
الجهل الذي حاربوه بأنفسهم وأموالهم لا يزال بين كثير من طبقاتهم، ومن
آثاره شيوع الفحشاء والرذائل المتنوعة.
الفقر الذي يدأبون وراء إبعاده عن ديارهم لا يزال آخذًا بتلابيب أكثر الأفراد
وليس أولو الثروات العظيمة إلا نفرًا قليلين في بعض المدن الكبيرة.
ثم إذا صرفنا النظر عن مراقي الحياة النوعية فبم يمتاز الأوربيون؟ هل
طالت أعمارهم؟ هل صرفت عنهم الأسواء من أسقام وآلام؟ هل خفت عنهم أعباء
الحياة التي تقتضي الكد والكدح؟ هل تقدسوا عن البغضاء فيما بينهم؟ هل ترفعوا
عن سفساف الأمور؟ هل استغنوا عن المشرق ألبتة؟ هل بلغوا بعلومهم أن يخرقوا
نواميس الوجود؟ هل بلغوا بها أن يكون عيش أحدهم كله كما يتمنى؟ هل بلغوا
بها أن يرتقوا لعيشة روحية محضة لا نصب فيها ولا لغوب؟ هل بلغوا بها أن
يستغنوا عن الحروب التي هي أليق بالعجماوات منها ببني الإنسان؟ هل بلغوا بها
أن يستخدموا بين الأرواح المدركة كهربائية للإنباء والاستنباء؟
إذا شئت أن أَعُدَّ كل ما هو من النواقص يطول بي العدّ والسرد. وفي الذي
ذكرت إشارات كافية للمتبصر تنبهه إلى أمثلة نقصان المدنية الأوربية التي لا يوجد
اليوم للبشر مثلها عند غيرهم من المشارقة والمغاربة الآخرين.
نعم، هم لم يبلغوا الكمال، ولكنهم ساعون لا يألون جهدًا بالاكتشاف
والاختراع والبحث والتفكر. ونحن مع نقصنا الفاحش غير ساعين، فهل يليق ذلك
بنا ونحن أبناء الذين ابتدأوا التمدن؟ أليست هذه آسياكم التي ربّت في حضنها أشهر
مشاهير الرجال؟
كلا، إن ذلك لا يجدر ولا يَحْسُن بأبناء تلك الأم التي أحسنت تربية كل
المؤسسين الأولين. بل علينا اليوم أن نتفقه في (رابطة المدنية) كما تفقه أسلافنا
من قبل، وكما يتفقه جيراننا ومعاملونا الأوربيون الذين نعدهم أجانب ومبغضين ،
ولا ينفعنا الجمود، ومعاداة كل أشياء الأجنبي باسم الوطن؛ فإن الوطن للبشر واحد
هو دار الأعمال والتكاليف التي تطلب من الكل، وتوزع على الكل، ويتبادلها الكل.
وليس حب الوطن هو الكزّ على عادات الأسلاف أو الحرص على اللبث في
مساقط الرؤوس كما يفسره جمهور العوام، ولا الإقدام على مجاهدة الذين يريدون
أن تكون لهم سلطة فيه، وإن كانت أنفع من السلطة الأولى كما يفسره جمهور
السياسيين ومقلديهم ، فإن كلا المعنيين بعيدان عن الحقيقة التي يحبها الحكماء أولو
الفضيلة وإخوانهم المخلصون من السياسيين. وكم ينشىء السياسيون أشعار حماسة
تفعل في عقول الجمهور فعل الأمراض العصبية، وقد تحقق للعلماء استعداد العامة
الذين لم يأخذوا حظًّا وافرًا من العلم لتلك الأمراض، وما هو على شاكلتها من
الانفعالات للتوهيمات الشعرية والخطابية.
وسوف يرون - حين نفيض في حب الوطن - أن الوطن هو سبيل الله،
وسبيل الله هو الوطن، وتعالى الله عن أن يكون محدودًا يؤدي إليه سبيل، أو
محسوسًا يدنو منه قبيل دون قبيل، فسبيله الذي يؤدي إلى القرب من منحه القدسيّة
التي يتسامى ويتكمل بها الإنسان هو استعمال الفكر مبلغ الاستطاعة في تفهم أسرار
الفائضات والمصنوعات الربانيّة، وإفراغ خواصّها وفوائدها في قوالب
المصنوعات الإنسانية، ليكون كل فرد عابدًا للصانع الحكيم بمعرفة شيء من
أسرار حكمته، وشاكرًا على مواهب نعمته، باستعمال القوى التي في فطرته فيما
خُلِقت لأجله، من عمل الصالحات لنفسه وإخوته بَني نوعه، والله غني حميد.
وهنالكم سنبين كيف اشتبه على الأقوام شكل الحقيقة في الوطن، وكيف
وَهِمُوا - تقليدًا للسياسيين - في حب شيء ليس بجدير أن يحب، كمساعدة حكومات
جائرة مفسدة على حكومات عادلة مُصلحة باسم الوطن الموهوم.
هذا، ولا ينفعنا أيضًا تقليد كل أشياء الأجانب باسم التمدن ، فإنه لا عصمة
لأمة من الخطأ، ولا يستحق أحد أن يقلد تقليدًا محضًا، بل علينا أن نستعمل التفكر
ونستهدي بالتجارب، ونساعد في تأييد أنفع الروابط، وإسقاط أضر الروابط للتكمل
البشري.
يومئذ تنقسم الأرض الطبيعية غير هذا الانقسام الصناعي ، ويصافح المشرقي
المغربي، والشمالي الجنوبي، على أنهم إخوان متعاونون في العلوم، متقاسمون
للأعمال في دار واحدة فسيحة، يحكم بينهم منتخبون منهم متعددون بنسبة التقسيم
ومتحدون بنسبة التنظيم، لا يحارب بعضهم بعضًا باسم القوميات، ولا باسم الأديان،
ولا باسم الديار والأقاليم، وإنما تحارب قوتهم العامة من فسق منهم عن أمر العهد
العام، والنظام الشامل.
هذه نسخة من صورة الكمال للتمدن؛ فانظروا ما أجملها! وتفكروا فيها إن
كنتم تحبون الجمال والكمال، وأما الصور الحاضرة فلا والله لا ألفي في واحدة
منهن جمالاً، ولا أتصور فيهن كلهن كمالاً، ولا تطمئن بهن قلوب صحيحة، ولا
تميل إليهن أفكار سليمة.
وإذا كان ميزان هذا الأمر بيد السياسيين فلا يحسن بالناس تركهم أن يفعلوا ما
يشتهون، بل ليكن شرع وقانون، ليكن رقباء عارفون، ليكن نواب محاسبون،
ليكن إخاء عام وتعاون عام، وعهد عام، ونظام عام، ووطن عام، وسِلْم عام، في
ظل قوة عامة {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال:
25) واعلموا أن الإنسان بتلك النعمة جدير، والله على كل شيء قدير.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
ع. ز
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(أخبار بلاد العرب)
عقد النصر لواءه في نجد لآل سعود أمرائها الأولين ، وغلب ابن الرشيد
أميرها الحالي على أمره حتى خرج معظم البلاد والقبائل من يده، وأكثر الأهالي
في جذل وفرح لَمَا قاسوا من ظلم ابن الرشيد، وما يعهدون من عدل آل سعود
واستقامتهم.
إذا تمت لهؤلاء النعمة، ودالت لهم الدولة، فإنهم يكونون للدولة العلية خيرًا
مما كان ابن الرشيد في الولاء - إذا هي شاءت ذلك -، ولم تساعد عليهم عدوهم
الآن، ولم ترهقهم من أمرهم عسرًا فيما بعد، فإن هؤلاء لا يرضون بالظلم، ولا
يجارون عليه. وقد شاع أن الدولة العلية أمدت ابن الرشيد بالمال والرجال، وما
نخال الخبر صحيحًا، ولئن صح ليكونن شرًّا على الدولة؛ إذ يخشى أن يستنجد
آل سعود إذا غلبهم جند الدولة بإنكلترا التي تخطب ودّهم فتمدهم بالجنود الهندية،
ويكون الخطب كبيرًا، وقد قيل: إن الأمير عبد الرحمن فيصل أنذر بذلك وَالي
البصرة ليعرضه على السلطان، ففعل ووَعد السلطان بأنه لا يحارب آل سعود
بالجنود العثمانية، والله أعلم بالمصير.
سبق لنا نشر رسالة من عدن في (ص 758) من المجلد السادس وردت في
رمضان الماضي فيها أن إنكلترا تحاول الاستيلاء على جهات جبل يافع المشهور
وأنها أرسلت شرذمة من جندها بالضالع إلى جبل شيب ولم تلبث أن عادت أدراجها
لشعورها بالخطر من العرب. وأن المناوشات بين الإنكليز والعرب على الحدود
مستمرة
…
إلخ. وقد كتب إلينا أخيرًا من عدن كتاب مؤرخ في 12 صفر الماضي
يقول فيه مرسله:
قد رجع أمير المكلا عن محاربة حجر بدون نتيجة، ووصل كثير من عساكره
إلى عدن قافلين إلى جبل يافع، ومن أجل ما خسره في تجهيز هذه الحملة والتي
قبلها قد ابتدع ضرائب، وضاعف المكوس، وستؤثر هذه السياسة الخرقاء بزيادة
الهلاك، وربما عجلت تداخل الإنكليز في تلك النواحي.
وقد أرجع الإنكليز كثيرًا من عسكرهم إلى الضالع لإتمامهم التحديد مع الترك
حسب زعمهم، أو لترقب فرصة أحسن لهم حسب عادتهم ولهم عناية باستمالة
صاحب نصاب والعوالق، ويتحدثون بمد سكة حديد من عدن تخترق جزيرة العرب
إلى الكويت، ثم قال: وقد وصل إلى عدن بعض الجند الإنكليزي من السومال إذ
انجلى الإنكليز عنها لتعسر هضمها الآن، وسيخلون بين الملا القائم وأرضه لعله
يَبْطُر ويظلم؛ سكرًا بنشوة السلطة والسيادة كما فعل خليفة مُتَمَهِّدي السودان، ثم
يكرون عليه إذا أبغضه قومه واختلفت القلوب. والله المسؤول أن يوفق المسلمين
لانتهاز الفرص والعمل السديد، ثم قال: إن في عدن كثيرًا من دعاة النصرانية،
أضجروا الأهالي، وملأوا آذانهم بالسب والشتم والحكومة معضدة لهم، ونقول: إن
هذا من سوء السياسة والجهل بالأمم ، فإن العرب لا يتنصرون، ودعاتهم
للنصرانية لا ينتصرون.
* * *
(الجمعية الخيرية الاسلامية)
صدر تقرير هذه الجمعية عن أعمالها وحسابها في سنة 1321هـ، ومشروع
أعمالها وميزانيتها، ومحضر جلستها العمومية في سنة 1322هـ، وقد جاء فيه أن
إيراد الجمعية من الاشتراكات والمساعدات السنوية قد بلغ 1162 جنيهًا وأربعين
قرشًا، ومن ريع الأطيان (وهي 80 فدانًا وكسور) 1223 جنيهًا وتسعة وخمسون
قرشًا ونصف، ومن الاحتفال السنوي 1634 جنيهًا وثلاثة وسبعون قرشًا ،
وهنالك إيرادات متفرقة نحو ما تقدم. والعبرة فيما ذكرنا أن الأصل في
الجمعيات الخيرية هي الاشتراكات والمساعدات السنوية. ومن العار العظيم على
أغنياء مصر ووجهائها من المسلمين ، وهم الأكثرون عددًا ومددًا أن يكون اشتراك
الجمعية الخيرية الوحيدة لهم بهذه الدرجة من القلّة. وأن تكون ليلة من ليالي اللهو
خيرًا لفقرائهم ولجمعياتهم من كرم جميع كرمائهم فيما يتفضلون به مدة سنة عن
روية وإخلاص لا لعب فيه ولا لهو. وإن كان معظم إيراد ليلة الاحتفال منهم أيضًا.
وللقارىء أن يجعل الجميعة الخيرية ميزانًا لترقي مسلمي مصر في الحياة
الاجتماعية، ومن البلية أنه يُرى كثيرين من المشتركين وهم خيار القوم لا يخرج
الحق منهم إلا نكدًا، ويرى مجلس إدارة الجمعية يمحو في كل سنة أسماء كثير من
المشتركين الأغنياء لمطلهم وليِّهم وتعذيب المحصل بالتردد عليهم المرة بعد المرة
عدة سنين (فيا للخجل ويا للعار) .
على أننا لا ننكر أن في مصر نسمة خفيفة من الحياة، ولكن ما أتعب الذين
يحاولون نفخها في سائر الأجسام المنفوخة من قبل بحب الفخفخة الباطلة، واللذة
القاتلة، ولعل التعب يفيد، ولو بعد أجل بعيد.
وجاء في قسم النفقات أن ما أُنفق في السنة الماضية على التعليم بلغ 2459
جنيهًا وكسور، وعلى إعانة الفقراء نحو 373 جنيهًا. ولو بذل كل مصري قرشًا
وحدًا لهذه الجمعية كل سنة، وتحمل الأغنياء ما يفرض من ذلك على الفقراء -
على أنه لا يصعب على أحد بذل قرش في السنة -؛ لسهل على الجمعية أن تُعمِّم
مدارسها حتى لا يخلو منها مركز من المراكز، ولكن أين الشعور الذي يدفع الناس
لجمع المال والتعاون على البر والتقوى؟ ! أما المخصص للتعليم في الميزانية
الجديدة فهو 3600 جنيه مصري، وأما المخصص لإعانة الفقراء فيها فهو نحو
655 جنيهًا.
* * *
(مدرسة الجمعية في المحلة الكبرى)
أشرنا إلى هذه المدرسة في الجزء الماضي، وقد جاء في آخر التقرير عنها
ما نصه:
(بعد تحرير هذه الميزانية ورد مبلغ 1333 جنيهًا و810 مليمات من أعيان
مدينة ومركز المحلة الكبرى جمعوه بالاكتتاب الذي عمل فيما بينهم على ذمة (كذا)
إنشاء مدرسة بالمحلة الكبرى بمعرفة الجمعية مثل مدارسها ، وقد لبت الجمعية
طلبهم، وستباشر فتح المدرسة من أول السنة المكتبية المقبلة. وعليه يجب إضافة
المبلغ المذكور على إيرادات التعليم على ذمة مدرسة المحلة الكبرى.
ونزيد على ذلك أن وجوه المحلة قد دعوا رئيس الجمعية للاحتفال بتأسيس
المدرسة فأجاب الدعوة هو وحسن باشا عاصم وكيل الجمعية ومدير مدارسها
وحسن باشا عبد الرازق أحد أعضائها ، فقوبلوا بالحفاوة اللائقة، وحضر الاحتفال
الألوف من الناس، وكان ذلك لخمس بقين من المحرم سنة 1322هـ، وتليت
الخطب، وأنشدت القصائد في مدح العلم والأستاذ الإمام ناشره وناصره. وقد
أعجب الفضلاء من خطبة الشيخ محمد بسطويسي بركات التاجر بالمحلة قوله:
(أيها الأستاذ الإمام قد جادلتنا فأحسنت جدالنا، حتى أجبنا دعوتك للعلم والدين،
وجاهدتنا في الله حتى محوت آية الجهل بالدليل، وجعلت فينا آية العلم مبصرة
باليقين، وها نحن (أولاء) الواقفون بباب علومك نرى أن قيامك بأمر الدين في
وقت امتزجت العادات فيه بالعبادات كِبْر إلا على العارفين - كبر على من أشربوا
حب التقليد وتعظيم من في القبور- كبر على من ورثوا حب الشرك الظاهر عن
آبائهم، وإن حُجُّوا أو طولبوا بالدليل قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِمْ مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: 23)
…
) إلخ.
وإننا نثني أطيب الثناء على وجهاء المحلة الكبرى، ونخص بالذكر محمد
أفندي البهلوان من أعيان الدواخلية؛ إذ تبرع ببيت من بيوته مدة خمس سنين لتنشأ
فيه المدرسة إلى ما أنفق على إصلاحه زيادة على ما تبرع به مع المتبرعين،
ونرجو أن يسري روح حب العلم في سائر المراكز فتتبارى سماحة الأغنياء وأهل
الغيرة في إنشاء المدارس ، وأن يعتمدوا في ذلك على الجمعية الخيرية الإسلامية
التي تسلك بهم الطريقة المثلى بمعارف رئيسها الإمام، وأعضائها الأعلام.
* * *
(مراكش)
ذكرنا في آخر صحيفة من الجزء الثالث نبذة عن الوفاق الفرنسي الإنكليزي
وأنه قُضي فيه على مصر بسوء سياسة الأمراء والحاكمين الذين استبدوا في الأمة
وأذلوها، حتى فقدت الاستقلال الشخصي والقومي، وهو قوة الأمم والدول وعدتها
ثم سلطوا عليها أوربا ، وأعطوها من الامتيازات ما شاركتهم فيه بالحكم، حتى
صار لكل مصري في بلاده ألوف من المستعبِدِين.
وأما مراكش فالذي قضى عليها هو الجهل الفاضح في حكامها ومحكوميها؛
فقد اختاروا أن يَبْقَوْا على البداوة والهمجية أمام أوربا التي تسير في المدنية والقوة
مع البرق، ولا أقول مع البرق على سبيل التشبيه كما كان يقول الأولون، بل
أقوله على سبيل الحقيقة، كما يعرف المتأخرون، فإن الإفرنج قد استخدموا أمَّ
البرق هي وولدها ، وما أمه إلا الكهربائية التي تنار بها الأسواق والبيوت والمساجد
والحوانيت الكثيرة، حتى في بعض بلاد الشرق كمصر.
نقول: إن الجهل قد قضى على مراكش، ولا نعني بها أن حالها بعد دخول
فرنسا في شؤونها ستكون شرًّا من حالها قبله، كلا إننا صرحنا في مقالة نشرت في
آخر الجزء الخامس عشر من السنة الماضية بأن كل حال تنتقل إليها البلاد فهي
خير من حالها الحاضرة، ولكننا نعني بذلك فقد الاستقلال الذي هو موت الدول
والأمم، على أن مراكش لم تكن حيّة فتموت، وإنما كانت مستعدة لحياة طيِّبة لو وجد
لها حُكَّام عارفون بطرق ترقّي الأمم.
لقد أنذرنا حكومة مراكش بسوء المصير كما أنذرها غيرنا، وأول نبذة كتبناها
في ذلك مضى عليها ست سنين؛ إذ نشرت في العدد الخامس عشر من السنة
الأولى للمنار الصادر في 9 خلون من صفر سنة 1316هـ، وقلنا هناك ردًّا على
جريدة قالت: إن مراكش يصعب على الأوربيين الاستيلاء عليها: إن الأوربيين لا
تقف أمامهم المصاعب، والأمم الهمجية لا تقدر على مقاومة الأمم المتمدنة. وإذا
دام أهل مراكش على جهلهم بالفنون العصريّة التي عليها مدار العمران اليوم تقليدًا
لآبائهم، وإبقاءً لِمَا كان على ما كان؛ فلا بد أن يغمرهم طوفان أوربا كما غمر
جيرانهم، ثم نبهنا السلطان عبد العزيز إلى ترك التقليد، والاعتبار بما بين يديه
وما خلفه، والاتعاظ بما عن يمينه وشماله، والاندفاع بهمته كلها إلى التربية
والتعليم، وأن يستعين بالسلطان العثماني على التعليم العسكري والمدني
والاقتصادي، وقلنا: إنه إذا فعل ذلك يرجى أن يندفع ذلك الطوفان الذي يتهدد
بلاده، وما هو إلا النفوذ الأجنبي الذي غمر جيرانه.
ومن البلاء أنه ترك التقليد لمن قبله بخير ما كانوا عليه، وقلد الأوربيين بشر
ما يوجد عليه سفهاؤهم، وسفهاء غيرهم، وهو التفنن في الشهوات واللهو الباطل
والزينة. وقد اجتمعنا بعد كتابتنا تلك بوجيه مراكشي يلقب بالدكتور - أي أنه عالم
فكلمناه في الموضوع، فقال: إنكم لا تعرفون حال مراكش؛ ولذلك تكتبون ما
تكتبون.
إن تلك البلاد أمنع من جبهة الأسد، وعندها من القوة والمنعة ما تصادم به
أوربا كلها؛ إذا زحفت عليها، فقلنا له: وأين السلاح الجديد والفنون العسكرية؟
فقال: إنها متوفرة، وتقدر الدولة على زيادة ما تشاء؛ فإن عندها من كنوز الأموال
مددًا لا ينفد، وهي أغنى دولة على وجه الأرض، ثم إن لها قوة أعلى من كل
القوى، وهي ما فيها من قبور الأولياء الحامين لها! ! ! .
هذا نموذج من غرور القوم بدنياهم ودينهم، وجهلهم بالأمرَيْنِ، فهم لم يَعُدُّوا
لأعدائهم ما استطاعوا من قوة المدافع والبنادق، والعلم والنظام كما أمر الله، ولم
يعتمدوا فيما وراء الأسباب على الله القوي القدير، وإنما يعتمدون على أصحاب
القبور الذين لا يملكون لهم ولا لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا. فهل يمكن أن تنزلهم فرنسا
عن هذه الدركة، وتدفنهم في حفرة أعمق من هذه الحفرة، كلا إنها ستعلمهم رغم
أنوفهم ما يرقيهم - لا بالمدارس تنشئها لهم، ولكن بالأعمال والسيرة التي تسلكها
فيهم سواء كانت قاسية أو ليّنة - ولا ينبغي لعاقل أن يكره التربية والنظام،
ويعادي وسائل العمران، وإنما الإنسان يحب أن يجيء الخير لأمته على أيدي
رؤسائها؛ فإذا كان الرؤساء هم المفسدون الذين يُخْرِبُون بُيوتهم بأيديهم، فماذا يفعل
المرؤوسون ولا جامعة لهم، ولا علم؟
ظهرت غاية قوة مراكش الحربية والمالية بعجزها عن إخماد ثورة داخلية
واضطرارها بها ، وبثوران شهوة السلطان إلى اقتراض المال من فرنسا، وهذا
المال سيكون ثمن تلك السلطة الجائرة الجاهلة. وقد عرج على مصر وزير حربها
السابق (المنبهي) قاصدًا الحج فسأله أرباب الجرائد عن حال الثورة والقائم،
فحدثهم عن ضعف القائم وقوة النائم (السلطان عبد العزيز) بمثل ما حدثني
الدكتور، أو بما يقرب منه، وكذب جميع ما نقله البرق وبريد أوربا من خبر
الخارج، وقوته على الحكومة! ! ! وقد عاد من الحج ونود أن يسأل عن الوفاق
الفرنسي الإنكليزي لنسمع ماذا يقول.
* * *
(المولد النبوي)
يحتفل المسلمون في هذا الشهر بتذكار المولد النبوي الشريف، ويقرؤون قصة
المولد في احتفالهم، وما هي بقصة واحدة، وإنما هي قصص، لم نر منها ما يخلو
من الكذب والوضع، إلا قصة جديدة ألفها الشيخ جمال الدين القاسمي من علماء
دمشق الشام سماها (شذرة من السيرة المحمدية) اقتبسها من كُتب الحديث المعتمدة؛
فنحث جميع الذين يقرأون تلك القصص على قراءتها لما فيها من الفائدة، وعلى
ترك القصص الكاذبة، وثمن النسخة منها اثنى عشر مليمًا، مع أجرة البريد،
وتباع بمكتبة المنار.
* * *
(المحكمة الشرعية بمصر)
كلما عَلَتْ شكوى الناس من هذه المحكمة، ومن سائر المحاكم الشرعية بناتها ،
وكلما ألحوا في طلب إصلاحها؛ يلح رجالها الذين يُشْكَى منهم في غَيّهِم، ويُسْرِفُون
فِي أعمالهم التي هي مثار الشكوى، وأصل البلوى. وقد أكثر الخواص في هذه
الأيام من الخوض في سيرة المحكمة العليا، لا سيما بعدما علموا بما نشره المؤيد
في يوم الخميس الماضي من إذن القاضي لابن رجل مُنع من دعوى فِي وَقْفٍ لعدم
جواز سماعها بمضي المدة الشرعية، بأن يخاصم في الدعوى التي مُنِعَ منها أبوه
في المحكمة نفسها، مع أنه لو صحت دعوى أبيه؛ لكان مستحقًّا في الوَقْفِ وأما
الوليد فليس بمستحق، وليس موضوع الدعوى مصلحة عامة، بل المراد إخراج
الوقف عن كونه خيريًّا وجعله أهليًّا. ويتحدثون بأن الابن قد طلب من بلد آخر،
وكلف برفع القضية بناءً على الإذن الذي ناله بعد طلب كلف به، ويقولون: إن
العلّة في هذه السنة السيئة ونحوها من الخلل بعض أعضاء المحكمة العليا، وأن
هذا هو الذي يعنيه المؤيد بقوله: إنه (علة العلل) لأمراض المحكمة العليا، ولعلنا
نسهب القول في وجوب إصلاح هذه المحاكم في جزء آخر.
* * *
(الحرب المضطرمة في الشرق)
ابتدأت الحرب في البحر فكان الفلج فيها لليابانيين، وتبين أن أسطولهم أتم
استعدادًا، وبحَّارتهم أوسع معرفة ودراية، وقد ألزم أسطول هؤلاء أسطولي روسيا
بأن يستعصم كل منهما في مينائه إلى أن حصرهما في المدة الأخيرة بسد مدخل
ميناء بور أرثر ، واكتفاء شر خروجه في غيبة الأسطول الياباني، ووقوفه
لأسطول فلاديفستك بالمرصاد. ولما ظهر فوز اليابان في البحر؛ قالوا: هي دولة
بحرية، ولكن لا يستطيع أولئك الأقزام الصُّفر أن يثبتوا أمام الجنود الروسية من
فرسان القوزاق، ومشاة الآفاق، ولَمْ يكن من بوادر الوقائع البرية إلا الفوز الباهر
المقرون بالشجاعة الكاملة، وحسن التدبير، وطول الباع في الفنون العسكرية. وقد
كانت الجرائد الإنكليزية تصف اليابانيين بذلك، والجرائد الفرنسية تشكك فيه،
حتى إذا أثبته العمل اتفق عليه المختلفون واعترفت أوربا وأميركا بأن الجيش
الياباني في مقدمة جيوش العالم، بل صرح بعضها حتى في ألمانيا بأنه أحسن
جيوش العالم. ولم يبق من منازع في ذلك إلا جريدة عربية في مصر برعت في
التأويل، حتى إن ما تكتبه لا يخطر على بال أحد في روسيا نفسها. نعم، إن ظفر
اليابان في البر والبحر لم يصل بالروسيين إلى هاوية اليأس بل يجوز أن ينتصروا
بعد بالكثرة. وقد خفي عن جريدتنا المصرية أن جريدة روسيا قامت تنذر أوربا
بالخطر الأصفر، وتحاول إقناعها بأن اليابان يوشك أن تنظم عسكرية الصين،
وتستولي بها على أوربا، بل على العالمين، وفي ذلك من تعظيم شأنها من عدوتها
ما لا تعظيم وراءه والفضل ما شهدت به الأعداء.
أما السبب في هذا الرقيِّ التام الذي أدهشت اليابان العالم به؛ فهو عزة نفوس
اليابانيين، وعلو أخلاقهم بسبب سلامة استقلالهم ألوفًا من السنين، لم يتسلط عليهم
فيها من يذلهم ويفسد بأسهم؛ فليعتبر بذلك حكامنا وقومنا إن كانوا معتبرين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
علماء الأزهر والمحاكم الشرعية
{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2)
قعد أهل الأزهر عن إجابة طلب إسماعيل باشا الخديو تأليف كتاب في
الحقوق والعقوبات موافق لحال العصر سهل العبارة مرتب المسائل على نحو
ترتيب كتب القوانين الأوربية. وكان رفضهم هذا الطلب هو السبب في إنشاء
المحاكم الأهلية واعتماد الحكومة فيها على قوانين فرنسا، وإلزام الحُكَّام بترك
شريعتهم وحرمانهم من فوائدها، وفي توجيه عزائم الكثيرين من نابتة الأمة إلى
درس تلك القوانين في مصر وأوربا وبذل النفقات العظيمة من الحكومة ومنهم
لأجل تحصيلها. ولولا جمود أهل النفوذ من علماء الأزهر لكانت كل هذه المحاكم
شرعية آهلة بالعمائم التي يتحاسد حملتها على الشيء اللقا ويتنافسون فيما يرغب
عنه غيرهم لقلة ذات يدهم. ولكانت تلك العمائم موضع الاحترام والإجلال، كما يليق
بها لا كما هي اليوم في نظر أكثر الناس، ثم إنك تجد بعض أصحاب هذه العمائم
يتشدقون بتلاوة: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة:
45) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44)
يُعَرِّضون بأهل المحاكم الأهلية ثم إنهم يتحاكمون إليهم عند الحاجة ويتملقون لهم في
المجامع.
ليس إبطال هؤلاء العلماء للشريعة بعدم إجابة طلب إسماعيل باشا السابق
بأعجب من اعتذارهم عنه وتعللهم فيه، إنهم تعللوا بل احتجوا بأنهم يحافظون بذلك
على الشرع وطريقة سلفهم الأزهري في كيفية التأليف ، وهو أن يكون الكتاب مؤلفًا
من متن وشرح وحاشية وعند زيادة البيان والتحقيق تضاف إليه التقارير- فهذه هي
سنة المشايخ المألوفة، وتأليف كتاب أو كتب يقتصر فيها على القول الصحيح
ويجعل بعبارة سهلة مقسمًا إلى مسائل تسرد بالعدد على كيفية كتب القوانين من
البدع الهادمة لتلك السنة التي جرى عليها الميتون من عدة قرون.
حدثني علي باشا رفاعة قال: إن إسماعيل باشا لما ضاق بالمشايخ ذرعًا
استحضر والده رفاعة بك ، وعهد إليه بأن يجتهد في إقناع شيخ الأزهر وغيره من
كبار الشيوخ بإجابة هذا الطلب ، وقال له: إنك منهم ونشأت معهم فأنت أقدر على
إقناعهم ، فأخبرهم أن أوربا تضطرني إذا هم لم يجيبوا إلى الحكم بشريعة نابليون.
فأجابه رفاعة: إنني يا مولاي قد شخت ولم يطعن أحد في ديني ، فلا تعرضني
لتكفير مشايخ الأزهر إياي في آخر حياتي ، وأقلني من هذا الأمر؛ فأقاله. وكان
إنشاء هذه المحاكم التي يرى المشايخ أنها مؤسسة على الكفر والظلم والفسق أثر
المحافظة على الدين، وصونه من عبث الحاكمين، وما هذا الدين الذي حافظوا
عليه إلا بدعة سيئة وهي كيفية التأليف التي ألفوها كما تقدم ، ولم ينزل بها كتاب ،
ولا وردت بها سنة ، ولا جاءت في أثر عن الصحابة والتابعين. والكيفية التي
دعوا إليها فحسبوها خرقًا في الإسلام هي أفضل وأنفع مما حافظوا عليه ، فالنتيجة
أنهم أضاعوا الشريعة لأجل الجمود على هذه الكتب الحديثة الضارة المضيعة للعلم
فكانوا من الخاطئين ، وأعني بما أقول جمهورهم لا كلهم كما لا يخفى.
حدثت المحاكم الأهلية فكانت قسيمة للمحاكم الشرعية ، ولكن ظهر للناس
بالاختبار أن المحاكم التي يحكم فيها بقانون فرنسا أضمن للحقوق وأقرب للإنصاف
من المحاكم التي تسند شريعتها إلى الوحي السماوي حتى كان شيوخ الأزهر
يتحاكمون إليها فالشيخ العباسي رفع إليها بعض القضايا ، وكان شيخ الأزهر ومفتي
الديار المصرية. وكذلك شيخ الأزهر السابق الشيخ سليم البشري تحاكم إليها في
قضية تتعلق بأوقاف الأزهر وكان له مندوحة عن ذلك. فكانت جنايتهم على
الشريعة أنهم كانوا السبب في إضاعة القسم الأكبر منها ، وأنهم سلكوا في القسم
الثاني الذي بقي للمحاكم الشرعية طريقة سوء ذهبت بثقتهم وثقة سائر الناس منها -
وكل ذلك بحجة حماية الدين وحفظ الشريعة الذي هو فخرهم ولو بالباطل ينالون به
الزلفى في نفوس عامة المسلمين المقلدين لهم الذين لا يعلمون بماذا يقلدون.
تكاد حماية الدين والمحافظة على الشريعة عند هؤلاء تذهب برسومها كما
ذهبت بروحهما ، فإن السماء والأرض تستغيثان من خلل المحاكم الشرعية وتلجآن
إلى الحكومة طلبًا لإصلاحها ، ولكن الشيوخ عقبة في طريق كل إصلاح ، وحجتهم
الوهمية المحافظة على الدين الذي لا يعرفه سواهم ، وقوتهم غرور العامة بهم
وتصديق دعاواهم ، والحكومات تحترم دائمًا عقائد العامة وعاداتها وتقاليدها حقًّا
كانت أو باطلة؛ لئلا تهيج عليها الرأي العام ، ولذلك كان صلاح حال العامة
بالتربية الصحيحة والتعليم النافع مفضيًا إلى صلاح حال الحكومة بالطبع لأن رأي
الأمة يكون حينئذ صحيحًا وقوة الأمة لا تقاوم لأن يد الله مع الجماعة.
هذا بعض آثار التقليد الأعمى للميتين والجمود على العادات الموروثة ، وليس
كل علماء الأزهر على هذا الجمود بل السواد والدهماء منهم ، وإنما العامة مع
الأكثرين حتى يظهر خطأهم الزمان والذي لا يعلو حكمه حكم إنسان، هذا أحدهم
الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية اليوم قد رأى منذ زمن طويل فساد هذه
المحاكم التي كثر تألم الناس منها وشكواهم للحكومة ، فأرشده الشيخ لذلك التقرير
فطلبه من أحد حاشية الأمير واستفاد منه واضعو اللائحة الحديثة كثيرًا من الفوائد ،
ولكنها لم تكن كافية.
وفي سنة 1899 م حاولت الحكومة المصرية عمل شيء في المحاكم الشرعية
على أنه من الإصلاح ، فقامت قيامة العلماء والجرائد ، وتهيجت العامة لاعتقاد
الجميع أن ما كان يحاول غير جائز شرعًا (وفي الحقيقة أنه لم يكن هو الإصلاح
المطلوب للمحاكم) ولكنهم لم يطلبوا شيئًا غيره يجوز عندهم شرعًا. وكنا قبل هذه
الفتنة قد كتبنا في المنار الصادر آخر سنة 1316هـ مقالة في (التعليم القضائي)
بينَّا فيها أن إصلاح المحاكم الشرعية لا يكون إلا بقضاة صالحين للقيام بأعباء
القضاء ، وأن هذا لا يتم إلا بتعليم خاصٍّ بيَّنا طريقه ، واقترحنا على شيخ الأزهر
ومجلس إدارته تنفيذه ، ولكن أنَّى ينفذ ، وحماة الدين من مشايخ الأزهر أصحاب
النفوذ لا يرضون بشيء جديد غير ما اتبعوا عليه آباءهم إلا الشيخ محمد عبده وهو
صاحب هذا الرأي ، لكن لا موافق له منهم عليه في مجلس الإدارة إلا الشيخ عبد
الكريم سلمان وأكثر الآراء كانت على ضد ما يطلبان.
انتهت فتنة المحاكم بسكوت الحكومة عن المشروع الذي أعدته ، ولكن
المتقاضين لم يسكتوا على حقوقهم تضيع. في أثرها عهد بمنصب إفتاء الديار
المصرية للرجل الذي كان أول ساع في الإصلاح والمشهود له بأنه أعرف الناس
بطرقه ، فكلفته الحكومة تفتيش هذه المحاكم ، ووصف خللها ، وبيان ما يحتاجه من
العلاج؛ ففعل ووضع في ذلك تقريره المشهور الذي أجمع الناس على استحسانه ،
حتى إن الذين يعادون الإصلاح باسم الدين لم يجهروا بنقده ولا بالاعتراض عليه.
ثم ألفت الحكومة لجنة للنظر فيما يمكن العمل به من التقرير ، رئيسها ناظر الحقانية
وكان في أعضاء اللجنة مع المفتي قاضي مصر السابق ، وشيخ الأزهر واخترمت
المنية القاضي في تلك الأثناء فوقف سير اللجنة ، واستمر على وقوفه وعذر
الحكومة في ذلك العامة ، وبلاء العامة العلماء ، وهاك ما قاله اللورد كرومر عن
هذه المحاكم في تقريره عن سنة 1902 وهو:
المحاكم الشرعية
(يقول المفتشون من العلماء التابعين لنظارة الحقانية: إن أحكام قضاة
المحاكم الشرعية في الأحوال الشخصية وإنجازهم للقضايا قد تحسنت بعض التحسن
ولا ريب أن زيادة إنفاق المال تقضي إلى إصلاح مهم في هذه المحاكم ، ولكن لا
ينتظر أن يجري حتى يلح الأهالي في طلب الإصلاح من أنفسهم وذلك يكون بتقدم
العلم والمعرفة. والشكاوي الآن كثيرة ، ولكن المعارضة شديدة في كل تغيير مهما
كان لازمًا وخاليًا من الضرر. والغالب أن تلك المعارضة تنجح بدعوى أن
الإصلاحات مخالفة للشريعة أو لعادة القوم) اهـ
فانظر؛ تجد أن هذا السياسي الواقف على حالة البلاد أتم الوقوف يصرح بأن
الإصلاح لا يمكن إلا بعد ان تتحول العامة عن اعتقاد ما يقوله المشايخ في مقاومة
الإصلاح ، وأوضح منه ما قاله في تقريره عن سنة 1903 الماضية. وإنك لتجد
شيوخنا يطلعون عليه ويعرفون ما يقول الناس في جمودهم ، ولا يرجعون عنه
رحمة بالشريعة التي انتحلوا حملها وبأنفسهم ، وهذا هو نصه:
المحاكم الشرعية
هذه ترجمة محضر مأخوذ عن الجريدة الرسمية وهو يتعلق بأعمال مجلس
شورى القوانين في جلسة حديثة العهد، والحديث فيها بين أحمد بك يحيى من أعيان
المصريين وحضرة الشيخ حسونة النواوي وهو عالم جليل من علمائهم تولى
منصب الإفتاء فيما مضى.
(حضرة أحمد بك يحيى: إن الطريقة المتبعة حتى الآن في المحاكم
الشرعية في أمر المرافعات وتأجيل القضايا أوجبت شكاوي كثيرة ، فلذا أقترح على
مجلس شورى القوانين تأليف لجنة تدرس هذه الأمور وتضع فيها تقريرًا.
(فضيلة الشيخ حسونة النواوي: إني لا أعلم أن المحاكم الشرعية تحتاج
إلى الإصلاح في أمر من أمورها.
(تقرير بالأغلبية التصديق على رأي الشيخ حسونة النواوي) انتهى.
فهذه الأعمال مشددة للعزائم؛ لأنها تدل على أن في مجلس شورى القوانين نفسه
بعضًا من الأعضاء الأذكياء الذين يشعرون بوجوب الإصلاح للمحاكم الشرعية.
أما كون الإصلاح ضروريًّا تتشوق إليه النفوس، فذلك أمر ثابت لا شك فيه إذ
ليس للناس أقل ثقة بهذه المحاكم الشرعية، وقد علا الضجيج من أعمالها، وكثرت
شكاوي المتقاضين بين يديها ، وحجتهم عليها ترجح يومًا عن يوم. والإصلاح
يطلب من وجه معروف لا يختلف فيه ، وهو بسيط سهل المنال ، وذلك أن الشرع
نفسه لا يمكن أن يطرأ عليه تغيير مطلقًا، فغاية ما يطلب إذًا هو أن يقضى به بين
الناس بطريقة معقولة على يد قضاة جمعوا من العلم والاستقلال ما يمتنع معه تأثير
كل مؤثر خارجي أيَّا كان مصدره.
وكانت الحكومة قد شرعت منذ خمس سنوات تقريبًا في معالجة هذا الداء
ولكنها عدلت عنه؛ لأن الغرض الذي كانت تقصده من الإصلاح إنما هو صيانة
المصريين أنفسهم فلم تجد منهم التأييد الكافي فأغفلته. أما الحكومة البريطانية فلا
تبدأ بالسير في هذا السبيل، ولكنها تنظر بعين الرضى إلى كل إصلاح يبدأ به ذوو
الشأن أنفسهم الذين يعنيهم أمر المحاكم الشرعية أكثر من سواهم وتؤيدهم وتشدد
عزائمهم. ورأيي الخصوصيِّ هو أن مجلس شورى القوانين يحسن صنعًا بالعودة
إلى هذا الموضوع وإيفائه حقه من البحث لا سيما أن التعجيل في إصلاح هذه
المحاكم خير من التأجيل ، ففي مصر جيل جديد يختلف عن أجداده في أمور كثيرة،
فيمكن أن تحدثه نفسه يومًا بأن يمد إلى تلك الأركان القديمة يدًا لا تعرف حرمة
القديم، فتكون أشد عليها من يد حكومة تمدها اليوم طبقًَا لإرشاد قوم لا شأن لهم في
الأمر لأنهم لا يدينون بالدين الإسلامي.
فإذا كان لهذا الحساب نصيب من الصواب فالأجدر بأبناء اليوم أن يشرعوا في
الإصلاح ويتلافوا الأمر قبل حلوله، وعسى أن المصلحين من أبناء القطر لا تضعف
عزيمتهم لأول فشل حل بهم ، فإن الرأي العام لأبناء دينهم هو في جانبهم وهو ينمو
ويزداد وإن كانوا لا يجاهرون به، فعليهم الثبات إذن لا سيما إذ لم يكن أحد
ينتظر أن الناس تتغلب على أميالها ، وتوافقهم على مرادهم بعد أول حملة.
ويجدر بي أن أذكر في هذا المقام أن مجلس شورى القوانين اقترح على
الحكومة في الملحوظات التي أبداها على ميزانية السنة الحاضرة أن تزيد مصروف
المحاكم الشرعية ، فرفضت الحكومة هذا الاقتراح. وعندي أنها أحسنت في
رفضها؛ لأن كل زيادة في هذا الباب تعد تبذيرًا لأموال الأمة حتى يجيء الوقت
الذي تباشر فيه مسألة الإصلاح بالجد والاهتمام، اهـ كلام اللورد.
قبل أن يظهر تقرير اللورد هذا اجتمعت الجمعية العمومية المؤلفة من نظار
الحكومة وأعضاء شورى القوانين ومندوبي البلاد المصرية ، واقترح غير واحد من
أعضائها مطالبة الحكومة بإصلاح المحاكم الشرعية. فأحيل الطلب على مجلس
شورى القوانين ، فأجمع الشيوخ أمرهم وأرادوا أن يدافعوا عن الحاضر حسب
عادتهم، فأتمر من يعنيهم الأمر مع أنصارهم في مجلس الشورى وكبيرهم
قاضي مصر الذي خلق في بلاد الروم مصريًّا، وتعلم في الآستانة ولكنه كأنه تخرج
أزهريًّا، وكثر السعي قبل الجلسة واتفقوا على شيء يدافع به القاضي الأكبر.
ولما طرحت المسألة في المجلس قال القاضي الأكبر كلمته المروّزَة وهي:
(قد سمعنا المقترحات المتعلقة بالمحاكم الشرعية ونقول: إن أعمال تلك
المحاكم ترجع أولاً إلى الشرع الشريف ، وهذا لا يُمَكِّن مسلمًا أن يقول إنه يحتاج
إلى إصلاح ، وثانيًا إلى قضاة يحكمون بذلك الشرع، وهؤلاء تنتخبهم لجنة من كبار
العلماء الخبيرين تُشَكَّل بنظارة الحقانية بحضور ناظرها ، وطبعا إنما تنتخبهم من
العلماء الأكفاء ، وثالثًا: إلى لوائح سنتها الحكومة بعد أخذ رأي مجلس شورى
القوانين، فإن كان هناك اعتراضات توجهت أو تتوجه في المستقبل فطبعًا إنما هي
متوجهة على تلك اللوائح ، ولو رجعت الحكومة في جميع أعمال المحاكم الشرعية
إلى قواعد الشرع ونَفَّذت بالطرق الشرعية جميع ما صدر من تلك المحاكم من
الأحكام لم يوجد أدنى اعتراض ، فلذلك أطلب استلفات الحكومة إلى ما ذكر.
هذا نص ما كتب، وتناقل الناس عن قاضي مصر يومئذ زيادةً منها أنه قال
في الجلسة: إن القضاة يدرسون علومهم في الأزهر ويمتحنون فيه بحضور جماعة
من كبار العلماء ، وأنه لم يعرف عن أحد من قضاة المحاكم ما يشكى منه ، وجاء
في آخر كلامه: أما إذا أرادت الحكومة تكميل المرشحين للقضاء بإضافة بعض
دروس مثل: أدب القاضي ، وشيء من التمرين فلا بأس، وذكرت جريدة المؤيد
يومئذ أنه قال ما ينبغي لمثله في مقامه أن يقوله، وكان له حزب مستعد لتأييد رأيه
ولكن مفتي الديار المصرية تعقبه بعد ما أمر الكاتب بكتابة جميع ما قاله وقرر
المفتي ما ملخصه:
أما كون الشرع نفسه لا يحتاج إلى إصلاح فَمُسَلَّمٌ، لكنه في كتبه التي في أيدي
الناس بعيد عن أفهام الخصوم فهو في أشد الحاجة إلى التقريب من الأفهام فيجب
النظر في ذلك ، ولا نطلب فيه إلا عملاً سبقتنا إلى مثله الدولة العثمانية في كتاب
المجلة التي عليها العمل في محاكمها المسمّاة (بالعدلية) وفي المحاكم الشرعية في
أبواب المرافعات جميعها ، ولم يقل أحد: إن الدولة في عملها ذلك قد خرجت عن
الدين (عند هذا قال الشيخ حسونة النواوي: كتاب الأحوال الشخصية الذي وضعه
قدري باشا موجود وهو من أحسن ما يكون) .
وأما مسألة امتحان القضاة في لجنة من علماء الأزهر وانتخابهم بلجنة فيها
كبار العلماء، فيجب بيان ما فيها لهيئة المجلس لأنني من اللجنتين - لجنة الامتحان
ولجنة الانتخاب - أما الامتحان فيجري في موضوعات خاصة من عدة فنون يبتدأ
فيها بالأصول فالمعاني فالبيان وهكذا ، ولا يأتي الفقه إلا في آخر الدروس عندما
يكون الممتحن قد ملّ السؤال ، والطالب قد مل الجواب ، فيكتفي الأساتذة من
الطالب ببعض كلمات ثم ينقلونه إلى فن آخر ، على أن الامتحان في الفقه كان
ولا يزال في أبواب العبادات مثل التيمم ونحوه ، وقد ألحّ في المدة الأخيرة على لجنة
الامتحان لتعين مواضع الامتحان في المعاملات فحصل ذلك ، لكن كثيرًا ما يرجع
عنه، فهل مثل هذا الامتحان له علاقة بالقضاء الشرعي ، وهل تعرف به درجة
القاضي إن كان أهلاً للقضاء أو غير أهل.
(قال) أنا عضو في اللجنتين كما قلت لكم ، وربما كنت أعرف الناس بمن
ينتخبون للقضاء ، ولكني أقول لكم: إننا نعمل في الانتخاب على قاعدة ارتكاب
أخف الشرين فنختار أخف القاصرين قصورًا وكثيرًا ما تكون الأغلبية على انتخاب
المتقدم في الزمان ، وإن كان متأخرا في العلم والاستعداد.
(قال) وأما لوائح المحاكم التي يتوهم من لم يعرف تاريخها أن الحكومة
وضعتها من عندها فهي بعيدة عن الشرع ومذاهبه ، فأنا أذكر لكم حقيقة أمرها،
كانت الحكومة في عهد أمراء مصر السابقين تاركةً للمحاكم الشرعية تمام الاستقلال ،
وكان الناس يستغيثون من خللها وظلمها وشيوع الرشوة فيها ، فلما أقلقوا الحكومة
أمر سعيد باشا بوضع لائحة لسير هذه المحاكم ، وقد كان ذلك بإقرار لجنة من
علماء الأزهر مؤلفة من علماء المذاهب الأربعة، فاللائحة الأولى كان متفقًا عليها من
علماء الشرع، طال الزمان وظهر أن اللائحة لم تأت بالمطلوب واستمرت الشكوى
من أعمال المحاكم ، فوضعت اللائحة الثانية بمعرفة الشيخ العبَّاسي شيخ الأزهر
ومفتي الديار المصرية لذلك العهد. وأما اللائحة الأخيرة فقد عرضت كذلك على
شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية ، وأقرّها كما أقرها قاضي مصر السابق.
فاللوائح لا تعاب إذن بمخالفة الشرع ، ولكنني أقول مع هذا: إنها قاصرة وفي
حاجة إلى الإصلاح فتعين أن المحاكم الشرعية في حاجة إلى الإصلاح من كل
جهة ، وهذا الإصلاح ينحصر عندي في خمسة أمور وهي:
(أولها) تقويم طريقة التعليم لعمال المحاكم الشرعية من قضاة وكَتَبَةٍ
وإضافة ما تحتاج إليه وظائف القضاء الشرعي وما يتعلق بها من المعلومات إلى ما
يتعلمون الآن ، وذلك يكون بإنشاء فرقة خاصة بهذا الغرض من طلبة الجامع
الأزهر بالجامع الأزهر، ثم تكميل قاعدة انتخابهم بما يكفل التحقق من كفاءتهم.
(ثانيها) تعديل لوائح المحاكم الشرعية على وجه يكفل انتظام سيرها وسرعة
الفصل في قضاياها ، وإزالة كل ما يشتكى منه بشرط المحافظة على الشرع.
(ثالثها) الاتفاق مع جماعة من شيوخ الحنفية على إيجاد طريقة لتقريب فهم
الأحكام الشرعية التي يتقاضى الناس على حسبها حتى يمكن للخصوم أن يعرفوا
إلى أية قاعدة شرعية يرجع الحكم فيما يتخاصمون فيه ويسهل على القضاة أنفسهم
خصوصًا في بدء أمرهم الرجوع إلى ما يحكمون بمقتضاه ويكون ذلك شاملاً
جميع أبواب المعاملات من الفقه.
(رابعها) وضع قاعدة لتنفيذ الأحكام الشرعية تكفل انتفاع المحكوم له
بالحكم ضد أي شخص كان بما لا يخالف الشرع.
(خامسها) ترقية مرتبات عُمّال المحاكم الشرعية ، وإلحاقهم بباقي موظفي
الحكومة.
اقترح المفتي هذا ، وأمر بكتابته ، فكتب وظهرت على المجلس أمارة
الإعجاب والرضى به ، فقال بعض المؤتمرين: إن هذا لا ينافي قول القاضي ،
والرأي ما رآه القاضي. قال المفتي: لك أن تقول: إن رأيك موافق لرأي القاضي ،
وليس لك أن تقول هذا عن غيرك ، وإن كان القاضي يقر هذا الرأي فهو ما نبغي
ولا فرق بين أن ينسب إليَّ أو إليه. فقال ذلك العضو: لا بأس بموافقة القاضي
على هذا ، ولكن تحذف المقدمات. قال المفتي: وتحذف مقدمات القاضي أيضًا.
قال بعض الأعضاء: الأَوْلَى إبقاء المقدمتين ، والموافقة على الرأي الأخير (رأي
المفتي) مع اتفاق القاضي. وبعد ذلك استقر الرأي على أن يمحى ما كتب عن
القاضي والمفتي ، ويستبدل به: أن المجلس يقترح على الحكومة الإصلاح بالأوجه
الخمسة المذكورة وكذلك كان.
هذا ملخص ما كان في الجلسة ، ولهج به الناس يومئذ، كتبناه كما سمعناه من
كثير من الأعضاء ومن يجتمع بهم، ولكن الجرائد خلطت في المسألة ، ومنها
ما نسب الاقتراح للقاضي ، وإنما كان ردًّا عليه ، ثم إنه لم ير بُدًّا من موافقة المجلس.
والذي يهمنا أننا وصلنا بعد جهاد المجاهدين في سبيل الإصلاح إلى أن مجلس
الشورى طلب باتفاق الآراء أن تبادر الحكومة إلى إصلاح هذه المحاكم ، فليس لها
بعد هذا عذر بالإرجاء وهو أقصى أو فوق ما كان يتمنى اللورد كرومر.
أرأيتك هؤلاء القضاة الشرعيين؛ هل اعتبروا بإجماع أهل الرأي والحل
والعقد وغيرهم على فساد أمرهم وسوء سيرتهم؟ كلا إنهم لم يزدادوا إلا غيًّا وتماديًا،
حتى إن المحكمة العليا التي تشرف على جميع مجاري العبر هي أَوْغَل من محاكم
الواحات في الغرور والخلل والزلل، ومن أعجب ما صدر عن قاضي مصر في
هذه الأيام ببركة مستشاره أو مشيره؛ التصدي لمنع ديوان الأوقاف من تنفيذ لائحة
المساجد التي وضعها مفتي الديار المصرية ، وأقرّها مجلس الأوقاف الأعلى بعد
مباحثات طويلة.
* * *
لائحة المساجد
ماهي لائحة المساجد وما وجه الحاجة إليها؟ هي لائحة تدور على جعل أئمة
المساجد وخطبائها من أهل العلم بالدين ليؤدوا الفرائض على وجهها ، وجعل
مؤذنيها وخدمتها من أهل الكفاءة للقيام بعملهم على وجهه. ولا يجهل أحد أن أكثر
الأئمة في هذا العهد من الجُهّال حتى بأحكام الطهارة والصلاة ، وأكثر الخطباء
يغلطون على المنبر حتى بآيات القرآن ، ويأتون في وعظهم بما يتبرأ الدين منه في
الغشّ والكذب على الله ورسوله ودينه بسرد الأحاديث الموضوعة والخرافات
المصنوعة. أليس من العجائب أن يوجد في المسلمين من يحافظ على هذه
المنكرات ويطلب بقاءها وعدم إزالتها باسم الدين ، وهو يعدّ مع هذا من علماء
المسلمين؟ بلى وإنهم ليحتجون بأنهم يحافظون على شروط الواقفين، وهل وجد
واقف اشترط أن يكون الأئمة والخطباء من الجاهلين؟ ربِّ أعوذ بك من همزات
الشياطين.
أوقاف المسلمين تزداد ريعًا ونموًّا ، ومساجد المسلمين في خراب حسيٍّ
ومعنويٍّ إلا ما عمرت جدره ، وزخرفت سقفه لجنة الآثار العربية ليتمتع بالنظر
إليها السائحون من الإفرنج الذين يحبون الاطلاع على مباني الأولين، وراتب
الخطيب والإمام اليوم كما كان منذ قرن أو قرون ، إذ كان مالك الألف يعدّ غنيًّا
كبيرًا، والألف لا تشبع في سنتنا الحمار شعيرًا، لهذا يضطر ديوان الأوقاف أن
يجعل الجاهلين الكسالى المعدمين أئمةً وخطباءً؛ إذ لا يرضى العالم الفاضل أن ينقطع
لعمل لا يزيد راتبه في الشهر على مائة قرش ، وقد يكون خمسين قرشًا. هذا وإن
مساعدة أهل العلم والدين على معايشهم من أفضل المبرات التي تنشأ لها الأوقاف
الخيريّة - لهذا كان من موضوع لائحة المساجد أن يجعل للإمام والخطيب راتب
يتراوح بين خمسمائة قرش وثمانمائة قرش ، وللمؤذن والخادم راتب يرتقي إلى
ثلاثمائة قرش ، وذلك بعد انتقائهم بحسب الشروط التي تؤهلهم للقيام بعملهم على
أكمل وجه، وقد رفضت اللائحة بحال الحاضرين على ما بهم فلم تقض بعزل أحد
منهم ، وإنما جعلت مبدأ الإصلاح فيمن يتجدد.
بهذه اللائحة تصرف أموال الأوقاف المكنوزة في أفضل مصارفها، بهذه
اللائحة تقام صلاة الجماعة على وجهها، بهذه اللائحة تكون الخطابة مؤدية للحكمة
التي شرعت لأجلها، بهذه اللائحة تكون بيوت الله نظيفة طاهرة كما يليق بها، بهذه
اللائحة ينمو علم الدين بما وجد لأهله من المعاش الطبيعي الذي يليق بكرامتهم بعد
أن أقفلت في وجوه المنقطعين له أبواب الرزق واحتقرهم الناس ولو بغير حق، ومع
هذا كله تجد في أصحاب العمائم من يسعى في إلغاء اللائحة بحجة أنها مخالفة للدين
وأنها وضعت للإفساد، وهم من المصلحين يحاولون إلغاءها بسلطة المحكمة الشرعية
التي ضجت السماء والأرض من فساد حالها وشدة اختلالها، فلماذا لا يصلحونها
ويقيمون حكم الله فيها إن كانوا صادقين؟
كتب قاضي مصر إلى مدير الأوقاف يطلب اللائحة لينظر فيها ، ويأمر بتنفيذ
ما يرى تنفيذه منها ، وإلغاء ما يرى إلغاءه ، وذكرت الجرائد أنه هدّد المدير بعزله
إذا لم يفعل، فعرض المدير كتابته على مجلس الأوقاف الأعلى، فقرر المجلس إجابة
القاضي بأن هذا أمر لا يعنيه وأنه ليس في اللائحة أمر مخالف للشرع كما قرر
مفتي الديار المصرية وأن الأمر العالي الصادر في سنة 1291 يجيز للمجلس سنِّ
أمثال هذه اللائحة ولهذا يرفض المجلس طلب القاضي ، ويأمر بتنفيذها كما قررها.
هكذا ورد في جريدة الأهرام ، وقد أنذرت القاضي بأن لا يلعب بالنار ونعم ما
فعلت ، فإن الأمر خطير كما ذكرت.
هذا نموذج من سيرة هذه المحكمة بعد ماعمّت البلوى ، وعظمت الشكوى
يلعب أهلها بالنار ويسخطون الديار ويفقدون الأنصار ، ولا تسمع من علماء الأزهر
كلمة إنكار بل يُخْرِبُون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه الحادي والستون)
قولكم: وأجمعوا على جواز شراء اللحمان والأطعمة والثياب وغيرها من
غير سؤال حلها، اكتفاءً بتقليد أربابها. جوابه: إن هذا ليس تقليدًا في حكم من
أحكام الله ورسوله من غير دليل، بل هو اكتفاء بقبول قول الذابح والبائع، وهو
اقتداء واتباع لأمر الله ورسوله، حتى لو كان الذابح والبائع يهوديًّا أو نصرانيًّا أو
فاجرًا؛ اكتفينا بقوله في ذلك، ولم نسأله عن أسباب الحل، كما قالت عائشة رضي
الله عنها: يا رسول الله ، إن ناسًا يأتوننا باللحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم
لا؟ فقال: (سمّوا أنتم وكلوا) فهل يسوغ لكم تقليد الكفار والفُسَّاق في الدين كما
تقلدونهم في الذبائح والأطعمة؟ ؟
فدعوا هذه الاحتجاجات الباردة وادخلوا معنا في الأدلة الفارقة بين الحقّ
والباطل؛ لنعقد معكم عقد الصلح للأمّة على تحكيم كتاب الله وسنة رسوله،
والتحاكم إليهما، وترك أقوال الرجال لهما، وأن ندور مع الحق حيث كان، ولا
نتخير إلى شخص معين غير الرسول، ونرد قول من خالفه كله، وإلا فاشهدوا بأنَّا
أول منكر لهذه الطريقة وراغب عنها، وداع إلى خلافها، والله المستعان.
(الوجه الثاني والستون)
قولكم: لو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء، ضاعت مصالح
العباد، وتعطلت الصنائع والمتاجر، وهذا مما لا سبيل إليه شرعًا وقدرًا! !
فجوابه من وجوه:
(أحدها) إن من رحمة الله - سبحانه - بنا ورأفته أنه لم يكلفنا بالتقليد ، فلو
كلفنا به؛ لضاعت أمورنا، وفسدت مصالحنا؛ لأنَّا لم نكن ندري مَنْ نُقَلِّد من
المُفْتِين والفقهاء، وهم عدد فوق المئين، ولا يدري عددهم في الحقيقة إلا الله ، فإن
المسلمين قد ملأوا الأرض شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالاً، وانتشر الإسلام بحمد الله
وفضله، وبلغ مبلغ الليل، فلو كلفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العَنَت والفساد، ولكلفنا
بتحليل الشيء وتحريمه، وإيجاب الشيء وإسقاطه معًا؛ إن كلفنا بتقليد كل عالم.
وإن كلفنا بتقليد الأعلم فالأعلم؛ فمعرفة ما دل عليه القرآن والسنن من الأحكام أسهل
بكثير كثير من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شروط التقليد، ومعرفة ذلك مشقة
على العالم الراسخ فضلاً عن المقلد الذي هو كالأعمى. وإن كلفنا بتقليد البعض ،
وكان جعل ذلك إلى تشهينا واختيارنا؛ صار دين الله تبعًا لإرادتنا واختيارنا
وشهواتنا وهو عين المحال، فلا بد أن يكون ذلك راجعًا إلى أمر الله ورسوله باتباع
قوله وتلقي الدين من يديه، وذلك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله
وأمينه على وحيه، وحجته على خلقه. ولم يجعل الله هذا المنصب لسواه بعده أبدًا.
(الثاني) إن بالنظر والاستدلال صلاح الأمور لا ضياعها ، وبإهماله وتقليد
من يخطىء ويصيب إضاعتها وفسادها كما الواقع شاهد به.
(الثالث) إن كل واحد منا مأمور بأن يصدق الرسول فيما أخبر به ويطيعه
فيما أمر، وذلك لا يكون إلا بعد معرفة أمره وخبره، ولم يوجب الله سبحانه من ذلك
على الأمة إلا ما فيه حفظ دينها ودنياها، وصلاحها في معاشها ومعادها، وبإهمال
ذلك تضيع مصالحها، وتفسد أمورها، فما خراب العالم إلا بالجهل، ولا عمارته
إلا بالعلم، وإذا ظهر العلم في بلد أو محلة قلّ الشرّ في أهلها، وإذا خفي العلم هناك؛
ظهر الشر والفساد، ومن لم يعرف هذا فهو ممن لم يجعل الله له نورًا، قال
الإمام أحمد: (لولا العلم كان الناس كالبهائم) . وقال: (الناس أحوج إلى العلم
منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو
ثلاثًا ، والعلم يحتاج إليه في كل وقت) .
(الرابع) إن الواجب على كل عبد أن يعرف ما يخصه من الأحكام، ولا
يجب عليه أن يعرف ما لا تدعوه الحاجة إلى معرفته، وليس في ذلك إضاعة
مصالح الخلق، ولا تعطيل لمعاشهم؛ فقد كان الصحابة - رضي الله - عنهم
قائمين بمصالحهم ومعاشهم، وعمارة حروثهم، والقيام على مواشيهم، والضرب في
الأرض لمتاجرهم، والصفق بالأسواق، وهم أهدى العلماء الذين لا يشق في العلم
غبارهم.
(الخامس) إن العلم النافع هو الذي جاء به الرسول دون مقدرات الأذهان
ومسائل الخرص والألغاز، وذلك بحمد الله تعالى أيسر شيء على النفوس تحصيله
وحفظه وفهمه، فإنه كتاب الله الذي يسره للذكر، كما قال - تعالى -: {وَلَقَدْ
يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17) قال البخاري في صحيحه:
قال مطر الوراق: (هل من طالب علم فيعان عليه؟)، ولم يقل: فتضيع عليه
مصالحه، وتتعطل عليه معايشه، وسنة رسول الله وهي - بحمد الله - مضبوطة
محفوظة، أصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث. وفرشها
وتفاصيلها نحو أربعة آلاف. وإنما الذي هو في غاية الصعوبة والمشقة مقدرات
الأذهان، وأغلوطات المسائل، والفروع والأصول التي ما أنزل الله بها من سلطان
التي كل ما لها في نمو وزيادة وتوليد ، والدين كل ما له في غربة ونقصان، والله
المستعان.
(الوجه الثالث والستون)
قولكم: قد أجمع الناس على تقليد الزوج لمن يهدي إليه زوجته ليلة الدخول،
وعلى تقليد الأعمى في القبلة والوقت، وعلى تقليد المؤذنين ، وتقليد الأئمة في
الطهارة وقراءة الفاتحة، وتقليد الزوجة في انقطاع دمها ووطئها وتزويجها؛ فجوابه
ما تقدم أن استدلالكم بهذا من باب المغاليط، وليس هذا من التقليد المذموم على لسان
السلف والخلف في شيء، ونحن لم نرجع إلى أقوال هؤلاء لكونهم أخبروا بها، بل
لأن الله ورسوله أمر بقبول قولهم، وجعله دليلاً على ترتيب الأحكام، فإخبارهم
بمنزلة الشهادة والإقرار. فأين في هذا ما يسوغ التقليد في أحكام الدين.
والإعراض عن القرآن والسنن، ونصب رجل بعينه ميزانًا على كتاب الله
وسنة رسوله؟ ؟
(الوجه الرابع والستون)
قولكم: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقبة بن الحرث أن يقلّد
المرأة التي أخبرته بأنها أرضعته وزوجته. فيالله العجب! !
فأنتم لا تقلّدونها في ذلك، ولو كانت إحدى أمهات المؤمنين ولا تأخذون
بهذا الحديث، وتتركونه تقليدًا لمن قلدتموه دينكم، وأي شيء في هذا مما يدل
على التقليد في دين الله؟ وهل هذا إلا بمنزلة قبول خبر المخبر عن أمر حسي يخبر
به ، وبمنزلة قبول الشاهد؟ وهل كان مفارقة عقبة لها تقليدًا لتلك الأمة أو
اتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث أمره بفراقها؟ فمن بركة
التقليد أنكم لا تأمرونه بفراقها، وتقولون: هي زوجتك حلال وطئها! ! ! وأما نحن
فمن حقوق الدليل علينا أن نأمر من وقعت له هذه الواقعة بمثل ما أمر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم لعقبة بن عامر سواء، ولا نترك الحديث تقليدًا
لأحد.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سوريا والإسلام
(8)
مسيحو سوريا في أيام الدولة العربية
زعم الكاتب المتحمس أن المسلمين لما استولوا على سوريا ابتدؤوا يسومون
السوريين الذل والهوان، قال: (ولو أن المسلمين حكماء كباقي الفاتحين الذين
اكتسحوا سوريا أو بالحري كالسلوقيين والرومانيين الذين لم يكونوا يتعرضون
للسوريين بما يمس عوائدهم وعواطفهم دينيًّا وأدبيًّا، بل كانوا يكتفون بحفظ
سيطرتهم السياسية عليهم؛ لو كانوا حكماء، ولم يصنعوا بهم ما صنعوه؛ لما كانوا
لاقوا من السوريين إلا الملاطفة والطاعة.
ثم طفق يسرد الألفاظ التي يعرفها من اللغة تدلّ على الظلم والاستعباد ، والتي
لا تدل أيضًا؛ ليعظم الأمر، ويهيج تعصب نصارى سوريا على مسلميها ، وإن
كان هذا التعصب يضرّ قومه أكثر مما يضر المسلمين، وهو لا يدري لسكره بخمرة
حرية أمريكا التي سمحت له بأن يشتم الإسلام والمسلمين بما شاء قال:
(ولا يظن القارئ أن تعصب المسلمين ضد المسيحين في أيام الدولة
العربية كان بسيطًا كما نفهمه اليوم؛ كلا، بل كان استبدادًا مطلقًا واستعبادًا.
تصور أيها القارئ حالة أمة يهجم عليها في منازلها وكنائسها ، ويقتل بعضها
ويسبي البعض الآخر. تصور حالة أمة يحكم عليها تارة بهدم معابدها وأخذ عشر
بيوتها، وطورًا بأخذ أحسن دورها ومنازلها لتجعل جوامع أو بيوتًا للقضاء، تصور
حال أمة يحكم عليها بأن تعلق على أبواب منازلها صور الشياطين تمييزًا لها عن
بيوت المسلمين، تصور حال أمة يحكم عليها بأن تقفل مكاتبها ويمنع أولادها
وصغارها من تعلم القراءة، تصور حال أمة لم يكن يقبل أحد من أفرادها في
دواوين الحكومة المتسلطة عليها، تصور حال أمة لم يكن يسمح لها بأن تظهر
صلبانها في الأسواق ولا بأن تدق جرسًا. تلك هي حالة المسيحيين في سوريا في
أيام الدولة العربية. ولقد حدثت هذه وجرى هذا الضغط في أيام جميع الخلفاء
الأمويين والعباسيين ، وكان في الأكثر أيام جعفر المتوكل على الله في سنة
849 هـ أو بِالحَرِيّ عندما ابتدأت العربية أن تشعر بضعفها وانحطاطها.
وجوابنا عن هذا كله كلمة فذة نضطر أن نصرح بها مع الأسف ، وهي أن
هذا اختراع محض ، فلا هجوم على البيوت والكنائس ولا صور شياطين، ولا منع
من تعليم، فإن العرب كانوا أرحم الدول الفاتحة وأعدلها ، وكانت سيرتهم نقيض ما
قال هذا المتعصب بشهادة عدول المؤرخين، حتى من الإفرنج الذين أوجدوا الغلوَّ
في التعصب الديني في الأرض، ثم طفق بعضهم يذمّه في هذا الزمان. ومن شاهد
ما تعامل به دولهم المسلمين وغيرهم في مثل بلاد جاوه؛ لشاهد ما تقشعر منه
الأبدان، وهو فوق ما اخترعته مخيلة رفول سعادة، وألصقته بالعرب ، وقد تقدم
في رد النبذة السابعة السابقة ما يؤيد قولنا هذا في العرب وسنزيده بيانًا.
أما السلوقيون فقد كانت أيامهم كلها حروبًا داخلية وخارجية من أول عهدها
إلى آخره، وكان فيها من الفظائع ما فيها، ومن أقبحها ضغط الملك أنطوخيوس
الثاني على اليهود، ونهب هيكلهم ، وإسرافه في قتلهم، ونهب أموالهم في القرن
الثاني قبل المسيح، وقد سَلَّم هذا الملك الفاجر الذي لقب نفسه باسم (الله) زمام
حكومته لنسائه وندمائه؛ فأسرع الخراب والدمار بسوء سيرتهن وسيرتهم إلى سوريا،
ولم تنطف من بعده نيران الثورات والفتن في سوريا. ولما ولي أنطيخوس الثالث
المُلْك انبرى لإخماد ثورة مولو القائد السوري الذي استقل في جهة نهر الفرات
فانتهز الفرصة أخيوس، وخرج عليه، وادعى الملك لنفسه وهو من بيت سلقوس
مؤسس المملكة ، فشغله ذلك عن محاربة مصر زمنًا ثم عاد إليها بعدما تولاها
بطليموس الخامس وهو صغير السن، وكان استولى على فلسطين وفينيقية وسوريا
السفلى. ثم زوج بطليموس ابنته ، ووعده بأن يعطيه فلسطين وسوريا السفلى مهرًا
لها، ولكنه لم يصدق. وبعد محاربة الرومانيين إياه وثورة أرمينيا عليه نهب هياكل
آسيا ومعابدها فاحتوى جميع كنوزها وخزائنها، ثم طالبه ملك مصر بما وعد به
أبوه من مهر ابنته وهو فلسطين وسوريا السفلى ، فأغار على مصر حتى إذا كاد
يظفر صده الرومانيون ، فعاد ينتقم من اليهود بما جنى غيرهم؛ فهجم على بيت
المقدس ونهب الهيكل ، وعاث فيه فسادًا ولطخه بالنجاسة. ولم تكن حال من بعده
بأمثل من حاله، فهذا نموذج من سيرة السلوقيين الذين فضلهم هذا المتعصب الغالي
على العرب الذين كانوا أفضل الفاتحين في الأرض وأرفقهم وأعدلهم. إن سوريا لم
يستقر لها في أيامها قرار، ولم تكنها مع الأمان دار، حتى إن السوريين سئموا
الحياة في آخر عهدهم، ودعوا طغرانيس ملك أرمينية فولوه عليهم فأمنت البلاد،
واطمأن العباد، فأين مثل هذه الثورات والفتن في أيام العرب؟ لقد استولى على
سوريا كثير من الفاتحين الغرباء فلم يمتزج السوريون بأحد امتزاجهم بالعرب،
وحسبك أنهم استعربوا فلم تعد تعرف لهم جنسية غير العربية. فاعتبر بتعصب هذا
الكاتب الذي أراه بغض المسلمين النور ظلمة، والسعادة شقاءً، والخير شرًّا،
والحق باطلاً، وانظر هل يتيسر لنا جمع كلمة السوريين ، وفيهم مثل هذا يكتب
وينشر ويفرق ويمزق، ويقنع المسلمين بأن سيرة سلفهم توجب عليهم عداوة
النصارى، ولا يجد له من أبناء ملته مفندًا ولا رادعًا، حتى كأن الجميع معه في
آرائه مع علمهم بخطأه واختلاقه.
أما الرومانيون فتاريخهم معروف، وعتوهم وجورهم غير مجهول ، ومؤرخو
النصارى يعترفون بما قاسى السوريون منهم عامة، وما قاسى اليهود منهم خاصة،
لا سيما بعد ما دخل الرومانيون في النصرانية. ولقد تنصر معظم أهل سوريا،
ولكن لم يتجنسوا بالجنسية الرومانية، ولم يكن حكامهم يعاملونهم على اتفاقهم معهم
في الدين معاملة المساواة؛ لذلك أدهشهم عدل الإسلام، ومساواته فكانوا عونًا
للمسلمين على الروم في حربهم، ولولا ذلك لم يتم للعرب فتح سوريا في تلك المدة
القصيرة. قال البلاذري في فتوح البلدان:
حدثني أبو جعفر الدمشقي قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما
جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردّوا
على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: (قد شُغلنا عن نصرتكم
والدفع عنكم، فأنتم على أمركم) فقال أهل حمص: (لولايتكم وعدلكم أحب إلينا
مما كنا فيه من الظُّلم والغَشَم، ولندفعنَّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض
اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حِمص إلا أن نغلب ونجهد؛
فأغلقوا الأبواب وحرسوها. وكذلك فعل أهل المدن التي صُولحت من النصارى
واليهود وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا على ما كنَّا عليه وإلا
فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد.
وقال في كتابه فتوح الشام يذكر إقبال الروم على المسلمين، ومسير أبي
عبيدة من حمص: (فلما أراد أن يشخص دعا حبيب بن مسلمة فقال: اردد على
القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنَّا أخذنا منهم فإنه لا ينبغي لنا إذ لا
نمنعهم (أي نحميهم) أن نأخذ منهم شيئًا، وقل لهم: نحن على ما كنَّا عليه فيما
بيننا وبينكم من الصلح، ولا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا أموالكم
لأنا كرهنا أن نأخذ أموالكم، ولا نمنع بلادكم (أي نحميها) ، فلما أصبح أمر الناس
بالمسير إلى دمشق، ودعا حبيب بن مَسْلَمَة القوم الذين كانوا أخذوا منهم المال؛
فأخذ يرده عليهم، وأخبرهم بما قال أبو عبيدة ، وأخذ أهل البلد يقولون: ردَّكم الله
إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم ، ولكن - والله - لو كانوا هنا ما
ردوا إلينا، بل غصبونا، وأخذوا مع هذا ماقدروا عليه من أموالنا) اهـ، وقد
أورد هذين الشاهدين الشيخ شبلي النعماني في رسالة الجِزْيَة والإسلام، واستدل
بهما وبغيرهما على أن الجِزْية جزاء الحماية والدفاع (راجع ص 356 من السنة
الأولى) .
التعدي على الكنائس وجعلها مساجد لم يكن مما يستحله المسلمون كما يعلم من
له أدنى اطلاع من مسألة عمرو بن العاص مع العجوز القبطية في مصر. وهؤلاء
بنو أمية أظلم العرب قد اقترفوا هذا الإثم مرة، والقصة تدل على كونها من الظلم
على عدل العرب، وبعدهم عن مثل هذا الاعتداء، قال البلاذري في فتوح البلدان
ما نصه:
قالوا: ولما ولي معاوية بن أبي سفيان أراد أن يزيد كنيسة يوحنا في المسجد
بدمشق؛ فأبى النصارى ذلك فأمسكه، ثم طلبها عبد الملك بن مروان في أيامه
للزيادة في المسجد ، وبذل لهم مالاً فأبوا أن يسلموها إليه. ثم إن الوليد بن عبد
الملك جمعهم في أيامه، وبذل لهم مالاً عظيمًا على أن يعطوه إياها فأبوا، فقال:
لئن لم تفعلوا لأهدمنها، فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين ، إن من هدم كنيسة جُنَّ،
أو أَصَابته عَاهة. فَأَحْفَظَهُ قَوْلُهُ ودعا بمعول، وجعل يهدم بعض حيطانها بيده،
وعليه قباء خز أصفر ، ثم جمع الفعلة والنقاضين فهدمها في المسجد. فلما استخلف
عمر بن عبد العزيز شكا النصارى إليه ما فعل الوليد بهم في كنيستهم، فكتب إلى
عامله يأمره برد ما زاده في المسجد عليهم ، فكره أهل دمشق ذلك ، وقالوا: نهدم
مسجدنا بعد أن أَذنا فيه وصلينا ، ويُرَدُّ بِيعَةً؟ وفيهم يومئذ سليمان بن حبيب
المحاربي وغيره من الفقهاء، وأقبلوا على النصارى فسألوهم أن يُعْطَوْا جميع
كنائس الغوطة التي أخذت عُنوة، وصارت في أيدي المسلمين على أن يصفحوا
عن كنيسة يوحنا ويمسكوا عن المطالبة بها فرضوا بذلك وأعجبهم ، فكتب به إلى
عمر فسره وأمضاه. اهـ
فهذه الحادثة على ما فيها من خروج الوليد عن نهج الشرع لفسقه المشهور،
تدل على شدة محافظة العرب على الكنائس، وحقوق الذمّة فإن ملكهم اضطر إلى
كنيسة ليوسع بها مسجدًا رأى أن يكون أثرًا من آثاره، وموضعًا لفخاره، بعدما
عجز عنه سلفه حُرْمة للذمة، فجاء بنفسه يسترضي النصارى، ويبذل لهم المال
الكثير، وهم يأبون عليه ويهددونه بالوقوع في العاهات، ويخاطبونه بكلمة (الجنون) ،
فهل يصح أن يكون هذا شأن رعية مظلومة مضطهدة مع الفاتحين
القاهرين، أم هو إدلال من عوملوا بالعدل والمساواة، والحِلم والإناة، ولم يتعودوا
أن يهضموا حقًّا، ولا أن يسلبوا رزقًا.
قال البلاذري: حدثني هشام بن عمار أنه سمع المشايخ يذكرون أن عمر بن
الخطاب عند مقدمه الجابية من أرض دمشق مر بقوم مجذومين من النصارى ، فأمر
أن يعطوا من الصدقات، وأن يُجْرَى عليهم القوت. وقال هاشم: سمعت الوليد بن
مسلم يذكر أن خالد بن الوليد شرط لأهل الدير الذي يعرف بدير خالد شرطًا في
خراجهم بالتخفيف عنهم حين أعطوه سُلَّمًا صعد عليه ، فأنفذه لهم أبو عبيدة. ولما
فرغ أبو عبيدة من أمر مدينة دمشق سار إلى حمص فمر ببعلبك ، فطلب أهلها
الأمان والصلح فصالحهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وكتب لهم:
(بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب أمان لفلان بن فلان وأهل بعلبك
رومها وفرسها وعربها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم داخل المدينة
وخارجها وعلى أرحائهم ، وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم وبين خمسة عشر ميلاً،
ولا ينزلوا قرية عامرة؛ فإذا مضى شهر ربيع وجمادى الأولى ساروا إلى حيث
شاءوا، ومن أسلم منهم؛ فله ما لنا وعليه ما علينا. ولتجارهم أن يسافروا إلى
حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها، وعلى من أقام منهم الجزية والخراج،
شهد الله وكفى بالله شهيدًا) .
أرأيت الفاتح الذي يصالح خصمه مثل هذا الصلح اللين يقال فيه: إنه قاس
يهدم الكنائس ويأخذ المنازل. وقد أسلفنا في النبذة الماضية أنهم كانوا يَدعُون لهم
أملاكهم حتى ما يأذنون للمسلمين أن يشاركوهم فيها ولو بحق! ! !
أما الدواوين التي زعم المتعصب أن نصارى سوريا كانوا محرومين منها فقد
كانت في الحقيقة في أيديهم خاصة ، فإن عمر لما دَوَّنَ الدواوين؛ كانت دواوين
بلاد الشام بالرومية لكثرة الكتاب في الروم وقلتهم في العرب ، مع عدم عناية
المسلمين باحتكار أعمال الدولة، ومن المشهور أنها ظلت على ذلك إلى عهد
عبد الملك بن مروان، وانظر ما قاله المؤرخون في سبب نقلها إلى العربية. ونختار
عبارة البلاذري لقدمه وتحريه في الرواية ، قال:
(قالوا: ولم يزل ديوان الشام بالرومية حتى وَلِي عبد الملك بن مروان،
فلما كانت سنة 18 أمر بنقله، وذلك أن رجلاً من كُتَّاب الروم احتاج أن يكتب شيئًا
فلم يجد ماءً فبال في الدواة؛ فبلغ ذلك عبد الملك فأدبه ، وأمر سليمان بن سعد بنقل
الديوان فسأله أن يعينه بخراج الأردن سنة ففعل ذلك؛ فلم تنقض السنة حتى فرغ
من نقله. وأتى به عبد الملك فدعا بسرجون كاتبه ، فعرض ذلك عليه فغمه،
وخرج من عنده كئيبًا ، فلقيه قوم من كُتَّاب الروم ، فقال: اطلبوا المعيشة من غير
هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم.
فانظر هذا؛ تجد أنه لم يكن التعصب الديني مانعًا للعرب من جعل جميع
رجال الدين من الروم يكتبون بلغتهم ما شاءوا حتى أساءوا ، ووجد عبد الملك أنه
ينبغي للدولة العربية أن تكون دواوينها عربية ففعل. ولم يمنع ذلك غير المسلمين
أن يكونوا عمّالاً لهم بعد تعلم العربية ، ولا سيما في دولة بني العباس، بل كان مثل
إبراهيم الصابي يرتقي إلى أن يكون وزير القلم، ولسان الخليفة العباسي، وكم
ارتقى مثله من سائر الطوائف (راجع مقالات الإسلام والنصرانية في المجلد
الخامس) .
وإنك لتجد الكاتب مع تعصبه قد تفلت منه القلم، فأومأ إلى الفرق بين أول
عهد العرب وآخره، ولا شك أن أول عهدهم خير؛ لأنهم كانوا أشدّ تمسكًا بالإسلام
وعملاً به، وهذا يثبت أن الإسلام نفسه علّة للعدل؛ لأنه يأمر به. قال تعالى:
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة:
8) أي لا تحملنَّكم عداوة بعض الناس لكم على عدم العدل فيهم، بل اعدلوا مع العدو
وغيره.
(للرد بقية)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
تعدد الزوجات
(س20) نجيب أفندي قناوي أحد طلبة الطب في أمريكا: يسألني كثير من
أطباء الأمريكانيين وغيرهم عن الآية الشريفة {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ
مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: 3)، ويقولوا: كيف
يجمع المسلم بين أربع نسوة؟ فأجبتهم على مقدار ما فهمت من الآية مدافَعَةً عن
ديني، وقلت: إن العدل بين اثنتين مستحيل؛ لأنه عندما يتزوج الجديدة لا بد أن
يكره القديمة؛ فكيف يعدل بينهما؟ والله أمر بالعدل ، فالأحسن واحدة. هذا ما قلته،
وربما أقنعهم، ولكن أريد منكم التفسير وتوضيح هذه الآية، وما قولكم في الذين
يتزوجون ثنتين وثلاثًا؟
(ج) إن الجماهير من الإفرنج يرون مسألة تعدد الزوجات أكبر قادح في
الإسلام متأثرين بعاداتهم، وتقليدهم الديني، وغلوهم في تعظيم النساء بما يسمعون
ويعملون عن حال كثير من المسلمين الذين يتزوجون بعدة زوجات لمجرد التمتع
الحيواني من غير تقيد بما قيد القرآن به جواز ذلك، وبما يعطيه النظر من فساد
البيوت التي تتكون من زوج واحد وزوجات لهن أولاد يتحاسدون ويتنازعون
ويتباغضون. ولا يكفي مثل هذا النظر للحكم في مسألة اجتماعية كبرى كهذه المسألة
بل لا بد قبل الحكم من النظر في طبيعة الرجل، وطبيعة المرأة والنسبة بينهما من
حيث معنى الزوجية والغرض منها، وفي عدد الرجال والنساء في الأمم أيهما أكثر،
وفي مسألة المعيشة المنزلية، وكفالة الرجال للنساء أو العكس أواستقلال كل من
الزوجين بنفسه. وفي تاريخ النشوء البشري؛ ليعلم هل كان الناس في طور البداوة
يكتفون بأن يختص كل رجل بامرأة واحدة. وبعد هذا كله ينظر هل جعل القرآن
مسألة تعدد الزوجات أمرًا دينيًّا مطلوبًا، أم رخصة تباح للضرورة بشروط مضيق
فيها؟
أنتم معشر المشتغلين بالعلوم الطبيعية أعرف الناس بالفرق بين طبيعة الرجل
والمرأة، وأهم التباين بينهما. ومما نعلم بالإجمال أن الرجل بطبيعته أكثر طلبًا
للأنثى منها له، وإنه قلما يوجد رجل عنين لا يطلب النساء بطبيعته، ولكن يوجد
كثير من النساء اللاتي لا يطلبن الرجال بطبيعتهن، ولولا أن المرأة مغرمة بأن
تكون محبوبة من الرجل، وكثيرة التفكير في الحظوة عنده؛ لوجد في النساء من
الزاهدات في التزوج أضعاف ما يوجد الآن. وهذا الغرام في المرأة هو غير الميل
المتولد من داعية التناسل في الطبيعية فيها وفي الرجل، وهو الذي يحمل العجوز
والتي لا ترجو زواجًا على التزين بمثل ما تتزين به العذراء المُعْرِضة، والسبب
عندي في هذا معظمه اجتماعي، وهو ما ثبت في طبيعة النساء واعتقادهن القرون
الطويلة من الحاجة إلى حماية الرجال وكفالتهم، وكون عناية الرجل بالمرأة على
قدر حظوتها عنده وميله إليها، أحس النساء بهذا في الأجيال الفطرية؛ فعملن له
حتى صار ملكة موروثة فيهن، حتى إن المرأة لتبغض الرجل ويؤلمها مع ذلك أن
يعرض عنها، ويمتهنها، وإنهن ليألمن أن يرين رجلاً، ولو شيخًا كبيرًا أو راهبًا
متبتلاً، ولا يميل إلى النساء، ولا يخضع لسحرهن، ويستجيب لرقيتهن؛ ونتيجة
هذا أن داعية النسل في الرجل أقوى منها في المرأة فهذه مقدمة أُولى.
ثم إن الحكمة الإلهية في ميل كل من الزوجين الذكر والأنثى إلى الآخر الميل
الذي يدعو إلى الزواج، هو التناسل الذي يحفظ به النوع ، كما أن الحكمة في شهوة
التغذي هي حفظ الشخص، والمرأة تكون مستعدة للنسل نصف العمر الطبيعي
للإنسان وهو مائة سنة، وسبب ذلك أن قوة المرأة تَضْعُف عن الحمل بعد الخمسين
في الغالب فينقطع دم حيضها ، وبيوض التناسل من رحمها، والحكمة ظاهرة في
ذلك والأطباء أعلم بتفصيلها، فإذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من امرأة واحدة كان
نصف عمر الرجال الطبيعي في الأمة معطلاً من النسل الذي مقصود الزواج؛ إذا
فُرِض أن الرجل يقترن بمن تساويه في السن، وقد يضيع على بعض الرجال أكثر
من خمسين سنة إذا تزوج بمن هي أكبر منه، وعاشا العمر الطبيعي، كما يضيع
على بعضهم أقل من ذلك إذا تزوج بمن هي أصغر منه، وعلى كل حال يضيع
عليه شيء من عمره، حتى لو تزوج، وهو في سن الخمسين بمن هي في الخامسة
عشرة يضيع عليه شيء من خمس عشرة سنة. وما عساه يطرأ على الرجال من
مرض أو هِرَم عاجل أو مَوْت قبل بلوغ السن الطبيعي يطرأ مثله على النساء قبل
سن اليأس. وقد لاحظ هذا الفرق بعض حكماء الإفرنج فقال: لو تركنا رجلاً واحدًا
مع مائة امرأة سنة واحدة كاملة، فأكثر لجاز أن يكون لنا من نسله في السنة مائة
إنسان، وأما إذا تركنا مائة رجل مع امرأة واحدة سنة كاملة فأكثر ما يمكن أن يكون
لنا من نسلهم إنسان واحد، والأرجح أن هذه المرأة لا تنتج أحدًا لأن كل واحد من
الرجال يفسد حرث الآخر. ومن لاحظ عظم شأن كثرة النسل في سنة الطبيعة وفي
حال الأمم يظهر له عظم شأن هذا الفرق. فهذه مقدمة ثانية.
ثم إن المواليد من الإناث أكثر من الذكور في أكثر بقاع الأرض. وترى
الرجال على كونهم أقل من النساء يعرض لهم من الموت والاشتغال عن التزوج
أكثر مما يعرض للنساء، ومعظم ذلك في الجندية والحروب، وفي العجز عن القيام
بأعباء الزواج ونفقاته لأن ذلك يطلب منهم في أصل نظام الفطرة، وفيما جرت
عليه سنة الشعوب، والأمم إلا ما شذ، فإذا لم يبح للرجل المستعد للزواج أن
يتزوج بأكثر من واحدة؛ اضطرت الحال إلى تعطيل عدد كثير من النساء ومنعهن
من النسل الذي تطلبه الطبيعة والأمة منهن، وإلى إلزامهن بمجاهدة داعية النسل في
طبيعتهن وذلك يُحدث أمراضًا بدنية وعقلية كثيرة يمسي بها أولئك المسكينات عالة
على الأمة وَبَلاءً فيها ، بعد أن كُنَّ نعمة لها، أو إلى إباحة أعراضهن والرضى
بالسفاح وفي ذلك من المصائب عليهن - لا سيما إذا كن فقيرات - ما لا يرضى به
ذو إحساس بشري. وإنك لتجد هذه المصائب قد انتشرت في البلاد الإفرنجية،
حتى أعيا الناس أمرها وطفق أهل البحث ينظرون في طريق علاجها فظهر لبعضهم
أن العلاج الوحيد هو إباحة تعدد الزوجات. ومن العجائب أن ارتأى هذا الرأي
غير واحدة من كاتبات الإنكليز، وقد نقلنا ذلك عنهن في مقالة نشرت في المجلد
الرابع من المنار (تراجع في ص741) وإنما كان هذا عجيبًا؛ لأن النساء ينفرون
من هذا الأمر طبعًا، وهنَّ يحكمن بمقتضى الشعور والوجدان، أكثر مما يحكمن
بمقتضى المصلحة والبرهان، بل إن مسألة تعدد الزوجات صارت مسألة
وجدانية عند الرجال الإفرنج تبعًا لنسائهم، حتى لنجد الفيلسوف منهم لا يقدر أن
يبحث في فوائدها وفي وجه الحاجة إليها بحث بريء من الغرض طالبًا كشف
الحقيقة - فهذه مقدمة ثالثة.
وأنتقل بك من هذا إلى اكتناه حال المعيشة الزوجية، وأُشْرِفُ بِكَ على حكم
العقل والفطرة فيها، وهو أن الرجل يجب أن يكون هو الكافل للمرأة، وسيد
المنزل لقوة بدنه وعقله. وكونه أقدر على الكسب والدفاع، وهذا هو معنى قوله
تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا
مِنْ أَمْوَالِهِم} (النساء: 34) وأن المرأة يجب أن تكون مُدَبِّرة المنزل ومربِّية
الأولاد لرقتها وصبرها، وكونها كما قلنا من قبل واسطة في الإحساس والتعقل بين
الرجل والطفل؛ فيحسن أن تكون واسطة لنقل الطفل الذكر بالتدريج إلى الاستعداد
للرجوليَّة، ولجعل البنت كما يجب أن تكون من اللطف والدعة والاستعداد لعملها
الطبيعي، وإن شئت فقل في بيان هذه المسألة أن البيت مملكة صغرى كما أن
مجموع البيوت هو المملكة الكبرى ، فللمرأة في هذه المملكة إدارة نظارة الداخلية
والمعارف، وللرجل مع الرياسة العامة إدارة نظارات المالية والأشغال العمومية
والحربية والخارجية، وإذا كان من نظام الفطرة أن تكون المرأة في البيت، وعملها
محصورًا فيه لضعفها عن العمل الآخر بطبيعتها، وبما يعوقها من الحَبَل والولادة،
ومداراة الأطفال، وكانت بذلك عالة على الرجل، كان من الشطط تكليفها بالمعيشة
الاستقلالية، بله السيادة والقيام على الرجل. وإذا صح أن المرأة يجب أن تكون في
كفالة الرجل ، وأن الرجال قوَّامون على النساء كما هو ظاهر فماذا نعمل والنساء
أكثر من الرجال عددًا؟ ألا ينبغي أن يكون في نظام الاجتماع البشري أن يباح
للرجل الواحد كفالة عددة نساء عند الحاجة إلى ذلك لا سيما في أعقاب الحروب التي
تجتاح الرجال، وتدع النساء لا كافل للكثير منهن ولا نصير؟ ويزيد بعضهم على
هذا أن الرجل في خارج المنزل يتيسير له أن يستعين على أعماله بكثير من الناس،
ولكن المنزل لا يشتمل على غير أهله، وقد تمس الحاجة إلى مساعد للمرأة على
أعماله الكثيرة كما تقضي قواعد علم الاقتصاد في توزيع الأعمال، ولايمكن أن
يكون من يساعدها في البيت من الرجال، لما في ذلك من المفاسد فمن المصلحة على
هذا أن يكون في البيت عدة نساء مصلحتهن عمارته - كذا قال بعضهم - فهذه
مقدمة رابعة.
وإذا رجعت معي إلى البحث في تاريخ النشوء البشري في الزواج والبيوت
(العائلات) أو في الازدواج والإنتاج، نجد أن الرجل لم يكن في أمة من الأمم يكتفي
بامرأة واحدة كما هو شأن أكثر الحيوانات، وليس هذا بمحل لبيان السبب الطبيعي
في ذلك، بل ثبت بالبحث أن القبائل المتوحشة كان فيها النساء حقًّا مشاعًا للرجال
بحسب التراضي، وكانت الأمّ هي رئيسة البيت ، إذ الأب غير متعين في الغالب،
وكان كلما ارتقى الإنسان يشعر بضرر هذا الشيوع والاختلاط ، ويميل إلى
الاختصاص؛ فكان أول اختصاص في القبيلة أن يكون نساؤها لرجالها دون رجال
قبيلة أخرى، وما زالوا يرتقون حتى وصلوا إلى اختصاص الرجل الواحد بعدة نساء
من غير تقيد بعدد مُعين، بل حسب ما يتيسر له فانتقل بهذا تاريخ البيوت
(العائلات) إلى دور جديد، صار فيه الأب عمود النسب وأساس البيت كما بَيَّنَ ذلك
بعض علماء الألمان والإنكليز المتأخرين في كتب لهم في تاريخ البيوت (العائلات) ،
ومن هنا يزعم الإفرنج أن نهاية الارتقاء هو أن يختص الرجل الواحد بامرأة
واحدة وهو مُسَلَّم، وينبغي أن يكون هذا هو الأصل في البيوت، ولكن ماذا يقولون
في العوارض الطبيعية والاجتماعية التي تُلجئ إلى أن يكفل الرجل عدة من النساء
لمصلحتهن، ومصلحة الأمة، ولاستعداده الطبيعي لذلك؟ وليخبرونا: هل رضي
الرجال بهذا الاختصاص وقنعوا بالزواج الفردي في أمة من الأمم إلى اليوم؟ أيوجد
في أوربا في كل مائة ألفٍ رجلٌ لا يزني؟ كلا، إن الرجل بمقتضى طبيعته
وملكاته الوراثية لا يكتفي بامرأة واحدة؛ إذ المرأة لا تكون في كل وقت مستعدة
لغشيان الرجل إياها، كما أنها لا تكون في كل وقت مستعدة لثمرة هذا الغشيان
وفائدته، وهو النسل، فَدَاعية الغَشَيَان في الرجل لا تنحصر في وقت دون وقت،
ولكن قبوله من المرأة محصور في أوقات، وممنوع في غيرها. فالداعية الطبيعية
في المرأة لقبول الرجل إنما تكون مع اعتدال الفطرة عُقَيْب الطُّهر من الحيض،
وأما في حال الحيض، وحال الحمل والأثقال فتأبى طبيعتها ذلك، وأظن أنه لولا
توطين المرأة نفسها على إرضاء الرجل، والحظوة عنده، ولولا ما يحدثه التذكر
والتخيل للذة وقعت في إبانها من التعمل لاستعادتها - لا سيما مع تأثير التربية
والعادات العمومية - لكان النساء يأبَيْن الرجال في أكثر أيام الطُّهر التي يكن فيها
مستعدات للعلوق الذي هو مبدأ الإنتاج. ومن هذا التقرير يُعلم أن اكتفاء الرجل
بامرأة واحدة تستلزم أن يكون في أيام طويلة مندفعًا بطبيعته إلى الإفضاء إليها،
وهي غير مستعدة لقبوله، أظهرها أيام الحيض والإثقال بالحمل والنفاس، وأقلها
ظهور أيام الرضاع لا سيما الأولى والأيام الأخيرة من أيام طُهْرها، وقد يُنَازَع في
هذه لغلبة العادة فيها على الطبيعة.
وأما اكتفاء المرأة برجل واحد، فلا مانع منه
في طبيعتها ولا لمصلحة النسل ، بل هو الموافق لذلك؛ إذ لا تكون المرأة في حال
مستعدة فيها لملامسة الرجل، وهو غير مستعد ما داما في اعتدال مزاجهما، ولا
نذكر المرض؛ لأن الزوجين يستويان فيه، ومن حقوق الزوجية وآدابها أن يكون
لأحدهما شغل بتمريض الآخر في وقت مصابه عن السعي وراء لذَّته. وقد ذكر عن
بعض محققي الأوربيين أن تعدد الأزواج الذي وُجِدَ في بعض القبائل المتوحشة كان
سببه قلة البنات لوأد الرجال إياهنَّ في ذلك العصر - فهذه مقدمة خامسة.
بعد هذا كله أَجِلْ طرفك معي في تاريخ الأمة العربية قبل الإسلام؛ تجد أنها
كانت قد ارتقت إلى أن صار فيها الزواج الشرعي هو الأصل في تكوُّن البيوت،
وأن الرجل هو عمود البيت وأصل النسب ، وأن تعدد الزوجات لم يكن محدودًا
بعدد، ولا مقيدًا بشرط، وأن اختلاف عدة رجال إلى امرأة واحدة يعدُّ من الزنا
المذموم، وأن الزنا على كثرته يكاد يكون خاصًّا بالإماء، وقلما يأتيه الحرائر إلا
أن يأذن الرجل لامرأته بأن تستبضع من رجل يعجبها ابتغاء نجابة الولد ? وأن
الزنا لم يكن مَعِيبًا ولا عارًّا صدوره من الرجل، وإنما يعاب من حرائر النساء.
وقد حظر الإسلام الزنا على الرجال والنساء جميعًا حتى الإماء ، فكان من الصعب
جدًّا على الرجال قبول الإسلام والعمل به مع هذا الحجر بدون إباحة تعدد الزوجات،
ولولا ذلك لاستُبِيح الزنا في بلاد الإسلام، كما هو مباح في بلاد الإفرنج. فهذه مقدمة
سادسة.
ولا تنس مع العلم بهذه المسائل أن غاية الترقي في نظام الاجتماع وسعادة
البيوت (العائلات) أن يكون تكون البيت من زوجَيْن فقط، يعطي كل منها الآخر
ميثاقًا غليظًا على الحب والإخلاص والثقة والاختصاص ، حتى إذا ما رزقا أولادًا
كانت عنايتهما مُتّفقة على حسن تربيتهم ليكونوا قرة عين لهما ، ويكونا قدوة صالحة
لهم في الوفاق والوئام والحب والإخلاص - فهذه مقدمة سابعة.
فإذا أنعمت النظر في هذه المقدمات كلها، وعرفت أصلها؛ تنجلي لك هذه
النتيجة أو النتائج: هي أن الأصل في السعادة الزوجية، والحياة البيتية هو أن
يكون للرجل زوجة واحدة، وأن هذا غاية الارتقاء البشري في بابه والكمال الذي
ينبغي أن يربى الناس عليه ويقتنعوا به، وأنه قد يعرض له ما يحول دون أخذ
الناس كلهم به، وتمس الحاجة إلى كفالة الرجل الواحد أكثر من امرأة واحدة، وأن
ذلك قد يكون لمصلحة الأفراد من الرجال ، كأن يتزوج الرجل بامرأة عاقر فيضطر
إلى غيرها لأجل النسل، ويكون من مصلحتها أو مصلحتهما معًا أن لا يطلقها
وترضى بأن يتزوج بغيرها لا سيما؛ إذا كان ملكًا أو أميرًا أو تدخل المرأة في سن
اليأس ، ويرى الرجل أنه مستعد للإعقاب من غيرها، وهو قادر على القيام بأود
غير واحدة وكفاية أولاد كثيرين وتربيتهم، أو يرى أن المرأة الوحدة لا تكفي
لإحصانه؛ لأن مزاجه يدفعه إلى كثرة الإفضاء ومزاجها بالعكس ، أو أن تكون فاركًا
منشاصًا (أي تكره الزوج) أو يكون زمن حيضها طويلاً ينتهي إلى خمسة عشر
يومًا في الشهر، ويرى نفسه مضطرًا لأحد الأمرين التزوج بثانية، أو الزنا الذي
يضيع الدين والمال والصحة، ويكون شرًّا على الزوجة من ضم واحدة إليها مع
العدل بينهما كما هو شرط الإباحة في الإسلام ، ولذلك استبيح الزنا في البلاد التي
منع فيها التعدد بالمرة.
وقد يكون التعدد لمصلحة الأمة كأن تكثر فيها النساء كثرة فاحشة كما هو
الواقع في كل البلاد الإنكليزية ، أو تقع حرب مجتاحة تذهب بالألوف الكثيرة من
الرجال فيزيد عدد النساء زيادة فاحشة تضطرهن إلى الكسب والسعي في حاج
الطبيعة، ولا بضاعة لأكثرهن في الكسب إلا أبضاعهن. وإذا هن بذلنها فلا يخفى
على الناظر ما وراءها من الشقاء على المرأة لا كافل لها إذا اضطرت إلى القيام
بأود نفسها، وأود وَلَدْ ليس له والد، لا سيما عقيب الولادة ومدة الرضاعة، بل
الطفولية كلها. وما قال من قال من كاتبات الإنكليز بوجوب تعدد الزوجات إلا بعد
النظر في حال البنات اللواتي يشتغلن في المعامل وغيرها من الأماكن العمومية ،
وما يعرض لهنّ من هتك الأعراض والوقوع في الشقاء والبلاء، ولكن لَمَّا كانت
الأسباب التي تبيح تعدد الزوجات هي ضرورات تتقدر بقدرها، وكان الرجال إنما
يندفعون إلى هذا الأمر في الغالب إرضاء للشهوة لا عملاً بالمصلحة، وكان الكمال
الذي هو الأصل المطلوب عدم التعدد؛ جعل التعدد في الإسلام رخصةً لا واجبًا ولا
مندوبًا لذاته، وقيد بالشرط الذي نطقت به الآية الكريمة ، وأكدته تأكيدًا مكررًا
فتأملها.
قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ
النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى
أَلَاّ تَعُولُوا} (النساء: 3)
…
إلخ؛ فأنت ترى أن الكلام كان في حقوق الأيتام،
ولَمَّا كان في الناس من يتزوج باليتيمة الغنية ليتمع بمالها، ويهضم حقوقها لضعفها،
حذَّر الله من ذلك وقال: إن النساء أمامكم كثيرات ، فإذا لم تثقوا من أنفسكم
بالقسط في اليتامى إذا تزوجتم بهنّ فعليكم بغيرهنّ، فذكر مسألة التعدد بشرطها
ضمنًا لا استقلالاً، والإفرنج يظنون أنها مسألة من مهمات الدين في الإسلام ثم قال:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: 3)، ولم يكتف بذلك حتى قال: {ذَلِكَ
أَدْنَى أَلَاّ تَعُولُوا} (النساء: 3) أي أن الاكتفاء بواحدة أدنى وأقرب لعدم
العول، وهو الجور والميل إلى أحد الجانبين دون الآخر ، من عال الميزان إذا مال،
وهو الأرجح في تفسير الكلمة، فأكد أمر العدل، وجعل مجرد توقع الإنسان عدم
العدل من نفسه كافّ في المنع من التعدد، ولا يكاد يوجد أحد يتزوج بثانية لغير
حاجة وغرض صحيح يأمن الجور؛ لذلك كان لنا أن نحكم بأن الذّواقين الذين
يتزوجون كثيرًا لمجرد التنقل في التمتع يوطنون أنفسهم على ظلم الأُولَى، ومنهم
من يتزوج لأجل أن يغيظها ويهينها، ولا شك أن هذا محرم في الإسلام لِمَا فيه من
الظلم الذي هو خراب البيوت، بل وخراب الأمم، والناس عنه غافلون باتباع
أهوائهم.
هذا ما ظهر لنا الآن في الجواب، كتبناه بقلم العجلة على أننا كنا قد أرجأنا
الجواب لنمعن في المسألة، ونراجع كتابًا أو رسالة في موضوعها لأحد علماء
ألمانيا قيل لنا: إنها ترجمت وطبعت فلم يتيسر لنا ذلك فإن بقي في نفس السائل
شيء فليراجعنا فيه والله الموفق والمعين.
* * *
الأعطار الإفرنجية والكحول
طهارتها
(س21) أحمد أفندي عزمي بمصر:
الأستاذ يعلم أن أنواع الأعطار المستحضرة بمعامل أوربا شغلت حيزًا كبيرًا
جدًّا في ميدان التجارة. وعلى تلك النسبة شاع استعمالها بين العموم خصوصًا
العائلات، ولا أزيد الأستاذ علمًا بأني ربما جاورت في بعض صفوف الصلاة
رجالاً قد عمّ المسجد روائح ما بأجسامهم وملابسهم من تلك الأعطار، على أننا نعلم
من الفن ومن المشاهدة أن تلك المستحضرات جميعًا يدخلها الكؤول (إسبرتو) ،
ويقولون: إن الكؤول نجس بإجماع المذاهب الأربعة لتخمره، وهو ينتج نجاسة
كافة أنواع هذه الأعطار؛ فإذا صحّت هذه النتيجة تبعًا لصحة المقدمة تكون مصيبة
الأمة الإسلامية من ذلك عظيمة جدًّا، ولا غرابة في ذلك؛ إذا علمنا أن الطهارة
شرط في كثير من العبادات على أن الكل - يعني كل المسلمين - واقعون في
هذه المصيبة، وهم يظنون أنهم يحسنون صُنعًا.
فهل للأستاذ - حفظه الله للإسلام - أن يخوض هذا الموضوع، ويهدينا فيه
إلى سواء السبيل فإن كنا مصيبين ثبتنا على ما نحن عليه ، وإلا أعلنتم ذلك الخطأ
العام ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. والله يحفظكم لنا.
(ج) إن هذه الأعطار طاهرة، ومعاذ الله أن يجعل دين الفطرة الطَّيْب
قذارة، وقد بَيَّنَّا ذلك بالتفصيل في المجلد الرابع من المنار، وقد انتقد ذلك جاهل،
فرددنا عليه في نبذتَيْنِ عنوانهما (طهارة الكحول. والرد على ذي فضول)
فليراجع ذلك كله (في ص 500 و821 و 866)
* * *
حضور عبادة النصارى
(س 22) أ. ف. في أسيوط يقيم المبعوثون الأمريكانيون في مدارسهم
حفلة سنوية يلقي فيها التلامذة خطبًا علمية ومناظرات أدبية ، ويدعون لحضور
هذه الحفلة من شاءوا من المسلمين وغيرهم، ومن المعلوم أنهم في أول كل عمل
لهم صلاة دينية كالتي يقيمونها عند افتتاح الحفلة. وهذه الصلاة عبارة عن
دعاء يطلبون به من المسيح بصفته ابنًا لله وفاديًا للناس (نعوذ بالله) أن يبارك
الحفلة والمحتفلين. فهل يجوز للمسلمين إجابة هذه الدعوة، وحضور هذه الحفلة ?
وعند الصلاة يقفون جميعًا بهيئة هذه الصلاة، فهل يجوز قيام المسلمين معهم مجاراة
لهم؟ ثم إذا لم يقفوا، هل عليهم في سماع هذه الألفاظ وهذا الدعاء من حرج؟
أفتونا ولكم الفضل.
(ج) مجاراة المسلم لغير المسلم وتشبهه به في عمل من أعمال دينه
الخاصة به لا يجوز بحال، والمنصوص في كتب الفقه أنه يعتبر رِدَّةً، وخروجًا من
الإسلام إذا كان بحيث يشتبه بهم، ويظن أنه منهم، وأما مجرد رؤية صلاتهم ،
وسماع دعائهم من غير مشاركتهم فيه فلا يحرم، إلا على من يخشى عليه أن يميل
إلى دينهم من الأطفال ونحوهم، ودعاء غير الله شرك في الإسلام وإن كان ما
يدعى به خير، وقال الفقهاء: إن الرضى بالشرك شرك، ولكن ما كل متفرج
على شيء يرضى به، وما زال المسلمون في السلف والخلف يطَّلعون على عبادات
أهل الملل كلهم، ولم نعلم أن أحدًا من الأئمة حرّم ذلك، أو أنه ورد في الكتاب أو
السنة حظر له، وقد بلغنا أن بعض جُهّال المسلمين الذين يحضرون احتفالاتهم في
المدارس وغيرها يتشبّهون بهم في صلاتهم، ويجارونهم فيها ، ولكنّك لا تجد من
الذين دفعتهم الأهواء إلى تحريم ما أحل الله من طعام ولباس؛ لأنه تشبه بالنصارى
على زعمهم - وما التشبه في المباح بردَّة ولا مُحَرَّم إن فرض - لا ينكرون على
الجُهَّال عملهم هذا، ولا يقولون كلمة في نصيحتهم (وأهواء النفس ضروب) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(المنار في تونس)
كُتبَ في إحدى الجرائد الفرنسية التونسية مقالة لكاتب تونسي، جاء فيها أن
بعض المشايخ يخافون على نفوذهم أن يسقط إذا رسخت تعاليم المنار في نفوس
طلاّب العلم، وأنهم رأوا لذلك أن يقاوموه بالمحل والسعاية، وقد أكدت الجرائد
العربية أن هذا الخبر غير صحيح وهو المعقول؛ إذ لو أنكر أحد المشايخ شيئًا في
المنار لكتبوا إلينا؛ فإن النهي عن المنكر فرض ، ولا عذر لهم في السكوت عنه مع
تصريحنا مرارًا بأن من أنكر علينا شيئًا فإننا ننشر إنكاره، وقد فعلنا ذلك تكرارًا،
ولا يكفي في الإنكار على مجلة سيارة في الآفاق الانتقاد عليها أمام بعض الناس أو
تنفيرهم عن قراءتها مع بقاء المنكر ثابتًا منتشرًا، بل لا بد من اطلاع جميع القرّاء
على الانتقاد ودليله، فكل من ينتقد المنار في شيء خصوصًا أمر الدين وهو لم يكتب
بذلك؛ فهو فاسق بسكوته عن نهينا وإرشادنا ، والفاسق لا يقبل قوله المؤمنون.
***
(المناظر والمنار)
نحن نُجِلُّ المناظر ونعتقد إخلاصه في خدمة بلاده وبراءته من التعصب الذميم
ونحمد منه إطلاق حرية البحث للكُتَّاب وإن خالفوا رأيه، وإنما لُمْنَاه على نشر
مقالات (سوريا والإسلام) لأنها ضارة وهادمة لما يبني المناظر وغيره من بناء
التأليف بين أهل الوطن من حيث لا تثبت حقيقة. ولم نَلُمْه لأنها طعن في الإسلام
كما لم نلمه على نشر الرد على مقالات الإسلام والنصرانية مع علمنا بما فيها من
الخطأ ، فليتأمل الرصيف العادل في الفرق، ولانعهده إلا محبًّا للحق.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه الخامس والستون)
قولكم: قد صرّح الأئمة بجواز التقليد كما قال سفيان: (إذا رأيت الرجل
يعمل العمل وأنت ترى غيره فلا تتهمه) ، وقال محمد بن الحسن: (يجوز للعالم
تقليد من هو أعلم منه ، ولا يجوز له تقليد مثله) ، وقال الشافعي في غير موضع:
(قلته تقليدًا لعمر ، وقلته تقليدًا لعثمان ، وقلته تقليدًا لعطاء) .
جوابه من وجوه
(أحدها) أنكم إن ادّعيتم أن جميع العلماء صرّحوا بجواز التقليد، فدعوى
باطلة فقد ذكرنا من كلام الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في ذمّ التقليد وأهله
والنهي عنه ما فيه كفاية، وكانوا يسمّون المقلد (الإمعة) ، و (محقب دينه) كما
قال ابن مسعود: (الذي يحقب دينه الرجال) وكانوا يسمونه الأعمى الذي لا
بصيرة له، ويسمون المقلدين: (أتباع كل ناعق، يميليون مع كل صائح، لم
يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق) ، كما قال فيهم أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه في الجنة -، وكما سماه الشافعي (حاطب ليل) ،
ونهى عن تقليده وتقليد غيره، فجزاه الله عن الإسلام خيرًا، لقد نصح لله
ورسوله والمسلمين، ودعا إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأمر باتباعهما دون قوله،
وأمر بأن تعرض أقواله عليهما فيقبل منها ما وافقهما، ويرد ما خالفهما، نحن نناشد
المقلدين، هل حفظوا في ذلك وصيته وأطاعوه أم عصوه وخالفوه؟ وإن ادعيتم أن
من العلماء من جوز التقليد فكان ما رأى الثاني أن هؤلاء الذين حكيتم عنهم أنهم
جوّزوا التقليد لمن هو أعلم منهم من أعظم الناس رغبة عن التقليد، واتباعًا للحجة،
ومخالفة لمن هو أعلم منهم، فأنتم مقرون أن أبا حنيفة أعلم من محمد بن الحسن،
ومن أبي يوسف وخلافهما له معروف، وقد صح عن أبي يوسف أنه قال: (لا
يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا) .
(الثاني) إنكم منكرون أن يكون من قلّدتموه من الأئمة مقلّدًا لغيره أشد
الإنكار ، وقمتم وتقدمتم في قول الشافعي: (قلته تقليدًا لعمر ، وقلته تقليدًا لعثمان ،
وقلته تقليدًا لعطاء) ، واضطربتم في حمل كلامه على موافقة الاجتهاد أشد
الاضطراب ، وادعيتم أنه لم يقلد زيدًا في الفرائض، وإنما اجتهد فوافق اجتهاده
اجتهاده، ووقع الخاطر على الخاطر، حتى وافق اجتهاده في مسائل المعادة، حتى
في الأكدرية، وجاء الاجتهاد (حذو القذة بالقذة) فكيف نصبتموه مقلدًا ههنا؟ ولكن
هذا التناقض جاء من بركة التقليد، ولو اتبعتم العلم من حيث هو، واقتديتم بالدليل
وجعلتم الحجة إمامًا لما تناقضم هذا التناقض، وأعطيتم كل ذي حق حقه.
(الثالث) إن هذا من أكبر الحجج عليكم فإن الشافعي قد صرّح بتقليد عمر
وعثمان مع كونه من أئمة المجتهدين، وأنتم مع إقراركم بأنكم من المقلدين لا ترون
تقليد واحد من هؤلاء، بل إذا قال الشافعي، وقال عمر وعثمان وابن مسعود فضلاً
عن سعيد بن المسيب، وعطاء والحسن تركتم تقليد هؤلاء، وقلدتم الشافعي،
وهذا عين التناقض فخالفتموه من حيث زعمتم أنكم قلدتموه، فإن قلدتم الشافعي
فقلدوا من قلده الشافعي، فإن قلتم: بل قلدناهم فيما قلدهم فيه الشافعي، قيل: لم
يكن ذلك تقليدًا منكم لهم، بل تقليدًا له، وإلا فلو جاء عنهم خلاف قوله لم تلتفتوا
إلى أحد منهم.
(الرابع) إن من ذكرتم من الأئمة لم يقلدوا تقليدكم، ولا سوغوه ألبتة، بل
غاية ما نُقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة، لم يظفروا فيها بنص عن الله
ورسوله، ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلدوه، وهذا فعل أهل العلم
وهو الواجب، فإن التقليد إنما يباح للمضطر، وأما من عدل عن الكتاب والسنة
وأقوال الصحابة ، وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد؛ فهو كمن
عَدَلَ إلى الميْتة مع قدرته على المُذَكَّى، فإن الأصل أن لا يقبل قول الغير إلا بدليل
إلا عند الضرورة ، فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم.
(الوجه السادس والستون)
قولكم: قال الشافعي: رأي الصحابة لنا خير من رأينا لأنفسنا؛ جوابه من
وجوه:
أحدها: إنكم أول مخالف لقوله ، ولا ترون رأيهم لكم خيرًا من رأي الأئمة
لأنفسهم، بل تقولون: رأي الأئمة لأنفسهم خير لنا من رأي الصحابة لنا؛ فإذا
جاءت الفُتْيا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسادات الصحابة، وجاءت الفُتْيا
عن الشافعي وأبي حنيفة ومالك تركتم ما جاء عن الصحابة، وأخذتم ما أفتى به
الأئمة، فهلا كان رأي الصحابة لكم خيرًا من رأي الأئمة لكم لو نصحتم أنفسكم.
الثاني: إن هذا لا يوجب صحة تقليد من سوى الصحابة؛ لِما خصهم الله به
من العلم والفهم والفضل والفقه عن الله ورسوله، وشاهدوا الوحي والتلقي عن
الرسول بلا واسطة، ونزول الوحي بلغتهم وهي عَضَّة محضة لم تُشب
ومراجعتهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أشكل عليهم من القرآن
والسنة، حتى يجليه لهم، فمن له هذه المزية بعدهم؟ ومن شاركهم في هذه المنزلة
حتى يقلد كما يقلدون؟ فضلاً عن وجوب تقليده، وسقوط تقليدهم أو تحريمه كما
صرح به غلاتهم ، وتالله إن بَين علم الصحابة وعلم من قلدتموه من الفضل كما بيننا
وبينهم، وفي ذلك قال الشافعي في الرسالة القديمة بعد أن ذكرهم، وذكر من
تعظيمهم وفضلهم: (وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به
علم، وآراءهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا ، قال الشافعي: وقد أثنى الله على
الصحابة في القرآن والتوراة والانجيل، وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما
ليس لأحد بعدهم.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم (خير الناس قَرْنِي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق
شهادة أحدهم يمينه، ويمنيه شهادته) وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال:
قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسبّوا أصحابي فلو أن أحدكم
أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه) .
وقال ابن مسعود: (إن الله نظر في قلوب عباده فوجد قلب محمد خير قلوب
العباد، ثم نظر في قلوب الناس بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد
فاختارهم لصحبته، وجعلهم أنصار ووزراء نبيه، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند
الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح) .
وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتباع سنة خلفائه
الراشدين، وبالاقتداء بالخليفتين، وقال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا برسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابن
مسعود بالعلم، ودعا لابن عباس بأن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، وضمه
إليه مرة وقال: (اللهم علمه الحكمة) وناول عمر في المنام القدح الذي شرب منه،
حتى رأى الري يخرج من تحت أظفاره وأوله بالعلم، وأخبر أن القوم إن أطاعوا
أبا بكر وعمر يرشدوا، وأخبر لو كان بعده نبي لكان عمر، وأخبر أن الله جعل
الحق على لسانه وقلبه وقال: (رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد) يعني
عبد الله بن مسعود وفضائلهم ومناقبهم، وما خصهم الله به من العلم والفضل أكثر
من أن يذكر فهل يستوي تقليد هؤلاء ، وتقليد من بعدهم ممن لا يُدانيهم ولا
يقاربهم؟
الثالث: إنه لم يختلف المسلمون أنه ليس قول من قلّدتموه حجّة، وأكثر
العلماء بل الذي نصّ عليه من قلدتموه أن أقوال الصحابة يجب اتباعها، ويحرم
الخروج منها كما سيأتي حكاية ألفاظ الأئمة في ذلك، وأبلغهم فيه الشافعي، ونُبَيِّن
أنه لم يختلف مذهبه (أن قول الصحابي حجة) ونذكر نصوصه في الجديد على
ذلك إن شاء الله، وأن مَنْ حكى عنه قولَيْنِ في ذلك؛ فإنما حكى ذلك بلازم قوله لا
بصريحه وإذا كان قول الصحابي حجَّة فقبول قول حجة واجب مُتعيَّن، وقبول
قول من سواه أحسن أحواله أن يكون سائغًا، فقياس أحد القائلين على الآخر من
أفسد القياس وأبطله.
(الوجه السابع والستون)
قولكم: وقد جعل الله - سبحانه - في فِطَر العباد تقليد المتعلمين للمعلمين
والأستاذين في جميع الصنائع والعلوم إلى آخره، فجوابه أن هذا حقٌّ لا ينكره
عاقل، ولكن كيف يستلزم ذلك صحة التقليد في دين الله، وقبول قول المتبوع بغير
حجة توجب قبول قوله، وتقديم قوله على قول من هو أعلم منه؟ وترك الحجة
لقوله، وترك أقوال أهل العلم جميعًا من السلف والخلف لقوله ، فهل جعل الله ذلك
في فطرة أحد من العالمين؟ ثم يقال: بل الذي فطر الله عليه عباده طلب الحجة،
والدليل المثبت لقول المدعي، فذكر الله سبحانه في فِطَر الناس أنهم لا يقبلون قول
من لَمْ يُقم الدليل على صحة قوله، ولأجل ذلك أقام الله سبحانه البراهين القاطعة،
والحجج الساطعة، والأدلَّة الظاهرة، والآيات الباهرة على صدق رسله إقامة
للحجة وقطعًا للمعذرة، هذا وهم أصدق خلقه وأعلمهم وأبرهم وأكملهم، فأُتُوا
بالآيات والحجج والبراهين مع اعتراف أممهم لهم بأنهم أصدق الناس، فكيف
يقبل قول من عداهم بغير حجة توجب قبول قوله؟ والله تعالى إنما أوجب قبول
قولهم بعد قيام الحجة، وظهور الآيات المُسْتَلْزِمة لصحَّة دعواهم لِما جعل في
فِطر عباده من الانقياد للحجة وقبول صاحبها، وهذا أمر مشترك بين جميع أهل
الأرض مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، الانقياد للحجة، وتعظيم صاحبها وإن
خالفوه عنادًا وبغيًا، فلفوات أغراضهم بالانتقاد، ولقد أحسن القائل:
أَبِن وجه قول الحق في قلب سامع
…
ودعه فنور الحق يسري ويشرق
سيؤنسه رشدا وينسى نفاره
…
كما نسي التوثيق من هو مطلق
ففطرة الله وشرعه من أكبر الحجج على فرقة التقليد.
(الوجه الثامن والستون)
قولكم: إن الله سبحانه فاوت بين ذوي الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان،
فلا يليق بحكمته وعدله أن يعرض على كل أحد معرفة الحق بدليله في كل مسألة إلى
آخره ، فنحن لا ننكر ذلك، ولا ندّعي أن الله فرض على جميع خلقه معرفة الحق
بدليله في كل مسألة من مسائل الدِّين دِقَّه وجُلَّه، وإنما أنكرنا ما أنكره الأئمة ومن
تقدمهم من الصحابة والتابعين، وما حدث في الإسلام بعد انقضاء القرون الفاضلة
في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من
نصب رجل واحد، وجعل فتاويه بمنزلة نصوص الشارع، بل يقدمها عليه، ويقدم
قوله على أقوال من بعد رسول الله - صلى الله عليه آله وسلم - من جميع أمته
والاكتفاء بتقليده عن تلقي الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله، وهذا مع تضمنه للشهادة
بما لا يعلم الشاهد، والقول بلا علم والإخبار عمَّن خالفه، وإن كان أعلم منه أنه
غير مصيب للكتاب والسنة، ومتبوعي هو المصيب، أو يقول: كلاهما مصيب
للكتاب والسنة، وقد تعارضت أقوالهما ، فيجعل أدلة الكتاب والسنة متعارضة
متناقضة ، والله ورسوله يحكم بالشيء وضده في وقت واحد، ودينه تبع لآراء
الرجال، وليس له في نفس الأمر حكم مُعيَّن، فهو إما أن يسلك هذا المسلك أو
يخطِّئ من خالف متبوعه، ولا بد له من واحد من الأمرين، وهذا من بركة التقليد
عليه.
إذا عرف هذا فنحن إنما قلنا ونقول لك: إن الله تعالى أوجب على العباد
أن يتقوه بحسب استطاعتهم، وأصل التقوى معرفة ما يتقى ، ثم العمل به فالواجب
على كل عبد أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه، ثم
يلتزم طاعه الله ورسوله، وما خفي عليه فهو فيه أُسوة أمثاله ممن عدا الرسول،
فكل أحدٍ سواه قد خفي عليه بعض ما جاء به ولم يخرجه ذلك عن كونه من أهل
العلم، ولم يكلفه الله ما لا يطيق من معرفة الحق واتباعه.
قال أبوعمرو: (ليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا وقد
خفي عليه بعض أمره؛ فإذا أوجب الله سبحانه على كل أحد ما استطاعه وبَلَغته
قواه من معرفة الحق وعذره فيما خفي عليه منه فأخطأه أو قلّد فيه غيره - كان ذلك
هو مقتضى حكمته وعدله ورحمته ، بخلاف ما لو فرض على العباد تقليد من
شاءوا من العلماء، وأن يختار كل منهم رجلاً ينصبه معيارًا على وحيه ، ويُعْرِض
عن أخذ الأحكام واقتباسها من مشكاة الوحي، فإن هذا ينافي حكمته ورحمته
وإحسانه، ويؤدي إلى ضياع دينه وهجر كتابه وسنة رسوله كما وقع فيه من وقع)
وبالله التوفيق.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
التوارث مع اختلاف الدين
(س23) أحمد أفندي صبحي في (أشمون) : ما هو حكم شريعتنا الغرَّاء
في شخص كان مسيحيًّا فأسلم ثم توفي والده فهل يرثه أم لا؟
(ج) إنه لا توراث مع اختلاف الدين ومن المسلمين من يمتعض لمثل
حادثة السؤال ، ولكنهم إذا تنبّهوا إلى أن هذه المسألة من المعاملات التي تحكم فيها
الشريعة العادلة بالمساواة ، ولاحظوا أنه لا يرضيهم أن يرث الولد إذا تنصّر أو
تهود مثلاً من أبيه المسلم، يظهر لهم أيجب عليهم أن يرضوا بالعكس ويفتخروا
بشريعة المساواة والعدل؟
* * *
خلود الكافر في النار
(س24) محمد أفندي حلمي كاتب سجون (حلفا) : هل حقيقة أن الكافر
والنصراني يخلدون في النار أم كيف؟ اهـ بنصه
(ج) نطق القرآن العزيز بأن الكافرين والمنافقين يخلدون في النار ، وأكد
هذا في آيات ، وجاء في غيرها استثناء {إِلَاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} (هود: 107)
فأولوه بعدة وجوه كما أولوا إطلاق الخلود في جزاء القتل في قوله تعالى: {وَمَن
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} (النساء: 93) الآية ، قالوا: إن
المراد بالخلود طول المكث ، واستقر رأي المتكلمين على أن من بلغته دعوة نبيّنا
صلى الله عليه وسلم على وجه صحيح يحرك إلى النظر ، فلم يؤمن عنادًا للحق أو
جمودًا على تقليد آبائه وقومه، فهو خالد في الدار التي أعدها الله تعالى للكافرين
والمجرمين ، وأشهر أسمائها (النار) وإن لم تكن كلها نارًا ، بل فيها برد وزمهرير
كما ورد. واستثنوا من هذا الحكم من بلغته الدعوة فنظر فيها وبحث بجدٍّ وإخلاص
فلم يظهر له الحق ، ومات على ذلك غير مقصّر في النظر، فقالوا: إنه يعذر عند
الله تعالى لأنه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) .
* * *
إرم ذات العماد
(س 25) ومنه: ماهو تفسير {إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ} (الفجر: 7)
(ج) إرم في الآية عطف بيان لقوله (عاد) أو بدل منه في وجه ، والمعنى:
عاد التي هي إرم؛ أي: عاد الأُولَى وهي قبيلة عربيّة وفيها بعث الله هودًا عليه
السلام ، ولهم في وصفها بذات العماد أقوال منها: عن ابن عباس ومجاهد أن
المراد بالعماد: القدود الطوال ، وينقل أن طولهم كان يبلغ اثني عشر ذراعًا ولعله
مبالغة، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن المراد بذات العماد ذات الخيام التي
تقام على الأعمدة ، وكانوا أهل بادية وحلّ وترحال وهذا هو المتبادر. وقيل: ذات
العماد ذات الرفعة على الاستعارة وهو بعيد. وما في كتب القصص وبعض كتب
التفسير من أن إرم مدينة صفتها كيت وكيت فهو من خُرافات القَصَّاصين.
* * *
إحياء النبي للموتى
(س26) ومنه: موضح في الجزء الخامس من مجلة المنار (ص189 س
17) أن سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام أحيا ابن جابر ولم أجد ما يثبت لي ذلك ،
فأرجو تفصيل هذه العبارة.
(ج) يريد السائل الجزء الخامس من المجلد السادس ، والعبارة هناك خطأ ،
والصواب (شاة جابر) والحديث أخرجه أبو نعيم وفيه أنه صلى الله عليه وسلم
أحيا الشاة بعد ما طبخت وأكلت والحديث ضعيف ، وإنما ذكرناه هناك على سبيل
التمثيل ، وأخرج البيهقي في (الدلائل) أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم
وقال: لا أومن بك حتى تحيي لي ابنتي ، وفيه أنه جاء قبرها وسألها هل تحب
الرجوع إلى الدنيا فأجابته
…
إلخ، وهو كسابقه لا يصح له سند ، على أن نقل
هذه المعجزات هو أقوى مما ينقل أهل الكتاب وغيرهم عن أنبيائهم ، إذ لا أسانيد لهم
يعرف تاريخ رجالها، فيقال هذا سند صحيح أو ضعيف.
* * *
الحكمة في اختلاف الناس في الدين
(27)
حسين أفندي الجمل معاون البريد في (بورسعيد) : ما الحكمة في
خلق العالم مؤمنين وكفَّارًا؟ ولِمَ لَمْ يكونوا كلهم مؤمنين.
(ج) لم يخلق الله كافرًا قط ، بل كلٌّ مولود يولد على الفطرة ، فأبواه
يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كما ورد في الحديث، خلق الله تعالى هذا الإنسان
وأعطاه المشاعر والعقل، وجعله مستعدًّا لمعرفة الخير والشرّ، والحقّ والباطل
بنظره واستدلاله؛ ليجازى على كسبه وعمله، ويكون هو سبب سعادة نفسه أو
شقائها، ولو خلقه لا كسب له ولا إرادة ولا اختيار لكان إما ملكًا روحانيًّا أو حيوانًا
أعجمًا لا مؤمنًا ولا كافرًا ، فمن يريد أن يكون نوع الإنسان على غير ما هو عليه،
فهو يريد في الحقيقه عدم هذا النوع بالمرَّة.
* * *
إثبات استدارة الأرض ودورانها من القرآن
(س 28) ومنه: هل في القرآن الشريف ما يؤيد قول القائلين باستدارة
الأرض ودورانها حول الشمس؟
(ج) نعم إنهم يؤيدون هذه الدعوى بمثل قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى
النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5) فإن هذا يكون نصًّا صريحًا في
كروية الأرض؛ إذ به يتصور التفاف النور والظلام عليها ، وما أحسن هذا التعبير
وألطفه. ومثله قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف:
54) وهذا ظاهر في الدلالة على كرويّة الأرض أيضًا، ورأيت مختار باشا الغازي
- وهو من تعرف في البراعة بالعلوم الفلكية - يقول: إن هذا دليل قطعي على
الكروية وعلى دوران الأرض معًا، إذ لا يستقيم المعنى بدونهما ، على أنه ليس من
مقاصد الدين بيان حقائق المخلوقات وكيفيّاتها ، وإنما يذكر ذلك في القرآن للعبرة
والاستدلال على قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته.
أما كون حدوث الليل والنهار بسبب حركة الأرض فلا نعرف فيه نصًّا
صريحًا في القرآن ، ولكن يمكن أن يستنبط منه استنباطًا ، وفي كتاب (صفوة
الاعتبار) للشيخ محمد بيرم الخامس التونسي فصل في هذا الموضوع، تكلَّم فيه أولاً
على إثبات كروية الأرض بكلام الحكماء والفقهاء والصوفية والاستدلال عليه ببعض
الآيات القرآنية ، ثم ذكر خلاف الحكماء في سبب الليل والنهار، هل هو حركة
الأرض على محورها تحت الشمس ، أم حركة الشمس بفلكها حول الأرض؟ وأن
الثاني هو الذي كان مرجحًا عند المتقدمين ومنهم المسلمون ، ثم قال ما نصه:
(ثم أحيي المذهب الأول ، وتأكد الآن عند علماء العصر بهذا الفن ، وأنكره
المنتسبون للعلم من المسلمين، ظنًّا أن المذهب الأول من عقائد الإسلام ، وأن المذهب
الآخر مصادم للنصوص ، والحق أن ليس شيئًا من هذا ولا من ذلك هو مما يجب
اعتقاده عندنا ، وإنما المدار عندنا على الاعتبار بالآثار المشاهدة من الليل والنهار
وأشباه ذلك ، وإثبات جريان للشمس ، وأما كيفيته فلا تعلق لها بالعقائد ، وسير
الشمس على كلا المذهبين؛ لأن المتأخرين يثبتون لها حركة رحوية على نفسها ،
وحركة ثانية على منطقة لها أيضًا ، ثم حركة ثالثة لها مع جميع ما يتبعها من
الكواكب حول شيء مجهول كما أن هذه الدورة مجهولة المستقر أيضًا ، وكأنها
المشار إليها بقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} (يس: 38) وذلك أن (المستقر) أتى بلفظه مُنْكَرًا للإبهام فيفيد أنه غير معلوم للخلق ، ولهذا أُتِي به مضافًا إلى الشمس باللام فكان منكرًا ، ولم يقل: مستقرها
بالإضافة المفيدة للتعريف لأن ذلك المستقر غير معروف ، وعلماء هذا الفن الآن
من غير المسلمين مقرون بذلك ، فهو حينئذ دليل إجماعي بيننا وبينهم.
(ثم إن كون حدوث الليل والنهار هو من آثار دوران الأرض ربما كانت
آيات عزيزة تشير إليه ، فمنها الآية المتقدمة - يعنى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ
الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الرعد: 3) فإنه تعالى
بعد أن ذكر الدلائل على وجوده من السماء؛ أي: بقوله قبل هذه الآية: {اللَّهُ الَّذِي
رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (الرعد: 2) إلخ - ذكر الدلائل الأرضية ، وخرط فيها الليل والنهار، فيشير ذلك إلى
أنها آثار الأرض؛ لأن وجودهما وإن كان يستلزم الشمس والأرض معًا ، لكن
تخصيصه بالانخراط في الدلائل الأرضية يدل على تعلق خاصٍّ ، وهو كون
دورانها هو السبب على أن منطوق الآية فيه تدعيم لهذا، حيث قال: {يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَار} (الرعد: 3) فجعل الليل الذي هو ظلمة الأرض يغشى به النهار الذي
هو ضوء الشمس، ففيه تلميح إلى أن الأرض هي التي تحدث ذلك بفعل الله.
ومن الآيات المشيرة إلى ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَاّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} (الشمس: 1-4)
فجعل النهار الذي هو مقابلة وجه الأرض للشمس مجليًّا. والليل الذي هو الظلمة
الأصلية للأرض مُغشيًا لها (كان ينبغي أن يقول: غاشيًا لها) فأسند فاعلية ذلك
لغير الشمس ، بل لفاعل آخر هو الليل والنهار الذي هو من آثار الأرض. وإذا
كان هذا ثابتًا، فما يدل من الآيات على طلوع الشمس وغروبها وغير ذلك يمكن
تأويله باعتبار الأبصار والعرف الجاري في اللسان) اهـ، وهوحسن وأنت ترى
الذين يعتقدون بأن الأرض تدور على محورها فيكون الليل والنهار من ذلك يقولون:
طلعت الشمس وغربت ، ويقولون: غطست في البحر، وبينها وبين البحر مقدار
كذا.
* * *
مطالعة كتب الملل غير الإسلامية
(س 29) م. خ. في (تونس) : ما هو حكم الله فيمن يطالع الكتب
السماوية الأخرى مثل التوراة بقصد الإحاطة خبرًا بما جاء في غير شريعتنا ، وهل
كان النهي عن قراءتها عامًّا. إذا سلمنا ذلك تكون الشعوب غير الإسلامية ممتازة
على المسلمين بعدم منع أنفسهم إجالة النظر في القرآن الشريف، فيستفيدون مما جاء
فيه من الآيات البينات ، ويحتجّون به علينا به عند اللزوم ، ونحن لا نقدر أن
نقابلهم بالمثل؛ لأن كتبهم مغلقة في وجوهنا. أفيدونا بما علمكم الله من العلم ولكم
أجران أجر المفيد وأجر المصيب.
(ج) الأمور بمقاصدها ، فمن يطالع كتب الملل بقصد الاستعانة على تأييد
الحق وردّ شبهات المعترضين ونحوه وهو مستعد لذلك ، فهو عابد لله تعالى بهذه
المطالعة ، وإذا احتيج إلى ذلك؛ كان فرضًا لازمًا ، وما زال علماء الإسلام في
القديم والحديث يطلعون على كتب الملل ومقالاتهم ، ويردّون بما يستخرجونه منها
من الدلائل الإلزاميه ، وناهيك بمثل ابن حزم وابن تيمية في الغابرين وبرحمة الله
الهندي صاحب إظهار الحق في المتأخرين. أرأيت لو لم يقرأ هذا الرجل كتب
اليهود والنصارى، هل كان يقدر على ما قدر عليه من إلزامهم وقهرهم في المناظرة ،
ومن تأليف كتابه الذي أحبط دعاتَهُم في الهند وغير الهند، أرأيت لو لم يفعل ذلك
هو ولا غيره أما كان يأثم هو وجميع أهل العلم ، وهم يرون عوام المسلمين تأخذهم
الشبهات من كل ناحية ولا يدفعونها عنهم؟
نعم إنه ينبغي منع التلامذة والعوام من قراءة هذه الكتب لئلا تشوش عليهم
عقائدهم وأحكام دينهم، فيكونوا كالغراب الذي حاول أن يتعلم مشية الطاووس فنسي
مشيته ولم يتعلم مشية الحجل.
* * *
إخبار الإنسان بعمره
(س 30) ومنه: رأيت ببعض الكتب المعتمدة أن الشيخ محمد بن أبي بكر
ابن الحاج قاضي غرناطة سئل عن عمره فلم يجب قائلاً: إنه ليس من المروءة أن
يخبر الرجل بسنه كذا قال الإمام مالك اهـ، فلم أهتد لفائدة هذا الحظر الذي نسبه
لإمام دار الهجرة؛ لأنه يظهر بادئ بدء أن هذا القول مخالف لما هو مسطر بكتب
تراجم الرجال حيث نجد فيها أعمار الأعيان المترجم لهم ، ولا شك أن ذلك سرى
للمؤلفين بأحد وجهين إما بالتواتر والنقل عن أولئك الأعيان أنفسهم ، وإما بالوقوف
على تقييدات وقع العثور عليها بعد وفياتهم ، فإذا سلمنا أن ما نسب للإمام مالك
صحيح الرواية فلا يمكن تأويله إلا بأنه ليس من المروءة أن يقوم الإنسان خطيبًا
بين الناس مجاهرًا بعمره من دون أن يسأل عن ذلك؛ لأن صنيعه والحالة تلك يعد
ضربًا من الهذيان ، ولم يطالبه أحد بالتعريف بعمره. وأما إذا عكسنا النازلة
وفرضنا أن الرجل يسأله سائل عن سنه سيما إذا كان ذلك لمصلحة مثل إشهار
فضله وتعريف الناس به، فلا شبهة في أن النص المعزو لسيدنا مالك بن أنس لا
ينطبق على هاته الحال ، ولا يقال: إنه غير صاحب مروءة إذا أجاب سائله عن
سؤاله ، وأنت ترى أن تسجيل الأعمار بالبلاد الإفرنجية ضربة لازب على الذكر
والأنثى ، وأن مشاهير رجالهم معروفة أعمارهم ومرسومة تحت كل ورقة ، ولم
يضرهم ذلك شيئًا، ولم يحس أحد ثمن مروءتهم فما معنى هذا الحظر علينا حتى في
الجزئيات التي لا علقة لها بالدين مثل هاته ، أفتونا بما علمكم الله من العلم لا زلتم
محط رحال المستفيدين.
(ج) إن المسألة ليست من أمر الدين في شيء ، وإذا صحت الرواية عن
الإمام مالك فهو لا يقصد بها الحظر الشرعي بمعنى أنه يقول: إن إخبار الإنسان
بعمره محرم أو مكروه شرعًا، كلا إنها مسألة أدبية ، وكانوا لا يرون من الأدب ولا
من الذوق أن يسأل الانسان عن عمره أو عن ماله أو أن يخبر هو بذلك بغير سبب،
كما هو مذكور في كتب الأدب والمحاضرة ، ولا يزال كثير من الناس لا سيما
الشيوخ في البلاد الإسلامية على هذا الرأي أو الذوق ، ويختلف سببه باختلاف
الأشخاص ، ولعل الشيوخ يحبون أن يكونوا دائمًا على مقربة من عصر الشباب ،
وقلما يوجد شاب يحب أن يظن أن سنه أكثر مما هي في الواقع، إلا إذا توهم أن في
ذلك نقصًا من مهابته كأن يكون ذا منصب أصابه في سن الصبا ، ويرى أن الناس
لو علموا بسنه لاستكثروه عليه كما جرى للقاضي يحيى بن أكثم فقد نقل ابن خلكان
عن تاريخ بغداد للخطيب أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنه عشرون سنة
أو نحوها فاستصغره أهل البصرة ، فقالوا: كم سن القاضي؟ فعلم أنه قد استُصغِر
فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضيًا
على مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه
وسلم قاضيًا على اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قاضيًا على أهل البصرة. فجعل جوابه احتجاجًا، وجملة
القول أنهم كانوا لا يستحسنون أن يسأل المرء عن عمره أو ماله أو يخبر هو به ،
وما كانوا يقولون ذلك إلا لحاجة ، وأن الإحساس الذي كان عند الشيوخ فيما يظن
هو أن ذلك السن يستلزم تذكر الموت وقرب الرحيل ، وأما إحساس الشبان فهو ما
ذكرناه آنفًا من توهم الاستصغار، وهذا هو السبب في الاختلاف في تحديد أعمار
أكثر العلماء والعظماء ، وعدم الجزم بتاريخ مواليدهم وبناء تاريخهم على وفياتهم.
فإن قيل: إن الكاملين من الأئمة والفضلاء يجلون عن كتمان أعمارهم لمثل
هذا الإحساس. نقول: نعم ، ولكنهم يجارون من يعاشرون على ما يستحسنون
ويستقبحون ما لم يخل بالمصلحة كما قلتم؛ لأنه من آداب المعاشرة العامة ، والمروءة
تختلف باختلاف عرف الناس، ألا ترى أن أكثر أهل المشرق يرون كشف الرأس
في المحافل مخلاًّ بالمروءة ، ويرى عكس ذلك الإفرنج ومن قلّدهم في آدابهم.
* * *
علامات الاستفهام والتعجب وغيرهما في الكتابة العربية
(س31) ومنه: حصل لي توقف عند قراءة المنار الثاني من هذه السنة من
استعمال طابعه أو مصححه للعلامات الإصلاحية عند الإفرنج من نقطة الاستفهام
ونقطة التعجب وعلامة العطف إلخ، مع كون اللغة العربية غنية عن ذلك ،
وبالأخص منها القرآن المجيد الذي هو في أعلى درجات البيان كما لا يخفى ،
وتراكيبها تؤدي معنى الاستفهام والتعجب وكل ما يتخيله الفكر وينطق به اللسان ،
وأنكرت ذلك سيما وأنه لم يسبق له سابق بهذه المجلة البديعة ، فما الباعث على ذلك؟
نرجو الإفادة، وإن كانت بالجواز واعتبار تلك العلامات مثل علامات الرفع
والنصب والخفض والسكون المصطلح عليها عندنا ، فليكن الجواب بالبسط حتى
يزول ما وقع في النفس. وفي هذا المقام نقول: إني لم أفاتح أحدًا في شأن هذا
التوقف الذي حصل والذي لا ينبغي أن يفهم منه الاعتراض بل مجرد الاسترشاد.
(ج) قد عني المسلمون بكتابة القرآن عناية عظيمة فلم يكتفوا بوضع النقط
في منتهى آياته حتى زادوا على ذلك علامات الوقف والابتداء ، وجعلوا ذلك على
أقسام: الوقف التام والمطلق والجائز، والممنوع إلا لضرورة ضيق النفس. ووضع
لهذه الأقسام حروف تدل عليها كالميم والطاء والجيم ، و (لا) يكتبونها صغيرة في
موضع الوقف، وكان لقائل أن يقول: إن الله جعل القران سورًا ، وجعل السورة
آيات ، وجعل للآيات فواصل تعرف بها فهو غنيٌّ عن هذه المحسّنات ، ولكنهم لم
يقولوا ذلك ، بل أجمعوا على استحسان هذا التحسين في الكتابة الذي ينبه إلى
المعاني المفهومة بذاتها لأهل اللغة، لأنها في أعلى درج البيان. ولو وضعوا يومئذ
علامات أخرى لمقول القول يعرف بها متى يبتدئ وأين ينتهي ، وللاستفهام
والتعجب؛ لكانوا لها أشد استحسانًا فيما نظن، لأن إعانتها على الفَهْم ليست دون
إعانة علامات الوقف، فكثيرًا ما يأتي القول المحكي في القرآن من غير أن يتقدمه
قال وقالوا. وكثيرًا ما يشتبه على غير العالم النحرير انتهاء القول المحكي، كما ترى
المفسرين يختلفون في بعض الآيات هل هي من القول المحكي أم ابتداء كلام جديد.
وكذلك يجيء الاستفهام أحيانًا مع حذف أداته ، وكذلك التعجب والاستفهام أنواع
منه الحقيقي ومنه الإنكاري والتعجبي والتوبيخي ، فلو وضع لكل نوع منها علامة
لكان ذلك معينًا على الفهم بسهولة ، ولتقبله علماء السلف بأحسن قبول. ولكن
علماءنا لم يخطر ببالهم هذا أيامهم، بل يُقَدَّر كل تحسين وإصلاح قدره لعدم
الحاجة إليه كهذا الزمان.
ثم إنهم لم يستعملوا المحسنات التي وضعوها لكتابة القرآن في غيره مما لا
يدانيه في بيانه وسهولته ، وكان ينبغي تعميم هذا الإصلاح بأن توضع نقط في
أواخر الجمل التامة وعلامات وقف حيث يحسن الوقف في أثناء الكلام ، ولو فعلوا
ذلك لكان فيه ترغيب في قراءة الكتب وإعانة على الفهم ، بل أفسد المتأخرون ما
وضعه المتقدمون من الفصول في الكلام اقتداء بسور القرآن ، ومعنى هذا الفصل
أن يكون فارقًا يبن الكلامين ببياض في الطرس يبدأ بعده بالكلام الجديد ، ولعلهم
ظنوا ان لفظ الفصل هو المقصود ، فصاروا يكتبونه في وسط السطر ويبقى الكلام
به متصلاً في الكتابة بحيث لا يرى الناظر في الصحف إلا سوادًا في سواد ، وذلك
مما ينفِّر عن القراءة أو يقلل من النشاط فيها ، ولذلك لم يكتف علماؤنا بكون القرآن
مقسمًا إلى سور حتى قسّموه إلى أجزاء ، وقسموا كل جزء إلى أحزاب وأرباع ،
وجعل بعضهم لكل عشر آيات علامة ، والغرض من هذا كله التنشيط على القراءة.
فعلمنا من هذا أن كل ما يعين في الكتابة على فَهْم المعنى فهو حسن ، ومنها
علامات الاستفهام والتعجب التي سَبَقنا إليها الإفرنج فهم يضعونها وإن كان في
الكلام ما يدل على المقصود بدونها كما ترى في الإنكليزية ، فإن صيغة الخبر
عندهم مخالفة لصيغة الاستفهام ، وهم يضعون للاستفهام علامة مع هذا. وما في
المنار من هذه العلامات هو من وضع منشئه، فهو المحرر والمصحح ، وليس لغيره
في المنار عمل إلا ما كان من قول نسب إلى قائله بالتصريح أو الإشارة. وليس
هذا جديدًا فيه، وإنما تنبه إليه السائل في الجزء الذي ذكره ، ولو راجع المجلدات
الماضية؛ لوجد هذه العلامات وعلامات القول والحكاية (:: " ") وغير ذلك فيها ،
ولكنها لم تلتزم التزامًا في كل جملة. وهو يراها من المحسنات، لا سيما حيث يكون
في الكلام ما يقتضي التعجب من جهة المعنى ، وليس فيه صيغة التعجب ، وحيث
تكون الجملة أو الجمل المبدوءة بأداة الاستفهام طويلة يتوقع أن ينسى بعض القراء
في نهايتها أن القول كله موضع للاستفهام، وهو لم ير مانعًا من استعمال هذا
التحسين لا دينيًّا ولا غير ديني. وأما هذه العلامة (،) فنستعملها للسجع وما يشبهه
من الفصل يبن الجمل قبل تمام المعنى.
* * *
العمر الطبيعي
(س32) ومنه: أرجو الإفادة على صفحات المنار أيضًا عن عمر الإنسان
الطبيعي ، وهل يصح أن نعتقد مثلاً أن سلمان الفارسي عاش 350 سنة فضلاً عن
كون بعض أصحاب الطبقات يزعم أنه عاش أكثر من ذلك ، وبعضهم نقل أنه أدرك
المسيح فإن هذه المسألة هي مدار كلام أهل الأدب عندنا اليوم.
(ج) إن ما ذكرتموه عن عمر سلمان رضي الله عنه لم ينقل بسند صحيح
على سبيل الجزم ، وإنما قالوا: إنه (توفي سنة خمس وثلاثين في آخر خلافة
عثمان وقيل أول سنة ست وثلاثين ، وقيل توفي في خلافة عمر والأول أكثر. قال
العباس بن يزيد: قال أهل العلم: عاش سلمان 350 سنة فأما 250 فلا يشكون فيه.
قال أبو نعيم: (كان سلمان من المعمرين يقال: إنه أدرك عيسى ابن مريم وقرأ
الكتابين) اهـ من (أسد الغابة) فأنت ترى أن الرواية الأولى مشكوك فيها ، فما
بالك بالأخيرة المحكية ب (يقال) وهي أنه أدرك المسيح. وعباس بن يزيد
قال الدارقطني: تكملوا فيه. فقوله لا يؤخذ على غرة على أنه يجوز أن يعيش
الإنسان 250 سنة ، ولا يوجد دليل علمي يحدد العمر الذي يمكن أن يعيشه الإنسان
بحيث نقطع أنه يستحيل أكثر من ذلك. وقد نشر في المقتطف الذي صدر في صفر
سنة 1311ما نصه:
(إطالة العمر)
(بحث أحد العلماء في سبب الشيوخة فاستنج أنه إذا امتنع الانسان عن
الأطمعة التي تكثر فيها المواد الترابية ، وأكثر من أكل الفاكهة ذات العصار الكثير ،
وشرب كل يوم ثلاثة أكواب من الماء القراح في كل منها عشر نقط من الحامض
الفصفوريك المخفف لتذيب ما يرسب في عضلاته من أملاح الكلس (الجير) ؛ طال
عمره كثيرًا ، وقد يعمر حينئذ مائتي عام) اهـ.
فأنت ترى أن علماء العصر يجوزون أن يعيش الانسان مائتي سنة بالتدبير
الصحي وحسن المعيشة من غير أن تكون بنيته قد امتازت بقوة زائدة على المعتاد ،
وهم لا ينكرون أن بعض الناس يخلقون أحيانًا ممتعين بقوى خارقة للعادة ، وهؤلاء
يكونون مستعدين لعمر أطول إذا لم يفاجئهم القدر بما يقطع مدد الاستعداد. أما
العمر الطبيعي للإنسان الذي يرى الأطباء أنه خلق ليعيشه لولا ما يجنيه على نفسه
بالإفراط والتفريط فهو مائة سنة ، وذلك بالقياس على سائر الحيوانات؛ إذ ثبت لهم
بالاستقراء أن الحيوان يعيش ثلاثة أمثال الزمن الذي يتم نموه فيه. ولكن لا يكاد
يخلو قطر من الأقطار في عصر من الأعصار عن بعض الناس الذين يتجاوزون
المائة ، وقد ذكر بعض علماء أوربا في كتاب له أشخاصًا بلغوا نحو 170 سنة. أما
نوح عليه السلام، فالراجح أنه كان في عصر كانت فيه طبيعة الأرض وبنية
الإنسان، على غير ما هي عليه الآن، ثم تغيرت بالطوفان، وذهب بعض أهل
الكتاب إلى أن سنيهم لم تكن كسنينا ، بل كانوا يسمون الفصل سنة ، وحكت الكتب
السماوية خبرهم على اصطلاحهم، وهو يحتاج إلى نقل ، وتاريخ ذلك العصر
مجهول بالمرة فلا يعرف عنه شيء إلا بالوحي ، وما يفيده العلم الحديث من
اختلاف أطوار الأرض واختلاف حال الأحياء بحسب ذلك فلا نقيس طبيعتها
الحديثة وهي ما بعد الطوفان على طبيعتها قبل ذلك.
وجملة القول أن الذي قالوه عن اعتقاد في عمر سلمان رضي الله عنه هو
أنه 250 سنة ، ولكن الرواية فيه ليست بحيث يجزم بها ، ولا يوجد دليل علمي
يحمل على الجزم بكذبها فهي محتملة الصدق ، وغيرها ظاهر الكذب لا سيما القول
بكونه أدرك المسيح إذ لو كان كذلك لحدث عنه ، وتوفرت الدواعي على نقله عنه
ولم ينقل إلا ما ينافيه ، وهو أنه أخذ النصرانية قبيل الإسلام عن بعض القسوس
(راجع قصته في آخر المجلد الرابع من المنار) .
* * *
الصفا والمروة - تطهير المسعى
(س33) السيد علي الأمين الحسيني من علماء سوريا: لدى تشرفي بالحج
إلى بيت الله الحرام في سنة عشرين من المائة الرابعة بعد الألف من هجرة سيد
المرسلين صلى الله عليه وسلم، كان أكبر همي وقت السعي بين الصفا والمروة
التحفظ من القذرات الملوثة لكل ساع هناك مما ألقاه أهل الدكاكين والأسواق المكتنفة
بهذا المشعر الشريف ، ومما يعرض من دواب القوافل والمستطرقين فضلاً عن
الغبار الذي يثور في الأرض التي لم يجعل لها امتياز في التنظيف والرصف عن
سائر الأزقة كما هو حقها ، ومن المشقات التي تعرض هناك مدافعة القوافل للساعين
والاختلاط بهم الموجب لإيذائهم والخلل بأعمالهم وهيئتهم الشاغل عن توجه القلب ،
واستشعار الرقة والخشوع في هذا المشعر ، فكدت أقضي العجب من قلة الالتفات
لهذا الأمر وعدم الاهتمام فيه ، ولم أتحقق المانع من التحجير بين الفريقين بالفولاذ
أو الحديد وفرش المسعى بالرخام بل والبسط الفاخرة ، ودفع هذه المشقة عن
المتطوفين كما يصنع بالمساجد المشرفة والمشاهد المعظمة ، أَوَلَيْسَ ذلك من تعظيم
شعائر الله ، وهل هناك سر لعدم التفات أهل الثروة من مسلمي الآفاق الذين لم يخل
منهم عام لذلك وعدم تصديهم له؟ فإن لاح لكم شيء خال عن النقض ، وأفدتمونا
يكن لكم الفخر والأجر وإلا فإن نشرتم شيئًا نافعًا بذلك فهو المعهود من سجاياكم
ومساعيكم النافعة في الدين ولا زلتم مرجعًا للمسلمين آمين آمين.
(ج) حسبنا أن ننشر هذا التنبيه الذي ورد في صورة السؤال؛ لعل بعض
أهل الغيرة يسعى في تنظيف ذلك المكان وتطهيره ، وتسهيل القيام بشعيرة السعي
في ذلك الموضع الذي شرّف الله قدره بذكره من كتابه المجيد. وإننا لا نعرف سبب
إهمال العناية به ، ولم نره فنبدي رأينا فيما ينبغي عمله تفصيلاً ، فنسأل الله أن يمن
علينا ذلك.
_________
الكاتب: رفيق بك العظم
هذا أوان العبر
.. فهل نحن أحياء فنعتبر
رفيق العظم
إن كل ما يحيط بنا من أحوال الأمم، وأعمال البشر وآثار العقول، وثمار
العلم والعدل، ونتائج الجهل، وفضائح الظلم آيات للعبر، وبينات لا تحتاج في
الحكم إلى كثير نظر، يلمسها الأعمى بيده، ويراها البصير حتى في نفسه وبيته
وبلده وجواره، فالمرء في هذا العصر حيثما كان وأنَّى التفت وأينما اتجه؛ يرى
من آثار العبر ما يتعظ به العاقل، ويتنبه الغافل، أفليس من العجب أن يكون
المسلمون فاقدي الشعور بهذا المحيط غافلين عن تلك العبر يتعسفون في أخريات
الأمم، تعسف الخابط في ظلام الجهالة مع وضوح الطريق ووفور أسباب السلامة
والاهتداء.
ربما كان يقوم لهم العذر يوم؛ إذ كانت الأرض متنائية الأطراف متباعدة
الأقطار، تنشأ في قطر منها دولة وتدول أخرى، فلا يسمع أهل قطر آخر بما كان
فيه وما صار إليه إلا بما ينقله السفار بعد سنين عاريًا عن الحقيقة بعيدًا عن وجوه
العبر، فما عذرهم في هذا العصر؟ وقد تضامت أطراف الأرض بقوة البخار،
واتصلت أقطارها بعضها ببعض، بأسلاك البرق، وارتبط سكانها بروابط التعاون
والاتجار؛ فاختلطوا اختلاط الأمة الواحدة على بسيط واحد، وتعرف أهل كل قطر
أحوال القطر الآخر تعرف الجار بأمور جاره، فصار ما يحدث في أقصى الشرق في
الصباح يعلمه أهل المغرب في المساء، فَغَدَا المسلمون يلمسون آثار الأمم الأخرى
لمسًا، ويسمعون أخبارها يومًا فيومًا، وتساق إليهم العِبَر كل يوم سوقًا، ويرى كل
فرد منهم نتائج ترقي الأمم بعينه، ويشاهد آثارها حتى في مَلْبسه ومَأْكله ومَسْكنه،
ومع هذا فكأنما هم في واد والعالم في واد ، يرتقي غيرهم وينزلون، ويصعد سواهم
ويتدلون، فما علة هذا الخمود الشامل وإلى أية غاية هم صائرون.
أخذت الأمم أسباب العلم النافع، وشيدت صروح المدنية الحاضرة؛ فعظم
شأنُها، وتضاعفت قوتها، فانكفأت دولها على أرجاء الأرض تدوخ الممالك،
وتستأثر بالسيادة على الأرض إلا هذا الفريق العظيم من البشر وهم المسلمون فإنهم
أصبحوا طُعْمَة كل جائع، ومطمع كل طامع، تمزق ممالكهم الدول المسيحية،
وتستعبدهم الأمم الغربية، فلا تأخذهم نعرة الوطن ولا الدين ولا الجنس، ولا تنهض
بدولهم الغَيْرَة ولو على سيادتهم المطلقة في استعباد المسلمين، فالحاكم منهم والمحكوم
شقي مهضوم، والأمة كالفرد موجود في حكم المعدوم.
كل من أطلق عنان النظر على سكان الأرض يرى أن تنازع البقاء بين الأمم
قائمة حربه الآن بين أقسامهم الثلاثة الكبرى الذين إليهم ينتهي السلطان على أرجاء
الأرض وهم: المسلمون والمسيحيون والوثنيون - أتباع كونفوشيوس وبوذه -،
وقد كانت الدول المسيحية منذ تسلحت بسلاح العلم الجديد، وآنست من نفسها القدرة
على مكافحة دول الأرض، واندفعت للفتح والاستعمار لا ترى لها خصمًا قويًّا جبارًا
ينازعها الملك في أفريقيا وآسيا منازعة القرن للقرن، إلا المسلمين ولم تكن تحفل
بذلك القسم الآخر من الاثنين بل كانت تظنّ أن زلزال الساعة العظيم إنما يكون يوم
تخوض جيوشها عُبَاب الممالك الإسلامية، وتخطو أول خطوة لمناوأة دول الإسلام
فيصدها الإحجام تارة، ويسوقها الإقدام أخرى، حتى إذا مزقت حجاب الرهبة،
ومضت في وجهتها الاستعمارية بالخُدْعة تارة، والحرب أخرى انكشف لها من حال
المسلمين وضعف دولهم ما أزال ارتيابها من جهة ذلك الخصم الموهوم، ووطدت
عزيمتها على إتمام الرغبة، وإنجاح الطلبة، فبثت جنود العلم والقوة في أنحاء آسيا
وأفريقيا ، ورفعتا أعلام الفتح على أكثر ممالك الإسلام.
وصرفت تلك الدول عن الأذهان ذلك الوهم الذي كان سائدًا على ساستها من
جهة قوة المسلمين الذين نازعتهم الملك في كل بقعة من آسيا وأفريقيا فغلبتهم عليه ،
وإنما منعهن عن الإجهاز على البقية الباقية منهم تنازعهن على كيفية اقتسامها. ولم
يخطر لساسة تلك الدول يوم كانت ترهب جانب المسلمين أن الفريق الثالث الذي
ينتهي إليه السلطان أيضًا على قسم عظيم من الأرض، وهم أتباع كونفوشيوس وبوذه
أعظم خطرًا على الدول المسيحية من المسلمين وأشد لَدَادَة وخِصَامًا في موقف
النضال عن الحوزة والتنازع على الملك والسلطان، حتى قامت في هذه الآونة دولة
اليابان تناهض أعظم الدول المسيحية قوة وأضخمهن ملكًا وسطوة ، وتدافعها عن
حوزة الملك الموروث للجنس الأصفر منذ دحا الله الأرض، وجعل الصين على
رأي البوذيين منبت الإنسان ومهبط آدم أبي البشر، فأدهش تلك الدول ما أدهشها
من قوة العلم والمدنية التي تذرعت بها دولة اليابان لمزاحمة الدول المسيحية،
وصد غاراتها المتوالية على الممالك الشرقية على حداثة عهدها في قبول المدنية
الجديدة بجميع فنونها النافعة.
إذا تقرر هذا؛ عَلِمْنَا أن المسلمين أصبحوا في معمعان هذا التنازع العام
مغلوبين على أمرهم دون غيرهم ، وأن الأمم المسيحية والوثنية كادت تنفرد بالسيادة
على الأرض؛ لأن المدنية الحاضرة أصبحت بعلومها ومخترعاتها ملاك قوة الأمم،
ومادة حياة الدول، وليس للمسلمين حظ منها، ولا لأمرائهم نزوع إلى الأخذ بأسبابها،
ولا لدولهم رغبة ما في مجاراة أربابها. وحسبك شاهدًا لا يماري فيه العقل، ولا
يكذبه الحس ما صارت إليه الممالك الإسلامية المحكومة بدول إسلامية من التقهقر في
العمران، والتدلي في العلم والصناعة ، والضعف في القوة، والجبن في السياسة.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(رسائل أبي العلاء المعري وترجمته)
قد ولع الناس في القرون المتوسطة بحفظ الرسائل التي كانت تدور بين
الأدباء والكتاب ، ومن أحسنها رسائل أبي العلاء على قلتها، حفظوها في الكتاب
ونَسُوا مؤلفاته النافعة، حتى لا نكاد نجد منها غير دواوينه الشعرية ، وسبب ذلك
أن العلم كان قد أخذ في التدلي أو التولي فلا يُؤْثر منه إلا ما فيه لذة وفكاهة. وهذه
الرسائل على كونها أقل ما كتب الفيلسوف كما هي العادة، هي كنوز آداب ولطائف
لا يكاد يفهمها إلا من أوتي حظًّا من الاطلاع على اللغة العربية مفرداتها وأساليبها،
وسهمًا من تاريخها وأمثالها، ولعل الله تعالى أذن بفضله لهذه اللغة أن تنشط من
عقالها، وتستيقظ بعد طول سباتها، فأوحى لأنصار العلم أن يخدموها، وألهم رجال
المدنية أن يتدارسوها، فراجت بضاعتها في أسواق العلم في بلاده ، وأعني بها
المدارس الأوربية الكبرى ، وعمد القوم إخراج كنوزها، ونشرها بين الناس. ولا
أجهل أن غرض الأوربيين السياسيين الاستعانة بهذه اللغة على استعمار البلاد
العربية، ولكن العلم لا سياسة له ولا دين ، فمتى أخذ رجاله بطرف منه أخذوه بجد،
وخدموه بإصلاح ونصح، ولا يضرهم مع ذلك استفاد منه قومهم أم غير قومهم.
ومن الكتب التي عُنِي الأوربيون بترجمتها ونشرها بلسانهم ولسانها رسائل
أبي العلاء المعري، نقلها إلى الإنكليزية صاحبنا الدكتور مرجليوث الإنكليزي مدرس
اللغات الشرقية بمدرسة أوكسفورد الجامعة، وقد أهدانا نسخة منها مطبوعة باللغتين ،
وفي آخرها ترجمة أبي العلاء وفهارس تشير إلى ما في الرسائل من أسماء
الرجال والنساء والقبائل والحيوانات، وأسماء الأماكن والبلاد، والاصطلاحات
العروضية، وأسماء النجوم، لكلٍّ فهرس مرتب على حروف المعجم، وما أحسن
هذا الاصطلاح وأنفعه لو كنا نجري عليه في طبع كتبنا كما يجرون عليه فيها وفي
كتبهم بالأَوْلَى.
وأنت ترى أن نقل الكتاب من لغة إلى أخرى هو أصعب من تدريسه. وإنا
لنعلم أنه يقل في قراء العربية من أهلها من يقدر على تدريس هذه الرسائل ، فما
تقول في فضل أعجمي ينقلها إلى لغته. فنهنئ صاحبنا على عمله ، ونشكر له
هديته أجمل شكر.
أما ترجمة أبي العلاء فقد نقلها من تاريخ الذهبي ، وفيها أنه أخذ العربية عن
أهل بلده كبني كوثر وأصحاب ابن خالويه، ورحل إلى طرابلس فاستفاد من خزائن
كتبها ، وإنه كان قانعًا باليسير. له وقف يحصل له منه في العام نحو ثلاثين دينارًا
قدَّر منها لمن يخدمه النصف، وكان أكله العدس ، وحلاوته التين ، ولباسه القطن ،
وفراشه لبد ، وحصيره بورية. وكانت له نفس قوية لا يحمل منة أحد ، وإلا لو
تكسب بالشعر والمديح لكان ينال بذلك دنيا ورياسة، كذا قال الذهبي، ونحن نقول:
إنه لو لم يكن كذلك لما وجدنا في شعره من الفلسفة العالية والمدارك الدقيقة في نقد
العالم البشري ما نجد. ثم ذكر ما قيل في زندقته؛ لأنه التزم أن يذكر ما روي له
وعليه، وأورد بعض شعره الدَّال على شكِّه في الدين ، واعتراضه على الشرائع،
ثم نقل عن الحافظ السلفي في ضد ذلك ما نصه:
(ومما يدل على صحة عقيدته ما سمعت الخطيب حامد بن بختيار النميري
بالسمسمانية - مدينة بالخابور - قال: سمعت القاضي أبا المهذب عبد المنعم بن
أحمد السروجي يقول: سمعت أخي القاضي أبا الفتح يقول: دخلت على أبي العلاء
التنوخي بالمعرة ذات يوم في وقت خلوة بغير علم منه وكنت أتردد إليه، وأقرأ
عليه، فسمعته وهو ينشد من قبله:
كم غودرت غادة كعاب
…
وعمرت أمها العجوز
أحرزها الوالدان حرزًا
…
والقبر حرز لها حريز
يجوز أن تبطئ المنايا
…
والخلد في الدهر لا يجوز
ثم تأوه مرات وتلا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ
مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَاّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ
نَفْسٌ إِلَاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (هود: 103-105)
ثم صاح وبكا بكاءً شديدًا ، وطرح وجهه على الأرض زمانًا ، ثم رفع
رأسه ومسح وجهه فقال: سبحان مَنْ تكلم بهذا في القدم، سبحان مَنْ هذا كلامه،
فصبرت ساعة ثم سلمت عليه فرد ، فقال: متى أتيت؟ فقلت: الساعة. ثم قلت:
يا سيدي أرى في وجهك أثر غيظ. فقال: لا يا أبا الفتح، بل أنشدت شيئًا من كلام
المخلوق وتلوت شيئًا من كلام الخالق ، فلحقني ما ترى. فتحققت صحة دينه وقوة
يقينه) اهـ
ولعل تلك الخواطر الدالة على الإلحاد كانت في بداية أمره ثم رجع عنها على
أن أكثرها يحتمل التأويل، وإن لم يلتفت إلى ذلك المتشدقون من المرتابين في هذا
العصر.
* * *
(إلياذة هوميروس)
هوميروس كبير شعراء اليونان أشهر من نار على عَلَم ، وأشهر شعره ما
سُمي بالإلياذة ، وهو ما نظمه في وصف حرب قومه اليونان لطرواده، وقد
عنيت أمم العلم والأدب في القديم والحديث بنقل الإلياذة إلى لغاتها، إلا الذين أَحْيَوْا
جميع علوم اليونان بعد موتها ، وهم العرب، حتى قام في هذه الأيام سليمان
أفندي البستاني مؤلف دائرة المعارف العربية فعربها نظمًا. ثم إنه شرح النظم
فكان كتابًا حافلاً بالتاريخ والأدب، ووضع له مقدمة طويلة جمع فيها فصولاً في
تاريخ هوميروس مفصلاً، وفي الإلياذة ومكانتها في نفسها وعند الأمم ، وتفصيل
ما فيها من المعارف، وفي التعريب وأصوله، وفي النظم وبحوره وضروبه،
وفي الشعر وتاريخه وطبقات أهله في العرب، وفي الشعر العصري والملاحم،
وفي الشعر واللغة، وهي مقدمة مفيدة جدًّا تدل على غزارة علم المؤلف وحسن ذوقه
وسعة اطلاعه. ثم إنه وضع للكتاب معجمًا خاصًّا فَسَّر فيه غريبه، ومعجمًا آخر
للإلياذة جمع فيه ما فيها من الكلمات في الآلهة والمعاني والأعلام مشيرًا بالأرقام
إلى مواضعها من الصحائف. فالكتاب في مجموعه خزانة علم وأدب ،
وصفحاته 1258 وطبعه جميل جدًّا ، والشعر فيه مضبوط بالشكل الكامل.
* * *
(الاحتفال بمعرب الإلياذة)
نشر هذا الكتاب فتقبله أهل العلم والأدب بقبول حسن، بل أكبروا أمره
وبالغت الصحف في تقريظه، ثم تألفت لجنة من أدبائنا السوريين في القاهرة
فأولموا بالأمس وليمة في فندق شبرد احتفالاً بمُعَرِّب الإلياذة اجتمع على مائدتها نحو
مائة رجل من فضلاء القطرين المصري والسوري، وأُلقيت فيه الخطب العربية
والفرنسية واليونانية، وتُلي فيه ثلاثة كتب ممّن اعتذر عن عدم حضور الاحتفال،
أحدها من الأستاذ الإمام وكان آية الآيات ، وثانيها من الدكتور شميل ، وثالثها من
الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد.
ورأينا هؤلاء العلماء والأدباء حاضري الاحتفال متفقين على أن تعريب
الإلياذة من أجلِّ الخدم للغة العربية ، ومتعجبين من عدم سبق العرب إلى تعريبها في
أيام دولتهم العلمية؛ إذ عربوا كتب اليونان في جميع العلوم. وكان الدكتور يعقوب
أفندي صروف أول خطيب في الحفلة ، فجال في هذا المعنى جولة المؤرخ العالم،
وقال: إن السُّريان الذين كانوا يعربون الكتب اليونانية في أول الأمر للعرب قد
نقلوا الإلياذة إلى لغتهم دون اللغة العربية، ثم أطنب في وصف التعريب الجديد،
وما أضيف إليه من الفوائد، وانتقل إلى ذكر فضل المؤلف وفضل بيت البستاني
في خدمة العلم فبدأ يذكر عموده، وكبيره بطرس البستاني مؤسس دائرة المعارف
وصاحب الكتب والصحف الشهيرة فصفَّق له الحاضرون استحسانًا.
وتلاه بالخطابة كاتب هذه السطور ، فذكر معنى الاحتفال وفائدته ونسبة
الإلياذة إلى الشعر العربي وسبب إغفال العرب لها، بينت في هذا أن الروح الأدبي
يسبق في الأمم الروح العلمي والصناعي، فمتى سمت آداب الأمة ورق شعورها؛
تحس بحاجتها إلى العلم فتنبعث إليه وتبدأ بخدمة علم الأدب منه، فكان مقتضى هذه
القاعدة أن يبدأ العرب بنقل آداب اليونان قبل علومهم، ولكن العرب كانوا في غنى
عن هذه الإلياذة فما دونها من آداب اليونان؛ لأنه لا يكاد يوجد فيها شيء من
المعاني الشعرية والأدبية إلا وقد سبقوا إلى مثله أو خير منه، وفي شرح الإلياذة
العربية شواهد كثيرة على ذلك، والسبب فيه أن حال اليونان في حروبهم التي
يصفها هوميروس شبيه بحال العرب في بداوتهم وحروبهم، ولكن وثنيتهم تخالف
وثنية العرب. قلت: ويعلم السادة الحاضرون أن العرب لم يندفعوا إلى ترجمة
الكتب إلا بعد الدخول في الإسلام فقد كانوا قبله أُميين لا يعرفون الكتاب، فالإسلام
هو الذي ساقهم إلى طلب العلم والحكمة، فلما أرادوا ترجمة كتب اليونان للاستفادة
منها رأوا في آدابهم وأشعارهم العربية مثل ما عند أولئك وزيادة إلا ما كان من
الخرافات الدينية كأحوال الآلهة الكثيرين ، وهذا ما جاء الإسلام لمحوه لا لإحيائه
بعد موته، فكان إغفال العرب للإلياذة كإغفالهم لصناعة التصوير؛ لأن الصور
كانت في أيامهم خاصة بالشعائر الوثنية، فلما تغيرت الأحوال وأراد الله لهذه اللغة
أن تنهض نهضة جديدة أحس رجال الأدب بالحاجة إلى ماعند الأمم الأخرى من
الآداب ، وأقدمها وأشهرها الإلياذة ، فكان صديقنا البستاني هو السابق إلى توفية هذه
الحاجة؛ فقوبل بهذا الاستحسان العظيم.
وأما الاحتفال فقد بينت أنه شكرٌ لصاحب الأثر وتربية حسنة للأمة، فإن
أصحاب الاستعداد إذا رأوا أن خواص الأمة يقدرون الآثار العلمية والأدبية قدرها
فإن استعدادهم يظهر بالفعل، وتنتفع الأمة بمباراتهم في ذلك ، فقد قامت لجنة هذا
الاحتفال بشكر عالم خدم الأدب، فكأنها احتفلت بكل عالم وأديب، إذ يحس كل منهم
بأن له في هذا الاحتفال نصيبًا، والشكر مدعاة المزيد ومبعث الرغبة في العاملين،
وتركه سبب الإهمال ، فإن العالم الكامل وإن كان يتلذذ بالعلم ويحب الخير لذاته لا
تنبعث همته إلى إظهار الآثار النافعة إذا علم أن قومه لا يعرفون قيمتها ولا يقدرونها
قدرها؛ لأنه يرى ذلك من العبث. وما عساه يعمله تلذذًا به لا يجيء كاملاً كما إذا
كان يرجو أن يعرض عمله على أهل البصيرة والفضل فيَزِنُوه بميزانه، ويكافئوه
على قدر إحسانه، لهذا كان الشكر بطبيعته موجبًا للمزيد، بل إن الله تعالى وهو
الغني عن العالمين وذو الكمال المطلق قد جعل شكره سببًا للمزيد فقال: {لَئِن
شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُم} (إبراهيم: 7) فلا غرو أن يزيد صديقنا البستاني في خدمته
للعلم والأدب بسبب هذا الشكر الحسن الذي نقابله به.
هذا زبدة ما بيَّنه هذا العاجز في خطابه، وهو ما خطر له عند الكلام من غير
سابقة تفكر فيه. وقد أطنب بعض الخطباء في مدح الإلياذة نفسها وزعموا أنها
ستكون ترجمتها مبدأ انقلاب في الآداب العربية وفاتحة ترقٍّ عظيم فيها ، وهو
مبالغة ، والعربية أغنى من ذلك، ولو نظم الإلياذة غير البستاني فأحسن نظمها كما
أحسن؛ لما لقي من الشكر بعض ما لقي. ذلك أن صاحبنا في علمه الواسع، وأدبه
الرائع، وخدمته السابقة، وشجرته الباسقة، وما أضافه إلى النظم من الشرح
والمقدمات التي هي أكثر فائدة للمطالع، وخير مرجع للمراجع، قد هز أريحية
فضلا السوريين فكان منهم ما يجب أن يكون فيه أسوة حسنة لغيرهم ممن لا يقدرون
لعامل قدرًا، ولا يؤدُّون لمحسن شكرًا، فحيا الله البستاني وحيَّا الله السوريين؛ هذا
وإننا سنعود إلى الإلياذة فنختار منها مقاطيع نعرضها للقراء إن شاء الله تعالى.
وثمن النسخة من الإلياذة جنيه إنكليزي.
* * *
(الفلسفة اللغوية)
اتسع نطاق العلوم كلها لسانية وعقلية وعملية؛ فكثرت فروعها وتعددت
طرق تعليمها، وأهل الأزهر ومن على شاكلتهم من مقلدي الأموات على جمودهم
لا ينقصون من كتب مشايخهم، ولا يزيدون فيها حتى صرنا لا نرى شيئًا من
الإصلاح في العلوم العربية، حتى علوم اللغة إلا ممن تعلم في المدارس النظامية التي
أصبح زمامها بأيدي الإفرنج في كل قطر ، فبينما ترى جبر أفندي ضومط يؤلف
الكتب البديعة في البلاغة والنحو كالخواطر الحسان في المعاني والبيان، وفلسفة
البلاغة والخواطر العراب؛ إذا بجرجي أفندي زيدان يؤلف كتبًا في فلسفة اللغة
العربية وتاريخها وتاريخ التمدن الإسلامي. وقد كان ألف كتاب (الفلسفة اللغوية)
سنة 1886 م ونشره في بيروت ، وأعاد طبعه في هذه السنة مع زيادة فيه.
وموضوعه: (الأدلة اللغوية التحليلية على أن اللغة العربية مؤلفة في الأصل من
أصول قليلة ثنائية أحادية المقطع مأخوذ عن محاكاة الأصوات الخارجية والأصوات
الطبيعية التي ينطق بها الإنسان نطقًا غريزيًّا) فهو يبحث عن كيفية نشأة اللغة
وارتقائها. وهو بحث جليل أفرده الإفرنج بالتدوين، وأقاموه على قواعد علمية
استقرائية، وصفحات الكتاب 118 ، ولعلنا نوفق لمطالعته ونقده مساعدة لمؤلفه
على خدمة لغتنا الشريفة. وهو يطلب من مكتبة الهلال بالفجالة وثمنه عشرة قروش ،
وأجرة البريد قرش.
* * *
(الخواطر العراب)
كتاب جديد في النحو ألفه جبر أفندي ضومط أستاذ العلوم العربية في المدرسة
الكلية الأمريكانية ببيروت، وصاحب الخواطر الحسان، وفلسفة البلاغة. وضعه
بأسلوب تعليمي غاية في البسط ودقة البحث وحسن البيان، واستيفاء التقسيم وكثرة
التمثيل واختيار الأمثلة - يمثل بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والأمثال
الحكيمة والأشعار الرقيقة في الحِكَم والغزل وغيرهما ، فهكذا يكون التأليف لا سيما
في مثل هذا العصر الذي كثرت فيه العلوم والفنون، وعرف فيه الاقتصاد في
الوقت ، فصار الإنسان يبخل على فن النحو بالسنين الطويلة، ينفقها في مُدارسته ،
وهو من وسائل اللغة ، وما اللغات وفنونها إلا وسيلة للعلوم الحقيقية التي تبين
للناس كيفية الأعمال المعاشية وغيرها. وإنه ليسهل على المعلم البارع أن يدرس
هذا الكتاب في سنة واحدة وهو كاف في هذا الفن.
الكتاب تحت الطبع ، وقد تفضل صديقنا المؤلف بإرسال كراريسه إلينا تباعًا
لننتقدها، وقد تصفحنا بعض صفحاته فوجدناها تجل عن الانتقاد إلا ما لا يكاد يخلو
منه كتاب حديث كاستعمال بعض الألفاظ أو الجمل استعمالاً غير صحيح أو غير
فصيح.
* * *
(الإحاطة في أخبار غرناطة)
صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب طبعته شركة طبع الكتب العربية على
ورق جيد كالعادة، وهو كما علم القراء من تقريظ الجزء الأول تأليف الوزير محمد
لسان الدين بن الخطيب الشهير ، وأوله ترجمة محمد بن يوسف أمير المسلمين
بالأندلس لذلك العهد وآخره ترجمة محمد بن عبد الرحيم اللخمي ذي الوزارتين ،
والجزء كله في ترجمة المحمدين من حرف الميم وهو 303 صفحات، وروح لسان
الدين الشعر والأدب فهي فائضة في الكتاب، وكانت سوقه نافقة في الأندلس لعهده ،
وثمن الكتاب عشرة قروش صحيحة.
* * *
(مراثي الأمة القبطية)
صدرت النبذة الثانية من هذه النبذ التي يكتبها أحد شبان القبط في انتقاد رجال
ملته. وهذه النبذة في المدرسة الإكليركية - تاريخها ونظامها الإداري ومدرسيها
وثورتها، وهذا الانتقاد من جملة أمارات الحياة الكثيرة في هذه الطائفة المستيقظة ،
وقد أهديت لنا النسخة من بضعة أشهر ، وكنا أضللناها فنشكر لكاتبها غيرته الملية
ونرجو أن تكون نافعة لقومه.
* * *
(رسالة في أن العمل بالحقائق الدينية
عماد الارتقاء في الحياة الدينوية)
ألف هذه الرسالة السيد حسين كمال أفندي الشريف أودعها محاورة بينه وبين
أخيه السيد مصطفى فهمي أفندي الشريف في أسباب تأخر الأمة الإسلامية، وما
الذي يجب عليها في تلافي هذه الأسباب وقد قرأنا جملاً منها فإذا هي في الدعوة إلى
العمل بالكتاب والسنة الصحيحة، وترك كل ما سواهما من جهة الدين ، والبحث في
بعض المسائل الدينية كالأمر بالمعروف، ورجم الزاني ، وفيها إنكار على منصور
أفندي الشريف لأنه يكتب في مسائل دينية برأيه، وقال: إنه لم يتلق العلم عن أحد.
وفيها بحث في الفتوى الترنسفالية المشهورة - هذا ما ظهر لنا من تصفح معظم
صفحات الرسالة ولم نقرأ شيئًا من مباحثها بالتدقيق، وقد حمدنا من المؤلف هذه
المباحث.
* * *
(جرائد جديدة)
(المنعم) جريدة سياسية وطنية أسبوعية تصدر بالقاهرة محررها لطفي
عيروط المحامي بالاستئناف ومديرها سليم أفندي عيروط المحامي ، وقيمة الاشتراك
فيها ستون قرشًا مصريًّا، وقد صدر منها بضعة أعداد ، وكتب إلينا من إدارتها أنه
سيكتب في العدد الثامن مقالة مهمة في استعباد البلاد بالامتيازات، وأخرى مثلها في
خيانة المجلس البلدي في الإسكندرية فتوجه الأنظار إلى الجريدة وإلى المقالتين
بخصوصهما.
(الصواب) جريدة علمية سياسية أدبية تصدر في تونس يوم الجمعة من كل
أسبوع مديرها ومحررها (محمد الجعايبي) من كُتَّّاب التونسيين وأدبائهم، وقد
رأينا في الأعداد الأخيرة منها مقالات مفيدة في انتقاد الامتحان في جامع الزيتونة،
وما أحوج الأزهر إلى مثل هذا الانتقاد، وإننا لنشكر للحكومة التونسية إطلاق
الحرية للجرائد، وقيمة الاشتراك 8 فرنكات في البلاد التونسية و 10 في الجزائر
و13 في سائر الممالك.
(النادي) جريدة مدنية أدبية اجتماعية تصدر في القاهرة باللغتين العربية
والإيطالية صاحبها الدكتور أنريكو آنساباتو. ومما أخذه صاحبها على نفسه بيان
بعض مزايا الإسلام، ولا سيما مذهب التصوف وقد جعل قيمة الاشتراك في السنة
40 قرشًا في البلاد المصرية و 12 فرنكًا في غيرها ، فنتمنى له التوفيق والنجاح.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(لائحة المساجد)
جاء في (ع 7965) من جريدة الأهرام الصادر في 2 يونيو تحت هذا
العنوان ما نصه:
(أَبَنَّا في أعدادنا السالفة فائدة لائحة المساجد التي يعمر بها الأزهر، وتعمر
بها الجوامع، ويقام عماد الدين والعلم والأدب، وقلنا: إن معاداة هذه اللائحة والقيام
في وجهها هو عبارة عن معاداة صالح الأزهريين وتقدمهم والوقوف في وجههم.
ولقد اتفق بعض رصفائنا أمس على أن إنفاذ هذه اللائحة قد أُجِّلََ إلى العام المقبل؛
أي: حتى عودة رجال الحكومة من الإجازة ، فأخذنا نبحث عن سبب التأجيل فعرفنا
أن فضيلة القاضي الأكبر قدم عريضة إلى سمو الجناب الخديوي فيها يشكو من
بعض ما جاء في اللائحة، ويدعي أنه مخالف لشروط بعض الواقفين كأن يكون
بالمسجد مبخر وسقاء وكناس ، فاللائحة جمعت وظائف كثيرة في شخص واحد ،
فالمعية ترجمت شكوى فضيلة القاضي ، وأُرْسِلت هذه الترجمة إلى الوكالة
الإنكليزية، فأجابتها الوكالة أن الوقت قد انقضى وأن جناب اللورد لا يقدر على درس
الشكوى واللائحة، وأنه ينعم نظره فيها بعد عودته من الاصطياف فلهذا أجل الإنفاذ.
ولقد دُهِش العقلاء لهذا العمل؛ لأن المحتلين أعلنوا مرارًا وجهارًا أنهم لا
يتعرضون لأمر من أمور الدين ، فما الذي حمل المعية إذن على إرسال تلك اللائحة
إلى الوكالة الإنكليزية؟ ألا توجد في البلاد سلطة دينية عاقلة عالية تقدر على درس
اللائحة وتمحيصها؟ ولقد دار في جميع الأندية أن ذلك كله نتيجة التسابق لإرضاء
المحتلين فكما أن دولتلو رياض باشا جعل جناب اللورد كرومر صاحب المقام
الأرفع كذلك المعية أحالت على جنابه شكوى العلماء وشئون المساجد والجوامع،
فما أكبر حظ دولة تجد مثل هذا من أمة تحكمها وبلاد تحتلها، وما أعظم الفرق
الذي يجده الإنكليز بين كبار المصريين وكبار البوير فإذا كنا قد لمنا رياض باشا
على كلامه فإنا نحن نلوم المعية على فعلها ويقيننا أن الإنكليز أنفسهم يوافقوننا على
هذا اللوم.
(المنار)
حسب الناس من العبرة الكبرى بهذا الخبر الصادع أن يعرفوه ، وأننا لو أردنا
أن نبدي رأينا فيها لما استطعنا أن نقف عند الحد الذي تجيزه الرسوم المتبعة، وثم
عبرة أخرى وهي سكوت الجرائد اليومية التي تلقب بالإسلامية عن هذا، وبيان
الأهرام التي يصح أن نلقبها بجريدة الأمة له وسببه أنه جاء من قِبَل الأمير وحده،
وهو الذي يرضيها منه كل شيء ولو كان للنظار فيه رأي لقامت قيامة هذه
الجرائد وأكثرت الطعن واللعن، وحملت النظار وحدهم التبعة كما هي عادتها في
كل أمر يقوي نفوذ المحتلين مع أنه لم ينفذ شيء من ذلك إلا بأمر الأمير وهو وحده
كان القادر على معارضة الاحتلال بالحق وأوربا عضده ، وأما النظار فلا عضد
لهم إلا الأمير ، وهو الذي يقدر على عزلهم إذا خالفوا، ولا يقدرون على إلزامه إذا
وافقوا، فكل ما أخذه الإنكليز فمنه وعليه وعلى الأمة المسكينة التي أضاعها
أمراءها في كل زمان.
* * *
(قول رياض باشا - أوعبيد الكلام)
رُفِع العلم الإنكليزي بإذن الخديوي على السودان ، وخطب الأمير تحته مذعنًا
له فلم يؤثر في المصريين، وعقد الوفاق الإنكليزي الفرنسي بناء على دكريتو
خديويٍّ ، ومن لوازمه تأييد الاحتلال في مصر فلم يؤثر فيهم، ولونت خريطة
مصر في مدارس حكومتها بلون المستعمرات الإنكليزية فلم يؤثر فيهم. واستشار
الأميرُ اللورد في تعيين شيخ الأزهر فلم يؤثر فيهم، ووُكِّل إلى اللورد النظر في
لائحة المساجد وأئمة الصلاة فلم يؤثر فيهم، ويقول اللورد كرومر جهرًا: إنه هو
المسئول عن إدارة هذه البلاد فلا يؤثر فيهم، وقال رياض باشا بخطبته في احتفال
تأسيس مدرسة محمد علي الصناعية: إن اللورد هو صاحب النفوذ الشامل والمقام
الأرفع، ورغب إليه في معاهدة المدرسة حتى تبلغ أشدها فقام أحداث الوطنية
يلغطون في ذلك ، ويعدُّونه حادثًا جللاً فانظر على ما يسكتون، وبماذا يلغطون؟
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
دعوى الشعراني
أنه أعطي أن يقول للشيء كن فيكون
أو دعوى الأولياء الألوهية
(س34) الشيخ قاسم محمد غدير في (أسيوط) : ما تقولون في معنى
قول الشعراني: مما منَّ الله به عليَّ أن أعطاني قول (كن) فلو قلت لجبل: كن
ذهبًا لكان: إلخ.
(ج) إن الإيجاد والتصرف في الأشياء بمقتضى الإرادة المعبر عنها بكلمة
(كن) هو خاص بخالق العالم ومدبره يستحيل أن يكون لغيره ، وما كان مستحيلاً فلا
تتعلق قدرة الله به فيقال بجواز إعطائه لغيره كما هو مقرر في علم الكلام فلا يقال:
إن الله تعالى قادر على أن يجعل معه إلهًا آخر ، فإن القدرة لا تتعلق إلا بالممكنات
وهذا مُحالٌ ، ومن يعتقد أن أحدًا غير الله يفعل ما شاء ، ويوجد ويعدم ، ويقلب
الأعيان بقول كن؛ فلا شك في كفره الصريح وشركه القبيح ، واذا أحسنا الظن
بالشيخ الشعراني؛ فإننا نقول: إن هذه الكلمة مدسوسة عليه ، فقد صرح هو في
بعض كتبه كاليواقيت بأنهم كانوا يدسون عليه في زمنه. على أن كتبه المشهورة
المتداولة طافحة بالخرافات والدعاوى التي ينكرها الشرع والعقل ، وهي أضر على
المسلمين من غيرها من الكتب الضارة المنسوبة إلى المسلمين وإلى غير المسلمين.
وقد كنت من أيام أجادل بعض البابيَّة وأبين لهم فساد دينهم الجديد فقال أحدهم: ما
تقول في الشعراني؟ فعلمت أنه يريد أن يحتج بما في بعض كتبه من أن المهدي
يأتي عكا وما يقوله في (مأدبة الله بمرج عكا) فإن البابية يحملون ذلك على البهاء
الذي نشر دينه وهو في عكا ومات ، فقلت له: إن كلام الشعراني - أي الذي انفرد
به - عندي كالشيء اللقا لا قيمة له ، والكتب المنسوبة إليه هي العمدة في الإضلال
المنتشر بين المصريين في الأولياء لاسيما في السيد البدوي فإنها مرغبة في موالده
التي هو قرارة المنكرات والمعاصي إلخ.
وإنني لأعلم أنه لا يزال في قراء المنار على استنارتهم من يعظم عليه وقع
الإنكار على كتب الشعراني ، وإن كان الغرض منه تنزيه الله تعالى ، فإن الذين
أشربت قلوبهم عقائد الوثنية يعظمون المشهورين من الذين يسمونهم أولياء أكثر مما
يعظمون الله تعالى ، ويُسَرُّون أن يوصف أولياؤهم بصفات الألوهية ، ويرون من
الضلال أو الكفر أن يقال: إنهم بشر لا يمتازون على غيرهم بما هو فوق
خصائص البشرية ، وأن ما وفق له الصالحون من العمل الصالح فإنما هو عمل
كسبي يقدر غيرهم على الإتيان بمثله بهداية الله وتوفيقه. وإن الفتنة في الدعوى
المسئول عنها أكبر من الفتنة بكل كلام أهل الكفر والإضلال إذ لا يخشى من قول
عابد الصنم: إن صنمي إله أن يفتتن به المسلم كما يخشى على عامة المسلمين ،
وكثير من المقلدين الذين يسمون علماء وخاصة من كلمة الشعراني؛ لأن هؤلاء
يأخذون هذه الكلمة بالتسليم بناءً على أنها من باب الكرامات التي ليس لها حد عندهم ،
ومتى سلموا بها جزموا بأن مثل هذا الولي يفعل ما يشاء فيصرفون قلوبهم إليه
ويطلبون حوائجهم منه؛ فيكونون قد اتخذوه إلهًا باعتقادهم أنه يقول للشيء كن
فيكون ، وقد عبدوه بدعائه والاعتماد عليه ، وهم مع هذا كله يغشون أنفسهم بأنهم لا
يسمونه إلهًا وإنما يسمونه وليًّا كأن الأسماء هي التي تميز الحقائق دون العقائد
والأعمال القلبية والبدنية. وإنني أذكرهم بأن المشركين كانوا يسمون معبوداتهم
أولياء ويعتقدون أنهم شفعاء ، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا
نَعْبُدُهُمْ إلا َّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفى} (الزمر: 3)، وقال: إنهم يعبدونهم {
وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) وقد بينا لهم الحق لم نخف فيه
لومة لائم فليضربوا بكلام الشعراني عرض الحائط إن كان كل ما في كتبه كلامه أو
ليحسنوا الظن به كما قلنا أولاً ، ويحكموا بأن هذه الكتب مملوءة بالدسائس عليه ،
فلا يعتمد عليها ولا تتخذ حجة عليه ، وهذا هو الأسلم فنبرئه ولا نبرئها ، وندعو له
بالرحمة ونطرحها مكتفين بهدي الكتاب والسنة فمن تمسك بهما نجا ، وما تنكب
عنهما هلك ، واعْلَمْ أن أعظم ما يغش الناس بقبول كل ما ينسب للأولياء
والصالحين أمران: أحدهما وقوع بعض الأمور الغريبة على أيديهم أو في إثر
الالتجاء إليهم ، وقد بينا طرق تأويل ذلك وكشف الحق فيه في مقالات الكرامات
والخوارق من المجلد الماضي ، وسنزيدها بيانًا. وثانيهما: تسليم بعض الشيوخ
المعروفين بالعلم أو الصلاح بذلك.
* * *
واقعة غريبة في الموضوع
رأى في هذه الأيام رجل موحد صديقًا له من القضاة الشرعيين في المسجد
الحسيني يتضرع ويشكو لسيدنا الحسين عليه السلام ، ويطلب منه قضاء حاجاته
من غير أن يذكرها بالتفصيل اكتفاءً بأنه رضي الله عنه يعرفها لأنه مطلع على
أحوال العالم كله ، ولذلك كان يقول له في كلامه ما يقوله غيره من العامة: الشكوى
لأهل البصيرة عيب. فقال له الموحد: إن هذا الذي أنت فيه شرك بالله تعالى ،
وإن أحكامك الشرعية غير صحيحة مع اعتقادك وعملك هذا ، وبعد جدال اتفقا على
أن يتحاكما إلى عالم في الأزهر هو من أشهر أهله في مصر بالعلم والصلاح
فقصا عليه خبرهما ، وشرح له الموحد عقيدته فسأله الشيخ عن أستاذه الذي يحضر
عليه! ! فقال: ليس لي أستاذ وإنما الكلام في العقائد لا في الأشخاص. فسأل
القاضي عن صحة ما نسبه إليه ، فقال له: نعم هذا الذي لقينا عليه مشايخنا ،
ومنهم فلان الصالح الشهير. فقال الشيخ للموحد: إن عقيدتك يا بني هي الشرع إذ
لا يوجد فيه شيء مما عليه الناس، فإذا لم تعتقد بأن أحدًا من الأولياء يضر أو ينفع
فإن ذلك لا يضرك ، ولكن لا تتغال فتطعن فيهم؛ إذ يخشى عليك حينئذ ، ولا يضرك
أيضًا أن تعتقد كما يعتقد القاضي فإن بعض علمائنا الشافعية الذين لا نستطيع أن
ننكر عليهم أو نشك في فضلهم قد أثبتوا للأولياء تصرفًا! ! فقال الموحد: إن
الأمر في اعتقادي القطعي الذي أَلْقَى اللهَ عليه هو دائر في هذه المسألة بين التوحيد
والشرك ، فأنا أعتقد أنه لا ضار ولا نافع إلا الله ، وأن نبينا عليه الصلاة والسلام
قد جاءنا بالهداية عن الله تعالى ، ولم يكن له من الأمر شيء ، وإنما عليه التبليغ
وقد بلغ رسالة ربه (وانتهت مأموريته) فقبضه الله إليه ، والقاضي يقول: إن
للأولياء الميتين ديوانًا ، وإنهم هم المتصرفون في الكون ، فكل ما يجري فيه فإنما
يجري بتصرفهم، وهذا نقيض اعتقادي. فقال له الشيخ: إنك قلت أولاً: إنك
لقيت القاضي في المسجد الحسيني فماذا كنت تفعل هناك؟ قال: أزور سيدنا
الحسين. قال: ولماذا؟ قال: لأن زيارة القبور مسنونة للاعتبار ، ولأن سيدنا
الحسين رجل عظيم من أولاد الرسول الذي جاءتنا الهداية على لسانه بذل دمه في
سيبل نصرة الدين وإزالة الظلم ، فأنا بزيارته أزداد اعتبارًا وأدعو له بالرحمة
اعترافًا بفضله. قال الشيخ: قلت لك: إن اعتقادك شرعي ، ولكن لا تنكر على
القاضي وغيره ، فإن شيخنا فلانًا كان يرسلني في أول حضوري عليه إلى سيدنا
الحسين في حال شدته (أو قال: مرضه ، لا أدري) ويأمرني أن أقول له: العادة
ياسيدنا الحسين. فيحصل له خير (أو قال غير ذلك النسيان مني) فانظر أيها
القارىء؛ تجد العالم يعترف بأن كذا هو الدين والشرع ، ثم يقر على مخالفته
اعتمادًا على أن بعض مشايخه المقلدين كانوا يقرون ذلك ، وهو يحسن الظن بهم،
وأعجب من هذا أن الناس الذين يسلمون بأن أمر الشعراني إذا أراد شيئًا أن يقول
له: كن فيكون لا ينافي الدين فلا يعترضون عليه ، بل يعترضون على ابن تيمية
إذ يقول: لا إله له التصرف إلا الله ، ولا دين إلا ما جاء في كتاب الله وسنة
رسوله. فهكذا يفعل التقليد لا يبقي عقيدة ولا دينًا ولا حجة فيه إلا الإذعان للأشخاص
الذين لا عصمة لهم من الجهل ولا من الخطأ ، وإلا حكايات ووقائع غريبة ينقل مثلها
عن جميع الملل. وكثيرًا ما يكون هؤلاء المعتقدون بتصرف الأموات من أهل
العبادة والزهد والإخلاص بحسب تقاليدهم ، ولذلك يُغَشُّ الآخرون بهم {وَخُلِقَ
الإِنسَانُ ضَعِيفاً} (النساء: 28) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
إدخالُ السعديةِ الدبابيسَ
في أشداقهم
(س35) ومنه: كنتم قلتم في تضارب السعدية بالسيوف: إن ذلك لعبة
عادية ، فما تقولون في إدخال الدبابيس في أشداقهم من غير ضرر؟ .
(ج) إن هذا هزل ولا يدخل منه شيء في الدين ، إذ الدين جدٌّ لا لهو فيه
ولا لعب ، ولا يُدْخِل هذه الأعمال في الدين إلا {ِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً
وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام: 70) أما التعود على هذه الأشياء والحيل فيها فلا
يعرفها إلا من زاولها ، ومن المشعوذين في أوربا وغيرها من يفعل أعظم من ذلك.
* * *
حروف الكتابة
احترامها
(س36) ومنه: هل كل مكتوب محترم لا يجوز إلقاؤه أم ذلك خاص بما
احتوى على لفظ شريف؟ وهل غير العربي مثله في ذلك؟
(ج) ذهب الشافعية إلى أنه يجب احترام الأسماء المعظمة المكتوبة كأسماء
الله وأنبيائه كاحترام كلام الله تعالى ، فلا يجوز أن تلقى حيث تداس مثلاً أو أن
يتعمد عدم الاكتراث بها ، أو الإهانة لها كما يقال. وبالغ الحنفية فقالوا: إن كل
الحروف والكتابة محترمة بهذا المعنى. فأما كتابة نحو القرآن والأسماء المعظمة
فإن تعمُّد إهانتها يدل على عدم الإيمان كما ينقل عن بعض الملحدين المشهورين في
مسلمي مصر من أنه أخذ ورقة من المصحف ولفها ووضعها في أذنه يخرج بها
الوسخ منها فهذا لا شك في إلحاده وكفره. وأما إهانة كلام الناس المكتوب فلا
يتصور حدوثه من عاقل إلا لسبب كاعتقاد أن الكلام ضار ، أو كتب بسوء النية
وقصد الإيذاء والدهان، مثلاً فمن قرأ جريدة ورأى فيها شيئًَا من مثل هذا فألقاها أو
مزقها ورماها؛ هل يقال: إنه عاص لله تعالى مرتكب لما حرمه؟ كلا ، إن
التحليل والتحريم بغير نقل صحيح أو دليل رجيح هو المحرم ، ولم نعرف دليلاً في
الكتاب ولا في السنة على أن إلقاء ورقة مكتوبة على الأرض بقصد احتقار مبني
على اعتقاد ضررها مثلاً أو بغير قصد ذلك كالاستغناء عنها ، وعدم الحاجة إليها
من المحرمات التي يعذب الله فاعلها. وما عساه يقال في استنباط اللوازم البعيدة من
أن ذلك يستلزم احتقار الحروف ، واحتقار الحروف يستلزم احتقار ما يكتب بها ،
وما يكتب بها عام يشمل كتاب الله وأسماءه؛ فغير مُسلَّم ، ويمكن أن يستنبط مثله
فيمن يلقي قشور البطيخ والباذنجان ونحوها ، بأن يقال: إن هذه نعمة يمكن أن
ينتفع بها الناس أو الدواب فيجب تعظيمها واحترامها ، وعدم احترامها يستلزم الكفر
بالمنعم بها ، وما أشبه ذلك. وجملة القول في المسألة أن العاقل المكلف لا يقصد
بإلقاء الورق المكتوب إهانته إلا لنحو السبب الذي ذكرناه ، وهو لا شيء فيه ، بل
العاقل لا يحتقر شيئًا في الوجود لذاته ، أو لأنه وسيلة لشيء نافع أو شريف ، فما
قاله الشافعية هو الظاهر ، ولا ينبغي الغلو والتنطع فيه والله أعلم.
* * *
الطلاق
اشتراط القصد فيه
(س 37) ع. ص. بمصر (القاهرة) : كنت أتجاذب أطراف الحديث
مع صديق لي في أمور دينية ، فتدرجنا إلى موضوع الطلاق فاختلفنا فيه ، وكان
رأيه أن الطلاق يقع لمجرد النطق باللفظ ، ولو لم يكن الطلاق مقصودًا ، وأما أنا
فرأيت أنه لا يقع الطلاق إلا بعد الإصرار عليه. فهل لكم أن تتفضلوا بنشر الحقيقة
على صفحات مناركم الأغر فتنقذوا العالم الاسلامي من وهدة الاختلاف التي وقع
فيها من كثرة التأويلات ، ويكون لكم علينا الفضل ومنا الشكر ومن الله الأجر.
(ج) الزواج عقدة محكمة توثق بين الزوجين بعقد مقصود مع العزم فمن
المعقول أن لا تُحَلَّ إلا بعزم ، وبذلك جاء الكتاب الحكيم. قال تعالى: {وَلَا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ} (البقرة: 235) أي لا تعزموا عقد
هذه العقدة إلا في وقتها وهو انتهاء عدة المرأة والكلام في المعتدة. وقال تعالى:
{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاق} (البقرة: 227) إلخ أي إن صمموا عليه وقصدوه قصدًا
صحيحًا. والقاعدة عند الفقهاء في العقود أن العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ
والمباني ، وظاهر أن أعظم العقود وأهمها العقد الذي موضوعه الإنسان من حيث
يأتلف ويجتمع ويتوالد ويربي مثله ، فمثل هذا العقد يجب الحرص التام عليه لأن
في حله خراب اليوت وتشتيت الشمل المجتَمِع ، وضياع تربية الأولاد وغير ذلك
من المضار ، ولكن أكثر فقهاء المذاهب المشهورة ذهبوا إلى أن عقدة النكاح تنعقد
بالهزل وتنحل بالهزل ، حتى كأنها أهون من العقد على أحقر الماعون الذي
اشترطوا فيه مع التعاطي الإيجاب والقبول الدالين على القصد الصحيح ، وحجتهم
في حديث غريب كما قال الترمذي أخرجه أحمد وأصحاب السنن ما عدا النسائي من
حديث أبي هريرة وهو: (ثلاث جدهن جد ، وهزلهن جد: النكاح والطلاق
والرجعة) وقد صححه الحاكم الذي كثيرًا ما صحح الضعاف والموضوعات ، وفي
إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أزدك قال النسائي فيه: منكر الحديث ، ولذلك لم
يخرج حديثه ، ولقد عرف النسائي رحمه الله تعالى من ابن (أزدك) هذا ما خفي
على كثيرين ، ونحن نقدم جرح النسائي على توثيق غيره عملاً بقاعدة تقديم الجرح
على التعديل مع كون موضوع الحديث منكرًا لمخالفته ما دل عليه الكتاب من
وجوب العزم في هذا الأمر ومخالفته القياس في جميع العقود ، وهو أن تكون بقصد
وإرادة وإن جعله الحافظ حسنًا. ولهذا لم يأخذ به مالك ولا أحمد - وهو أحد رواته -
على إطلاقه بل اشترطا النية في لفظ الطلاق الصريح ، واشتراطه في الكناية
أولى لاحتمالها معنيين. ومن العجائب أن بعض الفقهاء يقول: إن النكاح لا يقع من
الهازل ولكن الطلاق يقع ، فهو يأخذ ببعض الحديث ويترك بعضًا ، وقد دعم
بعضهم حديث ابن أزدك بحديث فضالة عند الطبراني: (ثلاث لا يجوز فيهن اللعب
الطلاق والنكاح والعتق) وهو على ضعفه بابن لهيعة في سنده ينقض الأول لا
يدعمه؛ لأن عدم الجواز يستلزم الفساد لا الصحة كما يعرف من الأصول ، وجاء
بلفظ آخر فيه انقطاع فلا يعول عليه ولا يبحث فيه. ثم إن مسائل العقود ومنها
النكاح والطلاق كلها مشروعة لمصالح العباد ومنافعهم ومعقولة المعنى لهم ، وليس
من مصلحة المرأة ولا الرجل ولا الأمة أن يفرق بين الزوجين بكلمة تبدو من غير
قصد ولا إرادة لحل العقدة بل فيها من المفاسد والمضار ما لا يخفى على عاقل ، فلا
يليق بمحاسن الملة الحنيفية السمحة أن يكون فيها هذا الحرج العظيم. هذا وقد ورد
في الأحاديث الموافقة لأصول الدين وسماحته ما يدل على أن الخطأ والنسيان غير
مؤاخذ به ، ومثلهما الإكراه وقد قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ
وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ} (المائدة: 89) أي بتوثيقها بالقصد والنية
الصحيحة والطلاق من قَبِيل الأيمان والله أعلم وأحكم.
* * *
رأي أمير المؤمنين علي رضي الله عنه
واحتياطه في أكله
(س38) عبده أفندي ناطق في (الإسكندرية) نذكر هذا السؤال بمعناه وهو
أن صاحب مجلة الهلال قال في ترجمة سيدنا علي كرم الله وجهه في المجلد السادس
(ص202 و203) : إنه كان ضعيف الرأي ولذلك فشل في مسألة الخلافة (وإنه
لم يكن يأكل طعامًا لا يعرف صانعه وحامله ، فكان يختم على جراب الدقيق الذي
يأكل منه ، وسئل مرة عن سبب ذلك فقال: (لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم.
والظاهر أنه كان يفعل ذلك مخافة أن يغدر به أعداؤه فيميتوه مسمومًا) اهـ هذه
عبارة الهلال وقد استبشعها السائل ، وكتب إلينا أولاً فأجبناه بكتاب خاص بأن ما
ذكره في الهلال حكاية فهو منقول ، فكتب يلح منفعلاً بوجوب الجواب في المنار
فنقول فيه:
(ج) إن الإمام عليًّا لم يكن يجهل من الرأي ما كان يشير به عليه بعض
الذين ظنوا أنه ضعيف الرأي كما يعلم من خبر المغيرة معه ، وإنما كانت السياسة
تقضي في عهده بأن يقر بعض العمال ذوي العصبية كمعاوية على أعمالهم مع
اعتقاده بأنهم كانوا ظالمين ولكن وجد أن الدين كان أقوى عنده من دهاء السياسة
حتى لا يستطيع أن يعمل ولا أن يقر إلا ما يعتقده حقًّا وعدلاً ، وهذا هو السبب
الصحيح في فشله فقد كان الدين عنده أمرًا وجدانيًّا عقليًّا لا نظريًّا فقط ، وسبب ذلك
أنه تربى عليه عملاً في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عبد الباقي:
رَبيب طه حبيب الله أنت ومن
…
كان المربي له طه فقد برعا
وأما مسألة الأكل فقد كان سببها الورع ، وما استظهره صاحب الهلال في
غير محله ، فإنه قياس على حال بعض الملوك الجبناء الظالمين الذين فتنوا بِحُبِّ
طول البقاء والنعيم والخوف من الرعية وما أبعد الفرق! ! والمؤرخون كصاحب
الهلال يأخذون الخبر على ظاهره ويستنبطون منه ما يسبق إلى خواطرهم بحسب
معرفتهم وتأثير عصرهم. أما الأثر فقد رواه أبو نعيم في الحلية بسنده إلى عبد
الملك بن عمير قال: حدثني رجل من ثقيف أن عليًّا استعمله على عكبرى. قال:
ولم يكن السواد يسكنه المصلون ، وقال لي: اذا كان الظهر فرح إليَّ ، فرحت إليه
فلم أجد عنده حاجبًا يحجبني دونه فوجدته جالسًا ، وعنده قدح وكوز من ماء ، فدعا
بظبية [1]، فقلت في نفسي: لقد أمنني حين يُخْرِج إلي جوهرًا ، ولا أدري ما فيها
فإذا عليها خاتم ، فكسر الخاتم فإذا فيها سويق ، فأخرج منها فصبَّ في القدح ،
فصب عليها ماء ، فشرب وسقاني ، فلم أصبر فقلت: يا أمير المؤمنين
أتصنع هذا بالعراق ، وطعام العراق أكثر من ذلك؟ قال: (أما والله ما أختم عليه
بخلاً عليه ، ، ولكن أبتاع قدر ما يكفيني ، فأخاف أن يفنى فيوضع من غيره ، وإنما
حفظي لذلك ، وأكره أن أدخل بطني إلا طيبًا) . وأخرج أبو نعيم أيضًا من
طريق سفيان عن الأعمش قال: كان علي يغدي ويعشي (أي الناس) ، ويأكل هو من
شيء يجيئه من المدينة. وذكر الأثر الأول من غير حكاية الراوي صاحب القوت
والغزالي في كتاب الحلال والحرام من (الإحياء) واتفقوا على أنه من
الورع، والواقعة صريحة فيه. وهكذا كانت سيرة المتقين من الخلفاء الراشدين
وكبار الصحابة والتابعين.
روى البخاري من حديث عائشة قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج ،
وكان أبو بكر يأكل من خراجه ، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر ، فقال له
الغلام: أتدري ما هذا؟ قال: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية
فأعطاني. فأدخل أصبعه في فيه ، وجعل يقيء ، حتى ظننت أن نفسه ستخرج ،
وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء.
وروى أبو نعيم في الحلية بسنده إلى زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر مملوك
يغل عليه فأتاه يومًا بطعام ، فتناول منه لقمة ، فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني
كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ قال: (حملني على ذلك الجوع من أين جئت بهذا؟)
قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم فوعدوني؛ فلما كان اليوم مررت بهم
فأعطوني. قال: (أَُفٍّ لك كدت أن تهلكني) فأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ ،
وجعل لا يخرج. فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء ، فدعا بعس من ماء فجعل
يشرب ويتقيأ حتى رمى بها. فقيل له: رحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة قال:
لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به) فخشيت أن ينبت شيء من
جسدي من هذه اللقمة. ورواه غيره. وروى مالك من طريق زيد بن أسلم قال:
شرب عمر لبنًا فأعجبه فسأل الذي سقاه: من أين لك هذا اللبن؟ فأخبره أنه ورد
على ماء قد سماه؛ فإذا نَعمٌ من نَعَم الصدقة وهم يسقون ، فحلبوا لي من ألبانها
فجعلته في سقائي فهو هذا ، فأدخل عمر يده فاستقاءه. - هذا بعض شأنهم في
الورع والاحتياط في المأكل ، ولم يكن عهد أبي بكر وعمر كعهد علي في تهاون
الناس بالحلال والحرام ، ولذلك بالغ هو في الاحتياط في سفره. وحاشا أن يمس
الخوفُ من السم ذلك القلب المملوء إيمانًا وشجاعة.
* * *
تركة ووصيتان
(س40) السيد حسن بن علوي بن شهاب الدين في (سنغافورة) ما قولكم
فيمن أوصى بما نصه: وما يزيد من تركتي بعدما ذُكِرَ أعلاه (يعني من دينه) يقسم
أثلاثًا؛ ثلثان للورثة يقسم بينهم ، والثلث الثالث يقسم عشرين سهمًا. اهـ، وعين
مصرف العشرين السهم ، ثم قال في وصية له أخرى ما نصُّه: وجعل لأولاد أخيه
أحمد مثل نصيب أحد أولاده الذكور ، والوصية المتقدمة باقية على صحتها. اهـ
أما الوصيتان فمعلوم صحتهما ، والورثة أم ، وزوجة ، وستة أولاد وثلاث بنات ،
ولا يخفاكم أنه مات قبل الاستحقاق فريق له ثلاثة أسهم ونصف سهم من العشرين
السهم قبل موت الموصي. فهل بسقوط هذه الأسهم تعود هذه الأسهم تركة أم يوزع
ما بقي على ما بقي من الأسهم ، وتعود وصية؟ وعلى كلا التقديرين كيف تكون قسمة
التركة ، وكيف تصحيح المسألة لأن بعض العلماء يزيد ذلك المثل أولاً في تصحيح
المسألة ، ويزيد مثله للموصى له. نعم ثلث المال في واقعة الحال شيء كثير ، فلو
كان الثلث مثلاً ألفًا ، ومقدار مثل نصيب أحد الأولاد سبعمائة فهل يأخذ الموصى له
بمثل النصيب نصيبه كاملاً ، أم يدخل النقص على الجميع. وفي مسألتنا هنا؛ هل
يشاركهم في الزائد وهي الثلاثة الأسهم والنصف السهم الذي مات مستحقوه قبل
الاستحقاق؟ نؤمل من شيم الكرام الجواب على صفحات المنار مع التوضيح
الكامل فالمسألة واقعة حال ودمتم.
(ج) نقول أولاً: إن السائل كتب حاشية للسؤال ذكر فيها اختلاف أهل
العلم في المسألة ، وأن كلام ابن حجر اختلف فيها فظننا أنها ذكرت في فتاويه
بنصها ، فأرجأنا الجواب لمراجعة كلام ابن حجر. إذ ليس عندنا فتاواه ولا تحفته ،
ثم رأينا أن نعطي السؤال لأحد أصدقائنا من علماء الشافعية في الأزهر ففعلنا
وجاءنا منه ما يلي بنصه:
الحمد الله أما بعد ، فهاتان وصيتان على الترتيب: الأولى بالثلث وجعله
عشرين سهمًا فلتكن التركة ستين سهمًا ، والثانية بمثل نصيب ذكر من أولاده.
وحيث قد مات أصحاب ثلاثة أسهم ونصف من العشرين قبل موت الموصي ، فتلك
الحصة تركة ، فتكون الوصية الأولى بستة عشر سهمًا ونصفًا من ستين، وتكون
التركة التي فيها الوصية الثانية ثلاثة وأربعين سهمًا ونصفًا، تقسم كلها على الورثة
لا غير وهم: أم ، وزوجة ، وستة ذكور ، وثلاث بنات ، ومسألتهم من أربعة
وعشرين ، وتصح من ثمانية وأربعين ، ونريد الآن الثاني؛ لأنه أسهل حسابًا ،
فلنعتبر أن الثلاثةَ والأربعين سهمًا ونصفًا ثمانيةٌ وأربعون سهمًا؛ للزوجة الثمن
بستة ، وللأم السدس بثمانية ، فهذه أربعة عشر. يبقى أربعة وثلاثون لستة ذكور
وثلاث بنات ، فتكون القسمة على خمسة عشر باعتبار البنات فلا تنقسم الأربعة
والثلاثون سهمًا عليهم صحيحة ، فتضرب في خمسة عشر فيكون حاصل الضرب
خمسمائة وعشرة يقسم ذلك الحاصل على خمسة عشر ، فتكون حصة البنت أربعة
وثلاثين ، وحصة الذكر ثمانية وستين ، ثم تحول حصة الزوجة والأم إلى أسهم
كهذه فتضرب أربعة عشر في خمسة عشر فيبلغ مائتين وعشرة تضم إلى خمسمائة
وعشرة حصة بقية الورثة ، فتكون التركة التي كانت ثلاثة وأربعين سهمًا ونصفًا
سبعمائة وعشرين سهمًا حصة جميع الورثة ، فقد صحت المسألة على ذلك ، ويزداد
عليه مثل نصيب ذكر وهو ثمانية وستون فتبلغ سبعمائة وثمانية وثمانين سهمًا ،
فإذا قسمت الثلاثة والأربعون سهمًا ونصف سهم إلى سبعمائة وثمانية وثمانين؛
أعطيت الزوجة تسعين والأم مائة وعشرين ، وبقية الورثة خمسمائة وعشرة؛
للذكر مثل حظ الأنثيين. وكان لأولاد الأخ ثمانيةٌ وستون على سبيل الوصية ، وهي
الوصية الثانية، منها أربعة أسهم وستة وعشرون جزءًا من ثلاثة وأربعين
ونصف زائدة على الثلث فهي موقوفة على إجازة الورثة، وبيان كون هذا المقدار
هو الزائد على الثلث أنه اذا كانت الثلاثة وأربعون سهمًا ونصف سبعمائة وثمانية
وثمانين فلتكن الوصية الأولى التي هي ستة عشر سهمًا ونصف مائتين وثمانية
وتسعين سهمًا وتسعة وثلاثين جزءًا من ثلاثة وأربعين ونصف ، حيث تضرب ستة
عشر ونصفًا في خمسة عشر فليكن المال كله قبل الوصيتين ألفًا وستة وثمانين
سهمًا وتسعة وثلاثين جزءًا من ثلاثة وأربعين ونصف ، وليكن ثلثه ثلاثمائة واثنين
وستين سهمًا وثلاثة عشر جزءًا من ثلاثة وأربعين ونصف، وحيث إن
الوصيتين على الترتيب فلتنفذ الأولى كلها وهي مائتان وثمانية وتسعين سهمًا وتسعة
وثلاثون جزءًا من ثلاثة وأربعين ونصف ، ولتنفذ الثانية لأولاد الأخ فيما يتمم
الثلث. والذي يتممه ثلاثة وستون سهمًا وسبعة عشر جزءًا ونصف من ثلاثة
وأربعين ونصف مع أن حصة الذكر ثمانية وستون فيكون الزائد عن الثلث
أربعة أسهم وستة وعشرين جزءًا من ثلاثة وأربعين ونصف فيحتاج إلى إذن
الورثة.
والحاصل أن التركة بحسب الأصل ستون سهمًا؛ منها عشرون للوصية
الأولى رجع منها ثلاثة ونصف للتركة ، فتكون التركة ثلاثة وأربعين سهمًا ونصفًا.
يأخذ منها أولاد الأخ ثلاثة ونصفًا تتمة الثلث ، ويبقى بعد الثلاثة ونصف شيء يتمم
حصة الذكر فيحتاج إلى إذن الورثة فإن أجازوا نفذ ، والا فلا نفود؛ واذا أجازوا
فلتكن القسمة على ما بينا، بحيث تصحح مسألة الورثة أولاً ثم يزاد على أصل
المسألة مقدار ما يخص الذكر ، ثم يقسم بعد ذلك على الورثة ، وفيهم صاحب
الوصية الثانية ، ولا يخفى أن تلك الزيادة هي مسألة العول الذي يدخل على جميع
الأنصباء. وليس في هذه الواقعة خلاف ما قررنا والله أعلم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... حسين والي
_________
(1)
الظبية جراب صغير من جلد الظبية عليه شعر.
الكاتب: رفيق بك العظم
هذا أوان العبر
.. فهل نحن أحياء فنعتبر
وبالجملة فقدها كل فنون المدنية النافعة التي سادت بها الدول المسيحية
وسعدت الأمم الغربية ، وإليك البيان:
(نشر أحد كُتاب العثمانيين في العدد 32 من جريدة (ترك) المؤرخة 25
ربيع أول سنة 1322هـ الصادرة في مصر مقالة تستثير كوامن الشجون خلاصتها
أنه رأى في جرائد الآستانة كلامًا طويلاً عن مرور منير باشا سفير الدولة العثمانية
في باريس على صوفيا عاصمة البُلْغار؛ لأجل دعوة أميرها إلى زيارة الآستانة،
وقال: إنما استوقف خاطره من ذلك الكلام الطويل جملة واحدة وهي قول تلك
الجرائد: إن في جملة ما زاره السفير من المعاهد في تلك العاصمة - التي كانت
تسمى في عهد استيلاء الترك عليها مركز ولاية الطونة - معرض النباتات
والحيوانات والتحف، وهي العاصمة التي كانت منذ خمسة وعشرين سنة كبقية
عواصم ولايات الدولة في أوربا مثل يانيا وأدرنة ومناستر قذرة الشوارع
والطرقات ضيقتها محرومة من عناية المجالس البلدية، كل شيء فيها مهجور ما
عدا الحبوس والمعابد والقشل (التكنات) فصارت تلك العاصمة في زمن قليل -
أي منذ استقلت عن الدولة - في حالة من الترقي يكاد من رآها يجهل أنها مدينة
صوفية القديمة لما صار فيها من الشوارع العريضة المنظمة، والميادين الفسيحة
والملاعب (التياترات) والمنتزهات والترامواي الكهربائي والتلفون ، وليست مدينة
صوفيا وحدها التي ترقت إلى هذه المرتبة من المدنية الأوربية، بل كل حواضر
البلاد التي دخلت تحت حكم البلغار كفلبه ووارنه وغيرهما ، ولم ينحصر هذا
الترقي بالبلغار بل شمل الصرب ورومانيا واليونان ، وهي الممالك التي انفصلت
عن الدولة العثمانية، واستفاض فيها نور التمدن استفاضته في البلغار وستتبعها
كريد أيضًا التي انفصلت بالأمس عنا ، وأما الممالك التابعة لنا فإنها فضلاً عن أن
تترقى في فنون المدنية آخذة يومًا عن يوم بالتقهقر والخراب وإليك مدن أدرنة
وبروسة وحلب والشام وبغداد اللائي كن عواصم كبرى للملك من أزمنة متفاوتة لم
يستطعن المحافظة على عمرانهن المتخلف من ذلك الزمان. إلى أن قال: وبغض
النظر عن حاجة ولاياتنا إلى أسباب العمران؛ فإنا إذا نظرنا إلى القسطنطينية تلك
المدينة الكبرى التي يسكنها مليون من النفوس ، والتي هي ذات استعداد وقابلية؛ لأن
تكون عاصمة العالم أجمع نرى أن أبنيتها أدنى من أبنية قرية من قرى الممالك
المتمدنة وطرقها وميادينها مملوءة بالأوحال شتاء، وهي قرارة الأقذار صيفًا، ثم
استرسل الكاتب في هذا الباب بما يُدْمي القلوب، ويُشْجِي النفوس، وذكر من حال
عاصمتنا الكبرى وتدنيها العظيم، وعدم مجاراتها حتى للبلدان التي انفصلت عنها
بالأمس، وفقدانها كل وسائل الراحة وأسباب العمران ما لم نر لإيراده حاجة خشية
التطويل. وأذكر أيضًا هذا الشاهد، وقد نشرته من بضع عشرة سنة جريدة الأهرام
التي تطبع بمصر وخلاصته أن صاحب الجريدة اجتمع في مدينة صوفيا يومئذ مع
أحد كتاب الجرائد الهندية الإسلامية، وجرت بينهما محادثة مما جاء فيها قول ذلك
الكاتب: (إن من يرى إمارة البلغار يكذب التاريخ، وذلك لأنه لا يصدق انفصال
هذه الإمارة عن الدولة العثمانية منذ عشرين سنة وسبقها لأمها عاصمة الدولة هذا
السبق البعيد في كل دروب المدنية والترقي في ذلك الزمان القليل) .
وأنت ترى من هذا الشاهد، ومما سبقه وهما من أقوال كتاب المسلمين أنفسهم
كيف أن الشعوب الأخرى تسرع بالترقي والمسلمون يتخلفون، وكيف هو حال
الممالك الإسلامية بالنسبة لحال الممالك المتمدنة على أن ما ذكرناه يختص بالمملكة
العثمانية دون الممالك الأخرى مع أن هذه المملكة هي أرقى حالاً بكثير من بقية
الممالك الإسلامية من حيث الترقي المدني في المعارف الضرورية لقيام الدولة
العثمانية على أمر التعليم قيامًا وإن كان في نفسه غير موفٍ بالحاجة إلا أنه لا يخلو
من شيء من الفائدة، وأخصها فائدة المدارس الحربية التي جعلت لهذه الدولة جيشًا
منظمًا بلغ الغاية من الترقي لو لم يصحبه ضعف السياسة والمال، بل ضعف أساس
الحكومة لأنها حكومة إسلامية.
هذا حال هذه المملكة ، وهي على ظننا أرقى من غيرها بكثير، فما بالك
بمملكة الغرب الأقصى وفارس والأفغان، وحال الأولى من الفوضى والتردي في
الجهالة والإمعان في طرق التدلي معلوم ، فهذه المملكة التي ليس بينها وبين أوربا
بلاد المدنية والترقي إلا مضيق سبتة لم تنتفع من هذا الجوار بشيء ألبتة، ولم ينفذ
إليها على قربها من أوربا شعاع من نور المدنية الجديدة، والحياة السعيدة مع أن
ذلك النور عمَّ أفق اليابان في الشرق الأقصى، وبينها وبين منبعثه آلاف من الأميال
فليس في المغرب الأقصى الآن أثر للتعليم على الأصول الجديدة ولا اسم للحكومة
المنظمة، ولا قوة للملك، ولا جند منظم للدولة، ولا معرفة لأهلها بأحوال العالم قط،
وحسبك من إمعانهم في الجهالة أن المطابع التي كانت سببًا متينًا من أسباب
انتشار العلم بين الأمم لم يبق بقعة من بقع الأرض حتى مجاهل أفريقيا إلا وجدت
فيها ، وأهالي المغرب الأقصى لم يعنوا بها ولم تنتشر في بلادهم إلى اليوم.
جاء إلى مصر في هذه الآونة السيد المنبهي وزير الحربية السابق في
المغرب الأقصى بقصد أداء فريضة الحج، فاستطلعته طلع الدول والبلاد، وبسطت
لديه بعض أمانيَّ في إصلاح المملكة، فأخبرني أن المسلمين ثمة يأبون كل إصلاح،
وليس عندهم استعداد لقبول أي ضرب من ضروب الترقي والمدنية، ولما
أوضحت لديه أهون السبل للوصول إلى تقويم أود الأمة والدولة أظهر من خشونة
المركب وشدة الأوّاه على إمكان العمل في بلاد ذلك مكانها من عدم الاستعداد
للإصلاح في التعليم والإدارة والقضاء والجندية ما يظهر من كل كبير وأمير في
المسلمين إذا شكوت إليه ضعف أمته وتقهقر أهل مِلْته، حتى كأن العجز عن
النهوض أصبح من العاهات السائدة على قادة المسلمين، وخاصتهم كما هو آخذ
بنواصي عامهتم مُتسلط على نفوس كافتهم.
هذا إجمال حال مملكة المغرب الأقصى أما مملكة فارس فحسبك أن تقول: إن
تلك الأمة على عراقتها في المجد، وقدم عهدها في الدولة ، وأنها من الممالك
القديمة التي كانت ذات مدنية راقية وملك عظيم أصبحت الآن في حالة من الضعف
وسوء الإدارة والتدلي عن مرتبة العلم والمدنية بحيث لا ترى لها حركة تدل على
شيء من الرقي المطلوب لمثلها هذا مع أن مليكها السابق والحالي جابا أطراف البلاد
الأوربية ووقفا على كل فنون المدنية الحاضرة، وعلما بأنفسهما وجه ترقي الأمم
المسيحية، ومع هذا فلم يغن ذلك عن تقهقر بلادهم وتدلي الأمة الإسلامية فيها شيئًا ،
فليس في البلاد الفارسية من المدارس إلا ما لا يتجاوز عدد الأنامل، وليس للدولة
نظام للجندية ولو كنظام الجندية العثمانية، وليس لثغورها التي أضحت مطمح
الدول الغربية ولا باخرة حربية، وبالجملة فسكون التناهي في الانحطاط سائد هناك
كما هو سائد في بقية البلاد الإسلامية.
وأما الأمة الأفغانية فهي إلى البداوة في كل أصول معيشتها ومعارفها أقرب
منها إلى الحضارة، وليس فيها من دلائل الحياة إلا قيام أميرها المتوفىَّ وأميرها
الحالي على ترتيب الجند وتدريبه على الحرب، وجمع كلمة القبائل والأحزاب على
الذود عن حياض الملك.
فهذا بوجه الإجمال حال المسلمين في هذا العصر، وحال دولهم المستقلة لهذا
العهد أفليس مما يُكْلِم القلوب، ويُدْمِي الأحشاء أن لا يكون فيهم ولو دولة واحدة
تضاهي أصغر الإمارات المسيحية في التقدم والارتقاء كإمارة البلغار أو الصِرب أو
رومانيا اللائي انفصلن بالأمس عن الدولة الإسلامية الكبرى فسبقنها سبقًا بعيدًا،
وصرن لها خصمًا عنيدًا؟ وما هي يا ترى علة هذا الخمود القاتل، والجمود الشامل،
الذي تَعَبَّد المسلمين، وقطع نظامهم وجعلهم يتسكعون في أخريات الأمم، حتى
سبقهم المسيحيون والوثنيون، واستعبدهم منازعوهم على الملك، وغلب على
أمرهم مزاحموهم في مضمار الحياة في كل بقعة من بقاع الأرض؟ ألأنهم دون
أولئك السابقين خلقًا؟ أو لأنهم أضعف منهم استعدادًا؟ كلا، إن الاستعداد والخلق
في أبناء الطينة الواحدة لا يخلتفان إلا بالأعراض لا بالجواهر. أو لمطلق كونهم
مسلمين وأن الإسلام مانع من المدنية كما يقول أعداؤه والمارقون منه.
هذه هي العقدة التي أصبحت مُزْدَحَم الأفكار، ومَرْمى نظر الباحثين في
طبائع الأمم في هذا العصر، وإنما قال بعضهم: إن الدين هو المانع من ترقي
المسلمين؛ لأنهم لم يروا شعبًا واحدًا منهم نهض لمجاراة الأمم المُتَمَدِّنة واستحق أن
يوضع في مصاف الشعوب الراقية حكومة ومدنية، بل كل المسلمين في هذا
التأخر سواء، وإن تفاوتوا في المراتب بتفاوت الأرجاء، مع أن مجاوريهم من
المسيحيين أصبحوا مذ انفصلوا عنهم في أسمى درجات الارتقاء، وكذلك أبناء طينتهم
الشرقية من أتباع كونفيوشيوس وبوذه وهم اليابانيون صاروا في مصاف الأمم
الراقية، ودولتهم تعد من دول المشرق العظمى مع أنهم لم يدخلوا في غمار هذا
الترقي الجديد إلا منذ ثلاثين سنة.
الذين قالوا: إن علة تدلي المسلمين هو الدين، بعضهم يقول: إن مصدر هذه
العلة تعدد الزوجات؛ لأنه يهدم نظام البيوت، ويفقد أصول التربية، ويزج بالنفوذ
في غمار الشهوات، وبعضهم يقول: إن مصدرها عقيدة القدر التي تقعد بالنفوس
عن السعي، وتستأصل شأفة الاعتماد على النفس، وبعضهم يقول: إن مصدرها
الاعتقاد بالأموات الذين يسمونهم بالأولياء والصالحين ، ويعتمد عليهم عامة
المسلمين في قضاء الحاجات دون الاعتماد على تعاطي الأسباب الموصلة للحاجات
إلى غير ذلك من العلل التي إذا محصها العقل؛ يجدها بعيدة عن غرض الإسلام
أدخلها في العقائد والأعمال سوء الفهم، وهي وإن صلحت؛ لأن تكون سببًا لتدلي
المسلمين إلا أنها لا تصلح أن تكون برهانًا على أن الإسلام هو المانع من ترقي
المسلمين، بل المانع في معتقدي أمر آخر أريد وضعه لدى البحثين في موضع
النظر والنقد فأقول:
الإسلام من حيث هو دين سماوي لا يراد به إلا سعادة البشر وخيرهم لا
يسوغ لعاقل أن يقول: إنه يمنع المتدين به من مثل هذه السعادة التي أرادها الله
لعباده بواسطة الأديان، وإنما هي الأفهام تخلتف في معرفة مغزى الدين باختلاف
الأمم والعصور، وتتباين بتباين العقول. فالإسلام أول من تلقاه من الأمم كما هو
معروف الأمة العربية التي كانت مُتَرَدِّية في الضلالة مُتَهَافِتة في البداوة ليس عندها
شيء من قوانين الاجتماع ونظام الحكومات الراقية، والشعوب المتمدنة ، فلما
جاءها الإسلام بأحكامه ومواعظه وأوامره ونواهيه؛ رأى العرب فيه مقصدًا قريبًا
وأمرًا جليلاً، وحكمة بالغة فانضموا إليه، وأقبلوا عليه وقالوا: هذا هو الشيء
الذي هو كل شيء وغَلَوا في ذلك الاعتقاد غُلُوًّا أًذْهَلَهم عن أن الغرور في الدين إلى
حد مزجه بكل شيء من أمور الحياة الدنيوية - وأَخَصها حياة الأمم السياسة خروج
بالدين عن مقاصده الأصلية، وافتئات على صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم
القائل: (إذا كان شيء من أمر دينكم فإليَّ، وإذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم
أعلم به [1] ) ، وهو إرشاد صريح إلى أن للدنيا أمورًا مرجعها تحكيم المصلحة
والعقل؛ فهي في جانب، والدين في جانب آخر.
العرب كما قلنا كانوا عريقين في البداوة ، وحياة البداوة قاصرة على أمس
الحاجات الحيوية؛ فلم ينظروا إلى ما بعد تلك الحاجات، فهان عليهم مزج الدنيا
بالدين، فلم يجعلوا الدين غير الدنيا كما أمرهم الشارع، ولم يقفوا على سر التفريق
بين الأمرين إلا أفرادًا منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان يعلم أن
المصلحة تتحول بتحول الزمان، وتدور معه كيفما دار [2] . لهذا فات العرب في
مبدأ نشوء الدولة وظهور الأمة تحكيم العقل في كثير من أمور الأمة الدنيوية،
ومصالحها الاجتماعية، وحكموا الدين في كل شيء، حتى ما لا علاقة له بالدين،
وهو ما لا نريد الخوض فيه الآن، حتى توهم من أتى بعدهم أن سنة الأولين هي
عين الدين.
وأهم الأمور التي حَكَّمُوا فيها الدين، فكان لها أقبح الأثر في حياة الأمة
الإسلامية، وهي على ما أعتقد سبب كل ما يعانيه المسلمون من ضروب الشقاء
إلى هذا اليوم إنما هي الحياة السياسية أو أمر السياسة والملك. الأمم كما هو الثابت
إنما تقوم بالحكومات ، والحكومة إذا لم تكن ذات روابط قانونية تُراعى فيها حالة
كل زمان وقوم، وتسير مع ترقي الأمم كيفما سار فلا حياة للأمة بها، مثاله أن
الحكومة المطلقة إذا وافقت عصرًا وقومًا لا توافق عصرًا وقومًا آخرين وبالعكس.
ربما كانت الحكومة المطلقة في قوم أصلح منها في عصر لقوم آخرين فلا بد إذن
من ترك شأن الحكومة لمطلق المناسبات الطبيعية في كل قوم وعصر، والعرب لما
لم يكن لهم تاريخ لكيفية قيام الدول وتنظيم أصول الحكومات، ولا أصل يرجعون
إليه في ذلك كالأمم المتمدنة في ذلك العصر ألصقوا مسألة الخلافة وتأسيس قواعد
الملك بالدين فكان أول نزاع وقع على الخلافة قائمًا بالدين، وتلاه فتنة عثمان -
رضي الله عنه فبنوها على الدين، ثم الخلاف بين علي ومعاوية - رضي الله
عنهما - فكان يحتج كل فريق من المتخاصمين على الآخر بالدين، ثم قام النزاع
بين بني هاشم وبني أمية باسم الدين، ثم بين بني هاشم وبني العباس، كذلك باسم
الدين. وأغرب من ذلك أن الخوارج الذين قالوا في مبدأ أمرهم بعدم لزوم الخلافة،
وبنسف قواعدها نسفًا لم يخطر لهم على بالهم تحويل طرز الحكومة إلى أصول
نافعة كالأصول الجمهورية مثلاً حتى اضطروا للرجوع إلى رسومها التي ألصقت
بالدين، وولوا منهم أمراء استحلوا هم وأشياعهم حتى دماء الأطفال والنساء بالدين،
وناصبوا الخلفاء العداوة، وأصلوا الأمة حربًا عوانًا مبدؤها سياسي وهو عدم
الرضى عن حكومة الخلفاء، إلا أنها انتهت إلى الانتحال في الدين. ولم يعرف
الخوارج طريق المضي في وجهتهم السياسية وبناء مذهبهم على أساس معقول؛ إذ
ليس للعرب تاريخ في ترتيب الحكومات يرجعون إليه، وكانت نتيجة ذلك كله
استئثار الخلفاء بكل وظائف الدولة كالوزارة والقضاء والحرب وبيت المال وغير
ذلك من ضروب الاستئثار بالسلطة الذي لا ينتظم به شأن دولة قط، وذهول الأمة
الاسلامية في ذلك المعترك القائم باسم الدين عن النظر فيما يوافق مصلحتها
السياسية من جهة ترتيب الدولة على طُرُز يضمن سعادة المسلمين لا مصلحة
القائمين بتلك الدعوة الدينية.
فالعرب مع إغراقهم في الحرية ، وعدم استكانتهم لاستبداد الخلفاء في مبدأ
الأمر فاتهم أن يجاروا في وضع قواعد الدولة، وتأسيس أصول الحكومات ذات
الصبغة الدستورية كالجمهورية والقنصلية والحكومة المعتدلة أقرب الأمم جورًا لهم
يومئذ وهم الرومان واستمروا راضخين لحكم التنازع باسم الدين، ولما انصبغت
دولتهم بالصبغة الأعجمية، وأخذوا عن الفرس والروم، ما أخذوه من ضروب
المدنية ، وأصبحوا في حاجة إلى حكومة أرقى تنزع بها يد الخليفة من القبض على
كل شئون الدولة بيده القاهرة، وتوزع الوظائف على المقتدرين على القيام بأعبائها
لم يتمكنوا من تغيير طرز الحكومة، والنظر في مستقبل حياتهم السياسية لأنها
صارت حياة دينية ، هذا مع إيغال الخلفاء في الظلم واستئثارهم بالسلطة ،
فاضطروا العلماء إلى وضع قوانين خاصة برسوم الخلافة ووظائفها كقوانين الوزارة
والقضاء وأشباهها لتغل يد الخلفاء عن الاستبداد مع تحري إسنادها إلى الدين تبعًا
لصبغة الحكومة الدينية، ولكن لم تكن تلك القوانين في نظر الحكومة يومئذ إلا
شيئًا تعبديًّا لإسنادها إلى الدين ، والتعبد أمر وجداني لا يكون إلا ممن أخلص لله
حق الإخلاص وليس وراءه من قوة الإكراه ما يدعو إلى العمل به قسرًا كما يكون
ذلك في الحكومات الديمقراطية التي لا توكل إلى سيطرة الوجدان، بل إلى سيطرة
القوة، ومن ثم تغلغل الفساد في جسم الحكومات الإسلامية ورضخ لها المسلمون
بحكم الدين وباستدارج الوضعيين بمثل قولهم: (أدوا للأئمة حقوقهم وسلوا الله
حقوقكم) حتى صاروا لا يعرفون أصلاً من أصول الحكومات العادلة، ولا مخرجًا
من ضيق الاستبداد، وتأصل فيهم روح الخضوع المطلق، والطاعة العمياء،
وناهيك بمثل هذا الروح الذي يسلب الإنسان قوة الإرادة، ويضعه بمنزلة الأطفال
الذين لا يعرفون محركًا لهم غير الوالدين، ولا يألفون إلا ما ألفه الوالدان، ومن ثَمَّ
ترك المسلمون كل حول وقوة، وكل اعتماد على النفس، وسعي إلى الترقي ونظر
في وجوه الاعتبار، وأحالوا ذلك على الأمراء والحكام، فإذا نهضوا بهم نهضوا،
واذا قعدوا قعدوا، بل تناهى بعضهم في ضعف قوة الإرادة والتمييز لما ألفوا
الخمول، وأَنِسُوا بالجهل، وتتابعوا في العماية فكانوا أعداءً لمن يريد من الأمراء
إصلاح أي شأن من شئونهم الاجتماعية، ومس أي عادة قبيحة من عوائدهم
الموروثة، وتاريخ الإسلام مشحون بمثل هذه الحوادث، وآخر عهد بها ما بسطناه
فيما تقدم عن أهل المملكة المراكشية الذين يأبون كل جديد.
هذه كانت نتيجة انصراف العرب أيام بداوتهم بكليتهم إلى الدين، وعدم
وضعهم السياسية جانبًا لتكون تبعًا في النمو والارتقاء لترقي حال المسلمين، ويدلك
على خطئهم في ذلك أن الحكومات البدوية التي لم تنصبغ بصبغة الحضارة وتجاري
الزمان في تقلبه والأمم الراقية في أصول حكومتها لم تزل لهذا العهد أدنى الدول
الإسلامية رقيًّا ، وأهلها أكثرهم بأمور الحياة الاجتماعية جهلاً كأهالي المغرب
وجزيرة العرب الذين حالهم من التقهقر معروف إلى اليوم.
إذا تقرر هذا؛ فقد علمت علة البلاء الذي أصاب المسلمين ومصدر شقائهم
الاجتماعي إلى هذا الحين، ولا تظنن أمة وضعت نفسها في هذه المنزلة من
الإعراض عن شئون الدنيا ، وألصقت كل شيء من أمور ترقيها المدني بالدين
واستسلمت لأمرائها القاهرين تلك المئات الطويلة من السنين ترضى لنفسها منزلة
أرقى منها ، أو تلتمس وجوه العِبَر فتعتبر بها إلا بعد عناء طويل تلاقيه، وشقاء
كثير تعانيه. والذي أعتقده أن الشقاء الآن استحكمت حلقاته، والعبر ترادفت
وجوهها ، وحسب المسلمين من ذلك أن صاروا في أخريات الأمم وكفاهم عبرة أمة
اليابان الوثنية التي نهضت للأخذ بأسباب الرقي والتقدم نهضة رجل واحد ، فبلغت
في ثلاثين سنة شأو الأمم الأوربية، وناهضت دولتها أعظم الدول المسيحية. هذا
والمسلمون ينتزع ملكهم ، وتهدد بالزوال دُولهم، وتتحكم الدول المتمدنة فيهم وفي
حكوماتهم، وليس في دولهم دولة تنهض باختيارها إلى تأسيس حكومة راقية
تضارع بها أصغر الدول الأوربية، وتدفع غارات الشعوب المتمدنة التي تنازع
المسلمين البقاء بقوة العلم وسلاح المدنية ، وتطهير أصول الحكم من عوامل
الاستبداد القاتل. وقد استعبد الأوربيون إلى الآن ثلاثة أرباع المسلمين، ولا يمضي
ربع قرن إلا والربع الباقي يصبح في حوزتهم، وتدال دولته إليهم إذا استمر هذا
الربع في عمايته ، ولج في جهالته، ولم ينهض لتدبير شئون نفسه، ويترك
الاعتماد على حكوماته التي تأصل فيها مرض الاستبداد الذي هو نار تأكل الممالك،
وتهدم صروح المجد، وتذهب بقوة الأمم وهم لا يشعرون.
إخواني: إن الحياة مع الجهل مستحيلة، والإقامة على الذل عار، والبقاء
أمام جيوش العلم والمدنية متعذر، والسلامة مع هذا الجمود غير متأتية، وما كنا
عليه بالأمس لا ينفعنا اليوم، وما نحن فيه اليوم لم يعلمه آباؤنا الأولون، ولو
علموا الغيب لاستكثروا لنا من الخير، ولكل عصر شأن، وشأن هذا العصر ما
ترون وما تسمعون من أحوال الأمم الراقية والدول الدستورية ، وحياة الانسان غير
حياة الحيوان؛ لأن الأول يطلب الترقي في كل شيء، والثاني يرى الأكلة الواحدة
كل شيء فإذا أردنا الحياة فحتمًا علينا أن ننهج نهج السابقين، ونتبع خطى
المسرعين، بما لا يكون فيه حرج في الدين، ولنعتقد الاعتقاد اللائق بالدين، وهو
أنه ليس كما يقول غيرنا: دين مانع من ترقي المسلمين، ولنحترم جانب هذا الدين
بأن لا نجعله سدًّا في وجوهنا وغِلاًّ في أعناقنا فنؤيد بفعلنا هذا قول المستهزئين،
ودعوى الطاعنين، ولنتقين الله في ديننا العظيم الجليل، ولا نجعله سببًا لهلاكنا
أجمعين، فنبوء بالخزي في الدارين، ونشقى في الحياتين.
هذا أوان العبر أيها المسلمون، فهل أنتم معتبرون، وهذا نذير أمين فهل أنتم
سامعون، موت مع الجمود، وخذلان مع السكون، وفناء عاجل مع الجهل،
وخزي بين الأمم، مع الرضى بما وجدنا عليه الآباء، وحياة سعيدة مع الإقدام،
وظفر بالمطلوب مع الحركة، وبقاء مستمر مع العلم، وإيجاد حكومة ديمقراطية
مقيدة، وفخر مع الرقي إلى مرتبة الكمال. فانظروا أية الحالتين ترضون، وهذا
أوان العبر فهل أنتم معتبرون؟ والسلام على من اتبع الحق وأخذ به من المسلمين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... رفيق العظم
_________
(1)
رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن أنس.
(2)
يدلك على ذلك حكمه في بعض المسائل على مقتضى المصلحة مع مخالفته في ذلك لما ورد في السنة كحكمه في مسألة الطلاق والمتعة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(تاريخ اللغة العربية)
نوهنا في الجزء الماضي بكتاب فلسفة اللغة العربية تأليف جرجي أفندي
زيدان صاحب مجلة الهلال العربية ، وأشرنا هناك إلى اشتغاله بتاريح هذه اللغة
وأهلها، وقبل أن ينتشر الجزء جاءنا منه كتاب (تاريخ اللغة العربية) وهو كتاب
ألفه جديدًا وطبعه ، فبلغت صفحاته 64 صفحة، وقال: إنه يعد ما كتبه فيه خواطر
سانحة فتح بها باب البحث لأئمة الإنشاء، وعلماء اللغة ليوفوا الموضوع حقه. أما
الموضوع فهو (البحث فيما طرأ على ألفاظ اللغة العربية وتراكيبها من الدثور أو
التجدد مع إيراد الأمثلة مما دثر منها ، أو تولد فيها، أو اقتبسته من سواها ، وبيان
الأسباب التي دعت إلى دثور القديم وتولد الجديد) وقد جعل الكلام فيه ثمانية
فصول: (1) العصر الجاهلي ، و (2) العصر الإسلامي، و (3) الألفاظ
الإدارية في الدولة العربية ، و (4) الألفاظ العلمية فيها ، و (5) الألفاظ العامة،
و (6) الألفاظ النصرانية واليهودية ، و (7) الألفاظ الدخيلة في الدولة الأعجمية ،
و (8) النهضة الحديثة وما تستلزمه.
وقد أورد في كل فصل من الفصول أمثلة غفلاً من بيان التاريخ الذي أهمل
فيه بعض الكلم، وتجدد بعض، ومنها ما لا يحتاج إلى ذلك، وفي بعضها نظر
ظاهر أو خفي ، والأمر سهل، وفي الكتاب فوائد كثيرة، وينابيع للبحث غزيرة،
وهو في حاجة إلى النقد لجدته واختصاره ، ومُصنِّفه مُصنِّف يحترم الانتقاد
الصحيح ويعمل به فلعلنا نوفق لمشاركة زميلنا المؤلف وإسعاده على هذه الخدمة
الجليلة ، ونحث علماء اللغة على ذلك. وثمن النسخة من الكتاب خمسة قروش
وأجرة البريد ثلاثة أرباع القرش ويطلب من مكتبة الهلال بمصر.
* * *
(رسالة في الشاي والقهوة والدخان)
كتب هذه الرسالة الشيخ جمال الدين القاسمي أحد علماء دمشق الشام وأدبائها ،
وبحث فيها عن تاريخ هذه الأشياء وصفاتها النباتية وخواصها وكيفية استعمالها،
وما قاله الأدباء والشعراء فيها ، وذكر عند الكلام على الدخان اختلاف الفقهاء في
حِلِّه وحُرمته، ومقال الأطباء في مضراته ومنفعته ، وختم الرسالة بنبذة في
الاعتناء باستنشاق جيد الهواء، فالرسالة علمية أدبية شرعية فكاهية، وقد طبعت في
الشام ، وثمن النسخة هناك ثلاثة قروش، وليته يرسل إلى مصر طائفة من نسخها.
* * *
(شرح قانون العقوبات الجديد)
نقحت الحكومة المصرية قانون العقوبات القديم ، فنسخت بعض أحكامه
وغيرت وبدلت فيه بما رأته أصلح مما كان قبله ، فوصف بعد ذلك بالقانون الجديد،
وما العهد ببعيد، وقد شرحه فوزي بك جورجي المطيعي النائب لنيابة مديرية
جرجا ، وطبع مع الشرح طبعًا متقنًا على ورق جيد جدًّا في مطبعة العارف الشهيرة
بإتقان عملها ، فخير للراغبين في الاطلاع على هذا القانون أن يطالعوه مع شرحه
الذي يعرفهم مقاصده ووجوه مواده، وهو يطلب من مكتبة المعارف بمصر، وثمن
النسخة منه 15 قرشًا.
* * *
(قصص أو روايات)
الفرسان الثلاثة
قصة تستتبع قصصًا جُعلت أجزاء لها سمي الثاني:
(رجع ما انقطع)، وليته قال:(وصل ما انقطع) والثالث والرابع: (عود
على بدء) ، والمؤلف هو إسكندر دوماس الفرنسي الشهير ، وقد عربها الشيخ
نجيب الحداد ، وكان المؤلف في مقدمة القصاص في حسن التأليف ، والمعرب في
مقدمة المعربين والمنشئين العصريين في حسن الأداء وسلامة التركيب، قلما
تَعْثُر في كلامه بغلط أو لحن، أما موضوع القصة أو القصص فهو بيان حال بعض
الشجعان النبلاء في القرن السابع عشر، وتمثيل بعض الأخلاق والصفات
العالية في أشخاصهم كالبسالة والشهامة والمروءة والوفاء والسخاء والدهاء، يتخلل
ذلك نبذ من تاريخ فرنسا وإنكلترا في ذلك القرن - وما كانت عليه قصور الملك
من الترف والأثرة والاستبداد وفساد الأخلاق، وما كانت عليه الأمة من
ظلمات التفرق والعبودية، وما يلوح فيها آنًا بعد آن من نور يتعارف فيه طوائف
وشيع من الأمة؛ فيجتمعون فَيُهَاجِمُون معاقل الظلم، ثم يختفي آنًا آخر فيئوبون إلى
ما كانوا عليه، حتى يلمع لهم ضَوْؤُه ثانية، وينقدح من لهيب تلك الظلمة
الحالكة ظلمة الظلم والاستبداد. فالقصص مفيدة بما تمثل لقارئها من الفضائل ومن
عِبَر التاريخ، وبها يظهر للخبير الفرق بين الأمم في طور ضعف الجهل والاستبداد،
فمنها ما ترى فيه جراثيم حياة كامنة؛ فتعلم درجة استعدادها للحياة السعيدة، ومنها
ما لا ترى فيها ذلك. وما جراثيم الحياة إلا الأخلاق العالية التي أشرنا إلى بعضها،
فإنك ترى أهل أوربا في القرون المظلمة كانوا على أخلاق وعادات هي التي نهضت
بهم في ضوء العلم الذي أشرق فيهم، ولكن الأمة الفاسدة الأخلاق قد يزيدها العلم
الطارئ فسادًا كما نرى أمامنا، أنبه على عادة لا تزال باقية في القوم من عهد
جاهليتهم وهي المبارزة التي ينتقدها قومنا أشد الانتقاد ، وما هي إلا بنت الشجاعة
والإباء، وأين منها ما عليه أمراء المشرق وكبراؤهم من الجبن والخنوثة التي
تسهل عليم خيانة بلادهم وأمتهم، وتسليم زمامها للأجنبي لأدنى تهديد يتهددهم به.
كانت هذه القصة قد طبعت وجمعت في مجلد واحد فنفدت، وقد طبعها أخيرًا
صاحب مطبعة ومكتبة المعارف كل جزء على حدته، وجعل قيمة الاشتراك فيها 16
قرشًا، وأما ثمن كل جزء على حدته فستة قروش وهي تطلب منه.
الأبرياء
قصة خيالية أدبية وضعها محمد أفندي محمد أحد كُتَّاب ديوان الأوقاف،
وأحسن ما فيها التنبيه إلى خطأ الناس في تزويج أبنائهم وبناتهم بما يوافق أهواء
أنفسهم دون رغباتهن ورغباتهم، وفيها كلام حسن في الغربة والكسب والاستقلال فيه
وذم الخمر ومضرتها ، فنحث القراء على مطالعتها.
الفضيلة
قصة غرامية خيالية أنشأها محمود طاهر أفندي حقي المُستخدِم في مصلحة
الأوقاف بمصر، وفيها مما ينقض بناءَ الفضيلة ذِكْرُ الاسترسال في الشهوات،
وفضيحة البنات، وخيانة الزوجات، واقتراف المنكرات، وإنما سميت القصة
بالفضيلة؛ لأن فيها ذكر لفتاة اعتصمت بالعفة، واستمسكت بعرى الفضيلة،
إذ أريد منها أن تسفه نفسها لا أن موضوعها الفضيلة. كيف تنهض بالأمم أو
الأفراد فيحيون بها سعداء، من حيث يتردى الأرذلون في مهاوي الشقاء، فلعل
المؤلف يصرف عنايته فيما عساه يكتبه من القصص بعد إلى مثل هذا، وثمن
القصة خمسة قروش.
الخرافة الحسناء
أو هدية الحكماء للأغنياء
قصة خيالية أخرى موضوعها: تمثيل سفه الأمراء وأولاد الأغنياء الوارثين
في مصر، وتبديدهم المال في طرق الشهوات واللذات، وما لذلك من سوء العواقب
واضعها إسماعيل أفندي شكري وفيها روح أدبي نافع نرجو أن يكثر في مكتوب
الشبان ، كما نرجو العناية من هؤلاء الكاتبين بتنقيح ما يكتبون ، والعناية بتصحيح
عبارته وطبعه. وثمن هذه القصة خمسة قروش أيضًا.
* * *
(رسائل)
(البورصة) كراسة صغيرة كتبها نسيم أفندي إلعازار في بيان أهم أعمال
البورصة التي هي ميزان التجارة ودولابها في هذه البلاد ، ولعمري إن أكثر التجار
والمزارعين وغيرهم في حاجة إلى معرفة حقيقة هذه البورصة واصطلاحاتها
وأعمالها، فكم خرب هذا الجهل بيوتًا، وبنى بأنقاضها بيوتًا. وثمنها قرش واحد،
وتطلب من مؤلفها بالإسكندرية.
(التقرير السنوي لجمعية الشبيبة السورية) الجمعية في بيروت
ومؤسسوها من خيرة فضلاء النصارى ، ولم نر فيها اسم مسلم غير عبد الرحمن
أفندي شهبندر فيا أسفي على المسلمين، ويا شكري وثنائي على العاملين، وقد رأينا
في هذا التقرير أن مال الجمعية لا يزال قليلاً لا يذكر، وأرباب الأموال لا يزالون
في الشرق أجهل الناس، وأبعدهم عن الإحساس، (حاشا اليابان) فنتمنى للجمعية
الترقي والنجاح.
* * *
(كلمة ورد غطاها)
رسالة تتضمن محاورة بين الشيخ محمد المليجي الكتبي بمصر وفرج بنيامين
البروتستنتي في النبي والقرآن والمسيح كان فيها الفلج للشيخ، وأمثال هذه
المناظرات والمجادلات والرسائل والكتب قد كثرت في مصر بتصدي مُبشِّري
البروتستنت لمجادلة المسلمين ونشر الكتب في الرد عليهم، ونرى بعض المسلمين
يتأففون من هذا ويرون أنه ضار، ورأينا أن ضرره محصور في التنفير وإلقاء
العداوة بين المسلمين والنصارى، وأما من جهة الدين نفسه فهو نافع غالبًا إذ
المسلمون لا يكونون نصارى بسبب هذا الجدل، ولكن يُرجى أن ينتبهوا به إلى
العناية بما هو مهمل عندهم من البحث عن أدلة الدين والتحقق من مسائله وشدة
الاستمساك بها مقاومة لهؤلاء المعتدين، ولذلك كثرت المؤلفات في الرد على
النصارى فهم المغلوبون لأن كتابة هؤلاء المبشرين لا تزيد النصرانية قوة ولا
النصارى تمسكًا بها، ولكنها تزيد المسلمين تمسكًا بالدين، وعلمًا به، والرسالة
تباع عند مؤلفها بشارع الحلوجي.
* * *
(مجلات جديدة)
(لسان الأمم) مجلة علمية أدبية مدرسية شهرية تصدر في مصر باللغتين
العربية والإنكليزية لمديريها ومحرريها حسين روحى م. ع، وأبو الحادي
الدراجي هكذا ورد اسمهما على المجلة ، وهنا نصرح برأي لنا قديم وهو أن يكتب
كل مؤلف أو صاحب جريدة أو مجلة لقبه الذي يخاطب به عادة مع اسمه كالشيخ أو
السيد فلان ، أو فلان أفندي أو بيك أو باشا ليعلم الناس كيف يخاطبونه، ومن أي
صنف هو، والجزء من المجلة يدخل في 20 صفحة ، وقيمة الاشتراك فيها 30
قرشًا في القطر المصري و 10 فرنكات في غيره.
(الحكمة) مجلة علمية طبية تهذيبية تاريخية تصدر في منتصف كل شهر
شمسي لمنشئها الدكتور عبد العزيز أفندي نظمي من كلية مونبلييه بفرنسا ، وقيمة
الاشتراك فيها 30 قرشًا في القطر المصري و 20 للأطباء والتلامذة و 10 فرنكات
في غيره. وإننا لَنُسَرُّ بكثرة المجلات العلمية والطبية إذ لا يعيش منها إلا ما كان
نافعًا ، لكن الجرائد قد يعيش منها الضار، لما للجمهور فيها من سوء الاختيار.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(سبب ثناء رياض باشا على اللورد كرومر)
أشرنا في الجزء الماضي إلى سخط أحداث الوطنية، من خطبة رياض باشا
في احتفال المدرسة الصناعية، واهتمام عبيد الكلام بقول الوزير دون عمل الأمير،
على أن عمل الأمير حكم نافذ فإذا أعطى عميد الاحتلال النفوذ الأرفع صار ذلك
حقًّا رسميًّا، والوزير معذور في استنجاده اللورد كرومر لحضانة المدرسة من دون
الأمير، وثنائه عليه لأنه يعتقد أن نجاح المدرسة متوقف على ذلك وإليك البيان
بالإيجاز:
المدرسة نسبت إلى اسم محمد علي لتكون تذكارًا لمرور مائة سنة على
تأسيسه هذه الإمارة التي يتمتع المنتسبون إليه بسعادتها، وقد جعل المشروع تحت
رعاية الأمير الجالس على كرسي (محمد علي) الآن فماذا كان منه ومن أهل بيته،
ومن الأمة المصرية كلها؟ كان أن افتتح الأمير الاكتتاب بمائة جنيه ، فلم يزد الذين
اكتتبوا من الأمراء عن ذلك على أن أكثرهم لم يكتتبوا، وكان مجموع ما جمع من
المال من الأمة أمرائها وأغنيائها لا يبلغ بضعة آلاف من الجنيهات، وقد تبرع
الأجانب على قلتهم وعلى كون المدرسة مصرية إسلامية بنحو ذلك والكل قليل.
ونستثني ما تبرع به أحمد منشاوي باشا فإنه صار أمة وحده، والسبب في هذه
الخيبة الوطنية افتتاح الأمير الاكتتاب بمائة جنيه ، ولو افتتحه بعشرة آلاف جنيه
مثلاً ، لوُجِدَ عدد كثير من الأمراء والأغنياء يستحي أن يدفع واحدهم أقل من ألف
جنيه، وكان المال بذلك يكون كافيًا لتأسيس المدرسة بمال الوطنيين، ولو شاء
الأمير أن ينجح المشروع بما له من النفوذ المعنوي لفعل. أرأيت لو كان لهج أمام
الوجهاء، والأعيان الذين يقابلونه في الأيام التي يسمونها أيام التشريف بتقصير
الأمة في هذا المشروع الصناعي الذي هو ركن من أركان الحياة في البلاد أما كانوا
يتسابقون إلى البذل بسخاء عظيم؟ أرأيت لو منح بعض الذين تبرعوا بمبالغ
عظيمة كآل محمود في الرحمانية - ولا نقول: منشاوي باشا - برتبة أو وسام
عظيم أو بالثناء عليهم في محفله. أما كان يوجد كثيرون يقتدون بهم؟ بلى ، ولكن
الأمير لم يفعل فمن المحتم أن اكتتابه ومسلكه كان العلة الحقيقية في عدم نجاح
الاكتتاب.
وأما اللورد كرومر فهو على كونه قد تبرع من جيبه بمثل ما تبرع به الأمير
من جيبه قد بذل نفوذه الذي يعلو كل نفوذ في هذا القطر لمساعدة المشروع بالثناء
عليه قولاً وكتابة، وبحمل المالية بل أمرها بإعطاء الجمعية أرضًا لبناء المدرسة لا
يقل ثمنها عن المال الذي جمع من الاكتتاب ، وبدفع تعويض لأصحاب الأكواخ
والخِصاص (العشش) التي احتاجت الجمعية إلى إزالتها من هناك ، ثم بأمر أحد
كبار المهندسين الإنكليز الذي أسس مدرسة الحكومة الصناعية على مساعدة الجمعية
في تأسيس المدرسة بغير أجر ففعل، أفننكر مع هذا أن اللورد كرومر كان خيرًا
لهذا المشروع من جميع أمراء الوطن المحبوب وأغنيائه ووجهائه وجرائده ومن
حَدَثِ السياسة الوطنية، بل ومن جميع أحداثها الذين ينكرون فضله بزعمهم حب
البلاد وأمير البلاد الرسمي. ألا نعذر رئيس الاكتتاب للمدرسة الذي بذل جهده
لإنجاحه ، فخاب أمله في قومه أن يعهد بالمشروع إلى من هو أرجى الناس لإبلاغه
كماله. أمن الوطنية أن يترك الإنسان الطريق الموصل إلى نفع الوطن بالفعل،
ويلغط بذكره في القول؟ فيقال: إن مثل رياض باشا العامل للوطن قد مرق من
الوطنية لأنه شكر المحسن للوطن رجاء المزيد، وأومأ للمقصر بتقصيره رجاء
الإقلاع والتشمير ، أو أنه خرج عن الموضوع؟ ؟
قال المؤيد: إن أكثر الناس قد استاءوا من خطبة الوزير. ويعني أكثر
أعضاء جمعية (العروة الوثقى) إذ لم يجتمع بأكثر الناس ولا بأكثر حاضري
الاحتفال فيقال: إنه يعنيهم ، ونحن نظن أن أكثر العقلاء على اعترافهم بفضل هذه
الجمعية وهمة أعضائها مستاءون من تسمية مدارسها بأسماء أمراء مصر السابقين:
إبراهيم وعباس وسعيد وإسماعيل الذين خربت في أيامهم البلاد، وهلكت العباد،
وليس لهم أثر علمي يذكر فيشكر، وهذه ذرياتهم تتمتع بالأراضي الواسعة من البلاد،
ولا تسمح لمدرسة ولا لجمعية خيرية بفدان واحد مهما صانعتها الجمعية، وما
استياء بعض أعضاء الجمعية من خطبة رياض باشا إلا كنسبة مدارسها إلى أولئك
الأمراء ، أي أنه أثر العبودية وبقايا الاستبداد السابق، وما كلمة رياض بجارحة
لاستقلال الأمة كما قيل بل هي أثر للإحساس باستقلالها إذ معنى استقلال الأمة هو
شعورها التابع لاعتقادها بأن الأمراء أجراء للأمة لا آلهة لها ، فلئن كان أكبر وزير
في مصر قد أومأ إلى ما كان من إهمال الأمير لمشروع المدرسة الصناعية إيماء
فلقد كان أقل الأعراب والنساء يصرحون بتخطئة عمر بن الخطاب وهو على منبر
الرسول صلى الله عليه وسلم تصريحًا فهذا هو الاستقلال الذي أزاله ملوكنا
وأمراؤنا وجعلونا أذل الأمم.
قال صاحب اللواء: إنه شتم رياض باشا اقتداء بالأعرابي الذي قال لسيدنا
عمر: (لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا) وإنما يصح الاقتداء إذا قال الحدث
مثل هذا لأمير البلاد أو للسلطان، لا لرجل اعتزل الحكومة والأحكام، وهو يمقته
من قبل فاعتبروا يا أولي الأبصار.
* * *
(المتوسلون المتسولون ودعاة الوطنية)
تَطَوَّفْ في أسواق القاهرة وشوارعها في أي وقت شئت من ليل أو نهار،
وأَطِلّ من شرفات بيتك أو نوافذه مراقبًا الناس مستمعًا لأحاديثهم؛ فإنك لا تكاد
تسمع ذكر الله، وذكر نبيه وأوليائه إلا من أهل التوسل للتسول، إلا أن يأتلي مؤتل
(يحلف حالف) بسيدنا الحسين أو المتولي أو غيرهما ممن تقسم بهم العامة، وقد
غاب عن ناظري رجل أشعث أغبر أشمط كنت أراه يطوف الشوارع ولسانه رطب
يتلجلج بذكر السيدة لا يفتر طرفة عين عن ندائها: يا سيدة يا سيدة يا سيدة يا سيدة
يا سيدة.... وأعرف رجلاً شيخًا أشيب أعمى أجش الصوت ينشد الأماديح
المنظومة علي طريق المواويل بالاستغاثة بالسيدة: (يا بنت بنت النبي طلي
وشوفينا، يابنت بنت النبي دخلك أنا عيان) وأعرف امرأة عمياء كانت تجلس
في ظل دارنا وهي تحفظ أسجاعًا متناسقة في الدعاء هممت غير مرة بأن أنصت
إليها وأكتبها عنها. وأما الذين يشتركون في عبارة خاصة فكثيرون كالطوافين بكلمة:
مليم أجيب بو شأَّة، علي أُبُول سيدنا الحسين والسيدة زينب وجدهم الحبيب النبي.
أي أطلب مليمًا (عُشْر القرش المصري) أشتري به كسرة من الخبز رجاء أن
يقبله منكم سيدنا الحسين
…
إلخ - يقول هؤلاء ما يقولون وقلوبهم تطوف في
صدور الناس أيها يتأثر بذكر هؤلاء السادات المتصرفين في الأكوان فيرضخ لهم
بشيء مما في يده تقربًا إليهم والتماسًا لبركاتهم، ولكنهم لو سئلوا شيئًا يبذلونه ابتغاء
مرضاة السادات فإنهم يقبضون أيديهم؛ لأن حظهم من حب السادات أن يأخذوا من
الناس على قبولهم لا أن يعطوا تقربًا إليهم، ولا غرض من مدحهم وذكرهم إلا
التأثير في نفوس من يرجى رفدهم من محبيهم، مثل هؤلاء مثل دعاة الوطنية من
أحداث السياسة المصرية تطوف البلاد وتحضر الأندية وتغشى السمار ، وتقرأ
الكتب والصحف المنتشرة فلا تجد للوطنية داعيًا، ولا بذكر جلاء الإنكليز عن
مصر لاهجًا ، إلا المتسول المتوسل إلى حظه باسم الوطنية لعلمه بأن التفرنج
الحديث قد جعل لهذه الكلمة شرفًا كبيرًا وذكرًا مجيدًا فهي تؤثر في نفوس بعض
الأغنياء والوجهاء ما لا يؤثر ذكر المتبولي والسيدة زينب في قلوب العامة والنساء،
فكم بذل مجنون بالوطنية البدر من الدنانير، إذا كان محب الأولياء يبذل القرش
والمليم، وحظ داعي الوطنية من اللهج بها كحظ مادح الأولياء، هو أن يقول لا أن
يفعل، وأن يأخذ لا أن يعطي، فإذا كان له منفعة من الأمير فلان فهو يجعله عماد
الوطنية وعتادها، وإن أمال عمادها، واقتلع أوتادها وأضاع لأجل شخصه طارفها
وتلادها، واذا خالف هواه سير عالم كامل أو زعيم عامل، فهو يجعل حسناته
سيئات، ويتتبع للطعن به العثرات، فأمثال هؤلاء الوطنيين يحصرون معنَى
الوطن في أشخاصهم بدعوى الوطنية كما يحصر بعض كبار المتسولين الدين في
شخصه بدعوى الصلاح والولاية، فمدعي الولاية يرمي من ينكر عليه هوسه
ودعواه بالمروق من الدين، ودَعِيُّ الوطنية يتهم من ينكر عليه هوسه ودعواه
بعداوة الوطن ، وغرض كل من الفريقين المال والجاه بما يخادعون الناس (تغيير
شكل، لأجل الأكل) وتوسل للتسول، وأكثر الناس غافلون ، وهم في غفلاتهم
يرزقون.
* * *
(انتقاد على مقالة العلماء والمحاكم)
زارنا أحد كبار القضاة الشرعيين في المحكمة الكبرى بعد صدور الجزء
السادس، وقال: إن ما حدثنا به المرحوم علي باشا رفاعة من اقتراح إسماعيل باشا
الخديوي الأسبق على العلماء تأليف كتاب على نسق القوانين في السهولة
…
إلخ،
على غير وجهه، والصواب أن الخديوي طلب من العلماء تطبيق القانون على
الشريعة، وإرجاع أحكامها إليه فأبى الأكثرون وتصدى بعضهم لوضع كتاب في
الأحكام الشرعية يوافق القانون الفرنسي في الأكثر ومعظمه من فقه الإمام مالك.
قال: ويقال: إن الشيخ محمد مخلوف المنياوي قد أتم هذا الكتاب ، وقدمه للحكومة
الخديوية أو لحاشية الأمير فلم يظهر له أثر، وحدثني بنحو هذا صديق آخر، وقال:
كان من غرض إسماعيل باشا إرضاء أوربا بتقليدها في كل شيء حتى في إبطال
بعض الأحكام الشرعية الإسلامية كإباحة تعدد الزوجات المنتقدة عندهم وتحويل
الشريعة إلى قوانينهم، وأنه كان يقول: لا يمكن أن تعمل الأمة في هذا القرن بما
وضع للعرب من نحو ثلاثة عشر قرنًا تقريبًا، ولهذا لم يكن للعلماء إجابة طلبه،
ولا بُعد في هذه الأقوال عند العارفين بحال هؤلاء الأمراء وبعدهم عن الدين وكأن
ذلك الأمير المستبد الجاهل كان يرى أن قانون الكرباج الذي وضعه محمد علي
وأفسد به بأس الأمة ، ونزع منها هو ومن بعده روح الشهامة والشجاعة أفضل من
الشرع الإلهي الذي ارتقى بالأمة العربية إلى السيادة على جميع الأمم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
استغناء البشر عن دين جديد
ومعنى كون دين الفطرة آخر الأديان
وافتجار البابية
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا
أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب: 40) .
لقد كان من عموم رحمة الله تعالى وسعتها أن جعل للحق السلطان على
الباطل، وللخير الرجحان على الشر، فلله الشكر والحمد، ولله الأمر من قبل ومن
بعد، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهداه إلى الحق وإلى طريق مستقيم، كَمَّله
بالمشاعر البادية والكامنة، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وأعطاه العلم والإرادة،
وأناط بعمله غوايته ورشاده، ولذلك خلقهُ ضعيفًا جهولاً، ليكون باكتسابه قويًّا
عليمًا، وجعل حياة الأمة من نوعه، شبيهة بحياة الفرد في شخصه، تتربى بكسبها
وتبلغ كمالها بالتدريج، وجعل عقل الأمة العام النبوة يظهرها في أكمل أعضائها،
كما أن عقل الأفراد يكون في أشرف عضو فيها، وشذوذ بعض آحاد الأمة عن
هدي نبيها شبيه بشذوذ بعض أعضاء الشخص عن حكم العقل، كاليد تبطش حيث
يضر البطش، أو الرجل تسعى إلى ما يحكم العقل بوجوب القعود عنه، وسبب
ذلك التقصير في التربية الدينية والعقلية.
ومن آياته تعالى أن جعل شذوذ الأفراد عن الأصل، وميلهم عن الجادة، سببًا
من أسباب التربية، وعلمًا من أعلام الهداية، كما جعل انتشار الباطل في الأمم
معدًّا لها لقبول الحق. وتغشي الظلم والاستبداد، من مقدمات الحرية والاستقلال،
فله سبحانه في أثر كل شدة رخاء، وفي تضاعيف كل نقمة نعماء، فما عَمَّ الضلال
في أمة إلا وجاءها بعده الهدى، ولا تفاقم الباطل في قوم إلا وانجلى بعد ذلك بقوة
الحق؛ كان يظهر لهم ذلك بتعليم الوحي المناسب لحالهم، حتى إذا ما استعد النوع
لأن يكون أمة واحدة، منحه الله الهداية العامة، والرحمة الشاملة، منحه دين
الإسلام، الذي هو كالعقل العام، والمرشد الحكيم لجميع الأنام.
كان لضلال البشر قبل الإسلام علتان إحداهما ضعف قوى الخلقة، وثانيهما
الانحراف عن سنن الفطرة، فكان من الضعف أن يعتقد الناس في كل مظهر من
مظاهر الخليقة لا يعرفون علته أنه هو القوة الغيبية التي قامت بها جميع المظاهر
وهي القوة الإلهية فيعبدوا ذلك المظهر. وكان من الانحراف عن قوانين الفطرة ما
كان من الأوضاع والبدع والتقاليد الوضيعة الكثيرة، ومن عجيب أمرهم أن أسندوا
معظم ذلك للدين حتى صار من المقرر عند أهل الدين وعند الحكماء الباحثين في
طبائع الملل أن الدين أوضاع كلها وراء ما تدعو إليه الفطرة ويرضي العقل، كأنه
وضع لمصادمة الخلقة ومناصبة الفطرة ومحاولة تبديل خلق الله بشرع الله حتى جاء
القرآن ينادي الداعي إليه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم:
30) فعلم الناس أن الدين الحق إقامة الفطرة لا مقاومتها، والاستنارة بنور العقل لا
إطفاؤه، وأن العمدة في معرفة الحق الدليل، والعمدة في العبادة الإخلاص لله تعالى
وحده، والعمدة في معرفة الأحكام، والحلال والحرام، اجتناب المضار واجتلاب
المنافع، فبهذا كان الإسلام هو الدين الأخير الذي أخرج البشر من حجر القصور
وعبوديته، إلى فضاء الرشد وحريته، وكان ناسخًا لما قبله من الأديان، ولا يمكن
أن ينسخ أو ينقضي الزمان.
يبلغ في الشخص رشده فيؤذن له بالتصرف في حاله، والاستقلال في أعماله
فيمضي فيها فتارة يخطئ وتارة يصيب، وينجح في عمل وفي آخر يخيب، وربما
أضاع رأس ماله زمنًا، ثم استعاده في زمن آخر، والأمم أولى بالتخبط بعد بلوغ
رشدها ، إذ الرشد لا يظهر في جميع أفرادها دفعة واحدة وإنما يظهر في بعض دون
بعض، فتارة يغلب إصلاح الراشدين فيها، وطورًا يُغْلَب، والمجموع يستفيد من
كل فوز وكل خيبة ، فلا يظهر الإفساد في موضع إلا ويلوح الإصلاح في موضع
آخر تامًّا أو ناقصًا حتى يبلغ الكمال البشري أشده، ويصل إلى كماله العام باستقلاله
في عمله بدون حاجة إلى مسيطر ديني جديد كما كان يقع في الأمم قبل ظهور دين
الفطرة الأخير وهو الإسلام ولا يزال الإصلاح والإفساد يتنازعان كل أمة قبل
الوصول إلى الكمال الأخير.
كذلك كان شأن الناس في الإسلام نهض به الذين ظهر فيهم أولاً، ثم عميت
عليهم سُبُلُه فوضعوا وابتعدوا، وأولوا واخترعوا، وتركوا الاستقلال بنور العقل
في فضاء الفطرة وأقاموا لهم زعماء فنيت عقولهم وإرادتهم فيهم، وكان قد أخذ
الاستقلال والاهتداء بسنن الفطرة عنهم قوم آخرون ، فغلب خير هؤلاء على شرهم
كما غلب شر أولئك على خيرهم، والسيادة والسعادة يتبعان الخير والاستقلال دائمًا
وقد قُلَبَ أصحاب السيادة في الأرض المِجَنّ للخاسرين فقالوا: (إن خساركم قد
جاءكم من دينكم فاتبعونا تفلحوا) ، وكان هؤلاء الخاسرون يقولون في أيام سيادتهم:
إننا قد سُدْنا بديننا فاتبعوه أيها الناس تفلحوا، وإنما كانت السيادة لكل من السائدين
بالاستقلال واتباع سنن الفطرة التي أرشدنا إليها الإسلام؛ ساد بها أولئك من حيث
عرفوا موردها، وساد بها هؤلاء من حيث جهلوا مصدرها، وإنما يستظل أهل
الزعامة الدينية منهم والسيطرة الروحانية فيهم بظل الذين تركوهما، ويخدعون
أولئك بلقب الدين المشترك بينهما، فعلم بهذا أن المسلمين قد تركوا ما ساد وسعد به
سلفهم الصالحون، والآخرين جهلوا منبعث هذا النور الذي هم في ضوئه يسيرون،
وزعم بعضهم أن دينهم هو الذي هداهم إليه، ولكن لماذا لم يهتدوا إليه بدينهم عقيب
دخولهم في ذلك الدين بل ظلوا يتسكعون في الظلمات بضعة عشر قرنًا حتى انتشر
الإسلام فأطلق الأفكار من سيطرة الرؤساء، والإرادة من عبودية الزعماء ، ووصل
تعليمه وهديه إلى تلك الأرجاء.
لا عجب في إنكار المخالفين مزية في الإسلام بالقول، بعد ما أنكرها أهله
بالفعل، ولكن العجب العُجاب في صنيع قوم قاموا يداوون الداء بالداء، ويعودون
بالنوع البشري إلى مضيق العبودية والاستخذاء. ذلك أن الأمة الإسلامية ضاقت
ذرعًا بأوزار البدع والتقاليد التي وضعها الرؤساء وألزموا الناس بها تقليدًا أعمى
فطفقت تَئِطّ وترمي عن عاتقها بعض ما حملت على غير بصيرة فيما ترميه
وتستبقيه هل هو النافع أم الضار، وتنتظر زعيمًا قائمًا بالحق ينتاشها مما وقعت
فيه من الجهل والفقر والذل والعبودية، وإذا بصائح يصيح: أنا القائم المنتظر ،
وكان ذلك مؤسس دين البابية.
* * *
البابية
المسلمون متفقون على أن الدين قد ضعف في النفوس. يعترف بهذا عالمهم
وجاهلهم في الجملة ويختلفون فيه بالتفصيل، ومتفقون على أنهم في حاجة إلى
الإصلاح وإلى أن هذا الإصلاح إنما يكون بالرجوع إلى العمل بكتاب الله تعالى
وسيرة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ويعتقدون أن هذا الإصلاح إنما يكون
على يد زعيم يدعى بالمهدي يبطل المذاهب ويقيم الناس على مثل ما كانوا عليه في
عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدين وأحسن مما كانوا عليه في الدنيا، وهذا
الاعتقاد ظهر في الشيعة وامتد إلى غيرهم من المسلمين حتى لا يكاد ينكره إلا أفراد
في كل زمان، وقد ظهر (الباب) في بلاد الفرس بهذه الدعوة في أثر ضيق شديد
فتوهم الناس ومعظمهم هناك من الشيعة الذين ينتظرون المهدي في كل يوم أنه هو،
وحمل الضيقُ والبلاءُ كثيرًا من الناس على اتباعه، وماذا كان منه؟ هل جاء على
ما كانوا يعتقدون من الصفات والنعوت والأعمال؟ كلا، إنه جاء بنزعة وثنية
مناقضة لما جاء به الإسلام من الهداية العليا التي أشرنا إلى مزاياها في مقدمة هذا
المقال، مبنية على استئصال جراثيم حرية الفكر واستقلال العقل، وعلى الخضوع
والعبودية لرجل مضطرب الفكر بعيد من نور العلم. لا مزية له إلا اللغو بما يخدع
جهال الأعجمين. وضعفاء المقلدين. الذين اعتادوا على اعتقاد الولاية والعرفان.
في أصحاب الدجل والهذيان فكان ظهور هذا الرجل واتباع كثير من الشيعة له
وتصديقهم من بعده إلى تعميم دعوته ورفع كلمته أشد مضار الاعتقاد بالمهدي
المنتظر، وأكبر العظات فيها والعبر.
لم يحاول هذا الداعي المشترع إبطال دين الإسلام فيمن ينتظرون تأييده وإنقاذه
من التقاليد التي ذهبت باستقلاله، بل حاول إفساد الفطرة وإطفاء نور العقل الذي
أذكاه الإسلام وأطلقه من سجنه، وبنى دينه الجديد على تقاليد الشيعة الذين ظهر
فيهم لأنه كان شبعان ريان بهذه التقاليد، ومحكوم الشعور والوجدان بها، ولولا هذا
ما راجت دعوته في أولئك الغلاة الذين إذا سمعوا ذكر آل البيت عليهم السلام
والرحمة ظلت أعناقهم له خاضعين، وكانوا لكل ما يقوله ذاكرهم بالخير متقبلين،
ولو أن المسلمين لا مذاهب لهم، ولا كتب دينية غير القرآن وسيرة النبي وآله
وصحبه في أعمالهم وأحوالهم وأقوالهم المنقولة بطرق متفق عليها بينهم، مطابقة
للأعمال والأحوال غير مخالفة للقرآن ما سرت إليهم هذه الضلالات في الماضي ولا
في الحاضر فهكذا فعل التقليد بالمسلمين جعلهم غرباء عنه فسهل على المضللين أن
ينتزعوا بعضهم منه.
القرآن بشر البشر بأن الله تعالى رفع عنهم سيطرة الرؤساء الروحانين حتى
خاطب من أنزله عليه بقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) وسماه عبدًا متبعًا ما أمر به ، وإنما ذكرهم بما تعهده الفطرة
السليمة ، فإقامة هذا الدين هو الرجوع إلى الفطرة المعتدلة كما ترشدنا إليه الآية
التي صدرنا بها المقال، وذلك تبشير برشد البشر واستقلالهم، والبابية يحاولون
إرجاع السيطرة الدينية للأشخاص بأقبح ما كانت عليه من أشكال الوثنية فهم يعيدون
البشر إلى حجر الطفولية التي تفتقر إلى القَيَّمِ المطاع طاعة عمياء.
القرآن بشر البشر بأن محمدًا خاتم النبيين فلا حاجة بعده إلى تعليم سماوي،
ولا وحي جديد؛ لأن تعليمه هو التعليم العالي الذي يرتقي به العقل ويستقل، فلا يقبل
الشيء إلا ببرهانه، ولذلك استدل على العقائد، وبَيَّن منافع الآداب والأحكام وطالب
بالدليل والبرهان، وجعله شرطًا للاعتراف بالصدق {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ} (البقرة: 111) والبابية يحاولون إرجاع أهل هذا التعليم العالي إلى
تعليم الأطفال الابتدائي الذي يؤخذ فيه كل شيء بالتسليم والإذعان، بدون دليل ولا
برهان.
القرآن أبطل التقليد لأن فيه حجرًا على العقول أن تفهم الدين عن الله بنفسها
وتفهم مصالحها في الدنيا بالتجربة والاختبار، فقال فيمن احتجوا بتقليد ما كان عليه
آباؤهم: {أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 17.) فبين
أن أحدًا لا يأخذ بقول أحد إلا إذا عَقَلَهُ وتبين له وجه الهداية فيه. والبابية يحاولون
إقرار الذين ضلوا عن الاستقلال على ضلالهم وإلزامهم باتباع رؤسائهم في
التأويلات التي لا تعقل والخضوع لهم فيما علموا وجهلوا، بل أوجبوا عليهم
عبادتهم (يا للمصيبة والرزية، وضعف البشرية) .
القرآن جعل آية محمد الكبرى علمية أدبية، ولم يحتج على نبوته بالآيات
الكونية؛ لأنه دين العقل والآيات الكونية لا تعقل، ولأنه دين العلم وهي لا تعلم.
ولأنه جعل ركن ارتقاء البشر الهداية إلى سننه تعالى في الخلق وكونها لا تتبدل ولا
تتحول، وهي على غير السنن الكونية، والبابية زعموا أن الباب كان مؤيدًا
بالخوارق والآيات، ولكن لم يستطيعوا إثبات ذلك، بل جعلوا اللغو دلائل كما ترى
قريبًا.
القرآن أرشد البشر إلى العلوم الكونية وحثهم عليها في آيات كثيرة، والباب
حرم عليهم كل علم إلا ما يؤخذ عنه، وفرض عليهم في البيان محو جميع الكتب ثم
نسخ البهاء ذلك (في ص 22 من الكتاب الأقدس) ولئن أصاب البهائية في هذه فهم
لا يخرجون عن كونهم فرعًا من البابية، وكون ديانتهم مَبْنية على أساس البيان ،
والمبني على الفاسد فاسد.
ماذا عسى أن نقابل وننظر بين تعليم الإسلام وتعليم البابية؟ هذا شيء يطول
وأفضل منه التنبيه والإيماء إلى سبب قبول بعض المسلمين لهذا الدين مع رفضهم
لدين النصرانية الذي يجتهد دعاته في تنصيرهم، ويبذلون القناطير من الأموال،
ويتقنون فنون التشكيك والجدال، على أن البابية تشبه النصرانية بالقول بألوهية
البشر، وهي دونها فيما عدا ذلك ، فإن كلام الباب بمكانة من السخف واللغو
يضحك منها الصبيان. وإنما راجت دعوته في طائفة الشيعة من المسلمين،
والسبب في ذلك أمور خاصة بهذه الطائفة، وأمور أخرى عامة يشاركهم فيها
غيرهم من طوائف المسلمين:
(السبب الأول) عموم الجهل بالقرآن، فمن فهم القرآن يستحيل أن يقبل
دينًا آخر لأنه يعلم أنه لا حاجة للبشر معه إلا إلى استعمال ما وهبهم الله من القوى
العقلية والبدنية لنيل سعادة الدنيا والآخرة، وكان يجب على المسلمين أن يُعلِّموا كل
مسلم ومسلمة هذا القرآن، لا ألفاظه فقط، بل ألفاظه ومعانيه ، وكان الخلفاء
الراشدون يفرضون العطايا لمن يتعلم القرآن، ولكن سلاطين الجور من بعدهم
أبطلوا هذا، واتفق بعد ذلك أئمة الجور من الملوك والفقهاء على الاكتفاء بكتب الفقه
عن كل الدين.
(الثاني) عموم الجهل بسيرة النبي وسنته فإنهما خير البيان لما أنزل الله
تعالى، ولكنهم لم يحفلوا بذلك حتى لا تجد في مثل الأزهر من يتعلمهما، والعلة فيه
ما تقدم.
(الثالث) الجهل باللغة العربية التي يتوقف عليها فهم القرآن، ولا شك أن
تعميم تعليمها واجب إذ لا يفهم الدين بدونه، وإنني لا أعرف في بلاد المسلمين
مدرسة ولا مكانًا تعلم فيه هذه اللغة ، وإنما يعلم في المدارس بعض فنونها والكتب
المؤلفة بها، أما اللغة وأساليبها فلا تعلم بحيث ينطق بها المتعلم ويكتب ويخطب ،
ولو كان أولئك الذين استجابوا للباب يعرفون هذه اللغة الشريفة لسخروا من تقليده
للقرآن بالفواصل مع كثرة اللغو والغلط واللحن في كلامه حتى إن فيه ما لا يعقل له
معنى قط ، وإنما هو جعجعة وسجع كسجع الكهان، ربما يظنه الأعجمي شيئًا
عظيمًا بليغًا كالقرآن إذ لا يفهم من القرآن شيئًا، ولا يذوق لبلاغته طعمًا.
(الرابع) تعوُّد المسلمين على أخذ كلام العلماء في الدين بالتسليم من غير
إسناد إلى كتاب، ولا سنة ولا دليل ، أي تعودهم على التقليد البحت الذي ذمه
القرآن وأبطله.
وقد عمَّ هذا التقليد حتى في العقائد، فلو أن رجلاً في هذه البلاد مثلاً خالف
مثل السنوسي في الصفات العشرين والدلائل التي جاء بها عليها لعدوه مارقًا من
الدين وإن وافق هدي القرآن في سرد العقائد والاستدلال عليها بآيات الله في الكون.
(الخامس) تعوُّد المسلمين على الخضوع والإذعان للظاهرين بمظهر
الصلاح واللابسين لباس التصوف، وتقديم كلامهم على كل كلام حتى ما يعتقدون
أنه من الدين بلا خلاف (راجع الكلام في الصوفية من تفسير هذا الجزء) وكم
خدع المسلمين خادع من الباطنية وغيرهم باسم التصوف، وأفسد في دينهم ما شاء
وما هؤلاء البابية إلا فرقة من الباطنية الملحدين، وكان الباب قد دخل الخلوات
وبالغ في الرياضات. قبل أن يقوم بهذا الافتئات، ومن العجائب أن علماء
المسلمين اليوم يقدسون كل كلام ينسب للمتصوفة مع اعترافهم بأن منه ما لا يفهم
ومنه ما يناقض الكتاب والسنة وإجماع الأئمة ككلام محيي الدين بن عربي وعبد
الكريم الجبلي وغيرهم. فلا عجب بعد هذا إذا قبل القوم كلام الباب في تفسير
سورة يوسف بقصة الحسين وخضعوا للغوه في البيان والصحف والخطب والرسائل
الكثيرة.
(السادس) غلو الشيعة في تعظيمهم المنتسبين لآل البيت والباب منهم
واعتقادهم الجازم بالمهدي المنتظر، وأنه معصوم لا يُسْأَل عما يفعل، ولا يعارض
فيما يحكم. وقد بنى الباب دعوته على تقاليد الشيعة في الأئمة والمهدي كما تقدم
وإننا نورد للقراء مثلاً من أقوال الباب التي يدعي أنها مُنزلة ليحكموا حكمًا
صحيحًا، ونبدأ بما أرسله إلينا في البريد الأخير أحد كبار البابية في طهران ردًّا لما
كتبناه من قبل في المنار. ومحاولة لإقناعنا بهذا الدين ولعله أمثل ما عندهم،
وسنورد بعده ما هو شر منه، وإننا نورد ما يأتي بنصه ونصححه على أصله بغاية
الدقة، فلا يتوهمن أحد أن ما فيه من الغلط والسخف من التحريف، بل هو كلام
الباب بحروفه قال:
الصحيفة السادسة في الخطب
وهي مرتبة بأربعة عشر خطبة
(الخطبة الأولى)
(هذه الخطبة قد أنشأت في كل ما سطر في ذلك الكتاب ليكون الكل بذلك من
الشاهدين.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي خلق الماء بسر الإنشاء، وأقام
العرش على الماء بشأن الإمضاء، وأنزل الآيات من عالم العماء بجريان القضاء،
وفصل ما قدر في طور السيناء بحكم الثناء، وأمضى ما قدر بالبهاء بذوبان
الاقتضاء، سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ألا يعبدوا إلا إياه،
وجعل في يدي كل أحد منهم شأنًا من قدرته التي يعجز عن مثلها كل ما سواه،
فيثبت الحق بكلماته، ويبطل الباطل بآياته لئلا يكون لأحد بعد العلم بمحل حكمه
حجة، وكان الكل له مُسَلِّمين، فسبحانه وتعالى قد جعل بينه وبين رسله شأن البهاء
من الكلام لأنها أعظم النعماء في الإنشاء، وبها يتشرف الرسل بعضهم على بعض،
كما نزل في التنزيل، بحكم الله الجليل {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْياً
أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى: 51) ، وجعل في كلامه شأنًا من القدرة التي لا يشتبه بكلام عباده، وإنه
سبحانه حي قادر ينزل على من يشاء بما يشاء من آياته سبحانه وتعالى عما يصفون،
أشهد الله في ذلك الكتاب بما شهد الله لنفسه بنفسه من دون شهادة أولي العلم من
عباده بأنه لا إله إلا هو لم يزل كان بلا ذكر شيء، والآن هو الكائن بمثل ما كان
لم يكن معه شيء. قد علا بعلو ذاته عن نعت الإنشاء وأهلها، وتعظم بعظمة نفسه
عن وصف الإبداع وما يشابهها. سبحانه تقطعت الإبداع كينونيته، وتفرقت
الاختراع إنيته، من قال هو هو فقد فقده لأنه لا يوجده غيره، ولا له صفة دون
ذاته ولا اسم عين بهائه فمن وحده فقد جحده؛ لأنه لا يعرفه بشيء ، ولا يدركه عبد
انقطعت الأسماء من عالم العماء بجبروتيته، وامتنعت الصفات من عالم الأمثال
بملكوتيته، لم يزل كان ربًّا بلا مربوب، وعالمًا بلا معلوم، وقادرًا بلا مقدور،
وموجدًا بلا موجود، والآن كان الله بمثل ما كان وهو الكائن لا مربوب، وهو
العالم لا معلوم، وهو القادر لا مقدور، وهو الموجد لا موجود، لا اسم له ولا
وصف، ولا نعت له ولا رسم، قد تقطع الكل ذاتيته، وتفرق الكل كينونيته، لا
ذكر له بالفصل، ولا بيان له بالوصل، من قال هو الحق، يرجع الأمر إلى الخلق،
ومن قال هو العدل، يمنع العدل عن الوصف، سبحانه وتعالى قد وجدت الإبداع
بالإنشاء بلا مسِّ النار من ذاته، واخترعت المشية بالإبداع بلا فصل من نفسه،
وقد منعت الإبداع عن معرفة إبداعه، وانقطعت الاختراع عن محبته باختراعه،
سبحانه وتعالى لا ذكر هنالك لا بالنفي ولا بالإثبات، ولا بالثناء ولا بالآيات ، ولا
بالبهاء ولا بالعلامات، ولا بذكر الهاء ولا الفرار عن الواو ، ولا بالقيام بين
الأمرين، ولا بحرف اللاء سبحانه وتعالى عما يصفون، (وأشهد) لمحمد صلى
الله عليه وآله بما شهد الله له به حيث لا يعلم ذلك إلا هو بعدما اخترعه لعزة ذاته،
واصطفاه لقدس جنابه، وجعله منفردًا من أبناء الجنس في تلقاء جماله، للقيام على
مقامه. إذ هو لا يدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير،
(وأشهد) أن محمد بن عبد الله رسوله قد بلغ ما حمل في أمره ، وقبض ما أجرى
القضاء بأيدي نفسه، سبحانه وتعالى ويحذركم الله نفسه. ألا تقولوا في حقه دون ما
قدر الله لنفسه. سبحانه وتعالى عما يشركون (وأشهد) أن أوصياء محمد صلى الله
عليه وآله اثنَيْ عشر نفسًا في كتاب الله يوم ما خلق حرفًا في الإمكان غيرهم بما قد
شهد الله لهم في عز جبروتيته ، وقدس لاهوتيته ، وعظم سبوحيته ، وعلو
صمدانيته بما لا يعلم ذلك أحد غيره. (وأشهد) أنهم قد بلغوا ما حملوا من وصاية
رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأنهم الفائزون حقًّا. (وأشهد) أن قائمهم سلام
الله عليه حَيٌّ به قد أقام الله كل شيء ، وله يمد الله كل شيء ، وبه يوجد الله كل
شيء. وأن له رجعة حق بمثل ما جعل الله لهم فسوف يحيي الله الأرض بظهوره ،
ويبطل عمل المشركين. (وأشهد) أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله
ورقة مباركة عن الشجرة البيضاء لا إله إلا الله سبحانه وتعالى عما يشركون.
(وأشهد) لكل حق بمثل ما شهد الله له في علم الغيب ، ولكل باطل بمثل ذلك ، وإنه
ليعلم بأنِّي عبد الله مؤمن به وبآياته وبكتابه الفرقان الذي لم يوجد بمثله ، وبالمحبة
لكل ما أحبه وبالبراءة لكل ما أبغضه ، وكفى بالله عليَّ شهيدًا. (وأشهد) أن
الموت والسؤال والبعث والحساب وحشر الأجساد والأجسام ، وما جعل الله وراء
ذلك في علمه لَحَقّ بمثل ما كان الناس في علم الله ليوقنون (وأشهد) أن كل ما
فصل في ذلك الكتاب حق من فضل الله عليَّ ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
ولقد فصل في ذلك الكتاب كل ما خرج من يدي من سنة 1240 إلى سنة
1242 من شهرها بما مضى نصفه من شهرها، وهو أربعة كتاب محكم وعشر
صحيفة متقنة التي كل واحدة منها تكفي في الحجية على العبودية لمن في السموات
والأرض ، وأنا ذا أذكر أسماءها بأسماء الله منزلها لتكون حنيفًا في البيان ومذكورًا
في التبيان.
(الأولى) كتاب الأحمدية في شرح جزء الأول من القرآن. (والثانية)
كتاب العلوية وهو الذي قد فصل فيه سبعمائة سورة محكمة التي كل واحدة منها سبع
آيات. (والثالثة) كتاب الحسينية وهو الذي قد فصل فيه خمسين كتابًا محكمة
بالآيات القاهرة. (والرابعة) كتاب الحسنية في شرح سورة يوسف عليه السلام
التي كلها المفصلة بمائة وإحدى عشرة سورة محكمة التي كل واحدة منها اثنتان
وأربعين آية التي كل واحدة منها تكفي في الحجية لمن على الأرض وما في تحت
العرش لو لم تغير وكفى بالله شهيدًا. (والخامسة) صحيفة الفاطمية ، وهي مرتبة
بأربعة عشر بابًا في أعمال اثنَيْ عشر شهرًا في كتاب الله. (والسادسة) صحيفة
العلوية ، وهي مرتبة بأربعة عشر دعاء في جواب اثنَيْ وتسعين مسألة التي قد
فصلت بعد رجعي على الحج في الشهر الصيام. (والسابعة) صحيفة الباقرية ،
وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في تفسير أحرف البسملة. (والثامنة) صحيفة
الجعفرية ، وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في شرح دعائه عليه السلام في أيام الغيبة.
(والتاسعة) صحيفة الموسوية ، وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في جواب اثنين
نفس من عباد الله التي قد قضت في أرض الحرمين. (والعاشرة) صحيفة
الرضوية ، وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في ذكر أربع عَشْرَةَ خطبةً غراء الناطقة
عن شجرة الثناء لا إله إلا هو العزيز المنان. (والحادي عشر) صحيفة الجوادية ،
وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في جواب أربع عَشْرَةَ مسألة لاهوتية. (والثاني
عشر) صحيفة الهادية ، وهو مرتبة بأربعة عشر بابًا في جواب أربع عَشْرَةَ مسألة
جبروتية. (والثالث عشر) صحيفة العسكرية ، وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في
جواب أربع عَشْرَةَ مسألة ملكوتية. (الرابع عشر) صحيفة الحجية ، وهي مفصلة
بأربعة عشر دعاء قدوسية التي قد ظهرت في بدء الأمر ، وتنسب إلى أيام العدل.
فكل ذلك أربع عَشْرَةَ نسخة مباركة موجودة في ذلك الكتاب مع صحيفة
المشهودية في آخره في أربعة عشر كتابًا من أولياء العباد. كل ذلك مكتوب في هذا
الكتاب ، وأما ما خرج من يدي ، وسرق في سبيل الحج قد نذكر تفصيله في
صحيفة الرضوية ، فمن وجد منه شيئًا وجب عليه حفظه ، فيا طوبى لمن استحفظ
كل نزل من لديَّ بألواح طيبة على أحسن خط ، فوالذي أكرمني آياته حرفًا منها
أعز لديَّ من ملك الآخرة والأولى ، وأستغفر الله ربي عن التحديد بالقليل ، وسبحان
الله رب العرش عما يصفون ، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(المنار) يرى القارئ أن هذا اللغو الذي لا يفهمه حتى كاتبه إنما خدع
بعض الفرس لما فيه من نسبة الصحف إلى آل البيت، وأن الله أوجد ويوجد
بقائمهم كل شيء ، وهذا شرك ، ولعلهم ظنوا أن ما لا يفهم منه هو الأفهام والعقول
كما يظن عامة المسلمين في كلام الصوفية.
* * *
أدلة الباب السبعة على دينه
هفت دليلي است كه بجهة جواب يكي إز علماء نقطة بيان نازل فرموده اندكه
أول إز عربي است وفارسي هم تفسير الدامر قوم فرمود عند عربي إند أنوشتم [1] .
(بسم الله الأفرد الأفرد)
إنني أنا الله لا إله إلا أنا قد خلقت كل شئ بأمري، وما جعلت لشيء من أول
ولا آخر جودًا من لدنا ، إنا كنا على ذلك لقادرين، وانتهيت كل ما قد خلقت إلى
بديع الأول أمرًا من عندنا إنا كنا على كل شيء لمقتدرين. ثم انتهينا ما قد خلقنا
من بديع الأول إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً من لدنا إنا كنا
فاضلين. وربينا الذين أوتوا الفرقان في ألف وماتين ثم سبعين سنينا لعلهم
يستبصرون ، في دينهم ليوم ظهور ربهم وحين ما يعرفهم الله نفسه ليجيبون الله
ربهم ثم لينصرون. وعلمناهم في الفرقان دلائل سبعة كل واحدة منهن يكفي كل
العالمين. قل (الأول) : إن غير الله لن يقدر أن ينزل مثل الفرقان ، وهل من
خلق أعجب من هذا إن أنتم فيه تتفكرون، وأمهلنا الذين أوتوا الفرقان من يومئذ
إلى حينئذ، حتى كل يوقنون بأنهم عاجزون، لعل الذين هم يستمعون آيات الله
حين ظهور حجته بما آمنوا من قبل يؤمنون، انظر كيف قد سدد الله أبواب حجتهم،
ولا يمن الله على أمم مثلهم ، ولكنهم عن أمر الله غافلون. حين ماقدروا آيته لا
سبيل لهم في دينهم إلا أن يقولون: هذا من عند الله المهيمن القيوم. وأن يقولون
هذا من عند غير الله يكذبهم قول الله من قبل في الفرقان بأن غير الله لن يقدر أن
يأتي بآية ، وأنتم كلكم بذلك من قبل موقنون.
قل (الثاني) : ما استدل الله في الفرقان بأمر محمد رسول الله إلا بعجزكم
عن آيات الله إن أنتم قليلاً ما تتفكرون، ولم يكن عند الله حجة أكبر من هذا
ليستدلن الله به ، وأن مادونه ما أنتم لتذكرون كمثل ظلال عند الشمس أفلا تبصرون.
وأنتم كلكم أجمعون. لتقولون: إن الفرقان أكبر آيات محمد رسول الله من قبل إن
أنتم بذلك موقنون. كيف لا تستدلون يومئذ ولا به في دين الله تدخلون.
قل (الثالث) : إن آيات الله أكبر عن آيات النبيين من قبل إن أنتم قليلاً ما
تتفكرون. إذ لو لم يكن أكبر لا ينسخ الله بآيات الفرقان دين عيسى بعد موسى ثم
النبيين قبل موسى ، ولكنكم في حجة دينكم من قبل لا تتفكرون. لو لم يكن آيات
الفرقان أكبر من عصى موسى ثم كل آيات النبيين من قبل موسى وبعد عيسى كيف
ينسخ الله بها ما نزل من قبل أفأنتم في دلائل الله لا تتفكرون. أفأنتم في حجج الله
لا تتأملون، ولو أنكم أنتم من قبل في الفرقان مستبصرون. حين سمعتم من آية
لتعظمن في أفئدتكم أكبر عن خلق السموات والأرض وما بينهما، ولكنكم لا
تتفكرون ولا تتذكرون.
قل (الرابع) : إنما الآيات لا يكفين الذين أوتوا الفرقان من قبل ومن بعد إن
أنتم بما أنزل الله من قبل لموقنون. قل: إن ذلك الدليل ليثبتن الكتاب بأنه حجة من
عند الله ويكفين كل العالمين مثل ما نزل الله في سورة العنكبوت وأنتم بالليل والنهار
لتقرءون. أولم يكفهم أنا أنزلنا إليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى
لقوم يؤمنون.
قل (الخامس) : دليل عقليّ مقطوع لو أراد أحد من النصارى أن يدخل في
دين الإسلام أنتم كيف تستدلون. وهل يكن حجتكم بالغة بالكتاب أو أنتم بغيره
تستدلون. لو تستدلون بغيره لن يقبل عنكم، وإن تستدلون به فإذا أنتم غالبون.
سواء يقبل عنكم أو لا يقبل فإن حجتكم قد تمت وكملت عليه ، هذا ما أنتم من قبل
في الإسلام مستدلون. كيف لا تستدلون يومئذ في البيان وأنتم على الصراط بالحق
لتمرون [2] .
قل (السادس) : قد أظهر الله قدرته في الآيات على شأن كل عنها عاجزون،
ولا يحسبن أن هذا أمر خفيف ، فإنه لا تقل عما في السموات والأرض وما بينهما،
ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ما خلق الله خلقًا أعز من الإنسان ، وكل عند ذلك
عاجزون. انظر كل بحروف الثمانية والعشرين متكلمون. وأن الله قد سخر تلك
الحروف وركبها بشأن كل عنها يعجزون. هذا صنع الله كل به يخلقون، إن الذين
يدعون من دون الله ما لهم دليل في كتاب الله ، مثلهم مثل الذين هم كانوا من قبلهم
لو شاء الله ليهديهم ، وإن يشاء ليمهلنهم ، وذلك نارهم عند الله ولكنهم لا يعلمون.
ولكنهم لو يتفكرون أقرب من لمح البصر ليهتدون.
قل (السابع) : كل موقنون بأن الله لن يعزب من علمه من شيء ، ولا
يعجزه من شيء لا في السموات ولا في الأرض ولا ما بينهما ، وأنه كان بكل شيء
عليمًا ، وأنه كان على كل شيء قديرًا. فإذا نسب أحد نفسه إليه إن لم يكن من عنده
فعلى الله أن يظهرن من يبطلن ذلك بدليل كل به يوقنون، فإن لم يظهر دليل أنه
حق من عند الله لا ريب فيه كل به مؤمنون. انظر إن الأمر في ظهور البيان
أعجب عما نَزَّل الله من قبل الفرقان وجعله آيه من عنده على العالمين، قل الله قد
نزل الفرقان من قبل بلسان محمد رسول الله في ثلث وعشرين سنة، وكل يومئذ به
لمدينون من الذين أوتوا الفرقان ، ومن لم يؤمن به فأولئك هم عن صراط الله
لمبعدون، ولكن الله لو شاء لينزلن مثل ما نزل من قبل في يومين وليلتين إذا لم
يفصل بينهما إن أنتم تحبون فتستنبئون. فإنا كنا على ذلك لمقتدرين، انظر بآيه قل
نزل الله من قبل في ذكر الحج في حول كم من خلق في حول الطين يطوفون، هذا
عظمة أمر الله في آياته ، وسيشهدن الذين هم يأتون من بعد في آيات البيان أكبر
من ذلك ، ولكن الناس هم لا يعلمون، هذا في شأن إنا كنا بلسان الخلق مستدلون،
وإلا كيف نعرفن أنفسنا بآياتنا ، وإنها هي خلق في كتاب الله تعرف بالله ربها ،
والله لا يعرف بها وإنا كنا على كل شيء لشاهدين، إن كنت في بحر الأسماء لمن السائرين. مامن إله إلا الله رب العالمين، له الأسماء الحسنى من قبل ومن
بعد، كل عباد له وكل له عابدون، وإن كنت في بحر الخلق لمن السائرين، قد
خلق الله كل شيء بأمر واحد ، وجعل مثل ذلك الأمر كمثل الشمس إن تطلع بما لا
يحصي المحصون، وإنها هي شمس واحدة ، وإن تغرب بمثل ذلك إنها هي شمس
واحدة، قل كل بالله قائمون، فإذا في كل الرسل أمر واحد، وفي كل الكتب أمر
واحد، وفي كل المناهج أمر واحد، كل بأمر الله من عند مظهر نفسه قائمون، هذا
معنى حديث أنتم في ذكر قائمكم لتذكرون، ليذكرن من بديع الأول إلى محمد،
وليقولن من أراد أحد من أنبياء الله فلينظرون إليَّ، ولا يقولن: فلينظرن إلى غيري
إذ كل فيه، وكل بأمر الله إذا يشاء ليظهرون. هذا معنى قول محمد من قبل في
ذكر النبيين بأنهم إياي إذ ما في كل أمر واحد قد اتصل بمحمد رسول الله، ومن
محمد إلى نقطة البيان ، ومن نقطة البيان إلى من يظهره الله، وممن يظهره الله إلى
من يظهر من بعد من يظهره الله إلى آخر الذي لا آخر له أنتم مثل أول الذي لا أول
له لتستنبئون ثم لتوقنون [3] . فاذا في كل ظهور فيه وكل ما يظهر من عنده يظهر
ذلك معنى ما أنتم في بحر الأسماء تذكرون. سبحانك اللهم إنك أنت الأول ولم يكن
قبلك من شيء وأنك أنت مؤل الأولين، قل: اللهم إنك أنت الآخر، ولم يكن بعدك
من شيء وأنك أنت مؤخر الآخرين. قل: اللهم إنك أنت الظاهر فوق كل شيء ولم
يكن فوقك من شيء وأنك أنت مظهر الأظهرين. قل: اللهم إنك أنت الباطن دون
كل شيء، ولم يكن غيرك من شيء، وإنك أنت مبطن الأبطنين. سبحانك اللهم
إنك أنت القادر على كل شيء لن يعجزك من شيء لا في السموات ولا في
الأرض، ولا ما بينهما، تنصر من تشاء بأمرك إنك أنت أقدر الأقدرين. وإن كنت
في بحر الخلق ناظرين. مثل ذلك في مرءات الأزل إنا كنا منزلين، إذ لا يرى في
المرات إلا مجليها ذلك رب العالمين، فانظر من أول ما قد دخلت في دينك هل
رأيت من نبي أو حجة إلا وقد شهدت الفرقان من عند الله رب العالمين،
واستدللت به من غير أن تسكن فيه وكنت به لمن الموقنين. فلتنصفن حين ما قد
رأيت الفرقان أو آيات البيان هل رأيت ما تحجبنك عن هذا أو توقننك في هذا
إن كنت من المستبصرين، وإن ما تشاهدن غير قواعد النحويين والصرفيين ،
هؤلاء يستنبئون علمهم من كتاب الله ، وما يتلى الكتاب من عند الله لا يستنبئ من
علمهم فما لهؤلاء القوم لا يتفكرون ولا يتذكرون [4] ، وهذا دليل على أنكم توقنون
بأن الله قد أظهر حجته من عند من لم يتعلم شئون علمكم لعلكم أنتم بذلك
تستطيعون في دين الله توقنون، وإنا لو نشاء لننزلن مثل ما أنتم في قواعدكم
مستدلون، مثل ما قد نزلنا كتبًا من قبل ، وإن كنا على ذلك لمقتدرين، وإن الله في
كل ظهور ليحبن أن يدخل الناس في دين الله بحجة ودليل ، وعلى هذا لينصحن
الرسل في كل ظهور كل عباد الله المؤمنين، وإلا إذا يبعث الله ذا طول عظيم
ليدخلن الناس في دين الله سواء يحيطون علمهم بدليل أو لا يحيطون، مثل كل ما
أدخل محمد رسول الله من قبل في الإسلام بجبر وقهر فإن أولئك هم سواء يطلعون
بدليل أو لا يطلعون. ليدخلنهم الله في رضوان الدين بفضله سواء هم يعلمون أولا
يعلمون. فلتتفكرن هل يكن حجة الذين أوتوا التورية بالغة على الذين أوتوا الزبور،
كيف هم صبروا في دينهم، وما دخلوا في دين موسى ولا هم يتذكرون،
يحسبون بينهم وبين الله بأنهم محسنون، بعدما أنهم عند الذين هم أوتوا التورية
مسيئون، وكيف عند الله ولكن لا يعقلون، ثم انظر إلى الذين أوتوا الإنجيل لم يكن
حجتهم بالغة على الذين هم أوتوا التورية كيف هم قد صبروا في دينهم ويحسبون
بينهم وبين الله بأنهم محسنون، بعدما أنهم عند الذين أوتوا الإنجيل لمسيئون.
وكيف عند الله ربهم ولكنهم لا يتذكرون ، ثم انظر إلى الذين أوتوا الفرقان بأن
حجتهم بالغة على الذين أوتوا الإنجيل كيف هم يحسبون بأنهم بينهم وبين الله
محسنون. وأن ما وعدهم عيسى ما جاء ، وهم يحسبون بينهم وبين الله ربهم بأنهم
في دينهم مستبصرون. بعدما أنهم عند الذين أوتوا الفرقان لمسيئون وغير
مبصرون. وكيف وعند الله ربهم ، ولكنهم لا يعلمون، ثم انظر إلى الذين أوتوا
الفرقان كيف حجة الذين هم آمنوا بأئمة الدين بالغة على الذين لم يؤمنوا بهم وهم
يحسبون بأنهم محسنون، بعدما أنهم عند هؤلاء غير محسنون. ثم انظر إلى الذين
أوتوا البيان فإن حجتهم بالغة على كل الأمم، وكل بينهم وبين الله يحسبون بأنهم
محسنون في دينهم محتاطون ثم لمتقون. ولكنهم عند الذين أتوا البيان غير محسنون
ولا متقون، وكيف عند الله وعند مظهر نفسه وعند شهداء مظهر نفسه ولكنهم لا
يتفكرون ولا يتذكرون. ثم انظر إلى الذين هم أوتوا الكتاب من يظهره الله في
القيامة الأخرى فإن حجتهم بالغة على الذين هم أوتوا البيان، ولكنهم يحسبون في
دينهم بأنهم متقون ومحسنون. بعدما أنهم عند الذين أوتوا ذلك الكتاب غير متقون
ولا محسنون، وكيف عند الله وعند من يظهره الله وعند أدلائه يا أولي البيان بالله
تتقون. أن لا تفضحن أنفسكم مثل الأمم قبلكم بأنكم تحسبون بينكم وبين الله بأنكم
متقون. وعند خلق آخر غير متقون ومحسنون. وكيف عند الله ربكم فلتنقطعن عن
كل علمكم وعملكم ، ولتستمسكن بمن يظهره الله ثم دليله وحجته ، ثم بما يستدل
المستدلون ، وبأهوائكم لا تستدلون ، ثم بما يرضى لترضون، ولا تجعلون
رضائه بما ترضون بل تجعلون رضائكم بما يرضى، ولا تسألونه عن آيات
غير ما يؤتيه الله فإنكم أنتم لا تستجابون. قد وصيناكم حق الوصية لعلكم في
دينكم تتقون، وعلمناكم سبل الدلائل في الآيات لعلكم في البيان لتتقون ثم
لتخلصون. ثم بالحق تستدلون. اهـ
(المنار)
الذي يمكن أن يفهم بالقرائن من مجموع هذا اللغو الطويل الذي أفرغ فيه
الباب جعبة دلائله؛ أن أهل كل دين جديد يرون أنهم محقون ومهتدون وغيرهم
مبطل ، وهكذا يراهم غيرهم، وأن المسلمين الذين يؤمنون بالأئمة مع الذين لا
يؤمنون بهم كذلك؛ فوجب أن يكون دينه كذلك. ولو نهض هذا دليلاً لجاز لكل أحد
في كل يوم أن يخترع دينًا ويحتج به! ! ! . وقد جهل الباب أو نسي أن المسلمين
الذين يحتج عليهم يعتقدون بأن الأديان قد ختمت بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وأن الدليل عليها لم يكن التنازع والخلاف بين أهل الأديان بل كان دليلاً
حقيقيًّا معقولاً.
وقد بنت البهائية دينها على قوله: من يظهره الله ، ولكن أي معنى لوجود
شارع يضع دينًا، ولا يلبث أن ينسخ دينه في عصره، ويكتم كتابه قبل أن يعلم به
الناس إلا قليلاً لا يعتد بهم ، فإن البهائية يخفون (البيان) إذ وجد فيهم من أدرك أنه
سخرية؟ ويا ليت هذا الدين الصبياني قد انقسم إلى دينين فقط. كلا ، إنه انقسم إلى
أربع فرق يكفر بعضها بعضًا في الغالب، وهي كما في خاتمة كتاب (مفتاح باب
الأبواب) الذي نوهنا به من قبل ، وقد تم طبعه الآن وسيصدر بعد أيام قال مؤلفه:
* * *
فرق البابية
(الأولى البابية الخُلَّص) أي الذي اتبعوا الباب فقط، ولم يرضخوا لأوامر
من قام من بعده مثل الميرزا يحيى صبح أزل وأخيه الميرزا حسين على البهاء
وغيرهما، وهم يعملون بأحكام البيان، وينبذون جميع ما ألف، وكتب بعد الباب
ظهريًّا ، وهؤلاء يبلغون نحو مائتي نفس في البلاد الإيرانية دون غيرها ، وفي
أثناء وجودنا بطهران تقابلنا مع أناس منهم ، وعلمنا منهم ما لا تعلمه البابية الأزلية
والبهائية.
(الثانية البابية الأزلية) وهم القائلون بخلافة أو أصالة الميرزا يحيى صبح
أزل سجين قبرص الآن أي أن الأزل هو مصداق لما ورد في كتاب البيان (من
يظهره الله أو من يريده الله) وهؤلاء يؤيدون مدعياتهم بكتب عديدة من الباب ،
والميرزا حسين عليّ إلى الميرزا يحيى، وهي موجودة عند الأزل ، ويتمسكون
ويستدلون بها على بطلان أمر البهاء وأتباعه وعددهم ألفان ونيف تقريبًا في البلدان
الإيرانية وغيرها، وداعيتهم الأكبر وعميدهم الأعظم وهو الحاج الميرزا......
القاطن الآن بطهران هو وأنجاله وأناس آخرون منهم ، ذكرنا أسماءهم في كتابنا
(باب الأبواب) وهؤلاء يتظاهرون بالإسلامية، ويتبرءون من الباب والبابية
ويعملون بالتَّقية، يصلون ويصومون ويقومون بجميع فرائض الدين الإسلامي في
الظاهر ، ويكفرون البهاء وأتباعه ويلعنونهم في الظاهر والباطن ، ويستبيحون
أموال وأنفس المسلمين والبهائية عند المقدرة ، ويستعينون على قضاء حوائجهم هذه
بالكتمان وشدة الحذر ، ويسندون الخلافة من بعد الميرزا يحيى إلى الحاج الميرزا
...... المذكور ، ولهم إشارات ورموز خاصة بهم لمعرفة بعضهم بعضًا.
(الثالثة البابية البهائية) وهؤلاء على ما مر عليك من أخبارهم يعتقدون
بربوبية وألوهية البهاء، وأنه هو الذي بعث الأنبياء والرسل، وأن زردشت
وموسى وعيسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، والباب إنما كانوا يبلغون أحكامه
ويبينون آياته فهم مظاهر أوامره ، وبشروا به وبظهوره كما أن ابنه الأكبر عباسًا
يكون كذلك من بعده وأن ليس لأحد أن يقوم بعده ويدعي بالأمر إلا بعد ألف سنة
كاملة ، وبعد ذلك يكون الأمر لمن يظهره الله (يعني لمن يظهره هو كما علمت من
أقواله) وأن من يدعي أمرًا قبل ألف سنة يتحتم قتله لا محالة ، ويبلغ عددهم نحو
ثلاثة آلاف نفس في إيران ، ونحو ألفي نفس في خارجها، ولا عبرة بما يدعونه
من أنهم يبلغون الملايين من النفوس في البلدان الإيرانية ومئات الألوف في الممالك
الروسية والإفرنجية والعثمانية ، ومثلها في الممالك المتحدة الأمريكية؛ لأن الإطراء
والإغراق والغلو هي ديدنهم، ودأبهم في تجسيم وتعظيم الأمور الراجعة إليهم
كشأنهم في بقية المسائل المختصة بهم.
(الرابعة البابية البهائية العباسية) هؤلاء هم البابية البهائية ، ولكن يقدسون
ويمجدون العباس كتقديسهم لأبيه البهاء بل البعض منهم يجعلون البهاء مبشرًا به ،
كما كان الباب مبشرًا بأبيه ، وولد العباس في اليوم الخامس من جمادى الأولى
1265 هجرية بطهران ، ورافق أباه بالنفي إلى بغداد وأدرنه وعكا ولم يكن
للبابية البهائية شأن يذكر قبل ترعرعه، ولما بلغ أشده واستلم زمام الأمور بكياسته
المشهورة، نثر ونظم ، عقد وحل ، غَيَّرَ وبدَّل ، ألَّف وصنَّف، وهو الذي أشار
على أبيه بالاستقلال في الأمر والاستبداد بالرأي حتى فرق بين أبيه وعمه الأزل ،
وجعل للبهائية شأنًا يذكر ، ولولاه لما قامت للبابية قائمة، وما قام بشخص يسقط
بسقوطه ويزول بزواله إذا لا بقاء له بذاته. نعم، إنه كان يتظاهر أمام البابية أنه
كأقل عبد متواضع خاشع للبهاء، ولكنه كان ماسكًا دفة الأمر بيد من حديد، يدبرها
كيف شاء وأنى شاء، وكان يخاطبه أبوه بلفظة (آقا) ومعناها (السيد) ، ولما
مات البهاء آلت إليه الرياسة ، وانفرد بالمحو والإثبات في الأحكام ، فذعر من ذلك
إخوته والخاصة من أصحاب أبيه مثل الميرزا آفاجان الكاشاني الملقب بخادم الله
ومحمد جواد القزويني وجمال البروجردى وأصهار البهاء ، فانضم هؤلاء إلى
الميرزا محمد علي النجل الثاني للبهاء الملقب بغصن الله الأكبر ، وأرسلوا الدعاة
إلى البلدان ، ونزغوا إلى الطغيان والعصيان، وألفوا كتبًا بالفارسية والعربية
وطبعوها بالهند أظهروا بها مروق العباس وأشياعه في دين البهاء وكفروه وسلقوه
بألسنة حداد (عندنا نسختان من الكتب المذكورة) ، ومن جراء ذلك انشقت البابية
البهائية إلى قسمين: قسم سمي (بالناقضين) هم الميرزا محمد عليّ وأشياعه ،
وقسم سمي (بالمارقين) هم العباس وأشياعه ، وقام كل منهم الآن يؤيد دعواه
ويكفر من عداه ، فاعتزلوا المعاشرة، وحرموا معاملة بعضهم لبعض، وعداوة كل
منهم للآخر أشد من عداوتهم جميعًا للمسلمين وغيرهم ، فهذا ما آل إليه أمر البهائية
بعد موت البهاء. ولله الأمر من قبل ومن بعد
_________
(1)
هذه العبارة الفارسية لمرسل الرسالتين ، ومعناها: الدلائل السبع التي تفضلت بإنزالها نقطة البيان في جواب العلماء بالعربية ، ومترجمة بالفارسية فبادرت بإرسال العربية إليكم.
(2)
المنار: زعم البابي أن هذا دليل عقلي ، وملخصه أن كتابه البيان حجة على المسلمين كما أن القرآن حجة على النصارى ، وهذا جهل مثل سابقه ولاحقه ذلك أنه يجهل طريق الاستدلال عند المسلمين وهو البرهان على الألوهية بالعقل ، ويدخل في ذلك استحالة حلول الباري في البشر ، والبرهان بالعقل على الحاجة إلى الرسالة وإلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، والاستغناء عنها بدينه ، وههنا يجيء الاستدلال بالقرآن بما فيه من العلوم العالية مع أن الجائي به أمي ، ومن البلاغة التي أعجزت البلغاء ، وليس بيان الباب إلا عيًّا ولغوًا يسهل مثله على الصبيان والمجانين.
(3)
المنار: يظهر أن الشيعة يروون حديثًا مرفوعًا في هذا الموضوع ، والعارف بالعربية وأساليبها يجزم بأنه موضوع لا أصل له ، ويفهم من العبارة أن الباب يعتقد بخلود الناس في الدنيا.
(4)
انظر إلى هذا الاعتذار السخيف عن عجزه عن الكلام الصحيح كأن الله تعالى يحب اللغو الذي لا يفهم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(بشائر الإصلاح في المملكة الفارسية)
كتبنا في المنار السابق مقالة بعنوان (هذا أوان العبر) أَبَنَّا فيها عن فساد
الحكم الاستبدادي ، وأن الذي أودى بالمسلمين وأوهن قواهم وجعلهم دون غيرهم
قوة ورقيًّا واستعدادًا دولهم ، وعدم ملائمة طرز حكومتهم لأصول الترقي الجديدة
لما أثبته التاريخ وأيده الحس في هذا العصر من أن كل الأمم التي سبقت
المسلمين وآخر السابقين أمة اليابانيين، إنما سبقوهم بتغيير طرز الحكومة
الاستبدادية إلى ما يوافق أصول ترقي الأمم ويلائم حالة العصر حيث أقاموا مقامها
الحكومات النيابية التي هي أصل في سعادة الشعوب، وأساس متين لبقاء حياة
الدول، وذكرنا قصور أمراء المسلمين ودولهم عن مجاراة الدول الأخرى استئثارًا
بالسلطة، وحرصًا على بقاء القديم على قدمه، وطلبنا من الأمة أن تلتمس وجوه
العِبَر بنفسها، وتنهض لمجاراة الأمم بغير اعتماد على حكامها، وكان هذا الشعور
الذي يشعر به كل عقلاء الأمة يشعر به أمراء المسلمين أنفسهم أيضًا، ويعلمون أن
حياة أممهم الطيبة ورقيهم السريع متوقفان على تغيير طرز الحكومة وإطلاق أعنة
العقول من أسر الاستبداد القاهر، وإنما يمنعهم من العمل بما تشعر بالحاجة إليه
الضمائر مغالبة النفس الميالة إلى الاستئثار بالسلطة، ويدلنا على هذا أننا في
الوقت الذي كنا نرمي فيه أمراء المسلمين بالتقصير، ونبين حاجة الأمة إلى تغيير
شكل الحكومة القديم، واستبدال ما يوافق حالة العصر به، ويسمو بدول المسلمين
إلى مصاف الدول الأوربية كان مظفر الدين شاه إيران المعظم يفكر فيما وصل
إليه المسلمون في مملكته، وفي حاجة دولته إلى تغيير صفة الحكومة حتى ترتقي
بالأمة إلى مرتبة الكمال، كما ارتقى بها ميكادو اليابان منذ وضع في بلاده أساس
الحكومة النيابية، وتنازل حبًّا بترقي قومه عن سلطته الاستبدادية.
جاء في الجرائد الفارسية تفصيل ما كانت ألمعت إليه منذ مدة التلغرافات
العمومية عن جمع شاه إيران لأعيان الأمة وكبار الوزراء وإلقائه عليهم خطابًا
طويلاً في تقرير وجوه الإصلاح اللازم للمملكة الفارسية، ومحصل ما جاء في تلك
الجرائد أنه جمع نحو أربعمائة شخص من الوزراء والأعيان، وقام فيهم خطيبًا
يبين ما وصلت إليه البلاد وحاجة الدولة إلى الإصلاح في كلام طويل جامع. والذي
حل منا محل الإعجاب من كلام ذلك الملك الكبير، وكان عليه المُعَوَّل وفيه المُؤَمَّل.
أنه أعلن قبل كل شيء على رءوس الملأ تنازله عن كل شيء يسمى امتيازًا للملك
أو الأسرة المالكة يمتازون به عن الرعية ، وتخلى عن السلطة الاستبدادية بمحض
الرغبة بخير الدولة والأمة، وأشار عليهم بعد ذلك بالنظر في طرق الإصلاح
الواجب سلوكها على الأمة والدولة في عصر هو أحوج ما تكون فيه الأمة إلى مثل
هذه الرغائب العالية التي يندر صدورها عن ملك عظيم بمحض الإرادة، وأنت
ترى أن في قوله هذا من الصراحة في حاجة الدولة إلى حكومة نيابية ذات قوانين
عصرية ما يؤيد رأينا في المقالة السابقة، ويدلك عليه أن الشاه المعظم أحال في
ختام خطبته إيضاح الأمر، والنظر في أطراف المسألة ووضعها موضع المناقشة
بين أهل هذه الشورى على الوزير الأعظم ، فخطبهم الوزير خطبة في موضوع
الإصلاح، وفيما رآه من ذلك أن وضع أمامهم أكثر قوانين الدول المتمدنة وطلب
إليهم انتخاب ما يوافق منها حالة الأمة والدولة مع مراعاة تطبيقها على أصول
الشريعة وحاجة العصر.
رأى مظفر الدين شاه لزوم الحكومة النيابية إذا أراد أن ينهض بالأمة ولزوم
الآستانة بقوانين الدول الراقية على تأسيس مثل هذه الحكومة، والأمة لم تستعد
لمثل تلك المفاجأة ، فأشار إلى أنه تنازل عن حقوقه في الحكم المطلق إشارة تغني
عن كثير البيان تمهيدًا للعمل ، ثم أشار بانتخاب ما يوافق مثل تلك الحكومة من
القوانين بثًّا لروح الحاجة إليها في نفوس الشعب فاذا ثبت على عزمه ومضى في
وجهته وجارى ميكادو اليابان في حسن إرادته وعلو همته وحبه لخير وطنه ورعيته
بتأسيس حكومة نيابية في مملكته فقد - والله - حقق أماني العقلاء فيه، وجعل أفئدة
من الأمة الإسلامية تهوي إليه، ونهض بقومه نهوضًا لا عِثار بعده إن شاء الله،
وحسبه من ذلك فضيلة أن يكون قدوة الأمراء المستبدين ، وعِبْرة حسنة في
الآخرين، وذكرًا خالدًا في تاريخ نهضة المسلمين.
هذا وإننا لنرجو من صاحب المنار الغيور أن يتتبع في الجرائد الفارسية
خطبة الشاه المعظم ومشروع الإصلاح الذي وضعه الصدر الأعظم، ويُعَرِّب كل
ذلك أو جُله، وينشره في المنار الأغر ليطلع عليه المسلمون في كل الأقطار التي
يصل إليها المنار إفادة للمسلمين ، وإعلانًا لهذه الحسنة الكبرى ، والله ولي
المرشدين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(رفيق)
(المنار)
إننا لما علمنا بخبر طلب الشاه للإصلاح اهتززنا طربًا وفاجأنا من
السرور ما لا يمكن التعبير عنه، وعهدنا إلى صديق لنا من علماء الفرس هنا بأن
يُعَرِّبَ لنا ما تنشره الجرائد الفارسية التي تجيئنا من ذلك لا سيما جريدة (حبل
المتين) فأرجأنا التعريب انتظارًا لما ستقرره اللجنة التي عهد إليها الشاه العظيم
النظر في طرق الإصلاح، وأرجأنا الكتابة في المسألة لنكتب عن بينة حتى جاء
صديقنا رفيق بك يستعجلنا ، وله الحق فإن هذا النبأ أعظم نبأ إسلامي طرق الآذان
في هذا العصر ، وإذا حل الإصلاح في تلك المملكة الإسلامية على وجهه؛ كان لنا
أن نعد مظفر الدين أعظم ملوك المسلمين، لأنهم وضعوا أصول الاستبداد في القرن
الأول وتمسكوا بها بعده حتى أزالها هو في القرن الرابع عشر.
لا يكفي في الإصلاح تنظيم إدارة البلاد وإقامة العدل فيها، بل يجب أن
يعتنى أشد الاعتناء بالفنون العسكرية والقوى الحربية ، وأن تنشر المعارف
العصرية في البلاد طولها وعرضها ، وعندي أنه يجب أن يكون التعليم باللغة
العربية ولغة أخرى أوربية فإذا عاشت العربية مع العلم في تلك البلاد كان لهذه
الدولة شأن آخر في إفادة الأمة الإسلامية كلها لا سيما البلاد العربية المجاورة لها
والله الموفق للسداد.
* * *
(استقلال الحكومة باستقلال الأمة)
إن الأمم الجاهلة المحكومة بالاستبداد المُذَللة بالظلم والاضطهاد، لا يخطر
على بال أفرادها معنى يعبر عنه باستقلال الأمة، ولا يعقلون أن للرعاية أثرًا في
سيادة الحكومة إلا بما يؤدون من الإتاوات والضرائب، وما يسخرون به من
الأعمال لترقية ساداتهم المستبدين، فإذا عبثت باستقلال حكومتهم حكومة أخرى
أجنبية طفقوا يشعرون بمعنى الاستقلال بالتدريج، ويقوى فيهم هذا الشعور بنسيان
ظلم حُكَّامهم السابقين لاسيما إذا كان الأجنبي العابث ظالمًا على أن النفرة من سلطة
الأجنبي طبيعية في الأمم فإن هو عدل تمنوا لو يستبدلون بسلطته سلطة من جنسهم
عادلة ليكونوا مستقلين، ولكنهم بعد هذا كله لا يفهمون من معنى الاستقلال إلا إعادة
السلطة للأسرة الحاكمة فيهم بالاستبداد من قبل، ويبلغ فساد التصور من بعض
الأفكار أن تتخيل إرشاد الأمة إلى ضرر الاستبداد والمستبدين من عوائق الاستقلال،
وهذا من أعجب عجائب عالم الخيال.
يا معشر المتخيلين والواهمين ، إنكم لن تتنسموا للاستقلال ريحًا، ولن
تستنشقوا له عرفًا، إلا بعد الاعتقاد القاطع بأن الاستقلال إنما هو استقلال الأمة
وذلك بأن ينفخ فيها روح من التربية والتعليم يشعر جميع طبقاتها بمعنى الأمة
وحقوقها، وأول هذه الحقوق أن تختار هي الحاكم الأعلى لها، وأن تقيد حكومته
بشريعتها وقوانينها التي ترضاها، وتُلْزِمه بتنفيذها بمشاورتها وتحت مراقبتها
وسيطرتها حتى يكون لها الحق بعزل من يشذ عن ذلك، أو إقامته عليه سواء
الحاكم الأكبر وغيره.
يا معشر المتخيلين والواهمين ، إن أمة محرومة من هذه الروح لن تعرف
للحياة الاستقلالية معنى، ولن تذوق للسيادة القومية طعمًا، بل تظل طُعْمَة للطامعين
وألعوبة في أيدي المتغلبين، فيومًا يستعبدها من يشاركها حقيقة أو صورة في
وصف من أوصافها كاللغة أو الجنس أو الدين، ويومًا يستذلها من لا يشاركها إلا
في الصورة البشرية، فهي تتراوح دائمًا بين استعباد واستذلال، لأن طبيعتها
قاضية بهذه الحال بفقدها تلك الروح التي تبعث بطبيعتها الاستقلال.
يا معشر المتخيلين والواهمين ، إن حنين الأمة التي عبث الأجانب بسلطان
حكومتها إلى حكامها السابقين المستبدين ليس حنينًا إلى الاستقلال، بل إلى الاستبداد،
وإن المحافظة على بقايا رسوم السلطة السابقة، لا يكون آلة لمقاومة السلطة
الطارئة، وإنما الذي يمنع الأمة من كل جور، ويصد عنها كل ظلم، هو ما يهبها
حقيقة الاستقلال في ذاتها، ثم في حكومتها بأن تكون الحكومة مستقلة باستقلال
الأمة قوية بقوتها، وقد عرفتم معنى ذلك الاستقلال ومهب روحه من النداء الأول،
فاعملوا له إن كنتم عاملين، أو موتوا بضعفكم إن كنتم متواكلين.
* * *
(اجتماع التلامذة وانتحارهم)
للتعليم ثمار مختلفة، منها ما يكون مطلوبًا ومقصودًا من المعلمين، ومنها ما لا
يكون مقصودًا لهم، وأعني بالمعلمين هنا مديري نظام التعليم ومؤسسي المدارس،
ومعلمو المدارس في هذه البلاد الإفرنج، سواء مدارس الحكومة أو غيرها ، ومن
مقاصدهم الباطنة فيه زلزال التقاليد القديمة للأمة الذي ينتهي بإضعافها أو زوالها
وتحويل وجهة المتعلمين إلى تقليد قوم المعلمين إذ بذلك تكون لهم السيادة الحقيقية
عليهم بتحولهم عن مقومات أمتهم الذي يقطع الأمل باستقلالهم، وقد مضت سنة
الأولين بأن الضعيف يقلد القوي في الأمور التي تضر غالبًا ولا تنفع. لهذا ترى
المتفرنجين من المتعلمين ومقلدي المتعلمين قد أخذوا عن الأوربيين السُّكْر والقمار
والفحش والأزياء، والزخرف في الأثاث والماعون بدون مراعاة للاقتصاد الذي
تسمح به ثروتهم كما يفعل أولئك. وقد زالت من أكثر هؤلاء المتعلمين حرمة الدين
وآدابه ، واحتقروا أمتهم حتى صارت حالة الأمة بهم شرًّا من حالها في أُمِّيَّتها قبل
انتشار هذا التعليم فيها بسياسة من يستعمر بلادها ويسخرها لسعادة قومه بأساليب
مختلفة.
ومن ثمار التعليم الذاتية: التأليف بين الأفكار التي تتلقى تعليمًا واحدًا ،
والجمع بين المتعلمين ، والارتقاء أحيانًا إلى التقليد في بعض الأمور النافعة. وكنا
نرى من الغرائب أن الوحدة والاجتماع قد ظهرا في تلامذة كل البلاد حتى اليونان
وروسيا ولم يظهر لهما أثر في تلامذة مصر ، وقد وجد في هؤلاء من سقط في
الامتحان فلجأ إلى بخع نفسه تفضيلاً للانتحار على العار، وترجيحًا لمرارة الموت
على مرارة الاصطبار، ولم توجد فيهم عاطفة الاتحاد والاجتماع لمقاومة منكر أو
لعمل معروف يعود نفعه عليهم خاصة أو على قومهم عامة، حتى كان ما كان في
هذه الأيام من اجتماع مئين ممن خابوا في امتحان الشهادة الابتدائية للاحتجاج على
نظارة المعارف كما يقولون، ويريدون الإنكار عليها في جعل الامتحان مرة واحدة
في السنة، اجتمعوا في حديقة الأزبكية، وخطب فيهم نفر منهم وأجمعوا على أن
يطلبوا من النظارة جعل الامتحان مرتين في كل عام حتى لا يضطر من ينجح في
كل علم إلا علمًا أو اثنين أن ينتظر سنة كاملة لإعادة امتحانه، وإننا نحمد منهم هذا
الاجتماع لذاته بصرف النظر عن موضوعه ، ونتمنى من صميم الفؤاد أن نرى
دائمًا في تلامذتنا النجباء عاطفة الوحدة والوفاق، وداعية التآلف والاجتماع.
* * *
(نتيجة امتحان المدارس في هذا العام)
لبعض أصحاب الجرائد اليومية المصرية مدرسة يفاخر بها، ويوهم الناس
أنها ينبوع الحياة العلمية والسعادة الوطنية في القطر، وقد ظهر بالامتحان أنها وراء
المدارس كلها، حتى قيل: إنه لم ينجح منها أحد قط، لهذا انبرى صاحب هذه
الجريدة للطعن في الامتحان وإيهام الناس أن نظارة المعارف تشدد فيه، وأن كثرة
الذين خابوا في الامتحان أثر تشديدها الذي تريد به محو العلم من (الوطن المحبوب)
والحق أن النجاح في الامتحان كان في هذه السنة أعظم منه في السنين السابقة،
وأن مدارس المعارف لاتزال سابقة لجميع المدارس الأهلية بمراحل كثيرة. فعلى
الطاعنين في النظارة أن يُعَلِّموا أحسن من تعليمها ثم لينتقدوا عليها لعلهم يسمعون.
نعم، إن بعض المدارس الأهلية تقدم للامتحان عددًا فينجح الكثير منه نجاحًا
يضاهي نجاح مدارس الحكومة ، فيقول أصحاب المدرسة وبعض الجرائد: إن
مدرسة خليل آغا مثلاً مثل مدارس الحكومة، والحق أن في هذا غشًّا، فإن
المدارس الأهلية تختار أحسن التلامذة لأداء الامتحان، ومنهم من يكون قد درس في
مدارس الحكومة ، وأما الحكومة فإنها تلزم جميع من أتم سني الدراسة بالامتحان.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
الأسئلة الباريسية
أرسل إلينا الكتاب الآتي من باريس صديقنا أحمد بك زكي الكاتب الثاني
لأسرار مجلس النظار بمصر فأثبتناه برمته ليطلع القراء على ما يدل عليه من
عناية علماء الفرنج بالمباحث الإسلامية الأساسية ، وأهمها مسألة الاجتهاد والتقليد
التي قلما يخلو جزء من المنار من الخوض فيها، وتنويهًا بفضل صديقنا الذي
يصرف إجازته في أوربا مشتغلاً بمباحثة العلماء ومثافنة الفضلاء من حيث يشتغل
أكثر المصريين هناك باللهو واللعب والانغماس في الملاذ، وهذا نص الكتاب:
باريس في 8 يوليو سنة 1904
سيدي الأستاذ الفاضل
أحمد إليك الله الذي وفقك لخدمة دينه الكريم، ورفع مناره بمنارك القويم،
وبعد:
فقد اجتمعت مع كثير من أفاضل المتشرعين وتباحثنا في النواميس الإلهية
والوضعية، وإظهار مزايا كل منهما في الهيئة الاجتماعية، وانساق الحديث إلى
ذكر الاجتهاد، وإقفال بابه في الشرع الإسلامي، فأجبت القوم بما في محفوظي وما
كان عالقًا بذاكرتي على قدر الإمكان، ثم وعدتهم بتفصيل أوسع وبيان أوفى. ولَمَّا
كنتم وقفتم أنفسكم على أمثال هذه المباحث السامية جئت راجيًا من بحر معارفكم أن
تكتبوا خلاصة في مناركم الزاهر على الأسئلة الآتي بيانها، وأرجو أن لا تُحِيلوني
على ما سبق لكم كتابته في هذا الموضوع في الأعداد القديمة والسنوات الماضية
فإنما غرضي هو خلاصة وجيزة جامعة لأترجمها لأولئك الأفاضل ليعرفوا أن في
السويداء رجالاً، وأن الشرق لا يزال عامرًا بأرباب العقول الكبار.
وهذه خلاصة المسائل:
(1)
ما هو مدلول الاجتهاد بالتفصيل والتوسع المناسب للمقام؟
(2)
ما معنى قولهم: أُقْفِل باب الاجتهاد؟
(3)
ما معني هذه العبارة عند العامة وعند أهل التحقيق؟
(4)
متي أقفل باب الاجتهاد، وماذا ترتب على هذا الإقفال من المنافع
والمضار؟
(5 ، 6) ما هو القانون بوجه التدقيق ومن الوجهة العلمية - ونعني بالقانون
ذلك النظام الذي يضعه الحاكم في مقابلة الشرع - وما هي خواصه ومميزاته؟
(7)
ما هو الفرق بين الشرع والقانون؟
(8)
إلى أي حد تمتد سلطة الحاكم في وضع القوانين؟
(9)
ما هي الكتب والمباحث (لعله أراد الرسائل فسبق القلم) التي خاض
أصحابها في غمار هذا الموضوع (أي الأسئلة الثمانية المتقدمة) ؟
(10)
ماهي المدارس الإسلامية التي يجوز مقارنتها بالأزهر ونعني بها
تلك التي في غير أرض مصر (وذكر أشهر البلاد والأقطار) .
هذه هي خلاصة الأسئلة التي أرجو المبادرة إلى الإجابة عنها مع التحقيق
المعهود من علمكم الواسع والإشارة إلى مآخذ الأجوبة، وغاية الأمل الاهتمام بها
والإسراع في كتابة الرد، وما ذلك على فضلكم بعزيز، والله يحفظكم لخدمة ملته
ودينه والسلام من المخلص.
…
...
…
...
…
...
…
... (أحمد زكي)
نشكر لصديقنا حسن ظنه بنا ، ونذكر أسئلته ونجيب عنها واحدًا بعد واحد
على النسق المتبع عندنا في العدد المسلسل من أول سنتنا هذه فنقول وبالله التوفيق:
(س41) ماهو مدلول الاجتهاد
…
إلخ
(ج) قال في كشاف اصطلاحات الفنون: (الاجتهاد في اللغة استفراغ
الوسع في تحصيل أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة.....، وفي اصطلاح
الأصوليين: استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي ، والمستفرغ
وسعه في ذلك التحصيل يسمى مجتهِدًا بكسر الهاء) ثم ذكر بعد بحث في
التعريف والقول بتجَزِّي الاجتهاد - أي جواز كونه في بعض الأحكام دون بعض -
شرط المجتهد فقال: (للمجتهد شرطان:
(الأول) معرفة الباري تعالى ، وصفاته، وتصديق النبي صلى الله عليه
وآله وسلم بمعجزاته وسائر ما يتوقف عليه علم الإيمان كل ذلك بأدلة إجمالية، وإن
لم يقدر على التحقيق والتحصيل على ما هو دأب المتبحرين في علم الكلام.
(والثاني) أن يكون عالمًا بمدارك الأحكام وأقسامها وطرق إثباتها ، ووجود
دلالتها ، وتفاصيل شرائطها ، ومراتبها ، وجهات ترجيحها عند تعارضها ، والتفصي
عن الاعتراضات الواردة عليها، فيحتاج إلى معرفة حال الرواة وطرق الجرح
والتعديل وأقسام النصوص المتعلقة بالأحكام وأنواع العلوم الأدبية من اللغة والصرف
والنحو وغير ذلك، هذا في حق المجتهد المطلق الذي يجتهد في الشرع. اهـ
وتجد مثل هذا التعريف في عامة كتب الأصول، وقد توسع بعضهم في
شروط المجتهد وأكثر منها، والبعض اكتفى حتى جعل الشاطبي في الموافقات
العمدة فيها فهم العربية متنًا وأسلوبًا ومعرفة مقاصد الشريعة، وأجاز تقليد المجتهد
لغيره في الفنون التي هي مبدأ الاجتهاد كأن يقلد المحدثين في كون هذا الحديث
صحيحًا، وهذا ضعيفًا من غير أن يعرف هو حال الرواة وطرق الجرح والتعديل،
وما قاله الشاطبي أقرب إلى الصواب فإن بعض ما اشترطوه في المجتهد لا ينطبق
على بعض المتفق على إمامتهم فقد اشترط بعضهم أن يعرف المجتهد كذا ألفًا من
الأحاديث ، ولم يعرف عن أبي حنيفة حفظ ذلك القدر ولا ما يقاربه ، إذ لم تكن
الرواية قد كثرت في عهده لا سيما في العراق وهو لم يسافر لأجلها.
وقال صاحب الهداية في فقه الحنفية: (وفي حديث الاجتهاد كلام عرف في
أصول الفقه ، وحاصله: أن يكون (المجتهد) صاحب حديث ، له معرفة بالفقه
ليعرف معاني الآثار ، أو صاحب فقه له معرفة بالحديث لئلا يشتغل بالقياس في
المنصوص عليه. وقيل أن يكون مع ذلك صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس
لأن من الأحكام ما يبنى عليها) اهـ، وقال صاحب فتح القدير في القيد الأخير:
(فهذا القيد لا بد منه في المجتهد فمن أتقن معنى هذه الجملة؛ فهو أهل للاجتهاد
فيجب عليه أن يعمل باجتهاده ، وهو أن يبذل جهده في طلب الظن بحكم شرعي
عن هذه الأدلة، ولا يقلد أحدًا) اهـ واعتماده معرفة أحوال الناس وعاداتهم لا
مندوحة عنه، وأنت تعلم أن المجتهدين الأولين لم يكن عندهم علم يسمى الفقه
ينظرون فيه قبل الاجتهاد لتحقيق الشرط، على أن النظر في الفقه بعد تدوينه يعين
على الاجتهاد بلا شك، وإنما قالوا الظن بالحكم؛ لأن الأحكام القطعية المعلومة من
الدين بالضرورة لا اجتهاد فيها؛ لأن طلب معرفتها تحصيل حاصل كتحريم الظلم
والخمر وفرضية الصلاة والعدل.
وجملة القول أن الاجتهاد عندهم هو النظر في الأدلة الشرعية التي هي:
(الكتاب والسنة والإجماع والقياس) ؛ لمعرفة أحكام الفروع التي لم تثبت بالأدلة
القطعية المتواترة، والعمدة في شروطه فهم الكتاب والسنة، ومعرفة مقاصد الشرع
والوقوف على أحوال الناس وعاداتهم؛ لأن أحكام الشريعة لا سيما المعاملات منها
دائرة على مصالح الناس في معاشهم ومعادهم أي على قاعدة درء المفاسد وجلب
المنافع.
***
(س 42) ما معنى قولهم: أقفل باب الاجتهاد.
(ج) معناه أنه لم يبق في الناس من تتوفر فيه شروط المجتهد، ولا يرجى
أن يكون ذلك في المستقبل، وإنما قال هذا القول بعض المقلدين لضعف ثقتهم
بأنفسهم، وسوء ظنهم بالناس، وزعمهم أن العقول دائمًا في تدلٍ وانحطاط وغلوها
في تعظيم السابقين. وقد رأيت أن تلك الشروط ليست بالأمر الذي يعز مثاله ،
وتعلم أن سنة الله تعالى في الخلق الترقي إلا أن يعرض مانع كما يعرض لنمو
الطفل مرض يوقفه أو يرجعه القهقرى ، ولذلك كان آخر الأديان أكملها.
***
(س43) ما معنى هذه العبارة عند العامة وعند أهل التحقيق؟
(ج) العامة يقلدون آباءهم ورؤساءهم في قولهم: إن أهل السنة ينتمون إلى
أربعة مذاهب من شذ عنها فقد شذ عن الإسلام ولا يفهمون أكثر من هذا. وأما
المشتغلون بالعلم أو السياسة فالضعفاء المقلدون منهم يفهمون من الكلمة ما فسرناها
به في جواب السؤال السابق، ويحتجون على ذلك بأن الناس قد اجتمعت كلمتهم
على هذه المذاهب فلو أجيز للعلماء الاجتهاد لجاءونا بمذاهب كثيرة تزيد الأمة
تفريقًا ، وتذهب بها في طريق الفوضى، والمحققون يعلمون أن منشأ هذا
الحجر هو السياسة ، فالسلاطين والأمراء المستبدون لا يخافون إلا من المعلم
ولا علم إلا بالاجتهاد، فقد نقل الحافظ ابن عبد البر وغيره الإجماع على أن المقلد
ليس بعالم، ونقله عنه ابن القيم في (أعلام الموقعين) وهو ظاهر ، إذ العالم
بالشيء هو من يعرفه بدليله ، وإنما يعرف المقلد أن فلانًا قال كذا ، فهو ناقل لا عالم،
وربما كانت آلة الفونغراف خيرًا منه.
***
(س 44) متى أقفل باب الاجتهاد؟ وماذا ترتب على هذا الإقفال من
المنافع والمضار؟
(ج) زعموا أنه أقفل بعد القرن الخامس، ولكن كثيرًا من العلماء اجتهدوا
بعد ذلك، فلم يكونوا يعملون إلا بما يقوم عندهم من الأدلة، ولا يخلو زمن من
هؤلاء كما صرح بذلك علماء الشافعية (انظر الخطيب وغيره) ولولا خوفهم من
حكومات الجهل لبينوا للناس مفاسد التقليد الذي حرمه الله، ودعوهم إلى العمل
بالدليل كما أمر الله، وقد علمت الحكومة العثمانية منذ عهد قريب بأن بعض علماء
الشام يحملون تلامذتهم على ترك التقليد والعمل بالدليل ، فشددت عليهم النكير حتى
سكتوا عن الجهر بذلك، ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وأما مضاره فكثيرة ،
وكلها ترجع إلى إهمال العقل، وقطع طريق العلم، والحرمان من استقلال الفكر،
وقد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد فصاروا إلى ما نرى.
***
(س45و46) ما هو القانون بوجه التدقيق ومن الوجهة العلمية
…
إلخ
قد فسر السائل الفاضل القانون وليس في كتب أصول الدين ولا فروعه شيء
سمي بالقانون، ولكن الأحكام القضائية والسياسية منها ما تناوله علم الفقه، ومنها
ما فوض النظر فيه إلى القضاة والأئمة (الأمراء) كالعقوبات التي وراء الحدود
التي يطلقون عليها لفظ التعزير، وكطرق النظام للعمال والحكام وقواد الحروب.
ولأولي الأمر أن يضعوا لأمثال هذه الأشياء قوانين موافقة لمصالح الأمة ، وتعلم
مميزات القانون من بيان الفرق بينه وبين الشرع في جواب السؤال الآتي.
***
(س47) ما هو الفرق بين الشرع والقانون؟
(ج) الشرع والشريعة في اللغة مورد الشاربة، وفي اصطلاح الفقهاء: ما
شرع الله تعالى لعباده من الأحكام الاعتقادية والعملية على يد نبي من الأنبياء عليهم
السلام. ويعرف أيضًا بما عرف به الدين وهو قولهم: وضع إلهي يسوق ذوي
العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات ، وهو ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم.
وقد يُخَصُّ الشرع بالأحكام العملية الفرعية، وقد يطلق على القضاء أي حكم
القاضي. ذكر ذلك كله في كشاف اصطلاحات الفنون وغيره، فالقانون يختص
عندهم بما وراء ذلك فهو يتناول جميع ما يضعه أولو الأمر من الأحكام النظامية
والسياسية، وتحديد عقوبات التعزير وغير ذلك مما يحتاج إليه بشرط أن لا يخالف
ما ورد في الشرع، والفرق بينه وبين الشرع أن أحكام الشرع لا بد أن تستند إلى
أحد الأدلة الأربعة (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) ، وأحكام القانون تكون
بمحض الرأي، وأن أحكام الشرع يجب العمل بها دائمًا ما لم يعرض مانع يلجئ
إلى ارتكاب أخف الضررين، وأحكام القانون يجوز تركها واستبدال غيرها بها
لمجرد الاستحسان، مثال ذلك أنه لا يجوز للحكومة أن تزيد في نصيب أحد
الوارثين لمصلحة من المصالح، أو سبب من الأسباب، ولكن يجوز أن تزيد في
راتب العامل إذا ظهر لها مصلحة في ذلك لأن الأول حكم إلهي لا يتغير، والثاني
حكم قانوني مفوض لأولي الأمر.
***
(س48) إلى أي حد تمتد سلطة الحاكم في وضع القوانين؟
(ج) إن حدود هذه السلطة منها: سلبية ، وهي عدم تعدي حدود الله تعالى
فليس للحاكم أن يحل حرامًا أو يحرم حلالاً، أو يزيد في الدين عبادة، أو ينقص
منه عبادة، أو يظلم شخصًا أو قومًا ، أو يميز نفسه أو أسرته أو قومه على سائر
الرعية لذاتهم فضلاً عن تمييز غيرهم، ومنها: إيجابية كالتزام العدل والمساواة في
الحقوق ومشاورة أهل الرأي من الأمة ومراعاة قاعدة وجوب درء المفاسد وجلب
المصالح.
***
(س49) ما هي الكتب التي خاض أصحابها في غمار هذا الموضوع....
إلخ.
(ج) أما مباحث الاجتهاد والتقليد فإنك تجدها في جميع كتب أصول الفقه
وتجد شيئًا منها في كتب الفروع عند الكلام في المفتي والقاضي وشروطهما وفي
كتب الكلام في مبحث الإمامة ، وأبسط كتاب في ذلك (أعلام الموقعين عن رب
العالمين) لابن القيم - رحمه الله تعالى - فهو كتاب لا نظير له في بابه، وقد طبع
في الهند وصفحات جزأَيْه تزيد على 600 من القطع الكامل ، وكتاب إيقاظ همم
أولي الأبصار. وهناك رسائل نفيسة لابن تيمية والسيوطي ولولي الله الدهلوي
ولغيرهما.
وأما الكلام في القوانين فقد تقدم أن علماءنا لم يخوضوا فيه ، ويمكن أخذ ما
ذكرناه في ذلك من مباحثهم في حقوق الإمام وأحكام القضاء ، وذلك متفرق في كتب
الفقه كلها ، وفيه كتاب الأحكام السلطانية للماوردي صاحب كتاب أدب الدنيا والدين،
واذا شاء السائل زيادة الإيضاح ببيان أسماء طائفة من الكتب في ذلك فليراجعنا
في ذلك.
***
(س50) ما هي المدارس الاسلامية التي يجوز مقارنتها بالأزهر....
إلخ.
(ج) إن هذه المدارس لا حد لها، ولا يمكن عدها إذا أريد بمقارنتها
بالأزهر كونها تُعنى بالعلوم الشرعية التي يُعنَى الأزهريون بها وبمبادئها من فنون
اللغة العربية، فإن في أكثر الأمصار الإسلامية مدارس تعلم هذه العلوم، وأشبهها
بالأزهر مدرسة جامع الزيتونة في تونس ومدرسة جامع القرويين في فاس ولكن
الأزهر يفضل هذين الجامعين بوفود الطلاب إليه من جميع الأقطار التي يقيم فيها
المسلمون، ويشبه هذه المدارس الثلاث مدرسة النجف في العراق لطائفة الشيعة،
وهناك يتخرج مجتهدوهم، بل هذه أشبه بالأزهر من مدرستي تونس وفارس؛ إذ
يقصدها الشيعة من إيران والهند وسائر البلاد التي تتبوأها هذه الطائفة، وعلماء
الإسلام في سائر البلاد يقرءون العلوم الدينية، ووسائلها في المساجد الجوامع وغير
الجوامع ، ويقصد هذه المساجد في المدن الكبيرة بعض أهل القرى القريبة منها.
والقسطنطينية مقصد لجميع البلاد التركية - هذا مجمل علمنا في ذلك.
هذا وإننا قد أجبنا عن مسائل الاجتهاد والشرع والقانون بما في الكتب
المصنفة أو ما تشهد له تلك الكتب؛ لأن الأسئلة تشعر بأن هذا هو الذي يريده
السائل، وفي المقام كلام آخر شرحه المنار مرات كثيرة مع أدلته وحججه من
الكِتَاب والسُّنة وآثار السلف الصالح، وخلاصته أن ماجاء به الإسلام ينقسم إلى
أقسام:
(أحدها) العقائد وأصول الإيمان، وهي على قسمين: قسم يطالب القرآن
بالبراهين العقلية عليه، ويشترط فيه العلم اليقين، وهو الإيمان بوحدانية الله تعالى
وعلمه وقدرته ومشيئته وحكمته في نظام الخلق وتدبيره وببعثة الرسل، وقسم يأمر
فيه بالتسليم بشرط أن لا يكون محالاً في نظر العقل كالإيمان بعالم الغيب من
الملائكة والبعث والدار الآخرة.
(ثانيها) - عبادة الله تعالى بالذكر والفكر والأعمال التي تربي الروح
والإرادة كالصلاة التي تذكر الإنسان بمراقبة الله تعالى ، وترفع همته بمناجاته
والاعتماد عليه حتى يكون شجاعًا كريمًا، وكالزكاة التي تعطفه على أبناء جنسه
وتعلمه الحياة الاشتراكية المعتدلة الاختيارية، وكالصيام الذي يربي إرادته ويعوده
على امتلاك نفسه بالتمرن على ترك مادة الحياة باختياره زمنًا معينًا مع الحاجة
إليها ، وتيسر تناولها بدون أن يلحقه لوم أو أذى ، ويشعر الغني بالمساواة بينه وبين
الفقراء، وكالحج الذي يبعث في نفوس الأمة حب التعارف والتآلف بين الشعوب
المختلفة ، ويقوي فيها رابطة الاجتماع، ويحيي في أرواح الشعوب الشعور بنشأة
الدين الأولى بقصد مشاهدها، والطوف في معاهدها والتآخي في مواقفها، وبعلمهم
المساواة بين الناس بتلك الأعمال المشتركة كالإحرام وغيره.
(ثالثها) -الآداب ومكارم الأخلاق وتزكية النفس بترك المحرمات وهي
الشرور الضارة وتحري عمل الخير بقدر الطاقة.
(رابعها) - المعاملات الدنيوية بين أفراد الأمة، أو بين الأمة وغيرها من
الأمم ويدخل فيها الأمور السياسية والمدنية والقضائية والإدارية بأنواعها.
فأما القسم الأول فقد علمنا أن منه ما يؤخذ بالبرهان، ومنه ما يؤخذ بالتسليم
لما ورد في كتاب الله تعالى والسنة المتواترة القطعية، وهو برهانه، ولا يؤخذ فيه
بأحاديث الآحاد وإن كانت صحيحة السند؛ لأنها لا تفيد إلا الظن ، والاعتقاد يطلب
فيه اليقين بلا خلاف. فهذا القسم لا اجتهاد فيه بالمعنى الذي فسروا به الاجتهاد ،
ولا تقليد.
وأما القسم الثاني فالواجب فيه على كل مسلم أن يأخذ ما ورد في الكتاب
العزيز، وما جرت به السنة في بيانه على طريقة القرآن من قرن كل عبادة ببيان
فائدتها، وهذا القسم ليس للمجتهدين أن يَزِيدُوا فيه ولا أن ينقصوا منه؛ لأن الله
تعالى قد أتمه وأكمله، وهو لا يختلف باختلاف الزمان والعرف فيفوض إليهم
التصرف فيه. ولا يسع أحدًا التقليد فيه أي الأخذ بآراء الناس، بل يجب على
العلماء أن يبلغوه للمتعلمين تبليغًا.
وأما القسم الثالث فما ورد فيه من نص على حلال أو حرام فليس لمجتهد أن
يغيره، وقد أطلق القرآن الأمر بعمل الخير والمعروف، والنهي عن الشر والمنكر
وترك فهم ذلك لفطرة الناس ، فيجب أن يلقن كل مسلم قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) وأن
يترك إلى اجتهاده تحديد الخير والشر مع بيان ما جاء فيه من التفصيل في الدين
وهو قسمان: معلوم من الدين بالضرورة كخيرية الصدق والعفة والأمانة وشرية
الزنا والسكر والقمار ، وغير معلوم إلا للمشتغلين بالعلم كوجوب مساواة المرأة
للرجل ، والكافر للمسلم ، والعبد للحر في الحقوق أمام العدل، وكتحريم عضل
الولي - وان كان والدًا - موليته أي امتناعه عن تزويجها ممن يخطبها بغير عذر؛
فالأول لا اجتهاد فيه ولا تقليد، والثاني يجب أن يعرف تحريمه بدليله العام ككون
كل نافع خيرًا ، وكل إيذاء شرًّا وحرامًا ، وبديله الخاص إن وجد، وليس لأحد أن
يقول في الإسلام: هذا حلال وهذا حرام ، فيقلد ويؤخذ بقوله بدون دليل. وهذه
الأمور كلها دينية محضة يتقرب بها إلى الله تعالى من حيث هي نافعة ومرتبة
للناس فيجب أن يكون الناس فيها على بصيرة.
بقي القسم الرابع - وهو الذي لا يمكن أن تحدد جزئياته شريعة عامة دائمة
لكثرتها، ولاختلافها باختلاف الزمان والمكان، والعرف والأحوال من القوة
والضعف وغيرهما، ولا يمكن لكل أحد من المكلفين أن يعرف هذه الأحكام ، كما
أنه لا يحتاج إليها كل واحد فهي التي يجب فيها الاجتهاد والاستنباط من أولي الأمر
ويجب فيها تقليدهم واتباعهم على سائر الناس، ولذلك لم يحدد الدين الإسلامي كيفية
الحكومة الإسلامية، ولم يبين للناس جزئيات أحكامها ، وإنما وضع الأسس التي
تُبْنى عليها من وجوب الشورى، وحجية الإجماع الذي هو بمعنى مجلس النواب
عند الأوربيين، وتحري العدل والمساواة، ومنع الضَرَر والضِرَار، وقد حدثت
أقضية للناس في زمن التنزيل منها ما نزل فيه قرآن، ومنها ما حكم فيها النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم بما أراه الله تعالى؛ فكانت تلك القواعد العامة وهذه
الأحكام نبراسًا لأولي الأمر الذين فوض الشارع إليهم وضع الأحكام باجتهادهم فهم
في ضوئها يسيرون. فلك أن تسمي كل ما يضعونه شرعًا إذا وافق ذلك؛ لأنهم
مأذونون به من الشارع، وقد بنوه على القواعد التي وضعها، ولك أن تسميه قانونًا
لأنه قواعد كلية، وأحكام وضعية يمكن الرجوع عنها إذا اقتضت المصلحة ذلك،
فقد غير بعض الخلفاء الراشدين ما وضعه البعض، بل أمر عمر - رضي الله
تعالى عنه - في عام الرمادة أن لا يُحَدَّ سارق لاضطرار الناس بسبب المجاعة،
وكانوا لا يقيمون الحدود على المحاربين في زمن الحرب، ومنه ترك سعد إقامة حد
السكر على أبي محجن عندما أبلى في الفرس وأنقذ المسلمين بعدما كادوا يُغْلَبون،
كل ذلك لأجل المصلحة ، وإن استزدتنا من الدلائل زدناك.
***
الطلاق
اشتراط القصد فيه ديانة
(س51) عبد القادر بك الغرياني في الإسكندرية: ذكرتم في باب
الفتوى من الجزء الثامن أن الطلاق لا يقع بمجرد اللفظ، بل يشترط فيه النية
والقصد، فهل اشتراط النية معتبر ديانة فقط أو ديانة وقضاء ومن اشترط النية
من الأئمة.
(ج) ذكرنا هناك أن الإمامين الجليلين مالكًا وأحمد اشترطا النية في لفظ
الطلاق الصريح، وقلنا: إن اشتراطه في الكناية أولى؛ لأنه إذا اشترطت النية في
وقوع الطلاق بقوله: أنت طالق فاشتراطها في نحو قوله: اذهبي إلى بيت أبيك
أولى؛ لأن اللفظ الأول متبادر في حل عقدة الزواج، والثاني متبادر في معنى
الزيارة، أو الهجر إن قيل بغضب، وعلى القاضي أن يعتد بإخباره عن نيته في
الثاني دون الأول عملاً بالظاهر في الصيغتين كما هو شأن القاضي، وإذا لم يُرْفع
الأمر إلى القاضي فيجب العمل بالحقيقة، وهي أنه لا يقع طلاق إلا بلفظ يقصد به
حل عقدة الزوجية، والله أعلم.
***
(س52) ز. ف بمصر: هل تطلق زوجة من يسب الشيخين أبا بكر
وعمر - رضي الله تعالى عنهما -.
(ج) سب الشيخين عليهما الرضوان معصية، والمعاصي لا تحل عقد
الزوجية، وإلا لما صح لفاسق زوجية ولا نسب، وقد علم من جواب السؤال
الماضي ما يقع به الطلاق، وليس وراء ذلك إلا الردة والعياذ بالله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأولياء والكفاءة في الأزواج
عن عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه قال: (جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، قال: فجعل
الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس
للآباء من الأمر شيء) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وسنده صحيح ، وهو يدل
على اعتبار الكفاءة في صفات الرجل مع الاتفاق في النسب ، ويدل على أن المرأة
تتزوج برضاها، وفي هذا أحاديث كثيرة كما أن هناك أحاديث في اشتراط الولي
وكونه هو الذي يزوج بإذنها.
عن أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم-:
(إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض
وفساد كبير) ، قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه. قال: (إذا جاءكم من
ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) ثلاث مرات، رواه الترمذي، وقال: حسن غريب ،
ولم يرو أبو حاتم غيره ، وأرسل الحديث أبو داود وأعله ابن القطان بالإرسال
وضعف راويه، وقد أخرجه الترمذي أيضًا من حديث أبي هريرة بلفظ: (إذا
خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد
عريض) ورواه الليث بن سعد عن أبي عجلان مرفوعًا، وقد خُولف عبد الحميد
بن سليمان في رواية الترمذي، وقال البخاري: حديث الليث أشبه، ولم يعد حديث
عبد الحميد محفوظًا، ومعنى الحديث أنه يجب تزويج البنت إذا جاءها الخاطب
الذي يُرجى أن يحسن عيشها معه؛ لأن دينه وخلقه مرضي لا يشكى منه،
واستدلوا به على اعتبار الكفاءة في الدين والخلق ، وخصها بذلك بعض الصحابة
والتابعين، وبه قال مالك، ولم يعتبر هؤلاء الكفاءة في النسب، بل قالوا:
(المسلمون بعضهم لبعض أَكْفَاء) .
عن علي - كرم الله وجهه - أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال له:
(ثلاث لا تؤخر: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها
كفؤًا) رواه الترمذي، وهو حجة على تحريم عضل الأيامى - غير المتزوجات -
بلا عذر.
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (العرب أَكْفَاء بعضهم
لبعض قبيلة لقبيلة، وحيٌّ لحيٍّ، ورجل لرجل إلا حائك أو حجام) رواه الحاكم وله
ألفاظ أخرى لا يصح منها شيء. وإن قال بعضهم: إن الحاكم صححه، وماذا
عسى يغني تصحيح الحاكم، وقد سأل ابن أبي حاتم أباه عنه ، فقال: هذا كذب لا
أصل له، وقال في موضع آخر: باطل، وقال ابن عبد البر: هذا منكر موضوع،
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ولم يثبت في اعتبار الكفاءة في النسب
حديث ، وأما ما أخرجه البزار من حديث معاذ رفعه: (العرب بعضهم أكفاء بعض،
والموالي بعضهم أكفاء بعض) فإسناده ضعيف. نعم وورد في الصحيح ما يدل
على فضل العرب، وفضل قريش على العرب وفضل بني هاشم على قريش،
ولكن لم يرد ذلك في أمر الكفاءة.
عن عائشة وعمر: (لأمنعن ذوات الأحساب إلا من الأكفاء) رواه
الدارقطني ، والحسب المال ، ولذلك اعتبر بعض العلماء الكفاءة باليسار والغنى ،
واستدلوا عليه بما رواه أحمد والنسائي وصححه ، وابن حبان والحاكم من حديث
بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون
إليه المال) وما رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححاه من حديث سمرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (الحسب المال والكرم والتقوى) والفقهاء يفسرون
الحسب بالمجد الموروث.
عن عروة عن عائشة أن بريرة أُعْتِقَتْ وكان زوجها عبدًا فخيرها رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولو كان حرًّا لم يخيرها. رواه مسلم وأبو داود والترمذي،
وهناك روايات أخرى وفيها أنها اختارت الفسخ، وهو حجة على اعتبار الكفاءة
بالحرية، بل قال الشافعي:(أصل الكفاءة في النكاح حديث بريرة) .
فعلم مما تقدم أن السنة مضت باعتبار الكفاءة بالدين والحرية والأخلاق
واليسار، وبهذا أخذ الكثير من العلماء في صدر الإسلام ، وزاد أكثر العلماء النسب
والصناعة ، واستدلوا عليهما بما لا يصح من الأحاديث وبما يصح من القياس،
فإنهم قالوا: إن العلة في اعتبار الكفاءة رفع الضرر والعار، وقد كانوا يفاخرون
بالأنساب ويرون من العار أن تزوج القرشية باهِلِيًّا، ولا يزالون يَتَعَيَّرون بدناءة
الحرفة والصناعة، والعمدة في ذلك العرف ، ونذكر على هذا شاهدًا من كتب
الحنفية؛ إذ القضاء على مذهبهم في هذا البلاد.
جاء في الهداية أن الكفاءة تعتبر بالصنائع، وعزى ذلك إلى الصاحبين، ثم
قال ما نصه: (وعن أبي حنيفة في ذلك روايتان ، وعن أبي يوسف أنه لا تعتبر
إلا أن تفحش كالحجام والحائك والدباغ. ووجه الاعتبار أن الناس يتفاخرون
بشرف الحِرَف، ويتعيرون بدناءتها. ووجه القول الآخر أن الحرفة ليست بلازمة،
ويمكن التحول عن الخسيسة إلى النفيسة منها) اهـ. وقال الكمال في الفتح
قوله: (وعن أبي حنيفة في ذلك روايتان) أظهرهما: ألا تعتبر في الصنائع
حتي يكون البيطار كفؤًا للعطار. وهو رواية عن محمد. وعنه في أخرى:
الموالي بعضهم أُكْفَاء لبعض إلا الحائك والحجام وكذا الدباغ، وهو الرواية
التي ذكرها في الكتاب عن أبي يوسف، وأظهر الرواتين عن محمد ، فصار عن كل
واحد منهما روايتان؛ الظاهر عن أبي حنيفة: عدم الاعتبار، والظاهر عن محمد
كذلك إلا أن تفحش ، وهو الرواية عن أبي يوسف ، وفيما قدمناه من حديثٍ بقية
حيث قال فيه: (إلا حائكًا أو حجامًا) ما يفيد اعتبارها في الصنائع، لكن على الوجه
الذي ذكره في شرح الطحاوي وهو: أن الصناعات المتقاربة أكفاء كالبزاز والعطار
بخلاف المتباعدة ، وعد الخياط مع الدباغ والحجام والكناس. قال: فهؤلاء
بعضهم أكفاء لبعض ولا يكافئون سائر الحرف، ولم يذكر خلافًا فكان ظاهرًا
في أن الظاهر من قول أبي حنيفة اعتبار الكفاءة ، وإليه ذهب بعض الشارحين.
قال وكذا قال الشيخ أبو نصر بعد أن أثبت اعتبارها، وعن أبي حنيفة: ألا تعتبر
ونحوه في النافع وإنما قلنا: لكن على الوجه الذي ذكره في شرح الطحاوي، لأن حقيقة الكفاءة في الصنائع لا تتحقق إلا بكونهما من صناعة واحدة، وفي المحيط
وغيره: وههنا خساسة هي أخس من الكل؛ وهو الذي يخدم الظلمة يدعى
شاكرباه تابعًا وإن كان ذا مروءة ومال، قيل: هذا اختلاف عصر وزمان؛ في
زمن أبي حنيفة لا تعد الدناءة في الحرفة منقصة فلم تعتبر ، وفي زمنهما تعد
فتعتبر. والحق اعتبار ذلك سواء كان هو المبني أَوْلا. فإن الموجب هو
استنقاص أهل العرف فيدور معه ، وعلى هذا ينبغي أن يكون الحائك كفؤًا للعطار
بالإسكندرية لما هناك من حسن اعتبارها وعدم عَدِّها نقصًا ألبتة اللهم إلا أن يقترن
بها خساسة غيرها) اهـ.
(المنار)
علم مما أوردناه أن الكفاءة ليست من أمور العبادات، وإنما هي
من مسائل المعاملات التي يحكم فيها العرف ويستدل عليها بالقياس؛ لأنها تابعة
لمصالح الناس ورفع الضرر عنهم ، ومدارها على التعيير فكل رجل كفؤ لمن إذا
تزوج منهم لا يلحقهم عار بتزويجه بين قومهم، ولذلك قالوا: إن العالم كفؤ لبنت
الشريف والحسيب وإن كان نسبه وضيعًا أو مجهولاً؛ لأن العلم أشرف الأشياء فلا
عار معه مطلقًا. وإن هذه الكفاءة تختلف باختلاف الزمان والمكان ، فرُبَّ رجل يعد
كفؤًا لقوم في بلد ولا يعد كفؤًا لأمثالهم في بلد آخر لاختلاف العرف. أما حكم هذه
الكفاءة فهو: وجوب تزويج الخاطب مع تحققها واعتبار الولي عاضلاً للمخطوبة
إذا امتنع من التزويج ، ولها حينئذ أن تزوج نفسها من الكفؤ بدون رضاه عند
الحنفية إن كانت رشيدة ، وليس له اعتراض ولا طلب الفسخ، وعند غيرهم:
ترفع الأمر إلى القاضي فيأذن الولي البعيد بالتزويج؛ إذا كان القريب هو العاضل
أو يزوجها هو - في تفصيل معروف في الفقه - وإذا لم يكن الخاطب كفؤًا ،
وزوَّجها الولي بدون إذنها ، أو زوجت نفسها هي بدون إذنه جاز لها على الوجه
الأول، وله على الثاني رفع الأمر للقاضي وطلب الفسخ دفعًا لإيذاء التَّعْيِير إلا أن
يسكت الولي حتى تلد فإنه يبطل حينئذ حق الفسخ مراعاة لمصلحة الولد.
ومسألة الكفاءة الآن من النوازل في مصر، فقد زوجت صفية بنت السيد
أحمد عبد الخالق السادات نفسها من الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، ووكلت في
العقد أجنبيًّا مع وجود أبيها في البلد ، فطلب أبوها من القاضي فسخ العقد بدعوى
عدم الكفاءة ، وخاضت الجرائد في ذلك بأهوائها ، وامتدت أعناق قراء المنار إليه
يسألونه بيان حكم الشريعة في ذلك لعلمهم بأن الذين زعموا الدفاع عنها من الكتاب
جاهلون بها فها هو الحكم، وعليهم تطبيقه على الواقعة فإنهم أهل العرف.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الفتوى لشركة جريشام
ذكرنا في الجزء الرابع والعشرين من السنة الماضية أن بعض طلاب العلم
في تونس أشكل عليه فهم مستند مفتي الديار المصرية في الفتوى لشركة جريشام
التي أنشئت للتأمين على الحياة ، وبيَّنَّا هناك أن الإشكال جاءه من تطبيق الفتوى
على ما يسمع عن الشركة لا على السؤال الذي رفع إلى المفتي. وقد كتب ذلك
الطالب وجه إشكاله في جريدة (الزهرة) التي ظهرت في تونس ثم ذوت وسقطت
فكتب إلينا أحد علماء تونس ما يأتي ردًّا عليه:
إفهام وتقويم
قرأت في العدد السابع من جريدة (الزهرة) كلامًا مسهبًا رام به صاحبه
أن يساهم في الانْتِضال لمسألة فتوى القراض (التي سموها فتوى التأمين) ،عرضه
على أفكار أولي البصيرة وبعد أن طوينا ذيله وقطعنا نيله، رأينا أن صاحبه وإن
نادى باسم النقد والاستبصار في مواضع كان بعيدًا منهما في الوصول إلى كُنْه ما
قصدناه من مراجعة وطنيِّنا الفاضل في رده الأول على كلام محتاج إلى غمز قناته،
وإيقاظ ذهن صاحبه من سباته. زاد: فما فهم استحسان تصدير الفتوى بلو حتى
وَهِمَ أنَّا نوهنا بذلك لما فيها من الشرط ، وكأني به بعد حائرًا في وجه هذا التنويه
لولا أنه بين الشك واليقين في بركة تأثير الشرط في نحو هذا المقام! ولم يعلم أنَّا
إنما ألفتنا الأنظار النقادة إلى ما في (لو) من الامتناع المقتضي غرابة الصورة
وامتناع وقوعها.
مدار بحثه في هاته الفتوى على محور واحد وهو انتقاد إجمال المفتي والملام
عليه؛ إذ لم يفض في شرح المراد من الشركة مبينًا في خلال ذلك ما تبطنه في
ضميرها، ولم تذكره في سؤالها ناسيًا قولهم: (جواب المفتي على قدر سؤال
السائل) وما كرهه العلماء من إذالة العلم والفضول فيه، وقد نُقِل عن كثير من
الأئمة أنهم كانوا يكرهون الزيادة على قدر الاستفتاء ويرونه من فضول المفتي.
فاذا كان ذلك مطلوبًا فهو من باب الاحتياط ، وربما لا يحتاج إليه في الأمور
الظاهرة الواضحة الجارية على المتعارف والمحمولة على الصحة؛ لأن العالم لم
يُؤْمَر بالتنقيب على القلوب، بل نُهِيَ عنه بنص الحديث الصحيح. ومع هذا فإن
المفتي ما ترك الاحتياط اللازم فيما أعاده من الألفاظ في جوابه شرحًا للمراد حيث
لم تكن عبارة السؤال من الإفصاح عن المقصود بالمكان البين لو وجد آذانًا سامعة
أو عيونًا ناظرة إلى السؤال والجواب. لو سألته الشركة عن صحة قواعدها - من
حيث حكم الشرع الإسلامي - لرأينا ماذا يجيب به المفتي بعد أن يستطلعها أحوال
رسومها، ولكنها سألته عن صورة عقد بين رجل وجماعة كهاته الشركة ، وجعلت
نفسها مثالاً يجمعها بالممثل وصف الجماعة لينظر في صحتها من جانب الحكم
الشرعي ، وليس سؤالها عن فرع فقهي لتنظر ماذا عسى أن يطلبه الناس منها يومًا
ما فتغير خطتها لأجله، ولا كانت هي محل السؤال ابتداءً بل كانت في موضع
المثال. والسؤال عن هذا الحكم الشرعي إن وقع وهو حكم يرجع إلى ضرب من
التجارة ربما تقصده هاته الشركة.
نعم، ربما يكون محقًّا إذا وَجَّهَ الملام على الشركة كيف تسأل عن خلاف
مرامها ، وذلك عذل يتجه على ديانة السائل أو فصاحة عبارته في سؤاله! ! ومن
الواجب أن يتذكر كاتبنا شيئًا لطيفًا ما غفل عنه الباحث الأول ، وهو أن المفتي
حنفي المذهب ، وأنه يجب تخريج كلامه على نصوص مذهبه مادام كلامه غير
محتاج ولا قاض بصرفه إلى اختيار بعض المذاهب على بعض في خطة النظر ،
ولا ينبغي التساهل والمسارعة إلى فساد صحيح من كلام الناس.
واذ قد أتينا على ما يُفْهِمه خطة البحث في هذا الموضوع ويبعثه على تحقيق
النظر قبل المجازفة؛ فنلمم بأطلال شروطه التي ذكرها مما لا يدخل في المؤاخذة
بذنب الإجمال قال: (أول الشروط أن يكون المال نقدًا
…
) - إلى قوله - (سيما
وأن أوراق الماليات معتبرة في المعاملات اعتبار الذهب والفضة) هذا موضع
الزيادة على الإجمال لأنه رجع به إلى الغالب.
وجوابه عن هذا أن كون رأس المال دَيْنًا على غير أحد المتعاقدين جائز ماض
عند الحنفية ، وما منعه مالك إلا للتهمة في القصد. لا لفساد أصل العقد، وإذا
نظرنا إلى مذهب محمد بن الحسن من جواز القراض بالفلوس الرائجة ، وعدم
اشتراط خصوص الذهب والفضة ، فكل ما راج رواج المال والنقدين فهو مثلها ،
وهذا هو التحقيق؛ لأن مناط اشتراط النقدين قصد قطع جرثومة الغرور، وضرر
العامل في عمله أن يقدم على شيء يظنه يساوي مقدارًا فاذا هو قاصر عما قدر،
وكل رائج معلوم القدر لا توجد فيه هاته العلة فهو كالذهب والفضة، ألا ترى أنهم
ما اكتفوا بالذهب والفضة نضارًا حتى اشترطوا أن يكونا مسكوكين. وهذا هو عين
الجواب عن الشرط الثاني إذ كان عين الأول لولا اختلاف العبارة.
قال: (رابعها أن لا يشترط على العامل الضمان
…
إلخ) بناء هذا البحث
مؤسس على شفا الاشتباه في قضية الإجمال ، ووهم أن الجواب وقع عن كراسة
شروط الشركة لا عن سؤال مسطور ، وربما كان كلامه يحول الاعتراف بأن ذكر
هذا البحث لتكثير سوداه ، وتعزيز فئته وأجناده.
قال: (خامسها عدم تأجيل مدة القراض، ونص السؤال مقتضٍ للتأجيل)
القراض في مذهب أبي حنيفة رحمه الله من العقود التي لا يفسدها التوقيت،
والغاية إنما محور الشرط فيها على مظنة حصول القصد مما سبق له العقد وهو
معدود في ضمن ستة وعشرين عقدة لا يفسدها أي شرط فاسد.
قال: (سادسها تعيين الجزء
…
إلخ) وهذا ملحق بإخوته المسوقة للتعزيز،
فلا يشتبه أمره على ذوي التمييز. ثم إن المذهب أن دخول المتقارضين في عقدة
القراض على المساكتة في تعيين الربح لا يفسد القراض بل يكون الربح فيه على
السواء في قول أبي يوسف رحمه الله ، وبه الفتوى. أما لو ذكرا ما يدل على
التسوية في الربح فلا خلاف بين أبي يوسف ومحمد في جوازه. نحو أن يقولا:
على أن ما نتج من الربح بيننا.
قال: (ثم مقتضى السؤال (إذا قام بما ذكر وانتهى أمد الاتفاق المعين بانتهاء
الأقساط) أنه إن لم يوف بدفع تلك الأقساط لا حق له.... إلخ) . وههنا الخطأ
العظيم في الانتقال، والغفلة عن الحقيقة في الاستدلال؛ فأما الأول فليس الكلام
بقاضٍ أنه لا حق له في المقارضة ، ولا حق له إن لم يوف ، إنما قضى أنه إن لم
يوف لا حق له في المقارضة ولا في الربح. والشروط في المضاربة، إن كانت
مما يخل بجانب رب المال جازت لا سيما إن كان ذلك من شرطه هو لا من شرط
المضارب عليه ، وذلك صريح صورة السؤال لأنه جاء قبل الكلام الذي ساقه كاتبنا
كلمة حذفها حذفًا لم يصادف به كنه الفهم وهي: (واشترط معهم) ، ومن الفروع
التي يذكرها الحنفية في هذا الموضع: لو شرط المضارب على رب المال أن يدفع
له داره يسكنها أو أرضه يزرعها؛ لم تفسد المضاربة. أما لو شرط رب المال ذلك
على المضارب لفسدت للجهالة في جانب رب المال. ويذكر المالكية فرعًا في كتبهم
أنه يجوز القراض على أن جميع الربح للعامل. وضمان المال إن تلف من ربه إذا
سمياه قراضًا، وقال سحنون:(هو سلف وضمانه من العامل) . وفي هذا ما
يعلمنا الفرق بين هذا وبين القمار بأن هذا شيء من جانب رب المال ، وهو محمول
على الموجدة والمقدرة فلا يظن به اهتضام، ولا أن يؤكل ماله بالباطل أو يضام،
خلافًا لحال العامل المظنون به العجز والافتقار، ولأن رب المال ينزل في نحو
هاته الشروط منزلة المتبرع أنه لو شاء لأعطى وما أخذ.
قال: (إن مشاركة المسلم لهاته الجمعية ممنوعة، وذلك لأنها لا تتحاشى في
تجرها ومعاملتها الربا.... والنصوص متظاهرة على منع شركة من لا يتحفظ من
تعاطي ما ذكر إلخ) قد علمت أن اسم الشركة ما وقع إلا مثالاً ، ولو فرضنا صحته
فذلك شيء ينظر فيه الرجل إلى حالة التجارة التي سموها في السؤال ، وليس
المفتي بصدد تبيان كل ما يجب على المرء في صورة الاستفتاء ، وإلا لَشَرَع يبين
لهم شروط البيوع كلها ، وذلك لا يخص الشركة، بل كل من يظن به الجهالة
باستقراء أحكام البيوع، ومن ذا الذي يرقبها اليوم من تجار المسلمين. على أن
نسيان المفتي أن ينبه على هذا غير بعيد حيث لم يكن مما يرجع إلى شرط من
شروط الباب التي يجب استحضارها عند الإفتاء ، ولذلك يذكرها كاتبنا بعد تعداد
الشروط! وتوكيل الذمي في المعاملات غير ممنوع، ولو نص له على معاملة
يحرم على الوكيل فعلها ، وقد نص الحنفية رحمهم الله على صحة توكيل المسلم
ذميًّا على بيع خمر أو خنزير ، ولو باشر ذلك بنفسه؛ لمنع باتفاق الناس، وقديمًا
ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوكلون المشتركين حتى المحاربين.
في صحيح البخاري (باب إذا وكل مسلم حربيًّا في دار الحرب أو دار الإسلام
جاز) أخرج فيه توكيل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أمية بن خلف
وما فيه من القصة.
وها هي تلك النوبة قد أفضت إلى كاتبنا ليعيد علينا من تبيانه ثانيًا فإن دعته
إلى ذلك الدواعي؛ فإن آذاننا مصغية إلى ما يقول.
…
...
…
...
…
...
…
... (ذلك التونسي)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المسائل الزنجبارية
جاءنا من أحد فضلاء القراء في زنجبار ما يأتي ويعقبه الجواب عنه قال:
(إن لمناركم الإسلامي من المنة على المسلمين ما ظهر أثرها من تنبه
الأفكار وتبادل الآراء فيما بينهم. لا يصل أحد أجزاء المنار حتى يسير ما فيه سير
الأمثال، وتتحدث به الأندية ، وإنهم لينظرون إلى ما يأتيهم من درره بفراغ الصبر
غير أنه لما نشرتم في أعداد المنار - الجزء الثاني 16 المحرم الحرام صحيفة 57
(علم الغيب للأنبياء) الجزء الرابع 16 صفر صحيفة 144 (القرآن لقضاء
الحوائج) وصحيفة 145 (المهدي المنتظر) - أنكر ما حررتموه كثير ، وتوقف
قراء المنار عن اتباعهم حتى أورد عليهم المنكرون أدلة تناقض ما حررتموه
فالتمسوا أن أكتب إليكم في ذلك لتشرحوا الأدلة بنوع بسط، أما أدلة المنكرين فقد
اعترضوا جواب: (س: القرآن لقضاء الحوائج بما رواه البخاري وغيره في
حديث الرقية بالفاتحة وبغير ذلك مما ورد ، واعترضوا كلامكم في المَهدي المنتظر
بما أورده مفتي الشافعية بمكة السيد أحمد زيني دحلان بآخر كتابه (الفتوحات
الإسلامية) حيث حكى أن الأحاديث الواردة في المهدي منها صحيح وحسن
وضعيف وهو الأكثر ، إلى أن قطع بعد ذلك بوجود المهدي وأنه قطعي، أما ابن
خلدون فلا يعتبرونه ، ووسموه بأنه مؤرخ لا مُحَدِّث ، والمعتبر في مثل هذا أقوال
المحدثين. وأما مسألة علم الغيب للأنبياء؛ فقد أوردوا على ما حررتموه ما قرره
الصاوي في حاشيتة على الجلالين في تفسيره على آية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} (الأعراف: 187) الآية ، وما بعدها {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَراًّ إِلَاّ مَا شَاءَ
اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْب} (الأعراف: 188) وإليكم ما ذكره الصاوي بنصه:
(قوله تأكيد) أي لما قبله لبيان أنها (الساعة) من الأمر المكتوم الذي
استأثر الله بعلمه فلم يطلع عليه أحد إلا من ارتضاه من الرسل، والذي يجب
الإيمان به أن رسول الله لم ينتقل من الدنيا حتى أعلمه الله بجميع المغيبات الذي
تحصل في الدنيا والآخرة فهو يعلمها كما هي عين اليقين لما ورد: (رفعت لي
الدنيا فأنا أنظر فيها كما أنظر إلى كفي هنا) وورد أنه اطلع على الجنة وما فيها،
والنار وما فيها وغير ذلك مما تواترت به الأخبار، ولكن أُمِرَ بكتمان البعض قوله:
{لِنَفْسِي} (الأعراف: 188) معمول {لَاّ أَمْلِكُ} (الأعراف: 188)، قوله:
{إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّه} (الأعراف: 188) أي تمليكه لي فأنا أملكه. قوله: {وَلَوْ
كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ} (الأعراف: 188) إلخ فإن قلت: إن هذا يشكل على ما تقدم
أنه اطلع على مغيبات الدنيا والآخرة، والجواب: إنه قال ذلك تواضعًا ، أو أن
علمه بالغيب كلا علم من حيث إنه لا قدرة له على تغيير ما قدر الله وقوعه فيكون
المعنى حينئذ: لو كان لي علم حقيقي بأن أقدر على ما أريد وقوعه لاستكثرت
…
إلخ. إن قلت: إن دعاءه مستجاب لا يرد، أجيب بأنه لا يشاء إلا ما يشاء الله،
فلو اطلع على أن الشيء مثلاً لا يكون كذا لا يوفق للدعاء له إذ لا يشفع ولا يدعو
إلا بما فيه إذن من الله واطلاع منه على أنه يحصل ما دعا به وهو سر قوله تعالى:
{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) وفي ذلك المعنى قال
العارف:
وخصك بالهدى في كل أمر
…
فلست تشاء إلا ما يشاء
وللخواص من أمته حظ من هذا المقام ، ولذا قال العارف أبو الحسن الشاذلي:
(إذا أراد الله أمرًا أمسك ألسنة أوليائه عن الدعاء سترًا عليهم لئلا يدعوا فلا
يستجاب لهم فيفتضحوا) اهـ كلامه فالمرجو أن تبينوا ما هو الحق في المسائل
الثلاث ، فقد أخذت محلاًّ من الأفكار ولكم الأجر والثواب.
* * *
الرقى وقضاء الحوائج
والاستشفاء بالقرآن
ثبت في الأحاديث أن الله تعالى خلق لكل داء دواء عرفه من عرفه، وجهله
من جهله، ومازال الناس ينتفعون بما علموا منها ويبحثون عما جهلوا فيزدادون
علمًا، كذلك قد جعل الله تعالى لكل شيء سببًا يتوصل إليه به. وإنما يصح كون
هذا سببًا لهذا إذا كان بينهما اتصال بالتأثير والتأثر مثلاً بحيث ينتفي وجود الثاني
لانتفاء الأول ، ويوجد بوجوده إذا انتفت الموانع. ولم يثبت بالتجارب الصحيحة
المطردة أن تلاوة القرآن الكريم أو كتابته في الصحف تحمل أو الصحاف يؤكل منها
ويشرب سبب للشفاء من الأمراض وقضاء الحوائج، ولو ثبت لاستغنى به الناس
عامة أو المسلمون خاصة عن الطب والأطباء، وعن اتخاذ الأسباب والوسائل
المعروفة لسائر الحاجات والمصالح. فهذا دليل عقلي في الموضوع ، وقد قرر
العلماء أن النصوص الشرعية إذا خالفت الأدلة العقلية ترد إليها بالتأويل إذ لا يمكن
إبطال حكم العقل لأنه أصل الإيمان، ولا يصح بدونه برهان.
ودليل ثان على ذلك وهو أنه لو أنزل القرآن لأجل المنافع الحسية الجسدية
كما نزل لأجل الهداية لذكر فيه ذلك، وعُدَّ من المعجزات لأنه يكون خارقًا للعادة
ولتحدى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بذلك، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن ،
ولم يذكر العلماء في وجوه إعجاز القرآن ما ذكر ، ولم يعلم أن الصحابة أو الأئمة
احتجوا على منكر بذلك.
أما إجازة النبي - صلى الله تعالى وآله وسلم - الرقية فإنني أشرحه لك بما لا
ينافي ما تقدم بالدليل، فأقول: إن الرقى والعوذ كانت من أعمال الجاهلية، وقد
نهى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عنها ، وحدثت وقائع رقى فيها بعض
الصحابة فأفاد فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في العين، وفي ذي الحَمَّة أي
لدغ ذي الحمة كالعقرب والزنبور ، وفي الصحيحين: (لا رقية إلا من عين أو
حمة) ، وفي رواية أخرى لأبي داود زيادة:(أو دم لا يَرْقَأ) وفي أخرى عنده
وعند أحمد: (لا رقية إلا في نفس أو حمة أو لدغة) فضيق عليهم دائرة الرقى،
لم يأذن لهم بغيرها من العوذ والتناجيس التي كانوا يعلقونها على الأطفال وغيرهم
للوقاية من الأمراض والجن ، ولا كتابة القرآن وغيره لذلك ، وأرشدهم مع هذا كله
إلى أن الرقى والاسترقاء ينافي التوكل الذي هو كمال التوحيد والإيمان، ولا ينافيه
التداوي وغيره من الأسباب الصحيحة؛ لأن الانتفاع بالرقى أمر موهوم كما قال
حجة الإسلام وغيره.
روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: لما سئل عن صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب من حديث
طويل: (هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم
يتوكلون) : رواه غيرهما. وروى أحمد والترمذي وحسنه والنسائي في السنن
الكبرى وابن ماجه والطبراني والحاكم والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: (من استرقى أو اكتوى فقد برئ من التوكل) وفي لفظ: (ما توكل من
استرقى أو اكتوى) : قال الإمام الغزالي في كتاب التوكل من إحياء علوم الدين ما
نصه:
(اعلم أن الضرر قد يعرض للخوف في نفس أو مال ، وليس من شروط
التوكل ترك الأسباب الدافعة رأسًا ، أما في النفس فكالنوم في الأرض المسبعة أو
في مجاري السيل من الوادي ، أو تحت الجدار المائل والسقف المنكسر؛ فكل ذلك
منهي عنه، وصاحبه قد عرض نفسه للهلاك بغير فائدة. نعم تنقسم هذه الأسباب
إلى مقطوع بها ومظنونة ، وإلى موهومة. فترك الموهوم منها شرط التوكل وهي
التي نسبتها إلى دفع الضرر نسبة الكي والرقية، فإن الكي والرقية قد يقدم بهما
على المحذور دفعًا لما يتوقع ، وقد يستعمل بعد نزول المحذور للإزالة. ورسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يصف المتوكلين إلا بترك الكي والرقية والطيرة، ولم
يصفهم بأنهم إذا خرجوا إلى موضع بارد لم يلبسوا جبة، والجبة تلبس دفعًا للبرد
المتوقع، وكذلك كل ما في معناها من الأسباب) اهـ.
فالقارئ يرى أن حجة الإسلام جعل علة منافاة الرقية للتوكل كونها من
الأمور الوهمية التي لم ترتق إلى أن تكون سببًا للنفع ظنيًّا، ولكن الدجالين الذين
اتخذوا الرقى والتمائم والتعاويذ والتناجيس حرفة يأكلون بها أموال الناس بالباطل
يوهمونهم أن حرفتهم مبنية على تعظيم القرآن وقوة الإيمان ، ويجعلون الحبة قبة.
وإنما كان الأخذ بالأمور الوهمية منافيًا للتوكل لأن التوكل هو كمال التوحيد والثقة
بالله تعالى، والمؤمن الكامل يجب أن يكون بعيدًا عن الأوهام لاستنارة عقله وقوة
يقينه، فهو لا يأخذ إلا بالأسباب الصحيحة التي قضت حكمة الخالق ربط المسببات
بها، وينبذ الأوهام وراء ظهره فلا يكون لها عليه سلطان، وأما سبب إجازة النبي
صلى الله عليه وسلم الرقية من العين ولدغ نحو العقرب؛ فلعله الرحمة بالضعفاء
الذين جرت العادة بأن يتأثروا أحيانًا بالأمور الوهمية وينتفعوا بها، وقد شرحنا ذلك
في المقالتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة من مقالات (الكرامات والخوارق)
فلتراجع هناك. وأذكر هنا شاهدًا: وهو أنني أعرف عالمًا من أجلّ العلماء المتقين
الذين يحاربون الأوهام أصيبت عنده امرأة بمرض عصبي تعاصى علاجه على
الأطباء وكان منشؤه الوسواس - وهو وَهْم - فلم ير بُدًّا من الرضى بالتماس راق
يرقيها لاعتقادها بذلك. وهذا التعليل يظهر تمام الظهور في الرقية من العين؛ فإن
كثيرًا من العلل التي ينسبها الناس إلى تأثير العين وهمية ، وما عساه يصح من
تأثير العائن ، فالمعقول أن يكون تأثير نفس في نفس، ولذلك عبر عن العين في
حديث أحمد وأبي داود الماضي بالنفس ، وذلك أن بعض النفوس تؤثر بانفعالها في
نفس أخرى تتوجه إليها وتنظرها لاستعداد فيها لسرعة التأثر، وهذا من قبيل تأثير
حال الحزين في نفس من يراه ولكنه أقوى منه. فلا غرو أن يزيله التأثر من الرقية ،
وما هي إلا تلاوة شيء يعتقده المرقيُّ ويتوهم نفعه ، والأوهام انفعالات في النفس
يغلب أقواها أضعفها، واللدغ له تأثير حقيقي في الجسم ولكنه ضعيف في الغالب
يبرأ أحيانًا بدون سبب ، وكانت العرب في الجاهلية تطب اللدغ بالرقية فاعتقادهم
يغلب أحيانًا على ألم اللدغة فيسرع شفاؤها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم
عن ذلك ، ثم علم أن بعض الناس ينتفعون به بحكم الوراثة وتأثير الوهم فأجازه ،
فقد روى أحمد وعبد بن حميد ومسلم وغيرهم من حديث جابر أن رجلاً قال: يا
رسول الله إنك نهيت عن الرقى. أنا أرقي العقرب، فقال صلى الله عليه وسلم:
(من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه) فهي رخصة لمن علم من حاله أن للوهم
سلطانًا عليه إذا احتيج إلى استعمال ذلك لنفعه ، فضيق دائرة تلك الأوهام، وجعل
المأذون به على قلته منافيًا للتوكل وكمال اليقين ، واشترط في الرقية أن لا تكون
فيها شرك كما في حديث عوف بن مالك عند مسلم وأبي داود. ومعنى ذلك أن لا
يكون فيها استعانة بغير الله أو ما يوهم أن غير الله ينفع أو يضر.
ومن الغرائب أن النبي صلى الله عليه وسلم لدغ مرة فغشي عليه فرقاه ناس
فلما أفاق قال: (إن الله شفاني وليس برقيتكم) رواه البخاري في التاريخ وابن
سعد والبغوي والبارودي وابن السكن وابن قانع وسمويه والطبراني والدارقطني
في الأفراد عن جبلة بن الأزرق. وهو دليل على أن الرقية لا تأثير لها، وأن
نفوس المتقين لا تؤثر فيها الأوهام. وما ورد من الرقى المأثورة فأدعية وثناء
على الله تعالى.
هذا صفوة ما يقال في تحرير المقام فأين منه ما عليه الدجالون من كتابة
الآيات لغير ما أنزلت له واتخاذها تمائم مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من
علق تميمة فقد أشرك) رواه أحمد والحاكم عن عقبة بن عامر. وقوله صلى الله
عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتَّوَلَة شرك) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه
والحاكم عن ابن مسعود. وقوله: (ثلاث من السحر الرقى والتِّوَلة والتمائم) رواه
الحاكم عن ابن مسعود وغير ذلك. ولا شك أن الرقى والتمائم في هذا الزمان من
نزعات الوثنية ، فإنها ليست مبنية على اعتقاد أن القرآن يرفع الضرر ويجلب
النفع لذاته معجزة، وإنما العمدة عندهم على بركة الراقي وكاتب التمائم وتأثيره،
ولذلك لا يطلبون ذلك من كل عارف بالقرآن. فانظر كيف قلبوا الدين فتركوا
الاهتداء بالقرآن وهو قد أنزل: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2) بل زعموا أنهم
يعظمونه بترك الأسباب والسنن الإلهية التي أرشدهم إليها والاعتماد على
الانتفاع برسم حروفه وحملها.
* * *
المسألة الثانية
المهدي المنتظر
إذا قالوا: إن ابن خلدون كان مؤرخًا غير محدث فإننا نقول: إن السيد
أحمد زيني دحلان غير مُحَدث ولا مؤرخ ولا متكلم، إنما هو مقلد للمقلدين، ونقَّال
من كتب المتأخرين، ينتصر للعامة وينتصرون له لشهرته بالعلم بتقليده وظيفة إفتاء
الشافعية في مكة بالشرف الذي يخضع لصاحبه أكثر العامة وإن كان أميًّا. وعجيب
من منتمٍ للعلم ينكر على المؤرخ العلم بنقد رجال الحديث وهو فرع من فروع
التاريخ، ولقد كان ابن خلدون أوسع المؤرخين علمًا وأدقهم نقدًا وأشدهم إنصافًا،
وهو لم ينكر المهدي المنتظر لعدم الاطلاع على ما روي فيه ولا تقليدًا لأحد من
الناس ، وإنما بنى إنكاره على قاعدتين: إحداهما نقد رواة أحاديثه بنقل ما قاله أئمة
الحديث في جرحهم، والثانية: عدم انطباق مزاعم الناس فيه على أصول العمران
وسنن الاجتماع البشري من قيام الأمور العامة بالعصبية، ومن أنكر شيئًا أو أثبته
بالدليل؛ فإنما يرد عليه بنقض أدلته لا بتقليد من هو دونه في كل علم بلا بينة
ولا برهان. فإن كان المنتقدون الآن يقلدون دحلان لأنه كان مفتيًا في مكة من عهد
قريب فابن خلدون قد ولي القضاء في مصر أيام كانت غاصة بأشهر علماء القرون
المتوسطة الذين يقلدهم زيني دحلان ، فهو أحق بأن يقلد إذ الوظائف لم تكن تعطى
في ذلك الوقت لغريب مثله إلا إذا كان نادرة الزمان، ولكنها قد تعطى لأجهل
الجاهلين في دولة آل عثمان، فقد كان عندنا في طرابلس الشام قاض شرعي إذا
صلى وسبقه الإمام لا يعرف كيف يتم الصلاة منفردًا حتى إنه أخطأ في صلاة العيد.
ولا أريد بهذه الكلمة التعريض بأن السيد أحمد دحلان كان كهذا القاضي ، وإنما
أريد التنبيه إلى أن ما يغتر به العامة من المناصب لا سيما في البلاد المشرفة ليس
موضعًا للغرور.
نحن لا نحكم على مستقبل الزمان باستحالة ظهور زعيم للمسلمين أو إمام
عظيم يخرجون على يديه من ظلمات البدع والجهل إلى نور الهداية والعلم والعمل
النافع، بل نرجو هذا من فضل الله بتوفيق المسلمين للاستعداد لقبول ذلك ، فإن الله
تعالى إذا أراد أمرًا هيأ أسبابه، ولكننا نقول: إنه لا دليل على أن الله تعالى كلف
المسلمين باعتقاد ظهور مصلح فيهم معروف باسمه (المهدي) ووصفه ونسبه
أوجب عليهم طاعته، وسجل عليهم أن يبقوا في الضعف والجهل والبدع والشقاء
إلى أن يظهر فيهم ويخرجهم من ذلك كما يظن الجماهير من المسلمين منذ قرون فإن
هذا الاعتقاد كان آفة عليهم في دينهم ودنياهم، ولو كلفهم الله تعالى ذلك؛ لأنزل فيه
قرآنًا أو أمر نبيه بأن يبينه للناس بيانًا شافيًا على أنه عقيدة دينية، ولو فعل لنقل
ذلك بالتواتر قرنًا بعد قرن ، ودونوه في كل عقيدة وكل كتاب حديث ، ولما أهمله
مالك في مُوَطَّئِهِ والبخاري في صحيحه، ولما كان رواة خبره محصورين في فرقة
واحدة من المسلمين (وهي الشيعة) فلم يوجد له سند إلا من طريقها، ولما كانت
الروايات فيه مضطربة يثبت بعضها ما ينفيه الآخر، ولما سكت علماء أهل السنة
عن الطعن في منكره، ومن أراد أن يحكم في هذه المسألة حكمًا صحيحًا فعليه أن
يجمع كل ما رووه فيها من الأخبار مرفوعًا وموقوفًا ومرسلاً، ومن الآثار خصوصًا
ما عزي منها إلى آل البيت عليهم الرضوان والسلام. إن يفعل يظهر له فيها من
الاضطراب والتناقض والتعارض ومن لحن العبارات وأساليبها ما يجزم معه بأنها
موضوعة ، وأن كثرتها وتعدد طرقها لا يزيدها إلا وهنًا ووهًى.
أمثل الرويات فيه ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن فمن دونهم من الكلم
المختصر ، وفي بعضها أنه من ولد فاطمة ، وفي بعض آخر أنه من ولد العباس،
وفي بعضها أنه يعيش ستًا أو سبعًا أو ثمانيًا أو تسعًا ، وفي بعض آخر يعيش خمسًا
أو سبعًا أو تسعًا بالأوتار ، وفي بعض آخر يعيش سبعًا بالجزم ، وفي بعض تسعًا
بالجزم، وفي بعض آخر عشرًا بالجزم ، وفي بعضها أنه يلي أمر الناس ثلاثين
سنة أو أربعين (ولا خير في الحياة بعده) ، وفي بعض آخر أن بعده عيسى وزمنه
خير من زمنه ، وفي بعضها أن عيسى ينزل في عهده ويصلي وراءه ، وفي بعض
آخر: (لن تهلك أمة أنا في أولها وعيسى ابن مريم في آخرها والمهدي في أوسطها)
وهو يناقض ما قبله ، وفي بعضها:(لا مهدي إلا عيسى) وفي بعضها أن مولده
المدينة ومهاجره بيت المقدس. في بعض آخر أنه يتوجه إلى بيت المقدس فلا يبلغه
حتى يموت، وفي بعضها أنه آدم (أسمر) ضرب من الرجال، وفي بعض آخر:
وجهه كالكوكب الدري - إلى غير ذلك من الاضطراب والاختلاف.
كل هذا في الروايات التي رواها أهل السنة عن الشيعة، ومما اختص الشيعة
بروايته من الآثار عن علي - كرم الله وجهه - أنه قال في المهدي: (يرفع
المذاهب فلا يبقى إلا الدين الخالص يبايعه العارفون من أهل الحقائق عن شهود
وكشف وتعريف إلهي) ثم ذكر أن أمه اسمها نرجس وهي من أولاد الحواريين.
وأنت تعرف أنه لم يكن في زمنه كرم الله وجهه مذاهب ، وأن لفظ الشهود والكشف
من اصطلاح الصوفية بعده. ومن رواياتهم: أن أبا نعيم جاء أبا جعفر الصادق
عليه السلام فسأله: هل هو قائم آل محمد الذي ينظرونه؟ فقال: كلنا قائم بأمر
الله. فسأله: هل هو المهدي؟ فقال: كلنا مهدي إلى الله. حتى سأله: أنت الذي
يقتل أعداء الله
…
إلخ، فقال: كيف أكون أنا وقد بلغت خمسًا وأربعين وإن
صاحب هذا الأمر أقرب عهدًا باللبن مني وأخف على ظهر الدابة. وروي نحوه
عن غيره منهم. ورووا عنه أنه قال: قام قائم ولد العباس عند (المص) ويقوم
قائمنا عند انقضائها (بالمرا) : أي سنة 271 هـ وهو دليل على أنهم كانوا
ينتظرونه يومئذ، ، والسبب في هذا معروف ، وهو محاولة تأليف عصبة للقيام
بأمر الملك وجعل الخلافة في ولد الحسين.
وجملة القول أن هذه المسألة إذا أريد إدخالها في الدين كانت من مسائل
العقائد. والعقائد يجب الاعتماد فيها على اليقين، ولم تصل هذه الأحاديث الواردة
فيها إلى إفادة غلبة الظن للعلم بمنشئها ، والمطاعن في أسانيدها ، والاضطراب
والتناقض في مدلولاتها ، ولذلك لم يذكرها المتكلمون في كتب العقائد ، فلا حرج
على من أنكرها. وقد أضر المسلمين فشو القول بها إذ ظهر فيهم كثيرون بهذه
الدعوى في القديم والحديث فسفكوا الدماء، وأفسدوا عقائد كثير من المسلمين
وآخرهم مهدي السودان، والباب وخلفاؤه من أهل إيران. فعلى المسلمين أن لا
يتوكلوا على أمر إن صح بعض الأحاديث فيه أو حسن كان ظنيًّا ويَدَعُوا اليقيني من
أسباب القوة والسيادة ، وهو التهذيب الصحيح بالرجوع إلى سيرة السلف في الدين ،
والعلم النافع في الدنيا والآخرة ، والأعمال التي توفر المال وتحمي الحوزة. فإذا قام
فيهم مع هذا قائم هاد مهدي كانوا مستعدين للاتحاد على يديه ، وإلا فإن السيادة
والسعادة يستحيل وجودهما مع استدبار طريقهما الذي سنه الله لهما ، والله الموفق
والمعين.
***
المسألة الثالثة
علم الغيب للأنبياء عليهم السلام
جرت سنة الله تعالى بأن يكون غلو الناس في إطراء رجال الدين من الأنبياء
وورثتهم في العلم والعمل على نسبة الجهل بالدين ، فإنك تجد الفاسق من الشعراء
المتأخرين يطري بعض المشهورين بالعلم أو الصلاح بما لم يرد عشر معشاره عن
شعراء الصحابة في النبي عليه الصلاة والسلام. وقد طوح الجهل بالناس إلى إسناد
خصائص الألوهية إلى الأنبياء والصلحاء خلافًا لنصوصهم الصريحة في ذلك،
ولكن منهم من صرح بإطلاق لقب الألوهية على أنبيائهم، ومنهم من صرح بمعناه
دون لفظه. وإن واحدهم ليقول الكلمة في ذلك فتجعل أصلاً في الدين ، ويحرف
لأجلها كلام الله وكلام رسوله عن مواضعه ويحمل على غير محمله.
علمنا الله تعالى في كتابه وبسيرة خاتم رسله أن الأنبياء بشر ، وأنهم عبيد لله
تعالى لا يمتازون على غيرهم إلا بالوحي الذي يلقيه سبحانه وتعالى إليهم ليبلغوه
للناس، ولا يكتموه ولوازمه. فهل يجوز لنا أن نتقالَّ هذه النعمة الكبرى
ونستصغرها فنضيف إليها شيئًا من عند أنفسنا مع قيام الدليل على خلافه ، أو مع
عدم الدليل عليه؟
يقول الله عز وجل: {قُل لَاّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ
وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النمل: 65) أي فإنه هو الذي يعلمه وحده. روى
أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث عائشة رضي الله
عنها أنها قالت: (من زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يخبر الناس بما يكون
في غد - وفي رواية يعلم ما يكون في غد - فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى
يقول: {قُل لَاّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ} (النمل: 65)
فكهذا كان الصحابة يفهمون ويعتقدون، فهل كانوا ضالين في فهمهم واعتقادهم
حتى جاء الصاوي في المتأخرين الذين ليس لهم من العلم إلا التقليد والأماني
فوضعوا لنا العقيدة الصحيحة؟ حاش لله! بل كان أزواج رسول الله وأصحابه أعلم
الناس بدين الله وأفهمهم لكتابه، وليس مثل الصاوي من مقلدة المتأخرين بحجة في
فروع الأحكام الفقهية، فضلاً عن العقائد الدينية، بل ليس لأحد أن يقلد في عقيدته
إمامًا مجتهدًا، فكيف يقلد ضعيفًا مقلدًا.
علم الغيب لا نهاية له لأن منه علم المستقبل الذي لا نهاية له ، وليس في
وسع مخلوق ولا استعداده أن يحيط علمًا بما لا نهاية له. فعلم الغيب كله محال
عقلاً على البشر والملائكة وجميع المخلوقين، وهو ممنوع نقلاً بنص الآية وما
يؤيدها من الآيات الكثيرة ، فلو ورد نص بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أعطي علم ما كان وما يكون من الغيب؛ لوجب تأويله ليوافق العقل والنقل بأن يقال:
أعطي علم ما كان في الماضي من سيرة الأنبياء مثلاً وما يكون من أمر العصاة
والطائعين في الآخرة من العذاب والنعيم لأن هذا العلم هو الذي يتعلق ببعثته.
فكيف ولم يرد أن الله تعالى أطلعه على كل غيبه نخالف العقل والنقل، ونقول
على الله تعالى ورسوله ما لا نعلم! ، وقد نهانا الله تعالى عن ذلك ، وعَدَّه مع
الشرك في قرن؟
لا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم كل الغيب لأن هذا ممنوع عقلاً
ونقلاً كما علمت ، ولا نقول: إن الله تعالى لم يطلعه على شيء من الغيب لأن
النص ورد بأنه أطلعه وأطلع غيره من الرسل. قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا
يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) إلى قوله:
{لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} (الجن: 28) فعلم أنه يظهرهم على
الغيب الذي يتعلق به تبليغ الرسالة ، وذلك مشروح في القرآن ، ومنه الملائكة
والجنة والنار والحساب وغير ذلك ، فالواجب في هذا المقام الوقوف عند النص لا
نتعداه بزيادة ولا نقصان لأنه ليس للعقل مجال في عالم الغيب فيقيس ويستنبط. فما
كان من النصوص قطعيًّا كالآيات الكريمة المصرحة بالأخبار عن الأنبياء السابقين
وأممهم ، وعن الآخرة وما فيها ، وعن الملائكة والجن، وعن ما وعد الله به هذه
الأمة من الاستخلاف في الأرض فإننا نؤمن به ونقول بكفر من أنكره. وما كان
منها مرويًا في أخبار الآحاد فلا يكلف كل مؤمن بعلمه والإيمان به، ولكن من ثبتت
عنده الرواية واطمأن لسندها فإنه بالطبع يعتقدها ، ولا نوجب عليه رفضها لأنها
غير متواترة إلا إذا عارضت دليلاً قطعيًّا كما لا توجب على غيره قبولها هذا هو
الأصل الذي لا نزاع فيه.
وأحاديث الآحاد الواردة بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب كثيرة، وقد
ظهر تأويل المشهور منها كالإخبار بأن الله يفتح على المسلمين مصر والشام
وغيرهما من الأقطار ، والإخبار بأن عمارا تقتله الفئة الباغية ، وأن الحسن يصلح
الله به بين فئتين من المسلمين ، وأن فاطمة عليها السلام أول أهله لاحقًا به بعد
موته ، وغير ذلك. ومن هذه الروايات الآحادية ما يصح سنده، ومنها الضعيف
والموضوع، ولا حاجة لنا إلى الكذب لإثبات فضله وخصائصه عليه الصلاة
والسلام ، فإن الثابت منها ليس بقليل ، وحسبنا قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ
عَظِيمٍ} (القلم: 4) وقوله: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء:
113) وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وغير
ذلك. وقد ذكر عليه السلام خصائصه ولم يرد فيها برواية صحيحة ولا ضعيفة أن
الله تعالى أطلعه على ما كان من الأزل ، وما يكون في الأبد. فهل يحل لنا أن
نكذب على الله تعالى بغير علم ، وندعي أن ذلك من الإيمان ، والله تعالى يقول:
{إنما يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُون} (النحل: 105) .
وأما ما ورد من أن الجنة والنار مثلتا له في عرض الحائط أو قبلة الجدار،
ومن أنه زويت له الأرض فرأى ما يصل إليه ملك أمته منها فلا يدل على أن الله
تعالى أطلعه على ما كان وما يكون مما ليس في استعداد البشر الاطلاع عليه؛ إذ لا
نهاية له ، ولا هو مما يتعلق به تبليغ الرسالة وهداية الخلق ، والنصوص تنافيه.
فقول الصاوي: (والذي يجب الإيمان به
…
إلخ) ، مردود لأنه زيادة عقيدة
من عقائد الدين. واللهِ قد أتم اللهُ الدين وأكمله على لسان رسوله صلى الله عليه
وآله وسلم ، فلا نسلم لأحد أن فيه نقصًا يتممه الصاوي أو الجمل أو من هو أكبر
شهرة من الصاوي والجمل كالعلماء والأئمة المجتهدين (وحاشاهم من ذلك) .
ومن العجائب أن يتجرأ مثل هذا الرجل على زيادة العقيدة في الدين ثم يجعلها
إشكالاً على القرآن يستبيح به تحريفه بالتأويل لإثباتها ، فيزعم أن أمر الله تعالى
لنبيه أن يقول: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (الأعراف: 188) ليس بيانًا لعقائد الدين ، وإنما هو أمر بالتواضع! ! وهل يكون
التواضع بالكلام في العقيدة بخلاف الواقع؟ ؟ إن فرضنا أن هذا يجوز أن يقع
فكيف يتحقق التواضع فيه ، والناس لم يعلموا أنه يعلم الغيب فيحملوا كلامه على
التواضع ، لا على ظاهره؟ أم كيف يتحقق ، وقد ورد نفي العلم بالغيب مورد
الاستدلال والحجة. ومن يقول تواضعًا: إنني لا أعلم كذا؛ لا يقيم الحجة على عدم
علمه به. ثم إنه ينافي دعوى التواضع قوله بعد ذلك: {إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) فهو ينفي أن يكون له خصوصية غير التبليغ
بالإنذار والتبشير كأنه يقول: إن الله تعالى أمرني أن أبلغكم بأنني لا أمتاز عليكم
بصفات الألوهية كالقدرة على النفع والضر وعلم الغيب و {إنما أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ
يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف: 110) والقرآن في جملته وتفصيله مؤيد لهذه العقيدة ،
فتأويل الآية هذا التأويل البعيد لأجل حملها على هذا الاعتقاد الجديد؛ هو من تفسير
القرآن بالرأي ، وفيه ما فيه من الوعيد، ولا يمكن لعاقل ولا مجنون أن يقول مثله
في سائر الآيات كقوله تعالى: {لَا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْب} (النمل: 65) فاتقوا الله أيها المؤمنون، ولا يغرنكم كل ما كتبه الميتون، ولا
تقولوا على الله ما لا تعلمون، وإنني في خاتمة القول أذكر القارئ بإجماع الأمة
على أن العقائد لا اجتهاد فيها ولا يؤخذ فيها باستنباط المستنبطين، وإنما يجب فيها
البرهان المؤدي إلى اليقين، وهذا الرأي الذي أورده الصاوي لم يقم البرهان العقلي
والنقلي إلا على خلافه كما تقدم ، فنحن نبرأ منه. ونسأله تعالى أن يغفره له، فإنه
لم يقله إلا بحسن نية كما هو شأن كثير من الذين شرعوا للناس من الدين ما لم يأذن
به الله، ونحمده تعالى أن حفظ أشهر المفسرين من هذا التأويل ، إذ لو ابتلي مثل
ابن جرير، والبيضاوي، والرازي بمثل هذا القول لتعسر محوه من نفوس العامة.
وسنشبع القول في علم الغيب عند الكلام على كشف الأولياء في بقية مقالات
الكرامات والخوارق إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تأثير الجرائد وحالها في مصر
لا نعرف في هذا العصر شيئا يؤثر في النفوس تأثير الجرائد فهي التي تقيم
الأحزاب في بلاد المدنية وتقعدها وتقنعها بما تشاء من الأمور العامة والخاصة.
لذلك يستعين بها الملوك والوزراء ورؤساء الأحزاب على الأعمال العامة كما
يستعين بها الأفراد على مقاصدهم الخاصة كترويج السلع بإعلان منافعها فيها ،
وللجرائد في مصر من التأثير نحو ما لها في غيرها ، ولكنها قاصرة في مصر كما
أن الأمة قاصرة ، فهي تشغل الجمهور في الغالب بما يضر ولا ينفع ، وتشغل
الناس بأهواء الناس وتعلق آمالهم بالأوهام، وترى الناس على كثرة ذمهم
لها منقادين بزمامها ، فما تكبره؛ يستكبرونه وإن كان صغيرًا، وما تصغره؛
يستصغرونه وإن كان كبيرًا. وما تهمل البحث فيه يهملونه كأن لم يكن شيئًا مذكورًا.
تجد ما تتفق عليه الجرائد يتفق عليه الأكثرون ، وما تختلف فيه فهم فيه مختلفون،
كلٌّ يؤيد ناطقًا ويتبع ناعقًا، فلو أن لهذه الجرائد مذاهب نافعة، ومقاصد عالية
ثابتة، لبلغت بها من ترقية الأمة ما شاءت. ولكنها في الأكثر قد أضرت الأمة
بتجريء الصغير على الكبير ، وتضيع زمن الجمهور بالاشتغال بسفساف الأمور ،
وصرف الوجوه عن تربية الأمة على الاستقلال، وتعليلها بكواذب الأماني الآمال،
ولا غرض لها من ذلك إلا الجاه والمال.
يكتب صاحب الجريدة بحسب هواه ، ويضحك من الناس غاشًّا إياهم بأنه
يخدمهم، ولا عجب إذا راجت على الغافلين دعواهم أن إطراء الأمراء والحاكمين
من الخدمة الوطنية ، ولكن العجب العجاب رواج دعواهم خدمة الدين الذي هم به
جاهلون، وعن صراطه ناكبون، وقد ملأ الآفاق في هذه الأيام صياح بعض
الجرائد التي تسمي نفسها إسلامية في الشكوى من زميلهم ومحسودهم صاحب المؤيد
والنيل من عرضه ، والطعن بنسبه ، والتحريض على ترك جريدته انتصارًا للدين
بزعمهم؛ لأنه عقد على بنت عقدًا شرعيًّا قابلاً للفسخ بطلب الولي على إثبات عدم
كفاءته ، وزعموا أنهم يريدون بذلك خدمة الدين والدفاع عنه، على أن إذا قُدِّرَ
الأمر مرفوعًا إلى المحكمة الشرعية فهلا انتظروا ما تحكم به ، فإن أجازت العقد
وحكمت بالكفاءة ، وإلا أطلقوا ألسنة أقلامهم على صاحب المؤيد لإنشائه عقدًا
يحتمل الفسخ غرورًا أو جهلاً بعاقبته، أو اكتفوا بذم العمل من الوجهة الاجتماعية،
وجعلوه كعادتهم قادحًا في الوطنية، وتركوا الكلام في الدين للعاملين به من العالمين.
إذا كانوا يغارون على الدين كما زعموا، فلماذا لا يتعلمون عقائده وأحكامه فقد
جاء في جريدة اللواء أنه لم ينفذ حكم المحكمة بالحيلولة بين صاحب المؤيد وزوجته
تكون إرادة الله تعالى معطلة! ! ولو جاز أن تكون الإرادة معطلة؛ لجاز أن تكون
القدرة كذلك لأن القدرة تتعلق بما تتعلق به الإرادة قطعًا، ولكن جريدة اللواء تجعل
الإرادة الإلهية بمعنى الإرادة السلطانية يجوز أن تنفذ ، ويجوز أن لا تنفذ، فهلا
تعلم أصحابها عقيدتهم وغاروا عليها. وإذا كانوا يغارون علي أحكام الدين كما
يزعمون فلماذا يمدحون ويطرون الأعمال المجمع على تحريمها وكفر مستحلها
كالمرقص الذي يكون في قصر الأمير بين النساء والرجال مع الدعوة إلى شرب
الخمر جهارًا، وإذا كانوا يغارون على كرامة البنات أن يفعلن ما لا يليق بشرفهن
من التزوج بدون إذن آبائهن كما يزعمون، فلماذا قام زعيمهم صاحب جريدة اللواء
يندد بعمل محافظ مصر السابق عندما أراد التشديد على النساء المتهتكات في
الشوارع والأسواق؟ ! وتبعه في ذلك كثير من الجرائد حتى اضطروا الحكومة إلى
منع المحافظة من ذلك ، وعاد النساء إلى تبرجهن المحرم بعدما كدن يقلعن عنه؟
فآية الصدق في المدافعة على الدين أن يكون المدافع عالمًا عاملاً بالدين لا يحابي
فيه كبيرًا ولا صغيرًا ، ولا سلطانًا ولا أميرًا، وهؤلاء لا يتعلمون ولا يعملون،
ولكنهم يحلون بأهوائهم ويحرمون، ويرتكبون سبعين منكرًا بدعوى إزالة منكر
واحد ولا يبالون. فاعتبروا بمرشديكم أيها المسلمون.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع لما في الجزء السابع
(الوجه التاسع والستون)
قولكم: إنكم في تقليدكم بمنزلة المأموم مع الإمام المتبوع مع التابع فالركب
خلف الدليل؛ جوابه: إنَّا والله حولها ندندن، ولكن الشأن في الإمام والدليل
والمتبوع الذي فرض الله على الخلائق أن تَأْتَمَّ به وتتبعه ، وتسير خلفه، وأقسم الله
سبحانه بعزته أن العباد لو أتوه من كل طريق واستفتحوا من كل باب لم يفتح لهم
حتى يدخلوا خلفه. فهذا لعمر الله هو إمام الخلق ودليلهم وقائدهم حقًّا ، ولم يجعل
الله منصب الإمام بعده، إلا لمن دعا إليه ودل عليه وأمر الناس أن يقتدوا به
ويأتموا به ويسيروا خلفه ، وأن لا ينصبوا لنفوسهم متبوعًا ولا إمامًا ولا دليلاً
غيره ، بل يكون العلماء مع الناس بمنزلة أئمة الصلاة مع المصلين كل واحد يصلي
طاعة لله وامتثالاً لأمره وهم في الجماعة متعاونون متساعدون، وبمنزلة الوفد مع
الدليل كل واحد يحج طاعة لله وامتثالاً لأمره ، لا أن المأموم يصلي لأجل كون
الإمام يصلي، بل هو يصلي؛ صلى إمامه أو لا. بخلاف المقلد فإنه إنما ذهب لقول
متبوعه لأنه قاله لا لأن الرسول قاله، ولو كان كذلك؛ لدار مع الرسول أين كان ولم
يكن مقلدًا. فاحتجاجهم بإمام الصلاة ودليل الحاج من أظهر الحجج عليهم، يوضحه.
(الوجه السبعون)
إن المأموم قد علم أن هذه الصلاة هي التي فرضها الله على عباده، وأنه
وإمامه في وجوبها سواء، وأن هذا البيت هو الذي فرض الله حجه على كل من
استطاع إليه سبيلاً، وأنه هو والدليل في هذا الفرض سواء فهو لم يحج تقليدًا
للدليل، ولم يصل تقليدًا للإمام، وقد استأجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
دليلاً يدله على طريق المدينة لما هاجر الهجرة التي فرضها الله عليه ، وصلى خلف
عبد الرحمن بن عوف مأمومًا. والعالم يصلي خلف مثله ومن هو دونه ، بل
خلف من ليس بعالم ، وليس ذلك من تقليده في شيء، يوضحه.
(الوجه الحادي والسبعون)
إن المأموم يأتي بمثل ما يأتي به الإمام سواء، والركب يأتون بمثل مايأتي به
الدليل ، ولو لم يفعلا ذلك لما كان هذا مُتَّبِعًا فالمتبع للأئمة هو الذي يأتي بمثل ما
أتوا به سواء من معرفة الدليل وتقديم الحجة وتحكيمها حيث كانت ومع من كانت فهذا
يكون متبعًا لهم، وأما مع إعراضه عن الأصل الذي قامت عليه إمامتهم، ويسلك
غير سبيلهم ثم يدعي أنه مؤتم بهم فتلك أمانيُّهم ويقال لهم: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن
كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) .
(الوجه الثاني والسبعون)
قولكم: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتحوا البلاد
وكان الناس حديثي عهد بالإسلام ، وكانوا يفتونهم ولم يقولوا لأحد منهم: (عليك
أن تطلب الحق في معرفة هذه الفتوى بالدليل) ؛ جوابه: إنهم لم يفتوهم بآرائهم وإنما
بلغوهم ما قاله نبيهم وأمر به فكان ما أفتوهم به هو الحكم وهو الحجة، وقالوا
لهم: هذا عهد نبينا إلينا ، وهو عهدنا إليكم فكان ما يخبرونهم به هو نفس الدليل
وهو الحكم فإن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الحكم وهو دليل
الحكم وكذلك القرآن، وكان الناس إذ ذاك إنما يحرصون على معرفة ما قاله
نبيهم وفعله وأمر به ، وإنما تبلغهم الصحابة ذلك فأين هذا من زمان إنما يحرص
الناس فيه على ما قاله الآخر فالآخر ، وكلما تأخر الرجل أخذوا كلامه وهجروا أو
كادوا يهجرون كلام من فوقه حتى تجد أتباع الأئمة أشد الناس هجرًا لكلامهم،
وأهل كل عصر إنما يقضون ويفتون بقول الأدنى فالأدنى إليهم، وكلما بَعُد العهد
ازداد كلام المتقدم هجرًا ورغبة عنه حتى إن كتبه لا تكاد تجد عندهم منها شيئًا
بحسب تقدم زمانه [1] ، ولكن أين قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - للتابعين: لينصب كل منكم لنفسه رجلاً يختاره ويقلده دينه، ولا يلتفت إلى
غيره، ولا يتلقى الأحكام من الكتاب والسنة، بل من تقليد الرجال فإذا جاءكم عن
الله ورسوله شيء وعن من نصبتموه إمامًا تقلدونه (قول يخالفه) فخذوا بقوله
ودعوا ما بلغكم عن الله ورسوله؟ فوالله لو كشف الغطاء وحقت الحقائق لرأيتم
نفوسكم وطريقكم مع الصحابة كما قال الأول:
نزلوا بمكة في قبائل هاشم
…
ونزلت بالبيداء أبعد منزل
وكما قال الثاني:
سارت مُشَرِّقًة وسرت مُغَرِّبًا
…
شتان بين مُشَرِّق ومُغَِّرب
وكما قال الثالث:
أيها المنكح الثريا سهيلا
…
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت
…
وسهيل إذا استقل يماني
(الوجه الثالث والسبعون)
قولكم: إن التقليد من لوازم الشرع والقدر ، والمنكرون له مضطرون إليه
ولا بد ، كما تقدم بيانه من الأحكام، جوابه: إن التقليد المنكر المذموم ليس من
لوازم الشرع وإن كان من لوازم القدر ، بل بطلانه وفساده من لوازم الشرع كما
عرف بهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها، وإنما الذي من لوازم الشرع المتابعة.
وهذه المسائل التي ذكرتم أنها من لوازم الشرع ليست تقليدًا، وإنما هي متابعة
وامتثال فإن أبيتم إلا تسميتها تقليدًا فالتقليد بهذا الاعتبار حق وهو من الشرع ، ولا
يلزم من ذلك أن يكون التقليد الذي وقع النزاع فيه من الشرع ولا من لوازمه، وإنما
بطلانه من لوازمه، يوضحه.
(الوجه الرابع والسبعون)
إن ما كان من لوازم الشرع فبطلان ضده من لوازم الشرع ، فلو كان التقليد
من لوازم الشرع لكان بطلان الاستدلال واتباع الحجة في موضع التقليد من لوازم
الشرع ، فإن ثبوت أحد النقيضين يقتضي انتفاء الآخر وصحة أحد الضدين توجب
بطلان الآخر. ونحرره دليلاً، فنقول: لو كان التقليد من الدين لم يجز العدول عنه
إلى الاجتهاد والاستدلال؛ لأنه يتضمن بطلانه. فإن قيل: كلاهما من الدين
وأحدهما أكمل من الآخر فيجوز العدول من المفضول إلى الفاضل؛ قيل: إذا كان
قد انسد باب الاجتهاد عندكم وقطعت طريقه وصار الفرض هو التقليد؛ فالعدول عنه
إلى ما قد سد بابه وقطعت طريقه يكون عندكم معصية وفاعله آثم، وفي هذا من
قطع طريق العلم وإبطال حجج الله وبيناته ، وخلو الأرض من قائم لله بحججه ما
يبطل هذا القول ويدحضه. وقد ضمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه
لاتزال طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم
الساعة، وهؤلاء هم أولو العلم والمعرفة بما بعث الله به رسوله فإنهم على بصيرة
وبينة بخلاف الأعمى الذي قد شهد على نفسه بأنه ليس من أولي العلم والبصائر.
والمقصود أن الذي هو من لوازم الشرع فالمتابعة والاقتداء وتقديم النصوص
على آراء الرجال وتحكيم الكتاب والسنة في كل ما تنازع فيه العلماء. وأما
الزهد في النصوص والاستغناء عنها بآراء الرجال وتقديمها عليها ، والإنكار
على من جعل كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة نصب عينيه ، وعرض
أقوال العلماء عليها ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة فبطلانه
من لوازم الشرع ولا يتم الدين إلا بإنكاره وإبطاله، فهذا لون والاتباع لون والله
الموفق.
(الوجه الخامس والسبعون)
قولكم: كل حجة أثرية احتججتم بها على بطلان التقليد فأنتم مقلدون
لحملتها، ورواتها ليس بيد العالم إلا تقليد الراوي ولا بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، ولا
بيد العامي إلا تقليد العالم إلى آخره. جوابه ما تقدم مرارًا من أن هذا الذي
سميتموه تقليدًا هو اتباع أمر الله ورسوله، ولو كان هذا تقليدًا لكان كل عالم على
وجه الأرض بعد الصحابة مقلدًا ، بل كان الصحابة الذين أخذوا عن نظرائهم
مقلدين، ومثل هذا الاستدلال لا يصدر إلا من مشاغب أو ملبس يقصد لبس
الحق بالباطل. والمقلد لجهله أخذ نوعًا صحيحًا من أنواع التقليد، واستدل به على
النوع الباطل منه لوجود القدر المشترك ، وغفل عن القدر الفارق ، وهذا هو القياس
الباطل المتفق على ذمه وهو أخو هذا التقليد الباطل كلاهما في البطلان سواء.
وإذا جعل الله سبحانه خبر الصادق حجة وشهادة العدل حجة لم يكن متبع الحجة مقلدًا.
وإذا قيل: إنه مقلد للحجة فحيهلاً بهذا التقليد وأهله وهل ندندن إلا حوله، والله
المستعان.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: إن السبب الطبيعي للتقليد هو ثقة الإنسان بمن يراه هو أعلم منه، ولثقة المتأخرين بمشايخهم يأخذون أقوالهم بالقبول، وإن خالفت أقوال الأئمة مع اعتراف شيوخهم بأنهم مقلدون ، ويحتجون على هذا بما يحتج به المشايخ على وجوب تقليد الأئمة وتقديم أقوالهم على نصوص الشارع، وهو أنهم أعلم بكلام الشارع منا ، فالشافعية في مصر مثلا يقولون: قال الشرقاوي إن ميضة السيد البدوي مستثناة من المياه النجسة، والمتغيرة فيجوز الوضوء منها ، فإذا قيل لهم: هذا مخالف لكلام الشافعي وأصحابه، قالوا: هو أعلم بكلامهم منا ، وقد قال ما قال! ! وهكذا أتباع كل طائفة فهم لا يقلدون الأئمة إلا بما يجيزه مشايخهم فهم مقلدون للمقلدين ، وهذا باطل بالإجماع ، ولكن ماذا تقول للمقلد الذي يستدل بجهله ولا يقبل الدليل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
فناء الأجساد والحشر
إشكال
(س51) مصطفى أفندي رشدي المورلي بنيابة (الزقازيق) قلتم عند
الرد في المنار على السائل هل الحشر بالأجساد أو الأرواح فقط: إنه بالروح؛ لأن
الجسم يفنى كل عشرات من السنين كذلك الدم في كل شهور (كذا) فإذا قلنا: إن
الجسم يتغير في حال الحياة كما أثبته الطب فلماذا نرى الوشم الأخضر ثابتًا على
الأجسام طول العمر من الصغر إلى الكبر
(ج) إننا لم نقل بأن الحشر يكون بالأرواح فقط كما يفهم من السؤال، بل
صرحنا بأن الحشر يكون بالروح والجسد، ولكن لا يجب أن يكون الجسد الذي
يعود هو الذي كانت الأعمال التكليفية به؛ لأن هذا الجسد لا ثبات له كما قلنا بل هو
يتحلل في كل بضع سنين، ويبدل بغيره تدريجًا، ويبقى الإنسان كما هو ، فإذا عاد
في الآخرة بغير هذا الجسد لا يستلزم ذلك أن تكون الحقيقة قد تغيرت؛ لأن الحقيقة
هي الروح، وما الجسم إلا ثوب لها كما أوضحناه هناك فليراجع ، أما الإشكال الذي
أورده السائل على ما تقرر في العلم من تبدل جسد الإنسان مرات كثيرة؛ فجوابه
أنه كلما انحلت دقيقة من دقائق الجسم تخلفها دقيقة حية مثلها كمًّا وكيفًا، والوشم من
الكيفيات التي تنتقل من الدقائق الميتة إلى الدقائق الحية عند التحليل والتركيب؛
لأنه ليس صبغًا على ظاهر الجلد، بل هو مما يتأثر به الدم والعصب، فيكون
كاللون الطبيعي كذلك آثار الجروح في البدن تكون ثابتة فالخلايا الحية التي تخلف
المنحلة في موضع الاندمال تأخذ شكلها الأول، وعلى ذلك فقس.
***
الحيلة والتوهم
في دعوى مشاهدة أشباح الشهداء
(س52) م. غ، في (سوريا) قرأت في العدد الخامس من منار هذه
السنة جوابكم على السؤال التاسع عشر؛ فذكرني واقعة جرت معي وأنا في السابعة
أو الثامنة من العمر فأحببت أن أقصها على سيادتكم لأرى رأيكم فيها.
كنت في مدرسة، وكان الطريق إليها قريبًا من مقبرة ، فكان دأبي أن أمر
على المقبرة كل يوم صباح مساء لأقرأ الفاتحة لشهيد فيها يسمونه زين العابدين،
فيومًا أنا واقف في قبة هذا الشهيد رأيت يدًا مجردة عن الجسم تدور فوق الصندوق
الموضوع على قبره ، فحدقت ببصري برهة لأرى بقية الجسد فلم أر شيئًا فدهشت
حينئذ ، واستولى عليّ الجزع وفررت هاربًا إلى البيت وقصصت ما رأيته على
والدتي، ولم أزل أتذكر ذلك كلما مررت بطريق ذلك الشهيد ، فالمرجو من فضيلتكم
كشف القناع عن هذا الأمر، على أنكم تعلمون حق العلم أنني من أشد الناس إنكارًا
للبدع والخرافات والأوهام والضلالات لا أخاف في ذلك لومة لائم؛ لأني أعتقد أن
المحاباة في دين الله غير جائزة، ولو لغرض صحيح كما أوضحتموه في المنار
الزاهر غير مرة.
(ج) يزعم الألوف من المصريين أنهم يرون أشباح الشهداء في البهنسا
تطوف في أعلى قبة هناك، وقد أراد بعض علماء الأزهر اكتشاف هذا الأمر الذي
يستند فيه العوام إلى المشاهدة؛ فذهب غير واحد إلى هناك غير مرة فتبين لهم أن
هذه الكرامة مصنوعة للمرتزقين هناك من السدنة، وأن الذي يُرى في القبة إنما هو
ظلال رجال يطوفون وقت الأصيل حول القبة في مكان يحاذي الكوى من أعلاها،
فيوهم السدنة النساء والأطفال ومن في حكمهم من الرجال أنها شخوص الشهداء،
حدثني بهذا الشيخ محمد بخيت العضو الأول في المحكمة الشرعية العليا ، والشيخ
أبو الفضل الجيزاوي من مدرسي الدرجة الأولى في الأزهر كل على حدته، زاد
الأول اكتشاف حيلة أخرى ، وهي أنهم يطلعون الناس في قبر هناك على رأس
مكسو بشعر طويل يزعمون أنه رأس شهيد لم يتغير بمرور القرون عليه ، ولكن
الشيخ وصل إلى الرأس فإذا هو جمجمة قديمة بالية وإذا بالشعر قد ألصق عليها
حديثا بنحو صمغ أو غراء، لأجل التغرير والإغراء، ولهولاء الدجالين حيل كثيرة
في خداع الأغراء، وحسبك قصة أحمد المغربي السابقة في الاعتبار.
وهناك تعليل آخر لما يتراءى لبعض الناس من نحو الذي ظهر لكم ، وهو أن
اشتغال الخيال بالشيء من هذا القبيل ينتهي أحيانًا بتمثل بعض الخيالات للمرء كأنها
محسوسة كما شرحنا ذلك في مبحث رؤية الأرواح من مقالات الخوارق والكرامات؛
فراجعه في مجلد المنار السادس فالأرجح عندي أن ما ظهر لكم من هذا القبيل،
ومنه ما نسب إلى الشيخ أحمد الرفاعي أو إلى الشيخ علي أبي شباك الرفاعي من
رؤية كف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقظة فهي رؤية خيالية لا حقيقية
حسية. على أن رؤية الأرواح غير مستحيلة عقلاً، ولكن العاقل لا يسلم بخلاف
مقتضى الظاهر إلا بدليل قطعي لا يحتمل التأويل ، ودعوى رؤية أرواح الأولياء
وأجساد الشهداء كانت شائعة في كثير من بلاد أوربا في القرون المتوسطة التي
يسمونها المظلمة، فلما جاء عصر العلم والنور تلاشت تلك الدعاوي فلم يبق لها إلا
أثر ضعيف في بعض عامة القرى، وكذلك يكون في غير تلك البلاد فإن سنته
تعالى في جميع أصناف البشر واحدة، ثم إن المشتغلين بالعلم من الأوربيين يدعون
أنهم وصلوا أخيرًا إلى اكتشاف طريقة صناعية لاستحضار الأرواح ورؤيتها ، وأن
بعض الناس أشد استعدادًا لها من بعض، فإن صح هذا كان طريقًا طبيعيًّا لتعليل
بعض المشاهدات، ولكنها لا تعد من قبيل الكرمات.
***
رائحة الأولياء ورؤيتهم
وشفاء المرضى برؤيتهم
(س53) أحمد زكي أفندي عبده (السويس) : قد اطلعت في الجزء الخامس
على جواب سؤال عنوانه (إثبات الولاية بالرؤى والأحلام) حملني على سؤال
حضرتكم عما يحصل في بعض البيوت التي فيها قبور تنسب إلى بعض أولياء الله
تعالى من الرائحة الذكية التي تحدث في ليال معلومة من كل شهر تقريبًا ، على أنّي
شممت هذه الرائحة وما كان في البيت بخور
…
وأذكر لحضرتكم أن وجيهًا
حدثني بأنه مرض منذ سنين مرضًا حار في علاجه الأطباء فعز الشفاء، ولم ينجح
الدواء، إلى أن رأى ذات ليلة وهو بين النائم واليقظان شخص ولي مدفون في البيت
دخل عليه ووضع يده على خده مدة قليلة، ثم رجع من حيث أتى، وما جاء
الصبح إلا وقد شفي من مرضه وعافاه الله، وأنه وصف اليد بأنها ليست يد آدمي
وأنها كوسادة ناعمة لينة محشوة قطنًا وضعت على خده ثم رفعت، أرجو
الإفادة عن هذه الحوادث وما يشاكلها من رؤية الولي المدفون في البيت يصلي أو
يسبح أو يتوضأ مما هو شائع أمره، ولكم من الله الأجر.
(ج) ما من مسألة من المسائل التي يتضمنها هذا السؤال إلا وقد تقدم في
المنار ما يفهم منه تعليلها إلا الرائحة، ولكن أكثر الناس يحبون أن نكتب لكل
جزئية تعليلاً؛ فأما الرائحة الذكية فسببها أن بعض الناس يضعون البخور أو
الأعطار عند قبر الولي في الليالي المعهودة بلا شك، وهو أمر قد عرفناه واختبرناه،
ولقد حدث لنا ما هو أبعد منه عن التأويل ، وهو أننا كنا في أيام سلوك الطريقة
النقشبندية نشم في وقت الذكر رائحة ذكية جدًّا تأتي نفحة بعد نفحة ثم تذهب، ولقد
كنا نعللها أولاً إذا حدثت ونحن في حلقة الذكر الاجتماعي التي يسمونها الختم، بأن
بعض الحاضرين فتح زجاجة عطرية ثم سدها ونحن لا نراه لأن أعيننا تكون
مغمضة مدة الختم، ثم إن ذلك صار يحدث لنا ونحن نذكر الله تعالى ولو في خلوة
بابها مغلق وليس معنا فيها أحد، وإننا مع عجزنا عن تعليل طبيعي لذلك نجزم بأن
ما يشم عند القبور عادة له سبب طبيعي وهو ما ذكرناه آنفًا؛ لأنه لو كان أمرًا
روحانيًّا أو وهميًّا لما كان عامًّا يشمه كل من حضر، بل الروحانيون أو الواهمون
خاصة.
وأما المريض الذي شفي عقيب الرؤيا فلك أن تعلل شفاءه بما تقدم شرحه في
بحث (إبراء العلل) بالكرامة والوهم من المجلد السادس، على أن صاحبك قد طال
عليه زمن المرض ، ومن الأمراض ما يشفى بدون علاج إذا انتهى سيره، وأعرف
رجلاً في طرابلس مرض مرضًا طويلاً لم ينجح فيه علاج ، حتى إذا كان ذات ليلة
شعر بأن في غرفته صينية من (الكبيبة) فزحف على استه إذ كان لا يقدر على
القيام حتى وصل إليها فأكلها برمتها، ولم يكن في حال الصحة ليقدر على أكل
نصفها أو ربعها فأصبح معافى، وأذكر أن المقتطف سئل مرة عن رجل مقعد
معروف في لبنان رأى ذات ليلة بعض القديسين المُعْتَقَدين عندهم أو المسيح أو مريم
عليهما السلام (الشك مني) فأصبح يمشي {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ المَفْتُونُ} (القلم: 5-6) ومثل هذه الحكايات كثيرة ، وتعليلها ما شرحناه من قبل ونبهنا
عليه آنفًا ، فإن كان السائل أو غيره يظن أن هذا خاص بالمسلمين؛ فلماذا لم يكن
شائعًا فيهم أيام كانوا قائمين بحقوق الإسلام في الصدر الأول، ولماذا شاع فيهم
بشيوع نزعات الوثنية، وضروب البدع والضلالة؟ ؟ وأما رؤية الأولياء فتقدم
تعليلها كما نبهنا في جواب السؤال السابق.
***
مسافة القصر في سكك الحديد
(س 54) رشيد أفندي غازي في الشام:
لا يخفى أن علماء الفروع قد حددوا سفرًا مخصوصًا للمسافر حتى يجوزوا
قصر الصلاة به، وهذه المدة تنطبق على المسافر من مدينة بيروت إلى دمشق أو
من حمص إلى طرابلس أو منها إلى دمشق أو من مصر إلى الإسكندرية فلو تزوج
دمشقي مثلاً من بيروت، ثم سافر إلى بلده على القطار الحديدي ومعه أهله وأثاث
بيته، وقطع المدة المعلومة في بضع ساعات فهل يجوز له قصر الصلاة أم لا؟
وإذا جاز له فهل من دليل على ذلك يثلج له الصدر، وتطمئن له النفس أم لا؟ ولو
ادعى مدع أن القصر في هذه المدة القليلة غير جائز فما الدليل المصادم لدليله على
طريقة الأصوليين، فلذلك أحببت نشر هذا السؤال على صفحات جريدتكم الغراء
لتتلو الأجوبة، ولتكون معلومة لعموم المكلفين. إذ لو كان سؤالاً خاصًّا لعالم خاص لم تحصل الثمرة المطلوبة ، وهو الهادي.
(ج) إن الله تعالى أباح لنا قصر الصلاة والتيمم والفطر في السفر، ولم
يحدد لنا طول المسافة ، فكان مقتضى الظاهر أن تباح هذه الرخص في كل ما يطلق
عليه اسم السفر لغة ، ولكن العلماء حاولوا تحديد أقل مسافة لهذه الرخصة بما ورد
فيها من قول الشارع أو عمله ، فاختلفوا في ذلك على أقوال كثيرة وجعلوا التقدير
بالأميال والفراسخ والمراحل ، والعبرة عندهم بسير الأثقال المعتدلة، فمن قطع
المسافة المقدرة بأقل من الزمن الذي تقطع فيه بسير الأثقال كان له أن يترخص بلا
خلاف ، فلا فرق إذن بين قطعها في السكة الحديدية بقوة البخار وقطعها على فرس
سابق. فلك أن تحج من يعارضك من المقلدين بعدم تفرقة الفقهاء، وأما من يطالب
بالحجة الحقيقية فلك أن تحجه بإطلاق السفر في الكتاب والسنة مع ما ورد في مسند
أحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود من حديث شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال:
سألت أنسًا عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج
مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين. (الشك من شعبة) قال الحافظ
ابن حجر في فتح الباري: وهو أصح حديث ورد في ذلك وأصرحه، وروى سعيد
بن منصور من حديث أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر
فرسخًا يقصر الصلاة. وقد أقره الحافظ في التلخيص ، وهو يؤيد رواية الثلاثة
الأميال ، وبه أخذ الظاهرية وأما حديث ابن عباس عند الطبراني أنه صلى الله عليه
وسلم قال: (يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة بُرُد من مكة إلى عسفان)
ففي إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير وهو متروك ، ونسبه النووي إلى الكذب ،
وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه، فأكثر ما ورد في طول المسافة ثلاثة فراسخ
إذا لم نعتبر رواية سعيد بن منصور مرجحة للشق الأول من حديث أنس وإلا فثلاثة
أميال ، وهو فعل لا ينافي جواز القصر في أقل من ذلك، وأقل ما ورد في طول
المسافة ميل واحد رواه ابن أبي شيبة شيخ البخاري عن ابن عمر بإسناد صحيح ،
وبه أخذ ابن حزم مع إطلاق السفر في الكتاب والسنة، وعدم تخصيصه أو تحديده،
ومع كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصر عند خروجه إلى البقيع لأنه أقل من
ميل، وقد يقال: إنه من ضواحي المدينة فالخروج إليه لا يسمى سفرًا. والله أعلم
وأحكم.
* * *
تحويل النقود المعدنية إلى ذهبية
(س55) عبد الحميد أفندي السوسي في (الإسكندرية) : يوجد في ثغرنا
رجل غريب نازل عند أسرة مثرية أخبرني عنه من أثق بقوله أنه توجه إليه ذات
يوم بقصد الزيارة واستأذنه في الدخول ، فأذن له فدخل وحياه وجلس ، وبعد أن
استقر به المكان أخذا يتحادثان ، وكان مخبري معه ولد له يناهز الثامنة ، فما
كان من الشيخ إلا أن أعطى الولد (قرش نيكل) فأخذه الولد وبعد هنيهه استرده
الشيخ منه ووضعه بين راحتي كفيه ، وأخذ يدعكه بلطف ويتمتم ويتفل عليه ، ثم
ناوله للولد ثانية وإذا هو جنيه إنكليزي فاندهش مخبري من عمل هذا الرجل إلا
أنه بعدما انصرف من عنده أخذ من ابنه الجنيه وصرفه من صاحب له ، وانتظر بعد
ذلك أن يتغير الجنيه فلم يتغير، وبلغني أن الرجل عمل مثل ذلك مع أفراد آخرين ،
فما رأيكم في ذلك الرجل وفيما عمله، أفيدونا.
(ج) إن المشعوذين يعملون مثل هذا وأغرب منه، والأرجح أن الرجل
أخفى القرش بلطف ، واستبدل به الجنيه الذي أعطاه الولد، والظاهر أنه يريد أن
يشتهر بذلك ليقبل عليه الطامعون بالغنى من غير طرقه الطبيعية فيبتز من أموالهم
أضعاف ما ينفقه في سبيل الشهرة بالكيمياء القديمة التي لا يزال يفتن بها كثير من
الناس فيبيدون ما بأيديهم من النقد لأجل أن يستغنوا به نسيئة ، وما العهد ببعيد من
قضية محمد بك أبي الشادي المحامي صاحب جريدة الظاهر فقد بذل مبلغًا عظيمًا
على بعض الناس للقيام بهذا العمل الموهوم فكان كأمثاله من الخائبين.
***
حديث التفاوت في التكليف
(س 56) محمد أفندي كامل الكاتب بالمحكمة الأهلية في (أسيوط) : ضم
أحد إخواننا مجلس جمع من الأكابر عدة بينهم عالم كبير ، ودار البحث بينهم على
حالة الإسلام ، فذكر هذا العالم حديثًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: (أنتم
في زمن لو تركتم عشر معشار ما وجب عليكم لهلكتم ، وسيأتي على أمتي زمن لو
فعلوا عشر معشار ما وجب عليهم لنجوا) ولما كان هذا الحديث لا يقبله العقل
لمناقضته للقرآن الكريم أخذ صاحبنا يبين للعالم استحالة قبول العقل له بالآيات
القرآنية ، ووافقه الحاضرون لقوة حجته، ولكن صاحب الحديث أصر عليه ، ولما
لحضرتكم من الأيادي البيضاء على المسلمين في مثل ذلك جئناكم راجين فصل
الخطاب في صحة هذا الحديث وعدمها.
(ج) الحديث لم يروه أحد بهذا اللفظ مطلقًا، وحقًّا إنه هادم للدين
هدمًا ، ولكن روى الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعًا (إنكم في زمان من
ترك منكم عشر ما أمر به هلك، ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا)
وهو على كونه غير صحيح قد حملوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ
لا يمكن حمله على جميع التكاليف لما يستلزمه من التفاوت بين الأزمنة في
التكليف ، واللازم باطل بإجماع المسلمين وبعموم النصوص القطعية، وقالوا: إن
السبب في ذلك أن الإسلام كان عزيزًا وكان الناس كلهم أعوانًا على الحق والخير
فلا عذر للمقصر، وأما الزمان الأخير فيضعف فيه الإسلام ويقل التعاون على
الخير ، فيكون للمقصر بعض العذر لفقد التعاون وكثرة الموانع من الخير والإيذاء
في الله. ويمكن حمله على ما يأمر به الحكام والسلاطين لأنه كان في العصر
الأول حقًّا وخيرًا في الغالب، ولينظر الناظر بماذا يأمر حكامنا الآن، أما كون
الحديث غير صحيح فنعني به أنه لا يكاد يرتقي عن المكذوب إلى الضعيف ، وآفته
نعيم بن حماد المحدث الكبير المكثر الذي غر كثيرًا من المحدثين بعلمه وسعة روايته
حتى أخرج له البخاري في المتابعات دون الأصول ، فهو لا يوثق بما انفرد به ،
ومنه هذا الحديث. صرح الترمذي راويه بأنه غريب لا يعرف إلا عن حماد وقد
عد ابن عدي في الكامل جملة مما انفرد به ، ومنه ما صرحوا بوضعه، وفي
الميزان عن العباس بن مصعب في تاريخه أن حمادًا وضع كتبًا في الرد على
الحنفية وأخرى في الرد على الجهمية، وكان منهم أولاً، وقال أبو داود: كان
عنده نحو عشرين حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها أصل، وقال
الحافظ أبو علي النيسابوري: سمعت النسائي يذكر فضل نعيم بن حماد وتقدمه
في العلم والمعرفة والسنن ، فقيل له في قبول حديثه؛ فقال: قد كثر تفرده عن
الأئمة فصار في حد من لا يحتج به، وقال في موضع آخر: إنه ضعيف ، وقال
الأزدي: كان نعيم يضع الحديث. ولا شك عندي في ذلك ، ومن علامة وضع
الحديث عدم انطباقه على الأصول الثابتة.
***
لبس الحرير والتحلي بالذهب
(س57) ومنه: هل اتخاذ المسلم الحرير دثارًا، والتحلي بالذهب شعارًا،
محرم عليه حقيقة بإجماع الأئمة، ما نص كتاب الله وسنة رسوله في ذلك؟
(ج) ورد في حديث الصحيحين وغيرهما النهي عن لبس الحرير والوعيد
على ذلك بأن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وحملوه على الحرير المحض،
قالوا: ومثله الغالب فيه الحرير لما يأتي، وخصه بعضهم كالحنفية باللبس فلا مانع
عندهم من الدثار ونحو الزنار وحرم بعضهم كل استعمال حتى أغطية الأواني،
وقالوا: فالنهي خاص بالرجال لحديث أبي موسى عند أحمد وأبي داود والترمذي
والنسائي وغيرهم: (أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها) ،
صححه الترمذي ولكن في إسناده سعيد بن أبي هند عن أبي موسى قال أبو حاتم:
إنه لم يلقه، وقال ابن حبان في صحيحه: إن حديثه عنه لا يصح، وقالوا فيه غير
ذلك.
وجملة القول فيه أنه لا يحتج به ، وكذلك حديث علي عند أحمد وأبي داود
والنسائي وابن ماجه وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ
حريرًا فجعله في يده اليمنى وأخذ ذهبًا فجعله في شماله، ثم قال: (إن هذين حرام
على ذكور أمتي) - زاد ابن ماجه: (حل لإناثهم) ، ولا حاجة إلى تفصيل ما
قالوه في إعلاله والطعن بسنده، ولكن جرى العمل في السلف والخلف على لبس
النساء الحرير والتحلي بالذهب.
وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود: إنما نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن الثوب المصمت من قز، أما السَّدَى والعَلَم فلا نرى به بأسًا،
ورجال الحديث ثقات ومن ضعف خصيف بن عبد الرحمن من رجاله لم يشك في
صدقه ، وقد وثقه ابن معين وأبو زرعة، وأخرجه الحاكم بسند صحيح والطبراني
بإسناد حسن، وثبت في الصحيح: أن الصحابة لبسوا الخز، وكانت ثياب الخز
على عهدهم تنسج من حرير وصوف، وروى أبو داود: أن عشرين صحابيًّا لبسوا
الحرير الخالص، وفي حديث عمر عند أحمد ومسلم وأصحاب السنن: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير الخالص إلا هكذا ورفع لنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما - ومن لفظ (إلا
موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة) زاد أحمد وأبو داود (وأشار بكفه) ، وفي
حديث البخاري النهي عن الجلوس على الحرير والديباج.
هذا ملخص ما ورد في السنة مختصرًا، أما ما ورد عن العلماء فقد ادعى
بعض الزيدية الإجماع على تحريم الحرير الخالص، وهو غير صحيح فقد روى
ابن علية وغيره الخلاف في أصل التحريم، وكان الذين أباحوه وهم الأقلون يرون
أن الأمر والنهي في الأمور الدنيوية العادية للإرشاد؛ أي لا للتحليل والتحريم الديني،
ولهذا نظائر لا خلاف فيها يقولون: الأمر للإرشاد، النهي للإرشاد: والجماهير
على تحريم الحرير الخالص للرجال وعلى حل قدر أربع أصابع من المطرز
والموشى، ومن السجوف على جوانب الثوب وجيوبه وفروجه ، وتحريم ما كان
الحرير فيه هو الغالب في النسيج وحل ما كان غيره هو الغالب، وبعضهم يعتبر
قلة الحرير وكثرته في النسيج الوزن كالشافعية ، وبعضهم يعتبر النسج ، فيكفي أن
يكون سداه حريرًا ولحمته قطنًا أو غيره. ومحل هذا الخلاف عند عدم الضرورة أو
الحاجة ، ففي حديث عند أحمد والشيخين وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه
وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما،
ورواية الترمذي أنهما شكوا إليه القمل، كذلك قد ورد النهي عن المعصفر والأحمر
وسيأتي تعليله بعد الكلام على الذهب.
أما استعمال الذهب في اللباس فقد ورد فيه عن معاوية قال: (نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن ركوب النمار ، وعن لبس الذهب إلا مقطعًا) رواه أحمد
وأبو داود والنسائي وفي إسناده ميمون النفاد فيه مقال ، وبقية رجال سنده ثقات ،
ورواه أبو داود بسند آخر فيه بقية بن الوليد، وفيه مقال أيضًا، والنمار جمع نمر
كالنمور في رواية أخرى، والمراد بالمقطع ما كان قطعًا في نحو سيف أو ثوب،
وأما استعمال الذهب وكذا الفضة في غير اللباس فلم يرد فيها شيء صحيح إلا النهي
عن الأكل والشرب في أوانيهما وصحافهما والتختم، ولم ينقل خلاف في الشرب إلا
عن معاوية بن قرة، وأما الأكل فأجازه الإمام داود الظاهري ، واختلفوا في النهي
فحمله بعضهم على الكراهة وهو قول قديم للشافعي، وعليه العراقيون من أصحابه،
وردوا عليهم بحديث الصحيحين عن أم سلمة مرفوعًا: (أن الذي يشرب في آنية
الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وفي رواية لمسلم (يأكل ويشرب في آنية
الذهب والفضة) وفي رواية أحمد وابن ماجه عن عائشة: (كأنما يجرجر في بطنه
نارًا) على التشبيه، وأما التختم بالذهب فقد ورد فيه في الصحيح حديث أحمد
ومسلم وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه عن علي أنه قال: (نهاني رسول الله -
صلى الله عليه وآله وسلم عن التختم بالذهب وعن لباس القسي، وعن القراءة
في الركوع والسجود، وعن لباس المعصفر) وفي لفظ لأبي داود والترمذي (نهى) ،
ولكن يؤكد لفظ مسلم وغيره رواية (ولا أقول نهاكم) ولذلك ذهب بعض العلماء
إلى أن هذا النهي خاص بعلي عليه السلام حملاً له على المبالغة في الزهد، ومن
حرم التختم بالذهب ترجيحًا لقول الأصوليين أن الحكم على الواحد حكم على الأمة
ما لم يقم دليل على التخصيص؛ يرد عليه قوله: ولا أقول نهاكم، ويلزمه تحريم
المعصفر، وقد حمل بعضهم النهي فيه على الكراهة تنزيهًا، وذهب جمهور الأمة
من الصحابة ومن بعدهم إلى إباحة لبس المعصفر، والقَسي بفتح القاف ثياب من
حرير تنسب إلى بلد بمصر، وقيل هي كقزي نسبة إلى القز المعروف، وثمَّ
روايات أخرى في النهي عن خاتم الذهب، وخاتم الحديد؛ لأن الأول حلية أهل
الجنة، والثاني حلية أهل النار، وفي حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود النهي
عن حلقة الذهب وسوار الذهب وفيه: (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا) .
وجملة القول أنه ثبت في الصحيح النهي عن الأكل والشرب في أواني الذهب
والفضة مع الوعيد والنهي عن التختم بالذهب، وفي حديث مسلم أنه شبهه بجمرة
من نار، ولم أره في المنتقى، وأما مذاهب العلماء فقد حمل الأقلون النهي على
التنزيه لا التحريم، وذهب داود إلى تحريم الشرب في أواني النقدين، وإباحة ما
عداه من أنواع الاستعمال، وقاس كثير من الفقهاء غير الأكل والشرب عليهما حتى
حرم الشافعية اتخاذ الأواني ولو لم تستعمل، فإن جعلوا هذا النهي عن الحرير
الخالص، وعن الأكل والشرب في أواني النقدين تعبديًّا؛ امتنع القياس على ما ورد
به النص الصحيح، وإن قالوا: إن له علة ترجع لمصلحة الناس في معايشهم
وأخلاقهم فهلم نبحث فيها.
اختلفت النصوص والآراء في علة النهي عن لبس الحرير والمعصفر بألفاظ
تفيد عموم النهي حتى للنساء مع ثبوت لبس النبي صلى الله عليه وسلم السندس
والديباج الذي أهداه اليه أكيدر دومة ولبس الصحابة له، وعن النهي عن الأكل
والشرب في آنية النقدين فقط مع حديث ابن حبان: (ويل للنساء من الأحمرين
الذهب والمعصفر) ، وفي الصحيحين أن ابن الزبير خطب فقال في خطبته: لا
تلبسوا نساءكم الحرير فإني سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) ، وروى النسائي
والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن عقبة بن عامر أنه كان يمنع أهله الحلية
والحرير ويقول: (إن كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها فلا تلبسوهما في الدنيا)
وإنما ذكرنا هذا هنا؛ لأن له علاقة بالتعليل.
قال بعض العلماء: إن العلة في تحريم الذهب والفضة الخيلاء، فهو إذن
كجر الثوب لا يحرم إلا مع الخيلاء، وقال بعضهم: إنه كسر قلوب الفقراء، وقال
بعضهم: إن العلة اجتماع هذين الأمرين، وإن أحدهما لا يكفي علة، وهذا هو
المعتمد عند الشافعية، وقالوا: إنه يخرج به إباحة استعمال أواني الجواهر كالزمرد
والياقوت فإنها مباحة إجماعًا، والخيلاء فيها أظهر منها في آنية النقدين، ولكن
ليس فيها كسر لقلوب الفقراء؛ لأن أكثرهم لا يعرفها على أن الخيلاء محرم في
نفسه، ويفهم من كلام الغزالي علة أخرى وهي تقليل النقود المسكوكة التي هي
موازين التعامل وقضاء الحاجات، وهذه العلة تظهر في تحريم الآنية دون القليل من
الحلي ، وتنطبق على حديث معاوية المبيح لاستعمال الذهب قطعًا صغيرة في حلي
للنساء أو زينة في نحو سيف ومنطقة، وقد ورد في الصحيح أنه كان لقدح النبي
سلسلة من فضة، وعند أحمد (ضبة من فضة) ، وبهذا علل الغزالي تحريم الربا،
وقال: إن النقدين كالحاكم فمن جعلهما مقصودين بالاستغلال كان كمن حبس القاضي
الذي يفصل بين الناس.
هذا قول الفقهاء ، وأما المحدثون فمنهم من قال: إن العلة في النهي عن
الذهب والحرير هي التشبه بأهل الجنة؛ لأن الأحاديث نطقت بذلك ، ومنها قوله
صلى الله عليه وسلم للابس خاتم الذهب: (ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة)
رواه أصحاب السنن الثلاثة، ومنهم من قال: إن العلة التشبه بالكفار كما في بعض
الروايات، ولكن يعارض هذا ما ورد في الصحيح من لبس النبي صلى الله عليه
وسلم الجبة الرومية والطيالسة الكسروية، ومنهم من قال: إنه التزهيد في الدنيا
لقوله صلى الله عليه وسلم بعد النهي: (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) ،
ولكن الله يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ
هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَة ِ} (الأعراف: 32) والذي يفهم
من هذا ومن كل رواية فيها ما يشعر بأن النهي عن الذهب والفضة والحرير؛ لأنه
لأهل الجنة أن المراد به النهي عن المبالغة في الترف والنعيم الذي يفسد بأس الأمة
ويصرف همتها إلى اللذات والانغماس في التعميم حتى تهمل أمر الدين، وتكون
طعمة للطامعين لا مجرد الزهد في الزينة. فالترف هو الذي أهلك الأمم، ودمر
القرى، وهو علة الظلم والفساد ومثار الشحناء والفتن، وسبب الاعتداء والخيانة،
وهو يختلف باختلاف أحوال الأمم فرب شيء يعد من الأمور العادية عند قوم، وهو
عند آخرين غاية السرف والترف ، ولا شك أن لبس الحرير المصمت والأكل
والشرب في أواني الذهب والفضة هو غاية ما ينتهي إليه الترف والسرف في كل
زمان ومكان لا تختلف الأعصار والأحوال إلا في الصنعة فيه ، وتظهر هذه العلة
في النساء كالرجال كما فهم بعض السلف إذا وصل إلى حد السرف. وإذا صح أن
هذا هو العلة وأن النهي ليس تعبديًّا كان ما عساه يعرض للإنسان من أكل أو شرب
في آنية الذهب والفضة عند كافر وكذا غير كافر فيما يظهر غير محرم، وكان
قياس الفقهاء غير الأواني عليها ، وقياس الاتخاذ على الاستعمال صحيحًا لاسيما في
حالة فقر الأمة. والعمدة في معرفة الترف في الجزئيات ترتب الضرر في الأمة
عليه بفشو استعمالها سواء كان في أمر المعاش أو في الأخلاق ، فالمسألة تسمى في
عرف هذا العصر أدبية اقتصادية.
وقد بحث علماء الاقتصاد السياسي في استعمال ماعون الزينة وأثاثه ورياشه
هل هو ضار بالأمة أم نافع، فرجحوا أنه نافع لأنه إذا لم يتنافس الأغنياء في ذلك
يجتمع أكثر المال عند فئة من البارعين في الكسب، ويقع باقي الأمة في مهواة
الفقر والعوز، وإذا كان للأغنياء تنافس فيما وراء الحاجيات مما ذكر (وهو ما
يسمونه الكماليات) وسماه الشاطبي في الموافقات (التحسينات) ، ينفتح بذلك
أبواب كثيرة لارتزاق الفقراء والمتوسطين منهم.
وإذا تبين بالاختبار أن استعمال كذا وكذا من الذهب والفضة والحرير لا ينافي
الاقتصاد، بل تقتضيه مصلحة الأمة في مجموعها؛ لم يكن وراءه إلا رعاية
الأخلاق. فإذا كان استعماله غير مؤثر في فساد الأخلاق، وضعف بأس الأمة فلا
بأس به ، وإلا وجب اجتنابه. ويختلف هذا في الأفراد باختلاف نياتهم ومقاصدهم ،
وما يعرفونه من تأثيره في أنفسهم ، ولعله لا يوجد ضابط للضار والنافع للأمة مثل
حديث معاوية السابق في القلة والكثرة، وحديث ابن عباس ومذهبه في الحديث.
والخلاصة أن نص الشارع صريح في النهي عن الحرير الخالص إلا لحاجة
لبسًا وجلوسًا عليه ، وأباح أنس وابن عباس الجلوس عليه، وقال الفقهاء: أي بلا
حائل ، فإن كان هناك حائل كالنسيج الأبيض الذي يوضع على الكراسي والأرائك
فلا بأس عندهم. وعن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة والتختم بالذهب
على ما فيه، وأن بعض الفقهاء حملوا ذلك النهي على الكراهة دون التحريم،
والجمهور حملوه على التحريم، وأن داود خصه بالشرب ، وأكثر المتحدثين بالأكل
والشرب، وعامة الفقهاء حرموا كل استعمال إلا نحو ضبة يصلح بها إناء، وأن
الاحتياط أن يجتنب المسلم ما ورد به النهي الصريح، ويراعي المصلحة فيما وراء
ذلك بحسب اجتهاده مع الإخلاص والله أعلم.
***
لبس الزوج الذهب حال العقد هل يبطله
(س57) الحاج وان أحمد في (سنغافورة) ما قولكم إذا لبس الزوج
الذهب والفضة والحرير في حال العقد، هل يصح النكاح أم لا؟ وهل توبته في تلك
الحالة كتوبة الولي فلا يحتاج فيها إلى مضي سنة، أو لا بد منه حتى يصير كفؤًا
للعفيفة، هل يجب على من حضر من الشاهدين وغيرهما إنكاره، وهل يُفَسَّقوا
بتركهم ذلك أم كيف الحكم؟
(ج 57) الظاهر من السؤال أن السائل شافعي المذهب لأن الشافعية هم
الذين يشترطون عدالة الولي والشاهدين لصحة العقد، ويكتفون بتوبة الولي في
المجلس ، ولا يجيزون شهاده الفاسق إلا بعد توبته بسنة يستقيم فيها حاله يسمونها
مدة الاستبراء، ولكنهم لم يشترطوا عدالة الزوج ، وإلا لامْتَنَعَ التزوج على الفساق
عندهم، ولكن الفاسق لا يكون كفؤًا للتقية العفيفة ، ولذلك يشترط في صحة عقده
عليها رضاها ولو بكرًا، والمزوج الأب؛ فإن رضيت ورضي الولي صح العقد.
وأما فسق الشهود بترك الإنكار على لابس الذهب والفضة والحرير سواء كان
الزوج أو غيره فلا يتحقق إلا إذا كانوا يعتقدون أن هذا محرم كبير ويتعين الإنكار
عليهم ، وعلموا أن اللابس لا عذر له ومن الأعذار الصحيحة عندهم أن يكون مقلدًا
ببعض القائلين بالحل ممن يعتد بقولهم، وقد مر الخلاف في ذلك في جواب السؤال
السابق.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية أدبية
جاءنا من سنغافورة ما يأتي فنشرناه لما فيه من النصيحة للمسلمين.
(هذه أبيات خاطب بها أعضاء ندوة العلماء بالهند سنة 1321 (مولانا السيد أبو بكر بن شهاب الدين أمتع الله به)
كلم يقدمها المسيء الجاني
…
لذوي المعارف لا ذوي التيجان
نفثات مصدور إلى من هم بها
…
أدرى وأحرى منه بالتبيان
وجميل شكر للذين تصدروا
…
في ندوة العلما وللأركان
لله دَرُّهم سوابق حلبة
…
فيها العقول فوارس الميدان
شربوا رحيق العزم والجد الذي
…
لم يخش مدمنه من الحرمان
هبوا وأمر الكل شورى بينهم
…
والرأي قبل شجاعة الشجعان
نهضوا لنفع المسلمين بنشر ما
…
عنهم يصد طوارق الحدثان
ودعوا إلى نشر العلوم على اختلا
…
ف فنونها والعلم ذو أفنان
وإلى اجتماع قلوب من أيمانهم
…
بمحمد المحمود ذو اطمئنان
ولنعم ما عقدت خناصرهم على
…
إبرازه من حيز الكتمان
فالعلم أشرف مقتنى وأَجَلّه
…
وبه تفاضل نوعنا الإنساني
فذووه في عز ومجد باذخ
…
ورفيع منزلة وسعد قران
العلم يطلب كي يزجَ بحامليه
…
إلى التربع في ذرى كيوان
من حيث كان وكيف كان لعيشة
…
الدنيا وللأبدان والأديان
هذا رسول الله نبهنا على
…
عدل المجوس وحكمة اليونان
والاجتماع أجل حض رادع
…
عبث الخصوم وسورة العدوان
والمؤمنون كما أتانا في حديث
…
الصادق المصدوق كالبنيان
ومتى تخاذلنا وأهمل بعضنا
…
بعضًا خلعنا خلعة الإيمان
وأصابنا الفشل الذي يقفوه
…
ذل واضطهاد ليس بالحسبان
إن افتراق المسلمين أذاقهم
…
ضيم الهضيمة بعد عظم الشان
وهنت عزائمنا وأصبح هازئًا
…
بخمولنا الوثني والنصراني
فَعَلامَ فُرْقتنا التي ألقت بنا
…
في هوة الإهمال والخذلان
ولِمَ التنافر والتباغض بيننا
…
والحقد وهي مدارك النقصان
ها كل طائفة من الإسلام مُذْ
…
عِنَة بوحدة فاطر الأكوان
وبأن سيدنا الحبيب محمدًا
…
عبد الإله رسوله العدناني
وإمام كل منهم في دينه
…
أخذًا وردًّا محكم القرآن
فإلهنا ونبينا وكتابنا
…
لم يتصف بالخلف فيها اثنان
والكعبة البيت الحرام يؤمها
…
قاصي الحجيج لنسكه والداني
وصلاة كل شطرها وزكاته
…
حتم وصوم الفرض من رمضان
أَفَبَعْدَ هذا الاتفاق يصيبنا
…
نزغ ليفتننا من الشيطان
وإن اختلفنا في الفروع فذاك عن
…
خير البرية رحمة المنان
وحديث تفترق النصارى واليهود
…
وأمتي فرقًا روى الطبراني
لكن زيادة كلها في النار
…
إلا فرقة لم تخل عن طعان
بل كلهم في جنة وعدوا بها
…
بالنص في آي من القرآن
وكذا أحاديث الرسول تضافرت
…
أن المُوَحِّد في حمى الرحمن
وإذا أردت بيان ما أوردته
…
فانظر فتاوى الحافظ الشوكاني
فلقد أتى فيها بما يشفي العليل
…
من الدليل وساطع البرهان
وأفاد فيها ما يلاشي بيننا
…
إحن النفوس وشأفة الشنآن
إيهًا رجال الندوة اجْتَهِدُوا ولا
…
تهنوا فرب الخيبة المتواني
وامضوا على غلوائكم قدمًا ولا
…
تخشوا معرة فاسدي الأذهان
فالحق قائدكم وأنتم تعلمون
…
موارد الأرباح والخسران
أو ما رويتم حين أقبل جيش أهل
…
الشام قولاً عن أبي اليقظان
والله لو بلغوا بنا طردًا إلى
…
هجر لما عدنا إلى الإذعان
ولتسمعن أذًى كثيرا فاصبروا
…
واكسوا المسيء مطارف الإحسان
ماذا على الحكماء من أضدادهم
…
قدح السفيه ومدحه سيان
والله شاكر سعيكم ورسوله
…
وأولو الفضائل من ذوي الإيمان
وقد غيرنا الشطر الأخير من آخر بيت ليكون إشارة إلى قوله تعالى: {وَقُلِ
اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة: 105) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المصنفات
(إرشاد الأمة الإسلامية إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترنسفالية)
قد علم القراء ما كان في العام الماضي من لغط بعض الجاهلين بفتوى مفتي
الديار المصرية لبعض أهل الترنسفال بحِل ذبيحة النصارى في تلك البلاد، وبحل
لبس القلنسوة الإفرنجية لحاجة أو ضرورة، وبحل صلاة الشافعي خلف الحنفي،
وكان السبب في اللغط أن بعض أصحاب الأهواء من الأمراء أوعز إلى بعض
الجرائد المحدثة بالتنديد بالفتوى لغرض له في ذلك فطفقت الجريدة تخبط في ذلك
محرفة السؤال والجواب عن موضعه، وقد جرت العادة بأن ما أكثرت الجرائد
الخوض فيه يخوض فيه الناس لا سيما أهل الجهل والبطالة - وكثير ما هم -، وقد
بينا يومئذ حكم الله تعالى في هذه المسائل. وأيدنا الفتوى بالبراهين الشرعية
والدلائل، ولم يكن لصاحب الجريدة المحدثة من دليل غير القال والقيل، وكان منه
الإيهام بأن بعض علماء الأزهر كتبوا لصاحب الجريدة ينكرون صحة الفتوى،
فلما وصلت هذه الدعوى إلى علماء الأزهر الأعلام انتدب بعض فضلائهم إلى
وضع رسالة يؤيدون فيها الفتوى بنصوص المذاهب الأربعة وسموها (إرشاد الأمة
الإسلامية
…
إلخ) ثم إن الشيخ عبد الحميد حمروش البحراوي أحد المدرسين في
الأزهر لهذا العهد طبع الرسالة ونشرها تبرئة لعلماء الأزهر مما نسبته جريدة
(الظاهر) إليهم، وقال في مقدمة الطبع بعد ذكر ما عزي إلى علماء الأزهر ما
نصه:
عند هذا نهض جماعة من أفاضل الأزهر الأعلام أئمة المذاهب الأربعة
الذين يعول عليهم ويوثق بعلمهم في العلوم الشرعية، وراجعوا المذاهب الأربعة
واستخرجوا منها النصوص التي تلائم موضوع المسألة، وعرضوا عليها فتوى
فضيلة الأستاذ المومأ إليه فوجدوا لها من كل مذهب نصيرًا، ومن فقه كل إمام
ظهيرًا) ، ثم قال: (إنه رأى أن يخدم الإسلام بطبع هذه الرسالة لفوائد منها:
تبرئة الأفاضل علماء الأزهر من وصمة السكوت، ومما عزي إليهم من القول
بخلاف ما أفتى به عالم الدنيا، وابن بجدة الفتيا صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ
مفتي الديار المصرية ، وأن الذين يشيعون مخالفة علماء الأزهر الكرام لأستاذنا
أرادوا أن يذموا واحدًا فذموا الكل فوجب تبرئة الجميع) .
والرسالة مؤلفة من مقدمة وأحد عشر فصلاً وخاتمة، وهي مطبوعة طبعًا
حسنًا على ورق جيد ، وثمن النسخة ثلاثة قروش صحيحة، ومما يدل على سوء
قصد الجريدة التي كانت تلغط وتطالب علماء الأزهر ببيان الحق في الفتوى أنها لم
تكتب عن الرسالة شيئًا مع أنها أهديت إليها كما بلغنا
***
(الأمومة عند العرب)
رسالة لأحد علماء هولندا. ج. ويلكن الأستاذ في كلية ليدن، وقد عربه أحد
علماء العرب السوريين بندلي صليبا الجوزي المدرس في إحدى المدارس الروسية
بقازان وطبعها هناك ، وخصص دخلها للأعمال الخيرية، والبحث في الأمومة فرع
من فروع البحث في (تاريخ العائلة) أو هو أصله الأول؛ لأن النسبة إلى الأم هي
الثابتة العامة في كل جيل من أجيال البشر وفي كل طور من أطوارهم في بداوتهم
وحضارتهم. وفي الرسالة مباحث طويلة دقيقة في الزواج عند العرب قبل الإسلام
وعند غيرهم من الأمم ، وهو أنواع أطلق المعرب عليها هذه الأسماء: نكاح
الاشتراك أو المشاركة، النكاح الخارجي، النكاح الداخلي، النكاح الفردي، نكاح
تعدد الزوجات، نكاح تعدد الأزواج ، نكاح النفر. وفيها كلام طويل عن المتعة في
الإسلام، وبحث في أنها كانت قبله أم لا، وهو غير محرر ، والاستدلال على
المتعة بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (النساء: 24)
الذي ذكره هو ما ذهب إليه الشيعة وهو منقوض بقوله تعالى في نفس الآية: {
مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (النساء: 24) أي يجب أن يكون قصد الرجل في هذا
الاستمتاع إحصان نفسه وإحصان المرأة ، لا مجرد المسافحة التي هي إراقة ماء
الشهوة، ولا شك أن المتعة يقصد بها المسافحة لا الإحصان، وقد كانت العرب
عليها فحرمها النبي ، فشق ذلك عليهم فأذن لهم بها عند الضرورة وشدة الحاجة في
السفر، ثم نهاهم عنها ليكون إبطالها تدريجيًّا ، والشيعة لا تزال تحلها، ويميل
بعض الناس إلى أنها رخصة للضرورة ، والجماهير على أن الرخصة نسخت،
ويؤكد نسخها اعتبار الكتاب العزيز قصد الإحصان شرطًا لكون الزواج شرعيًّا،
وقوله تعالى بعد إباحة الزواج والتسري: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
العَادُونَ} (المؤمنون: 7) وروي في الصحيح أنها بقيت إلى عهد عمر فكان هو
الذي أبطلها بالمرة، والذين يقولون بالنسخ يحملون ذلك على عدم علم الجميع
بالنسخ.
وفي الرسالة مباحث تحتاج إلى الإيضاح والنقد ، وفيها فوائد لا توجد في
غيرها من كتب التاريخ ، فنشكر للمعرب هذه الهدية الثمينة للغته الشريفة، ونحث
الناس على قراءتها ، وننتظر ورود طائفة من نسخها علينا للبيع في مكتبة المنار
فمتى جاءت نعلن ذلك في غلاف المنار.
***
(كتاب القواعد الألمانية)
وضع هذا الكتاب الأستاذ مرتين هرتمن مدرس اللغة العربية في مدرسة
الألسنة الشرقية ببرلين عاصمة بلاد ألمانيا لبيان قواعد لغته بالعربية إسعادًا لمن
يرغب في تعلم هذه اللغة من العرب، وذكر في مقدمة الكتاب إقبال الأمم على
دراسة هذه اللغة ، وإننا نذكر من ذلك ما نرى فيه عبرة لنا ، قال:
(ولقد انبعثت رغبة قوية عند معظم الأمم في تعلمها، ولا يوجد أديب حقيقي
في أمة من الأمم الأوربية إلا وله إلمام بهذه اللغة الشريفة وبأعظم أقسام أدبياتها.
أما الأمم الشرقية فأول من سارع منها إلى اقتناء (كذا) لغتنا هي الأمة اليونانية
حيث أرسلت ألوفًا من أبنائها إلى كليات ألمانيا لرضاع ألبان العلم من ثديها، وقلما
تدخل بيتًا من بيوت الأدباء اليونانيين إلا وتجد من يتكلم بلغتنا ويعلم بأدبياتنا، ثم
كثر عدد دارسيها في بلاد اليابان من الشرق الأقصى حيث اجتلبوا معلمين من
الألمان إلى مدارسهم الكبرى ، وكثيرًا ما زاروا بأنفسهم بلادنا لأجل تحصيل لغتنا،
ومشاهدة أحوالنا وتنظيماتنا. ثم يوجد عدد من أفراد الأمة التركية يحسنون التأدية
باللغة الألمانية وأكثرهم من الموظفين بالخدمة العسكرية بقوا مدرجين في سلك
العسكرية الألماني مدة. (أما الأمة العظيمة التي سطت بعد إتيان نبيها بالشريعة
الإسلامية على قسم يذكر من المسكونة ، وتميزت لغتها بالمصنفات الغزيرة العالية
- أعني الأمة الناطقة بالضاد التي مسقط رأسها جزيرة العرب المنتشرة كتبها من
أقصى المشرق إلى أقصى المغرب - فلم نر إلى الآن منها الإقدام على اقتناء
الألمانية والاطلاع على أدبياتها، نعم قد اجتهد في أيام خديوي مصر المرحوم
إسماعيل باشا الموسيو دور السويسري الموظف وقتئذ بالتفتيش على المكاتب
المصرية في إدخال اللغة الألمانية في مواد التعليم (البروجرام) وحمل السادة
إبراهيم زين الدين وأحمد نجيب على تأليف كتاب في القواعد الألمانية إلا أنه قد
اندرس مسعاه عند ذهابه من الخدمة المصرية) .... إلخ.
ثم انتقل من ذلك إلى ذكر انتدابه لتأليف هذا الكتاب تسهيلاً لمن يريد تعلم هذه
اللغة من أبناء العربية، وهو مرتب أحسن ترتيب، ومقرب للغة أشد تقريب.
يشرح الحروف والكلم، ويذكر كيفية النطق بها بالعربية بغاية الضبط، وقد جعله
دروسًا يشرح في كل درس القاعدة بالعربية ويذكر بعدها الأمثلة المفردة والمركبة،
ثم التمرينات الألمانية والعربية ، وصفحات الكتاب 232 وثمن النسخة منه (3
ماركات أو 3 شلنات) وأجرة البريد (35 سنتيما) وهو يطلب بواسطة مكتبة
المنار بمصر.
***
(تاريخ البابية - أو - مفتاح باب الأبواب)
قد صدر هذا التاريخ النفيس الذي نوهنا به من قبل في المنار، ونقلنا نبذة من
خاتمته، وقد ذكر مؤلفه (ميرزا محمد مهدي خان) في فاتحته أنه في مدة إقامته
في مصر وفي أثناء سياحاته الكثيرة رأى الناس مختلفين في أمر هؤلاء البابية
لاختلاف ما يلقفونه من أخبارهم عنهم وعن أعدائهم، حتى إن أمرهم لا يزال
غامضًا مبهمًا، وأنه هو مطلع على أحوالهم كما كان والده من قبله مختبرًا لرؤسائهم،
وأن عندهم أمهات كتبهم، وقد اطلع مع ذلك على ما كتب الناس في تاريخهم
وأكثر الناس خطأً فيه الإفرنج، لذلك ساقته الرغبة إلى وضع تاريخ كبير لهم سماه
(باب الأبواب) أحصى فيه ما علم من أخبارهم وعقائدهم وشرائعهم كما هي من
غير حكم عليها بمدح أو ذم، بل صور الحقائق تصويرًا، ومثلها للقارئ تمثيلاً، ثم
اختصره بهذا الكتاب الذي جعله رسالة وفهرسًا له ، وسماه (مفتاح باب الأبواب)
على أن صفحات هذا المختصر قد بلغت 440، ويعني بقوله الأبواب الذين ادعوا
بالمهدية سواء منهم من أطلق علية لقب الباب ومن لقب بالمهدي فقط.
وقد بدأ الكتاب بالكلام على الديانات السبع الكبرى في الأرض - البوذية
والبرهمية والفاشية والزردشتية والموسوية والنصرانية والإسلامية - ثم أورد ما
نقل أهل السنة والشيعة في المهدي المنتظر، وانتقل من ذلك إلى الكلام فيمن ادعوا
المهدوية أو العيسوية وذكر تراجم أشهرهم ومنهم ميرزا علي محمد الشيرازي
الملقب بالباب الذي هو المقصود من تأليف الكتاب، وذكر نشأته وتاريخه، ودعوته
وأسبابها وأسباب انتشارها في إيران ومناظرات العلماء للباب، وما كان من الفتن
إلى أن قتل الباب، ثم ذكر مزاعم البابية فيه وذكر صفاته وتأليفه وشريعته
وما جرى لأصحابه بعده من الفتن والتفرق والنفي إلى أن قام فيهم حسين علي
الملقب بالبهاء، واستمال أكثرهم إليه ونَقَّحَ لهم دين الباب ، وادعى أنه الأصل، بل
أنه هو الله الذي أرسل الرسل من آدم إلى الباب، ثم ذكر شيئا كثيرًا من شريعة
البهائية وكتب البهاء إلى الملوك وغيرهم ، وختم الكتاب بذكر فرق البابية في هذا
العهد وكيفية ظهورهم في بلاد أمريكا، ولعلنا ننقل في أجزاء أخرى بعض المباحث
من هذا الكتاب النفيس الذي لا يستغني قارئ عنه لا سيما في البلاد التي انبث
البابية فيها يدعون إلى دينهم كمصر وإيران، وقد ذكر المؤلف في آخر الكتاب أنه
تبرع بما يحصل من ثمنه للمنكوبين من المسلمين، وثمن النسخة منه في مصر20
قرشًا وفي إيران (تومان واحد) وفي الهند ثلاث روبيات وفي روسيا روبلتان أو
منان وفي سائر البلاد 5 فرنكات ، وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر ومن مكتبتي
هندية والهلال.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سياحة العلماء وهداية الحكماء
يوم وليلة فى الريف
حالة العامة:
في أصيل يوم الإثنين (18ج1) سافر كاتب هذه السطور مع أستاذه الشيخ
محمد عبده إلى جهة (فم البحر) بدعوة الشيخ عبد المؤمن موسى عبده بهاده وكان
قد سبقنا في صباحه إلى هناك السيد علي الببلاوي شيخ الجامع الأزهر والشيخ أبو
الفضل الجيزاوي والشيخ سليمان العبد من كبار المدرسين فى الأزهر. والشيخ عبد
المؤمن هذا لم يقصد بدعوة العلماء إلى بلده التفاخر بهم فقط كما هو شأن أهل الدنيا
لاسيما العمد، بل قصد استفادة أهل بلده من علمهم وإزالة الشبهات، ومقاومة
الخرافات بإرشادهم؛ وذلك أن أكثر ما عليه عامة المصريين في القرى وغيرها من
الخيالات والاعتقادات والتقاليد الدينية مأخوذة عن أهل الطريق الذين يطوفون البلاد
والقرى لطلب الرزق بالدين والطريق فهم عميان يقودون عميانًا، ويجتهدون في
جعل الدين كله محصورًا في التعلق بهم وبشيوخهم والاعتقاد بكراماتهم، والتوسل
بهم إلى الله تعالى لقضاء الحاجات وتنفيس الكربات، وجلب الرزق ونيل الرغائب،
وقرن التوسل بالنذور للأموات والعطايا للأحياء، هذا ما يقنعون به الدهماء، ومن
أخذ عليهم أو أخذوا عليه العهد يلقنونه أحزابًا وأوردًا يذكرون لها من الخواص
والمنافع الدنيوية ما يذكرون حتى ضاع أكثر معارف الدين وآدابه وأعماله إلا هذه
الأمور وما يتصل بها من الأوهام والخرافات التي لا سند لها إلا ما اخترعوه من
الحكايات، وما خفي عليهم أمره من مثار الشبهات. فمن سَيَّبَ عجلاً أو نذر شيئًا
للسيد البدوي أو غيره ولم يقدمه ، ومن اعتاد الذهاب إلى مولده ولم يذهب ، فأصابه
مرض أو مصاب فى نفسه أو أهله أو ماله فأولئك يعتقدون أن الذي أوقع بهم هو
السيد ، كأن السيد حاكم مستبد ظالم يفرض على الناس ما لم يفرضه الله عليهم
وينتقم منهم أشد الانتقام إذا هم قصروا في أداء ذلك، ولا يغار على حق من حقوق
الله تعالى فهو لا يتصرف بمن يترك الصلاة، أو يمنع الزكاة أو يؤذي جاره أو
يسرق متاع أخيه أو يفسد عليه زرعه أو يسمم بعض ماشيته.
كان الناس على هذا زمنا طويلاً لا يكادون يسمعون إنكار منكر ولا تنبيه منبه
ولا إرشاد مرشد إلا ما قَلَّ وندر، حتى كان بعد انتشار المنار في هذه السنين
الأخيرة أن قام كثيرون من قرائه ينكرون على الناس البدع والخرافات الفاشية فيهم،
وكان الشيخ عبد المؤمن المذكور لسلامة فطرته من أشدهم غيرة وأكثرهم دعوة
وأقواهم حجة، ولم يكن له مساعد في النهي عن هذه المنكرات في تلك الجهات إلا
الشيخ عليًّا الجربي وبعض الأذكياء ، ولكن كان لهما معارض شديد التأثير في
العامة هناك بما له من سمت الصلاح والنسبة إلى الطريق والعلم وهو الشيخ محمد
الدلاصي فكان الناس فى (بهاده) ونواحيها حزبين يختصمان حزبًا يقول ويوقن
بأن لا نافع ولا ضار إلا الله تعالى، وأنه لا يتوسل إليه تعالى إلا بما شرعه لعباده
في كتابه وعلى لسان رسوله من الفرائض والسنن، وأنه لا سبب لقضاء الحاجات
وجلب المنافع والمضار إلا ما هدى الله الناس إليه من سننه المطردة في خلقه.
وحزبًا يقول: إن الأولياء في قبورهم يضرون وينفعون ، ويحيون ويميتون ،
ويعطون ويمنعون، وأنه يتوسل إلى الله تعالى بذواتهم ويدعى بواسطتهم لا وحده
…
إلخ، ما هو معلوم مشهور من أمثالهم.
وكان الشيخ عبد المؤمن يتمنى عَلَيَّ من زمن طويل أن أدعو الأستاذ الإمام
لزيارة بلدهم ليتكلم على الناس بالقول الفصل الذي يرجى أن يمحو كل شبهة
ويخرس لسان كل بدعة، حتى كان أن ذهبنا في ذلك اليوم الذي ذكرناه في صدر
المقال فاجتمع في تلك القرية أشهر علماء العصر، وقد اجتمع علينا أكثر أهل البلد
ليلاً متوقعين أن يسمعوا من الأستاذ الإمام ومن سائر الأساتذة الأعلام ما يقطع عرق
النزاع والخصام، وكان تلامذة الشيخ محمد الدلاصي يتوقعون منه أن يدافع عما هم
عليه، بل كان منهم من يظن أن حجته في ذلك ستعلو كل حجة ، وافتتح الشيخ
عَلِيّ الجربي الكلام بسؤال الأستاذ الإمام ، فأجاب حفظه الله تعالى بتقرير عقيدة
التوحيد الخالص وهي: أن لا فاعل إلا الله، وأنه لا يدعى معه أحد سواه وأن
التوسل بالأولياء والصالحين إنما يصح بمعنى الاهتداء بهديهم البَيِّن، وبأن لله أن
يكرم من عباده من شاء، ولكن لا يصح أن تكون الكرامات والخوارق كصنعة من
الصنائع في أيدى الأولياء. والحق أنه ليس لهم من الأمر شيء، وأنه لا يكلف
مؤمن بأن يعتقد بولي مخصوص، ولا بكرامة ولي معين، وكان قد وضح ذلك بما
وافقه وصدقه عليه العلماء الحاضرون.
***
ديوان الأولياء والتصرف الباطن
ثم قال منشىء هذه المجلة: يقولون: إن للأولياء ديوانًا يجتمع فيه الأحياء
والميتون فما أقروا عليه فهو الذي يقع في الكون، وإننا نرى حوادث الكون في
جملتها وتفصيلها منافية لمصلحة المسلمين حتى علت عليهم الملل كلها فاستولت
على معظم بلادهم الدول المسيحية وسبقتهم في العزة والمكانة الشعوب الوثنية، فإذا
كان أولياء المسلمين وأنصار الدين هم المتصرفون في الأكوان لا يجري فيها إلا
ما يجرونه، ولا يستقر إلا ما يقرونه فما بالهم ينصرون الكافرين على المسلمين ،
وكيف اعتز الإسلام بطائفة من سلفهم ثم هو يخذل الآن باتفاق الأحياء منهم والميتين؟
فقال الأستاذ الإمام: قد يقال: إن الأولياء يرون أن المسلمين صاروا أبعد عن
دينهم من سائر الأمم فهم ينتقمون منهم حتى يرجعوا إلى دينهم ، والحق أن مسألة
الديوان والتصرف الباطني عند الصوفية المتأخرين هي رمز إلى ما كان عليه
سالفهم عندما كانت هذه الطائفة حية عاملة. ذلك أن الفقهاء كانوا يكفرون الصوفية
وكان الحكام أنصارًا للفقهاء، فكان جميع أمر الصوفية مبنيًّا على الكتمان ،
فوضعوا الرموز لعقائدهم واصطلاحاتهم وأعمالهم، وبالغوا في التستر كما هو شأن
الجمعيات السرية العاملة، وكان لهم اجتماع خفي يتباحثون فيه وينظرون في أمرهم وحمايتهم من أعدائهم، وكل ما يتفقون عليه في الباطن يسعون بتنفيذه بوسائله في
الظاهر ، فإذا اتفقوا على عزل حاكم أو قتل ظالم لا يكفون عن السعي حتى ينفذ
ذلك. فهذا هو الديوان ، ومعنى كون ما يجرى في الظاهر محكومًا به في الباطن،
وكذلك كان شأن الباطنية (والصوفية فرقة منهم معتدلة) كما هو معلوم في التاريخ،
ولما بَيَّن الأستاذ هذا استحسنه الشيوخ أشد الاستحسان.
تلك إشارة إلى سمر الشيوخ، وما كان فيه من الفوائد لعامة حاضريه،
ويظهر أن الشيخ الدلاصي سكت واجمًا لا راضيًا؛ لذلك عاد في النهار إلى المحفل
وألقى على الأستاذ الإمام الأسئلة الآتية قائلاً: إنه سمع ما قرره ليلاً واستحسنه،
ولكن لديه إشكالاً يحب كشفه بعرضه على الأستاذ المفتي وسماع الجواب منه،
وقال ما مثاله:
(س1) الناس إمام ومأموم، فالأول متبوع، والثانى تابع لا يعدو وحده فأنا
اتخذت الشافعي إمامًا؛ فإذا وجدت في مذهبه شيئًا، ورأيت في كتاب الله شيئًا
يناقضه أراني مرتاحًا للعمل بقول الشافعي دون قول الله تعالى مثلاً: إن الشافعي
يقول بحل الذبيحة بدون تسمية، ولكن الله تعالى يقول: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: 121) ألست معذورًا بذلك؟
(س2) إن الله فضل بعض الناس على بعض في الرزق وغيره؛ فإذا أعطى
الله عبدًا جنيهًا ألا يجوز لي أن أقول له: أعطنى ريالاً من الجنيه الذي
أعطاك الله؟
وقد علمنا من مشايخنا أن الله تعالى أعطى سيدي أبا الحسن الشاذلي وأبا
العباس المرسي وفلانًا وفلانًا سرًّا لم يعطه لغيرهم ، فأي مانع من أن يطلب الإنسان
منهم شيئًا من هذا السر الذي أعطاهم الله كما يطلب الريال من صاحب الجنيه؟
قال الأستاذ الإمام: أما قولك الأول فهو خطأ كبير، وفيه خطر عظيم؛ فإن
الذين أجازوا لك تقليد الإمام الشافعي أو غيره من الأئمة رضي الله عنهم
يشترطون في ذلك أن لا تعرض لك شبهة في كتاب الله تعالى فترى أنك تعمل
بنقيضه فإن عرضت لك الشبهة، وجب عليك حالاً السعي في كشفها وإزالتها وإلا
زال الإيمان، فإن الشك في كتاب الله تعالى كفر صريح بإجماع المسلمين، وكذلك
نبذه وراء الظهر، وتقديم غيره عليه.
نعم، الناس إمام ومأموم، ولكن إمام هذه الأمة واحد وهو رسول الله صلى
الله عليه وسلم المعصوم ، وإنما العلماء ناقلون ومبينون عنه ، فمتى تعارض كلامهم
مع ما جاء عنه رجعنا إليه كما أمرونا إلا أن يظهر لنا عدم التعارض والتناقض.
قال الشيخ الدلاصى: إننى لا أشك في كتاب الله، ولكن أعلم أن إمامي قد
اطلع على الآية، وفهمها أحسن مما أفهمها، ولذلك لا أراني مخالفًا لكتاب الله ولا
شاكًّا فيه، قال الأستاذ الإمام: إن الله تعالى يحاسبك على ما تفهم وتعتقد لا على ما
فهم الشافعي، وأنت قلت الآن: إنك ترى الآية مناقضة لقول الشافعي فترجيحك
قول الشافعي حينئذ يقتضي أن يكون قول الله تعالى مرجوحًا فهو عندك دون
المشكوك فيه حقيقة؛ لأن الشك استواء الطرفين، وترجيح إحدهما يقتضي بطلان
الثاني، ولو ظنًّا؛ فإن كنت تقلد الشافعي، وترى الآية موافقة لقوله فلا إشكال ولا
محل للسؤال.
قال الشيخ الدلاصى: إن أبا حنيفة والشافعي يختلفان في الحكم (أو قال الآية
المفيدة للحكم) ونتبع أحدهما، ولا نرى في ذلك مخالفة للقرآن.
قال الأستاذ الإمام: إذا كان الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي، ولم يكن هناك
قرآن تقرؤه وتفهم منه أنه مؤيد لقول أحدهما فلا حرج عليك في الأخذ بقول من
شئت منهما لأنك لم تنحرف عن كتاب الله تعالى، ولم تلقه وراء ظهرك، وليس هذا
من السؤال الأول في شيء؛ لأن الترجيح هناك بين قول الشافعي وقول الله عز
وجل الذي تراه يناقضه. على أن المثال هناك غير صحيح ، فإن الآية لا تناقض
قول الشافعي إذ النهي فيها عن متروك التسمية مقيد بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (الأنعام: 121) وقد فسروه بقوله تعالى في الآية الأخرى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) فاقتنع الدلاصي، ثم قال الأستاذ:
وأما الجواب عن السؤال الثاني، فهو أننا نسلم أن الله تعالى فضل بعض
الناس على بعض في الرزق، والمواهب الظاهرة والباطنة، ولكن فضل الله على
عبده قسمان: قسم مكسوب يمكن بذله أو البذل منه، وقسم ليس في استطاعة البشر
بذله أو البذل منه؛ كالإيمان والمعارف الوجدانية، ومنها ما يسمه الصوفية بالأسرار
فإنهم قالوا: إنها أمور ذوقية لا يعرفها إلا من ذاقها، فلا يصح أن تطلب، ولا أن
توهب. يقول الكاتب: إننى لا أجزم بأن الأستاذ ساق التقسيم على هذه الصورة
من التمثيل، ولكنني أعلم أنه ذكر قسمين منها ما يدخل في الكسب ويعاون فيه
الناس بعضهم بعضًا كالمال، ومنه ما ليس كذلك، وقال: إنه لا يصح قياس
أحدهما على الآخر، فالمعنى واحد وإن اختلف التمثيل أو جاء بزيادة كلمة، أو
نقص كلمة ، ثم ذكر أن الناس يسألون الأموات الذين يعتقدون فيهم الولاية ما قطعه
الله عنهم من رزق الدنيا ومصالحها، وما لا يبذل من ذلك بحسب الأسباب والسنن
الإلهية، وما يبذل ، فيطلبون منهم المال وزيادة الغلة ونماء الزرع وشفاء المرضى
والانتقام من الأعداء وأمثال ذلك مما لو كان فى أيديهم، وصح لهم بذله كما يبذل
صاحب الجنيه ريالاً منه لكان لهم في أمر الآخرة التي هم في شاغل عنه.
قال الشيخ الدلاصي: إننا تلقينا عن مشايخنا كما تلقوا عن مشايخهم أن سيدي
أبا الحسن الشاذلي، وسيدي أبا العباس المرسي من أولياء الله تعالى، ومن أصحاب
السر والمدد، وأن تلامذتهم في حياتهم وأتباعهم بعد مماتهم يتوسلون بهم إلى الله
تعالى، ويطلبون منهم المدد، والسر كما نرى ذلك في كتبهم ككتب ابن عطاء الله
السكندري، وسيدي مصطفى البكري (ولعله ذكر أسماء أخرى) فهل نقول: إن
هؤلاء كانوا على ضلال أم كانوا مهتدين؟
قال الأستاذ الإمام: هل جاء مثل هذا الذي تنقله عن هؤلاء الأولياء في كتاب
الله تعالى؟ قال: لا. قال: هل جاء فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:
لا. قال: هل نقل مثله عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة؟
قال: لا. قال: هل نقل عن التابعين والأئمة المجتهدين وقدماء الصوفية؟ قال: لا.
قال: فخذ هؤلاء كلَّهم - رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين
والأئمة الأربعة وقدماء الصوفية كالخراز والجنيد رئيس الطائفة وسائر أهل
القرنين الأول والثاني وضَعْهم في كفة ميزان وضَعْ في الكفة الأخرى من ذكرت من
المشايخ المتأخرين واتبعْ الراجحَ!
قال الشيخ الدلاصي: ولكن هل نقول: إن أبا الحسن الشاذلي وأبا العباس
المرسي وياقوت العرشي وابن عطاء الله السكندري ومصطفى البكري كانوا ضالين
مخالفين لهدي الله ورسوله وأصحابه أم كانوا مهتدين.
قال الأستاذ الإمام: إنك بعد بيان الحق تكرر هذا السؤال تتسقطني لأقول:
إن كل ما خالف هدي السلف فهو ضلال؛ فتخرج فتقول للعامة: إن المفتي أو فلانًا
يضلل كبار أولياء الله تعالى، ولكنني لا أقول لك ذلك ، بل أقول: إن الله تعالى ما
كلفك باتباع هؤلاء حتى لو مت ولم تعلم بوجودهم في الدنيا لما سألك الله يوم
الحساب عنهم، ولكن كلفك باتباع كتابه ونبيه وهدي أصحاب نبيه الذين أخذوا
الدين عنه مباشرة، وكانوا به خير العاملين. فهل تقول إنهم كانوا ضالين؟ ثم إنني
أقول لك: إنني أنا أحترم أبا الحسن الشاذلي، وأنا من أهل طريقته لم أسلك غيرها ،
ولكن ليس كل ما ينسب إليه يصح عنه، بل قال لي شيخي الذى سلكت عليه
الطريقة: إن هذه الأحزاب المنسوبة لسيدي أبي الحسن لم تصح عنه. قال
الدلاصي: لكنها متواترة، قال الأستاذ: كيف وفريق من الشاذلية ينكرها ثم حرر
مسألة الخلاف هنا بأمور مرتبة كما ترى:
(أولها) الكتاب والسنة العملية منقولان بالتواتر القطعي وما عداهما من
سيرة النبي وأصحابه وسلف الأمة منقول بأسانيد معروفة يمكن بها تمييز الصحيح
من غيره، وما نقل عن الشاذلي وغيره من الأولياء لا سند له يحتج به شرعًا؛ فإذا
فرضنا أن كلامهم في مرتبة كلام الله ورسوله (ولا يقول بهذا مسلم) وجب ترجيح
كلام الله ورسوله وكلام السلف على كلامهم لصحة النقل كما يرجح بين الحديثين.
وكيف وقد اشتهر الكذب عليهم، ودس الزيادات في كتبهم كما صرح بذلك
الشعراني الذي كانوا يدسون عليه في حياته، ويزيدون في كتبه ما يخالف الكتاب
والسنة، ولا تزال كتبه مملوءة بهذه الدسائس (قال) ولو صح عنه كل ما نسب إليه
لما كان مؤمنًا، بل ملبسًا يريد إفساد عقائد المؤمنين، وههنا قال أحد الشيوخ
العلماء: إن فى مصر نسخة من العهود بخط الشعراني تنقص عن النسخة
المطبوعة بنحو الثلث، فلا شك أن كل هذه الأمور المنكرة شرعًا في كتب
الشعراني من الدسائس عليه. قال الأستاذ: وهذا الذي يغلب على ظني، وأنا أعتقد
أن الطبقات والمنن ليستا من تأليفه بالمرة.
ثم قال:
(ثانيها) إذا فرضنا أن النقل عنهم صحيح وأنه لا دسائس فيما ينقل عنهم
فإننا نرجح هدي الكتاب والسنة لعصمة كتاب الله وعصمة رسوله دون غيرهما.
على أن مبحثنا يتعلق بالعقائد والتوحيد، وهي لا يؤخد فيها بأحاديث الآحاد وإن
صحت، فكيف بما لا يصح من قول الناس! !
(ثالثها) إذا فرضنا أن هؤلاء الأولياء معصومون كالأنبياء، ولم يقل بهذا
مسلم فالأولى لنا أن نأول كلامهم حتى ينطبق على هدي الكتاب والسنة والسلف لأنه
الأصل باتفاقهم وإقرارهم.
(رابعها) إذا فرضنا أن الكل في مرتبة واحدة، وأنه لا أصل ولا فرع ولا
يقول بهذا مسلم أيضًا؛ فعلينا أن نعمل بالكتاب لأنه واضح مُبين كما وصفه الله
تعالى في مواضع منه، وبالسنة لأنها بيضاء واضحة كما وصفها صاحبها، وقال:
(ليلها كنهارها) وبسيرة السلف لأنهم أعلم الناس بهما، وأما كلام الصوفية فقد
صرحوا بأنه رموز واصطلاحات لا يعرفها إلا أهلها الذين سلكوا هذه الطريقة إلى
نهايتها، وصرحوا بأن من أخذ بظاهر أقوالهم ضل، وهذا ظاهر فإن كتب محيي
الدين بن عربي مملوءة بما يخالف عقائد الدين وأصوله، وهذا كتاب الإنسان الكامل
للشيخ عبد الكريم الجيلي هو في الظاهر أقرب إلى النصرانية منه إلى الإسلام،
ولكن هذا الظاهر غير مراد وإنما الكلام رموز لمقاصد يعرفها من عرف مفتاحها ،
فإن كنت تدعي ذلك (وأشار إلى الدلاصي) فإن لي معك كلامًا آخر ، وإلا حرم
عليك أن تنظر في كلام القوم لئلا تفتن في دينك (قال) وإنني لما كنت رئيس
المطبوعات أمرت بمنع طبع كتاب الفتوحات المكية وأمثالها لأن أمثال هذه الكتب لا
يحل النظر فيها إلا لأهلها: وههنا سكت الشيخ الدلاصي فلم يرجع قولاً، وظهر لنا
أنه اقتنع.
وقد تذكرت أنني كنت رأيت في كتاب للشعراني أحسبه (الجواهر والدرر)
أنه سأل شيخه عليًّا الخواص: لماذا يطلب من الناس تأويل كلام الأنبياء إذا خالف
ظاهر الشرع، ولم يطلب منهم تأويل كلام الأولياء؟ فأجابه: لأن الأنبياء
معصومون فيجب حمل كلامهم على الصحة دائمًا، والأولياء ليسوا بمعصومين
فيجوز أن يكونوا مخطئين فيما خالفوا فيه. هذا وإننا في خاتمة هذا القول نعرف
القراء بالشيخ محمد الدلاصي فنقول: إنه ليس كمن يعهدون من شيوخ الطرق
الجاهلين بل هو من أهل العلم والفهم، ولولا غلوه باعتقاد تصرف الأموات في
شئون الأحياء لكان من أحسن المرشدين للعامة ، وعسى أن يكون رجع عن ذلك فقد
نقل لنا من غلوه أنه أقسم بالله تعالى إن السيد البدوي يميت ويحيي، ويفقر ويغني،
ويسعد ويشقي، ويمنع ويعطي (والعياذ بالله تعالى) ، ونتمنى أن يكون هذا النقل
عنه غير صحيح، وقد عز علينا أن ننشر ذلك عنه، ثم ذكرنا أن الإنسان لا يرى
غضاغة عليه في عزو اعتقاده إليه، وإن كذب لنا النقل فإننا ننشر التكذيب فرحين
مستبشرين لأننا نعتقد أن نفع هذا الرجل يكون عظيمًا إذا هو رجع عن ذلك الرأي
الذي لا حجة له عليه إلا أنسه به، والثقة بمشايخه الذين كانوا عليه، والعقائد لا
تقليد فيها على أنه ربما كان أعلم منهم بكتاب الله الذى استأصل الوثنية من جذورها.
والخطأ في العقائد خطر عظيم ، والله الهادي.
***
شرط طلب شيخ الطريق وصفته
ثم سأل أبو زيد أفندي موسى صاحب المنزل الذي نزلنا فيه (والشيخ عبد
المؤمن ولده) الأستاذ الإمام عن سلوك الطريق قائلاً ما معناه: إذا كنت أنا جاهلاً
بما يجب عليَّ لله تعالى، وعاصيًا مقصرًا فيما أعرفه من الواجب ألا ينبغي لي أن
أطلب شيخًا مرشدًا أضع يدي فى يده وأعاهده على السمع والطاعة ليدلني على الله؟
فقال الأستاذ الإمام: ينبغي لك أن تطلب المرشد، وأنا أدلك على طريقة الطلب،
وهي أن تعمل أولاً بجد وإخلاص بما تعرفه من أمور الدين التي لا خلاف فيها حتى
إذا استقمت على ذلك، وظهرت لك أمور أخرى دقيقة يشتبه عليك الحق فيها،
فاطلب من هو أشد منك محافظة على العمل بما تعلم، وأعلم منك بتلك الدقائق
ليرشدك إلى مسلك الحق فيها بالشرط الآتي. ثم سأله الأستاذ عن أمور كثيرة منها:
أتعرف أن أكل أموال الناس بالباطل حرام، وأن إيذاء الناس حرام، وأن التعاون
على الشر حرام، وأن الكذب والخيانة حرام
…
وأن الصلاة والزكاة
…
من
الفرائض، وأن الصدق والأمانة والتعاون على الخير ومواساة المحتاج من الفضائل
المحمودة حتى ذكر له أمهات الفضائل والرذائل، وكان يجيب عن كل واحدة بأنه
يعرف حكمها، ولا يحتاج فيه إلى مرشد ولا أستاذ.
فقال له: إذا عملت بهذا كله بإخلاص فأنا أضمن لك على فضل الله تعالى
القبول والرضوان ، وأن يهديك إلى الدقائق وكشف الشبهات، فإنه قال: {وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69) وفي
الحديث: (من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم) وتستغني عن المرشد إذا لم
تجده لقلته في هذا الزمن ، وإذا وجدت من تراه سابقًا لك في العلم والعمل وحسن
الخلق، وأردت أن تسترشد به فانظر وراء هذا شرطًا واحدا وهو: أن لا يكون
دين هذا الرجل دكانه، أي أن لا يقبل منك جزاء على الإرشاد؛ فإذا رأيته لا يمد
يده للأخذ فامدد إليه يدك وعاهده على الاسترشاد بعلمه وعرفانه، وإذا كان يمد يده
للأخذ منك، فلا تمدد يدك إلى يده إلا بالسكين فإنه لص قد اتخذ الدين حرفة ،
واكتف بالعمل بما تعلم، والله يهديك ويسددك. اهـ بالمعنى مختصرًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قضية السادات وصاحب المؤيد
حكم الشيخ أحمد أبو خطوة القاضي الشرعي فى قضية السادات وصاحب
المؤيد المشار إليها فى الجزء الماضي بأن عقد الشيخ علي يوسف على السيدة صفية
بنت السيد عبد الخالق السادات باطل بناء على عدم الكفاءة إذ ثبت لدى المحكمة
بشهادة أهل العرف في البلد وإخبارهم أن أبا الزوجة يلحقه العار بزواج صاحب
المؤيد ببنته لأنه مشهور بالشرف، وصاحب المؤيد غير مشهور به، ولا هو
شريف بالفعل. إذ ثبت أن نسبه مزور، ولأنه من أصحاب المجد الموروث ،
وصاحب المؤيد حديث عهد بنعمة الدنيا، وذكر في الحكم السابق، ولأن حرفة
الصحافة لا تكون شريفة إلا إذا كان صاحبها على معارف وصفات فصلها القاضي
في حيثيات الحكم ، وذكر أن صاحب المؤيد عارٍ منها، بل متصف بضدها. هذا
هو روح الحكم وقد أعجب به الأكثرون في القطر كله، وانتقده بعض الناس بأن
في الحيثيات أمورًا خطابية غير شرعية وتضعيفًا للقوي من دفاع أحد الخصمين مع
قبول مثله من الآخر.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه السادس والسبعون)
قولكم: إنكم منعتم من التقليد خشية وقوع المقلد في الخطأ بأن يكون من قلده
مخطئا في فتواه ثم أوحيتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق ولا ريب أن
صوابه في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من اجتهاده هو لنفسه كمن أراد شِرَى
سلعة لا خبرة له بها فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة خبيرًا بها أمينًا ناصحًا كان
صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه: جوابه من وجوه:
(أحدها) أنا منعنا التقليد طاعة لله ورسوله، والله ورسوله منع منه وذم
أهله في كتابه وأمر بتحكيمه وتحكيم رسوله ورد ما تنازعت فيه الأمة إليه وإلى
رسوله، وأخبر أن الحكم له وحده، ونهى أن يتخذ من دونه ودون رسوله وليجة
وأمر أن يعتصم بكتابه ونهى أن يتخذ من دونه أولياء وأربابا يحل من اتخذهم ما
أَحَلّوه ويحرم ما حرموه وجعل من لا علم له بما أنزله على رسوله بمنزلة الأنعام
وأمر بطاعة أولي الأمر؛ إذا كانت طاعتهم طاعة لرسوله بأن يكونوا متبعين لأمره
مخبرين به، وأقسم بنفسه سبحانه أنا لا نؤمن حتى نحكم الرسول خاصة فيما شجر
بيننا لا نحكم غيره ثم لا نجد في أنفسنا حرجًا مما حكم به كما يجده المقلدون إذا جاء
حكمه خلاف قول من قلدوه وأن نسلم لحكمه تسليمًا كما يسلم المقلدون لأقوال من
قلدوه بل تسليمًا أعظم من تسليمهم وأكمل والله المستعان وذم من حاكم إلى غير
الرسول. وهذا كما أنه ثابت فى حياته فهو ثابت بعد مماته فلو كان حيًّا بين
أظهرنا وتحاكمنا إلى غيره لكنا من أهل الذم والوعيد فسنته وما جاء به من الهدى
ودين الحق لم يمت وإن فقد من بين الأمة شخصه الكريم فلم يفقد من بيننا سنته
ودعوته وهديه. والعلم والإيمان بحمد الله مكانهما من ابتغاهما وجدهما.
وقد ضمن الله سبحانه حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله فلا يزال محفوظًا
بحفظ الله محميًّا بحمايته لتقوم حجة الله على عباده قرنًا بعد قرن إذ كان نبيهم آخر
الأنبياء ولا نبي بعده فكان حفظه لدينه وما أنزله على رسوله مغنيًا عن رسول آخر
بعد خاتم الرسل، والذي أوجبه الله سبحانه وفرضه على الصحابة من تلقي العلم
والهدى من القرآن والسنة دون غيرهما هو بعينه واجب على من بعدهم وهو محكم
لم ينسخ ولم يتطرق إليه النسخ حتى ينسخ الله العالم أو يطوي الدنيا، وقد ذم الله
تعالى من إذا دعي إلى ما أنزله وإلى رسوله صد وأعرض وحذره أن تصيبه
مصيبة بإعراضه عن ذلك في قلبه ودينه ودنياه، وحذر من خالف عن أمره واتبع
غيره أن تصيبه فتنة أو يصيبه عذاب أليم؛ فالفتنة في قلبه والعذاب الأليم في بدنه
وروحه وهما متلازمان فمن فتن في قلبه بإعراضه عما جاء به ومخالفته له إلى
غيره أصيب بالعذاب الأليم ولا بد، وأخبر سبحانه أنه إذا قضى أمرًا على لسان
رسوله لم يكن لأحد من المؤمنين أن يختار من أمره غير ما قضاه فلا خيرة بعد
قضائه لمؤمن ألبتة.
ونحن نسأل المقلدين: هل يمكن أن يخفى قضاء الله ورسوله على مَنْ قلدتموه
دينكم في كثير من المواضع أم لا؟ فإن قالوا: لا يمكن أن يخفى عليه ذلك: أنزلوه
فوق منزلة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة كلهم فليس أحد منهم إلا وقد
خفي عليه بعض ما قضى الله ورسوله به.
فهذا الصديق أعلم الأمة به خفي عليه ميراث الجدة حتى أعلمه به محمد بن
مسلمة والمغيرة بن شعبة وخفي عليه أن الشهيد لا دية له حتى أعلمه به عمر
فرجع إلى قوله. وخفي على عمر:
(1)
تيمم الجنب فقال: لو بقي شهرًا لم يصل حتى يغتسل. وخفي
عليه (2) دية الأصابع فقضى بالإبهام والتي تليها بخمس وعشرين حتى أخبر أن
في كتاب عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى فيها
بعشر عشر فترك قوله ورجع إليه. وخفى عليه (3) شأن الاستئذان حتى
أخبره به أبو موسى وأبو سعيد الخدري. وخفي عليه (4) توريث المرأة من
دية زوجها حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان الكلابي وهو أعرابي من أهل البادية
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يورث امرأة أشيم الضبابي من
دية زوجها. وخفي عليه (5) حكم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند
المغيرة بن شعبة. وخفي عليه (6) أمر المجوس فى الجزية حتى أخبره عبد
الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذها من مجوس
هجر. وخفي عليه (7) سقوط طواف الوداع عن الحائض فكان يردهن
حتى يطهرن ثم يطفن حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلاف
ذلك فرجع عن قوله، وخفي عليه (8) التسوية بين دية الأصابع وكان يفاضل
بينها حتى بلغته السنة فى التسوية فرجع اليها. وخفي عليه (9) شأن متعة الحج
وكان ينهى عنها، حتى وقف على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بها فترك
قوله وأمر بها. وخفي عليه (10) جواز التسمي بأسماء الأنبياء فنهى عنه
حتى أخبره به طلحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كناه أبا محمد فأمسك ولم
يتماد على النهي. هذا وأبو موسى ومحمد بن مسلمة وأبو أيوب من أشهر
الصحابة، ولكن لم يمر بباله رضي الله عنه أمر هو بين يديه حتى نهي عنه. وكما
خفي عليه (11) قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر: 30)
وقوله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144) حتى قال: والله كأني ما سمعتها قط قبل وقتي
هذا. وكما خفي عليه (12) حكم الزيادة فى المهر على مهور أزواج النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وبناته حتى ذكرته تلك المرأة بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: 20) فقال: كل أحد أفقه من عمر
حتى النساء. وكما خفي عليه (13) أمر الجد والكلالة وبعض أبواب الربا فتمنى
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عهد إليهم فيها عهدًا. وكما خفي عليه
يوم الحديبية (14) أن وعد الله لنبيه وأصحابه بدخول مكة مطلق لا يتعين لذلك
العام حتى بينه له النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكما خفي عليه (15) جواز
استدامة الطيب للمحرم وتطيبه بعد النحر وقبل طواف الإفاضة وقد صحت السنة
بذلك. وكما خفي عليه (16) أمر القدوم على محل الطاعون والفرار منه
حتى أخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا سمعتم به بأرض
فلا تدخلوها وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارًا منه هذا وهو أعلم الأمة
بعد الصديق على الإطلاق وهو كما قال ابن مسعود: لو وضع علم عمر في كفة
ميزان وجعل علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر. قال الأعمش: فذكرت
ذلك لإبراهيم النخعي فقال: والله إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم.
وخفي على عثمان بن عفان أقل مدة الحمل حتى ذكره ابن عباس بقوله تعالى:
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: 15) مع قوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْن} (البقرة: 233) فرجع إلى ذلك.
وخفي على أبي موسى الأشعري ميراث بنت الابن مع البنت السدس حتى
ذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورثها ذلك.
وخفي على ابن عباس تحريم لحوم الحمر الأهلية حتى ذكر أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم حرمها يوم خيبر.
وخفي على ابن مسعود حكم المفوضة وترددوا فيها شهرًا فأفتاهم برأيه ثم بلغه
النص بمثل ما أفتى به.
وهذا باب لو تتبعناه لجاء سفرًا كبيرًا فنسأل حينئذ فرقة التقليد، هل يجوز أن
يخفى على من قلدتموه بعض شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يخفى
ذلك على سادات الأمة أو لا؟ فإن قالوا: لا يخفى عليه وقد خفي على الصحابة مع
قرب عهدهم بلغوا في الغلو مبلغ مدعي العصمة في الأئمة، وإن قالوا: بل يجوز
أن يخفى عليهم وهو الواقع وهم مراتب في الخفاء في القلة والكثرة.
قلنا: فنحن نناشدكم الله الذي هو عند لسان كل قائل وقلبه إذا قضى الله
ورسوله أمرًا خفي على من قلدتموه هل تبقى لكم الخيرة بين قبول قوله ورده أم
تنقطع خيرتكم وتوجبون العمل بما قضاه الله ورسوله عينا لا يجوز سواه؟ فأعدوا
لهذا السؤال جوابًا، وللجواب صوابًا، فإن السؤال واقع والجواب لازم والمقصود
أن هذا هو الذى منعنا من التقليد فأين معكم حجة واحدة تقطع العذر وتسوغ لكم ما
ارتضيتموه لأنفسكم من التقليد.
(الوجه الثاني) أن قولكم صواب المقلد في تقليده لمن هو أعلم منها أقرب من
صوابه في اجتهاده دعوى باطلة فإنه إذا قلد من قد خالفه غيره ممن هو نظيره أو
أعلم منه لم يدر على صواب هو من تقليده أو على خطأ، بل هو كما قال الشافعي:
حاطب ليلٍ إما أن يقع بيده عود أو أفعى تلدغه. وأما إذا بذل اجتهاده في معرفة
الحق فإنه بين أمرين: إما أن يظفر به، فله أجران، وإما أن يخطئه فله أجر فهو
مصيب للأجر ولا بد ، بخلاف المقلد المتعصب فإنه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ
لم يسلم من الإثم، فأين صواب الأعمى من صواب البصير الباذل جهده؟ .
(الوجه الثالث) أنه إنما يكون أقرب إلى الصواب إذا عرف أن الصواب مع
من قلده دون غيره، وحينئذ فلا يكون مقلدًا له، بل متبعًا للحجة، وأما إذا لم يعرف
ذلك ألبتة؛ فمن أين لكم أنه أقرب إلى الصواب من باذل جهده ومستفرغ وسعه في
طلب الحق؟ .
(الوجه الرابع) أن الأقرب إلى الصواب عند تنازع العلماء من امتثل أمر
الله فرد ما تنازعوا فيه إلى القرآن والسنة، أما من رد ما تنازعوا فيه إلى قول
متبوعه دون غيره فكيف يكون أقرب إلى الصواب.
(الوجه الخامس) أن المثال الذي مثلتم به من أكبر الحجج عليكم فإن من
أراد شرى سلعة أو سلوك طريقة حين اختلف عليه اثنان أو أكثر وكل منهم يأمره
بخلاف ما يأمره به الآخر فإنه لا يقدم على تقليد واحد منهم، بل يبقى مترددًا طالبًا
للصواب من أقوالهم فلو أقدم على قبول قول أحدهم مع مساواة الآخر له في المعرفة
والنصيحة والديانة أو كونه فوقه في ذلك عُدَّ مخاطرًا مذمومًا، ولم يمدح إن أصاب
وقد جعل الله في فطر العقلاء في مثل هذا أن يتوقف أحدهم ويطلب ترجيح قول
المختلفين عليه من خارج حتى يستبين له الصواب، ولم يجعل في فطرهم الهجم
على قبول قول واحد واطراح قول من عداه.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الفداء والقداسة
قد اعتاد ذلك الشاب القبطي الذي كان يحرر مجلة (بشائر السلام) على
الارتزاق والتعزز عند قومه بدعوة المسلمين إلى النصرانية، ولما خُذلت تلك
المجلة، ولم يجد مجلة ولا جريدة غيرها تقبل أن تستخدمه لينشر بضاعته المزجاة
رأى أن يطبع منشورات في الدعوة إلى النصرانية ، ويطوف في البلاد موزعًا لها
ويظهر أن له من قومه أعوانًا يرضخون له إسعادًا على هذا العمل الذي يرون أنه
يغيظ المسلمين، وربما يعتقد الغافلون منهم أنه ربما يشككهم في دينهم. وقد أرسل
إلينا الكاتب نسخة من منشوره وكتب عليها ما نصه:
(بما أني قد لاحظت من جريدتكم الزاهية شديد الغيرة للدفاع عن حوزة
الإسلام بعثت إليكم بهذا الخطاب للرد عليه بمعرفتكم، ونشر الرد على صحيفتكم ،
وإن لم تستطيعوا لقوة البراهين الموردة فيه أرجوكم إذًا أن تعيروه انتباهكم وتعملوا
بما فيه ودمتم) .
ومن البديهي أنه لم يرسل إلينا ذلك ويطالبنا بالرد عليه في المنار إلا لأجل
إشهاره وإشهار نفسه ، ولو كان قاصدًا إقناعنا بالأوهام التى سماها براهين لما طلب
منا الرد عليها. ولعمري إن أمثال هذه الأوهام الصبيانية لا تستحق أن يرد عليها
لأن العقل الذي يخشى أن يغتر بها يستحق بها أن لا يُبَالى به وأشرف للمسلمين أن
لا يكون منهم. ولكننا مع هذا نذكر البرهان الذي قامت عليه هذه الدعوة أو هذه
الديانة التي نسبت إلى المسيح عليه السلام بعد وفاته ورفعه إلى دار الكرامة عند
ربه بقرون؛ ليحمد المسلمون ربهم على توفيقهم لهذا الدين القويم ، ولتقوم حجته
على المقلدين الغافلين.
كان دعاة النصرانية يصورون مسألة الفداء بأنها الجامعة بين رحمة الله تعالى
وعدله ، فلا يتصور العقل (النصراني) أن يكون خالق السموات والأرض على
أبدع نظام رحيمًا عادلاً إلا إذا حل في بطن امرأة من كرة صغيرة من مخلوقاته التي
لا يعلمها غيره ، ثم ولد منها فصار إنسانًا إلهًا ثم سلط عليه أعداءه فصلبوه. وقد
بينا من قبل أن النصارى أخذوا هذه العقيدة عن الوثنيين (راجع المجلد الرابع من
المنار أو الجزء الأول من كتاب شبهات النصارى وحجج الإسلام) وقد جاءنا
المبشر القبطي في منشوره بتصوير آخر يشبه الأول ، وهو أن الإيمان بواحدانية
الله تعالى يعوزه الإيمان بأنه تعالى قدوس قال: (لأنه أهون عليه تعالى أن تشرك
به آلهة كثيرة من أن تنفى عنه القداسة) ثم قال: (إنه لا يمكن أن يكون الله قدوسًا
تلقاء معاملته لعالمنا الأثيم بهذه المعاملة إلا إذا اعتبرنا صحة الفداء) فانظر إلى هذه
القداسة المتوقف عندهم إمكانها على اعتبارنا هذه العقيدة التي لا يستطيع العقل
التصديق بها ، وإن قال لسان المقلدين من النصارى: إن ذلك من عقائد قلوبهم.
ما أضعف عقول المقلدين ، يفسر لهم الشيء بضد معناه فيسلمون خاضعين ،
إن القداسة هي الطهارة والنزاهة، ومعنى كونه تعالى قدوسًا أنه جل جلاله منزه
عن كل ما لا يليق بالألوهية من صفات المخلوقات وشئونهم كالتحول والانتقال
والحلول في الأجسام والعجز وغير ذلك مما عبر عنه أحد أئمتنا بقوله: (كل ما
خطر ببالك فالله تعالى بخلاف ذلك) ، ولكن القداسة الإلهية عند النصارى لا تتحقق
لله، بل لا تمكن إلا باعتبار اعتقاد طائفة صغيرة من خلقه وهم البشر ولو بعضهم
بشرط أن يكون هذا الاعتقاد ضد القداسة ، ونقيضها وهو أن ينتقل الخالق ويحل في
بطن امرأة.. إلخ فما أعجب هذه القداسة! ! ! وأعجب منها أن يدعو أهلها إليها
المسلمين الذين يقولون: إن الله تعالى قدوس بذاته من الأزل قبل أن يخلق
النصارى والمسيح وكل البشر ، وأن هذا الوصف واجب له لا يمكن انتفاؤه ولو
كفر جميع البشر به لأن ما كان بالذات لا يزول إلا بزوال الذات، وأنه لا يتوقف
على فداء ولا غيره ، وإلا كان أمرًا اعتباريًّا لا ذاتيًّا. تعالى الله عن ذلك علوًّا
كبيرًا.
يقولون: إن الغرض من هذا التفسير تنزيه الباري تعالى عن الرضى
بالمعاصي والشرور التي عملها ويعملها الناس من لدن آدم إلى أن ينقرضوا، وفي
هذا من التناقض نحو ما في سابقه لأنهم يزعمون أن من يؤمن بهذا الفداء لا يؤاخذه
الله بذنب ، وهذا هو عين الرضى بالمعاصي والشرور لأنه إباحة لها. أليس من
العجائب أن يتصدى من يقول: إن الله لا يكون قدوسًا كارهًا للمعاصي إلا إذا أباحها
إلى دعوة المسلمين لعقيدته وهم الذين يعتقدون أن من تقديس الباري وتنزيهه وعدم
رضاه بالمعاصي أن جعل لكل معصية جزاء وعقوبة ليعتبروا ويتربوا بالنظر في
تأثير أعمالهم في أنفسهم وفى الكون لأنه تفضل عليهم بالإرادة والعقل والاختيار في
أعمالهم! فهل بعد هذا التقديس والتنزيه من تقديس وتنزيه؟
وقال مجيبًا عن قول المسلمين: (إن الله غفور رحيم) إن الرحمة والمغفرة
لا يمكن أن يكونا بغير الفداء؛ لأنهما حينئذ من الرضى بالمعصية ، وضرب لذلك
مثل الجاني يعفو عنه الحاكم الظالم حبًّا فى الظلم وارتياحًا له كأنه يقول: إن الحاكم
إذا سمح لرعيته بأن يرتكبوا جميع الفواحش والمنكرات وقتل ابنه البريء فداءً
عنهم يكون عادلاً رحيمًا حكيمًا نزيهًا؛ لأنه عاقب البريء وجعله فدية للأثيم! !
وأي ظلم وجور وقسوة وحب للآثام والجرائم أشد من هذا؟ ولكن التقليد يعمي
البصر والبصيرة ويطفئ نور الفطرة حتى لا يكون بدعًا عند صاحبه قلب الحقائق
وتفسير النقيض بالنقيض. ومن العجيب - وأي قولهم ليس بالعجيب - أن صاحب
هذا السخف يدعو إليه المسلمين الذين يعتقدون أن رحمته تعالى قضت أن تكون
عواقب المعاصي كلها سيئة؛ لتكون أعمال الناس عبرة لهم وسببًا لتربيتهم وترقيهم
بعلمهم وعملهم، وأنه تعالى قرن وعد المغفرة بالتوبة، ووعد الرحمة بإحسان العمل
فقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) وقال:
{إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ} (الأعراف: 56) ونهى عن اليأس من
رحمته مهما أذنب العبد لتدوم رغبته في فضل الله وقال: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ} (هود: 114) لأن آثار الحسنة في النفس ضد آثار السيئة،
والمراد من الدين ترقية النفس ليرجع المؤمن عن ذنبه ويتوب عالمًا بفائدة التوبة،
ومعنى المغفرة.
ثم إن صاحب المنشور حاول أن يجيب عن الاعتراض الذي طالما وجهناه
إليهم قولاً في مجتمعهم وكتابة في المنار ، وهو أن كون الفداء هو الذي يحقق
اتصاف الباري بالرحمة والعدل (وزد هنا القداسة) يقتضي أن يكون الله تعالى قَبْلَ
صلبِ المسيح غير عادل ولا رحيم ولا قدوس فهذه الصفات إنما حدثت له على
رأيهم وإيمانهم منذ ألف وتسعمائة سنة تقريبًا، ولكن العقل يدل على أن صفاته
تعالى كلها قديمة بقدمه وكذلك كتبهم فإن إبراهيم وولده ومن قبلهم من الأنبياء كانوا
يقدسون الله تعالى ويصفونه بالرحمة والعدل ، فهذه العقيدة ينقضها العقل والنقل.
فقال في جوابه: (إن الفداء وإن كان تم بعد خلق العالم بقرون فإن صاحبه
وعد به من بدء العالم ورمز إليه بالقرابين فابتدأت أثماره تظهر من ذلك الحين)
اهـ، ونقول في جواب الجواب: بخ بخ لهذه البراهين التي لا يقوى أحد على
نقضها، بل يا أسفى على الفطرة البشرية التي يبلغ التقليد إلى هذه الغاية من
إفسادها. إن القرابين وجدت في الملل الوثنية ، فهل كان الوثنيون ناجين ومقربين
إلى الله بها؟ وهل كان هذا القرب والرضوان الإلهي لأنهم وعدوا من كهنتهم بأن
الله سيصلب نفسه بعد في جسم بشري يولد من فرج امرأة لأجلهم ، وجعلت هذه
القرابين رمزًا لذلك؟ إن الوثنيين قد سبقوا النصارى إلى خرافة الفداء؛ إذ قالوا:
إن الإله أودين رمى نفسه في نار عظيمة فأحرقها فداءً عن عباده (راجع ص448م4
أو المقالة الخامسة من الجزء الأول من كتاب شبهات النصارى وحجج الإسلام) ، ثم
إنه لم ينقل عن إبراهيم خليل الرحمن ولا عن إدريس (أخنوخ) الذي رفعه الله
إليه أنهما كانا يقولان بهذا الفداء أو يشيران إلى هذا الرمز الوثني فهل كان
التوحيد ذنبًا لهما، ولغيرهما من الأنبياء وكان الوثنيون المتقدمون هم الناجين؟
وكذلك موسى لم يقل به، بل لم يقل به أحد إلا هؤلاء النصارى.
هذه هي خرافة الفداء وهذه قيمة شبهة القرابين التي هي عندهم البرهان
المبين ، ومن العجائب أن أصحابها يدعون إليها المسلمين الذين بيَّن دينهم حكمة
القرابين بما يليق بحكمة الباري ويتفق مع تقديسه وتنزيهه في قوله تعالى: {لَن
يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ} (الحج: 37) الله أكبر الله أكبر ، لمع الحق
وظهر، وتلاشت شبهة الذي كفر، وبطل قول صاحب المنشور لمنكر الصلب
والفداء: (واحذر كل الحذر من إنكار ذلك ، وإلا كنت منكرًا لقداسة الله، وليس
على وجه الأرض كفر أعظم من هذا ، فالمشرك والملحد وعابد الصنم يكون في يوم
الدين ألطف حالاً من منكري الصلب الذي هو قداسة الله ورحمته وغفرانه) وعلم
أن الحق نقيض قوله، وهي أن العقيدة تنافي ذلك ، وحسبك أن صاحبها يفضل
الملحد على المؤمن الذي ينكرها. فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
اشتراط الولي في النكاح
(س58) أ. م. المدرس في (القاهرة) : لقد أنصفتم فيما كتبتموه في
مقالة (الأولياء والكفاءة إلخ) إذ اقتصرتم فيها على ما ورد في الكفاءة من
الأحاديث مع بيان مذهب الحنفية في ذلك ، وتركتم الحكم للرأي العام ، وإنما نود
أن تبينوا لنا رأيكم فى وجوب اشتراط الولي أو عدمه مستدلين على ذلك بالكتاب
والسنة كما هي طريقتكم مع بيان حكمة الشريعة فى ذلك بتفصيل كاف وبيان شاف ،
لا زال مناركم هاديًا وعلمكم نافعًا كافيًا.
(ج) الذي يفهم من القرآن العزيز وكلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
ومضت به السنة ، ونقل عن جماهير الصحابة ولم ينقل عنهم خلافه أن الولي هو
الذى يزوج ، وأنه لابد منه إن وجد ، وأن الأنثى لا تزوج نفسها ، ولكن ليس للولي
أن يزوجها بدون رضاها ، واكتفى الشرع بسكوت البكر لحيائها ، واشترط أمر
الثيب للولي ، وبذلك أعطى النساء حقًّا لم يكن لهن فى غير هذه الشريعة العادلة ،
وجعل الرجال قوامين عليهن مع العدل والشفقة وعدم الإكراه حفظًا لنظام البيوت
وجمعًا بين مصلحة الرجال والنساء ، وإليك الدلائل:
قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُم} (النور: 32) وهو خطاب للرجال
الذين يتولون العقد.
وقال تعالى مخاطبًا لعموم المكلفين: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا
تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ} (البقرة: 232)
فالآية صريحة في نهي الأولياء عن عضل الثيب ، ولا يملك العضل إلا من بيده
عقدة النكاح ، ومن زعم أن الخطاب بالنهي للأزواج نرد عليه بالسياق وبما أخرجه
البخاري وأصحاب السنن وغيرهم بأسانيد شتى من حديث معقل بن يسار قال:
كانت لي أخت فأتاني ابن عمي فأنكحتها إياه ، فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة
ولم يراجعها حتى انقضت العدة ، فهويها وهويته ، ثم خطبها مع الخطاب ، فقلت له:
يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها ، والله لا ترجع إليك أبدًا ،
وكان رجلاً لا بأس به ، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله حاجته إليها
وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله هذه الآية. قال: فَفِيَّ نزلت فكفرت عن يميني
وأنكحتها إياه. وفى لفظ: فلما سمعها معقل قال: سمعًا لربي وطاعة ، ثم دعاه فقال:
أزوجك وأكرمك. ولو كان لها أن تزوج نفسها لفعلت مع ما ذكر من رغبتها. ثم
إن الآية إنما حرمت العضل على الولي ولو أراد الله أن لا يجعل للولي حقًّا على
الثيب لنزلت الآية في بيان أن لهن أن يزوجن أنفسهن. ولا يقال: إنها خاصة
بتحريم العضل عن الأزواج السابقين لأن العبرة بالعموم لا سيما مع اتحاد العلة
المشار إليها في تتمة الآية ، وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} (البقرة:
232) فإنها تشير إلى مراعاة المصالح في هذه المعاملات ، ولا تجعلها أمورًا
تعبدية ، ومصلحة المرأة فى العودة إلى زوجها الأول مع التراضي كما أن مصلحتها
أن تتزوج مطلقًا فالعضل محرم على كل حال ، وهو لا يتحقق إلا إذا كان الولي هو
الذى له حق التزويج برضاها.
وقال تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَاّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: 237)
الظاهر أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي ، وهو مروي عن ابن عباس وعائشة
وطاووس ومجاهد وعطاء والحسن وعلقمة والزهري ، ولكن روى ابن جرير
وغيره فى المرفوع أنه الزوج وفي إسناده مقال وإن حسنوه ، ولم يذكره السيوطي
فى أسباب النزول ، ولم نرجح الأول عليه لهذا ولكن للسياق ، فإنه يقول للأزواج:
إذا طلقتم قبل الدخول فعليكم أن تدفعوا نصف المهر المفروض إلا إذا سمحت
المعقود عليها بذلك بنفسها أو سمح وليها به ، وليس يظهر ، أو سمح الزوج به لأن
الزوج هو المكلف بالدفع ، وإنما قال به قوم وأولوه لأن من قواعدهم أن الولي لا
يملك التصرف بمال موليته ، ولذلك خصه بعض من قال: إنه الولي بالمطلقة
الصغيرة ، وفاتهم أن المذاهب لا يصح أن تقيد القرآن ولا أن تخصصه. على أن
الجمع بين الآية وبين قاعدتهم سهل ، وهو أن يحمل على عفو وسماح يعلم به الولي
رضاها أو يعوضها عنه مثله أو خيرًا منه إذا رأى أن اللائق به أن لا يأخذ من
الزوج شيئًا لأنه لم يدخل بها ، وقد رأيت أن الآية تحث على هذا العفو لأن المأخوذ
فى هذه الحالة يثقل على النفوس من الجانبين؛ الزوج يراه كالغرامة والولي
والزوجة يريانه كالصدقة. ومن نظر فى التعامل والآداب الإسلامية يرى أن ما
جرى عليه المسلمون من إمضاء الولي أمثال هذه الأمور ، وعدم حضور البنت
المطلقة إلى مجلس الطلاق وتصريحها بعفو ، أو مباشرتها لقبض. ومن اتفاق
الناس على أن هذا لا يليق بها ، ومن التسامح بين الأولياء والبنات لا سيما إذا كان
الولي أبا أو جدًّا ، كل ذلك من العمل بآداب القرآن وفضائل الإسلام. وهناك آيات
أخرى كآية النساء: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} (النساء: 19) وآية البقرة: {وَلَا
تُنكِحُوا المُشْرِكِينَ} (البقرة: 221) خاطب الرجال لأنهم هم الذين يزوجون ولم
يخاطب النساء بذلك قط.
وأما الحديث فقد روى أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا
البكر حتى تستأذن) . وهو يُفهِم أن حق مباشرة العقد للرجال ، ولكنه أوجب أن
يكون برضى النساء ، فالثيب لابد من أمرها صريحًا ، ويُكْتَفَى أن يستأذن البكر
فتسكت ، ولذلك قالوا: يا رسول الله ، وكيف إذنها؟ قال:(أن تسكت) وهذا أصح
حديث فى الباب اتفق عليه أهل الصحيح ، وهو يدل على أن من الآداب الاسلامية
أن لا تصرح البكر بطلب الزواج لأنه لا يليق بالحياء الإسلامي الذى هو فخر لها
وهي لا تعرف الرجال ، فليعقل هذا من يقولون: إن الشريعة أعطت للبنت الحق
في أن تزوج نفسها بدون رضاء أبيها أو غيره فلا يصح أن يقال: إن ذلك مخالف
للآداب الدينية. وفى حديث عائشة المتفق عليه قالت: قلت: يا رسول الله تستأمر
النساء في أبضاعهن؟ قال: نعم. قلت: إن البكر تستأمر فتستحي فتسكت. فقال:
(سكاتها إذنها) وفى رواية (إذنها صماتها) ، وهذا الاستفهام من عائشة يدل
على أنه لم يكن يعهد فى ذلك العصر أن يزوج المرأة غير وليها ، وكأنهم رأوا من
الغريب أن تستأمر في ذلك.
وقالوا: ينبغي أن تعلم البكر أن سكاتها إذن. ولا ينافي هذا حديث ابن عباس
عند مسلم وأصحاب السنن (الثيب أحق بنفسها من وليها ، والبكر تستأذن فى نفسها
وإذنها صماتها) لأنه يحمل على أنه لا يزوجها إلا بأمر صريح منها جمعًا بين
الأخبار الماضية والآتية وموافقة للكتاب ، وأنه لا يصح العقد إلا بذلك ، وأما البكر
فيجب استئذانها ، ولو زوجها بدون إذنها يكون العقد موقوفًا على إجازتها ، ويدل
على ذلك فى الموضعين ما تقدم في الجزء العاشر من حديث عبد الله بن بريدة ،
وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أمر الفتاة لها فأجازت عقد أبيها وتزويجه إياها.
وحديث خنساء بنت خدام الأنصارية وهو أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك ،
فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها رواه أحمد والبخاري وأصحاب
السنن.
وعن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي)
رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وكذلك ابن حبان والحاكم وصححاه ، وذكر
له الحاكم طرقًا ، وقال: قد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش ، ثم سرد تمام ثلاثين صحابيًّا فلا يضر
مع هذا وما سيأتي الاختلاف فى وصله وإرساله.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة نكحت بدون إذن
وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل ، فإن دخل بها فلها المهر بما
استحل من فرجها ، فان اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له) رواه الذين رووا
ما قبله ، وحسنه الترمذي منهم ، وأخرجه أيضًا أبو عوانة وابن حبان والحاكم
وأعلوه بإنكار الزهري له ، وأي مانع من نسيانه إياه ، وقد رواه عن ابن جريج
عشرون رجلاً. ورواه أبو داود الطيالسي بلفظ (لا نكاح إلا بولي ، وأيما امرأة
نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل ، فإن لم يكن لها ولي فالسلطان
ولي من لا ولي له) .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزوج
المرأة المرأة ، ولا تزوج المرأة نفسها؛ فإن الزانية هي التي تزوج نفسها) رواه
ابن ماجه والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات. وروى الشافعي
والدارقطني عن عكرمة بن خالد قال: جمعت الطريق ركبًا ، فجعلت امرأة ثيب
أمرها بيد رجل غير ولي ، فأنكحها ، فبلغ ذلك عمر فجلد الناكح والمنكح ورد
نكاحها. وقد نقل بطلان العقد بغير ولي عن علي وعمر وابن عباس وابن مسعود
وأبي هريرة وعائشة ، وهؤلاء أعلم الصحابة ، وقال الحافظ ابن المنذر: إنه لا
يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. فتبين أن الكتاب والسنة وعمل الصحابة
وأقوالهم وإن شئت قلت كما يقول الفقهاء: إجماعهم على أن النكاح لا يصح بدون
ولي ، وجرى على هذا سلف الأمة وخلفها عملاً. حتى الحنفية الذين رووا عن
أئمتهم في المسألة روايتين؛ ظاهر الرواية أن نكاح الحرة العاقلة البالغة ينعقد
برضاها ولو بدون ولي قال فى الهداية: (وعن أبى يوسف أنه لا ينعقد بدون ولي ،
وعن محمد: ينعقد موقوفًا) وقولهما هو الموافق للأحاديث ، فهل يصح أن يترك
الحنفية هذ القول عندهم المؤيد بما رأيت من النصوص وعمل الصحابة لأجل تلك
الرواية المخالفة لذلك؟ تأمل وأنصف.
هذا هو شرع الله فى المسألة ، وحكمته ظاهرة ، وشرحها بالتفصيل يتوقف
على إعادة ما كتبناه غير مرة في استقلال النساء وولاية الرجال عليهن ، ونقول هنا
بالإيجاز: إن النساء كن قبل الاسلام كالعبيد والماعون عند العرب وغيرهم ،
فرفعهن الله إلى مساواة الرجال فى الحقوق ، والتصرف فى الأموال ، ولكنه جعلهن
تحت ولاية الرجال ، ولم يعطهن تمام الاستقلال فأوحب أن يكون للمرأة قيم يسوسها
ولكن ليس له أن يتصرف فى مالها ولا فى نفسها بدون إذنها ورضاها بالمعروف ،
وهذا القيم هو الأب ثم الأقرب فالأقرب من محارمها حتى تتزوج فيكون الزوج هو
القيم والرئيس عليها ، فليس لها أن تنفصل من البيت موقتًا بسفر بعيد بدون ذي
محرم ، وليس لها أن تنفصل منه بالمرة بالزواج بدون إذن الأقرب فالأقرب من
قوام البيت ، فلابد من اتفاقها مع وليها في إنفاذ هذا الأمر الذى يهمه ويهمها لأنها
خلقت للقيام بأمر بيت ، فإذا طلقها الزوج فإنها تعود إلى بيت الولي فلابد أن يكون
للولي يد في اختيار الزوج لها لئلا يلحقه من سوء اختيارها أذى أو عار. ولأنه
أعرف بأحوال الرجال منها ، وأبعد عن الهوى فى الاختيار ، ولأن من مقاصد
المصاهرة التآلف بين البيوت (العائلات) والعشائر، وانفرادُ المرأة باختيار الزوج
ينافي ذلك ، ويكون سببًا للعداوة والبغضاء. ولأنه ليس في اتفاق الولي معها على
انتقاء الزوج وتوليه العقد عنها أدنى هضم لحريتها بعدما علم من اشتراط رضاها -
ولهذا المعنى ورد في الأحاديث أيضًا طلب استئذان الأم والعلم برضاها - وما علم
من تحريم العضل أي الامتناع من تزويجها بمن يليق بها ويرجى أن يحسن
عيشها معه كما نطقت به النصوص السابقة. وإذا اتفق أنها اذا أرادت زوجًا لم يرده
هو بلا عذر ككونه غير كفؤ يلحقه به العار هو وبيته فقد جعل لها الشرع مخرجًا
برفع أمرها إلى الحاكم ، فتبين بهذا أن اشتراط الولي مع رضى الزوجة فى العقد
هو الذى يتم به نظام البيوت ويليق بكرامة النساء والرجال معًا ، وأن الخروج عنه
خروج عن الشريعة والمصلحة جميعًا. وأي فساد في العائلات أكبر من خروج
العذارى من بيوتهن وعدم عودتهن إليها لاختيارهن أزواجًا يعقدن عليهم ويدعن
آباءهن وأهلهن في حيرة واضطراب ، ويوقعن بينهم وبين الزوج وأهله العداوة
والخصام ، وقد أشرنا إلى اشتراط الولي في مقالة الكفاءة ، وهذا تفصيله ودليله
والله عليم حكيم.
* * *
زواج الشيعي بالسنية
(س59) ز. ف. في (القاهرة) : هل يجوز للسُّنّيّة أن تتزوج بشيعي أم
لا؟
(ج) قد علم مما ذكرناه في جواب سؤالك السابق وما قبله أن هذا جائز ،
وذلك أن أهل السنة يذكرون من مناقبهم التي يفضلون بها سائر أهل المذاهب
الإسلامية أنهم لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة وإنْ كفرهم متأول ، وقد صرحوا
بصحة إيمان الشيعة لأن الخلاف معهم في مسائل لا يتعلق بها كفر ولا إيمان
فالشيعي مسلم له أن يتزوج بأية مسلمة. وإذا نظرنا إلى ما أصاب المسلمين من
التأخر والضعف بسبب العداوة المذهبية ، وأننا في أشد الحاجة إلى التآلف
والتعاطف والاتحاد يتبين لنا أن مصاهرة المخالف فى المذهب ضرورية في هذه
الأيام التي أحس المسلمون فيها بخطئهم السابق فى التنافر والتباعد لأن المصاهرة
من أعظم أسباب الاتحاد.
* * *
تعدد الجمعة وإعادة الظهر
(س60) السيد محضار بن حسن فى (سنغافوره)
ما قولكم دام بقاؤكم فيما هو الجاري ببلد سنغافوره من تعدد الجمعة فيها فى
نحو أربعة عشر مسجدًا مع ما تعلمون من قول متأخري الشافعية في تعددها على
هذا النحو. ولكن هل يجوز الإنكار على من اقتصر على صلاة الجمعة ولم يصل
بعدها الظهر ويباح ثلبه والاستخفاف به أم لا؟
(ج) إن الشافعية يشترطون لوجوب إعادة الظهر أن يكون تعدد الجمعة
لغير حاجة بأن يكون بعض هذه المساجد كافيًا للمصلين. وإذ كانت هذه المسألة من
المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص عن الشارع فلا يجوز أن ينكر فيها على
من لم يصل الظهر بعد الجمعة ، وتجعل سببًا للتنازع بين المسلمين. ودليل
الشافعية على إعادة الظهر ضعيف جدًا ، وإن كان ما فهموه من قصد الشارع اجتماع
الناس والحرص على عدم تفرقهم صحيحًا ، فإن هذا لا يقتضي أن يطالبوا
بفريضتين فى وقت واحد فإذا قلنا بالتقليد فلا يجوز للشافعي أن ينكر على من اتبع
غير مذهبه؛ لأن جميع الأئمة على هدى من ربهم وإذا اتبعنا الدليل وقوته كان لنا
أن ندعوا الشافعية إلى ترك إعادة الظهر ولكن بالتي هي أحسن ، ولا يجوز
لمسلم أن يهين مسلمًا أو يثلبه لأجل الخلاف في أمثال هذه المسائل الظنية ، والله
أعلم وأحكم.
* * *
الذكر مع النطق باسم العدد
(س61) ومنه: ما قولكم فيما صرح به كثير من المتأخرين من أن من قال
في الصلاة هكذا: سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاثًا - بلفظ ثلاثًا - لا بتكرير
التسبيح؛ حصل له كمال السنة وكذا لو قال بعد المكتوبة: سبحان الله ثلاثًا وثلاثين ،
الحمد لله كذلك ، الله أكبر كذلك ، بهذا اللفظ حصل له الفضل الموعود ، وإن قال:
سبحان الله مائة ألف مرة يحصل له ثواب من كررها مائة ألف مرة ، وما توسط
به بعضهم فقال: له أجر أكثر ممن قالها بدون لفظ العدد ، لكنه دون أجر من كرر
العدد. وقد خالف هذا بعض من حضر قراءة عبارات المصنفين المذكور فحواها
فقال: إن النبي قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وما بلغنا أنه ألحق ثلاثًا بشيء
من أذكار الصلاة ، بل أمر بتكرير الأذكار ، ولم يفهم أحد من الصحابة ما فهمه
هؤلاء المصنفون فمن أدخل في الصلاة ما ليس فيها فقد عصى وتلاعب وابتدع.
أما في غير الصلاة فما ورد على النبي الله عليه وسلم نحو سبحان الله وبحمده عدد
خلقه إلخ فلا شك أن فيه فضلاً كبيرا بموجب الوعد وليس لنا أن نقيس عليه ، وذكر
احتجاجًا وردًّا على ما احتج به المخالف لا حاجة إلى تسطيره لكم وقد أحببنا
استجلاء هذا الحقيقة منكم فأفيدونا ، ولكم الفضل.
(ج) ما قاله هذا المعترض على المؤلفين هو الحق وكلامه كلام فقيه في
الدين ، وقد صرحنا فى المنار مرارًا بأن العبادات لا قياس فيها. والعجب من
هؤلاء المصنفين يمنعون الاجتهاد بمعنى الاستدلال على الأحكام وفهم الكتاب والسنة،
ويبيحون لأنفسهم الاجتهاد بالتلاعب فى الدين وتغيير بعض أحكامه والزيادة
والنقص من عباداته مع إكمال الله إياه فقولهم: يكتفى فى أذكار الصلاة المكررة
التلفظ باسم العدد يقتضي اذا سلم أنه يجوز لنا أن نغير الأذان بأن يقول المؤذن:
(ألله أكبر أربع مرات. أشهد أن لا إله الا الله مرتين) ، وهكذا بذكر لفظ العدد، وما
هو إلا قياس شيطاني يراد به إفساد الدين. فهو قول باطل لا يلتفت إليه. أما قول
الذين سميتموهم متوسطين فهو ليس بشيء أيضًا ، وإن كان لا يبلغ فساد الأول
وقبحه ، فإن ذكر لفظ العدد لغو ليس له أثر في النفس؛ فنقولَ: إنه مفيد بأثره ،
ولم يعد عليه الشارع بشيء؛ فنقولَ: إننا نسلم به تعبدًا ، وليس هو من قبيل:
سبحان الله وبحمده عدد خلقه. فإن هذه الصيغة أمثالها كقولك: الحمد لله عدد نعم
الله ، لها أثر فى النفس بما فيها من الاعتراف بكثرة النعم ، وتذكرها مجملة ،
واعترافك باستحقاق المنعم بالحمد عليها ، وإنما كان الذكر عبادة باعتبار ما له من
مثل هذا الأثر في النفس ، ولا ثواب عليه من حيث هو حركات فى اللسان وكيفية
فى الصوت ، وإنما الثواب عليه بما ذكرنا من تأثيره فى النفس ، فإن ذاكر الله مع
هذا الحضور ينمو الإيمان في قلبه ويصير كثير المراقبة لله تعالى ، وذلك أعظم
رادع عن الشرور والرذائل ، ومرغب فى الخيرات وأعمال الفضائل ، والمراقبة
تثمر الخشية كما أن الذكر يثمر الأنس بالله تعالى أيضًا ، وناهيك بذلك سعادة لا
يعرفها إلا من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ، ولهذه المعاني قوبل
الذاكر بالغافل فكان ضده ، وإنما موضع الغفلة القلب فهو موضع الذكر أيضًا ، وإنما
اللسان محرك لقلب المبتدئ وضعف الإيمان كما أن القلب هو المحرك للسان المؤمن
الكامل. بل الذكر فى الأصل هو ذكر القلب ، ومنه التذكر والذكرى والأقوال التى
تكون سببًا لذكر القلب تسمى ذكرًا مجازًا. ولو كان ذكر اللسان مفيدًا بذاته لكان قول:
لا إله إلا الله ممن لا يفهم معناها أو لا يعتقده نافعًا والأمر ظاهر لا يحتاج إلى
زيادة إيضاح.
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
التربية بركوب البحر
الشذرة الرابعة عشرة من جريدة الدكتور أراسم [*]
عن ميناء لوندرة في 3 مارس سنة 186
(في البحر) تقرر أن يقلع أصحاب السفينة التي تقلنا في يومين ، وها نحن
أولاء ننام فيها الآن.
ذلك أني كنت قرأت في الصحف الإنكليزية منذ ستة أسابيع إعلانًا بأن
سفينة تسمى المونيتور تسافر عما قليل إلى بلاد البيرو فلم ألبث عند وصولي إلى
لوندرة أن سألت عنها ولاقيت ربانها في أحواض الميناء، وهو رجل في نحو الثانية
والأربعين من عمره أسمر قصير بادن ، تؤذن بدانته بأن ستنتهي بسمن مفرط مع
ما هو فيه من معيشة الجد والنشاط. ويطري الناس خبرته ومتانة سفينته ، وإني
قلما صادفت وجهًا أطلق من وجهه ، وأدل منه على الذكاء والاستقامة، وقد
تبين لي أنه عَرَفَ في مواني إستراليا ربانًا جسورًا انقطع للملاحة لا يعرف غيرها،
كنت سافرت معه فيما سبق واتخذته صديقًا ، فلما علم أني صديق صديقه أقبل علي
بصدر رحب وقلب سليم ، وكان من نتيجة هذا التعارف أن اتفقنا على أن أكون طبيبًا
للسفينة كما كنت لذلك الصديق ، وأن يكون (أميل) تلميذًا بحريًّا في مدة السفر.
لما سمعت والدته بهذا ارتاعت في أول الأمر لما توقعته له من سوء الطالع
في ذلك العمل فاجتهدت فى تسكين روعها مبينًا مقاصدي منه.
بلغ (أميل) الآن من السن أكثر من ثلاث عشرة سنة ، وأصبح طويل القامة
قوي الجسم يتمتع بصحة تامة من أسبابها فيما أرى نظام المعيشة الذي جرى عليه ،
وقد بدا لي أن اشتغاله بتعلم الملاحة فرصة مفيدة لتربية قوته البدنية وشد أعضائه
وتذليل عضلاته بأعمال تقتضي من المهارة مثل ما تقتضيه من الشجاعة الحقيقية ،
فإني وهيلانة ما قصدنا قطعًا أن نجعله واحدًا من أجنة العلم الفاسد الذين لا حياة لهم
إلا في رؤوسهم ، فليعجب من شاء بأولئك المراهقين السقام المخدجين [1] الذين
أعجزهم الدرس عن العمل ، فليس هذا هو الكمال الذي نطلبه (لأميل) .
رأيت الناس في مكان لا يحضرني اسمه الآن يجرحون باطن الصَّدَفَة في
بعض الحيوانات الرخوة بطرف خنجر؛ ليحملوا هذه الحيوانات على توليد اللؤلؤ
بالصناعة ، فذلك يشبه أن يكون شأن المربين مع أحسن التلامذة فهم يتلفون بناهم ،
وينهكون أجسامهم ولا أدري أي قصد لهم فى ذلك سوى الحصول على مجموع من
المعاني تتحجر فى أذهانهم تواضعوا على أن يسموها علمًا ، وإني لفي شك من أن
ما يحصله المتعلمون من المعاني يعوضهم شيئًا مما خسروه في سبيل تحصيله من
قواهم وما أتلفوه من صحتهم. ولست أقصد بقولي هذا تثبيط المتعلمين عن العلم
فإن الإنسان خلق ليعلم ، وإنما أريد أن يفهموا أن العمل البدني والعمل العقلي
متكافئان في لزومهما لتقوية العقل وإحصافه فعلينا أن نربي كل ما وهبه الله لنا ولا
نستخف بشيء منه.
استشرت (أميل) قبل اعتزامي على هذا الفكر فألفيته مملوء النفس به لأنه
كجميع أترابه يحب الجديد، ويأنس من نفسه فخرًا بتعلمه حرفة ، ويجب في هذا
المقام أن أبين مرادي وهو أني لا أعتقد بحال أن من حقي أن أختار لولدي عملاً
تقوم به معيشته ، كما أني لا أدعي لنفسي حق إلزامه الإيمان بعقيدة دينية أو سياسية.
على أنه لما يأت وقت التفكير في الحرفة التي ينبغي أن يشتغل بها ولا أدري هل
يعرف بنفسه ما يلائمه من الحرف أم لا؛ فإن تربيته في غاية البعد عن نهايتها ،
بل هي في بدايتها ولكني أرى أنه مهما حذق المربي في التبكير بإنشاء الطفل على
الميل إلى النفع والطمع فيه لم يكن ذلك منه عجلة مذمومة ، ولقد عرف (أميل)
مما تلقاه على والدته من الدروس شرف العمل وكرامته فتراه يتخيل الآن أنه
سيكسب أجرة سفره بتسلقه شُرُع السفينة، وهو تخيل غير صحيح إلا في جزئه
غير أني تحاميت كل التحامي إزالة هذا الوهم من نفسه، وتركت له أن يفخر بأنه
يطعم خبزه الجاف بكده ونصبه، فإن أقل ما في هذا أنه مفخرة كنت جديرًا باللوم
لو أني حرمته منها.
ثم إن التعليم في سفينة تجارية مفيد ومقو للعقل خصوصًا إذا كانت مدته لا
تتعدى بضعة شهور ، فحرية الإنسان على ظهر البحار هي أن لا يخضع إلا إلى
الواجب ، فطاعة البحار في الحقيقة فيها شيء من الاختيار ، وهذه هي الخاصة
الفارقة بينه وبين الجندي ، فالرجل الذي يرى من نفسه الجهل ببعض نواميس
الكون فيبدي من قوتها ما يكفي لامتثال أمر الربان وهو يعلمه بقول موجز ما جهله
من تلك النواميس يكون قد جمع في عمله هذا بين الاستقلال والحكمة.
لست أبالغ لنفسي مطلقًا فيما لهذا التعلم من الآثار الحسنة والنتائج المفيدة،
فإني أعلم أن (أميل) لن يكون بحارًا لمجرد ما يمارسه من ضروب التمرن في
حبال السفينة بيد أن بلاءه في ذلك لا يمكن أن يتخلف عنه استفادته منه فإنه
بواسطته يتعلم شيئًا من أحوال البحر، وبه يعرف أجزاء السفينة الأساسية وما
يطلق عليها من الأسماء فكثير من أترابه لا يعرفون شيئًا من أمر هذه الدنيا السارحة.
أخص ما أعني به في هذا الأمر أن يحصل في ذهنه بالاختبار والمشاهدة معنى
من القوى الكونية العظمى، وما يلزم للإنسان في مقاومتها لو قهرها من ثبات
الجأش وحضور الفكر، وسيكون هذا أعظم درس له في سفره. ومما لا يسعني إلا
أن أضحك منه أنني أسمع بعض المعلمين يقولون لغلمانهم المتبطلين الذين ورموا
من صغرهم كبرًا وغرورًا: إنهم ملوك الخلق فهلا وصفوهم أيضًا بأن أيديهم
البيضاء الرقيقة لم تخلق إلا لتقود عجلة الشمس في أرجاء السماء؟ رويدًا أيها
المعلمون ، قفوا هؤلاء الملوك أمام البحر فانظروا ما يعتريهم من الرعب خشية أن
تبصق أمواجه الكثيفة في وجوههم.
وأما (أميل) فإنه لا بد أن يتعلم من الآن ما يجب أن يبذله الإنسان في سبيل
سيادته على الفواعل الكونية ، وكيف ينبغي أن يكون معها في كفاح مستمر ليحفظ
سلطانه على عرش الماء.
حادثت الربان وهو رجل شهم في شأن ولدي، وكاشفته بفكري في تربيته ،
ففهم حق الفهم الدرس الذي أردت تعليمه إياه وهو أن من المفروض على الشبان أن
يعتبروا العمل العقلي جزاء للعمل البدني ومكافأة عليه. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر وهو تابع لما نشر في الجزء الرابع عشر من المجلد السادس.
(1)
المخدج هو الذى يولد تاقصا بعد تمام مدة الحمل.
الكاتب: عبد الله الجيتيكير
قصيدة في ندوة العلماء بالهند
تفضل علينا صديقنا الشيخ عبد الله الجيتيكير من بمبي (الهند) بإرسال هذه
القصيدة التي قدمها إلى ندوة العلماء التي اجتمعت في شهر شوال سنة 1321هـ،
وكتب إلينا أن بعض المسلمين اشتدوا في السنة الماضية في مقاومة الاجتماع
وإبطال الاحتفال وجاءوا بأمور لا تحمد عند عاقل ، ولكن عزم رجال الندوة غلب
حزب التفريق والتمزيق ، وصديقنا يعرض بذلك. وبهذا فهمنا ما في قصيدة أبي
بكر بن شهاب في الجزء الماضي من التعريض ، والشيخ عبد الله هذا هو أخو فقيد
العلم والأدب صديقنا المرحوم محمد الجيتيكير صاحب القصائد السابقة في المنار.
وإننا ننشر القصيدة برمتها لما فيها من النصيحة والتذكير.
قال حفظه الله:
دع ذكر ربات الكلل
…
وذر الصبابة والغزل
القلب مشغول فما
…
للعشق فيه من محل
قد عمَّنا الداء العضا
…
ل من البطالة والكسل
داء أخل بعقلنا
…
والجسم منه قد اضمحل
داء به فسد المزا
…
ج وفي الطباع بدا الخلل
داء لقد سلب القوى
…
منا وعوض بالشلل
داء تعطل منه إحْ
…
ساساتنا والخطب جل
خطب أباد جموعنا
…
حتى اتصفنا بالفشل
خطب لهول وقوعه الـ
…
ولدان رأسهم اشتعل
خطب تزلزلت الأرا
…
ضي منه واندكّ القلل
خطب أقام قيامة
…
قبل القيامة منذ حل
وارحمتاه لحالنا
…
إذ في انحطاط لم نزل
ما زاد كثرتنا سوى الن
…
قصان فينا والعطل
قد زال شمس نهارنا
…
فى غفلة وبدا الطفل
فالآن إن لم تنتبه
…
هل بعد فينا من أمل
واخيبتاه لقد أظلتنا
…
من الذل الظلل
تترى أمام عيوننا الـ
…
آفات تمطر كالهمل
يا أيها الملأ انظروا
…
ماذا بساحتكم نزل
جلت لديكم نِقْمَة
…
مذ نجم عزتكم أفل
هل فيكم من نهضة
…
تنجيكم مما حصل
هل عدة مع عدة
…
نرجو بها دفع الجلل
ما عندكم غير اللسا
…
ن وليس يتبعه عمل
فَلَكَمْ وَكَمْ بتم تعدون
…
المصائب بالجمل
هل ما أفاد مقالكم
…
بين الورى غير الخجل
ليس الكلام بمنجد
…
ما دام قائله وكل
إن الكلام بغير فِعْ
…
لٍ كالبكاء على الطلل
كم ذا التراخي منكم
…
كم ذا التكاسل والمهل
كم ذا التعصب بينكم
…
كم ذا التنازع والجدل
كم ذا التجاهل والتغا
…
فل والتساهل والمطل
أودى تأخركم عن الـ
…
أقران فى شر الغيل
لن تفلحوا ما دمتم
…
أسرى لأفكار أُوَل
والدهر حيث شغلتمُ
…
عنه بغيركم اشتغل
لله يا قوم انهضوا
…
وخذوا الحذار من الدغل
وإلى المعالي سارعوا
…
فالجد يعلي من سفل
ها ندوة العلماء بَيْ
…
نَكُمُ أقامت محتفل
من كل غطريف
…
سديد العزم مقدام بطل
من كل نِحْرِير خَبِيـ
…
رٍ عارف سمح أجل
لله ناد قد حوى
…
فضلاء قوم واشتمل
لله درهم فكل
…
منهم المسعى بذل
لله جهدهم فكم
…
قد أصلحوا منا خلل
كم من مسائلَ فيهم
…
تروي الأنام لدى النحل
يا معشر الإسلام فَاتَّـ
…
بِعُوهُمُ وذروا المذل
فهم الأساة وعندهم
…
لكم الشفاء من العلل
وارعوا حقوق إخائكم
…
ودعوا النزاع على الأقل
ويكون همكمُ لإصْـ
…
لاح الفساد وما أخل
بتفرق منكم لقد
…
ضاقت بنا حيل الحيل
لن تستقيم شؤونكم
…
والحبل منكم منفصل
يا للحمية أسعدي
…
فتشددي فينا الوصل
حتى نثقف حال أحـ
…
داث فأمرهمُ أجل
إن الزمان لمُنْتَهٍ
…
والعمر يمضي بالعجل
لا ينفعن تأسف
…
من بعد ما يقضى الأجل
والله ليس نفوسنا
…
تركت سدى مثل الهمل
فغدا سيُسْأَل كلنا
…
عما جناه وما فعل
ماذا يكون جوابنا
…
أفلا نجيب إذا نسل
هذا وما غرضي سوى
…
الذكرى ولا أبغي بدل
ما الدين إلا النصح
…
والهادي هو الله الأجل
يا رب وفقنا لما
…
ترضاه من حسن العمل
واهد الصراط المستقيـ
…
م جميعنا وقنا الفشل
وانصر بلطفك ندوة الـ
…
علما وبَلِّغْهَا الأمل
وأَعِنْ عبادك في الذي
…
شرعوا به واشف العلل
واجعل لنا من أمرنا
…
فرجًا وكن لمن اقتبل
وافتح بفضلك بيننا
…
بالحق واقبل من سأل
وأدم صلاتك والسلا
…
م على الذى نسخ الملل
والآل والأصحاب ثم
…
التابعين ومن كمل
وسقى سحاب الفضل (مِدْ
…
رَارًا) ومن فيها دخل
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المصنفات
(كتاب روح الحياة)
أهديت إلينا من بضعة أشهر رسالة بهذا الاسم مؤلفة من 32 صفحة ، وقد
كتب عليها بعد اسم الكتاب: (الدعوة الأولى) من قلم تحرير جمعية الدعوة
الإسلامية ، ثم كتب بعد ذلك: (تأليف محمد حافظ صاحب مدرسة نور الإسلام
الأهلية) ففهمنا منها أن هناك جمعية للدعوة ، ولكننا لم نسمع لهذه الجمعية قبل
الرسالة ولا بعدها خبرًا، ولم نر لها أثرًا، وقد اعتدنا أن نرى كثيرًا من هذه
المصنفات الحديثة الضخمة الألقاب، فنحوم عليها نبغي الورود فيتبين لنا أنها
سراب، حتى صرنا نرغب عن قراءة أكثر المصنفات الحديثة التى لا نعرف
لأصحابها شهرة في العلم لئلا نضيع وقتنا في غير المفيد. وقد كنا ظننا أن هذه
الرسالة من هذا القبيل قبيل المتهجمين على التأليف ، وطبع ما يكتبون وإن كان
لغوًا إلا أننا أمسكناها لننظر فيها لأنها نسبت إلى جمعية موضوعها الدعوة الإسلامية ،
فلم يتح لنا ذلك إلا اليوم. تصفحنا بعض صفحاتها ، وقرأنا جملاً من مسائلها
فرأيناها كتبت بعقل واشتملت على حكم وعظات نافعة أكثر مما كنا ننتظر ، ولكننا
لم نر فيها دعوة إلى شيء معين محدود يدل على أن وراءه ما هو أرقى منه كما
يتبادر الى الذهن من كلمة (الدعوة الأولى) إذ تفهم الكلمة أن هناك أمورًا مرتبة
يتوقف بعضها على بعض قد شرعت الجمعية في بيانها لإقناع الناس بها. ومواعظ
الرسالة في تقسيم الحياة إلى وجودية وشهوانية واجتماعية ، وفي العوامل الحيوية
في الشخص والعائلة والقوم والوطن ، وفيها فصل في الدين وتأثيره وفضل الإسلام،
وطريقتها في البحث فلسفية. وجملة القول أن الرسالة نافعة نود أن يطالعها
الشبان المصريون الذين لا هم لهم في حياتهم إلا اللذة ، ونشكر للمؤلف والجمعية
هذا العمل ونتمنى أن يزيد نجاحًا ونباتًا.
***
(الحبس في التهمة والامتحان على طلب الإقرار)
رسالة لشيخ الإسلام سعد الدين الخالدي المعروف بابن الديري نقلت من
إحدى مكاتب الآستانة واعتنى بإيضاحها وطبعها محمد روحي أفندي الخالدي المقدسي
باش شهبندر الدولة العلية في مدينة بردو الفرنسية ، وفيها مباحث لا تكاد توجد
مجموعةً في كتاب. بدأها بما ورد في الحبس من نصوص الكتاب والسنة ، وخرج
الأحاديث التى أوردها وذكر عللها وهو ما لم يعهد من فقهاء الحنفية إلا قليلاً ، ثم
ذكر أقوال الفقهاء في ذلك. ومن مسائلها بيان أصل اعتبار غلبة الظن ،
ومراعاة ظواهر الأحوال ، والكلام في الحدود ودرئها والمعافاة منها قبل الوصول
الى الحاكم وعدم العمل فيها بكل اعتراف. والكلام في حبس أرباب التهم وضربهم
لأجل الإقرار، وفي تحكيم القلب في الأمور ، وهو ما يعبرون عنه اليوم بالضمير.
وفي آخرها ترجمة المؤلف وما قاله العلماء فيه ونقلوه عنه. وصفحات الرسالة
تزيد على 80 فنشكر فضل من سعى بطبعها ونشرها.
***
(علم قراءة اليد)
كتاب حديث موضوعه ما يسميه الناس عندنا علم الكف ، وذلك أننا نسمع منذ
الصغر أن من العرافين من يعرف مستقبل الإنسان من النظر في كفه وقراءة ما فيها
من الخطوط الدالة على معاني لا يعرفها إلا أهلها. والعقلاء يعدون هذا ضربًا
من الدجل والاحتيال على الرزق كضرب الرمل والودع والحصى ، ولا تكاد
تجد من يعتقد بأن الكف يدل حقيقة على أحوال الإنسان إلا النساء والجهلة. وما
كنا نظن أن الأوربيين عُنُوا بهذا الأمر ووضعوا فيه المصنفات الموضحة بالرسوم ،
وتصوير تقاطيع الكف وخطوطه حتى ظهر هذا الكتاب.
نقل الكتاب وجمعه من اللغات الأجنبية نجيب أفندي كاتبه رئيس القلم
الإفرنجي بالسكة الحديدية السودانية. واعتنى بضبط لغته الصاغ قولاسي محمد
أفندي فاضل أركان حرب السكة الحديدية السودانية. وهو جزآن أحدهما في فراسة
اليد ، وثانيهما في أسرار الكف ، وفيهما أبواب وفصول كثيرة وتسعة وعشرون
شكلاً. وصفحات الكتاب تقرب من مائتين وثمن النسخة منه 20 قرشًا أو 5
فرنكات وأجرة البريد قرش أو 30 سنتيمًا ويطلب من المكاتب الشهيرة.
***
(تاريخ اليهود)
وضع هذا التاريخ حديثًا شاهين بك مكاريوس الواسع الاطلاع في
التاريخ، وهو مؤلف من فصول في نسب اليهود وأصلهم ، وفي انتشارهم
وتاريخهم قبل الخروج من مصر وبعده ، وفي تفرقهم في الأرض شرقها وغربها ،
وفي ديانتهم وشريعتهم وفرقهم وعوائدهم وأشهر متقدميهم ومتأخريهم وجمعياتهم
ونوابغهم ووجهاء المعاصرين في العصر. وطريقة المؤلف وعادته في كلامه عن
الطوائف والملل النظر إلى الحسن والتنويه به ، وعدم الالتفات إلى ضده بالمرة ،
فهو لا يذكر أمرًا منتقدًا لا على طريقة الاستحسان والرضى ولا على سبيل الرد
والنقض. وقد قرظ كتابه بعض فضلاء اليهود ، واستحسنوا تدريسه في مدارسهم
الابتدائية لاختصاره وسهولته.
(تاريخ إيران) وقد أهدانا المؤلف مع كتابه الحديث المذكور تاريخه لإيران
الذي ألفه من عدة سنين وقدمه للشاه مظفر الدين وهو أكبر من تاريخ اليهود وأكثر
فائدة منه.
***
(الحقائق الأصلية في تاريخ المسونية العملية)
وأهدانا أيضًا هذا الكتاب من تأليفه ، ويعني بالعملية ما ينسب إلى الجمعية من
المباني والآثار الأدبية لا أعمالها السياسية السرية التي كانت من أعظم أسباب
الانقلاب السياسي في أوربا. وفي الكتاب فوائد كثيرة عن هذه الجمعية لا يستغني
الباحثون عن معرفتها ، ولعلنا نتكلم عن شيء من مسائل هذا الكتاب بعد مطالعته.
فنشكر للمؤلف هديته. وهذه الكتب تطلب كسائر مؤلفاته من إدارة المقطم بمصر.
***
(عود على بدء)
صدر الجزء الثاني من هذه القضية المتممة لقصة الفرسان الثلاثة ، وفيها
فوائد جمة عن أخلاق الملوك المستبدين وأحوالهم ، وأهمها أنه لا يؤمن جانبهم ولا
يرجى ودهم ، وفيها من غرائب دسائس اليسوعيين وبراعتهم في السياسة ما
يمثل لك عظمة هذه الجمعية السرية وهول مستقبلها. وأعظم العبر فيها ما كان
من خبر بعض الحراس الثلاثة مع الملك لويس الرابع عشر في مواجهته ببيان
فساد أخلاقه وسوء تصرفه مما يدل على أن أصحاب الأخلاق العالية في كل
زمان ومكان هم الملوك الحقيقيون الذين يحتقر كل أحد نفسه أمامهم وإن كابر وتكبر.
وعتا وتجبر، وثمن الجزء الواحد ستة قروش كما تقدم ويطلب من مكتبة المعارف
بمصر.
***
(شارل وعبد الرحمن)
هي القصة الثامنة من القصص التى وضعها جرجي أفندي زيدان في تاريخ
الإسلام وهي تتضمن فتوح العرب في بلاد فرنسا إلى ضفاف نهر لوار بجوار
تورس وما كان من تكاتف الإفرنج هناك على دفعهم بقيادة شارل مارتل والأسباب
التي دعت إلى فشل العرب ونجاة أوربا منهم ، أما هذه الأسباب التي شرحها
فهي ترجع إلى أمرين: أحدهما قلة العرب في الجيش وكثرة البربر وغيرهم
من الشعوب التى دخلت في الإسلام ، ولم يتمكن من قلوبهم الإيمان ، ولا عرفوا
حقيقة ما يأمر به هذا الدين من العدل وعدم الاعتداء في الحرب ، وتحريم التعرض
لمن لا يقاتل كالرهبان والنساء. فكان هؤلاء الدخلاء لا هم لهم إلا السلب
والنهب ، فتنكرت النفوس التي كانت مالت إلى المسلمين منهم ، وساءت بذلك
سيرتهم. وثانيهما اجتماع كلمة الأوربيين بعد تفرقهم ، وهو أضعفهما.
وثمن النسخة من القصة 10 قروش ، وتطلب من مكتبة الهلال بمصر.
***
(نبراس المشارقة والمغاربة)
جريدة ظهرت في مصر مديرها السيد مصطفى بن إسماعيل وهي جريدة لا
كالجرائد التى تظهر كل آن في مهاب الأهواء المتناوحة في مصر فتعلو وتسفل ،
وتيمن وتشأم ، وتمين وتصدق ، بل هي جريدة تحالف فيها القول مع الاعتقاد ،
وتآخى الاعتقاد مع الدين ، وجرى الدين كعادته مع حسن النية فهي تأمر بالمعروف
وتنهى عن المنكر في الأمور العامة بحسب ما يصل إليه علم من يكتبها وفهمه. وقد
انتقدنا عليها إطالة الكلام في المسألة الواحدة كالكلام في العرب ومراكش ولو
نوعت المباحث لكانت أحب ، وهي تصدر في الشهر ثلاث مرات ، وقيمة
الاشتراك فيها 50 قرشًا في مصر و10 روبيات في الهند وزنجبار و16 فرنكًا في
سائر البلاد. فنسأل الله أن يهديها طريق الرشاد، ويهبها الثبات والسداد، إن الله
بصير بالعباد.
***
(سيف العدالة)
جريدة سياسية أدبية انتقادية إرشادية فكاهية أسبوعية موقتًا لصاحبها حسن
أفندي لبيب البري ومحمد توفيق أفندي البحري ، ولما كان أحد صاحبيها بريًّا
والآخر بحريًّا ، ، وكان موضوعها الانتقاد ، فيتوقع أن يبينا فيها ما ظهر من الفساد
في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ، ويلبسا ذلك ثوب الانتقاد، ليكون ذلك من
جزاء أولئك الأفراد. {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) ، وقيمة
الاشتراك في الجريدة 80 قرشًا عن سنة في مصر و35 عن 3 أشهر و30 فرنكًا
في الخارج ، فنتمنى لها التوفيق والنجاح.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(مراكش والإصلاح وحال المسلمين)
كتب إلينا من فاس أن أبا حمارة يكون سلطنة في تازه. وأنه ظهر خارجٌ آخر
يدعى أبا عمامة (وهو معروف) ، وأنه ليس لدى الحكومة في فاس أكثر من ألف
جندي ، وأن الخزينة مفلسة فإن الدين الذي أخذه السلطان عبد العزيز من فرنسا قد
اشترى به من باريس كثيرًا من الأثاث والرياش والماعون وأدوات الزينة
والزخرف، وأن فرنسا قد استلمت إدارة المكس (الجمرك) بطنجة في مقابلة المال
الذي أخذه السلطان منها ، وقدره 62 مليون فرنك وابتدأت بالعمل. وأن بعض
الوزراء ميال لسياستها كما كان المهدي المنبهي ميالاً إلى إنكلترا حتى إنه دخل في
حمايتها رسميًّا، وهو وزير وإن كان لا حق له في ذلك، وإن جهل هذا الوزير
الذي ذهب بما كان عند الدولة من السلاح الكثير، وأفسد عليها جيشها وأطمع
الخارجين فيها، وأن السلطان قد صادره بعد عودته من الحج هو وكاتبه، وقد
قبض على كاتبه ، وامتنع هو في طنجة بحماية قنصل إنكلترا. ويظن الكاتب أن
في تداخل فرنسا في شئون البلاد خطرًا عظيمًا لأن جميع القبائل مستعدة للمقاومة
بالقوة وأنهم ما أبغضوا السلطان إلا لميله إلى الأجانب، ولولا ذلك لم تمتد دعوة
الخارج وتقوى شوكته.
هذا ملخص ما كتبه الكاتب من أخبار البلاد وهو يقول مع هذا ما يعلمه
المختبرون من أن أكثر علماء تلك البلاد لا يزالون على ما كانوا لم تحدث لهم
موعظة ، ولا تجدد لهم اعتبار ، ولا اقتنعوا بالحاجة إلى شيء من العلم والعمل غير
فقه المالكية ومقدماته ، وعامتهم لا تزال تعتقد مع أكثر خاصتهم أن أعظم واق للبلاد
هو وجود قبور الأولياء فيها لا سيما سيدي إدريس الأكبر رضي الله عنه، ولو
عرفوا مع كتب النحو والفقه شيئًا من تاريخ المسلمين؛ لكان لهم فيه عبرة ، فإن
معظم بلادهم خرجت من أيديهم واستولى عليها الإفرنج على بُعْد أكثرهم عنها ،
وكان أهلها يقولون بقول أهل مراكش ويعتقدون اعتقادهم.
كان أهل بخارى قبل فتح الروسية لبلادهم يرون أن قراءة البخاري وسرِّ
سيدي بهاء الدين شاه نقشبند إمام الطريقة المشهورة كافيان لحماية البلاد من كل
سوء، وقد دخلت الجنود الروسية عاصمتهم ، وهم مشغولون بقراءة البخاري ، فلم
تغن عنهم قراءة البخاري ولا البخاري نفسه ولا شاه نقشبند شيئًا من عذاب الله الذي
تركوا سنته في خلقه وأمره فى كتابه {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال:
60) .
يتوقف امتثال أمر الله في هذه الآية على معرفة الفنون العسكرية، ومنها
الرياضية والطبيعية التي يُحرِّمها الغفل من الفقهاء باسم الدين؛ فيحرموا ما فرضه
الله تعالى على الأمة اعتداء على الله وافتئاتًا على دينه ، والعامة تغش بهم لأنها
اعتادت على تقليدهم. ومن ينير الله تعالى بصيرته ويؤتيه فهمًا في كتابه فيحاول
إقناع الناس بما أوجب الله تعالى عليهم من الاستعداد للأعداء بمثل ما يستعدون به
لإزالة سلطة الإسلام - وهو العالم حقًّا - يهيجون عليها العامة بأنه يدعوهم إلى
علوم الكافرين ليفسد عليهم دينهم ، وأن ما يستدل به على دعاويه من كتاب الله
تعالى غير جائز لأمثاله؛ لأنه مخصوص بالذين ماتوا من المجتهدين، ولكن كيف جاز
لهم هم أن يجتهدوا بجهلهم فيحلوا ويحرموا بأهوائهم من غير بينة ولا دليل.
هذا ما وصلت إليه الأمة الإسلامية بإرشاد علمائها، واستبداد سلاطينها
وأمرائها حتى نزع الله منهم أكثر ممالكهم، ولا تزال الأمم الإفرنجية تستولي على
بلادهم مملكة بعد مملكة، ولا يرجع المتأخر عما كان عليه المتقدم. فمن نعاتب
ومن نخاطب.
الخواص والزعماء هم الذين ينهضون بالأمم، ولكن طول عهد المسلمين
باستبداد الأمراء قد أفسد النفوس، وطول عهدهم بالجهل والتقليد قد أفسد العقول،
فأي زعامة ترجى مع فساد نفس المرء وعقله.
تنحي جرائد هذه البلاد على السلطان عبد العزيز وتنعي عليه إسرافه في اللهو
واللعب واللذات الحسية، وكل أمراء المسلمين كذلك، بل يعرفون من طرق
الشهوات واللذات ما لا يخطر له على بال، وإنما يلام هذا السلطان على كونه لا
يعرف شيئًا غير اللهو، وأنى له أن يعرف شيئًا و (العلم بالتعلم) ، وهو لم يتعلم
من علوم السياسة وإدارة الممالك شيئًا، ثم أنَّى له أن يعمل بما عساه يعلمه،
و (الحلم بالتحلم) أي أن الأخلاق والأعمال الحسنة إنما تنشأ عن التربية والتعود عليها،
وهو لم يترب إلا على اتباع ما يحب ويشتهي ، وإننا نرى من تعلم مَنْ أمرائنا
وعرف ما لم يعرفه غيره لا يتبع إلا هواه إلا أن يعجز عنه ويضطر إلى غير ما
يهوى اضطرارًا.
الواجب على الجاهل بما ينبغي له علمه وتتوقف عليه سعادته إن كان عاقلاً
موفقًا أن يستعين بمن يعلم ذلك ، ويقدر على العمل به بقدر الإمكان. ولكن طبيعة
الاستبداد كالمخدر في الجسم لا يحس معه المرء بالحاجة إلى الدواء فيسعى بطلبه
ولو أحس لوجد للمقتضي مانعًا ، وهو لذة الاستبداد التي تعلو كل لذة في الكون فهو
يختار أن تطوح أمته في هوة الهلاك على أن يُعارِض استبداده وحكمه المطلق
معارض إصلاح.
السلطان عبد العزيز لا يرى أمامه، ولا حوله داعيًا إلى إصلاح عسكري أو
إداري أو علمي، ولا يشعر بأن الأمة تطالبه بشيء من ذلك، بل ربما كان يعلم أن
أمته تكره كل شيء جديد وإن كان السعادة والسيادة، أفلا يكون معذورًا بالنسبة إلى
سلطان يعلم أن في رعيته الألوف وعشرات الألوف، بل والملايين من العارفين
بدرجة ضعف الدولة ، الشاعرين بخطر الجهل في الأمة والاستبداد في السلطة ،
المطالبين بالإصلاح ثم هو يحاربها كلها، ويسعى في إطفاء كل شعلة للعلم، وجذوة
للغيرة في كل زاوية من زوايا بلادها وقراها ، حتى إنه ليعد من أكبر الجرائم
السياسية الاطلاع على كتاب في فن التربية والتعليم، ويعاقب على ذلك بدون
محاكمة عقابًا لا حد له ولا شرع ولا قانون؟
ساح شاه إيران فى بلاد أوربا ، ورأى فيها من آيات القوة والرقي ما عرفه
الفرق بين العلم والجهل، والعمران والخراب ، والترقي والتدلي، والقوة والضعف؛
فاشتهى أن يصلح حال دولته، ولكنه لا يجد في بلاده من يقدر على القيام
بالأعمال الإدارية ولا المالية ولا الحربية ولا التعليمية.
فههنا شعب إسلامي يحب الإصلاح، ولكن سلطانه لا يحبه، وهناك شعب
إسلامي لا يشعر بالحاجة إلى الإصلاح، ولكن سلطانه يشعر به. فلا شعب يقدر
على تقييد سلطان ، ولا سلطان يقدر على إصلاح شعب، وأما بلاد مراكش فلا
سلطانها يشعر بما يجب ولا شعبها ، فحالها شر الأحوال.
ولكن قد بلغنا أخيرًا أن بعض الكبراء في فاس يشعرون بالخطر الذي ينذرهم ،
ويتمنون لو يقتنع السلطان بمثل ما هم مقتنعون به، ويتفق معهم على العمل
لتلافي الخطر، ثم لا يجدون لذلك وسيلة، ولا يهتدون إليه سبيلاً. المسلمون
مساكين ، المسلمون فقراء، أَمَا إنهم ليسوا فقراء الأيدي ، ولكنهم فقراء العقول
والقلوب ، فإنه لا يزال في أيديهم أفضل بقاع الأرض، ولكنهم قوم يجهلون.
نعم قد رشد من المسلمين أفراد قليلون، ولكنهم في شعوبهم القاصرة ضائعون،
ومع هذا فهم محل الرجاء في جميع الأرجاء، يعدون للإصلاح الأفراد، ويؤلفون
ما استطاعوا بين الآحاد، وإن الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد ، فنسأل الله
أن يسدد أمرهم، ويشد أزرهم ، ويكثر عددهم ، ويقوي مددهم.
* * *
(الحجاج والسلطان والإنكليز)
أرسل السلطان إلى الحجاز لجنة لتحقيق أمر ما كان من التعدي على الحجاج
وسفك دمائهم، ونهب أموالهم، وهذا اعتراف رسمي بالتعدي إجمالاً ، وتكذيب لما
نشر في الجرائد العثمانية نقلاً عما كتبه أمير مكة وإليها بعد الحج من أن الحجاج
كانوا في أمن وراحة واطمئنان. والذي نقل عن اللجنة أنها نفت طائفة من وجهاء
المدينة المنورة إلى جهة الطائف.
والمعروف أن هنالك حزبين يتنازعان ، والحكام ينصرون من كان أكثر لهم
نفعًا ، والناس يعرفون أن علة مصاب الحجاج في مكة لا في المدينة، وهي الأمير
والوالي ، ولكن (المابين) راضٍ عنهما ، فليغضب من شاء من الحجاج وغيرهم.
وعسى أن تكون اللجنة اتفقت مع الوالي والأمير على حفظ الأرواح والرفق بسلب
الأموال إذ لا يرجى المنع من السلب مطلقًا فيما نظن ، فإن الاعتداء على الأرواح
فضيحة كبرى ، وإذا تبين استمراره يبطل الحج لأنه يصير محرمًا بعد أن كان
واجبًا إلا إذا قدر المسلمون على حماية حرم الله، وحرم رسوله رغمًا عن الحكومة.
هذا ما كان من أمر حكومة السلطان في ذلك، وقد أنبأنا البرق بأن مجلس
النواب الإنكليزي بحث من عهد قريب في مسألة الحج المصري ، وسأل حكومته
عن الطريق التي تسلكها في المحافظة على الحجاج المصريين، وهو نبأ جديد لم
يعهد من قبل، ولا غرو فإن الاحتلال الإنكليزي قد دخل في طور جديد بعد الوفاق
بين إنكلترا وفرنسا، ورضاء الدول بالوفاق ، ومنه عدم البحث في أمر الاحتلال
والجلاء ، وتفويض الأمر كله في مصر إلى بريطانيا العظمى بشرط أن تكون
حقوق الدول ومصالحها فيها محفوظة، فهل تفطن الحكومة الحميدية إلى وجوب
منع كل سبب يؤدي إلى تداخل الإنكليز في شأن الحجاز والحجاج؟ هذا ما يتمناه
للدولة والسلطان كل مسلم ، والله الموفق.
* * *
(الرابطة الدينية والحرب الحاضرة)
لقد ظهر لنا من ميل النصارى إلى روسيا في هذه الحرب فوق ما كنا نعرف
ونظن ، فإننا رأينا العوام والخواص منهم يتألمون أشد التألم لكل انكسار وكل خسار
يصيب الجنود الروسية فى الشرق الأقصى ويفرحون أو يتعزون إذا قيل: إنه قد
قتل من العساكر اليابانية عدد كثير. ظهر ذلك لنا مما نشاهد في مصر، ومما ينقل
لنا من أخبار سوريا والمهاجرين السوريين في أمريكا. وقد انتهى الغلو في حب
روسيا عند السوريين إلى أن يترك بعضهم الضحك بل والأكل في المساء الذي
يقرءون في برقياته أن روسيا قد انكسرت في واقعة كذا، وأخذ اليابانيون منها موقع
كذا، أو أغرقوا لها كذا وكذا من السفن الحربية - وإلى أن يكابر بعض أصحاب
الصحف منهم أنفسهم في الانكسار المتوالي من الروس فيصوروا الوقائع بغير
الصور التي انتهى إليهم خبرها، حتى كان في هذه الصحف ما لو اكتفى به القارئ
في تعرف أخبار هذه الحرب لاعتقد أن ليس لليابانيين مزية ، وأن ما أخذوه من
المواقع والحصون من الروس قد تركه الروس لهم لحكمة حربية ، ولا يلبثون أن
ينقضوا عليهم انقضاض الأسود على القرود فيمزقوهم تمزيقًا - هذا وأوربا بدعواها،
وكبريائها وخيلائها واحتقارها للشرق وأهله قد أعجبت كلها حتى أنصار روسيا
منها بأن اليابان قد بلغت من إتقان الحرب علمًا وعملاً غاية لا مطمع لأحد في
تجاوزها ، فنظامهم أكمل نظام، وسلاحهم أحسن سلاح ، وشجاعتهم أتم شجاعة،
وقد بلغوا الكمال الحربي في البر والبحر. والمعتدلون من أصحاب هذه الصحف
الذين لا مندوحة لهم عن ذكر جميع الوقائع كما ينقل البرق والبريد يضيفون إلى
أخبار ظفر اليابان ما لا مناسبة له من أعمال روسيا الماضية وانتصارها السابق في
بعض الحروب ، وما لها من الأعذار الحاضرة، وما يرجى لها من الأماني
المستقبلة. يمثلون بذلك عظمة روسيا في أعظم تمثال وصل إليه الخيال قبل هذه
الحرب التي ذهبت بالخيالات، وفتحت للناس باب الحقيقة في الحكم. ولسنا نريد
بهذا القول تحقير روسيا أو التكهن بأنها لا تنتصر أو الرد على هذه الصحف ،
وإنما نريد بيان الواقع. في البرازيل جريدة سورية معتدلة حقًّا لا تتعصب لدين ولا
لمذهب ولا لطائفة، وهى جريدة (المناظر) كانت تذكر خلاصة أخبار الحرب كما
تصل إليها فقامت عليها قيامة السوريين هناك، وطفقت جرائدهم ترد عليها ردًّا
عنيفًا.
هذا أثر من آثار الرابطة الدينية، ويعلم من ظهر عليهم أن بعض مظاهره
منتقد وأنه على كل حال لا يفيد روسيا، ولا يدفع عنها شيئًا، وماذا عليها وهم لم
يشعروا باختيارهم، ولم يقولوا ما قالوا، وكتبوا دهانًا لها، وإنما هو سلطان الدين
الأعلى على الأرواح ظهر أثره في الأقوال والأحوال من غير تكلف، ولا اعتمال،
فهل يعتبر بهذا بعض الشعوب الذين استحوذ على أرواحهم سلطان اللذة فغلب فيهم
الشعورَ الديني حتى لا غيرة لهم على دينهم، ولا على أهله الذين يعيشون معهم
فضلاً على الذين يبعدون عنهم؟؟ ، أيتعللون بأنهم استبدلوا الشعور الوطني بالشعور
الديني خلافًا للسوريين؟ لعلهم لا يجرءون على هذا التعلل ، فإن السوريين هم
الذين علموا الشرق الأدنى هذا النداء بالوطنية. فإذا كانت آية الوطنية لم تمح آية
الدين عند الأستاذ، فأجدر بها أن لا تمحوها عند التلميذ. وإذا ادعوا أن الشعور
الديني كامل فيهم، فليحاسبوا أنفسهم ليعرفوا حقيقة الدعوى. والله يعلم السر
والنجوى.
* * *
(أهواء الجرائد والدفاع عن الأمير)
لقد كان في قضية السادات وصاحب المؤيد عبرة لأولي الألباب لا نذكر منها
إثبات المحكمة كون طريقة إثبات الأنساب الرسمية غير شرعية، ولا غير ذلك،
وإنما نحب تنبيه الأفكار إلى ضرب من ضروب أهواء الجرائد التي أشرنا إليه في
الجزء الأسبق، وهو أن وكيل السادات قال في المحكمة: إن الخديو المعظم خطب
بنت موكله لصاحب المؤيد ثلاث مرات، ولم ينجح في خطبته (أو كما قال) ، ولا
يخفى أن هذه الكلمة أعظم مما انتقدته الجرائد على رياض باشا أو أبعد منه عن
الأدب مع الأمير - إن لم نقل: أكثر من هذا - فما بال تلك الجرائد التي شنت
الغارة على رياض دفاعًا عن مقام الأمير تلقت كلمة المحامي بالقبول؟ اللهم إنها
نطقت هناك عن هوى، وسكتت هنا عن هوى ، فلا الإخلاص للأمير أنطقها ، ولا
ضده أسكتها. فهم كمن نزل فيهم {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} (التوبة: 37) .
قلنا في الجزء الماضي: إنه ثبت للمحكمة تزوير نسب صاحب المؤيد،
والأَوْلَى لم تثبت عندها صحته.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع
(الوجه السابع والسبعون)
أن تقول لطائفة المقلدين: هل تسوغون تقليد كل عالم من السلف والخلف أو
تقليد بعضهم دون بعض؟ فإن سوغتم تقليد الجميع كان تسويغكم لتقليد من انتميتم
إلى مذهبه كتسويغكم لتقليد غيره سواء فكيف صارت أقوال هذا العالم مذهبًا لكم
تفتون وتقضون بها ، وقد سوغتم من تقليد هذا ما سوغتم من تقليد الآخر ، فكيف
صار هذا صاحب مذهبكم دون هذا؟ وكيف استجزتم أن تردوا أقوال هذا وتقلدوا
أقوال هذا ، وكلاهما عالم يسوغ اتباعه فإن كانت أقواله من الدين فكيف ساغ لكم دفع
الدين؟ وإن لم تكن أقواله من الدين فكيف سوغتم تقليده؟
وهذا لا جواب لكم عنه. يوضحه.
(الوجه الثامن والسبعون)
أن من قلدتموه إذا روي عنه قولان وروايتان سوغتم العمل بهما وقلتم:
مجتهد له قولان فيسوغ لنا الأخذ بهذا وهذا ، وكان القولان جميعًا مذهبًا لكم فهلا
جعلتم قول نظيره من المجتهدين بمنزلة قوله الآخر وجعلتم القولين جميعًا مذهبًا
لكم؟ وربما كان قول نظيره ومن هو أعلم منه أرجح من قوله الآخر وأقرب إلى
الكتاب والسنة. يوضحه.
(الوجه التاسع والسبعون)
أنكم معاشر المقلدين إذا قال بعض أصحابكم ممن قلدتموه قولاً خلاف قول
المتبوع أو خرجه على قول جعلتموه وجهًا وقضيتم وأفتيتم به ، وألزمتم بمقتضاه ،
فإذا قال الإمام الذي هو نظير متبوعكم أو فوقه قولاً يخالفه لم تلتفتوا إليه ولم تعدوه
شيئًا. ومعلوم أن واحدًا من الأئمة الذين هم نظير متبوعكم أَجلّ من جميع أصحابه
من أولهم إلى آخرهم فَقَدِّروا أسوأ التقادير أن يكون قوله بمنزلة وجه في مذهبكم ،
فيالله العجب! صار من أفتى أو حكم بقول واحد من مشايخ المذهب أحق بالقبول
ممن أفتى بقول الخلفاء الراشدين وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وأبي
الدرداء ومعاذ بن جبل وهذا من بركة التقليد عليكم.
وتمام ذلك:
(الوجه الثمانون)
أنكم إن رمتم التخلص من هذه الخلطة وقلتم: بل يسوغ تقليد بعضهم دون
بعض ، وقال كل فرقة منكم: يسوغ أو يجب تقليد من قلدناه دون غيره من الأئمة
الذين هم مثله أو أعلم منه؛ كان أقل ما في ذلك معارضة قولكم بقول الفرقة
الأخرى في ضرب هذه الأقوال بعضها ببعض ، ثم يقال: ما الذي جعل متبوعكم
أولى بالتقليد من متبوع الفرقة الأخرى فبأي كتاب أو بأية سنة ، وهل تقطعت
الأمة أمرها بينها زبرًا وصار {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون:
53) إلا بهذا السبب. فكل طائفة تدعو إلى متبوعها وتنأى عن غيره وتنهى عنه ،
وذلك مفضٍ إلى التفريق بين الأمة وجعل دين الله تابعًا للتشهي والإعراض،
وعرضة للاضطراب والاختلاف، وهذا كله يدل على أن التقليد ليس من عند الله
للاختلاف الكثير الذي فيه ، ويكفي في فساد هذا المذهب تناقض أصحابه ومعارضة
أقوالهم بعضها ببعض ، ولو لم يكن فيه من الشناعة إلا إيجابهم تقليد صاحبهم
وتحريمهم تقليد الواحد من أكابر الصحابة كما صرحوا به في كتبهم لكفى.
(الوجه الحادي والثمانون)
أن المقلدين حكموا على الله قدرًا وشرعًا بالحكم الباطل جهارًا المخالف لما
أخبر به رسوله فأخلوا الأرض من القائمين لله بحججه ، وقالوا: لم يبق في الأرض
عالم منذ الأعصار المتقدمة. فقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد أبى حنيفة
وأبي يوسف وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد اللؤلؤي ،
وهذا قول كثير من الحنفية ، وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي: ليس لأحد
أن يختار بعد المائتين من الهجرة وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي
وسفيان الثوري ووكيع بن الجراح وعبد الله بن المبارك. وقالت طائفة: ليس
لأحد أن يختار بعد الشافعي. واختلف المقلدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من
المنتسبين إليه ويكون له وجه يفتي ويحكم به ممن ليس كذلك وجعلوهم ثلاث مراتب:
(ا) طائفة أصحاب وجوه كابن شريح والقفال وأبي حامد. و (2) طائفة أصحاب
احتمالات لا أصحاب وجوه كأبي المعالي. و (3) طائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا
احتمالات كأبي حامد [*] وغيره. واختلفوا متى انسد باب الاجتهاد على أقوال
كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان ، وعند هؤلاء أن الارض قد خلت من قائم لله
بحججه ، ولم يبق فيها من يتكلم بالعلم ، ولم يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب الله
ولا سنة رسوله لأخذ الأحكام منهما ولا يقضي ويفتي بما فيهما حتى يعرضه على
قول مقلده ومتبوعه ، فإن وافقه حكم به وأفتى به وإلا رده ولم يقبله. وهذه أقوال كما
ترى قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض والقول على الله بلا علم وإبطال
حججه ، والزهد في كتابه وسنة رسوله ، وتلقي الأحكام منهما مبلغها ، ويأبى الله
إلا أن يتم نوره ويصدق قول رسوله أنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته ، ولن
تزال طائفة من أمته على محض الحق الذي بعثه به ، وأنه لا يزال يبعث على رأس
كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها ، ويكفي في فساد هذه الأقوال أن يقال
لأربابها: فإذا لم يكن لأحد أن يختار بعد من ذكرتم فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم
دون غيرهم ، وكيف حرمتم على الرجل أن يختار ما يؤديه إليه اجتهاده من القول
الموافق لكتاب الله وسنة رسوله ، وأبحتم لأنفسكم اختيار قول من قلدتموه وأوجبتم
على الأمة تقليده ، وحرمتم تقليد من سواه ، ورجحتموه على تقليد من سواه.
فما الذي سوغ لكم هذا الاختيار الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع
ولا قياس ولا قول صاحب ، وحرمتم اختيار ما عليه الدليل من الكتاب والسنة وأقوال
الصحابة. ويقال لكم: فإذا كان لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا عند غيرك
فمن أين يساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول
مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين ، أو من هو مثله من فقهاء
الأمصار أو ممن جاء بعده.
وموجب هذا القول أن أشهب وابن الماجشون ومطرف بن عبد الله وأسبغ
بن الفرج وسحنون بن سعيد وأحمد بن المعدل ومن في طبقتهم من الفقهاء كان لهم
أن يختاروا إلى انسلاخ ذي الحجة من سنة مائتين ، فلما استهل هلال المحرم من
سنة إحدى ومائتين ، وغابت الشمس من تلك الليلة حرم عليهم في الوقت بلا مهلة
ما كان مطلقًا لهم من الاختيار ، ويقال للآخرين: أليس من المصائب وعجائب
الدنيا تجويزكم الاختيار والاجتهاد والقول في دين الله بالرأي والقياس لمن ذكرتم من
أئمتكم ، ثم لا تجيزون الاختيار والاجتهاد لحفاظ الإسلام وأعلم الأمة بكتاب الله
وسنة رسوله وأقوال الصحابة وفتاواهم كأحمد بن حنبل والشافعي وإسحق بن
راهويه ومحمد بن إسماعيل البخاري وداود بن علي ونظرائهم على سعة علمهم
بالسنن ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم وتحريهم في معرفة أقوال الصحابة
والتابعين ودقة نظرهم ولطف استخراجهم للدلائل. ومن قال منهم بالقياس فقياسه
من أقرب القياس إلى الصواب، وأبعده عن الفساد، وأقربه إلى النصوص مع شدة
ورعهم وما منحهم الله من محبة المؤمنين لهم، وتعظيم المسلمين علمائهم وعامتهم
لهم.
فإن احتج كل فريق منهم بترجيح متبوعه بوجه من وجوه التراجيح في تقدم
زمان أو زهد أو ورع أو لقاء شيوخ وأئمة لم يلقهم من بعده أو كثرة أتباع لم يكونوا
لغيره؛ أمكن الفريق الآخر أن يُبدوا لمتبوعهم من الترجيح بذلك أو غيره ما هو
مثل هذا أو فوقه ، وأمكن غير هؤلاء كلهم أن يقولوا لهم جميعًا: نفوذ قولكم هذا -
إن لم يأنفوا من التناقض- يوجب عليكم أن تتركوا قول متبوعكم لقول من هو أقدم
منه من الصحابة والتابعين وأعلم وأورع وأزهد وأكثر أتباعًا وأجل. فأين أتباع ابن
عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل بل أتباع عمر وعلي من أتباع
الأئمة المتأخرين في الكثرة والجلالة ، وهذا أبو هريرة قال البخاري: حمل العلم
عنه ثمانمائة رجل ما بين صاحب وتابع. وهذا زيد بن ثابت من جملة أصحاب
عبد الله بن عباس.
وأين في أتباع الأئمة مثل عطاء وطاووس ومجاهد وعكرمة وعبيد الله بن
عبد الله بن عتبة وجابر بن زيد؟ وأين في أتباعهم مثل السعيدين والشعبي
ومسروق وعلقمة والأسود وشريح؟ وأين في أتباعهم مثل نافع وسالم والقاسم
وعروة وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبد الرحمن؟ فما الذي
جعل الأئمة بأتباعهم أسعد من هؤلاء بأتباعهم؟ ولكن أولئك وأتباعهم على قدر
عصرهم ، فعظمهم وجلالتهم وكبرهم منع المتأخرين من الاقتداء بهم ، وقالوا بلسان
قالهم وحالهم: هؤلاء كبار علينا لسنا من زبونهم. كما صرحوا وشهدوا على أنفسهم
فإن أقدارهم تتقاصر عن تلقي العلم من القرآن والسنة وقالوا: لسنا أهلاً لذلك لا
لقصور الكتاب والسنة ، ولكن لعجزنا نحن وقصورنا فاكتفينا بمن هو أعلم بهما منا!!
فيقال لهم: فلِمَ تنكرون على من اقتدى بهما وحكمهما وتحاكم إليهما وعرض
أقوال العلماء عليهما فما وافقهما قبله، وما خالفهما رده. فهب أنكم لم تصلوا إلى
هذا العنقود؛ فلِمَ تنكرون على من وصل إليه وذاق حلاوته؟ وكيف تحجرتم الواسع
من فضل الله الذي ليس على قياس عقول العالمين ولا اقتراحاتهم ، وهم وإن كانوا
في عصركم ، ونشؤوا معكم ، وبينكم وبينهم نسب قريب فالله يمن على من يشاء من
عباده.
وقد أنكر الله سبحانه على من رد النبوة بأن الله صرفها عن عظماء القرى
ومن رؤسائها وأعطاها لمن ليس كذلك بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ
قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ
بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيًا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: 32) وقد قال
النبى صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره) وقد
أخبر الله سبحانه عن السابقين بأنهم {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 13-14) وأخبر سبحانه أنه {بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الجمعة:
3) ثم أخبر أن {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الجمعة: 4) .
وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد ، وذكرنا من مآخذهما وحجج أصحابهما
وما لهم وعليهم من المنقول والمعقول ما لا يجده الناظر في كتاب من كتب القوم من
أولها إلى آخرها ، ولا يظفر به في غير هذا الكتاب أبدًا وذلك بحول الله وقوته
ومعونته وفتحه فله الحمد والمنة وما كان فيه من صواب فمن الله هو المانُّ به ، وما
كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان وليس الله ورسوله ودينه في شيء منه، وبالله
التوفيق.
(تمت المناظرة)
_________
(*) كذا في الأصلين ولعله ابن حامد لأن أبا حامد في الطائفة الأولى أو هو أبو حامد والأول ابن حامد أو غيره والله أعلم اهـ من هامش النسخة المطبوعة بالهند.
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
بلوغ الدعوة لكفار العصر
(س 62) محمود أفندي ناصف الصراف بسكة الحديد السودانية في
(حلفا) ذكرتم في الجزء السابع أن (كل من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه
وسلم على وجه صحيح فلم يؤمن به عنادًا للحق فهو خالد في النار) ، وهذا يستلزم
أن تكون الدعوة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان يدعو المشركين
للإسلام ويفرض عليهم الجزية أو الحرب في حالة إبائهم كما هو وارد في القرآن
ومذكور في التاريخ، فما حكم من لم تبلغه الدعوة بلاغًا شرعيًّا من القوم المتأخرين،
وكيف حالهم في الآخرة عند الله وهم لم يُدْعَوا للإسلام، ولم تبلغهم الدعوة على
الوجه الشرعي الصحيح.
(ج) إن دعوة خاتم النبيين عامة فحكمها واحد في زمنه وفي كل زمن بعده
إلى يوم القيامة. فمن بلغته على وجه صحيح يحرك إلى النظر فلم ينظر فيها ، أو
نظر وظهر له الحق فأعرض عنه عنادًا واستكبارًا؛ فقد قامت عليه حجة الله البالغة
ولا عذر له في يوم الجزاء إذا لم يُرَقِّ روحه ويزكِّ نفسه بها ليستحق رضوان الله
تعالى ، ومن لم تبلغه بشرطها أو بلغته ونظر فيها بإخلاص ولم يظهر له الحق
ومات غير مقصر في ذلك فهو معذور عند الله تعالى ، ويكون حاله في الآخرة
بحسب ارتقاء روحه وزكائها بعمل الخير أو تسفلها ودنسها بعمل الشر. والخير
والشر معروفان في الغالب لكل أحد لا يكاد يختلف الناس إلا في بعض دقائقهما. ويا
سعادة من يتحرى عمل كل ما يعتقده خيرًا واجتناب كل ما يعتقده شرًّا.
وما ذكر في السؤال من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفرض على
المشركين الجزية أو الحرب غير صحيح ولا هو في القرآن ولا في التاريخ، بل
سهو من السائل ، فإنه صلى الله عليه وسلم دعا مشركي العرب إلى الإسلام بالحجة
فعاندوه وآذوه وأخرجوه من وطنه ، ثم صاروا يؤذونه في مهاجره ويكرهون أتباعه
على الشرك ، ويصادرونهم في أموالهم حتى إذا أقدره الله تعالى على الدفاع أنشأ
يجاهدهم حتى أظفره الله تعالى بهم ، ولم تضرب الجزية على أحد من المشركين بل
هي خاصة بأهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس لأن لهم أديانًا تعرفهم بالله
وتأمرهم بالخير وتنهاهم عن الشر ، وإن مازجتها نزغات الوثنية ونال منها
التحريف والتأويل، حتى ضل أهلها عن سواء السبيل.
***
إرادة الله وكسب الإنسان
(س 63) أمين أفندي محمد الشباسي بسكة حديد (سواكن) كنت أتحدث
مع بعض أصدقائي في أحوال المسلمين من حيث ميلهم إلى الشر أكثر من الخير،
وتفننهم في المعاصي وعدم ميلهم إلى ما فيه خيرهم الدنيوي والأخروي. فقال بأن
هذه إرادة الله بنا. فقلت له: إن هذا شر والله لا يريد الشر وكيف يريده لنا دون
غيرنا؟ فقال: إننا نستحق ذلك في علمه أزلاً فهذه إرادته. فقلت: إن هذا باطل
فقد بين الله لنا طريقي الخير والشر في القرآن وجعل لكل سلوك جزاء، ومنحنا
العقل لأجل أن نميز بينهما ، فاذا أسأنا استعمال ما وهبه لنا من القوى والهداية كنا
أشقياء في الدنيا والآخرة ، وإذا أحسنا استعمالها كنا سعداء فيهما ، ولكننا أسأنا
الاستعمال وصرفنا قوانا الحسية والعقلية إلى الشر. فقال: من الذي صرف قوانا
العقلية نحو أحد الأمرين؟ فقلت له: الحواس وما عندنا من الجزء الاختياري.
فقال: إن العقل أكبر شيء في الإنسان وباقي الحواس دونه ، فلا يصح أن تتغلب
عليه بل الله عز وجل هو الذي حول قواك نحو إرادته ، فلا يقع في ملكه إلا ما
أراده وأرضاه ، ثم قرأ هذه الجملة وادعى أنها آية من القرآن وهي: (إنه لا يصدر
عن أحد من عبيده قول ولا فعل ولا حركة ولا سكون إلا بقضائه وقدره) ولم أقف
عليها في المصحف ، فهل هي من القرآن؟ وفي أي سورة هي؟ وهل ما قاله
صحيح؟ وإذا كان كذلك فكيف يكون العذاب؟ نرجو الفصل بيننا بما أطلعك الله
…
إلخ اهـ بتصرف يسير.
(ج) أما العبارة فليست من القرآن حتمًا ، وعجبنا كيف خفي ذلك عليكم
والمصحف في أيديكم. على أن نظمها مخالف لنظم القرآن ، وأزيدك أن لفظ
القضاء لم يرد في القرآن لا معرفًا ولا مضافًا ولا مجردًا ، وأما المسألة المتنازع
فيها؛ فكل منكما أخطأ في بعض قوله فيها وأصاب في بعض ، وكلامك أقرب إلى
الحقيقة ، وكلامه أميل إلى التصورات النظرية، فقولك: إن الله لا يريد الشر مني
على أن الإرادة بمعنى الرضى ، وذلك غير صحيح. وإنما الإرادة هي ما يخصص
الله به الممكنات ببعض ما يجوز عليها من الأمور المتقابلة. وقوله: إنه لا يقع في
ملكه إلا ما أراده ورضيه غير صحيح في الرضى. فإن الكفر يجري في ملكه وقد
قال في كتابه: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْر} (الزمر: 7) ومن هنا تعرف أن فرقًا
بين الإرادة والرضى.
وحقيقة القول في المسألة: أن الله تعالى خلق الإنسان وأعطاه القوى البدنية
والنفسية والحواس الظاهرة والباطنة ، وأقدره على الأعمال النافعة والضارة ، وهداه
إلى التمييز بينها بالمشاعر والعقل والدين فهو يربي نفسه وعقله بكسبه. وأعماله
الاختيارية تابعة دائمًا لأفكاره العقلية وأخلاقه ووجداناته النفسية فهي كسبية تتبع
كسبيًّا ، فمهما فسد التعليم والتربية كانت الأعمال قبيحة ضارة ، ومهما صلح التعليم
والتربية كانت الأعمال صالحة نافعة حتمًا. هذا ما نشاهده من سير الإنسان منفردًا
ومجتمعًا فهو قطعي لا يقبل النزاع. وقام الدليل العقلي على أن هذا النظام الكامل
في الإنسان هو من مبدع الكائنات كلها ، ولا تنافي بين الأمرين. والبحث عن كيفية
تعلق قدرة الله وإرادته في إقامة الإنسان أو غيره من الكائنات على ما هو عليه سفه
من العقل وبدعة في الدين. أما الأول فلأن العقل لا يقدر على اكتناء سر الإبداع
والتكوين ، وأما الثاني فلأن الشرع نهانا عن الخوض في القدر لأنه فتنة تثير
الشكوك وتجر إلى الكفر وينتهي الأمر بصاحبها إلى أن يبرئ نفسه من ذنبه
وتقصيره ، ويرمي به ربه عز وجل بذلك {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) .
وغدا يعتب القضاء ولا عذ
…
ر لعاص فيما يسوق القضاء
***
الشفاعة والأنداد
(س 64) الشيخ أنور محمد يحيى شيخ عزب في (الترعة الجديدة من
الشرقية) :
يفهم من عبارة المنار في الجزء التاسع أن الأنداد على قسمين قسم يطلب منه
العمل بالاستقلال ، وقسم يطلب منه أن يشفع عند الله تعالى وصرحتم بأن الشفيع
يكون ندًّا؛ لأنه يستنزل من يشفع عن رأيه ويحوله عن إرادته. فالذي يفهم من هذا
التصريح أن الذي يجب اعتقاده عدم الشفاعة عند الله تعالى مع أن الله قال في كتابه
العزيز: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) وقال {وَلَا
يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) وقال اللقاني في جوهرته:
وواجب شفاعة المشفع
…
محمد مقدمًا لا تمنع
وغيره من مرتضى الأخيار
…
يشفع كما قد جاء في الأخبار
فهل يوجد نص في وجود الشفعاء؟ أرجو من حضرتكم بيان هذا الموضوع
على لسان مناركم جعلكم الله ملجأ لكل قاصد، ونجح لكم المقاصد.
(ج) قد سبق لنا في المنار بيان حقيقة الشفاعة ، وأن من الآيات الكريمة ما
ينفي الشفاعة قطعًا كقوله تعالى: {وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} (البقرة: 254) وقوله: {
مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر: 18) ومنها ما هو ظاهر في
جواز الشفاعة بإذن الله لمن ارتضاه وهي ليست نصوصًا قطعية في وقوعها ، وأما
الأحاديث فهي صريحة في ثبوت الشفاعة في الآخرة ، وهي آحاد لا يؤخذ بها
وحدها في العقائد ، ويمكن حمل الآيات النافية للشفاعة والتي تحكيها عن عقائد
المشركين في معرض الإنكار كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ
وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) على ما ينطبق على
الآيات والأحاديث التي تجيزها وتنطق بوقوعها ، فلا يكون هناك تناقض ولا
تعارض ، وذلك أن الشفاعة المنفية الممنوعة هي ما حكاه القرآن العزيز عن
المشركين وهي التي بمعنى الشفاعة عند الحكام لقضاء المصالح عند العجز عنها من
طرقها وأسبابها. والشفاعة الجائزة خاصة بالآخرة ، وهي عبارة عن دعاء من
الشافع المشفع يأذن له به الله يستجيبه إظهارًا لكرامة عبده الشفيع، وقد سبق في
علمه القديم وتعلقت إرادته سبحانه بأن ما به الشفاعة كائن في وقته لا يتأخر ولا
يتقدم ، فالشافع لم يغير شيئًا من علمه تعالى ولم يؤثر في إرادته ولم يحمله على
شيء لم يكن ليفعله لولاه.
ومن هذا التقرير يفهم أن ما عليه أكثر العامة من الاستشفاع بالأولياء أصحاب
القبور المعلومين والمجهولين لأجل دفع المكاره وجلب المنافع هو من النوع الأول
الذي يمنعه الدين ، ويخل بالاعتقاد الصحيح بالله تعالى. فإنهم كثيرًا ما يصرحون
بتشبيه الشفاعة عند الباري تعالى بشفاعة المقربين من الملوك الظالمين لبعض
المجرمين ، وتأثير شفاعتهم لهم. وهذا محال على الله تعالى، بل إن الملوك
العاديين الحكماء ما كانوا يقبلون شفاعة أحد ، وإنما يعملون ما يعتقدون أنه الحق.
فتأمل.
***
المحرم بالرضاع
(س65) أحمد أفندي المشد المحامي في (ملوي) : هل يحرم على
مرتضعٍ زواجُ جميع بنات مرضعته أم التي رضع معها فقط.
(ج) من رضع من امرأة صارت أمه وحرم عليه جميع بناتها ، ولا يحرمن
على إخوته الذين لم يرضعوا منها، وإذا رضعت بنت من امرأة حُرِّمَ على جميع
أولاد المرأة التزوج بها دون سائر أخواتها اللائي لم يرضعن.
***
الكشف ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة
(س66) الشيخ حاتم إبراهيم مأذون ناحية تندة التابعة (ملوي)
جرت بيني وبين بعض أهل العلم مناظرة في شأن أهل الكشف ورؤية النبي
عليه السلام يقظة ، فأنكرتهما مستدلاًّ على نفي الأول بقوله تعالى: {قُل لَاّ يَعْلَمُ
مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ} (النمل: 65)، وقوله: {وَعِندَهُ
مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ} (الأنعام: 59) وقوله: {عَالِمُ الغَيْبِ} (الجن
: 26)
…
إلخ وكثير من الآيات وحديث عائشة المشار إليه بقوله تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان: 34) الآية. وما نسمعه ممن عدوا الولاية -
وهي حق كل تقي - حِرْفَةً؛ نوع من الكهانة كما أخبر عليه السلام حينما قيل له:
إنهم يقولون في الشيء: كن فيكون. وكما وقع له مع ابن صياد. وعلى نفي الثاني
بأنه عليه السلام مدفون بحيث لو استكشف لرؤي نائمًا ، وحياته البرزخية لا نشعر
بها ، فلا كلام فيها ، وبأن ذلك لو كان جائزًا لكانت عائشة التي قبره في بيتها أجدر
بذلك ، ولكان من اللازم إرشاد الصحابة حينما اشتعلت بلادهم فتنًا وتقاتلت أئمتهم
وتفرقت جماعتهم. وبالجملة فلم يؤثر عن الصحابة والتابعين وتابعيهم أنهم رأوه
يقظة وما يزعمه أهل الطرق من أن الرفاعي قبَّل اليد الشريفة فليس بأول أكذوبة
لهم. وادعى هو إثباتهما مستدلاًّ بأن الكشف وقع من الصالحين الذين لا يظن فيهم
الكهانة كعبد العزيز الدباغ والسيد البدوي والدسوقي وكثير من الأولياء وأن عمر
بن الخطاب رضي الله عنه نادى وهو على المنبر: يا سارية الجبل. وأنى يكون
ذلك بدون كشف ، وبأن الرؤية حصلت لكثير من الأولياء كما صرح بذلك (الإبريز) .
ولا مانع من ذلك فإنها من الكرامات ، وزعم أن الشيخ محمد عبده ادّعى ذلك ،
فنرجو من سيادتكم تثبيتنا على أمر موافق للعقل والنقل كما هو شأنكم في تربية
المسلمين.
(ج) إنك لست مكلفًا بأن تصدق بما ينقل من الكشف ومن رؤية النبي صلى
الله عليه وسلم في اليقظة. والكشف ضرب من علم الغيب في الظاهر ، وقد رأيت
ما كتبناه فيه في جواب الأسئلة الزنجبارية وقبلها ، وقد وعدنا بأن سنزيده تفصيلاً
فانتظر ذلك.
وأما الرؤية فقد كتبنا في كتابنا (الحكمة الشرعية) ما نقل فيها عن الصوفية
والعلماء وما يحكم به العقل والدين مفصلاً في عدة كراريس ، ولعلنا نلخص ذلك في
الكلام على بقية أنواع الكرامات. وإنك لتجد الآن غناء في بحث رؤية الأرواح إذا
راجعته في المجلد السادس.
واعلم أن البحث في هذه المسألة علمي لا ديني إذ الدين لم يكلفنا باعتقاد أن
الناس يرون الأرواح المجردة ، ولكن نقل ذلك عن كثير من الناس ثلة من الأولين
وقليل من الآخرين ، واختلف فيه: هل هو حقيقي أو خيالي؟ وبعض الصوفية
يقول: إنه لا يكون في اليقظة ، ولكن في حال بين اليقظة والنوم. وقد سلك
الإفرنج له طريقًا صناعية ، ولكن الاستعداد له متفاوت وفاقًا بينهم وبين المتقدمين ،
ولا يزال أمرهم فيه مبهمًا كما أشرنا إلى ذلك من قبل. وإذا ثبت أن لمعرفة بعض
المغيبات سببًا طبيعيًّا وَجَبَ استثناؤه من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه ،
ويمكن أن يقال: إنه ليس بغيب حقيقي؛ لأننا إذا قلنا: إن الغيب كل ما غاب عنك؛
كان أكثر الموجودات المجهولة غيبًا ، وكان لا سبيل إلى معرفة مجهول قط
فوجب إذًا أن يراد بالغيب ما لا طريق لمعرفته بكسب البشر لا من طريق المشاعر
ولا من طريق العقل والروح ، ويخرج بهذا ما يعرف الآن قبل ظهوره من الأحداث
كالأنواء والزلازل بواسطة آلات طبيعية ، وما يعرف بالحساب كالخسوف
والكسوف ، ويقاس على ذلك كل ما له طريق طبيعي يوصل إليه بالسير عليه ولو
روحانيًّا. وبهذا التقرير نُكْتََفى مؤنة البدعة في الدين، ونقطع الطريق على
الدجالين، ولا نقطع طريق العلم ولا اجتهاد الإنسان في إظهار مواهبه الروحانية.
***
شرب اللبن في يوم الأربعاء
وأكل السمك في يوم السبت
(س 67) أحمد أفندي صبحي في (أشمون) نرى كثيرًا من إخواننا
المسلمين (وهم العامة وقليل من غيرهم) يقولون: إن شرب اللبن يوم الأربعاء
وأكل السمك يوم السبت مكروه شرعًا ، وورد فيهما أحاديث شريفة ، وهذا الاعتقاد
متمكن فيهم لا يتحولون عنه. فنرجو الإفادة: هل ورد فيه شيء في السنة؟ فإن لم
يكن فمن أين سرى إلى المسلمين؟ ونسأله تعالى أن لا يحرمنا من وجودكم.
(ج) ليس في هذه المسألة حديث مروي ، وإنما سرت إلى المسلمين من
أهل الكتاب اليهود والنصارى مسألة السبت من الأولين ، ومسألة شرب اللبن من
الآخرين ، فإننا نرى طوائف منهم لا يشربون اللبن ولا يأكلونه مطبوخًا في يوم
الأربعاء. وسمعت بعض العامة ينسب إلى علي كرم الله وجهه أنه قال: ما
استسمكت في سبتها قط ولا استلبنت في أربعائها قط
…
إلخ ومرادهم ظاهر ،
والعبارة ليست بعربية فضلاً عن كونها مأثورة عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه.
***
الاستشفاء بجلوس النساء والأطفال تحت المنبر
(وحال الخطباء والأئمة في بلاد مصر)
(س 67) حامد أفندي البكري في (دمياط) دخلت مسجد شطا يوم جمعة
للصلاة فلما صعد الإمام المنبر ، وحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله
عليه وسلم؛ بكى صغير تحت المنبر وصاح ، فشوش على الناس ، فقرع الإمام
المنبر بالسيف مرات متواليات ، ورفع صوته بما يقول ، فلم يسكت الصغير ،
ولم يقم أحد لأخذه ، فقال الإمام: أما فيكم أحد يأخذ هذا الصغير؟ أخرجوه ومن
معه ، فقام رجل وأخذه وأخرج معه ثلاث نسوة بعد جلوس طويل انتهى بنزوله ،
وقوله لهن: والله إن لم تخرجن لأضربنكن بالسيف ، فوقفت إحداهن بالصغير أمام
المنبر بين الناس ، فقال: أخرجوها هي ومن معها ، فإن هذه بدع ولا يجوز
دخولهن في مساجد الله بهذا الشكل، فصاح عليه أحد سكان هذه القرية قائلاً:
أنت مالك ومالها.
فقال له: اسكت. فجاوبه الرجل بقوله: (دانت موش عالم هو انت إمام ،
والله نطلعك من هنا هي صلاتنا وراك راح تدخلنا الجنة) فنزل الإمام وقال له:
صل بالناس. فقمت أنا وواحد صاحبي وصالحناه ، فصعد المنبر ، وأردنا ملاطفة
الثاني فلم يزده ذلك إلا نفورًا حتى قال: (أنا موش عاوز أصلي وراك ولا انا عاوز
الجنة اللي جايه لنا من صلاتنا وراك، والله ما عُتُّ مصلي وراك يا راجل انت)
فمانعته الخروج خوفًا عليه من ارتكاب هذا الإثم ، فأبى إلا تنفيذ يمينه. حصل
ذلك ، والناس قد هاجوا وعلا ضجيجهم ، والإمام يقول: لا تفوتنا الصلاة فإنها
تمتد إلى قبيل العصر. فلما سكت الناس خطب وصلى بهم ، فسألت عن جلوس
النسوة تحت المنبر ، فقيل لي: إن الصغير مريض ، والنساء يعتقدن أنه يبرأ
بجلوسهن به تحت المنبر أثناء الخطبة. فهل أصاب الإمام في عمله أم أخطأ؟
وما جزاء هذا الآثم؟ وما رأيكم في هذا الاعتقاد؟ وهل ورد أن يكون للمنبر بابان
متقابلان كما تعهدون في المنابر؟ أفيدونا أفادكم الله.
(ج) أصاب الإمام في منع النساء والأطفال من القعود تحت المنبر
للاستشفاء ، وأخطأ ذلك الجاهل المعارض له ، وما قاله يشبه أن يكون هزؤًا بالدين
واستخفافًا واحتقارًا للجنة. ولبعض الفقهاء كلام في تكفير من يستهزئ بالعبادة
وبالجنة أو النار ، وإذا لم يكن مثل هذه الأقوال مما يرتد به المسلم فهو مما لا
يصدر عادة عن عارف بالدين يذعن له ويحترمه ، وأكثر هؤلاء المقلدين لا سلطان
للدين على عقولهم وقلوبهم ، وإنما يصلي أحدهم لأنه تعود على هذه الحركات التي
يسمونها صلاة ، فإذا عارض الصلاة هواه أو غضبه تركها بلا مبالاة. وينبغي
للناس احترام إمامهم وخطيبهم ما داموا راضين بإمامته ، ولكن الحكام هم السبب في
احتقار الناس لأئمة الصلاة والخطباء لأنهم يعهدون بهذا المنصب الذي هو من
مناصب ورثة الأنبياء إلى الفقراء الجهلة ، ولو جعلوهم من العلماء المدرسين ،
وجعلوا رواتبهم كافية مانعة من احتياجهم إلى الطمع في الصدقات لاحترمهم الناس
وكان في احترامهم إعلاء لشأن الدين. ألا ترى أن ذلك الأحمق قد أنكر على
الخطيب ، وأظهر احتقاره وعدم العمل بما أمر به محتجًّا عليه بأنه غير عالم. ومن
تدبر أمثال هذه الوقائع يتجلى له ما في مشروع الأستاذ الإمام في إصلاح المساجد
من الفائدة ، ولكن أهواء السياسة قد هبت من قصر الإمارة على لائحة ترتيب
المساجد فنسفتها وألقتها في قصر الدوبارة وصار الأمر فيها إلى اللورد كرومر ولا
يدري إلا الله ما هو صانع فيها. أما جعل المنبر بالكيفية المعروفة فليس له أصل
في الدين فلا مانع منها ولا مقتضي لها.
***
استيئاس الرسل عليهم السلام
(س 67) ومنه: عرضت لي شبهة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ
الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ
القَوْمِ المُجْرِمِينَ} (يوسف: 110) فأرجو توضيح المراد منها.
(ج) الأظهر المنطبق على قواعد العقائد أن المراد باستيئاس الرسل يأسهم
من إيمان قومهم ، وفي قوله تعالى:{كُذِبُوا} (يوسف: 110) بضم الكاف
قراءتان سبعيتان إحداهما بتشديد ذال (كذبوا) ولا إشكال فيها والثانية بالتخفيف.
وفي تطبيق القواعد عليها وجهان: أحدهما أن الضمير في (ظنوا) لأقوام الرسل ،
أي ظن الأقوام أنهم كذبوا فيما أوعدوا به من وقوع العذاب عليهم، وثانيهما: أن
الضمير للرسل ، وكذبوا ههنا بمعنى تمنوا أو بمعنى وجب عليهم الأمر ، ومعناه
كذبتهم أنفسهم فيما تمنوا وأملوا ، أي خابت آمالهم في قومهم أو في كيفية انتقام الله
لهم. قال في القاموس: وكذب قد يكون بمعنى وجب ، ومنه: (كذب عليكم الحج
كذب عليكم العمرة، كذب عليكم الجهاد ، ثلاث أسفار كذبن عليكم) أو من كذبته
نفسه إذا منته الأماني ، وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون. وقال في الأساس:
وكذب نفسه وكذبته نفسه إذا حدثته بالأماني البعيدة والأمور التي لا يبلغها وسعه
ومقدرته. والمعنى حتى إذا يئس الرسل من إيمان قومهم وظنوا - أي أيقنوا - أن
أمانيهم في إيمانهم وآمالهم في قبولهم الدعوة ضائعة جاءهم نصرنا.
وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها قراءة التخفيف فقد روى البخاري وغيره
من طريق عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن هذه الآية قال: قلت: أَكُذِبُوا
(بالتخفيف) أم كُذِّبُوا (بالتشديد) ؟ فقالت: بل كُذِّبُوا - تعني بالتشديد - قلت:
والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن. قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا
بذلك. قلت: لعلها كُذِبُوا (مخففة) قالت: معاذ الله لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها.
قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بهم وصدقوهم ، وطال
عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النصر حتى اذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم،
وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك.
وقرأ بعض الصحابة: (كَذَبُوا) بالتخفيف مبنيًّا للمعلوم ، وهي قراءة مجاهد
أي أيقن قومهم أنهم كذبوا. والظن يستعمل في الفصيح بمعنى اليقين وبمعنى الوهم
وحديث النفس ، والقرائن هي التي تعين ولذلك حمل بعضهم الظن هنا على حديث
النفس ، وله شواهد من اللغة.
***
جنة آدم
(س 68) ومنه: هل الجنة التي هبط منها آدم هى الجنة التي وعد المتقون
في الدار الآخرة أم هي جنة من جنات الدنيا؟ واذا كانت الثانية فما معنى قوله
تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} (البقرة: 36) .
(ج) إن جنة آدم ليست هي دار الجزاء في الآخرة ، ولك أن تراجع
تفصيل ذلك في تفسير قصة آدم (في ص 203 من مجلد المنار الخامس) وفيه أن
المختار عدم البحث عن مكانها ، وأن معنى {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى
حِينٍ} (البقرة: 36) أن إقامتكم في الأرض محدودة خلافًا لزعم الشيطان أن
الشجرة التي أكلتم منها هي شجرة الخلد وملك لا يبلى. ولا ينافي هذا أن تكون
الجنة في الأرض ، وهناك كلام في كون القصة تمثيلاً فراجعوه.
***
التوسل بالأنبياء والأولياء
(س 68) كثر كلامنا في هذه المسألة ، ولا يزال الناس يسألون عنها وقد
وقفنا قبل إتمام طبع هذه الجزء من المنار على فتوى فيها للأستاذ الإمام فألحقناه
بباب فتاوى المنار وهي فصل الخطاب وهذا نصها:
فضيلتلوا أفندم مفتي الديار المصرية متعنا الله بوجوده آمين.
أبدي أنه قد بلغني أن بعض الناس كتب إلى فضيلتكم سؤالاً يدعي فيه أني
أنكرت جاه النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل به إلى الله تعالى وبأوليائه رضوان
الله عليهم أجمعين ، والحقيقة أني لم أنكر شيئًا من ذلك ولم أتكلم به ، بل الحقيقة أنه
سألني جمع من الناس عن حقيقة ما يعتقدونه ويقولونه بألسنتهم من التوسل بجاه
النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل بأوليائه معتقدين أن النبي أو الولي يستميل
إرادة الله تعالى عما هي عليه كما هو المعروف للناس من معنى الشفاعة والجاه عند
الحكام، وأن التوسل بهم إلى الله تعالى كالتوسل بأكابر الناس إلى الحكام. فلما
رأيت منهم ذلك ، وأن هذا أمر مخل بالعقيدة كما تعلمون ، وأن قياس التوسل إلى
الله تعالى على التوسل بالحكام محال؛ فأجبتهم بما أعتقده وأدين الله به من تقرير
عقيدة التوحيد هي أنه لا فاعل ولا نافع ولا ضار إلا الله تعالى، وأنه لا يدعى معه
أحد سواه كما قال تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وأن النبي
صلى الله عليه وسلم ، وإن كان أعظم منزلة عند الله تعالى من جميع البشر وأعظم
الناس جاهًا ومحبة وأقربهم إليه ، ليس له من الأمر شيء ، ولا يملك للناس ضرًّا
ولا نفعًا ولا رشدًا ولا غيره كما في نص القرآن ، وإنما هو مبلغ عن الله تعالى ولا
يتوسل إليه تعالى إلا بالعمل بما جاء على لسانه صلى الله عليه وسلم واتباع ما كان
عليه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون من هديه وسنته ، وأنه لا سبب لجلب
المنافع ودفع المضار إلا ما هدى الله الناس إليه ، ولا معنى للتوسل بنبي أو ولي إلا
باتباعه والاقتداء به يرشدنا إلى هذا كثير من الآيات الواردة في القرآن العظيم كقوله
تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31)
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} (الأنعام: 153) إلى غير ذلك من الآيات.
هذا هو اعتقادي ، وهو الذي قلته للناس ، فإن كنتم ترون فيه خطأ فأرجو بيانه ،
وإن كان هو الصواب فأرجو إقراري عليه كتابة لأدافع بذلك من أساء بي الظن
لازلتم هادين مهديين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد موسى
…
...
…
...
…
...
…
... من محلة فرنوي بحيرة
جواب المفتي
(ج) بسم الله الرحمن الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم اعتقادك هذا هو الاعتقاد الصحيح ولا يشوبه شوب من الخطأ ، وهو ما يجب
على كل مسلم يؤمن بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أن يعتقده ، فإن الأساس
الذي بنيت عليه رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو هذا المعنى من التوحيد
كما قال الله له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} (الإِخلاص: 1-2) والصمد
هو الذي يقصد في الحاجات ، ويتوجه إليه المربوبون في معونتهم على ما يطلبون،
وإمدادهم بالقوة فيما تضعف عنه قواهم ، والإتيان بالخبر على هذه الصورة يفيد
الحصر كما هو معروف عند أهل اللغة ، فلا صمد إلا هو ، وقد أرشدنا إلى وجوب
القصد إليه وحده بأصرح عبارة في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186) وقد قال الشيخ محيي الدين بن
عربي شيخ الصوفية في صفحة 226 من الجزء الرابع من فتوحاته عند الكلام على
هذه الآية: (إن الله تعالى لم يترك لعبده حجة عليه، بل لله الحجة البالغة ، فلا
يُتَوسل إليه بغيره فإن التوسل إنما هو طلب القرب منه، وقد أخبرنا الله أنه قريب
وخبره صدق) اهـ ملخصًا.
على أن الذين يزعمون جواز شيء مما عليه العامة اليوم في هذا الشأن إنما
يتكلمون فيه بالمبهمات ، ويسلكون طرقًا من التأويل لا تنطبق على ما في نفوس
الناس ، ويفسرون الجاه والواسطة بما لا أثر له في مخيلات المعتقدين ، فأي حالة
تدعوهم إلى ذلك وبين أيديهم القرون الثلاثة الأولى ، ولم يكن فيها شيء من هذا
التوسل ولا ما يشبهه بوجه من الوجوه. وكتب السنة والسير بين أيدينا شاهدة بذلك،
فكل ما حدث بعد ذلك؛ فأقل أوصافه أنه بدعة في الدين ، وكل بدعة ضلالة ، وكل
ضلالة في النار. وأسوأ البدع ما كان فيه شبهة الإشراك بالله ، وسوء الظن به كهذه
البدع التي نحن بصدد الكلام فيها. وكأن هؤلاء الزاعمين يظنون أن في ذلك
تعظيمًا لقدر النبي صلى الله عليه وسلم أو الأنبياء والأولياء. مع أن أفضل التعظيم
للأنبياء هو الوقوف عند ما جاءوا به ، واتقاء الزيادة عليهم فيما شرعوه بإذن ربهم،
وتعظيم الأولياء يكون باختيار ما اختاروه لأنفسهم. وظَنُّ هؤلاء الزاعمين أن
الأنبياء والأولياء يفرحون بإطرائهم وتنظيم المدائح وعزوها إليهم ، وتفخيم الألفاظ
عند ذكرهم ، واختراع شئون لهم مع الله لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله
ولا رضيها السلف الصالح؛ هذا الظن بالأنبياء والأولياء هو أسوأ الظن لأنهم
شبهوهم في ذلك بالجبارين من أهل الدنيا الذين غشيت أبصارهم ظلمات الجهل قبل
لقاء الموت ، وليس يخطر بالبال أن جبارًا لقي الموت وانكشف له الغطاء عن أمر
ربه فيه يرضى أن يفخمه الناس بما لم يشرعه الله فكيف بالأنبياء والصِّدِّيقين.
إن لفظ الجاه الذي يضيفونه إلى الأنبياء والأولياء عند التوسل مفهومه العرفي
هو السلطة ، وإن شئت قلت: نفاذ الكلمة عند من يستعمل عليه أو لديه ، فيقال:
فلان خَلَّصَ فلانًا من عقوبة الذنب بجاهه لدى الأمير أو الوزير مثلاً. فزَعْم أن
لفلان جاهًا عند الله بهذا المعنى إشراك جلي لا خفي ، وقلما يخطر ببال أحد من
المتوسلين معنى اللفظ اللغوي ، وهو المنزلة والقدر ، على أنه لا معنى للتوسل
بالقدر والمنزلة في نفسها لأنها ليست شيئًا ينفع ، وإنما يكون لذلك معنى لو أولت
بصفة من صفات الله كالاجتباء والاصطفاء ، ولا علاقة لها بالدعاء ، ولا يمكن
لمتوسل أن يقصدها في دعائه ، وإن كان الألوسي المسكين بنى تجويز التوسل بجاه
النبي خاصة على ذلك التأويل ، وما حمله على هذا إلا خوفه من ألسنة العامة
وسباب الجهال ، وهو مما لا قيمة له عند العارفين. فالتوسل بلفظ الجاه مبتدع بعد
القرون الثلاث ، وفيه شبهة الشرك والعياذ بالله ، وشبهة العدول عما جاء به رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فلِمَ الإصرار على تحسين هذه البدعة.
يقول بعض الناس: إن لنا على ذلك حجة لا أبلغ منها وهي ما رواه الترمذي
بسنده إلى عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال: إن رجلاً ضرير البصر أتى النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال: إن شئت دعوت وإن
شئت صبرت فهو خير لك. قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء،
ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، إني
توجهت بك إلى ربي ليقضي لي في حاجتي هذه ، اللهم فشفعه فيّ. قال الترمذي:
وهو حديث حسن صحيح غريب.
ونقول أولاً: قد وصف الحديث بالغريب ، وهو ما رواه واحد ثم يكفي في
لزوم التحرز عن الأخذ به أن أهل القرون الثلاثة لم يقع منهم مثله ، ووهم أعلم منا
بما يجب الأخذ به من ذلك ، ولا وجه لابتعادهم عن العمل به إلا علمهم بأن ذلك من
باب طلب الاشتراك في الدعاء من الحي ، كما قال عمر رضي الله عنه في حديث
الاستسقاء: (إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا ، وإنا نتوسل
إليك بعم نبيك العباس فاسقنا) قال ذلك رضي الله عنه والعباس بجانبه يدعو الله
تعالى ، ولو كان التوسل ما يزعم هؤلاء الزاعمون؛ لكان عمر نستسقي ويتوسل
بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يقول: كنا نستسقي بنبينا ، والآن نستسقى بعم
نبيك ، وطلب الاشتراك في الدعاء مشروع حتى من الأخ لأخيه ، بل ويكون من
الأعلى للأدنى كما ورد في الحديث ، وليس فيه ما يخشى منه ، فإن الداعي ومن
يشركه في الدعاء وهو حي كلاهما عبد يسأل الله تعالى ، والشريك في الدعاء
شريك في العبودية ، لا وزير يتصرف في إرادة الأمير كما يظنون {سُبْحَانَ رَبِّكَ
رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) .
ثم المسألة داخلة في باب العقائد لا في باب الأعمال. ذلك أن الأمر فيها
يرجع إلى هذا السؤال: (هل يجوز أن نعتقد بأن واحدًا سوى الله يكون واسطة
بيننا وبين الله في قضاء حاجاتنا أو لا يجوز) أما الكتاب فصريح في أن تلك العقيدة
من عقائد المشركين ، وقد نعاها عليهم في قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا
يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) ، وقد جاء
في السورة التى نقرؤها كل يوم في الصلاة: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) فلا
استعانة إلا به ، وقد صرح الكتاب بأن أحدًا لا يملك للناس من الله نفعًا ولا ضرًّا ،
وهذا هو التوحيد الذي كان أساس الرسالة المصطفوية كما بينا ، ثم البرهان العقلي
يرشد إلى أن الله في أعماله لا يقاس بالحكام وأمثالهم في التحول عن إراداتهم بما
يتخذه أهل الجاه عندهم؛ لتنزهه جل شأنه عن ذلك ، ولو أراد مبتدع أن يدعو إلى
هذه العقيدة فعليه أن يقيم عليها الدليل الموصل إلى اليقين إما بالمقدمات العقلية
البرهانية أو بالأدلة السمعية المتواترة ، ولا يمكنه أن يتخذ حديثًا من حديث الآحاد
دليلاً على العقيدة مهما قوي سنده ، فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث
الآحاد لا تفيد إلا الظن {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: 36) والله
أعلم.
في 27 جمادى الثانية سنة 1322
…
...
…
... محمد عبده
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
ما يتعلم في السفينة
الشذرة الخامسة عشرة من جريدة الدكتور أراسم
في اليوم الخامس من شهر مارس بلغنا مينا جرافسند [1] حيث سلم مُعَرِّف
التأميز [2] زمام سفينتنا إلى مُعِّرف البوغاز الذي أخذ الآن على نفسه إبلاغنا ما
وراء مصب النهر.
في نحو الساعة السادسة من المساء برز الربان على ظهر السفينة وتعهد
بنفسه ما شحن فيها من المؤنات كالماء والبقسماط وبراميل اللحم المملح ، واستوثق
من سلامتها ، ثم قضينا ليلتنا على المرساة.
وقرب حد الظهيرة من الغد سارت بنا السفينة تجرها باخرة صغيرة الحجم
شديدة القوة تسمى (نلسن) ، وفي وقت مرورنا حيال منارة (نور) هبت علينا
ريح طيبة ، فأمكنتنا من مد بعض الشُرع ، ثم تغير لون الماء فصار ذا خضرة
كدراء.
كانت تلك الساعة هي المعينة لنزولي إلى حجرات المسافرين لعيادتهم فيها ،
وليس القيام بشئون الصحة في سفينة إنكليزية كبرى من الأعمال (الوظائف) التي
يؤجر صاحبها بلا كسب فإن (المونيتور) تحمل خمسة وثلاثين راكبًا من الدرجة
الأولى ، وقل منهم من يقوى على أول صدمة للبحر عدو الإنسان، ويكون آمنًا من
العثار ، فلم ينج من مرضه إلا هيلانة وامرأتان أخريان أو ثلاث.
وفى اليوم الثامن من الشهر بلغنا حوالَي الكثبان ، فألقى معرف البوغاز مقاليد
السفينة إلى ربانها، ونزل بالساحل ثم رجعت الباخرة الجارة بعد إبلاغنا هذا المكان
من حيث أتت، ووكلتنا إلى قوانا أي إلى شُرُع سفينتنا، ولما رأى المسافرون
والملاحون أن هذه البقعة هي آخر موقف يؤذن لهم فيه بالاقتراب من البر حمل
كثير منهم المعرف رسائل إلى أصدقائهم تتضمن بالبداهة آخر وداع لهم.
جاء دور البحارة الآن في العمل ، فمدوا أيديهم إليه بهمة وإقدام ، واشتغل
الضابط الأول والثاني للسفينة بترتيب الحرس ، فعيَّنَا لكل حارس عمله، ثم تدلت
من جميع السواري وهي في نصف ارتفاعها أنسجة طويلة نفختها الريح وصفقتها ،
فأنشأت السفينة تميد ، وأحست باستقلالها من وقت أن ثابث إليها أجنحتها، وكانت
قبيل هذا تبدو عليها علائم الكآبة والخجل أن ترى مقودة بغيرها.
أديرت على الملاحين كأس من خمر عسل السكر استحقوها كل الاستحقاق
بكدهم ونَصَبهم.
مما عرفته من الأماكن في مسيرنا (بيشى هد) وهو رأس فى أميرية
(قونتية) صاسقس ، وجزيرة وايت ، وستارت بوينت ، وقد صار الماء الآن ذا
خضرة بهيجة تطفو على سطحه أعشاب بحرية تشبه التبن الطويل. صادفتنا سفينة
راجعة إلى إنكلترا فخاطبناها بأعلامنا الملونة، وسألناها بهذه اللغة السرية أن تبلغ
سفر سفينتا مكتب الملاحة لشركة ليود.
انتهينا من اجتياز البوغاز ، فخرجنا منه وكان الجو صحوًا ، فصعد المسافرون
على ظهر السفينة لاستنشاق النسيم البارد.
إني قلما رأيت اللج مرة لم يكن مرآه فيها مثارًا للعجب في نفسي ، ولكن
أخص ما شغل ذهني منه الآن هو جملة العلوم التي استفادها الإنسان من ممارسة
البحر. انظر إلى النظام الكوني تجد علم الهيئة الذي يبحث فيه عنه إنما تولد من
الملاحة ، فإنه لولا أن حاجة الإنسان إلى الاهتداء في سيره على ظهر البحار دفعته
إلى درس الفلك؛ لكان من المحتمل أن لا يخطر بباله أصلاً أن يتقصى سرًّا من
أسراره ، فاحتياجه إلى السعي في طلب الغنى هو الذي اضطره إلى قياس الزمان
والأبعاد قياسًا مضبوطًا ، فترى الملاح الساذج مع أنه لا يعرف القراءة دائمًا حائزًا
بالتحقيق لكثير من العلوم العلمية. سله إن شئت ، وليكن ذلك عن بعض الأمور
الطبيعية؛ تجد كلامه فيها يرجع إلى ما قرره العالم الذي قضى سنين كاملة في دار
من دور الكتب، وإذا كنا الآن قد أنشأنا نظن أن للرياح والزوابع قانونًا، فإنما كان
ذلك بسبب ما جمع من ملاحظات البحارة المختلفين في السفن الموزعة على جميع
البحار ، فأصبح أشد الفواعل الكونية تعاصيًا عن الضبط منقادًا إلى قانون، ودخل
أبعد الحوادث عن النظام في نظام العلم العام، وكشفت المسابير أغوار قعر المحيط
وقفاره المفروشه بأسلاب فرائسه ، وأضحى الآن من الميسور رسم خريطة لتيارات
البحر السفلية، ثم إن الفضل فيما عرفناه من العلوم الصحيحة عن شكل العالم راجع
إلى الملاحين.
خلق البحر مثالاً للأزل لأنه مثال للحركة ، فشهد تولد اليابسات المتعاقبة
وانعدامها وارتفاع الجبال، وما وقع على مر الدهور من ضروب فعل الأرض
وانفعالها مما لا يزال يرتجف منه فؤاده ، وهو اليوم كما كان في مبدأ العالم لا
يعتوره نصب في جهاده وجلاده، فتراه يعض بعض سواحله، ويقرض ما يقاومه
من الصخور الصوانية ، ويقتلع بعض أجزاء الأرض من أماكن مختلفة فينقلها من
أحد نصفيها إلى النصف الآخر ليبني بها سواحل جديدة وجزرًا ورءوسًا لابد أن
يهدمها بعد، وبِدَأْبِه على العمل يتحول من مكان إلى مكان على تعاقب العصور
بالقوة الساكنة التي توجد فيما لا يموت من الأشياء، وكما أنه رحم للخلائق
العضوية الأولى هو أيضًا أكبر مستودع للحياة.
من المحقق الذي لا مرية فيه أن ممارسة البحر قد وسعت دائرة علومنا،
ولكنا قد استفدنا منه ما هو أجل من العلم نفسه ألا وهو ما يتحلى به الرجال من
الفضائل التي ينميها في النفس الجهاد مع المحيط المخوف ، فلولا هذا الجهاد لما
عرف الإنسان شيئًا يستحق المعرفة فما أمثل الملاحة طريقة للتربية! فذلك المربي
القاسي العبوس وأعني به البحر يبث كل يوم في أذهان غلمانه الذين يتغذون بلبان
معارفه أن النفوس متساوية ، وأن الفلاح في الاعتماد عليها ، ويعلمهم من البسالة ما
لا تزعزعه الخطوب ، ومن الصبر ما يقوون به على احتمال كل ضروب الحرمان
واقتحام جميع المخاطر، ومن ذا الذي في وسعه أن يصف ما آتى الجنان من الثبات،
وما ألبس النفس من درع القوة ، وهو - وإن غلبه الملاحون بمثابرتهم على قهره
وثباتهم في طلب الظفر به - يحق له في نفس هذا الغلب أن يفخر بغالبيه ، فإنه هو
الذي أنشأهم وهم تلامذته اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
جرافسند هي أحد موانئ إنكلترا وموقعها في الجنوب الشرقي للوندرة.
(2)
التأميز نهر من أنهار إنكلترا يمر بأكسفورد ولوندرة ويصب في بحر الشمال.
الكاتب: تلميذة من دمشق
الرجل والمرأة في دمشق
رسالة من الفتاة الدمشقية المهذبة صاحبة التوقيع الرمزي
حضرة الأستاذ العالم الفاضل الشيخ محمد رشيد أفندي رضا صاحب جريدة
المنار الأغر لازال ملجأ لكل خير.
الغرض من المناظرة التوصيل للحقيقة ، ولجريدتكم الغراء السبق في هذا
الميدان الذي أعرف نفسي بأني لست من فرسانه وأن دخولي فيه يعد تطفلاً مني
على ذويه ، لكن شدة غيرتي على بنات نوعي ذوات الخدر اضطرني للدفاع عنهن
على قدر بضاعتي واستطاعتي، فأقول: طالعت مقالة للفاضل س. ع مدرجة في
عدد 1485 من جريدة ثمرات الفنون الغراء ، فرأيت حضرة الكاتب من جهة
يعترف بأن الرجل في دمشق لم يكن أحسن أخلاقًا من أخته، وأنه هو الذي جعلها
بالدرك الأسفل من الجهل، ومن جهه أخرى ينعطف ويوجه الملام عليها بتبذير
ابنها بقوله: إن أمه هي السبب ، فإنه لما شرع بالمشي وأخذ يخرج إلى السوق
بدأت هي تعطيه نفقة (خرجية) وتعوده على الإسراف والتبذير
…
إلخ.
فأجيبه إنه لم ينصف أخته المسكينة التي كان الرجل هو الذي ضغط عليها
أولاً حتى هوت بأولاده في هاوية الجهل كما ترى، فبأي عدل يحق لأخيها توجيه
الملام إليها مهما أساءت التصرف سواء كان بسوء التربية أو بغيرها ، وهو السبب
فيما يشكو منه؛ إذ هو صاحب السيطرة عليها ، وبيده إدارة التعليم وما بيد شريكته
غير خدم المنزل ، فما دامت الحالة على ما ذكر فمن المسئول والمطالب يا ترى،
هل الرجل أم المرأة؟
هل المرأة هي التي قالت لابنها: إذا كبرت يا بني فأخرب ما بناه أسلافك من
مدارس العلم والتعليم، واجعل البعض منها بيوتًا لسكناك ، والبعض بيتًا لمركبتك ،
والبعض إسطبلاً للدواب، والبعض قاعًا صفصفًا يأوي إليه الغراب، وابتلع ما
وقفه أسلافك على هذه المدارس، ولا تُبْقِ لها غير الاسم بكتاب المدارس؟ [*] هل
المرأة هي التي علمت ابنها الخزعبلات، وقالت له: اترك طلب العلم وتزيَّ بشعار
العلماء حتى تغش بأقوالك وأفعالك الظاهرة البسطاء من إخوانك وأخواتك ، واترك
التجارة والصناعة والزراعة ، واتخذ لك مهنة خرافية فادَّع أنك مشارك للعفاريت
والجان، وأنك قادر على إخراج الشياطين المردة ممن أصابتهم أمراض عصبية من
بني جنسك، وأنك قادر على الإعلام بالمغيبات ، وأنك تخرج الثعابين والحيات من
أحجارها ، وأن النار إذا دخلتها تكون عليك بردًا وسلامًا ، وأن أمضى السلاح لا
يؤثر بجسمك ، وأنك قادر بطلاسمك على التفريق بين المرء وزوجته ، وأنك قادر
على صلاة المغرب في دمشق والعشاء في بغداد ، وما شابه ذلك من الخرافات
والدعاوى الكاذبة والخزعبلات اللاتي يندر صدور أمثالها عن النساء الجاهلات
الللاتى ينحصر حديثهن في الأزياء (الموضة) والخياطة والرجال يقولون فيهن:
طويلات الشعور قصيرات العقول.
وأما نداء حضرته أبناء وطنه ودعوتهم إلى تهذيب بناتهم، وأن يبذلوا الدراهم
على تعليمهن كما يصرفونها على تعليم أبنائهم ، فإننا مع موافقته على وجوب
التعليم نطلب منه طلب استفادة أن يدلنا رعاه الله على مدرسة وطنية في دمشق
أو في نواحيها يمكن أن تجاب فيها الدعوة التي هي بالحقيقة ضالتنا المنشودة حتى
أكون أول منادية مع حضرته ، وأكون لحضرته من الشاكرين. فإن كان مراده
التعليم بالمكاتب (الكتاتيب) الموجودة ، فنعيد هنا ما قلناه في مقالة سابقة من
أن هذه المكاتب ملأى من كلا النوعين الذكور والإناث ، على أنها غير وافية
بالمطلوب لأن التعليم فيها محدود. وإن كان مراد حضرته إرسال البنات إلى
مدارس الأجانب كما يرسل البنون، فنحن وإياه على طرفي نقيض، وأظن أنه لا
يوافقه على هذا إلا قليل من الآباء.
قد تحقق عند كثير من الآباء والأمهات بدمشق ضرورة تعليم البنات اللائي
سيصرن أمهات ما يُحْسِنَّ أهم أعمالهن؛ وهي تربية الأولاد الذين تتألف منهم العيال
والطوائف والأمم ، والذين سيكونون رجال ونساء المستقبل لأن الأطفال عندما
يكونون في أحضان أمهاتهم يرضعون من ألبانهن ينتقل إليهم كثير من عاداتهن
وصفاتهن ونطقهن ، ويقتدي الولد بوالدته في كل ما يسمع منها ويرى. لذلك نرى
أن من يريد تعليم بناته يجب عليه أن يصرف عليهن مثلما يصرف على تعليم بنيه،
لكن المانع من ترقية التعليم عدم وجود مدرسة كما تقدم، ولا أنكر وجود أناس
أيضًا لا يزالون يرون تعليم البنات من الأمور المنكرة لأن المرأة بحد ذاتها عندهم
كمتاع البيت، وأن الواحد إذا صرف وقته بتعليم البقرة الحرث أفضل له من صرفه
في تعليم بنته لاعتقاده أو خوفه من أن تصير ساحرة.
وأما قوله: إنه عجز الآن عن تأسيس مدرسة بدمشق لأجل تهذيب إخوانه
وأخواته
…
إلخ، فأقول في جوابه: إنه لا يخفى على حضرته ما نقله إلينا التاريخ
عما كان يعانيه ويقاسيه أعاظم الرجال الذين كانوا يتصدون لأي مشروع جديد سيما
إذا كان مخالفًا لما ألفه الأكثرون، ولو كان مؤكدًا فيه النجاح من الإهانة والهزء بهم
وبأعمالهم حتى كان السواد الأعظم يرى عمل أحدهم ضربًا من الجنون، ومع ذلك
يثبتون ولا يرجعون عن عزمهم حتى خلد ذكرهم، ووضعوا لذاتهم ذكرًا حميدًا على
صفحات التاريخ ، فيجب علينا أن نقتدي بهؤلاء الرجال، ولا نهمل أي مشروع
يكون من ورائه النجاح عاجلاً أو آجلاً ، وأن نترك ما نحن عليه من التكاسل ومحبة
التعظيم الكاذب والتبجيل الفارغ ، وأن ننتبه من غفلتنا، ونصحو من رقدتنا،
وننظر لحالتنا ، ونقابلها على حالة جيراننا الذين سبقونا بكل شيء ، ونشمر عن
ساعد الجد والاجتهاد، ونتعاون كما أمرنا على البر والتقوى، وأن نؤلف جمعية من
نخبة الشبان العلماء البعيدين عن الخرافات ، ونباشر بمعرفتها جمع المال اللازم
لتأسيس مدرسة وطنية لأجل تعليم البنين والبنات تكون على أحسن طراز إن شاء
الله وبه المستعان وعليه الاتكال.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(ف.ع)
…
...
…
...
…
...
…
... التلميذة في دمشق
_________
(*) المنار: تعني الكاتبة الكتاب الذي أحصيت فيه أسماء مدارس الشام.
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية وأدبية
(تاريخ التمدن الإسلامي)
صدر الجزء الثالث من هذا الكتاب لمؤلفه جرجي أفندى زيدان صاحب مجلة
الهلال وهو يبحث (فى العلم والأدب، وما كان منهما عند العرب قبل الإسلام من
التغيير في القرائح والعقول ، وما نقل عن اللغات الأجنبية من العلوم ، وما كان من
تأثير التمدن الإسلامي في كل ذلك) فما كان قبل الإسلام هو النجوم والأنواء
والميثولوجيا والكهانة، ويعني بالميثولوجيا: الخرافات المتعلقة بتأليه النجوم
والأنواء، والميثولوجيا الخرافات وأما العلم الحقيقي الذي كان عندهم فهو التاريخ ،
والأنساب فرع منه والأدب ، ومنه الشعر والخطابة ، وما هو ممزوج من الحقيقة
والوهم وهو الطب، وقد ذكر المؤلف هذه كلها سردًا على وجه التقسيم، وكانوا
يعرفون علومًا أخرى لم يتكلم عنها كعلم الريافة (استنباط المياه من الأرض)
والقيافة والعيافة والزجر وغير ذلك، ولم يكن شيء من هذه العلوم مدونًا في
الصحف والكتب، بل كان مما يعملون به ويتناقلونه باللسان لأنهم أميون. وأما
العلوم الإسلامية فهي لسانية ودينية وعقلية وكونية وفيها أكثر مباحث الكتاب.
وذكر المؤلف في مقدمته أن من الإفرنج من هضم في كتبه المسلمين أو
العرب، وغمص حقهم العلمي فلم يعترف بفضلهم، بل زعم أنهم أفسدوا ما نقلوه ،
ومنهم من أنصف واعترف بفضلهم، وهم المستشرقون الذين بحثوا وعرفوا، ولكن
بعض هؤلاء أطنب في مدح العرب، وذكر لهم من المزايا ما لا يوجد له ذكر في
كتبهم مع أن الكتب العربية هي منبع التاريخ والمعارف الإسلامية، وأنه هو توسط
بين الطرفين، ولكن لا يخفى عليه أنه يصح أن نجعل ما بين أيدينا من الكتب هو
الميزان لمعارف العرب ، فإن معظم كتب سلفنا قد ضاع من أيدينا، ولم يُبْقِ لنا
الجهل بقيمة تلك الآثار، وما يلزمه من سوء الاختيار إلا أدنى الكتب وأقلها فائدة
ومكاتب الإفرنج مملوءة بتلك الذخائر المفقودة، والآثار الضائعة، ثم إن الأجنبي
عن الأمة قلما ينصفها في فضلها تمام الإنصاف، وأقل من ذلك وأبعد عن المعقول
أن يهبها ما ليس لها من المزايا والأوصاف إلا أن يكون الكاتب من أصحاب الأهواء
المعروفة لا من أهل العلم والمعرفة، ومن الهوى حب الإغراب ، والكذب في
المبالغة والإطناب.
وقد قرأنا نبذًا من الكتاب متفرقة فرأيناها شاهدة لما نعتقده في المؤلف من
الإنصاف، ولكننا رأينا بعض المسلمين يرميه بالتعصب، ووصلت شكواهم منه
إلى أكبر معاهد العلم الإسلامي في مصر، وهذه الشكوى لا تزيد على ما كتبه إلينا
بعض أهل العلم في دمياط، وقد طلب منا كغيره الرد عليه ، فرأينا من الظلم أن
نجازي من يتعب في خدمتنا بذكر هفواته قبل التنويه بفائدة كتابه، ولذلك بادر إلى
تقريظه قبل مطالعته، وهذا نص الكتاب الوارد من دمياط:
(قرأت ما نشر صاحب الهلال في هذه الأيام الأخيرة من تاريخ التمدن
الإسلامي؛ فوجدته وإن نوه بما للإسلام والمسلمين من الفضل إلا أن في طوايا
الكتاب وزوايا الكثير من صحائفه ما يرمي المسلمين في العصر الأول بالجمود
والتعصب الديني فإن لم يتيسر لك تصفح الكتاب فانظر الصحيفة التاسعة والثلاثين.
ليس هذا كل ما أقصد من الكتابة لحضرة الفاضل صاحب المنار، وإنما أهم
ما دعاني إلى الكتابة استلفات نظره إلى مسألة دينية أشار لها حضرة الكاتب تحت
عنوان (المأمون والاعتزال) صحيفة 141 ، وهي مسألة الخلاف في القرآن هل
هو مخلوق أو غير مخلوق فإنه حرفها بظنه، وفسرها برأيه حيث قال بعد أن نوه
بفطنة المأمون، وميله إلى البحث العقلي ما نصه: (فتمكن من مذهب الاعتزال ،
وأخذ يناصر أشياعه ، وصرح بأقوال لم يكونوا يستطيعون التصريح بها خوفًا من
غضب الفقهاء ، ومن جملتها القول بخلق القرآن ، أي أنه غير مُنْزَل) فنستلفت
نظرك أيها الفاضل لقوله: أي أنه غير مُنْزَل بل إلى الكتاب كله والسلام) .
(المنار)
أما ما جاء في (ص 39) فهو منتقد، ولكنه معتقد المؤلف فيما أرى ، ولم
يقصد به إهانة الإسلام والنيل منه، قال: كان الإسلام في أول أمره نهضة عربية ،
والمسلمون هم العرب، وكان اللفظان مترادفين ، فإذا قالوا: العرب؛ أرادوا
المسلمين ، وبالعكس.
ولأجل هذه الغاية أمر عمر بن الخطاب بإخراج غير المسلمين من جزيرة
العرب. ونقول: إن هذا غلط سرى للمؤلف من استعمال الأجانب من عهد بعيد
فأطلقه، والصواب أن المسلمين في صدر الإسلام كانوا يطلقون كلمة العرب أحيانًا
في مقابلة المسلمين فيعنون بهم المشركين، ولم يكن اللفظان مترادفين عند المسلمين
في وقت ما على الإطلاق، بل كانوا يطلقون لفظ المسلم والمسلمين على كل من
دخل في الإسلام، وإذا أطلق على العرب خاصة كان تجوزًا يعرف بالقرينة. ولم
يخرج عمر غير المسلمين من الجزيرة اجتهادًا منه، بل عملاً بأمر النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم - فقد أوصى بذلك في مرض موته ، ثم قال المؤلف:
(وأما الإسلام وقوامه القرآن ففي تأييده تأييد الإسلام والعرب، وتمكن هذا
الاعتقاد في الصحابة لما فازوا في فتوحهم، وتغلبوا على دولتي الروم والفرس
فنشأ في اعتقادهم أنه لا ينبغي أن يسود غير العرب، ولا يتلى غيرالقرآن، وشاع
هذا الاعتقاد خصوصًا في أيام بني أمية، وقد بالغوا فيه حتى آل ذلك فيهم إلى نقمة
سائر الأمم عليهم) .
ونقول: إن القرآن بلا شك أساس الإسلام، ولكن ليس فيه ما يدل على أن
العرب يجب أن يكونوا ممتازين على غيرهم ، بل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) نعم، إن تأييد العرب له تأييد لهم إذ لولاه لم يخرجوا من
ظلمة جاهليتهم ، ولكن فتح بلاد الروم والفرس لم يزد الصحابة اعتقادًا بما ذكره ،
وإنما كانوا يعتقدون كما يعتقد كل مسلم إلى الآن وإلى ما شاء الله أنه لا يصح أن
يعتقد بأن شيئًا من الدين إلا ما جاء في القرآن والسنة، أو أرشد إليه الكتاب أو
السنة، وهذا الاعتقاد لا يمنع جواز قراءة كل كتاب نافع والانتفاع بكل علم في أمر
الدينا، ولاسيما وقد قال لنا نبينا:(أنتم أعلم بأمور دنياكم) وأمرنا أن نطلب
العلم ولو بالصين ، وأن نأخذ الحكمة أينما وجدت. وما كان من أمر بني أمية؛
فهو من الأثرة والطمع ولم يميزوا أنفسهم على الأعاجم وحدهم، بل ميزوها قبل
كل شيء على آل بيت النبي عليه وعليهم السلام ثم قال:
(أما في الصدر الأول فقد كان الاعتقاد العام أن الإسلام يهدم ما قبله، فرسخ
في الأذهان أنه لا ينبغي أن ينظر في كتاب غير القرآن؛ لأنه جاء ناسخًا لكل كتاب
قبله) اهـ. ونقول: إن معنى هدم الإسلام لما هو قبله أن من دخل فيه لا يؤاخذ
على الكفر والمعاصي التي كان عليها قبله كما يعلم من النصوص الصريحة، وليس
معناه أنه أبطل العلوم والفنون الدينية والدنيوية معًا، كيف وأكثر المسلمين يقولون
إلى اليوم بأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد عندنا ما ينسخه بخصوصه، وأما
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النظر في كتب اليهود، وعن تصديقهم وتكذيبهم
فسببه عدم الثقة بما ينقلونه عن كتبهم على أنها محرفة، وقد {نَسُوا حَظاًّ مِّمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 13) ومثلهم في هذا النصارى، وقد خالف هذا النهي بعض
الرواة، فأدخلوا في كتب المسلمين من الإسرائيليات ما شوه كتب السير والتفسير
والحديث بالأكاذيب والخرافات، ولولا نقد الحفاظ لاختلط علينا الأمر بسوء قصدهم ،
أو فهمهم كما اختلط على من قبلنا. وقد جعل المؤلف هذه النبذة مقدمة للنبذة التي
يرجح فيها أن العرب هم الذين أحرقوا مكتبة الإسكندرية، وما كان أغناه عن ذلك.
هذا ما أشار إليه الدمياطي عن (ص39) وأما تفسير المؤلف لخلق القرآن بما
فسره به في (ص141) فهو من اجتهاده الغريب الذي انفرد به، ولم يخطر على
بال أحد قبله من المعتزلة، ولا من أهل السنة ، فإن هؤلاء لا يكفرون المعتزلة
بالقول بخلق القرآن ، والفريقان مع سائر الفرق الإسلامية على إجماع واتفاق على
كفر من يقول: إن القرآن غير منزل؛ لأن هذا القول تكذيب صريح للقرآن وللنبي
لا يحتمل التأويل ولا التعليل، والذي يقول به يستحيل أن يلتزم شيئًا من عقائد
المسلمين وعباداتهم. وإنما يعنون بخلق القرآن ما كانوا يسمونه مسألة اللفظ، وهو
أن ألفاظ القرآن التي يكيفها التالي بصوته مخلوقة، ومن فوائد إنكار أهل السنة
والجماعة لهذا القول: أنه ربما يفضي إلى أن يقول بعض الناس إنه يلزم من
حدوث ألفاظ القرآن أن لا يكون منزلاً من الله تعالى - كما قال المؤلف - فيخرجوا
من الإسلام.
وإنا لنعلم أن كثيرًا من المسلمين يظنون أن المؤلف يتعمد أمثال هذا القول
طعنًا في الدين وتشكيكًا في الإسلام، وقد صرحنا من قبل باعتقادنا فيه، وأنه يقول
ما وصل إليه علمه بحسن نية، وأنه ليس من متعصبي النصارى الذين يرضون
تعصبهم بإفساد العلم كاليسوعيين الذين حرفوا كتب المسلمين لهذا الغرض، حتى لا
ثقة بكتاب يطبع عندهم، وبينا سبب وقوع هذه الأغلاط في كتب جرجي أفندي
زيدان، وهي أنه لم يدرس المسائل الإسلامية، ويأخذها عن أهلها من كتبها، وإنما
يتناول نتفًا منها من كتب التاريخ والأدب وغيرها؛ فيجيء بيانه للمسألة أو حكمه
عليها خطأ في بعض الأحيان مهما كانت ظاهرة جلية في مواضعها كما صرحنا
بذلك في تقريظ الجزء الثاني من هذا الكتاب. وعذر الذين يسيئون الظن فيه أنه
يقول في الإسلام بما لم يقل به أحد ، ويعزو إلى أهله ما لم يخطر لأحد منهم ببال
من غير دليل ، كتفسيره مسألة خلق القرآن بأنه غير منزل من الله، والحقيقة ما
قلناه ، وليس لنا أن نعد ما هو بديهي عندنا بديهيًّا عند المخالفين لنا في الدين الذين
لم يدرسوه دراستنا لعدم حاجتهم إلى ذلك. نعم، كان ينبغى لهذا المؤلف الذي نعهد
فيه الإنصاف وحب الحقيقة أن يعرض المسائل الدينية الإسلامية المحضة على عالم
مسلم قبل تدوينها ، وهي قليلة لا تزيد في عنائه على مراجعة الكتب في المكتبة
المصرية. وفي الكتاب مباحث أخرى تستحق النقد، ربما نعود إليها في وقت آخر ،
وفيه فوائد كثيرة لا تجدها مجموعة في كتاب عربي.
وإننا مع هذا نشكر للمؤلف عنايته واجتهاده وسبقه إلى إدخال أساليب التأليف
الحديثة في اللغة العربية، ونرجو أن يزيد في التحري مع الاعتراف بأنه لا عصمة
لأحد في اجتهاده، ونحث أهل العلم والبحث على النظر في كتبه هذه، ومن كان
ينتقدها على الإطلاق فليأتنا بخير منها؛ نكن له من السامعين الشاكرين. وصفحات
هذا الجزء 314 ، وثمن النسخة عشرون قرشًا.
***
(ثلاثون عامًا في الإسلام)
كتاب وضعه موسيو ليون روس السياسي الفرنسي الذي أقام في بلاد المسلمين
30 سنة، وتعلم في أثنائها اللغة العربية وفنونها، وقرأ العلوم الإسلامية، وعاشر
المسلمين في الجزائر وتونس والآستانة ومصر والحجاز ، وقد عربت جريدة
اللواء المصرية عنه الجملة الآتية (فى عدد 1506 الصادر في 22 ج 2)
فنشرناها نقلاً عنها لتكون حجة على متعصبي النصارى، وعلى أمثال صاحب
جريدة اللواء الذي ينتصر للمشايخ الجامدين الذين وصفهم صاحب الكتاب، كما
يتحامل على المصلحين الذين يبينون انطباق الإسلام على المدنية الفاضلة،
ويدعون إلى أصوله الكاملة التي طمس التقليد معالمها ، وعبرة لنابتة المسلمين أبناء
التربية الحديثة الذين كفروا بهذا الدين تقليدًا للإفرنج الجاهلين به، أو المتعصبين
على أهله. قال المؤلف:
(اعتنقت دين الإسلام زمنًا طويلاً لأدخل عند الأمير عبد القادر دسيسة من
قِبَل فرنسا، وقد نجحت في الحيلة فوثق بي الأمير وثوقا تامًّا ، واتخذني له
سكرتيرًا. فوجدت هذا الدين الذي يعيبه الكثيرون أفضل دين عرفته، فهو دين
إنساني طبيعي اقتصادي أدبي، ولم أذكر شيئًا من قوانيننا الوضعية إلا وجدته فيه
مشروعًا، بل إني عدت إلى الشريعة التي يسميها جول سيمون الشريعة الطبيعية
فوجدتها كأنها أخذت أخذًا عن الشريعة الإسلامية. ثم بحثت عن تأثير هذا الدين في
نفوس المسلمين، فوجدته قد ملأها شجاعة وشهامة ووداعة وجمالاًَ وكرمًا، بل
وجدت هذه النفوس على مثال ما يحلم به الفلاسفة من نفوس الخير والرحمة
والمعروف في عالم لا يعرف الشر واللغو والكذب، فالمسلم بسيط لا يظن بأحد
سوءًا، ثم هو لا يستحل المحرم في طلب الرزق، ولذلك كان أقل مالاً من
الإسرائيليين، ومن بعض المسيحيين.
ولقد وجدت فيه حل المسألتين الاجتماعيتين اللتين يشغلان العالم طرًا. الأولى
في قول القرآن: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) فهذا أجمل مبادئ
الاشتراكية، والثانية فرض الزكاة على كل ذي مال، وتخويل الفقراء حق أخذها
غصبًا إن امتنع الأغنياء عن دفعها طوعًا، وهذا دواء الفوضوية.
همت بحب فتاة جزائرية اسمها خديجة وشغفت هي بي حبًّا، إني كلما تذكرت
هذا الحديث أذوب أسفًا. تبادلنا الغرام وتشاكينا الهيام وهي لا تعرف من أمري إلا
أني مسلم. وكان حبي لها حبًا جرى مجرى دمي في مفاصلي ، فأردت أن أتخذها
زوجة، وأن أرحل بها إلى فرنسا حين قضاء مهمتي فأطلعتها على شيء من سري.
واأسفاه، إنها حين علمت بذلك نهضت من جنبي مصفرة الوجه مطرقة الرأس،
وقالت: الوداع الوداع ، إني أحبك فلا أستحل إفشاء سرك ، ثم إني أحب قومي فلا
أستحل أن أبقى بينهم عارفة بأمر يسوءهم، ولذلك لا ينبغي لي أن أعيش فالوداع.
ثم طعنت فؤادها بخنجر فسقطت ميتة وإني لا أنساها ما دمت حيًّا.
ذلك من تأثير هذا الدين الكريم، إنه دين المحامد والفضائل، ولو أنه وجد
رجالاً يعلمونه الناس حق العلم، ويفسرونه تمام التفسير؛ لكان المسلمون أرقى
العالمين وأسبقهم في كل الميادين، ولكن وُجِدَ بينهم - ويا للأسف - شيوخ يحرفون
كلمه ، ويمسخون جماله ويدخلون إليه ما ليس منه. وإني تمكنت من استغواء
بعض هؤلاء الشيوخ في القيروان والإسكندرية ومكة فكتبوا إلى المسلمين في
الجزائر يفتونهم بوجوب الطاعة للفرنسويين ، وبأن لا ينزعوا إلى ثورة، وبأن
فرنسا خير دولة أخرجت للناس، ومنهم من أفتى بأن فرنسا دولة إسلامية أكثر
من الدولة العثمانية، وكل ذلك لم يكلفني غير بعض الآنية من الذهب.
مثل هؤلاء الشيوخ الذين يحسبون هذا الدين ملكًا لهم لا ينبغي لغيرهم شرحه
وتفسيره، مثل هؤلاء الشيوخ الذين يقاومون المصلحين، ويعدون كل تأويل غير
تأويلهم كفرًا وإلحادًا، مثل هؤلاء الشيوخ هم علة تأخر الإسلام والمسلمين.
سمعت في الجزائر وتونس أن الشيخ محمد عبده المصري يفسر القرآن
تفسيرًا منطبقًا على العلم والمدنية والإنسانية، فوجدت كثيرًا من الشيوخ الجامدين
يرون في ذلك بدعة، ويقولون: ما أتى بمثل هذا أحد من الأولين. فكأنهم يرون
هذا الدين متاعًا لا يخص غير الرازي والجمل والسيوطي وغيرهم من المفسرين
السابقين ولا يخص سواهم من العلماء المجتهدين. إنه إذا مَنَّ الله على الإسلام
بشيوخ عقلاء مثل الشيخ محمد عبده وغيره من المصلحين، كان خير دين أخرج
للناس، وكان المسلمون أرقى العالمين اهـ.
(المنار)
قد سررنا من نشر جريدة اللواء لهذه النبذة، كما سررنا من كتابة ذلك
الفرنسي لها، فعسى أن نراها بعد الآن معترفة على الدوام بمثل ما اعترف به هذا
السياسي الكبير، والعالم المنصف، وأن لا تنتصر بعد لأولئك الشيوخ الجامدين
على العقلاء المصلحين، وإن كان الحق يعلو كل انتصار حيث يجد حرية، وأن
تستفيد بما ينشر المنار من ذلك التفسير الذي هو حجة الله على العالمين في هذا
العصر، ومن سائر محاسن الإسلام وحكمه ومزاياه، فلا يليق بمن ينتحل لنفسه
خدمة الإسلام في مصر أن يجهل أو ينكر ما فيها من الإصلاح الذي يعرفه،
ويعترف به الفرنسي في باريس.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
البيع بالنسيئة
(س69) ح. ح. فى الجبل الأسود: ما قولكم دام فضلكم فى البيع
بالنسيئة مضاعفة كأن يكون ثمن السلعة في السوق قرشًا واحدًا بالنقد، فيبيعها المالك
بقرشين نسيئة، وهل يوجد فرق في هذا البيع بين أن يكون لمسلم أو لغير
مسلم؟
(ج) إن ذلك جائز للمسلم وغيره ما لم يكن غش أو تغرير، ولا فرق في
المعاملات بين المسلم وغيره لأن الشريعة الإسلامية ساوت بين الناس في الحقوق ،
وإن اختلفوا في الجنس والدين، وإنما الشرائع الأخرى لاسيما الأوربية منها هي
التي تفاضل بين الأجناس والملل، فتميز كل شريعة أبناء جنسها في الحقوق على
غيرهم، أما الشريعة الإسلامية فإنما تقدم المسلم على غيره في الأمور التي تتعلق
بالدين، ولا يخفى أمر التراحم والتسامح مع المحتاج أو المضطر.
***
شرب الغازوزة
(س 70) ومنه: الماء الذي يقال له في اللغة التركية (غازوز) هل يجوز
شربه أم لا؟
(ج) ما كنا نظن أن هذا مما يحتاج للسؤال عنه فإنه لا يسكر قليله ولا
كثيره، وليس فيه شيء من مادة السكر، ومازال العلماء يشربون الكازوزة في
الآستانة ومصر، وفى كل بلد توجد فيه.
***
شرب الدخان في مجلس القرآن
(س71) محمد أفندي حلمي من المشتغلين بالعلم في دمياط:
قد سئلت عن حكم من يحضر لسماع أو تلاوة القرآن العزيز مستعملاً لشرب
الدخان - المسمى بالتبغ - ولكوني أرى الحكم على غير رأي من ذهب فقال
بالحرمة ، أو من قال بالكراهة بدون استناد منهما لشيء مما يقطع بصحة الحكم؛
أمسكت عن الجواب، وانثنيت لأخذ رأي من آتاه الله بسطة في العلم ناظرًا بماذا
يرجع إليه رأيه في ذلك، وإليك رأينا:
نحن لانرى في حق من شرب الدخان وقت تلاوة أو سماع القرآن الشريف أنه
ارتكب محظورًا يجعله الشارع في حقه مكروهًا أو محرومًا، وكيف يتسنى لنا ذلك
ونحن على ما نعلم أنه لم يقم دليل من كتاب الله أو سنة على حرمة أو كراهة ذلك
على من ذكرنا، فهو عندنا لم يخرج عن كونه نباتًا تحول بالحرق لمادة كربونية،
ثم انتشر في الهواء مثل تحول الفحم النباتي وبقية المواد القابلة للاحتراق كذلك،
ومتى كنا نعلم أنه لم يقل أحد بتحريم أو كراهة استعمال ما يتسبب عنه انتشار ما
يتولد بالحرق من نحو الفحم النباتي في مجلس من ذكرنا ، فلا يخول لنا القياس أن
نخصص أحدهما بالحكم دون الآخر متى كان الكل متحولاً لما هو من نوع واحد ،
فما يحكم به على الواحد يحكم به على غيره، وإلا كان هناك ترجيح بلا مرجح،
ولا يمكن مع هذا المتخيل أن يرى فيما ذكرنا انحطاطًا بكرامة الألفاظ المتلوة متى
كانت الآداب مرعية من الجانبين، ولا يقال: إنه من الصوارف عما هو المقصود
من المتلو مادامت الأسماع والقلوب ليست في أكنة، ولا يقال أيضًا: من شروط
تلاوة المتلو طهارة محله، وحمض الكربون بانتشاره في محل المتلو يجعله قذرًا
لأنه ليس مما عُدَّ في الشرع مستقذرًا، بل صار في زماننا هذا مستطابًا لنفوس
الكثيرين، وانتشر في سائر أنحاء الكرة الأرضية وجنح إلى تعاطيه أكثر الناس
حتى الأطفال والنساء لاسيما المخدرات ، والشيء - كما قيل - يعطى حكم وقته.
هذا ما يظهر للناظر من تلك الجهة - جهة الاستعمال - أما إن نظر لهذا الجوهر
من جهة أنه يضر بصحة المتعاطي حيث يجلب لجسمه الخطر الجسيم، أو أنه
يضر الحاضرين بالنظر لاتحاد حمض كربونه بالهواء المجاور فيجعله غير صالح
للتنفس تمامًا، فذاك نظر من جهة أخرى له حكم آخر ولو لم يكن بمحضر القرآن،
هذا وليعلم المطلع على ما كتبنا أن تصدينا له ليس من قبيل الميل لما نهوى فإننا -
وربك - ما تعاطينا شرب هذا الدخان عمرنا فلا يحمله ذلك على أن يقول: هذا
امرؤ يختار حكمًا لما يشتهي ، وإنما مقصدنا بيان الحق في ذلك فجئ بجوابك
الفصل أيها العالم الحكيم، وأنت الحكم الذي تُرْضَى حكومته والسلام.
(ج) إن الذين يتأثمون من التدخين المعروف في مجلس القرآن لا يبنون
ذلك على نجاسة مادة النبات، ولا على كونه أخس من غيره أو نجسًا، ولا على كون
التدخين يقتضي لذاته الإعراض عن الفهم والتدبر، وإنما يرون ذلك ينافي الأدب
لأن مجلس القرأن أفضل من مجالس العلم بغير القرآن، ولا شك أن من يدخن في
مجلس درس العلم سواء كان في مدرسة نظامية أو مسجد يعد مخلاًّ بالآداب ، فإذا
كان عرف البلد يعد التدخين حال التلاوة أو سماعها مخلاًّ بالأدب، فالقول باجتنابه
ظاهر ، وإذا لم يكن ذلك عرفًا عامًّا فعلى كل امرىء أن يعمل بما يعتقده وتطمئن
إليه نفسه ، ومن كان أقرب إلى الأدب كان أبعد عن توجه الإنكار عليه. هذا ما
ظهر لنا في المسألة بعرضها على قواعد الشريعة وآدابها ، والله أعلم وأحكم.
***
حكمة عدة الوفاة وعدة الطلاق
(س 72) مصطفى أفندي صبري مأمور مركز (البداري) : أرجو التكرم
بإفادتنا على مناركم الإسلامي عن الحكمة في تربص المتوفى زوجها أربعة أشهر
وعشرًا، وتربص المطلقة ثلاثة قروء. أفادنا الله بكم وأثابكم على إرشادنا.
(ج) الأصل في العدة بعد انفصال الزوجين بالطلاق أو بموت الرجل أن
يعلم أن المرأة غير عالقة من الرجل لئلا يشتبه حال الولد ، فلا يعلم أهو للزوج
الأول أم الثاني؟ فإذا تكرر على المرأة الحيض أو الطهر ثلاث مرات؛ يعلم أنها
غير حامل ، ولهذا المعنى كانت عدة الحامل أن تضع حملها ، فلو ولدت في اليوم
الثاني جاز لها أن تتزوج، والمتوفى زوجها تعتد لتعرف براءة رحمها من الحمل،
ولمعنى آخر وهو الحداد على زوجها، ولذلك كانت عدتها أطول من عدة ذوات
القروء إذ لا يليق بها أن تظهر الرغبة في الزواج بعد شهرين أو ثلاثة من موت
زوجها ، بل ذلك ينتقد منها ويؤلم قرابة زوجها، ولذلك زادت عدتها على عدة
غيرها ووجب عليها الحداد أربعة أشهر وعشر ليال لا تتزين فيها، ولا تمس طيبًا
مع أن الحداد على غير سائر الأهل والأقربين لا يزيد على ثلاثة أيام ، فإن زاد
حرم ، إلا قيل في الأب لحديث معلول ورد بسبعة أيام.
وذهب أكثر المفسرين إلى أن الحكمة في تحديد عدة الوفاة بهذا القدر أنه هو
الزمن الذي يتم فيه تكوين الجنين ونفخ الروح فيه، ولابد من مراجعة الأطباء في
هذا القول قبل التسليم به ، والظاهر لنا أن الزيادة لأجل الحداد ، ولم يظهر لنا شيء
قوي في تحديده، ولكن هناك احتمالات منها أنه ربما كان من عرف العرب أن لا
ينتقد على المرأة إذا تعرضت للزواج بعد أربعة أشهر وعشر من موت زوجها ،
فأقرهم الإسلام على ذلك لأنه من مسائل العرف والآداب التي لا ضرر فيها. وقد
كان من المعروف عندهم أن المرأة تصبرعن الزوج بلا تكلف أربعة أشهر ، وتتوق
إليه بعد ذلك، ويروى أن عمر أمر أن لا يغيب المجاهدون عن أزواجهم أكثر من
أربعة أشهر، إذا صح أن هذا أصل في المسألة تكون الزيادة الاحتياطية عشرة أيام
والله أعلم بالصواب.
_________
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
أسباب ضعف المسلمين وعلاجه
كتب رفيق بك العظم مقالة (هذا أوان العبر) في حال المسلمين ، فكان لها
من التأثير في نفوس نبهاء المسلمين أن انتدبت جريدة (تربيت) الفارسية الغراء
التي تصدر في طهران إلى ترجمتها ، ثم جاءنا في بريد الهند الماضي رسالة مطولة
من أحد فضلاء حيدر أباد الدكن يثني فيها على (الرفيق) بما هو أهله من الغيرة
والإخلاص والفعل، وينتقد رأيه في جعل مزج السياسة بالدين هو السبب في
ضعف المسلمين ، ويذكر ما عنده من الرأي في ذلك بغاية الأدب ، ويعرضه على
فضلاء المسلمين في مصر وفي سائر الأقطار ليؤيدوه أو ينتقدوه. ولما كان هذا
البحث أهم المباحث التي أنشئ المنار لأجلها ، وكان صاحب هذه الرسالة من أحسن
الكاتبين فيه أدبًا وبيانًا نشرنا مقالته كما نشرنا مقالة الرفيق. وقد قسمنا مقالة
الفاضل الهندي إلى قسمين أحدهما: في بيان الداء وأسبابه ، والثاني في علاجه.
قال حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم نحمده ونستعينه
جناب سيدي محمد رشيد رضا مالك مجلة المنار الفاضل والعلامة العامل الذي
أيد الله به الدين، وجعل وجوده نعمة ومِنَّة على المؤمنين ، فنشكر الله على هذه
المنحة، ونحمده على هذه النعمة.
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإني محبكم في الله حقًّا وصدقًا ،
وأسأل الله أن يزيدكم من فضله ويثيبكم على سعيكم في إحياء السنة وخدمة الأمة ،
وإني أرسلت إليكم هذه الرسالة فأرجو من فضلكم أن تدرجوها في المنار ، وإن
رأيتم تحسينًا فلكم الفضل ، على أنه يمكن أن تكون عليكم مشقة. ولكن في نصح
المسلمين ومحبة السنة والأمة لا أراكم تتوقفون، ولا تعوقكم أي مشقة ، وإن أحببتم
أن تجيبوا بجواب خطي فذلك يكون فضلاً وكرمًا من حضرتكم.
والذي ساقني إلى كتابة هذه الرسالة أني رأيت في أثناء مطالعاتي الجزء
الثامن من المجلد السابع من مجلة المنار التي هي مُنى الأبرار، وقرة أعين الأخيار،
رسالة عنوانها (هذا أوان العبر) أنشأها الأخ الصالح الغيور رفيق بك العظم
أفصح فيها عن حالة المسلمين بما يفتت الأكباد، ويصدع الجماد، وهو لَعْمرالله
كلام من فؤاد مليء حمية وغَيْرة وطنية، ودل على حسن طوية، وإخلاص نية.
وإني لا أقصر ثنائي عليه فقط، ولا أنسى الشكر لكثير من إخواننا المصريين
الذين لا يزالون يحررون الرسائل، وينبهون الغافل. والأخ رفيق بك المعظم جعل
موضوع رسالته البحث عن سبب ضعف المسلمين، وانحلال روابطهم وتدليهم إلى
حضيض الجهل، ثم ما هو مانع للمسلمين عن الترقي ومجاراة الأمم المتمدنة
ورأيته أبدى من رأيه على ما يعتقد أن سبب ما ذكر هو مزج العرب للدين بكل
شيء من أمور الحياة الدنيوية وأخصها حياة الأمم السياسية ، والأمة الإسلامية
استسلمت وصارت خاضعة لأولئك الولاة بحكم الدين حتى تأصل فيهم روح
الخضوع المطلق والطاعة العمياء لأولئك الأمراء المستبدين الذين يسومون الأمة
الخسف ، ولو أن العرب في بداية الأمر وضعوا الدين جانبًا، والسياسة الاجتماعية
جانبًا، وقلدوا الأمم المتمدنة في ذلك العصر كالرومان لما سقطت الأمة الإسلامية
هذا السقوط. وبالجملة فلا نجاة إلا أن يجتمع المسلمون ويضعوا الدين جانبًا
وسياسة الملك جانبًا.
فهذه خلاصة رسالته ، ولا ريب في سقوط المسلمين عن عرش مجدهم
وانتشارهم إلى حالة الهمجية عن معاقل الاتفاق، وشرههم فيما بينهم على الشقاق،
حتى صدق فيهم قوله تعالى: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر: 14) بل المسلمون قلوبهم شتى ، ولا تحسبهم جميعًا لتجاهر بعض
لبعضهم بالعداوة. أحرجهم الزمان، وأراهم العبر بالعيان، وهم لاهون، فيالله
العجب ! ! إلى متى هذه الغفلة ، والتردي في هذه الغواية ، والتكاسل عن الجد.
والرفيق أبدى رأيه بقصد إصلاح قومه ووضعه للنقد والاختيار فشكر الله سعيه
و (إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى) . والإنسان يبذل جهده ويصلح
نيته، وليس عليه أن لا يخطئ. وحيث إني ظهر لى غير ما ظهر له، ودلني
عقلي على عكس ما أبداه أحببت أن أبدي رأيي ، وأضعه أيضًا للتمحيص والنقد
والاختبار فإن رآه المسلمون حسنًا صحيحًا فذلك فضل الله فليشيعوه، وليبسطوه
بالرسائل ، وأرجو من أهل الجرائد أن ينشروه ليطلع عليه العام والخاص {وَذَكِّرْ
فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) وإن كان غير ذلك فذلك شأني ،
وعسى أن يُظهر الله الصواب على يد من أراد فأقول:
(إن من قرأ تواريخ المسلمين عرف ما انتاب هذه الأمة من النوائب
والمصائب التي لا تكاد تثبت لها شوامخ الجبال ، وهي كثيرة ، وأعظمها تأثيرًا
على جامعة الإسلام أمران ناشئان عن تركهم الدين وإهمالهم إياه؛ أحدهما في
أمورهم الشخصية، والآخر يتعلق بحياتهم الاجتماعية السياسية. بيانه: أن أعظم
سبب لسقوطهم، وتزعزع ملكهم بادئ بدء أن من لم يستحق الخلافة ولم يكن من
أهلها، ولم تجتمع له شروطها، ولم ير أهل الحل والعقد انتخابه لها هاجم أهل
الحق ونازع الحق أهله وأغار عليهم بإثارة الحروب وأعانه من رغب في جمع
الحطام؛ باستمالة الطغام من العوام، وكان ما كان حتى انتهت تلك الحروب الهائلة
التعيسة بانتصار هؤلاء الظلمة لأسباب لا حاجة بنا إلى بسطها، ولو كانت الغلبة
لأهل الحق والعلم والدين والنُهى لما كانت حالة المسلمين ما نرى، ولكن لا ينفع (لو
وعسى) في أمر مضى وانقضى.
ولما رأى هؤلاء المغتصبون أنهم لم يظفروا بما ظفروا به إلا بالقهر ، وخافوا
أن يكر عليهم أهل الحق مرة أخرى مالوا عليهم ميلة ظافر غشوم فقتلوا أحلامهم،
وانتهكوا حرمتهم، ووكلت بمن بقي منهم الرقباء والجواسيس ، فتفرقوا في البلاد
مختفين لا يبدون ولا يعيدون ، يعاقب الواحد منهم أشد العقاب على كلمة يقولها.
يوضح ذلك قول أبي هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءَيْنِ من العلم أما أحدهما: فقد بثثته
فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم ، أو كما قال) وهو في الصحيح ،
وهؤلاء المتغلبون الغاصبون جعلوا الخلافة ملكًا عضوضًا كما أخبر بذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم في معرض الذم ، وعدلوا بها عن منهج دين الله وشرعه ،
واستأثروا ببيت مال المسلمين ، واستبدوا بآرائهم معاندة لسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم وعصيانًا لأمر الله في كتابه، وآثروا
الجهلة والفساق بالوزارة والإمارة بجامع التشابه، ولله در القائل: (إن الطيور
على أشباهها تقع) .
فهذه أول مخالفة للدين وقعت في تاريخ الإسلام، وهي سبب سقوط المسلمين
وأعظم مانعٍ صَرَفَ المسلمين عن جميع القواعد والأصول وتفصيلها وترتيبها التي
شرعها الله لهم ، وندبهم إليها لتكميل حياتهم الاجتماعية السياسية فبقيت مفرقة كما
أنزلت لا يحيط بها علمًا إلا العاملون الذين مر ذكرهم، وبيان حالهم ، ومهملة لا
يحتفل بها الأشرار، ولا يسمحون بنشرها للأبرار، لما أنها مخالفة لتلك الأنفس
الشهوانية، والرغائب الحيوانية.
خاف أولئك المستبدون أن تشتهر تلك الأصول وتعتقدها عامة الأمة فيطالبوهم
بما تقتضيه جبرًا ، فبقيت محجوبة في زوايا الإهمال ، وبتركها شقي المسلمون،
وسعد بها في دنياهم أهل الغرب، وكانت أكبر الغنائم التي آبوا بها ، واستفادوها
من حروبهم ومخالطتهم المسلمين، كما سعدوا أيضًا بفوائد العلوم الفلسفية الطبيعية
من هناك ، فكان نصيبهم من علومنا ما نسمع ونرى، ونصيبنا القيل والقال،
وكثرة الجدال كالذي يحمل الأثقال، وكانوا كالمُبَلَّغ أوعى من السامع.
والسبب الثاني جناية على الدين ومخالفة له أيضًا، وهو الذي أقعدهم على
بساط الذل والهوان، وبه يرسفون حتى الآن في مهاوي الخذلان، لا يلوي أحد
منهم على الآخر، وبه كانوا شيعًا متفرقين، وكان السبب الأول كالعدو القوي
الهاجم، وتلاه السبب الثاني يجهز على الجرحى ويعاجل، وهو أعظم رزية، وأشد
بلية، ألا وهو نبذهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم ،
ومع ذلك فهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. جهل مُرَكَّب، وغواية عمياء ، وفتنة
دهماء، وإلى الله شكاة رسوله {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ
مَهْجُوراً} (الفرقان: 30) إذ لم يمتثلوا وصيته - بأبي هو وأمي- فيما صح عنه:
(إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي) ورد
بروايات متقاربة المعنى. بل عدلوا عن سبيله ، وأكبوا على تقليد الرجال إلى
مذاهب مختلفة، وآراء غير مؤتلفة ، والله يقول وهو أصدق القائلين: {إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) فنستغفر الله،
وحسبنا الله ، والعياذ بالله من هذه العاقبة الوخيمة، والتفرق المشئوم الذي يفسد
الدارين ، ويشقي النشأتين، في الآخرة براءة نبينا صلى الله عليه وسلم منا وهو
الذي شفاعته أعظم ذخيرة، وفى العاجلة ذهاب الريح والنصر في حياة منغصة
بالتهاجر، وبالجملة فالتقليد جلب علينا كل طامة لو لم يكن إلا فَصْمه عرى الوفاق،
وتهييج الشقاق لكفى. ألا ترى كل فرقة من فرق التقليد تود أن لو سمح الزمان لها
باستئصال الفرق الأخرى وإعدامها من الوجود، ولقد بلغ بهم هذا الشغف إلى أحقاد،
وأثر هذا الاختلاف أشد تأثير على إحساس المسلمين كما هو مشاهد.
وإن شئت تحقيق ذلك؛ فدونك ومذهبًا من تلك المذاهب استخرج منه مسألة
مخالفة للكتاب والسنة فنبه عليها بخصوص كونها من المذهب الفلاني ، ثم ادعهم
إلى الحق والعدول عن تلك المسألة. لا ريب أنك إن فعلت ذلك ترى من جماعة
ذلك المذهب العجائب والغرائب، والصياح والناح، والتأولات وسائر التمحلات،
ويقاومونك أشد مقاومة، ويرمونك بكل حجر ومدر ، وتعلم حينئذ صدق ما قلنا من
أن هذه التمذهبات أذهبت من المسلمين الإحساس بكل طارق مؤثر ، وصرفتهم عن
الالتفات والتوجه إلى ما سواها ، ولأجل ذلك لا تكاد ترى من علمائهم فضلاً عن
عوامهم تألمًا أو إحساسًا بما يعانونه ويقاسونه من وطأة الأعداء ، واعتصابهم على
بلادنا، وركوبهم كواهلنا الضعيفة، وهؤلاء الأعداء لا يزالون في جد واجتهاد
يسوموننا كل دنية ، والمسلمون مع ذلك كله لاهون وغارقون في العماية المظلمة
بتلك الأفكار.
أقرب مثال لهم وأشبه حالة المجنون الذي يلعب به الأطفال ويسومونه النكال،
وهو لاهٍ بما هو فيه، وجسمه في عناء يستوجب الرحمة من الأعداء، بل صرنا
إلى حالة أحرج من حالة هذا المجنون، وتربص بنا كل ذي طمع ريب المنون،
وطوقوا أعناقنا بآصار النكال، وحملوا كواهلنا أنواع الشقاء الثقال، ونحن لا ننبث
باستغاثة، ولا نستطيع شكاية، فهل سمع السامعون أو رأى الراءون أن أحدًا يخاف أو يعجز أن يقول لمن ظلمه:(يا هذا ارحم ضعفي) ، أو (خف الله ولا تظلمني) ،
أو (اعدل في حقي) لا لا لا ، لم يبلغ أحد إلى هذا الحد إلا المسلمون في هذا
الزمان، وذلك بسعي سلاطينهم وأمرائهم الذين يجب أن يخلد لهم التاريخ الثناء الجميل
بذكر غيرتهم وشجاعتهم وحسن سياستهم وتمسكهم بأوثق عرى دينهم! !
فسحقًا لهم وبعدًا من أمراء، يا ليت لنا بأكثرهم رجلاً واحدا من سواس الغرب الذين
لو أُعْطِيَ أحدهم الدنيا بحذافيرها ليحط من قدر قومه ولو بكلمة يفوه بها لم
يطاوعه طبعه، فضلاً عن أن يخون أمته، أو يرضى بالدنية لها. اللهم إلا أن يكون
في معرض الخداع لنا ليسوقنا إلى فخه، وبعكس ذلك أكثر أمرائنا ومتولي شئوننا
البطرون المتكبرون على قومهم وبني أوطانهم، ثم تراهم متملقين صاغرين بين أيدي
الأجانب يتسابقون إلى إرضائهم حتى إن أحدهم إذا لاطفه الأجنبي بكلمة،
ولعلها مخادعة يكاد فؤاده يطير فرحًا وسرورًا، ويرى كأنه أوتي مفاتيح جنة الخلد،
ويضحي أمته ووطنه، أفلا يتفكر في عاقبة نفسه وولده، إذا لم يبال بعشيرته وبلده.
هذه الكلمات هي وإن كانت نفثات مصدور لم تتجاوز الواقع ، ولا تنس شكر
كثير ممن يدعي العلم والتفقه الذين لهم اليد البيضاء في التهييج بين طوائف
المسلمين الذين يزينون لهم الاختلاف، والتعصب لمذاهب الأسلاف. اللهم إنه عَمَّ
البلاء وإليك المشتكى ، فيا أمة الإسلام قد تجاوز الأمر حده وبلغ السيل الزبى ، فهل
من إفاقة؟ أليس التقليد أكثف حجاب دون إدراك كل حقيقة، وهل هو إلا عجز،
والعجز علة كل آفة، والعائق عن العلم والعمل، والمانع لكل سعادة شخصية أو
قومية ، وفيه نزل قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) إنك إذا أمعنت النظر ، وطرحت تشكيكات المُتهوِّكين جانبًا ،
وقصدت الإنصاف ، ومحضت النصح لله ورسوله ولقومك وإخوانك المسلمين؛ فلا
شك أنك توافقني على ما ذكرت لك من آفات التقليد.
أيها الواقف المنصف المشفق ، دونك والنظر إلى أحوال تلك الفرق، وما
صنفوه من الأسفار والأطمار التي استحكم بها هجران النصوص حتى رمت بالأمة
إلى العناد والضغائن والأحقاد، وطوحت بهيكل اتحادهم إلى الزوال والفساد،
صنفت حروفها بسواد الخطأ مع ما فيها من التعقيد والتناقض والاضطراب والخفاء ،
ولو رأيت ما لهم من المختصرات المبهمة العبارات لا تكاد ترى فيها: قال الله،
قال رسوله صلى الله عليه وسلم، بل ولا قول الإمام الذي يزعمون أنهم قلدوه أمر
دينهم. أما تعجب من أصولهم المتضادة، وآرائهم المتناقضة، وطرقهم الوعرة
الضنكة التي تحرج مَنْ أَمَّهَا ، وغدوا وراحوا يقترحون على الأمة، يحرمون
ويوجبون بالخرص والظنون، لم يألوا جهدًا في التشديد والتضييق قياسًا واستنباطًا ،
وكناية وقرينة ، ومفهومًا وفحوى ، وإشارة وتأويلاً إلى غير ذلك مع سلوكهم فيما
ذكر طريقًا معوجًا عن طريق السلف الصالح. اشترطوا على القضاة في القضاء
والسلاطين والأمراء في السياسة شروطًا يصعب التزامها ، ويستحيل العمل بها
ولولا خوف الإطالة لذكرت من مخالفتهم الكتاب والسنة ، والعقول والفطر،
والسياسة والنظر ما يضحك الثكلى ويمنع من ذكره الحياء.
وبسبب هذا الغلو الذي نهى الله عنه، وذم أقوامًا عليه في قوله: {قُلْ يَا
أهل الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (المائدة: 77) الذي يسميه المقلدة احتياطًا؛
هجرت السلاطين الشريعة في أمر القضاء والسياسة بزعم دعوى أن الشريعة شاقة
وغير مطابقة لمصلحة الزمان، وتركتها عامة الأمة أيضًا في أكثر أحوالها وجميع
معاملاتها، بل أكثر المتفقهة متحيرون تراهم في عدو إلى الحيل يخبطون، ولا
تظن أن هذا الترك قريب العهد ، فإنه لم ينقل إلينا التاريخ أن طائفة من طوائف
التقليد استطاعت إجراء شئونها على جميع قواعد ومسائل المذهب الذي اعتنقته ،
فتمذهبهم ليس هو تمذهب عمل واكتساب ثواب، بل اعتقاد وأقوال، ونزاع وجدال،
وتخاذل وافتراق، وضياع ونفاق، وبلاء وشقاق، وكان نتيجة هذا التقليد أن
شوهوا وجه الشريعة الغراء حتى ظن من ضعف إدراكه وعدم إحساسه أن الشريعة
ليست سوى ما بأيدي هؤلاء المقلدة ، أو لم يسمع قول الشاعر:
وكل يدعي وصلاً لليلى
…
وليلى لا تدين لهم بذاكا
ما درى هؤلاء السلاطين والعامة المساكين أن الشريعة وراء ما خدعوا به من
آراء الرجال، وإنما هي الكتاب والسنة ، وما عليه الرعيل الأول ، والخلفاء
الراشدون ، وهي السهلة السمحة، والرحمة التي لا يزيغ عنها إلا ظالم ، وهي في
أعلى رتب المصالح، وما ذكره المقلدة من الإحراج والتضييق لا تأتي به لأن
الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي
عدل كلها ورحمة كلها، ومصالح كلها وحكمة كلها، فما خرج إلى ضد ذلك فليس
منها.
وبالجملة فليس أضر على الأمة من هؤلاء المتفقهة المقلدة الذين هم قذى
العيون وشجى الحلوق وكرب النفوس، وحُمَّى الأرواح، وغم الصدور، ومرض
القلوب. إن استعنت بهم في لمِّ شعث الأمة لم يعينوك ، أو دعوتهم إلى الصلح
والإصلاح لم يجيبوك، قد انتكست قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، ورضوا
بالأماني، وابتلوا بالحظوظ، وأتعبوا نفوسهم في غير ما شيء، وحيروا العامة
وأضاعوا الأمة.
وهل أفسد الدين إلا الملوك
…
وأحبار سوء ورهبانها؟
اللهم إنا من هذين الطائفتين في عناء وشقاء وبلاء، اللهم أصلحهم ووفقهم إلى
ما فيه صلاحهم وصلاح الأمة، ودلهم على التوبة والأوبة إلى الأخذ بالكتاب والسنة،
اللهم جنبنا وإياهم البدع والضلالة ، وألف بين قلوب المسلمين.
وما ذكرناه هو التقليد المتأصل، وما سواه فهو فرع عنه. ومن ذلك طوائف
زادت الطين بلة بلية على بلية ، تلقبوا بألقاب، واتسموا بسمات؛ فمنهم القبوريون
المحتالون على سلب الأموال. أفسدوا العامة بفتن القبور والاستغاثة بهم في كل ما
قل وجل ، يوهمونهم أنهم ينفعون ويضرون حتى في جلب الرزق ودفع الأعداء،
وقد كان تقليد المذاهب المار ذكره فرقهم طوائف وزرافات، وجلب عليهم الآفات،
وسلب منهم صفة التعاون والتناصر ، وأمات شعورهم عن المطالبات بحقوقهم.
وفتنة القبوريين والمحتالين وتقليدهم أقعدهم عن اكتساب العلم والجد في رضى
المولى وعبادته والإخلاص له ، واتكلوا على الأموات وشفاعتهم، ولهم حكايات
يطول شرحها، وسمعت بعضهم يقول: إن الولي الفلاني يرمي المدافع من قبره
على الأعداء، والعامة إذا سمعت مثل هذه الخرافات آمنوا بها، ووطنوا أنفسهم
على ذلك حتى في الدفاع عن حرمهم ووطنهم ، فما بالك يا أخي تظن أنه مع هذه
الفواقر يبقى للأمة الشعور والحياة القومية ، فإن بقي لك أمل بعدما عرفت ما هم فيه
من جناية التقليد عليهم فكيف يتحقق ويثبت هذا الرجاء، وقد أتت الطائفة الثالثة
أعني المتصوفة تدعو إلى تقليدها واتباع سبيلها، تدعو إلى الخمول والفقر
والانطراح والاتكال على القدر مع رفض الأسباب ، واعتقاد وحدة الوجود بالأذواق
والكشوفات التي لم يشموا رائحتها ، ولم يتصوروها لا بحدها ولا برسمها ، ولكن
يحكى ويروى أنها حصلت لأسلافهم، ونحن لا نذكر أموات المسلمين إلا بخير،
فإنهم قدموا على ما قدموا عليه ، وإنما كلامنا في الأحياء بقصد إصلاح الأمة،
وعسى أن الله يلقي في قلوبهم نورًا ويصلح شأنهم.
وبينما نحن نصيح بالويل والثبور ونتململ تململ الممرور، من مصائب
تراكمت علينا، ونئن وراء حجب التقليد التي هي كظلمات في بحر لجي يغشاه
موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض، نترجى ونتعلل
بلعل وعسى منتظرين بارقة لطف ونجاة تكون على أيدي شباننا المتخرجين في
المدارس الغربية والتعاليم الأوربية؛ إذ عاد إلينا أكثرهم بصفقة المغبون ، فآبوا
إلينا ونحن على ما ترى وتشاهد من الضَعْف وانحلال الروابط الاجتماعية
والفقر المدقع ، وأحوج ما نكون إلى العلوم الحديثة الغربية النافعة ، ولم يبق فينا من
الخلال القومية إلا التمسك بلغتنا واللباس الصوري الظاهري ، وبعض رسوم عادية ،
فرجع أولادنا وشباننا من هناك وقد بدلوها تقليدًا للغربيين ، ولم يستفيدوا غير هذا
التبديل ، ولم يفيدوا قومهم إلا أنهم شرعوا يطالبونهم بمحو هذا الشعار الظاهري ،
وبعده تحتجب الأمة وراء حجاب العدم بالكلية ، يا ربنا يا غياث المستغيثين، إنا
مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين.
أيها الشبان ، إن من ذهبتم إليهم ودخلتم مدارسهم يعدون شعار أممهم الظاهري
أنفس الأشياء وأهمها ، يسترخصون في المحافظة عليه الأنفس والأموال، فهم
الرجال والله هم الرجال، فهلا قلدتموهم في هذا الشعور والغيرة ، وهلا شعرتم
وعرفتم ما عرفوه وشعروا به من منافع هذا الشعار وأسراره! ! إني وكلت
التفصيل في هذا المقام إلى عقولكم آه آه، وا حر كبداه من هذا العدو القاسي الغشوم ،
لقد افترسنا هذا التقليد في كل مكان وزمان أعدمه الله ومحا رسومه. فيا أمة
الإسلام هل من نهضة تنتصفون بها من هذا العدو وتبيدونه ، فالنجاء النجاء مادام
فينا رجاء.
إلى هنا تم ما أردته من بيان أسباب سقوط الأمة الإسلامية ، وعلة تقهقرهم
عن مجاراة الأمم المتمدنة في هذا الزمان ، والأخ رفيق غفل عن ذلك. وقوله: إن
العرب خلطوا الدين بكل شيء من شئون الحياة
…
إلخ، خلاف الواقع ، وإنما
أصابهم ما أصابهم بحيدتهم عن الدين ، وإهمالهم لتعاليمه خصوصًا ما يتعلق منه
بالملك وحياة الأمم ، وأغرب من ذلك تمنيه لو أن العرب سلكوا بالخلافة والملك
مسلك من جاورهم في تلك الأزمنة من الأمم المتمدنة بزعمه كالرومان وغيرهم ،
وهذه أيضًا غفلة منه حفظه الله.
بيانه أن تلك الأمم لا توجد لديها قوانين سياسية كافية مهذبة متكفلة بكبح كل
متعهد، وردع كل طاغ بحكم المساواة بين الكبير والصغير ، والمأمور والأمير ،
وطريقة ملك العرب الإسلاميين مع اختلالها، ومخالفتها الدين في كثير من أحكامها
وأعمالها هي أقوم وأعدل مما كان بأيدي تلك الأمم. يؤيد ذلك ما نقل إلينا التاريخ
من مهاجرة كثير من تلك الطوائف ، ورغبة الآخرين ورضاهم عن ملوك العرب
أكثر من رضاهم عن ملوك بلادهم. غاية ما ينقل عن أولئك الأقوام والأمم الغابرة
أنه كان بعد كل فترة من الزمان يقوم بين أظهرهم بعض حكماء يوالون الخطب
والمواعظ ، ويهيجونهم إلى الحماسة الدفاعية والهجومية، ومن وراء ذلك تفرقهم
إلى إيالات وإمارات صغيرة أكثرها غير معترف بسيادة أو تابعية لملك تلك الأمة ،
وبعض يعترف له ببعض السيادة والتابعية مع عدم الانتظام وكمال العدل، بل كان
استبداد السلاطين والأمراء هو السائد، وليس لأممهم ورعاياهم إلا التسليم ، وعليهم
الطاعة العمياء ، حتى إن الواحد من تلك السلاطين كان يلقي بأمته إلى التلف
والحروب لينال بعض شهواته الحيوانية من امرأة كحرب كسرى، وحشده جنده
على بني شيبان. وأسوأ حالاً منهم ملوك النصارى ، وتلاعب البابوات والأحبار
والرهبان بهم أشهر من أن يذكر ، فما بالك بالهند وملكهم الأوثار أو النائب عنه
وتقسمهم إلى تلك الطبقات المشهورة لديهم. أما ملوك الصين فهم في معتقدهم أبناء
السماء. هذه هي الأمم المعروفة بالملك في الزمان القديم ، وإنما يسميهم بعض
الناس مهذبين لما لهم من الاجتماع على ملك بالنسبة إلى أيام الجاهلية ، أما بالنسبة
إلى ملوك الإسلام فلا. برهانه أن تلك الأمم لم تثبت أمام المسلمين في كل شئون
الحياة ، وذلك ببركة بعض القواعد الدينية التي عملوا بها حينًا وتركوها حينًا. أما
سياسة أوربا الحديثة الاجتماعية الملكية ، فأكثرها مأخوذة من دين الإسلام وموافقة
له، ولذلك كانت نسبة نظام من تقدم ذكره بالنسبة إلى النظام الحديث أشبه بنسبة
التوحش إلى التمدن.
وكأني بمكابر وحسود لدود ، أو من عذره الجهل يستبعد اقتباس النصارى هذه
المعارف عن دين الإسلام، وأقول: يا هذا ، إن سابقة النصارى في الملك
وعراقتهم فيه قبل الإسلام حتى الآن أمر مُسَلَّم ، والتاريخ شاهد بأنه ملك عضوض
مشوه بالاستبداد ، ومكدر بالفتن والاختلاف، ومختل بالجهل والظلم، ولم يكن لديهم
شيء مما بأيديهم الآن، وانظر كيف حصل لهم ما هم فيه، وما سببه ، ومتى كان
بدؤه. فلقد ثبت وتقرر لدى كل ذي لب بالبديهة، ومن أقوال كبار النصارى أنهم لم
تحصل لهم هذه المعارف والتقدم في السياسة إلا بعد الحروب الصليبية، ومخالطتهم
المسلمين ، وأخذ أفراد منهم العلوم عن علماء الإسلام وحكمائه، وحينئذ ترجموا
القرآن وكثيرًا من الكتب العربية وغيرها، وهذبوها وقاموا يعلمون أقوامهم ،
وصبروا على المحن والنكال، والشدائد والأهوال، محبة لأوطانهم وبني جلدتهم
وأهل ملتهم، وبذلك نالوا مرادهم وبلغوا ما بلغوا، وحتى الآن ترى كثيرًا من
فلاسفتهم، وحكمائهم الممتازين بالعقل ومعرفة التاريخ لا يزالون يحبون العرب ،
ويعترفون لهم بمنة عليهم مع اختلاف الدين، وبعكس ذلك بعض طوائف الإسلام
ليس للعربي لديهم قيمة. وقد يقال: إذا كان دين الإسلام قد أتى بأكمل التعاليم
السياسية والاجتماعية ، وأن السلاطين المسلمين تركوها لعدم مناسبتها لطبائعهم
الشهوانية؛ فما بال الخلفاء الراشدين لم يجمعوها ويرتبوها ويفرعوا عليها ، وهل
عملوا بها أم لا؟
ويقال في الجواب: إن مثل هذا الاعتراض يمكن أن يقال في أشياء كثيرة،
والجواب عن بعضها هو الجواب بعينه عن باقيها ، كأن يقال أيضًا: ولِمَ لَمْ يجمعوا
أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولِمَ لَمْ يشرحوها ، ولِمَ لَمْ يفسروا القرآن، ولم
لم يرتبوا أصول الفقه إلى غير ذلك مما اعتنى بجمعه وتدوينه المتأخرون، وذكر
الجواب عن ذلك العلماء في شروح الحديث عند ذكر البدع ، وجوابهم هناك هو
جوابنا عن هذا الافتراض، ولنا أجوبة أخرى ليس هذا محل ذكرها، أما الشق
الثاني وهو أن الخلفاء هل عملوا أم لا؟ فيقال: لَعَمْرُ الله إنهم عملوا وأرشدوا
فجازاهم عن الإسلام والمسلمين خير جزاء وسيأتى لنا نقل بعض سيرتهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع
شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
في التربية بسفر البحر
يوم 14 مارس سنة - 186
اضطرتنا الريح إلى أن نجتاز خليج بسكاي [1] وقد أكد لي الربان أنه وأمثاله
يتحامون ما استطاعوا التورط في هذا المجاز الذي يهاب اسمه الملاحون أنفسهم،
وهو على شدة تلاطم الأمواج فيه لم يعق السفينة عن المسير ، وربما حدا بي ذلك
إلى اعتقاد أن من البحار ما هو كبعض الناس في كونها أمثل مما اشتهرت به.
منذ بضعة أيام أتيح لي فراغ من عملي فشغلته بدرس سفينتنا ، فإذا هي دنيا
صغرى تطفو على الماء جعلتها جميع العلوم والصنائع ميقاتًا لاجتماعها. ترى
الملاح فيها يلجئه عوزه إلى استئناف التمدن كل يوم فكأنه روبنسن [2] في جزيرته
يخترع معظم الفنون النافعة ليستفيد منها. ذلك أنه لخلوه من الصاحبة يتولى بنفسه
غسل ثيابه وفرشه وإصلاحها، وتدلك نظافة حجرته دلالة كافية على ما سيكون
عليه بيته الخلوي في مستقبله، فقد أوتي هذا الليث البحري من غرائز العناية
بالبيت ما أوتيته النملة.
من مزايا السفينة أيضًا أنها تؤدي إلى كل من ترتاح نفسه للعمل من ركابها
عملاً يشغله فقد عاود (قوبيدون) الاشتغال بالطهاية التي سبق له أن شرف بإجادتها
في أسفار سالفة وجعلت زوجته قهرمانة [3] واختصت (هيلانه) بمساعدتي في
التمريض ، وبالعزف على البيانو تسرية للسآمة عن المسافرين ، وتقوية لقلوبهم
وقلوب الملاحين أنفسهم الذين يجتمعون كل ليلة على السطح لاستماعه.
جاز (أميل) التمرينات الأولى ، وصارت قدمه قدم بحار، وأنشأ يتسلق سلالم
الحبال التي على جانبي السفينة، وهو يؤدي الأعمال التي يعلمه الملاحون تأديتها
بما يكفي من الحذق المنتظر من غرٍّ مثله. ومعيشة المتعلمين البحريين أمثاله في
سفينة تجارية على ما فيها من النَّصَب والعناء معيشة صحية ، فإن تعرضه لنسيم
البحر يشهي إليه الطعام حتى إنه ليكاد يلتهم حوتًا من الحيتان المسماة بالكلاب
البحرية لو قدم إليه ، ولله خفته ونضارته في قميصه الأزرق ذي الطوق المنكسر
الذى يبين نحره. جاءني غدوة اليوم إثر عمل شاق بالنسبة لطفل مثله، وألقى
برأسه بين ركبتي وهو يتصبب عرقًا ، فأحببت أن أشجعه لا أن أطريه؛ لأن
الإطراء هو سم النفوس يفرط فيه الآباء لأبنائهم بما يبعثهم عليه من الرحمة العمياء ،
فهم بذلك يعودونهم على إرضاء غيرهم، وكان حقًّا عليهم في رأيي أن يعلموهم
إرضاء وجدانهم. من أجل هذا اقتصرت على ضم ولدي إلى صدري وتقبيله غير
أني أحسست حينئذ بالعبرة في عيني، وهو على كل حال قد اعتبر هذه الملاطفة
مني مدحًا له لأنه انصرف من عندي للمضي على عمله مملوء القلب بالفرح، ولا
أخال أحدًا ينكر استحقاقه لهذا المدح أي لتلك الملاطفة.
ليس في السفينة أحد إلا وهو يهتم بأن يكون نافعًا من جهته حتى (لُولا) فقد
فاجأتها بالأمس ، وبيدها كتاب كانت تطلع عليه طفلة في الخامسة من عمرها
اتخذتها صديقة وتعلمها فيه الهجاء اهـ.
***
يوم 19 مارس سنة -186
نحن الآن تجاه جزيرة ماديرا تجري بنا السفينة بريح طيبة كانت من بداية
سفرنا تهب من الشمال الشرقي، وقد أحدقت بنا في هذا المكان قطعان عديدة من
الخنازير البحرية ، وأنشأت تمرح في الماء وتلهو بالزبد المتخلف على غوارب
الأمواج من انشقاقها بحَيْزُوم السفينة في مسيرها، فبادر جميع الركاب إلى السطح
لمشاهدتها، وكان من (لولا) عندما رأتها أن قالت: ويكأن هذه الحيوانات مغتبطة
بمعيشتها ، وكأنها لم تصب بمرض البحر في حياتها.
استعد ضباط السفينة لصيدها فوقف أحدهم عند الساري المقدم ، ورمى خطافًا
كان معه على واحد منها ظن أن إصابته أيسر ، وحينئذ جر الملاحون الحبل المعلق
به الخطاف ، وهم في هذه الحالة يجب أن يكونوا خفاف الأيدي أشداء السواعد وإلا
وجد الخنزير المصاب وسيلة للرجوع إلى الماء والانفلات من أيديهم، وقد نجحوا
في الرمية الثانية فاصطادوا أحدها، ومما شاهدته فيه أن كبده يشبه كبد الخنزير
البري ، ولحمه أقل جودة من لحم الثور ، على أنه يحضره في الذهن إن لم يكن
بطعمه فبلونه لأنه أحمر ضارب إلى السواد، ويستخرج من لحمه زيت جيد
للاستصباح يستعمل في السفينة. اهـ
***
يوم 22 مارس سنة -186
نحن الآن مارون أمام الجزائر الخالدات، وإن كنا لم نرها وهي مرتسمة على
سطح الماء المتسع إلا كرؤيا الحالم، وقد اضطرتنا الرياح المتعارضة إلى التوغل
في المحيط.
إننا منذ سفرنا نشعر بارتفاع الحرارة ارتفاعًا عظيمًا غير أن هذا اليوم هو
أخص يوم أحسسنا فيه بدخولنا إقليمًا غير إقليمنا حتى إن (لولا) نفسها على ما بها
من شدة التأثر بالبرد خلعت ثياب الشتاء وارتدت ثوبًا ورديًّا.
كان غروب الشمس بالأمس من أجلّ المناظر وأبهاها، وكان الليل فخيمًا ،
والقبة السماوية المظلمة تزهو بلألاء النجوم التي هي كالرمل عدًّا. وما لي وذكر
أسمائها ، فلا فائدة في ذلك ويكفيني أن أسميها بالنور، ومما ميزناه منها الزهرة
التي مع كفها عن دعوى الألوهية واقتناعها بأن تكون في مصف الكواكب لم يضل
عنها ميلها إلى التغنج النسوي ، فلا تزال تحب أن ترى نفسها في مرآة البحر.
في نحو الساعة الرابعة أو الخامسة من الغداة انشق النطاق الأسود الذي كان
مشدودًا حول الأفق يلأم السماء بالماء رويدًا رويدًا، ثم بدا من بين حافتيه ضوء
مخضر يحاكي ماء البحر في لونه ، فانتشر على الأمواج وهو ضوء الفجر،
وساعة طلوع الفجر في العروض التي نحن فيها الآن من الساعات المشهورة على
قصرها وقصر مدة الشفق أيضًا، فإنه يخيل للرائي فيها أن العالم بأسره مضاء
بالكهرباء ، وربما كان قصر مدة الشفقين سببًا في ذلك.
مما حملناه معنا في السفينة ديك صغير وضعناه مع دواجن أخرى في أحد
أقفاصها أسمعنا صياح التنبيه والإيقاظ ثلاث مرات، فكان لصوته الشبيه بصوت
البوق في نفوسنا تأثير محزن قابض بسبب أحوال الغربة التي نحن فيها، وكان
يسري إلى القلوب بلا عائق لأنه كان يذكر المسافرين بأورباهم القديمة وأراضيها
ومعيشة المزارع، وما يعالجه المزارعون من الأعمال الشاقة.
ثم تتابع انمحاء الكواكب من السماء فأخذت تنطوي في أعاليها وتصطبغ
باللون الأزدرختي.
ثم أشرقت الشمس فإذا الأمواج أنفسها وقد ملكها الإجلال وتولاها الإعظام
يخيل أنها خشعت لهذا الينبوع الذي هو مصدر الضياء والحياة ، وصارت السماء
كلها جذوة نار، وترقرقت سبحات من النور الذهبي على صدر المحيط الذي برزت
منه الأرض بالتدريج تتلألأ بهاء ونضرة.
لم يقع بصري على (أميل) و (لُولا) معًا إلا في هذه الساعة وحدها من
النهار ، رأيتهما جاثيين جثية عبادة واستغراق في المشاهدة، فليت شعري هل
اقترب كلاهما في تلك الساعة من إدراك معنى الألوهية بمراقبة جمال الكون وبهائه؟
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب
أميل القرن التاسع عشر
.
(1)
خليج بسكاس ويسمى أيضًا خليج قسقوني هو خليج في المحيط الأطلانطيقي واقع غربي فرنسا وشمالي أسبانيا.
(2)
يومئ إلى روبنسن كروزو صاحب القصة المشهورة الذي كان في سفينة مقفرة يخترع كل ما يحتاج إليه من أمور المعيشة.
(3)
القهرمانة: الوكيلة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
أرسل إلينا التقريظ الآتي للمنار أحد علماء الشيعة في بعض الأقطار فنشرناه
اعترافًا بفضله، وشكرًا له على حسن ظنه، قال حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
عريضتي بحمد الله، والصلاة على مصطفاه ، وعلى آله وصحبه الذين
اهتدوا بهداه، هي أني صوبت الأنظار في مباني المنار، وإن يكن يعشي الأبصار،
فخدمته بما قدمته ، والمأمول القبول، إذ لم يكلف الإنسان بما فوق الإمكان.
قل للأولى عميت جهلاً بصائرهم
…
ولم يروا في سما العرفان أقمارا
بحرمة الله هبوا من سباتكم
…
هذا المنار على الدنيا لقد نارا
لم يبق ما فيه من عذر لمشتبه
…
ولم يدع في ديار الجهل دَيَّارا
إن ينتصر لقويم الدين منشئه
…
فالله قيض للأديان أنصارا
كم أَطْلَعَت مصر في أوج العلى قمرا
…
وكم تحدث وايم الله أقطارا
من قبل موسى عصاه طالما التقفت
…
إفكًا وكم أبرزت للناس أسرارا
يراعه كعصى موسى ومقوله
…
قد صاغه مبدع الأكوان بتارا
هذا الرشيد بمصر طالما التقفت
…
أقلامه من يد الأيام سحارا
فلله أبوه من رجل أداخ البلغاء وأخاف العرفاء، وأجال مشاقص أقواله في
المشارق والمغارب، وفتل ولله دره في الذروة والغارب فقاد الشرود والشاسة،
واشتمل السياسة، وكان كالخميلة يطلع كل جميلة، وكالمندل الرطب، والمنهل
العذب ، يأتيه الناهل، ويروده القاحل، ألقت إليه المعارف أفلاذ كبدها، وأبرزت
له مخباها، وشقت له معاها، وأمطرته بما أسال الشعاب، وسقى الوطاب، وتدَفَّع
في الأودية وملأ حياض الأندية فخاض الغمر، ومشى على الضحضاح، وعب
حتى امتلأ، لا تستطاع أحواله، ولا ينتحل مقاله.
إذا ما قال قافية شرودا
…
تنحلها ابن حمراء العجان
فقل لمن جاراه، أو ساجل علاه، ابتعد عنها، لقد حن قدح ليس منها، ولا
تكون أمته براعية ثلة.
أليس هو الساعي في تكوين الأمة من طريق التربية ، والتعليم النافع حيث لا
تعمية، ألم يضرب بعصاه صفاة العرفان، في هذا الزمان، كما ضرب ابن عمران
الحجر يوم كان، فانجبست منه تلك العيون، ولها شئون ، ومن حجر الكليم مشارب ،
ولها مسارب، ولكل إعجاز جهة امتياز.
ألم يزد على باني الهرم في القدم أقام للتذكار صخورًا وأحجارًا وهي أشباح
بلا أرواح، وباني المنار أطلع الصباح، وصاح حي على الفلاح، وأثبت البناء
على ما شاء ، وأعمل المعيار، ومد المطمار ، وأحكم القوالب والصور، وأفاض
عليهما من الأرواح ما به حياة البشر، فهو إذن قلب العرفان يغذوه الحَيَوْة ، ولولاه
لمات، وينبوع غريزيته بلا اشتباه، وكبده القائم بغذاه، ولذلك سرت أرواح مناره
في عالم الإنسان، وستسري مدى الزمان، واستقام ما بناه، واعتدل ما سواه، ولكم
أتاح الله من علماء ، للقلوب أطباء، والفخر لمصر على الأمصار، بما اختصها الله
على الأقطار، من الأبدال وعرفاء الرجال ، كباني المنار، أطال الله أيام مجده وشد
عرى الدين بهديه ورشده. وبلغه المآرب يوم العرض على الواجب، جلت قدرته،
وعلت كلمته.
…
...
…
...
…
...
…
الداعي خادم العلم والعلماء
…
...
…
...
…
... مهدي بن علي المشتهر بشمس الدين
(رفع اللبس والشبهات عن ثبوت الشرف من قبل الأمهات)
اسم هذا الكتاب يدل على موضوعه وهو لمؤلفه السيد عابد بن أحمد بن سوده
أحد الفقهاء والمحدثين في فاس وخطيب الحرم الإدريسي هناك ، وقد طبع الكتاب
على نفقته في مصر ، وتفضل حفظه الله بإهدائنا نسخة منه منذ أشهر ، ولم نوفق
لمطالعته لكثرة الشواغل مع رغبتنا في الاطلاع على أثر رجل فاضل يحبنا ونحبه
في الغيب ، ولذلك رأينا أن نعلن شكره ، ونكتفي بتنبيه الباحثين في الأنساب إلى
مؤلفه ، وصفحات الكتاب 144 صفحة.
(كتاب الإملاء)
كتاب جديد في فن الرسم؛ أي رسم الحروف والكلم المفرد الذي يمسونه فن
الإملاء ، وهو فرع من فن الصرف كما أن الصرف فرع من النحو ، ولكنه فرع لم
يستقل في موضوعه ومسائله دون أبيه كما استقل أبوه دون جده. وقد كان علماء
اللغة يعنون بالرسم حتى لا يثقون بعلم من يخطئ فيه ، ومن المأثور عنهم في ذلك
أن أحدهم رحل للتلقي عن عالم اشتهر فضله فلما بلغ بلده رأى قبل أن يلقاه صحيفة
بخطه ، فقرأها فإذا فيها لفظ (بايع) مرسومة هكذا بالياء فقال: إن هذا لا يوثق
بعلمه وعاد أدراجه أسفاً أن ضيع زمنه في الرحلة إليه.
وقد انتهينا إلى زمان نرى فيه كتابة المنقطعين لدراسة العلوم العربية في مثل
الأزهر ملأى بالغلط في الرسم كغيره ، ولا تستثن من كبار مدرسيهم إلا نفرًا لا
يعدون جمع القلة. وللمدارس النظامية عناية بفن الرسم لم يكن لها نظير في الأزهر
وما على شاكلته، وهم يعلمونه بطريق الإملاء يملي الأستاذ على التلامذة جملاً من
الكلام ، ثم يصحح لهم ما يكتبون مع البيان. وقد نظر الأستاذ الإمام بعين الاهتمام
إلى هذا النقص في الأزهر فاقترح في مجلس إدارته أن يعهد إلى الشيخ حسين والي
أحد العلماء المدرسين فيه بأن يدرس الإملاء على طريقة المدارس النظامية، وكان
ذلك ، ولما شرع هذا في التدريس توجهت عزيمته إلى وضع كتاب مطول في فن
الرسم يكون غاية الغاي في موضوعه ففعل، وهذا هو (كتاب الإملاء) .
الشيخ حسين والي تعلم في مدارس الحكومة قبل المجاورة في الأزهر، فهو
عالم بأساليب التعليم والتأليف الجديدة، وقد اشتغل في الأزهر بفنون الأدب بعناية
لا تعرف من مجاوري هذا العهد ، فهو واسع الاطلاع في اللغة وأدبياتها، لذلك جاء
كتابه هذا أحسن كتاب وضع في هذا الفن أسلوبًا وأوسعه مادة ، بدأه بمقدمة في
تاريخ الخط والكتابة عند الأمم، تكلم فيها على أبي جاد والحروف المفردة وصفاتها
والحركات والرقم والخط وأقسامه الثلاثة، وفيها فوائد كثيرة ، ويلي المقدمة (الباب
الأول في الحروف التي تبدل) وقد أفاض فيه القول في مباحث الهمزة والألف ،
وفيه قصيدة ابن مالك في الأفعال التي وردت بالواو والياء ، وأبيات أخرى فيما زيد
عليه من ذلك، وأرجوزة في الأفعال الواردة بالواو اطرادًا، وغالبًا وأخرى في
الأفعال الواردة بالياء اطرادًا وغالبًا. ويليه (الباب الثاني في الحروف التي تزاد)
يقفوه (الباب الثالث في الحروف التي تنقص) وفيه الكلام على رموز الكتب
العلمية ، ورموز القراء والمحدثين ، وكتبة الدواوين ، والكلام في التاريخ. وبعده
(الباب الرابع في الكلمات الواجب فصلها والكلمات الواجب وصلها) وهو واسع ،
وفيه الكلام على الشكل العام والخاص ، والقطعة والمدة ، والعلامات التي هي في
معنى الشكل كعلامة الإشمام والروم، فأنت ترى أن أحوج الناس إلى هذا الكتاب
الأستاذة والكُتَّاب ، وهو مما ينبغي أن يقتنيه كل أديب بل كل متعلم. وقد طبع في
مطبعة المنار على ورق جيد جدًّا بكيفية من الإتقان وتسهيل المطالعة لم نر مثلها في
كتاب آخر ، وبلغت صفحاته 256 صفحة، وثمن النسخة منه عشرة قروش
صحيحة ، وهو يطلب من مطبعة المنار بشارع درب الجماميز بمصر.
(الهدية السعيدية في الحكمة الطبيعية)
ولع المسلمون بالفلسفة في أيام مدنيتهم ولوعًا عظيمًا ، ومزجوها بعلم العقائد
الدينية حتى صار فهم كتب الكلام متوقفًا على الوقوف على تلك الفلسفة خصوصًا
الكتب الكبيرة الشهيرة التي يعدونها حصون العقائد الإسلامية كالمواقف والمقاصد بل
الفلسفة أكثر ما في هذه الكتب، ومباحث العقائد أقل ما فيها، ولكن هذا الأقل هو
المقصود بالذات ، ولقد ضعف علم الكلام وضعفت معه الفلسفة والمنطق في جميع
البلاد الإسلامية تبعًا لتدلي العمران والحضارة حتى كادت تندرس هذه العلوم في
مصر لولا أن وفد السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى على هذه البلاد ، فنفخ
فيها روحًا علميًّا جديدًا ، وما زال علماء الأعاجم لا سيما الهنديون منهم يدارسونها ،
ويطبعون كتبها القديمة ، ويؤلفون فيها كتبًا جديدة فهي حية عندهم ، وهم فيها أمثل
من المصريين، إلا من شذ من هؤلاء فلم يكتف بالفلسفة القديمة، بل أضاف إليها
الجديدة الأوربية فأخذها بلسان أهلها كالأستاذ الإمام. وإننا نرى في هذا العهد
الأخير أذكياء المجاورين في الأزهر يكسرون مقاطر التقليد لشيوخهم المتأخرين ،
ويوجهون أفكارهم إلى تناول كثير من العلوم والفنون القديمة والحديثة التي أهملها
أكثر شيوخ الأزهر حتى كادت تمحى منه. وقد انتدب بعض محبي الفلسفة منهم
وهو الشيخ عبد الرحمن البرقوقي إلى طبع كتاب في الفلسفة القديمة والسعي في
حمل أحد الشيوخ على تدريسه في الأزهر ، فاختار كتاب (الهدية السعيدية) الذي
ألفه في هذا العصر (ملا محمد فضل الحق) من علماء خير آباد في الهند
(المتوفى سنة 1278) وأهداه إلى أمير بلاده محمد سعيد خان بهادر ونسبه إليه.
ويقول الشيخ عبد الرحمن أنه رأى هذا الكتاب خير كتاب في الفلسفة القديمة
وضعًا وسهولة. وقد طبع الكتاب في مطبعة المنار على ورق جيد كدلائل الإعجاز
مع تتمة لولد المؤلف ، فكانت صفحاته زهاء مائتين وثمانين صفحة، وقد جعل
ثمنه مع ذلك ثمانية قروش صحيحة ، وهو يطلب من مكتبة المنار ومن المكاتب
الشهيرة في مصر ، فنحث محبي الفلسفة والراغبين في دراسة الكتب الكبيرة في
الكلام على مطالعته.
(المنتخبات العربية)
أقرب الطرق إلى تحصيل ملكة الكتابة في المنثور والمنظوم كثرة مطالعة
كلام البلغاء وأشعارهم ، ولو أن طالب البلاغة حفظ بعد قراءة النحو والصرف
مختصر السعد ومطوله وحواشيهما ، ولم يزاول كلام البلغاء لما ازداد إلا بعدًا عن
البلاغة كما بين ذلك الحكيم العربي ابن خلدون رحمه الله تعالى، ومما دلنا على أن
النهضة العربية الحديثة ستكون منتجة أحسن نتاج تصدي المشتغلين لإحياء آثار
البلغاء، وإقبال الناس على هذه الآثار وتفضيلها على سواها والاعتماد عليها في
تحصيل ملكة البلاغة، سواء كانت كتبًا فنية كأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز أو كتب
تمرين ككتب الأدب الشهيرة، ولكن أكثر المشتغلين بطلب الأدب تقصر همهم عن
مطالعة الكتب الكبيرة المفيدة للبلاغة كالأغاني والبيان والتبيين والكامل والعقد
الفريد. وقد فطن الناس لذلك فأنشأوا يختارون من هذه الكتب وما شابهها الفصول
والنبذ المختصرة من المنثور والمقاطيع من الشعر ، ويراعون فيها السهولة
والاختصار، وقد سبق اليسوعيون إلى هذا العمل فراجت مختاراتهم العربية على
ما فيها من الدسائس الدينية والتحريف المعنوي واللفظي.
وقد عني محمد أفندي حسن محمود وأمين أفندي عمر الباجوري الكاتبان في
نظارة المعارف باختيار نبذ من كلام المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين ومقاطيع
من أشعارهم فكان لهما من ذلك كتاب سمياه (المنتخبات العربية) وطبعاه طبعًا
جميلاً يناسب ما فيه من حسن الاختيار فنحث محبي الأدب عامة ، وطلاب العلم
خاصة على مطالعته ، وثمن النسخة منه سبعة قروش صحيحة وصفحاته 256
(الامتيازات الأجنبية)
يعرف الخاصة والعامة أن للأجانب امتيازات في البلاد العثمانية ليس لهم
مثلها في غيرها من الممالك ، وأن هذه الامتيازات من أركان الجور والظلم واختلال
النظام واضطراب القضاء وأن إسماعيل باشا خديوي مصر قد زاد للأجانب في هذه
الامتيازات فأعطاهم منها ما ليس في البلاد العثمانية تزلفًا إليهم ، وطمعًا في
مساعدتهم له على ما كان يكيده في سياسته مع الدولة، حتى صار أحقر يوناني في
مصر أعز من أمرائها وعلمائها وكبرائها. وقد بحث الأوربيون في أصل هذه
الامتيازات وجاءوا فيها بالدث والرجم ولم نر أحدًا من الملسوعين بحمتها في مصر
من كتب فيها شيئًا حتى أتحفنا اليوم عمر بك لطفي وكيل مدرسة الحقوق في مصر
بكتاب خاص فيها فَنَّد فيه مزاعم الزاعمين في بيان سببها وقال: (والحقيقة أن
الامتيازات مصدرها الشريعة الإسلامية التي تسمح لغير المسلمين أن يرفعوا
منازعاتهم لجهة ملتهم ، ولا تلزمهم بقبول حكومة القاضي الشرعي إلا برضائهم
عملاً بقوله تعالى: {فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (المائدة: 42)
ثم استدل بتفويض الدولة العثمانية أمر الذميين إلى أنفسهم قبل ارتباطها بالمعاهدات
الأوربية ، ثم بسماح السلطان سليمان بهذه المنحة للأجانب وأنشأ بعد ذلك يسرد
المعاهدات بين الدولة العثمانية والدول الأجنبية.
وقد أحسن المؤلف في رد أوهام الإفرنج في سبب الامتيازات وأشدها ضعفًا
وأظهرها سخفًا ، زعم بعضهم أن الدولة الإسلامية تأبى معاملة غير المسلمين بأحكام
شريعتها لأنها مقدسة لا تسري على غير المؤمنين، وقول بعضهم: إن القرآن هو
قانون ديني وسياسي، ولما كان منزلاً تعين أن تكون المدنية الإسلامية غير قابلة
للترقي ، والشريعة غير قابلة لتقرير الحقوق ، والتسليم بمعتقدات الذين لا يؤمنون
بالدين الإسلامي ، فكان من الواجب إيجاد طريقة تمكن المسلمين من الاختلاط
بالأجانب! ! وهذا قول جَهُولٍ بالدين الإسلامي والقرآن والتاريخ ، وكم فيهم من
مثله أو أشد منه يسمون فلاسفة حكماء.
وقد نقل المؤلف الاستدلال بالآية على ما ذكره من سبب الامتيازات عن
رسالة للشيخ محمد بخيت ، ونقول أولاً: إن الآية قد نزلت في واقعة معينة ، ونزل
بعدها في تلك السورة {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} (المائدة: 49) فذهب
أكثر علماء السلف إلى أن هذه ناسخة للتخيير في تلك ، وعليه الشافعية في أصح
الأقوال والحنابلة ، وبعضهم أنها قصرت الآية الأولى على ذلك الحكم الخاص الذي
خير الله نبيه فيه؛ أي فهي مخصصة لا ناسخة أو أن الأولى مختصة فيمن لم يعقد له
ذمة، والثانية في أهل الذمة. وأما مذهب الحنفية الذي عليه الدولة العثمانية فهو أن
أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في جميع العقود وفي المواريث ، ويستثنى
من البيوع بيع الخمر والخنزير ، فإنهم يقرون عليه فيما بينهم في تفصيل معروف
في الفقه. والأجانب ليسوا ذميين وإنما هم حربيون أو معاهدون ، ولا تجوز
معاهدتهم على شيء يخالف أحكام الشريعة ومصلحة المسلمين ، ثم إنهم إذا عقدوا
معنا عهدًا فيجب أن نستقيم لهم ما استقاموا لنا، فإن نكثوا شيئًا من العهد فقد بطل
عهدهم ، والامتيازات الحاضرة جلها أو كلها باطلة شرعًا فيما يظهر لنا ، وهي
قائمة على أصلين: ضعفنا وجهل حاكمنا وقوتهم وأثرتهم.
هذا وإن في الكتاب فوائد كثيرة كنصوص المعاهدات وإنشاء المحاكم المختلطة
في مصر ومكانتها ، وكون كثير من الامتيازات ليس لها أصل في المعاهدات وبيان
المفاسد والمشكلات في التحاكم إلى المحاكم القنصلية، وناهيك بدقة المؤلف وطول
باعه في علم الحقوق والقوانين. والكتاب مطبوع طبعًا متقنًا على ورق جيد
وصفحاته 68 ومجلد بنسيج أحمر جميل ، ويطلب من مكتبة الشعب بمصر.
(الفلاكة والمفلوكين)
الفلاكة: البؤس أو التعس، والمفلوكون: البائسون العاثرو الجد. والكتاب
لأحمد بن علي الدلجي من أهل العلم والأدب، ولا نعرف له تاريخًا إلا أن كتابه هذا
يدل على علم وأدب وحسن اختيار، يعرف ذلك من مثل الفصل الذي عقد لمسألة
خلق الأفعال ، وبيان أنه لا حجة للمفلوك في التعلق بالقضاء والقدر، والفصل الذي
عقده لبيان أن التوكل لا ينافي التعلق بالأسباب ، والزهد لا ينافي كون المال في
اليدين ، وما أحسن الفصل الذي بيَّن فيه الآفات التي تنشأ من الفلاكة أو تستلزمها
الفلاكة وتقتضيها، ومنها الكيمياء الباطلة والنجوم والمطالب، ثم إن أكثر الكتاب
في تراجم العلماء والأدباء المفلوكين ، وفيه عبر وأدب وفكاهة.
وجملة القول أن الكتاب من الكتب المفيدة الفكهة التي تلذ قراءتها، وقد طبع
في مطبعة الشعب وصفحاته 145 وهو يطلب من مكتبة الشعب.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة هندية
وردت هذه الأسئلة الستة من الهند على الأستاذ الإمام مفتي الإسلام في مصر
فأرسلها إلينا لنجيب عنها لكثرة الشواغل عنده، ولثقته بتحري تلميذه الصواب.
* * *
تلقيح للجدري والطاعون وغيرهما
(س73) الطبيب المولوي نور الدين المفتي في بنجاب (الهند) : أيجوز
التلقيح للجدري والطاعون والهواء الأصفر (أي الهيضة الوبائية) والإفرنجي
مثلاً.
(ج) لا وجه لتحريم التلقيح لهذه الأمراض ولغيرها، فإن التلقيح ضرب
من ضروب الوقاية الثابتة بالتجربة الصحيحة المتواترة، وتوقي المضارّ واجب
شرعًا بالإجماع، فما تعين سببًا للوقاية وجب الأخذ به عند ظن التعرض للضرر،
وما جاز أن يكون سببًا تجوز تجربته إذا لم يكن في التجربة محظور آخر كضرر
محقق أو مظنون ، إذ لا يجوز ارتكاب الضرر لتوهم المنفعة. وهذه المسائل ترجع
إلى قاعدة وجوب دفع المضار وجلب المنافع، وقاعدة تعارض المعلوم
والموهوم، وقاعدة ارتكاب أخف الضررين. وعلماء هذه الديار متفقون على
جواز التلقيح لأجل الوقاية من الجدري، حتى إنه لا يقبل في الجامع الأزهر
تلميذ إلا إذا لقح بلقاح الجدري.
* * *
التداوي بالأدوية الإفرنجية
(س 74) ومنه: أيجوز التداوي بالأدوية الإفرنجية وفيها الكحول وأنواع من
الرطوبات المحرمة؟
(ج) يجوز التداوي بكل ما ثبت للطبيب فائدته في إزالة المرض أو تخفيفه
عملاً بعموم ما أجمعوا عليه من جواز التداوي، ولا يستثنى إلا ما حرم بالنص
كالخمر ولحم الخنزير إذا كان غيره يقوم مقامه ويستغنى به في التداوي عنه ، وأما
إذا تعين دواء فإنه يصير مضطرًّا إليه {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 173) وأما الكحول فليس محرمًا بالنص ولا وجه لتحريم كل ما كان
جزءًبا طبيعيًّا أو كيماويًّا من الخمر، وإنما يحرم كل مسكر وكل ضار، والدواء
نافع غير مسكر، فلا وجه للقول بتحريمه، إلا من يستحل التشريع بفلسفته فيحرم
برأيه ما جعله الله سببًا لمنفعة الناس. وقد سئلنا من قبل عن طهارة هذا الكحول أو
الغول ونجاسته فبينا بالدلائل الواضحة أنه طاهر، فليراجع ذلك في المجلد الرابع من
المنار.
* * *
الشهادة بالتلغراف
(س 75) ومنه: أتجوز الشهادة بالتلغراف وعليه المجوس والنصارى؟
(ج) خبر التلغراف لا يسمى شهادة عند الفقهاء فلا يعملون به فيما يتوقف
إثباته على شهادة الشهود وإنما هو خبر كالكتابة، فينبغي أن يعمل به حيث يعمل
بالكتابة بشرطها، وهو الأمن من التزوير؛ فإذا لم يكن هناك ثقة بأن هذا التلغراف
من فلان فكيف يوثق بمضمونه؟ وأما إذا كان هناك ثقة بأن هذا التلغراف من فلان
فحكمه حكم خبره ، ولا يخفى أن خبر المجوسي والنصراني يعمل به في إقراره
وفي شهادته على مثله اتفاقًا. هذا ما يظهر من نصوص الفقه وأقيسته. وإذا رجعنا
إلى أصل الكتاب والسنة وحكم التشريع يتجلى لنا أن البينة في الشرع هي كل ما
يتبين به الحق بحيث يثق الحاكم أو غير الحاكم بأن هذا الشيء صحيح أو غير
صحيح ، فمن التلغرافات ما ترسله الحكومة إلى عمالها فلا يشُكُّون في صحة
مضمونه وكونه من الحكومة، ومنها ما يرسله تاجر إلى آخر فلا يشك في كونه منه،
ومنها ما يشك في مرسله أو في مضمونه أو فيهما معًا. ولكل خبر حكمه. وما
ذكرناه في معنى البينة قد أوضحه ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) واستدل
عليه بالكتاب والسنة والعقل ، فليراجع ذلك فيه أو في ص 170 من مجلد المنار
الخامس.
* * *
الزكاة والضرائب على الأرض في دار الحرب
(س75) ومنه: النصارى يأخذون من الأراضي في الهند قريبًا من
النصف أو الربع (أي من ريعها) فهل يعد ذلك من أصل ما يجب إخراجه من
العشر أو نصف العشر (وفي أصل السؤال ربع العشر وهو زكاة النقدين)
(ج) إن ما يجب من العشر أو نصف العشر من غلات الأرض هو من مال
الزكاة التي يجب صرفها في مصارفها الثمانية المنصوصة أو ما يوجد منها، فإذا
أخذها عامل الإمام في دار الإسلام برئت منها ذمة صاحب الأرض ووجب على
الإمام أو عامله صرفها لمستحقيها، وإذا لم يأخذها العامل وجب على المالك وضعها
حيث أمر الله. وما يأخذه النصارى وغيرهم على الأرض التي تغلبوا عليها يعد من
الضرائب ولا تسقط به الزكاة ، فيجب على المسلم أن يخرجها مما بقي له من الغلة
حتمًا بشرطها.
* * *
انتفاع المرتهن بالمرهون
(س76) ومنه: هل يجوز انتفاع المرتهن بالمرهون؟
(ج) جمهور العلماء ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي على أنه لا يجوز
للمرتهن أن ينتفع بالرهن لأنهم يعدون ذلك من الربا. هذا هو دليلهم وما رووه في
الاحتجاج له من حديث أبي هريرة عند الشافعي والدارقطني والحاكم والبيهقي وابن
حبان (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) لا يصح
له سند موصول يحتج به، وهو معارض بما احتج به مجيزو الانتفاع ، ومنهم أحمد
وإسحق والليث والحسن وهو حديث أبي هريرة عند البخاري وأبي داود
والترمذي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (الظهر يركب
بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا وعلى الذي يركب
ويشرب النفقة) فهذا الحديث يدل على أن الانتفاع بالرهن مشروع في الجملة،
وأنه ليس من الربا، فمن أراد الحق بدليله فهو جواز الانتفاع ما لم يكن هناك
احتيال على الربا أو شرط عدم الانتفاع برضا المرتهن ثم غدر وخالف الشرط ،
والله أعلم.
* * *
الحكم بالقوانين الإنكليزية
في الهند
(س77) ومنه: أيجوز للمسلم المستخدّم عند الإنكليز الحكم بالقوانين
الإنكليزية وفيها الحكم بغير ما أنزل الله؟
(ج) إن هذا السؤال يتضمن مسائل من أكبر مشكلات هذا العصر، كحكم
المؤلفين للقوانين وواضعيها لحكوماتهم ، وحكم الحاكمين بها والفرق بين دار
الحرب ودار الإسلام فيها. وإننا نرى كثيرين من المسلمين المتدينين يعتقدون أن
قضاة المحاكم الأهلية الذين يحكمون بالقانون كفار أخذًا بظاهر قوله تعالى: {وَمَن
لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) ويستلزم الحكمُ بتكفير
القاضي الحاكمِ بالقانون تكفيرَ الأمراء والسلاطين الواضعين للقوانين ، فإنهم وإن لم
يكونوا ألفوها بمعارفهم فإنها وضعت بإذنهم، وهم الذين يولون الحكام ليحكموا بها،
ويقول الحاكم من هؤلاء: أحكم باسم الأمير فلان لأنني نائب عنه بإذنه ، ويطلقون
على الأمير لفظ (الشارع) .
أما ظاهر الآية فلم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين، بل لم يقل به أحد
قط، فإن ظاهرها يتناول من لم يحكم بما أنزل الله مطلقًا، سواء حكم بغير ما أنزل
الله تعالى أم لا، وهذا لا يكفره أحد من المسلمين حتى الخوارج الذين يكفرون
الفساق بالمعاصي ومنها الحكم بغير ما أنزل الله. واختلف أهل السنة في الآية،
فذهب بعضهم إلى أنها خاصة باليهود وهو ما رواه سعيد بن منصور وأبو الشيخ
وابن مردويه عن ابن عباس قال: (إنما أنزل الله {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45){وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (المائدة: 47) في اليهود خاصة) . وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال:
(الثلاث الآيات التي في المائدة {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} (المائدة: 44)
…
إلخ، ليس في أهل الإسلام منها شيء هي في الكفار) وذهب بعضهم إلى أن
الآية الأولى التي فيها الحكم بالكفر للمسلمين ، والثانية التي فيها الحكم بالظلم لليهود ،
والثالثة التي فيها الحكم بالفسق للنصارى ، وهو ظاهر السياق. وذهب آخرون إلى
العموم فيها كلها ، ويؤيده قول حذيفة لمن قال: إنها كلها في بني إسرائيل: (نِعم
الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة ، كلا والله لتسلكن سبيلهم
قدّ الشراك) . رواه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم وصححه ، وأولَ هذا الفريق
الآية بتأويلين:
فذهب بعضهم إلى أن الكفر هنا ورد بمعناه اللغوي للتغليظ لا معناه الشرعي
الذي هو الخروج من الملة، واستدلوا بما رواه ابن المنذر والحاكم وصححه ،
والبيهقي في السنن عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الكفر الواقع في إحدى
الآيات الثلاث: (إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ، إنه ليس كفرًا ينقل عن المللة ،
كفر دون كفر) .
وذهب بعضهم إلى أن الكفر مشروط بشرط معروف من القواعد العامة، وهو
أن من لم يحكم بما أنزل الله منكرًا له أو راغبًا عنه لاعتقاده بأنه ظلم مع علمه
بأنه حكم الله أو نحو ذلك مما لا يجامع الإيمان والإذعان. ولعمري إن الشبهة في
الأمراء الواضعين للقوانين أشد ، والجواب عنهم أعسر، وهذا التأويل في حقهم لا
يظهر، وإن العقل ليعسر عليه أن يتصور أن مؤمنًا مذعنًا لدين الله يعتقد أن كتابه
يفرض عليه حكمًا، ثم هو يغيره باختياره، ويستبدل به حكمًا آخر بإرادته إعراضًا
عنه، وتفضيلاً لغيره عليه، ويعتد مع ذلك بإيمانه وإسلامه. والظاهر أن الواجب
على المسلمين في مثل هذه الحال مع مثل هذا الحاكم أن يلزموه بإبطال ما وضعه
مخالفًا لحكم الله، ولا يكتفوا بعدم مساعدته عليه ومشايعته فيه ، فإن لم يقدروا فالدار
لا تعتبر دار إسلام فيما يظهر، وللأحكام فيها حكم آخر، وهاهنا يجيء سؤال
السائل، وقبل الجواب عنه لابد من ذكر مسألة يشتبه الصواب فيها على كثير من
المسلمين وهي:
إذا غلب العدوّ على بعض بلاد المسلمين وامتنعت عليهم الهجرة ، فهل
الصواب أن يتركوا له جميع الأحكام، ولا يتولوا له عملاً أم لا؟ يظن بعض الناس
أن العمل للكافر لا يحل بحال، والظاهر لنا أن المسلم الذي يعتقد أنه لا ينبغي أن
يحكم المسلم إلا المسلم، وأن جميع الأحكام يجب أن تكون موافقة لشريعته وقائمة
على أصولها العادلة ينبغي له أن يسعى في كل مكان بإقامة ما يستطيع إقامته من
هذه الأحكام وأن يحول دون تحكم غير المسلمين بقدر الإمكان. وبهذا القصد يجوز
له أو يجب عليه أن يقبل العمل في دار الحرب إلا إذا علم أن عمله يضر المسلمين
ولا ينفعهم، بل يكون نفعه محصورًا في غيرهم ، ومعينًا للمتغلب على الإجهاز
عليهم ، وإذا هو تولى لهم العمل وكلف بالحكم بقوانينهم فماذا يفعل وهو مأمور بأن
بحكم بما أنزل الله؟
أقول: إن الأحكام المنزلة من الله تعالى منها ما يتعلق بالدين نفسه كأحكام
العبادات وما في معناها كالنكاح والطلاق، وهي لا تحل مخالفتها بحال، ومنها ما
يتعلق بأمر الدنيا كالعقوبات والحدود والمعاملات المدنية. والمنزل من الله تعالى في
هذه قليل ، وأكثرها موكول إلى الاجتهاد ، وأهم المنزل وآكده الحدود في العقوبات ،
وسائر العقوبات تعزير مفوض إلى اجتهاد الحاكم ، والربا في الأحكام المدنية. وقد
ورد في السنة النهي عن إقامة الحدود في أرض العدو، وأجاز بعض الأئمة الربا
فيها بل مذهب أبي حنيفة أن جميع العقود الفاسدة جائزة في دار الحرب ، واستدل
له بمناحبة (مراهنة) أبي بكر رضي الله عنه لأبيّ بن خلف على أن الروم يغلبون
الفرس في بضع سنين، وإجازة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، وصرحوا بعدم
إقامة الحدود فيها ، روي ذلك عن عمر وأبي الدرداء وحذيفة وغيرهم. وبه قال
أبو حنيفة ، قال في أعلام الموقعين: (وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه
والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدوّ ،
وذكرها أبو القاسم الخرقي في مختصره، فقال: لا يقام الحد على مسلم في أرض
العدوّ، وقد أتي بسر بن أرطاة برجل من الغزاة قد سرق مجنة فقال: لولا أني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تقطع الأيدي في الغزو)
لقطعتك. رواه أبو داود وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة. روى
سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر كتب
إلى الناس أن لا يجلدوا أمير جيش ولا سرية ولا رجلاً من المسلمين حدًّا وهو غازٍ
حتى يقطع الدرب قافلاً لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار، وعن أبي الدرداء
مثل ذلك ، ثم ذكر ترك سعد إقامة حد السكر على أبي محجن في وقعة القادسية ،
وذكر أنه قد يحتج به من يقول: لا حد على مسلم في دار الحرب كما يقول
أبو حنيفة، ولكنه علله تعليلاً آخر ليس هذا محل ذكره، وانظر تعليل عمر تجده
يصح في بلاد الحرب.
فعلم مما تقدم أن الأحكام القضائية التي أنزلها الله تعالى قليلة جدًّا ، وقد علمت
ما قيل في إقامتها في دار الحرب لاسيما عند الحنفية ، فإذا كانت الحدود لا تقام
هناك ، فقد عادت أحكام العقوبات كلها إلى التعزير الذي يفوض إلى اجتهاد الحاكم.
والأحكام المدنية أولى بذلك لأنها اجتهادية أيضًا ، والنصوص القطعية فيها عن
الشارع قليلة جدًّا ، وإذا رجعت الأحكام هناك إلى الرأي والاجتهاد في تحري العدل
والمصلحة ، وأجزنا للمسلم أن يكون حاكمًا عند الحربي في بلاده لأجل مصلحة
المسلمين؛ فالذي يظهر أنه لا بأس من الحكم بقانونه لأجل منفعة المسلمين
ومصلحتهم ، فإن كان ذلك القانون ضارًّا بالمسلمين ظالمًا لهم فليس له أن يحكم به
ولا أن يتولى العمل لواضعه إعانة له.
وجملة القول أن دار الحرب ليست محلاًّ لإقامة أحكام الإسلام ، ولذلك تجب
الهجرة منها إلا لعذر أو مصلحة للمسلمين يؤمن معها من الفتنة في الدين. وعلى
من أقام أن يخدم المسلمين بقدر طاقته ، ويقوي أحكام الإسلام بقدر استطاعته ، ولا
وسيلة لتقوية نفوذ الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين مثل تقلد أعمال الحكومة لا سيما
إذا كانت الحكومة متساهلة قريبة من العدل بين جميع الأمم والملل كالحكومة
الإنكليزية. والمعروف أن قوانين هذه الدولة أقرب إلى الشريعة الإسلامية
من غيرها لأنها تفوض أكثر الأمور إلى اجتهاد القضاة ، فمن كان أهلاً للقضاء
في الإسلام وتولى القضاء في الهند بصحة قصد وحسن نية يتيسر له أن يخدم
المسلمين خدمة جليلة. وظاهر أن ترك أمثاله من أهل العلم والغيرة للقضاء وغيره
من أعمال الحكومة تأثمًا من العمل بقوانينها يضيع على المسلمين معظم مصالحهم
في دينهم ودنياهم ، وما نكب المسلمون في الهند ونحوها وتأخروا عن الوثنيين إلا
بسببب الحرمان من أعمال الحكومة. ولنا العبرة في ذلك بما يجري عليه الأوربيون
في بلاد المسلمين؛ إذ يتوسلون بكل وسيلة إلى تقلد الأحكام ، ومتى تقلدوها
حافظوا على مصالح أبناء ملتهم وجنسهم حتى كان من أمرهم في بعض البلاد أن
صاروا أصحاب السيادة الحقيقية فيها ، وصار حكامها الأولون آلات في أيديهم.
والظاهر مع هذا كله أن قبول المسلم للعمل في الحكومة الإنكليزية في الهند
(ومثلها ما هو في معناها) وحكمه بقانونها، هو رخصة تدخل في قاعدة ارتكاب
أخف الضررين، إن لم يكن عزيمة يقصد بها تأييد الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين.
ذلك إن تعده من باب الضرورة التي نفذ بها حكم الإمام الذي فقد أكثر شروط
الإمامة، والقاضي الذي فقد أهم شروط القضاء ، ونحو ذلك. فجميع حكام المسلمين
في أرض الإسلام اليوم حكام ضرورة. وعلم مما تقدم أن من تقلد العمل للحربي
لأجل أن يعيش براتبه فهو ليس من أهل هذه الرخصة فضلاً عن أن يكون من
أصحاب العزيمة ، والله أعلم.
_________
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
أسباب ضعف المسلمين وعلاجه
تتمة
وحيث إنه وضح مما تقدم سبب سقوط المسلمين ثم خمولهم وتأخرهم في حلبة
الترقي والسياسة ، فمما لا يخفى على كل عاقل أنه إذا عرف المرض سهل الدواء
إذا بقي من الاستعداد الطبيعي بقية يمكن معه الحياة، وغير خافٍ أيضًا أنه لا يمكن
حياة الأمة الإسلامية إلا بعود المسلمين إلى دينهم الذي به سعادتهم في الدنيا والآخرة
أما ما ذكره الأخ رفيق من دعوة المسلمين إلى ترك الدين جانبًا والسياسة جانبًا،
فهو أبعد كل بعيد ، ودونه خرط القتاد ، ومن المحقق أن من دعا المسلمين إلى ذلك
لا يجاب ، ولو أقام على دعوته إلى يوم الحساب ، كما أن دعوته في نفسها غير
صواب. والحقيقة بخلاف ذلك ، فإن دعوتهم إلى دينهم الخالص أنفع لمرضهم ،
ومن البَيِّن الذي حققته التجارب أن تأثر المسلمين ونشاطهم إلى إجابة دعوة دينهم
أسهل كل سهل، وذلك كإجابتهم لدعوة فلان وفلان وفلان في كل مكان وزمان ، فلا
حاجة إلى الإطالة بالتفصيل والبيان.
ودين الإسلام كما أنه أكمل الأديان وأعدلها ، فسياسته أعدل كل سياسة يمكن
البشر أن ينضموا إليها؛ ألا وهي وضع كل شيء في الموضع الذي يناسبه ،
والأخذ بالأصح، والسعي في أسهل الطرق وأقربها إلى نيل المراد ، وأن ينتخب
من كل شيء أزكاه لتكميل وجوده وبقاه، ويصطفى لكل شيء كفوه ، وهذه هي
سنة الله في أمره الشرعي والكوني ، ومقتضى حكمته الكاملة، ودلت على حسنه
ووجوبه الفطر والعقول أيضًا ، وهو علامة الكمال والاستواء في الأمور الكونية
الطبيعية والانتظام البشري.
أما كونه سنة الله وحكمته في الخلق والتكوين فذلك بَيِّن لمن تفكر في نفسه
وفي الآفاق، ودونك مثالاً واحدًا لنقيس عليه ، وهو انتخاب موضع البصر في
الرأس ثم وضعه في الوجه لا في القفا؛ لأن الإنسان ذو إرادة للفعل والترك ،
والأخير عدم ، وفعله الطبيعي اتجاه وجهه، وتعيين مراده المحسوس موقوف على
رؤيته، فكانت الحكمة انتخاب الباصرة في هذا الموضع ، وهناك حكم وأسرار
كثيرة للمتبصرين. وكذلك الإنسان والشجر عند كماله واستوائه ينتخب منه لبقاء
نوعه خلاصته فيلد ويثمر، والله ينتخب ويصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ،
وهو يعلم حيث يجعل رسالته ومن يصلح لها. وكلام الحكماء والعقلاء في
الانتخاب للرأي والمشورة لا يمكن استقصاؤه، وقد فطر بنو آدم على التعاون في
أفعالهم وأقوالهم ، فالله جل شأنه كما اختار محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى
الناس كافة ، وختم به الرسالة ، واختار أمته وجعلها خير أمة أخرجت للناس
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ولا يقرون ظالمًا على ظلمه - أي ينبغي
أن يكون هذا شأنهم - أمرهم أن يتخلقوا بأخلاقه تعالى التي يليق أن يتخلقوا بها كما
يروى: تخلقوا بأخلاق الله ، ومعنى هذا الحديث صحيح في الدين، ودلت الشريعة
على أن ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن.
فمن تلك السياسة الاجتماعية أن الله فوض إلى الأمة الإسلامية انتخاب الخليفة
وتعيينه من عائلة الخلافة، وأعظم دليل على ذلك مفارقته صلى الله عليه وسلم هذه
الدار ولم يعهد في أمر الخلافة بشيء ، ولما كان بديهيًّا ومعلومًا لديهم ذلك من
دينهم لم يوصهم صلى الله عليه وسلم بغير الكتاب والسنة كما تقدم ، وأيضًا من
الأدلة القطعية المعلومة من الدين بالضرورة أن الخلافة الشرعية لا تثبت لأحد إلا
بعد البيعة الاختيارية من أهل الحل والعقد ثم عامة المسلمين في سائر البلاد بواسطة
أمراء الإسلام ، يدل على ذلك قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
في بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (إنها فلتة وقى الله شرها ، فمن عاد
إلى مثلها فاقتلوه) وتأمل قوله: فاقتلوه. إلى من يعود الضمير ويدل على ذلك
قوله تعالى الذي هو أصل كل دليل في ذلك وهو: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) أي شأنهم ذلك ، أو كما تقول: المال بين فلان وفلان أي مشترك
بينهما ، والخبر يكون للأمر بل هو آكد من مجرد الأمر ، كما ذكر ذلك في موضعه،
وقد جاء الأمر في الآية الأخرى صريحًا إذ قال لنبيه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل
عمران: 159) ودخول الأمة من باب أولى؛ إذ أنه صلى الله عليه وسلم غني عن
رأيهم بالوحي، وذلك ليس لهم. ومن أدلة ما ذكرناه ما قد تواترت به الأحاديث
والآثار من تسمية أموال الملك بيت مال المسلمين ، ولم يرد أنها مال السلطان أو
خزينته.
ومنها انتخاب سائر الأمراء والعمال ، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه
قال: (من ولَّى على قوم أو جماعة أميرًا ، وهو يرى فيهم أفضل منه فعليه لعنة
الله) .
ومنها وجوب العمل بالمشورة على الإمام غير النبي صلى الله عليه وسلم ،
وتعيين الصالحين والعقلاء لها للآيات المتقدمة التي عمل بمقتضاها الخلفاء
الراشدون. ذُكر في كنز العمال أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان إذا
نزل به أمر دعا رجالاًَ من المهاجرين والأنصار ودعا عمر وعثمان وعليًّا وعبد
الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت. ثم ولي عمر -
رضي الله عنه فكان يدعو هؤلاء ، وصح أن أهل مجلس شورى عمر - رضي
الله عنه - أهل الصفة. وليس وجوب العمل بالمشورة مقصورة على الخليفة فقط،
بل هي واجبة على سائر الأمراء والعمال ، فقد صح أنهم كانوا يوصونهم بأخذ رأي
من يحضرهم من عقلاء المسلمين ، بل كانوا يعينون لهم أفرادًا للرأي والمشاورة
ذكر في كنز العمال أن الصِدِّيق رضي الله عنه أوصى شرحبيل بن حسنة - وكان
أحد الأمراء - إذا نزل بك الأمر يحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح فليكن أول من
تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وإليك ثالثًا خالد بن سعيد ، وإياك
واستبداد الرأي عنهم أو تطوي عنهم بعض الخبر، وكانوا يسألون الأمة عن سيرة
أمرائهم، ويتفقدون رضاء الأمة عن أولئك الأمراء، وهذا هو الانتخاب اليوم عند
أهل الغرب أو مثله ، ولا اختلاف إلا في العبارات واللفظ.
ومن تلك السياسة الاجتماعية الشرعية أن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم ،
ومن خفره في ذمته فعليه لعنة الله كما صح عنه ذلك صلى الله عليه وسلم.
ومنها إيجاب الزكاة على أغنيائهم لترد على فقرائهم ومنافعهم الاجتماعية.
ومنها إيجاب الاستعداد الجندي على كل فرد فرد ، وحرّم القمار عليهم إلا في
ذلك ، وهل يجوز القمار مع غير أهل ملتنا؟ فيه خلاف يذكرونه في تفسير {الم *
غُلِبَتِ الرُّومُ} (الروم: 1-2) .
ومنها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك مما لا يتسع
المقام لبسطه.
فبتركنا ذلك وأضعاف أضعافه مما يدل عليه الشرع ويسلم به كل عقل سليم؛
صرنا إلى ما صرنا إليه ، وقد أوصى عليه الصلاة والسلام أمته بأهل الذمة وأكد ،
وكان الخلفاء الراشدون إذا أقاموا أميرًا من المسلمين في ناحية يكون بها أحد من
أهل الذمة أقاموا من تحته أميرًا من أهل الذمة على قومه ، وشدد رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الوصية بالقبط وقال: (استوصوا بهم خيرًا فإن لهم رحمًا وقرابة)
ولو أن المحل يحتمل الإطالة لأتينا بما لم يكن في حساب من تأكيده صلى الله
عليه وسلم الوصية بجيراننا وإخواننا الوطنيين الذين تأكدت بيننا وبينهم عهود الله
وذمته.
وقد يعترض بأنه إذا لم تعزل السياسية جانبًا عن الدين فأي فائدة في الشورى ،
وأن تقدم أهل الغرب إنما ثبت واستقر لهم بمنعهم كل تداخل ديني في أمور السياسة
والملك؟ وقد يقال أيضًا: إن كثيرًا من أحكام الدين وعقوباته غير مناسبة للزمان
ومصلحته ، والجواب عن الاعتراض الأول أن فائدة مجلس الشورى هي النظر في
جميع المسائل الاجتهادية أعني غير المنصوصة في الكتاب والسنة؛ كالنظر في
إصلاح البلاد والعباد بالعلوم والتجارة والصنائع المختلفة وحفظ الأمة عن
الاختلافات ، ووضع القوانين لذلك ، وإصلاح أهل الذمة، إلى غير ذلك من الفوائد
التي يصعب حصرها، ومن تلك الفوائد ما يأخذه السلاطين عشورًا من تجار
المسلمين ، وهو محرم في دين الإسلام، فيمكن إذا كان أركان مجلس الشورى
منتخبين من سائر بلاد المسلمين برضاهم ووكلاء عنهم كلٌّ عن جهته وبلاده ، فهو
يتطوع عن أهل جهته بذلك المقدار أو أكثر منه، وحيث إنه وكيل عنهم في ذلك
الشيء وغيره؛ فلا يبعد أن يحل ذلك لدى كل منصف من أهل العلم لا التقليد محل
القبول. إلى غير ذلك من فوائد يا لها من فوائد. وكثيرمن المسائل الشرعية قد
تتبدل تبدلاً وقتيًّا تبعًا لمصلحة الأزمنة والأمكنة، ولكنها تعود إلى أصلها بانتفاء
المقتضي ، وهذه أيضًا تفوض إلى رأي المسلمين ومشورتهم، وقد ذكر ذلك علماء
الإسلام.
أما الاعتراض الثاني، فيقال في جوابه: إنه لم يعرف في دين النصرانية
ذكر للسياسة فضلاً عن أن يقال: إنهم تركوها جانبًا، أو يقال: لعل سياسة دينهم
غير موافقة لمصلحة الزمان وعرفوا ذلك بعقولهم، كما هي منسوخة لدينا لتلك العلة.
وإذا عرفت بهذا صلاح السياسة الدينية الإسلامية، وأن أهل الغرب لم
يستطيعوا أن يأتوا بأحسن منها، ولا أنسب للزمان منها، بل سياستهم إنما هي
مستفادة من الإسلام والمسلمين؛ أفلا نكون أولى منهم بها لدلالة العقل على حسنها،
ولكونها حكمًا دينيًّا شرعه الله لنا نثاب عليه، ونسعد به في دنيانا وبعد موتنا.
بقي الجواب على الاعتراض الثالث، وقد ذكر هذا الاعتراض صاحب المنار
لبعض أمراء مصر وهو أنه كان يقول: لا يمكن أن تعمل الأمة في هذا القرن بما
وضع للعرب من نحو ثلاثة عشر قرنًا تقريبًا، وقول بعضهم خلاف مصلحة الزمان -
ونعوذ بالرحمن من الكفر والخذلان - وما مرادهم بمصلحة الزمان، وليس
الزمان إلا تعاقب الليل والنهار، ولا تنسب إليه مصلحة ولا مفسدة، فيتعين أن
يكون المراد أهل الزمان الذين منهم الكافر والمسلم ، فإن كان مراد هذا المعترض
المخذول أن شريعة الإسلام خلاف مصلحة المسلمين؛ فقد كذب وافترى ، فإن
مخالفة المصلحة لابد من بيانه. فإما أن يقول: إن شريعة الإسلام مانعة عن الترقي
للمسلمين - وقد عرفت فيما مضى أن كل ترقٍّ ظهر على وجه الأرض بعدها أنه
من بركة الإسلام وشعاع من مشكاته - وإما أن يقول: إن المسلمين يستثقلون
الأحكام الشرعية ، وينزعون إلى مخالفة سلطانهم إذا أجراها عليهم، وهذا أبعد كل
بعيد ، فإن جميع المسلمين في جميع أقطار الأرض لا يسرهم إلا إقامة شريعتهم ،
وكل سلطان يخالفها فهو ممقوت لديهم لا يمنحونه ودًا، ولا يرون له طاعة، وإذا
كانت شريعة الإسلام بهذه المنزلة في اعتقاد أمة الإسلام؛ فما بال المتحذلقين
يضعون قوانين على المسلمين لا يرضون بها ، وترى الأمة أنها مخالفة لمصلحتها؟
ما لنا ولتلك القوانين إن كان أهل أوربا رضوا بها فلأنفسهم ، على أنهم ما
اختاروها إلا لأن قومهم رضوا بها.
هذا ما يقال في سد النزاع من أصله، أما لو تشعبت المسائل الشرعية
والقانونية مع بيان عللها وأسرارها وغاياتها ومصالحها ودفع المفاسد، ثم المعادلة
بين الجرم وعقابه بعد تنزيل الجرم منزلته مع بيان ما ينتج عنه من المفاسد - فمن
أمعن النظر لم يبق له شك ولا التباس في أن شريعة دين الإسلام هي الأوفق
بمصلحة كل زمان، وأنها الموافقة للمعقول، وهي فطرة الله التي فطر الناس
عليها، ومَن غيَّر الفطرة فإثمه عليه. اللهم أحينا مؤمنين وأمتنا مؤمنين.
وفي الحقيقة مثل هؤلاء المعترضين لا يقولون عن معرفة وعقل، ولا يرمون
لغاية وإصلاح، فقولهم هذر لا يعبأ به ، إذ ليس اعتراضاتهم إلا عن دهشة وعجز
وجبن، يرومون به إرضاء أعدائهم الذين لا غرض لهم إلا اغتصاب بلادنا ودحرنا
عنها ، فالمعترضون لن يرضى عنهم هؤلاء المغتصبون أبدًا، وقد أغضبوا ربهم
ونبيهم وأمتهم؛ فباءوا بغضب على غضب ، وسيصيرون إلى عذاب أليم إن لم
يقلعوا ويفيئوا.
فيا أمراء المسلمين إن الغربيين لا يتقربون إليكم بتودد المخادعة محبة لذواتكم
الشخصية، فلا تنخدعوا لهم، ما ذلك إلا تلطفًا لينالوا مرامهم، ولئلا تنفروا وتنبوا
عنهم. ألا إنما هي مزاحمة عدو حاذق ليسلبوا منكم كل سعادة يسعون لذلك سعيًا
حثيثًا وأنتم لا تشعرون، كمثل الظل يُرى واقفًا وهو يسير أسرع سير إلى أن
يغشى كل شيء ، ثم يشتد ظلمهم فيعطل كل تمييز وإدراك، أو كمن رآك بمجلس
فارغًا فجعل يمازحك بغاية الحذق ويزاحمك ، فإن رآك أنكرته لاطفك قائلاً: إن من
ورائي من يدفعني ويدفعك ، ومضايقتي لك إنما هي سبب مدافعتي عنك، ولا يزال
كذلك حتى يخرجك، وقد تمكن في موضعك فيدعي أنه حقه وأنه مستحقه؛ فإن
شئت فقف حيث توضع النعال، فليس لك من هذا الصاحب المهذب إلا الإذلال.
يا أمراء المسلمين ، راقبوا الله في قومكم وأبناء وطنكم ، إن ثروتكم ورغد
عيشكم ونيلكم هذه المناصب، إنما هو بهم، والنصح والإخلاص لكم محال من
سواهم، فلا تبطروا ولا يغرنكم ركوب العربات مع أهل الغرب ونسائهم ، تلكم
مصانعة مؤقتة للحصول على مطالبهم ، ومداهنات محفوفة بغايات، وإلا فما هي
العلة؟ ألرحم قرابة، أم لاتحاد وطن أم لرابطة دين؟ [1] فراقبوا الله فينا، وفي
بلادكم وأولادكم، والغيرة الغيرة على شرفكم وحريمكم، أتعجزون عن خداع من
خادعكم، أليس يقال: رب حيلة خير من قبيلة. والعاقل قد يتحيل بالزمان
والمصلحة، ويتعلل بخوف الفساد والأمة، ومن يوم ليوم إلى أن تتوفر لديه العدة
ويستكمل القوة وينشأ في قومه الأكفاء، ما هذا الخوف والجبن، فإن أحدًا لا
يستطيع أن يسأل السيف، وإنما هي مخادعة في السياسة وترهيبات، إن قاومهم
بثبات أصبحت أضغاث أحلام، والسعيد من اعتبر بغيره.
ثم لينظر العاقل إلى أهل الهند. وبأي الحيل خُدعت سلاطينهم. ثم إلى أي
حالة آلت حالة أولاد أولئك السلاطين والأمراء المترفين ، تراهم في أنحاء البلاد
يتكففون الناس مع الفقراء والمساكين. تلك جناية آبائهم على بلادهم وقومهم، أحلتْ
النقمة بأولادهم أكثر منها بالرعية؛ لأن الرعايا كما كانوا سابقًا يتكسبون معاشهم،
بل هم الآن يتكسبون بالمكر، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
ويا معشر المسلمين ، يا إخواني ، يا أولياء الغيرة، يا معشر المصريين ،
بشرفكم لبيك إجابة لمستغيث تقطعت أحشاؤه غمًّا وكآبة عليكم ، فأنتم
قومه وأمته ورأس ماله وربحه ، بل أعز عليه من روحه. إن لي فيكم أيها
المصريون أملاً وطيدًا ، أمنيتي إليكم أن تؤلفوا لجنة تسمونها مجلس الإسلام - أو ما
شئتم أن تسموها - يشترك فيها كل من أخلص لقومه ومَلَكه حُبُّه ، وغرق في عشقهم ،
أولئك الذين لا يهابون الخطوب ، ولا تعوقهم المصائب عن السعي في فلاح قومهم
ونجاتهم، وأشرِكوا فيها كل من يصلح للإشراك من سائر طوائف المسلمين. وعلى
أهل هذه اللجنة أن يبثوا الوعاظ الأمناء العقلاء في سائر أنحاء بلاد المسلمين،
ويدعونهم إلى الوفاق وترك التقليد الذي فرقهم، وأضاع عليهم دينهم وبلادهم،
وأوقعهم فيما هم فيه من الجهد وعدم مجاراة الأمم المتمدنة. وأهل هذه اللجنة
يؤلفون وفدًا من كبارهم وعقلائهم يوجهونه إلى حضرة السلطان الخليفة الأعظم
رأسًا، وإذا لاقوه يبينون له حالة المسلمين وأسباب وهنهم ، وكذلك يبينون له كل
اختلال واقع في بلاده ، ويلتمسون أن يوافقهم على إقامة مجلس شورى للمسلمين
يرأسه السلطان نفسه شبيه بإمبراطورية الجرمان أو برلمان إنكلترا. مجلس شورى
المسلمين تتألف أركانه من جميع طوائف المسلمين ، وكل أمير من أمراء المسلمين
يكون له نائب في ذلك المجلس من عرب نجد وحضرموت واليمن والحجاز
والعراق ومصر إلى غير ذلك ، ومن أكراد وترك وغيرهم ، وأهل هذه اللجنة أثناء
عملهم يتناوبون في إقامة جماعة منهم في الآستانة. ويكون مقر لجنة الإسلام في
مصر ، ومن مصر يبعثون الوفود إلى سائر بلاد الإسلام ، وكذلك الدعاة والوعاظ
ليسود الأمن والأمان، لا للحرب والطعان، بل لإشاعة العلوم وإنقاذ المظلوم، ثم
إن كل أمير يبقى أميرًا على إمارته ويعقد بها مجلس شورى أيضًا ، وكل هذه
الأشياء بانتخاب الأمة كشأن أهل الغرب ، لكن على طريق الشرع.
ومجلس الشورى يقنن القوانين في المسائل غير المنصوصة شرعًا ، ويعقد
المعاهدة بين جميع الأمراء وبين الخليفة الأعظم ، ويتعاهد بلادهم ويرسل إليها
العلماء والحكماء والمهندسين ، والنفقات في ذلك عليهم بالمعروف ، ويحملهم على
إنشاء المدارس وتأمين الطرق ومنع الظلم وفتح أبواب التجارة، وليصلحوا من
شأنهم وجنودهم بكل قوة وعدة يستطيعون بها دفع هجوم قطاع الطريق وكل فساد.
وهم تبع لخليفتهم إمام العدل والأمان ، وجندهم مع جنده جند سلطنة واحدة.
هذا ما أدعوكم إليه، وهو لا ينقص فائدة عن المدارس التي تصرفون فيها
الألوف من الدنانير، بل لا نسبة بين ذا وذا، وأين الثريا من الثرى. إنكم إن فعلتم
ذلك فقد بؤتم بالشرف وسُدتم جميع المسلمين، وكنتم السبب في نجاتهم ، والله
كفيل لكم بالنصر والفلاح والتأييد. واعلموا أنكم إن رمتم ذلك الإصلاح لتجدن في
طريقه مقاومات ودسائس وعراقيل، ولكن من صبر ظفر، ومن سار على الدرب
وصل، ولا جبن يطوِّل عمرًا، ولا شجاعة تقصره، وإن تم لكم هذا المرام فمن ذا
الذي يمكنه أن يطمع في بلادكم، أو يتجرأ عليكم بالتهديد وإثارة الفتن؟ وهل يمكن
أي طماع أن يتصور في ذهنه تقسيم بلادكم واحتلالها، والحق لا يعدم نصيرًا ، فإن
في أهل أوربا الحكماء والعقلاء المولعين بحب النوع الإنساني بغير تعيين بلاد
وقوم، فهم بلا شك يساعدون في فعل هذا الخير العميم.
وقد أثبتُّ في هذه الرسالة سبب سقوط المسلمين ، ثم سبب خمودهم في هذه
الفترة ، وأعقبت ذلك بالدواء النافع لهذا المرض ، وهو ليس بالشديد ولا بالصعب
المتعذر في جانب المضار المترقبة المقبلة على سائر الأمة والبلاد ، إنما ذلك
يستدعي تدبيرًا وسياسة وصبرًا وتجديد أمل بعد أمل من غير يأس وقنوط ، وفي
مدة قريبة تتبين الفائدة بيانًا واضحًا، ولتسمعن من بدو الجبال فضلاً عن أهل المدن
والقرى ما يسر قلوبكم وخواطركم من الطاعة والحمية والتقدم في المعارف وبذل
الأنفس والأموال في محبة القوم والوطن ، ولتذهبن الأحقاد والضغائن التي ملأت
أسماعنا من أقوال كثيرين من المسلمين من أن الأتراك يعاملون رعاياهم معاملة
الفاتح لأمة أجنبية، وأن الترك تفتخر وتعتقد أن السلطان إنما هو سلطانهم، وأنهم
أولى من سائر المسلمين بكل سلطة وإمارة إلى غير ذلك من الخيالات. فبما ذكرناه
يذهب ذلك كله ويعود المسلمون إخوانًا كما آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم في أول الإسلام، ولنا الرجاء الأوفر بمبادرة إخواننا المصريين إلى هذه
الأمنية الغالية ، ولا نرجو ذلك من غيرهم إلا أن يكون ذلك غير قياس عقولنا ،
وكل ميسر لما خلق له ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على
سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 14ج 2 سنة 1322.
…
...
…
...
…
... (صالح بن علي اليافعي)
(المنار)
صفوة كلام الكاتب أن مرض المسلمين في أمرين هما الأصل في جميع
الأعراض المؤلمة التي يتوجع منها أهل الشعور منهم؛ وهما استبداد الحكام،
والتقليد في الدين الذي استلزم التقليد في كل شيء. وكل من الأمرين مخالف
للإسلام ، ويعلم قراء المنار أن هذا موافق لرأينا ، وأننا لا نقاوم شيئًا مقاومتنا لهذين
المرضين الخبيثين ، وإنما طريقنا في ذلك محاولة إقناع عقلاء الأمة وفضلائها بذلك
تدريجًا حتى إذا ما كثر المقتنعون بشيء نهض بتعميم الإصلاح فيه من يقيضه الله
تعالى من الزعماء الذين يظهرون في الأمم عند استعدادها للانقلابات الكبرى كما
يظهر المعدون لها لقبول الانقلاب.
أما أمنية الكاتب فهي من جملة ما يصح أن يعرض على المسلمين ليتفكر فيها
أهل الفكر منهم ، وقد سبق لنا نشر مثلها في المنار ، وأعجبنا منه أن سماها أمنية ،
ولكنه حث عليها بعد ذلك بما يفهم منه أن له رجاءً قويًّا في إنفاذ المصريين لها،
ولكن المصريين يعرفون من أنفسهم أنهم قد استعدوا للقول ولم يستعدوا للعمل
لأنفسهم فضلاً عن العمل لجميع المسلمين. وأن الأقوال التي تنشر في الجرائد
المصرية قد غشَّت مسلمي الأقطار الإسلامية البعيدة عن مصر بالمصريين، ولكنها
لم تغش المصريين بأنفسهم، وغاية ما كان من تأثيرها فيهم أن بغضت إليهم
الاحتلال الإنكليزي زمنًا ، وعلقت آمالهم بفرنسا لا بأنفسهم، وقد انقطع حبل هذا
الأمل بالوفاق الفرنسي الإنكليزي، بل بحادثة فشودة قبله، وثبت للمصريين
بالاختبار أن جرائدهم كانت تغشهم لأجل سلب المال منهم وإحراز الجاه عندهم،
وأن الإنكليز خير لهم من أمرائهم السابقين ، ويمكنهم أن يرتقوا في أيامهم إذا عملوا.
وكان ذلك محالاً عليهم من قبلهم ، وأن الاحتلال المنافي للاستقلال لا يمكن أن
يقاوم بالقيل والقال، والاتكال على من لا يصح عليه الاتكال ، فزالت من نفوسهم
فكرة مقاومة الإنكليز بالمرة ، ولكن العقلاء يعرفون ما لا ينكره الدهماء أن
الاستقلال هو سعادة الأمم ويتمنونه لبلادهم، ولكن لا يوجد فيهم عاملون لأجل
الاستقلال.
ماذا رأى مسلمو الهند وغيرهم من النائين الذين ينظرون إلى المصريين
بالمناظير المكبرة ، فتتمثل لهم صورة كل مصري في شكل أبي الهول؟ هل رأوا
في هذا الهيكل العظيم آيات الحياة الاجتماعية الحقيقية وما هي هذه الآيات؟
يذكر كاتب هذه المقالة المدارس، وبذل الألوف من الدنانير في سبيل إنشائها ،
ويا فضيحة مصر إذا ذكر إنشاء المدارس وبذل المال لها. إن في سوريا ولبنان
عدة مدارس كلية ، وليس في القطر المصري مدرسة كلية ، فالقطر المصري لم
يصل في الارتقاء بالتعليم - وهو أغنى قطر إسلامي - إلى مساواة قرية زحلة من قرى لبنان، بل تقول جريدة المؤيد: إن المصريين لم يستعدوا ويرتقوا إلى
الدرجة التي تمكنهم من إنشاء مدرسة كلية؟ فلا تغرنك أيها الكاتب الغيور جعجعة
الجرائد المصرية عندما تذكر إنشاء مدرسة ابتدائية، لا سيما إذا كانت منتسبة إلى
جمعية، فليس هاهنا مدارس حقيقية ولا تعليم حقيقي، ولا تغرنك شقشقة بعض
الكاتبين ، فإنما هم قوم يبيعون الكلام للعوام وللأمراء العظام ، والدليل على ذلك
أنك لا تجد واحدًا منهم يحارب الاستبداد والتقليد اللذين هما أقتل أمراض الأمة، بل
هما أصل جميع مصائبها ورزاياها، ذلك أن محاربة التقليد تنفر منهم العوام تبعًا
لرؤساء الدين، ومحاربة استبداد الملوك والأمراء يحرمهم من الرتب
والنياشين.
انظر كيف ظهر بُعْدَ رجائك بالمصريين ، ولرجاؤك بالملوك والأمراء أبعد.
ولم يبق للإصلاح إلا شيء واحد؛ وهو السعي في تربية رجال مستقلين في
أفكارهم وإرادتهم مقتنعين بوجوب السعي في إبطال التقليد والاستبداد ، والقيام
بالأعمال العامة التي ترتقي بها الأمة ، والله الموفق والمعين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
حذفنا من هنا نبذة في عزيز مصر ونظار حكومتها.
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
يوم 28 و31 مارس سنة - 186
نحن الآن سائرون تحت خط السرطان، ويُرى على (لولا) أنها لغرارتها
تقلب وجهها في السماء تفتيشًا عن ذلك الحيوان البشع الشبيه بالسرطان البحري في
شكل أرجله كما هو مرسوم في التقاويم التي جعل فيها من علامات منطقة فلك
البروج، وهي بذلك تستهدف لسخرية (أميل) وزرايته.
تجري بنا السفينة بأقصى سرعة لها تُزجيها رياح شديدة، وقد مدت جميع
شرعها فجعلت حبالها تصر صريرًا. ذلك أنا أردنا اغتنام هذه الرياح الانقلابية [1]
التي يسميها الإنكليز رياح الشمال الشرقي التجارية.
يتدرج النهار في النقص ويكاد الآن يساوي الليل.
تنقذف من باطن المياه أسراب كالغيوم من السمك الطيار، وتسف سفيف
الخطاف، فبينما كان أحد الملاحين البسلاء يوقد مدخنته (عود دخان التبغ)
البارحة؛ إذ لطمه جناح بارد مندي على خدّه فتولاه من ذلك دهش عظيم. ثم التفت
حوله فإذا هو بسمكة من ذلك الصنف تحت قدميه على ظهر السفينة، ويندر أن
تصل أمثالها في انقذافها إلى هذا الارتفاع، وإنما جذبها إليه ضوء المدخنة.
أخوف سكان البحر الأخرى التي لم يرها (أميل) حتى الآن وأهيبها بلا
نزاع، كلاب البحر ، وللملاحين في صيدها نوع من الحماسة والنخوة، وقد اصطادوا
غدوة اليوم واحدًا من هذه العفاريت (كما يقولون لأنهم أطلقوا عليها أبشع الأسماء
كلها) وذلك بواسطة هبرة من لحم الخنزير زنتها نحو خمسة أرطال ألقوها إليه
وكان منظر صيده مؤثرًا؛ فاسترعى أبصار جميع المسافرين وبعثهم على الصعود
إلى ظهر السفينة لمشاهدته، وكان أول عمل لهم بعد صيده أن بتروا ذنبه بفأس ،
وهو احتياط أراه ضروريًّا على ما فيه من القسوة؛ لأنه شوهد غير مرة أن إغفاله
كان سببًا في أن يكسر بذلك الطرف المرن ساق بعض القريبين منه أثناء معالجته
التفلت من أيدي صائديه، ويأكل الملاحون أحيانًا صغار كلاب البحر غير أنهم
يقرون بألسنتهم أن لحمها غير جيد، وهم إذا قتلوا هذه الحيوانات فإنما يبعثهم على
قتلها مجرد بغضهم لها، ولشد ما يؤذونها بسبب هذا البغض ، وحجتهم فيه أن ما
يصطادونه ويقتلونه منها التقم فلانًا أو فلانًا من أصحابهم، فإن لم يكن هو الذي
التقمه كان أخوه أو أحد أقاربه، ولقد حاولت صدهم عن ممارسة هذه الألاعيب
الوحشية مبينًا لهم أن الإنسان لا ينبغي له أن يعذب عدوه بعد غلبه ، فذهب نصحي
أدراج الرياح، ولكني آمل أن لا تفوت (أميل) هذه العبرة.
تبقى لكلاب البحر بعد موتها في السفينة رائحة خبيثة لا تزول إلا بعد بضعة
أيام ، وهكذا الأشرار يؤذون حتى بعد موتهم من يسعون لخلاص الناس من شرهم.
قلما يفهم الأطفال من القوانين شيئًا إلا قانون القصاص، ذلك أن الملاحين
اصطادوا دلفينًا [2] عشية اليوم الذي اصطادوا فيه كلب البحر فما كان من (لولا)
إلا أن قالت وهى تنظر إليه نظرًا يشفّ عن الرحمة: لقد استحق هذا، فإني رأيته
التهم كثيرًا من الأسماك الطيارة الجميلة، ولقد صدقتْ فإن ما التهمه منها لم يكن إلا
لقمة واحدة من لقمه، وإن سنة الله في خلقه أن من أَكَل أُكِل ، وقد أثبتها الملاحون
لها بجعله عشاء لهم ، ولحم هذا الحيوان إذا غلي في الماء كان فيه شيء من الجودة
إلا أنه يكون ناشفًا.
في نحو الدرجة السادسة عشرة والدقيقة الثلاثين من العرض الشمالي أنشأنا
نرى في السماء برجًا جديدًا يسميه الملاحون صليب الجنوب ، وهو مؤلف من
خمسة نجوم.
وعجيبة أخرى أبصرناها في ذلك المكان؛ وهي أن المياه تضيء ليلاً ، وقد
راع منظرها (أميل) و (لولا) فلم يستطيعا أن يفيقا من التلذذ بجماله ، وإن كان
قد بعث فيهما شيئًا من الخوف ، فإن كليهما سألاني من ذا الذي أوقد النار في البحر،
ففسرت لهما بما في وسعي ما أعلمه من أسباب هذه الحادثة التي لم تعلم تمام العلم ،
وقد علل العلماء وجود هذا الضوء في الماء بوجود حيوانات مضيئة تشبه النباتات
فيه.
كان ذلك النور من شدة سطوعه بحيث أن (أميل) تناول كتابًا من جيبه وقرأ
فيه على انعكاس ضوئه عن الأمواج الملتهبة هذا البيت من قصيدة لشكسبير وهو:
خير جزء في روحي
…
وهي بالتحقيق روحك
نعم إن الله سبحانه لم يفض علينا جميع روحه ، وما أقل ما أفيض علينا منه
غير أن هذا القليل الذي يهبه لنا يتصل بروحنا اتصالاً حقيقيًّا [3] . الذي يدهشني من
حادثة ظهور الضوء في البحار أنها تقع عادة في أحلك الليالي. اهـ
***
يوم 3 أبريل سنة - 186
قد صرنا تجاه الرأس الأخضر، ولما رأى الملاحون سكون الريح في هذا
المكان، أدلوا قواربهم وسبحوا لصيد السلاحف البحرية، وهذه السلاحف من عادتها
أن تظهر قريبًا من سطح الماء فتكون كأنها نائمة فوقه ، فتصطاد بنوع من السهام له
أربعة أسنان يسميها ملاحو الإنكليز بالحبوب ، وكل ما يصاب منها بتلك السهام
يجذب بعد صيده إلى القوارب بواسطة حبال تكون في أيدي الرماة، وقد رأيتهم
اصطادوا منها في ساعتين ثمانية زنة كل منها من خمسة عشر إلى خمسة وأربعين
رطلاً إنكليزيًّا. اهـ
***
يوم 4 أبريل سنة -186
أعوزتنا الرياح الانقلابية التي كانت مواتية لنا أحسن المواتاة على جرينا في
فضاء المحيط، وعوضنا عنها الآن رياحًا خفيفة متناوحة تهب على التعاقب من
جهات مختلفة للأفق ، وانتقبت السماء في مواضع متفرقات منها بسحب بيضاء ،
وسفرت في مواضع أخرى بزرقة شاحبة جميلة، وللشمس في هذا المكان شروق
يخطف الأبصار ضياؤه؛ فلا تقوى على احتماله ، وأما غروبها ففخيم جليل. اهـ
***
يوم 9 أبريل سنة -186
تمطرنا السماء شآبيب ووابلاً حارًّا. وكل ما نراه يؤذن باقترابنا من خط
الاستواء ، فترى الملاحين على ظهر مقدم السفينة مشتغلين بوضع لحى كاذبة لهم
وتغطية رءوسهم بعوارٍ من الشعر ، وارتداء ثياب بشعة، حتى إنه ليخيل للرائي
أنهم في أمس عيد المرافع، ويشهد (أميل) هذه الضروب من الاستعداد شهادة
الخائف؛ لعلمه حق العلم بما سيلاقيه، فإن كل تلميذ بحري لم يجتز خط الاستواء
لابد أن يقتحم صنوف بلائه ومحنه كما هي العادة ، فلا تزال شعائر الملاحين
القديمة متبعة ، وإن كانت قد فقدت كثيرًا من مظاهرها الصبيانية الوحشية التي
كانت تجعلها مخوفة جدًّا في قلب المبتدئ في الملاحة، وعلى كل حال فالملاح
طفل، ولولا ذلك لما لعب بالمخاطر ملاعبة الباسل المقدام. اهـ
***
يوم 13 أبريل سنة - 186
اصطبغ (أميل) بالمعمودية البحرية فصار الآن من أولاد إله البحر. حالة
الجو في اختلاف وتغير، فمن رياح شديدة إلى سكون عام ، ومن مطر هتان إلى
شمس محرقة ترمي رءوسنا بسهام أشعتها العمودية.
لفتنا الربان إلى إعصار من الأعاصير المائية التي يخشاها الملاحون بحق ،
فرأيناه من مسافة بعيدة ، وأكثر ما تثور هذه الأعاصير في جهة خط الاستواء.
اهـ
***
يوم 15 أبريل سنة - 186
صادفتنا سفينة قافلة من الهند أو من الصين إلى بريطانيا العظمى ، وآذنتنا
بإشاراتها أنها مستعدة لحمل ما نُحملها من الكتب ، ولما كان تبادل صنائع المعروف
مما تحفظ به المودة في البحر أرسلنا لها بعض صحف إنكليزية مضى على نشرها
ستة أسابيع ، ولكن أخبارها يكون لها من الجدة عند ركابها ما لصحف الصباح عند
سكان لوندره ، وقد كتبت وكتب (أميل) كلمتين لصديقنا الدكتور وارنجتون. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(1)
الرياح الانقلابية هي التي تهب بين دائرتي الانقلابيين من قطعة فلك البروج.
(2)
الدلفين صنف من خنازير البحر.
(3)
يعني بالروح الإلهي ما به حياة الخير والفضيلة والحق وهذا شيء من الله ليس لغيره صنع فيه فأضيف إليه.
الكاتب: حافظ إبراهيم
إلى مصر
حطمت اليراع فلا تعجبي
…
وعفت البيان فلا تعتبي
فما أنت يا مصر دار الأديب
…
ولا أنت بالبلد الطيب
وكم فيك يا مصر من كاتب
…
أقال اليراع ولم يكتب
فلا تعذليني لهذا السكوت
…
فقد ضاق بي منك ما ضاق بي
أيعجبني منك يوم الوفاق
…
سكوت الجماد ولعب الصبي
وكم غضب الناس من قبلنا
…
لسلب الحقوق ولم تغضب
أنابتة العصر إن الغريب
…
مجد بمصر فلا تلعبي
يقولون في النشء خير لنا
…
وللنشء شر من الأجنبي
أفي الأزبكية مثوى البنين
…
وبين المساجد مثوى الأب
وكم ذا بمصر من المضحكات
…
كما قال فيها أبو الطيب
أمور تمر وعيش يمر
…
ونحن من اللهو في ملعب
وشعب يفر من الصالحات
…
فرار السليم من الأجرب
وصحف تطن طنين الذباب
…
وأخرى تشن على الأقرب
وهذا يلوذ بقصر الأمير
…
ويدعو إلى ظله الأرحب
وهذا يلوذ بقصر السفير
…
ويطنب في وِرده الأعذب
وهذا يصيح مع الصائحين
…
على غير قصد ولا مأرب
وقالوا دخيل عليه العفاء
…
ونعم الدخيل على مذهبي
رآنا نيامًا ولما نُفِق
…
فشمر للسعي والمكسب
وماذا عليه إذا فاتنا
…
ونحن على العيش لم ندأب
ألفنا الخمول ويا ليتنا
…
ألفنا الخمول ولم نكذب
وقالوا (المؤيد) في غمرة
…
رماه بها الطمع الأشعبي
دعاه الغرام بسن الكهول
…
فجن جنونًا ببنت النبي
فضجّ لها العرش والحاملوه
…
وضج لها القبر في يثرب
ونادى رجال بإسقاطه
…
وقالوا تلوّن في المشرب
وعدُّوا عليه من السيئات
…
ألوفًا تدور مع الأحقب
وقالوا لصيق ببيت الرسول
…
أغار على النسب الأنجب
وزكَّى أبو خطوة قولهم
…
بحكم أحدٌ من المضرب
فما للتهاني على داره
…
تساقط كالمطر الصيب
وما للوفود على بابه
…
تزف البشائر في موكب
وما للخليفة أسدى إليه
…
وسامًا يليق بصدر الأبي
فيا أمة ضاق عن وصفها
…
جنان المفوه والأخطب
تضيع الحقيقة ما بيننا
…
ويصلى البريء مع المذنب
ويُهضم فينا الإمام الحكيم
…
ويُكرم فينا الجهول الغبي
على الشرق مني سلام الودود
…
وإن طأطأ الشرق للمغرب
لقد كان خصبًا بجدب الزمان
…
فأجدب في الزمن المخصب
القصيدة لشاعر مصر حافظ أفندي إبراهيم ، ويعني بقوله (يوم الوفاق)
الوفاق الفرنسي الإنكليزي على مسألتي مصر ومراكش ، وبقوله: السفير: اللورد
كرومر عميد الدولة المحتلة في مصر. ويعني بقوله: (دخيل) ما يلغط به بعض
الأحداث هنا إذ يسمون السوريين المقيمين في مصر (دخلاء) حتى من اعتبره
القانون مصريًّا، ويعني بقوله:(فما للتهاني على داره)
…
إلخ، ما ذكر في المؤيد
من أن السلطان أنعم على الشيخ علي يوسف صاحبه بمداليا الامتياز الذهبية
والفضية، وما نشر فيه من أسماء المهنئين بهذا الإنعام. وقوله: (وما للوفود على
داره) البيت غير صحيح فلا وفود ولا وفد ، ولكنه من باب المبالغة الشعرية، ثم
إن خبرهذا الإنعام لما يتحقق ، وقد كذبته جريدة الأهرام ، وسكت لها المؤيد فلم
يؤكد الخبر.
والذي يقصده من الأبيات في حادثة زوجية صاحب المؤيد أن المصريين لا
ثبات لهم ولا اتفاق على شيء، فقد قامت قيامتهم على الشيخ علي يوسف عندما
شاع خبر عقده على بنت السادات في بيت البكري بدون حضور أبيها ولا إذنه ،
وسلقته بألسنة حداد في كل سامر وناد، ثم لم يلبثوا أن سمعوا إشاعة إنعام
السلطان عليه حتى انبرى كثيرون لتهنئته، وقد كتبنا هذه الكلمات لنزيل اشتباه من
اختلفوا في القصيدة أتتضمن الانتصار للمؤيد أم لخصومه، وليعتبر بما قال شاعر
مصر في قصيدته ، وما وصف به قومه وجرائدهم كاتب المقالة في ضعف
المسلمين وأمثاله من البعداء عن هذه الديار.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(مقدمة ابن خلدون مع رحلته)
مقدمة ابن خلدون غنية عن التعريف والتقريظ ، لا ينكر عارف مكانتها في
فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، ولا فائدتها في ترقية العقل واللسان. وقد طبعت
على حدتها مرات كثيرة، وطبعها أخيراً السيد عمر الخشاب الكتبي الشهير، وطبع
على هامشها رحلة المؤلف، وجعل ثمنها مع ذلك خمسة قروش.
ولو طبع الرحلة وحدها وباع النسخة منها بخمسة قروش؛ لما شككنا في
رواجها لما فيها من الفوائد العلمية والأدبية والتاريخية، والقصائد والتراجم
والحوادث المحررة بذلك القلم البليغ. وهذه الطبعة بحروف إستانبولية جميلة لا
كطبعة العقد الفريد، وهي تطلب من مكتبة الطابع الشهيرة ، ولا شك أن ستلاقي
رواجًا عظيمًا.
***
(كتاب تطبيق الإجراءات القانونية على مواد قوانين المحاكم الأهلية)
لا يستغني من يقيم في بلاد عن معرفة قوانينها التي يعامل بها في الإجارة
والقضاء ، فإن الحاجة إليها لتعرض للإنسان في أوقات يعوزه فيها المحامي وغيره
من العارفين؛ فيحار ولا يدري ما هو صانع. وقد أحس بهذه الحاجة أحمد أفندي
حسن رئيس المحضرين في محكمة الاستئناف الأهلية ، فألف كتابًا في ذلك ، أرشد
فيه محتاج معرفة القانون إلى ما ينبغي له عمله عند عروض الحاجة ، فبين له حق
إقامة الدعوى وكيفيتها، ورسومها ومواعيدها، وطرق استئنافها وتنفيذ الأحكام
وغير ذلك. وأودع كتابه هذا مجموعة المواعيد القانونية، وقانون القرعة العسكرية
والقانون النظامي، ولائحة التنظيم ولائحة المحاكم الشرعية، وغير ذلك من
القوانين واللوائح والأوامر العالية الناسخة والمخصصة. وقد طبع الكتاب في
مطبعة الشعب ، فزادت صفحاته على الخمسمائة ، وجعل ثمن النسخة منه عشرين
قرشًا ، وهو يطلب من مكتبة الشعب بمصر.
***
(صحة المرأة في أدوار حياتها)
(وهو مختصر في القواعد الصحية التي ينبغي أن تتبعها الفتاة حال البلوغ
والزواج ، والمرأة في الحمل والولادة والنفاس والرضاع ووظيفتها نحو أطفالها)
تأليف الدكتور أحمد أفندي عيسى الذي كان طبيبًا في مستشفى المجاذيب. وقد قال
المؤلف أنه اعتمد في تأليفه هذا على أشهر المؤلفات الفرنسية والإنكليزية الحديثة،
والكتاب مؤلف من 19 بابًا في المرأة جسمها وعقلها وبلوغها، وفي الزواج سنه
وموانعه، وفي العقم والحمل والوضع والإجهاض والرضاعة والأطفال، وما
يعرض للنساء في جميع الأطوار من الأمراض ، وما يعرض كذلك للأطفال،
وكيفية المعالجة ومداواة الصحة، وكيفية التربية الجسدية بالتفصيل. وفي هذه
الأبواب فصول كثيرة وفوائد غزيرة، لا يستغني أحد عن مطالعتها ، ولا مطالع
إلا ويستفيد منها على ما فيها من الاصطلاحات الطبية، وإننا نذكر للقارئ نموذجًا
من الفصل الثالث من الباب الأول ليرى الفرق بين الإشارة إلى هذه الأبواب وبين
ما يدخل فيها من الفوائد. وهذا الفصل قد عقده المؤلف لبيان الوقاية الصحية في
الزواج قال:
(للمدنية الحاضرة سيئات بقدر ما لها من الحسنات ، فمن سيئاتها أنها سهلت
انتشار كثير من الأدواء العفنة المعدية التي تنتقل بالوراثة من السلف للخلف ، فلكل
شيء آفة من جنسه. وهذه الأدواء تفعل بالأمم خفية ما كانت تفعله الأوبئة ظاهرًا في
سالف الزمان ، فتنخر في جسم الأمة نخر السوس في عيدان الخشب من تصرم
حبالها وتقطع أوصالها ، فتوردها موارد المهلكة والفناء. كل ذلك والأمة لاهية كأنها
في حالة خدر عام ، فلا تكاد تستقيظ إلا والبلاء محيط بها إحاطة السوار بالمعصم) .
ثم بين أن اتقاء هذه الأدواء يكون باتقاء الأمراض التي تنتقل بالزواج والوراثة ،
وقال:
(وبما أن الوراثة هي انتقال الطباع والصفات والحواس من الأسلاف
للأعقاب؛ لزم قبل الزواج أن يلاحظ خلو الزوجين من الأمراض الوراثية أو
المعدية أو المسببة لهلاك أحدهما إذا تزوج ، وأهم ما يجب الالتفات إليه والتبصر
فيه عند الزواج الأحوال الآتية وهي:
(1)
القرابة (2) السيلان الصديدي (3) الزهري (4) السل الرئوي (5)
الإدمان على السكر (6) الأمراض العصبية (7) تشوه أعضاء التناسل (8)
ضيق الحوض (9) التشوهات الخلقية (10) أمراض القلب والكبد والكلى
(11)
الأمراض الدياتيزية (أي المتعلقة بالبنية)(12) الأورام.
وقد ذكر في الكلام على السيلان والزهري ما يجب أن ينعم النظر فيه الشبان
المصريون الذين اعتادوا الفواحش غير مبالين بأرواحهم ولا بأجسادهم ولا ببلادهم
وأمتهم، وقال في الإدمان على السكر الذي فشا فيهم ما نصه:
(الإدمان على السكر أو التسمم الغولي هو نتيجة الاستمرار على شرب
الخمور سواء كان متتابعًا أو متقاطعًا، وليس هو التأثير الوقتي الناتج عن شرب
كمية عظيمة منها في آن واحد المعبر عنه بالسكر الذي تزول أعراضه بمجرد
توزيع المشروب في البنية.
وللإدمان على السكر تأثير واضح في الشخص وفي سلالته؛ فأما تأثيره على
الشخص فمعلوم للمدمنين عليه وغيرهم ، وأما تأثيره على النسل فإن الشخص
المتسمم به ينتقل سمه وعلله إلى ذريته من بعده فهو خطر عليه وعلى عائلته
وذريته معًا، وعلى الأمة والنوع الإنساني بالتالي.
ولقد عرف بالبحث أن الغول (الكئول) يسكن في أعماق العناصر التشريحية
للجسم ، وعلى الخصوص في الخلايا العصبية التي تضطرب إذ ذاك تغذيتها
ووظائفها، ويأخذ هذا الاضطراب والاستحالة في وظائف الخلايا في الانتشار
بطريق التلقيح؛ وإذا كان الغول يندي أخلاط الجسم وأنسجته ، وبينها الخصية
والمبيضين ، فلا غرابة بعد ذلك أن تكون الحيوانات المنوية والبويضات نفسها قد
غشيها من الفساد ما غشيها، أو تكون ذرية المدمنين قد أصيبت بالسقوط العصبي
الذي يدل عليه سرعة التهيج والتشنجات العصبية التي تحدث في سن الصغر
والصرع والبله، وضعف القوى العصبية العضلية التي تحدث في سن الشيخوخة.
ومما يزيد الإدمان على السكر خطرًا أنه بعد أن يقرع الشخص يتبعه في نسله
وذريته ، ومن يولد من أبوين مدمنين وليس هو بمدمن ، فإنه يحمل آثار الضعف
البنوي، ويكون عرضة للإصابات باضطرابات قد تنتهي بالعته أو الشلل أو العقم ،
وقد أثبت بالتجارب هذه الوراثة كل من توميف ومارسيه وكرونر ولازيج
وديجيرين وجرنيه وفورنيه ولانسروه وفيريه وكثيرون غيرهم.
وبما أن تأثير الخمور يكون بالأخص على المجموع العصبي، فأولاد المدمنين
عليها يكونون في الغالب عصبيين، فيصابون إما بآفات كبيرة في المراكز العصبية،
وإما باضطرابات في الوظائف العصبية فقط، وكذلك يصابون بعلل وراثية شاذة
شبيهة بالعلل الوراثية الزهرية أو الدرنية العديمة القياس كالعلل الناشئة عن فساد
التغذية (الديستروفيات) ووقوف النمو وغرابه الخلقة.
وللوراثة هنا كذلك تأثير قاتل على الجنين وعلى الطفل بعد ولادته حتى إنه قد
تلاشت بذلك عائلات بأجمعها في عقبين أو ثلاثة أعقاب. وزيادة على ما تقدم من
العلل قد تصاب ذرية المدمنين بتشوهات مضاعفة كعدم تساوي وتماثل الجمجمة أو
صغرها أو استسقاء الدماغ أو قصر القامة أو بتأخير أو انحراف في نمو القوى
العقلية كضعف الذاكرة والعبط والبله ، أو تحفظ الحالة الصبيانية ، أو أن تكون
سريعة التهيج والغضب ، وكثيرًا ما تصاب كذلك بالهيستريا وما يتبعها من العلل
الحاسية والنفسانية كخلل التوازن في القوى العقلية ، وعدم الاكتراث وضعف
الإرادة وشدة الانفعال ، وتارة بحسن الأخلاق أو فسادها [1] .
فيعلم من ذلك ومن كثرة التجارب التي عملت أن وراثة الإدمان على السكر
هي حقيقية لاريب فيها، وعلى ذلك يجب منع زواج المدمنين على السكر في حالة
الخوف من رجوع الداء إذا لم يمتنع صاحبه عن الاستمرار فيه ، وكذلك متى كانت
النتائج الناجمة عنه ذات خطر) اهـ وثمن الكتاب عشرون قرشًا فنحث كل قارئ
على مطالعته.
(قصة الأخ الغادر وما يتبعها)
لقد أحسن صاحب (مسامرات الشعب) في اختيار قصصها هذه الكَرة ما لم
يحسنه من قبل؛ إذ اهتدى إلى قصص متعددة في الصورة متحدة في الحقيقة ، فيها
روح من الأدب والفضيلة؛ أولها: قصة الأخ الغادر، والثانية: قصة (لو تعارفوا
ما تآلفوا) والثالثة: قصة (الأمريكية الحسناء) والرابعة: قصة (برح الخفاء) ،
وقد صدرت الثلاث الأول، وموضوعها: نبيل فاضل من الفرنسيس عشق فتاة
مهذبة خياطة زكية الطينة، فتحبب إليها بالمجاملة وحسن المعاملة ، فأحبته على
تنكره وجهلها به، فخطبها إلى جدتها الكافلة لها فرضيتا به ، فأودعها حملاً قبل
تسجيل عقد الزوجة ، فانقطع عنها ، فظنت هي وجدتها أنه خانها وهجرها ، فاشتد
حزنها ، وما كان هجره لهما بل للحياة الدنيا ، فإنه كان يلاعب صديقًا له بالسيف ،
فسبقت إليه ضربة ففقأت عينه وفاضت روحه ، وكان حدث صديقه القاتل بفاتحة
حديثه مع الفتاة، وبما عهد إلى المسجل من تسجيل عقد الزوجية ، وإرجائه
الإفصاح باسم الفتاه له وللمسجل ، فترك المسجل في ورقة العقد بياضًا ليكتب فيه
الاسم.
هذه فاتحة القصة أو القصص ، وهى ليست بشيء ، والحديث المفيد يبتدئ
بعدها عندما أراد الصديق القاتل والمسجل البحث عن الزوجة المستودعة وإرث
بيت ذلك النبيل ولقبه (مركيز) وكان له أخ خليع فاسد الأخلاق ، وهو الأخ
الغادر ، وحال دون ذلك ليكون هو وارث أخيه ، فاستولى على أوراقه وأحرق منها
كل ما له تعلق بتلك المرأة، وعرف مكانها فخادعها حتى أخرجها من باريس إلى
الريف ليخفيها عن الصديق والمسجل ، وذلك مفصل في القصة الأولى.
وترى في الثانية شابين التقيا وتحابا في حرب فرنسا لتونكين وهما ابن
المركيز المقتول الذي لا يعرف له أبًا ، وابن المركيز الوارث بالباطل تحت قيادة
الضابط القاتل، وعودتهما إلى باريس معه وكانت والدة اليتيم قد أثرت، ووالد
الآخر قد أعدم حتى أشرف على بيع دارهم القديمة للدائنين. تلك أثرت بالعمل مع
الفضيلة والاستقامة، وذاك أملق بالمقامرة وسوء السيرة، ثم علم الأخ الغادر بأن
صديق ابنه هو ابن عمه، فحاول الإيقاع بينهما بعدما أحب ابن أخيه ابنته وأحبته ،
ورجوا أن يكونا زوجين، فكلف أبوها الخاطب بأن يتعرف بنسبه تعجيزًا له. وكان
الضابط بعد عودته عاود السعي في معرفة زوج صديقه المقتول ، وكان وعد والدته
بذلك ، فظهرت له بوادر النجاح ، وكل هذا من مباحث القصة الثانية.
وأما الثالثة فموضوعها أن غانية أمريكية جاءت مع والدتها إلى باريس وبنت
لها فيها قصرًا مشيدًا، وأظهرت من دلائل البذخ والترف ما ألفتَ إليها أعناق شبان
باريس ، وكانت من أصل وضيع، وقد جاءت تحتال بذلك على اصطياد زوج من
النبلاء ، فأتقنت الحيلة ، وكاد ابن المركيز أن يقع في فخها.
وفي القصص الثلاث من تقبيح الخلال الفاسدة والأخلاق القبيحة، والتنفير من
القمار ، والترغيب في الفضائل لاسيما الوفاء وحسن الإخاء والشجاعة وكرم
الأصل - ما فيه عبرة للقارئ ، ولذلك أطلنا من الكلام عليها ، وستكون القصة الرابعة
كاشفة للغطاء أو مبينة للانتهاء، ولذلك سميت (برح الخفاء)
_________
(1)
ومن التجارب التي عملت بمناسبة ذلك أن جيء بكلبة تسممت بالغول ، ثم أطلق عليها كلب سليم فولدت منه 12 كلبًا مات جميعها في ظرف 67 يومًا ، وكان سبب وفاتها آفات في الخلايا سببها الاستحالة الغولية اهـ، من هامش الأصل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
الناسخ والمنسوخ في القرآن
(س 78) السيد أحمد منصور الباز في (طوخ القراموص) : ثبت أن في
القرآن ناسخًَا ومنسوخًا ، وأن من المنسوخ ما نسخ حكمه وبقي رسمه، ومنه
العكس كقوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة نكالاً من الله) قد ثبت في
الصحيح أن هذا كان قرآنًا يتلى. ومما نسخ حكمه وبقي رسمه ، ولا يعلم له
ناسخ كما في الصحيح: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا) إلخ،
فهل من حكمة ترشدنا إليها بمناركم وضاح السبل في إبقاء رسم الناسخ مع بقاء
حكمه، وفي نسخ لفظ مع بقاء حكمه ، وعدم وجود ناسخ له.
(ج) قد تقدم في التفسير المنشور في هذا الجزء أهم أحكام النسخ وحكمته ،
ومنها: الإشارة إلى أن حكمة بقاء الآية التي نسخ حكمها التذكير بنعمة النسخ ،
والتعبد بتلاوتها، أما نسخ لفظ الآية مع بقاء حكمها ، أو نسخ لفظها وحكمها معًا
فمما لا يجب علينا اعتقاده وإن قال به القائلون ورواه الراوون، وقد علله القائلون
به والتمسوا له من الحكمة ما هو أضعف من القول به، وأبعد عن المعقول.
واعلم أن القرآن كلام الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو
أصل الدين وأساسه، أحكمت آياته ، فلا تفاوت فيها ولا اختلاف ولا تناقض ولا
تعارض ، وما ذكروه من الجمل التي قالوا: إنها كانت من القرآن ونسخ لفظها لا
تضاهي أسلوب القرآن ولا تحاكيه في بلاغته ، والتصديق بذلك مدعاة لتشكيك
الملحدين في القرآن.
وقد ثبت أن بعض الزنادقة كانوا في زمن الرواية وتلقي الحديث من الرجال
يلبسون لباس الصالحين ويضعون الحديث، وكان يروج على الناس لاستيفائهم
شروط الرواة الظاهرة من العدالة وحسن الحفظ وغير ذلك، حتى إن بعضهم تاب
ورجع عما كان وضعه ولولا اعترافه به لم يعرف، فما يدرينا أن بعضهم مات ولم
يتب ولم تعرف حقيقة حاله، وبقي ما وضعه رائجًا مقبولاً لم يطعن في سنده أهل
النقد. لأجل هذا لا يعتمد على الحديث إلا إذا كان مع صحة سنده موافقًا لأصول
الدين الثابتة بالقطع، ولغير ذلك من الحقائق القطعية ككون الشمس لا تغيب عن
الأرض كلها عندما تغيب عنا كل يوم، وإنما تغيب عنا وتشرق على غيرنا، إلا إذا
أمكن الجمع، ولا يؤخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة السند في العقائد لأنها ظنية باتفاق
العلماء والعقلاء والله تعالى يقول: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم:
28) ومثلها آيات في التشنيع على الكافرين باتباع الظن.
وإذا كان القرآن لا يثبت إلا بالتواتر المفيد للقطع، وكان كون الآية منسوخة
فرع كونها آية، كان لنا بل علينا أن لا نصدق بأن كون هذا القول آية منسوخة إلا
إذا روي ذلك بالتواتر من أول الإسلام كما روي القرآن.
وليس فيما زعموا أنه قرآن نسخت تلاوته شيء متواتر. وهذا الذي رووه من
حديث: (الشيخ والشيخة إذا زنيا) مروي عن أبيّ بن كعب وروي أيضًا من
حديث أبي أمامة عن خالته العجماء وعن عمر رضي الله عنه ، وليس هذا من
التواتر في شيء، وكذلك الأثر الذي فيه:(لو كان لابن آدم واد لابتغى إليه ثانيًا)
…
إلخ، وفي رواية:(لو كان لابن آدم واديان)
…
إلخ، فهو موقوف على
أبيّ، فإن سلمنا أن السند إليه صحيح فأين التواتر الذي لا يكون إلا برواية جمع
يؤمن تواطؤهم على الكذب؟
وجملة القول أنه لم يرو في هذا المقام حديث صحيح السند إلا قول عمر في
الشيخ والشيخة إذا زنيا، وهو من رواية الآحاد، ولذلك خالف الخوارج وبعض
المعتزلة في الرجم ولم يكفرهم أحد بذلك. وأنا لا أعتقد صحته، وإن روي في
الصحيحين، فمن أنكر عليّ من المقلدين ذلك فليكتب إليّ لأسرد له عشرات من
أحاديث الصحيحين لم يأخذ بها أئمته، وفقهاء مذهبه وسائر المذاهب الذين لا ينكر
على أحد منهم شيئًا، وحجتي واضحة وهو أن المقام مقام إثبات القرآن ، وطريق
إثباته التواتر بالإجماع ، فلو تواترت الرواية عن عمر أو غيره وأجمع عليها؛
لقلت بأن عمر قال ذلك، والأحاديث الصحيحة الصريحة المسندة المرفوعة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم التي خالفها الفقهاء كثيرة وهي في الأعمال التي يجب
أخذها من أحاديث الآحاد بالإجماع ، وعدم اعتقاد صحة هذا الحديث لا يترتب عليه
ترك مشروع ، ولا إثبات خلافه ، فلا ضرر فيه، وإنما الضر في ترك ما تركوه ،
ولعلك تقول: ما هو جواب مثبتي هذا الضرب من النسخ ، فأقول: قال السيوطي
في الإتقان ما نصه:
(الضرب الثالث نسخ تلاوته دون حكمه ، وقد أورد بعضهم فيه سؤالاً وهو:
ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل
بحكمها وثواب تلاوتها؟ وأجاب صاحب الفنون بأن ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه
الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق
مقطوع به ، فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام ، والمنام
أدنى طريق الوحي) اهـ، وهو كما ترى لا قيمة له فإن الوحي للأنبياء كله قطعي،
وبذل النفوس هنا لا معنى له. والأحكام التي رويت لنا عن الآحاد فأفادت الظن
كانت يقينية عند الذين سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا كانوا سمعوا
الآية من النبي، ثم فرضنا أنه أمرهم بتركها وعدم قراءتها مع بقاء العمل بها، أفلا
يقال ما هي حكمة ذلك بالنسبة إليهم وإلى من بعدهم.
* * *
مذهب العامي واتباعه الرخص
(س79) ومنه: يقال: العامي لا مذهب له، فهل يجوز له أن يقلد كل
مذهب في رخصه ولو بسبب عذر ضعيف.
(ج) قولهم: العامي لا مذهب له، صحيح لا نزاع فيه ، فإن ذا المذهب هو
من له طريق في معرفة الأحكام بدلائلها، والواجب على العامي أن يسأل أهل الذكر
أي العارفين بالكتاب والسنة عن كل مسألة تعرض له قائلاً: ما هو حكم الله تعالى
في هذه المسألة ، فما أخبروه به عن الله وعن رسوله وجب عليه الأخذ به، إذا
اعتقد أن المسئول ثقة عارف ، ولا يجوز له أن يتبع رأي أحد يخالف ذلك ، فإذا
بلغه عن الشارع في أمر عزيمة ورخصة فله أن يعمل بالرخصة عند الحاجة
ويجعل العزيمة هي الأصل. ومن يسأل عن رخص المذاهب وآراء العلماء ويتبع
أسهلها عليه وأقربها من هواه فهو متلاعب بدينه.
* * *
الوصية المنامية المنسوبة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
(س 80) أرسل إلينا السيد صالح السرجاني بمصر صورة هذه الوصية
وسألنا بيان رأينا لقراء المنار وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، قال الشيخ أحمد خادم
الحجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام: رأيت النبي صلى الله عليه
وسلم في المنام في ليلة الجمعة وهو يقرأ القرآن العظيم ، فقال لي: يا شيخ أحمد ،
المؤمنين حالهم تعبان من شدة معصيتهم ، فإني سمعت الملائكة وهم يقولون: تركوا
ذكر الله سبحانه وتعالى ، فأراد ربك أن يغضب عليهم ، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: يا رب ارحم أمتي فإنك أنت الغفور الرحيم، وأنا أعلمهم بذلك يتوبوا ، وإن
لم يتوبوا الأمر إليك ، وهم قد ارتكبوا المعاصي والكبائر ، وتركوا الدعاء ، واتبعوا
الزنا ، ونقصوا الكيل ، وشربوا الخمور ، واشتغلوا بالغيبة والنميمة ، واحتقروا
الفقير والمسكين ولا يعطوا الفقير حقه ، وتركوا الصلاة ، ومنعوا الزكاة. فأخبرهم
يا شيخ أحمد بذلك ، وقول لهم: لا تتركون الصلاة ، وأتوا الزكاة ، وإذا مر
عليكم تارك الصلاة لا تسلموا عليه ، وإذا مات لا تمشوا في جنازته ، وانتبهوا
واستيقظوا ، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وقل لهم: الساعة قد قربت
ولا يبقى من الدنيا إلا القليل ، وتظهر الشمس من مغربها ، فأرسلت إليهم وصية
بعد وصية فلم يزدادوا إلا طغيانًا وكفرًا ونفاقًا، وهذه آخر وصية. فقال الشيخ أحمد:
قد استيقظت من منامي فوجدت الوصية مكتوبة بجانب الحجرة النبوية بخط
أخضر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قرأها ولم ينقلها كنت خصمه يوم
القيامة ، ومن قرأها ونقلها من بلد إلى بلد كنت شفيعه يوم القيامة. فقال الشيخ أحمد:
والله العظيم قسمًا بالله ثلاثًا إن كنت كاذبًا فأخرج من الدنيا على غير الإسلام ،
181) ومن شك في ذلك فقد كفر ، وعليكم بتقوى الله تنجوا من المهالك ، وصلى
الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تمت بالتمام والكمال ، والحمد لله
على كل حال ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم) اهـ بنصها
المطبوع المنشور.
(المنار)
إننا نتذكر أننا رأينا مثل هذه الوصية منذ كنا نتعلم الخط والتهجي إلى الآن
مرارًا كثيرة ، وكلها معزوة كهذه إلى رجل اسمه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية.
والوصية مكذوبة قطعًا لا يختلف في ذلك أحد شم رائحة العلم والدين، وإنما يصدقها
البلداء من العوام الأميين، ولا شك أن الواضع لها من العوام الذين لم يتعلموا اللغة
العربية، ولذلك وضعها بعبارة عامية سخيفة لا حاجة إلى بيان أغلاطها بالتفصيل.
فهذا الأحمق المفتري ينسب هذا الكلام السخيف إلى أفصح الفصحاء وأبلغ
البلغاء صلى الله عليه وآله وسلم ، وزعم أنه وجده بجانب الحجرة النبوية مكتوبًا
بخط أخضر ، يريد أن النبي الأمي هو الذي كتبه ، ثم يتجرأ بعد هذا على تكفير
من أنكره. فهذه المعصية هي أعظم من جميع المعاصي التي يقول: (إنها فشت
في الأمة) وهي الكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام ، وتكفير علماء أمته
والعارفين بدينه ، فإن كل واحد منهم يكذب واضع هذه الوصية بها، وقد قال
المحدثون: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من
النار) قد نقل بالتواتر ، ولا شك أن واضع هذه الوصية متعمد لكذبها، ولا ندري
أهناك رجل يسمى الشيخ أحمد أم لا؟
أما تهاون المسلمين في دينهم وتركهم الفرائض والسنن، وانهماكهم في
المعاصي فهو مشاهَد ، وآثار ذلك فيهم مشاهَدة ، فقد صاروا وراء جميع الأمم بعد
أن كانوا بدينهم فوق جميع الأمم {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ} (فصلت: 16) إلا أن يتوبوا ، ولا حاجة لمن يريد نصيحتهم بالكذب على الرسول ،
ووضع الرؤى التي لا يجب على من رآها أن يعتمد عليها شرعًا، بل لا يجوز له
ذلك إلا إذا كان ما رآه موافقًا للشرع. فالكتاب والسنة الثابتة بين أيدنا وهما مملوآن
بالعظات والعبر. والآيات والنذر.
* * *
كيفية فرض الصلاة والمراجعة فيه
(س81) عوض أفندي محمد الكفراوي في (زفتى) : أحقيقة ما يقال أو
يروى من أن الصلاة كانت أول ما فرضت خمسين صلاة، وأن النبي صلى الله
عليه وسلم راجع فيها ربه بإرشاد موسى عليه السلام حتى جعلها الله خمسًا في
الفعل وخمسين في الأجر؟ أفيدونا ولكم الأجر من الله ولا زال مناركم هاديًا
للمسلمين.
(ج) إن ما ذكر مروي في حديث المعراج، وقد اختلف فيه المسلمون على
صحة سنده، المثبتون له وهم الجمهور قد اختلفوا في كونه وقع يقظة أم منامًا ،
واستدل القائلون بأنه منام برواية شُريك عند البخاري إذ يقول النبي صلى الله عليه
وسلم في آخرها: (ثم استيقظت) وفي رواية له رأى ما رأى وهو بين النائم
واليقظان. ومسألة المراجعة على كل حال من المتشابهات، أو من الشئون الغيبية
الروحية، وقالوا: إن من حكمتها تكرار المناجاة وما يتبعها من منة التخفيف،
والله أعلم.
* * *
صحة الرؤى والأحلام
(س82) ومنه: هل من سند صحيح للاعتقاد بصحة الرؤى والأحلام؟ فقد
فشت بين عامة المسلمين.
(ج) إنما يُحتاج إلى صحة السند في إثبات الأخبار المنقولة عن الآحاد ،
ولا حاجة إلى ذلك هنا؛ فإن صدق الرؤيا واقع بالتجربة وثابت بالكتاب، ولكن
ما يصدق منها قليل جدًّا، ولا يقع إلا للأقل من الناس ، وهو لا يُعلم إلا بعد ظهور
تأويله بالفعل ، كما وقع لمن رأى في شهر يوليو سنة 1903 تلك الرؤيا للشيخ علي
يوسف ، وكتب بها إليه ، وكان في باريس ، وهي أنه تزوج فكان لزواجه نبأ ولغط ،
وحكم القاضي ببطلان العقد ، وطفق الشيخ علي يسعى ويتخذ الوسائل لدى الحكومة
وبعض النظار. وقد أجاب الشيخ علي يوسف صاحب الرؤيا بكتاب من باريس
يذكر فيه تأويلاً لها يصرفها عن ظاهرها، ولكنها وقعت بعد سنة كما رآها الرائي ،
وكتابه محفوظ عند الشيخ علي ، وكتاب الشيخ علي في تأويلها محفوظ عنده.
وقد قال الصوفية: إن الرؤيا الصالحة تسرّ ولا تغرّ ، فلا يجوز لأحد الاعتماد
عليها والثقة بها، وقال أهل الشرع: إن الرؤيا لا تعتبر شرعًا في إثبات الأحكام أو
نفيها. فلا يجوز لمن سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام شيئًا أن
يعتد به على أنه من الدين، وذلك لعدم الثقة بضبط الرائي وحفظه لما رأى، ولأن
الشريعة قد كملت في حياته صلى الله عليه وسلم ، فلا تحتاج إلى زيادة كما قال
تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3)
* * *
كتاب إصابة السهام والعادات المتبعة في الجمعة
(س 83) السيد محمد البسيوني بكفر الباجور:
إني كنت بمجلس يحتوي أناسًا من أهل العلم، وكنا نقرأ في كتب دينية منها
(كتاب إصابة السهام فؤاد من حاد عن سنة خير الأنام) تأليف حضرة الأستاذ
الفاضل الشيخ محمود محمد أحمد خطاب السبكي أحد علماء الأزهر الشريف حالاً ،
وهذا الكتاب يحتوي على أحكام دينية ، ومبطل لبعض العادات الموجودة بالمساجد
مثل قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة بصوت عالٍ، والترقي فيه بين يدي
الخطيب، واللغط في الجنائز، فرأينا بعض سادتنا العلماء يعترضون على المؤلف،
وقد ألفت كتب ضد الكتاب المذكور حتى صار الآن بعض البلاد بمركزنا ، وهو
مركز منوف (المنوفية) ينقسم إلى قسمين: أحدهما تبع خطة الشيخ محمود خطاب
المذكور، والآخر غير موافق له حتى يئول الأمر أحيانًا إلى نزاع رسمي بين
الفريقين، وحيث إننا لم نعرف المصيب من المخطئ ، فقد حررنا هذا راجين من
حضرتكم أن تفيدونا بمجلتكم العلمية حتى نهتدي إلى الصواب ، ولحضرتكم الفضل.
(ج) إن الشيخ محمود خطاب قد أهدى إلينا كتابه المذكور في السؤال ،
وقرظناه في الجزء الأول من مجلد المنار السادس، ونقلنا عنه ما ذكره في بدع
الجمعة ، وكان الشيخ محمد بخيت ألف رسالة في ذلك قرظناها في الجزء الرابع
والعشرين من المجلد الخامس، وفي الأول والرابع من الأمور المشروعة في يوم
الجمعة كمؤلف الرسالة، فالسبكي هو المصيب ، وقراءة مؤلفاته نافعة إن شاء الله
تعالى، وإذا أردت زيادة الإيضاح فارجع إلى الأجزاء التي ذكرناها.
* * *
وجوب الختان أو سنته
(س 84) من الشيخ مصطفى الحنبلي في (حلوان) : حصل بيننا وبين
بعض النبهاء خلاف في مسألة فقهية دينية موجودة في كتب الفقه وهي (الختان
واجب على الذكر والأنثى) وردت هذه القاعدة الفقهية في شرح الدليل وشرح الزاد
للإمام أحمد بن حنبل ، وعليكم بعد ذلك بكتاب المنتهى للإمام أحمد أيضًا ، فأفتونا
ودام فضلكم.
(ج) إننا نطبع في هذه الأيام كتاب (المقنع) في الفقه الحنبلي ، وهو من
المتون المعتمدة وعليه حاشية جليلة، وفيها عند قول المتن: (ويجب الختان ما لم
يخفه على نفسه) ما نصه (وهو شامل للذكر والأنثى ، وعنه: لا يجب على النساء ،
وصححها بعضهم وعنه: ويستحب) اهـ المقصود ، ومنه يعلم أن في المسألة روايات أشهرها الوجوب ، وهو مذهب الشافعي ، والرجال والنساء فيه سواء.
والمشهور أنه سنة. قال النووي: وعليه أكثر العلماء ، ومنهم الحنفية والمالكية ، وقد
جرى عليه العمل، ولكن لا يوجد حديث يحتج به في الأمر به فحديث: (ألق
عنك شعر الكفر واختتن) عند أحمد وأبي داود والطبراني وابن عدي والبيهقي قال
الحافظ ابن حجر: فيه انقطاع وعثيم وأبوه كليب (راوياه) مجهولان. وقال ابن
المنذر: ليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سنة تتبع. واحتج القائلون بأنه سنة
بحديث أسامة عند أحمد والبيهقي: (الختان سنة في الرجال مكرمة في النساء)
وراويه الحجاج بن أرطاة مدلس. والذي لا نزاع فيه هو ما قلناه من أنه سنة عملية
كان في العرب وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، وعده من خصال الفطرة وهو من
ذرائع النظافة والسلامة من بعض الأمراض الخطرة.
* * *
نقض الوضوء بمس الذكر
(س 85) السيد محمد بن عبد الله بن محمد البار الحسيني في (عدن) :
نروم من حضرتكم الإعراب عما ترونه في الحديثين الواردين في انتقاض
الوضوء وعدمه؛ حديث: (من مس ذكره فليتوضأ) وحديث: (هل هو إلا
بضعة منك) هل الحديثان صحيحان؟ وهل بينهما تعارض؟ وما الذي بان لكم
الحق فيه، وما الذي يجب أن نعمل به؟
(ج) الحديث الأول فيه روايات ، أصحها وأشهرها حديث بسرة مرفوعًا (من
مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ) رواه مالك والشافعي وأحمد وأصحاب السنن
الأربعة وغيرهم ، وصححه غير واحد منهم ، وقد احتج البخاري ومسلم بجميع
رجال سنده، ولم يخرجاه في صحيحيهما لاختلاف وقع في سماع عروة من بسرة
قال البخاري: إن مروان حدث به عروة ، فاستراب ، فأرسل مروان رجلاً من
حرسه إلى بسرة فعاد إليه بإثبات الخبر عنها، ومروان مطعون في عدالته وحرسيه
مجهول، ولكن ثبت عن غير واحد من الأئمة أن عروة سمع من بُسرة بعد ذلك كما
في صحيح ابن خزيمة وابن حبان قال عروة: فذهبت إلى بُسرة فسألتها فصدقته.
قال في المنتقى: وقال البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب، ووردت أحاديث
أخرى بمعناه.
وأما حديث: (هل هو إلا بضعة منك) فقد رواه أحمد وأصحاب السنن
والدارقطني من حديث طلق بن علي بلفظ: (الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ قال
صلى الله عليه وسلم: هل هو إلا بضعة منك) صححه عمرو بن الفلاس ورجحه
على حديث بسرة هو وعلي بن المديني والطحاوي وصححه أيضًا ابن حبان
والطبراني وابن حزم ، ولكن ضعفه الشافعي وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني
والبيهقي وابن الجوزي ، وقال قوم: إنه منسوخ. منهم ابن حبان والطبراني وابن
العربي والحازمي لتأخر إسلام بسرة على إسلام طلق، ولما كان عليه الناس من
العمل بحديث بُسرة لأنها حدثت به في دار المهاجرين والأنصار ، ولأن من
شواهد حديث بسرة ما رواه طلق نفسه وصححه الطبراني عنه بلفظ: (من مس
فرجه فليتوضأ) .
وجملة القول أن حديث بسرة أصح سندًا لأن رجاله رجال الصحيحين،
وحديث طلق لم يحتج الشيخان برجال سنده، وهو من رواية ابنه قيس عنه ، وقال
الشافعي: سألنا عن قيس بن طلق لم نجد من يعرفه، وقال أبو حاتم وأبو زرعة:
إنه ممن لا تقوم به حجة. فالأول أصح سندًا ، ومن رأى عند المصححين لحديث
طلق ما ينفي ما طعنوا به على سنده ولم يثبت عنده النسخ ، فله أن يحمله على
الرخصة كما قال الشعراني في ميزانه ، ويحمل حديث بسرة على العزيمة. أما
ترجيح حديث طلق على حديث بسرة فلا وجه له ألبتة، والله أعلم.
(س86) ومنه: ثم نروم الإفادة عما كان صلى الله عليه وسلم يلبسه من
الثياب في غالب أوقاته ، وعما حَثَّ على لبسه صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه،
وهل تتبُّع الثياب الفاخرة محمود أو مذموم؟ لا زلتم ممن أحيا السنة وأمات
البدعة.
(ج) كان صلى الله عليه وآله وسلم يلبس في غالب أوقاته لباس قومه من
الإزار والرداء ، ولبس أيضًا من لباس الروم والفرس، وحث على لبس الثياب
البيض، وكان أحب الثياب إليه أن يلبسها الحِبَرَة كما في حديث أنس عند الشيخين
وغيرهم، وهي كـ (عنبة) برد يماني من القطن أو الكتان سمي بذلك لأنه محبر -
أي مزين - بالخطوط والألوان، وكان من أحبها إليه كذلك القميص ، كما في حديث
أم سلمة عند أحمد وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه، وكان يعتَمُّ ويسدل عمامته.
ولم يتسرول ولكنه قال: (ائتزروا وتسرولوا) ونهى عن لبس الحرير المصمت
إلا لحاجة كمرض، وعن المنسوج بالذهب - وتقدم تفصيل ذلك في المنار - وعن
لباس الشهرة، وعن جرّ الثوب خيلاء، وقالوا: إن المراد بثوب الشهرة ما يخالف
به اللابسُ الناس ليرفعوا إليه أبصارهم فيتيه عليهم ويفتخر بلبوسه، وهذا من
السخف والصغار فإن عالي الهمة لا يفتخر بثيابه. ولم ينه عن اللبوس الفاخر مع
حسن القصد، بل لبس ثيابًا غالية الثمن. وفي حديث ابن مسعود عند أحمد ومسلم
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه
مثقال ذرة من كبر) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا؛ فقال صلى
الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) أي
احتقارهم. وجملة القول: إن اللبس من الأمور العادية ، والدين لا يذم لباسًا، إلا
إذا كان في لبسه ضرر في الأخلاق أو غيرها كالإسراف.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نابتة العصر ومستقبل مصر
أو التربية الحديثة
إن للألفاظ دولاً كدول الأشخاص يعز بعضها في زمن ويذل في زمن آخر،
إذ تدول العزة إلى غيره، وإن لفظ التربية الحديثة لهو في هذا العصر أقوى الألفاظ
دولة وأعز نفرًا، حتى يوشك أن يكون له الظهور والاستعلاء على لفظ (بيك)
ولفظ (باشا) الذي طفق يتدحرج من قنة عزه بابتذال الرتب التي يقرن بها؛ إذ
صارت تباع بالدراهم والعروض، وصار سماسرة البيع يتباخسون ويتناجشون فيها،
ويبيع بعضهم على بيع بعض بالوكس والثمن البخس، حتى تَرفَّعَ الوضيع
وتبرم الرفيع، وأما لفظ التربية وما اشتق منه كالمربي والمتربي فلم يسحل مريره،
ولم يهن نصيره، ولم يخرج عن نصابه، ولم يعدُ سن شبابه.
فإذا كان لفظ (بيك) أو (باشا) قد احترم ولا يزال يحترم لأنه عنوان الجاه
والثروة والقرب من رجال الدولة، فإن لفظ (المتربي) يحترم أشد الاحترام؛ لأنه
عنوان العلم والأدب والسياسة والكياسة، وصاحبه موضع الأمل والرجاء بخدمة
الأمة، والارتقاء بالوطن إلى القمة، والمستحق لأعمال الحكومة، والقادر على
القيام بالمشروعات العظيمة، ويقولون: إن أكثر الذين تحلوا بالرتب التي تقرن
بذلك اللقب، قد تدلوا بغرور ولبسوا ثوبي زور؛ أن رتبهم من المواضعات
الرسمية التي تنحط بسوء حال الحكومة والمعية (المعية في العُرف حاشية الأمير
الحاكم) ولقب المتربي من اصطلاح أهل العلم ومواضعة أهل الذكاء والفهم،
فهم يطلقونه على صاحبه بحق، ويجرون فيه على عرق، وإني لا أنكر قولهم
الأول، ولا أعترف بإطلاق القول الثاني، فإنه إن صح أنهم لا يطلقون كلمة متربٍّ
على غير من أخذ بسهم من الفنون الحديثة على الطريقة الأوربية، واصطبغ بشيء
من ألوان المعيشة الإفرنجية، فلن يصح أن من كان له هذا السهم، فهو مثال
الفضيلة والعلم، والقادر على النهوض بالأمة والبلاد إلى ذرى السيادة والإسعاد،
وإليك البيان:
ترى جرائد الدهان تملأ ماضغيها فخرًا بأن محمد علي باشا وخلفه هم الذين
أسعدوا البلاد المصرية بإدخال هذه التربية الحديثة فيها ، فأحيوها بها بعد موتها،
ولكن ما بال هذه الحياة التي نفخ روحها في الأمة منذ قرن كامل لم تصدر عنها آثار
الإحياء في الأخلاق الفاضلة والأعمال النافعة، ونظام البيوت ووحدة الأمة،
واستقلال الحكومة ومنعتها الواقية من التحيز إلى الأجنبي والاستنصار به
والاستذلال له وتمكينه من ناصيتها، ألم ترتقِ أمة اليابان بعد الأخذ بعلوم أوربا
بخمس وعشرين؟ فما بال الأمة المصرية لم ترتق بعد مائة من السنين.
إذا كان ترقي الأمة هو استقلالها ونهوضها بأحكامها وأعمالها، وكان أمراء
مصر قد نهضوا بأهلها وجذبوهم إلى الرقي والكمال، فما بال الأمير عند أول نبأة
من الأمة في طلب الاستقلال ومشاركة الشراكسة في الأعمال، قد استغاث بدولة
إنكلترا لتنقذه من الأمة، وتؤيد سلطته عليها، وتمكن له في أرضها، وقد كان من
أمرها في تمكين هذه السلطة أن أخذت من الشراكسة والترك أكثر مما كان
المصريون يطلبونه لأنفسهم، بل استولت على كل شيء، حتى لا يبرم بغير يديها
شيء.
احتلت إنكلترا أرض النيل فقيدت الحكومة وأطلقت الأهالي، وكان من هذا
الإطلاق حرية للمطبوعات كثرت بها الجرائد، وكثر اللغط في السياسة، والسياسة
هي الفتنة الكبرى للناس فتن بها المصريون حتى شغلهم عن الانتفاع بالحرية التي
منحوها، واغتر بفتنتهم كثير من الناس ، فظنوا أن وراء ثرثرة الجرائد المصرية
وتبجحها بذم الإنكليز ومعارضتهم حياة طيبة واستقلالا كاملاً هاجمته القوة ، فأنشأ
يواثبها ويناصبها، ولا يلبث أن يغلبها. ولم تلبث الحرب أن فثأت وانجلى الغبار
عن أفراد استنفرتهم المنفعة الشخصية فنفروا، واستفزهم طلب الجاه ففزوا وطفروا.
وقد سكنت الآن الزعازع وسكت المنازع، وأقصى ما كان من تأثير هذه
السياسة أن غرت الأمة بغيرها، ولم تحاول أن تغرها بنفسها، ودعتها إلى حياة
سياسية ولم تدعها إلى حياة اجتماعية، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولا ينضح الإناء
إلا بما فيه.
نعم، إن المصرين لم يغتروا بأنفسهم ، فإننا منذ جئنا هذه البلاد نسمع من
شكوى خاصتهم وعامتهم ما يدل على عدم ثقتهم بأنفسهم، وعدم رضاهم عن حالهم
في التعليم والتربية والعمل والاقتصاد وكل مقومات الحياة. ووجدنا الشعوب التي
مازجتهم تشكو من أخلاقهم، وحالهم أشد مما يشكون، وكنا نظن أن الجميع مبالغون
فيما يقولون، لأن رجائنا في مصر والمصريين كان عظيمًا، وقد ضعف الآن
ولكنه لم يذهب بالمرة، وإنا لنعلم أن كل المسلمين البعداء عن مصر يرجون من
المصريين ما لا يرجوه المصريون لأنفسهم من أنفسهم. ولا يغرنك ما يتشدق به
ويتفيهق بعض الأحداث الذين اتخذوا المدح حرفة يكتسبون بها المال، وقليل ما هم.
وانظر ما قالته جريدة المؤيد في هذا الشهر وفاقًا لجريدة الإجبشيان غازيت
الإنكليزية المصرية في مستقبل المصري بعد الاشتغال بعلوم أوربا مائة سنة وبعد
عشرين سنة في الحرية الحقيقية التي وهبها الاحتلال الإنكليزي لمصر.
تقول الجريدة الإنكليزية في مقالة عنوانها (مستقبل المصري) : إن مستقبل
مصر - أي حسنه - مضمون ولكن مستقبل المصري بين اليأس والرجاء، فإن ترقي
هذه البلاد المستمر في التجارة والزراعة والصناعة وجميع مرافق الحياة إنما هو من
الأجانب وبالأجانب، وإن المصري لم يشترك فيه على أنه استفاد منه قليلاً. وإن
التاريخ يثبت بالبراهين الكثيرة أن المصري فطر على الدعة والسكون والقناعة
بالوجود في العالم متى حظي بما يكفل له الحياة وحاجاتها الضرورية فلا مطمع له
ولا أمل في تحسين أموره.
وتقول: إن المصري لا عذر له الآن في هذا فإن هذا الزمان ليس كالزمان
الذي كان فيه طلب التقدم والارتقاء خطرًا عظيمًا أي من الأمراء المستبدين. ثم
جزمت بأن المصري ما استفاد ولا هو يستفيد من تقدم بلاده، ولا يسير مع الارتقاء
ولا يأخذ نصيبه من نمو الثروة في بلاده، بل كل ذلك عائد على الأجانب الغرباء
الذين ترتقي البلاد بعملهم.
وقد ترجم المؤيد المقالة في (عدد 43893) الصادر في 6 شعبان ووصفها
بقوله: (وكلها آيات بينات وحقائق ساطعات واضحات تدل على استقلال الغازيت
وحريتها فيما تنشره من المقالات النافعة المفيدة!) . ثم نشر في تلك الجريدة مقالة
أخرى لكاتب إنكليزي في معناها ينحي فيها على المصريين إنحاءً شديدًا فعربتها
جريدة المؤيد مقرة لها، وبعد ذلك نشر في المؤيد مقالة لأحد المحررين فيها في
موضوع مقالتي الجريدة الإنكليزية قال في فاتحها:
(اطلع القراء على ما عربه المؤيد عن جريدة (الإجبشيان غازيت) تحت
عنوان (مستقبل المصري) وما أظن أن أحدًا ممن وقع نظره على تينك
الرسالتين لم يعترف في نفسه ولمن معه بصدق ما جاء فيها من الحقائق المرة؛ إذ
كون المصري مخذولاً في بلده ، مهملاً لشئونه الحيوية ، مفصوم العروة القومية -
إلى آخر ما يمكن أن يوصف به من الإهمال والخمول والتراخي وعدم النظر إلى
المستقبل - قضية لا تحتاج إلى إقامة برهان أو بيان ، ولكن الذي يجب أن يتساءل
عنه هو أسباب هذا الخذلان ، وهل ثمة واسطة لإصلاح الحال) .
ثم ذكر من المقالة الثانية الإنكليزية التي نشر تعريبها في (9 ش) ما نصه:
(إن الأخلاق الفطرية للأمة المصرية ، بل وكل ماضي تاريخها تدل على أن
الوصول إلى الرقي الأدبي والحياة الاجتماعية القومية يُعد من قبيل المستحيلات ،
فإنه منذ فجر التاريخ والفلاح المصري على ما هو عليه تاركًا أموره وحياته
ووجوده في أيدي غيره ، واكلاً إلى الأجانب عنه تأدية الواجب الذي كان من المحتم
عليه القيام به) اهـ، ثم سأل محرر المؤيد نفسه وقراء الجريدة عن سبب ذلك
على أنه أطال الفكر فيه فلم يهتد، قال:
(إن قلنا: إن التعليم والتربية ناقصان ، وإن الجهل سبب كل هذا؛ أجابونا:
فما بال هؤلاء المصريين المتعلمين الذين حازوا من علوم أوربا أسماها وأغلاها ،
وعاشروا المتمدنين منها والعاملين المجدين فيها لا يعملون ولا يفكرون؟ وما بالك
تراهم مثل أمثالهم من إخوانهم المصريين مشتغلين جل أوقاتهم بالسفاسف والصغائر؟
وأين هي الأخلاق القوية التي يوجدها التعليم والتربية في النفوس، وهم كما
تراهم وتعرفهم) . ثم قال: إنه لا يصح أن يكون السبب جو البلاد، ولا كون الأمة
عريقة بحكم الاستبداد ، ولا دين الإسلام؛ لأن الأجانب يعملون في هذا الجو
ويرتقون ، ولأن غير المصريين حكموا بالاستبداد ثم نجحوا وارتقوا، ولأن الإسلام
قد نهض بالأمة العربية أو نهضت به ، وهؤلاء القبط في مصر كالمسلمين، ولأن
اليابان وأوربا ما ارتقيا بالدين. وغرضنا من قول هذا المحرر شهادته في
المصريين الذين تعلموا وتربوا (كما يقال) فإنها شهادة المؤيد أشهر جرائدهم ، وقد
كان قال من عهد قريب: إن الأمة المصرية لم ترتق إلى درجة تؤهلها لإنشاء
مدرسة كلية.
أما سبب هذه الحيرة في علة انحطاط المصريين فهو الجهل بمعنى التربية
الصحيحة النافعة التي ترتقي بها الأمم ، والتي لا يفيد التعليم بدونها الفائدة
المطلوبة، وقد بينا الفرق بين التعليم والتربية غير مرة ، وقلنا: إن في مصر شيئًا
من التعليم الناقص ، ولكن ليس فيها تربية قط ، بل التربية فيها متعسرة أو متعذرة
أو يحال بين الناشئين الذين يربون وبين الناس لئلا تفسد عمل المربي هذه البيئة
الوبيئة بفساد الأخلاق والأعمال ، ولكن أين المربي وأين يربي؟ ! وإذا هو وجد
فمن يسمع له ومن يعينه على تربية ولده؟ وبينا أيضًا أن هذا التعليم الناقص قد زاد
في إفساد أخلاق الأمة وفتح لها خروقًا من السرف والترف والإيغال في اللذة
والاستمتاع، ما فُتحت في أمة قوية إلا وأضعفتها وجعلتها من الهالكين.
وليعلم القارئ أن حياة الأمم الميتة تتوقف على الاستعداد في الأمة كما
أوضحناه في مقالة (الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد) فإذا لم تستعد الأمة ،
فبيان أمراضها وطرق علاجها لا ينفعها لأنها كالمريض الأحمق يأبى كل دواء لأنه
دواء. بل لا يسهل على غير المستعد أن يفهم أسباب الضعف وكيفية معالجته. فإذا
أقمت البراهين والحجج القيمة على أن رغبه الأمة المصرية في الرتب والنياشين
من أسباب الفساد لا يفهم قولك إلا الأقلون ، ومن فهمه يكابر فيه وينكره بلسانه،
وإن اعتقده في قلبه ، ومنهم أكثر أصحاب الجرائد. فما بالك إذا ذكرت لهم الأدواء
الفاتكة التي يُعد حُب الرتب والنياشين من أعراضها؟
وسنذكر في الجزء الآتي طريقة تعلم النابتة المصرية والروح الذي به تحيا
الأمم ولا ينفع مع فقده علم ولا تعليم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
يوم 30 أبريل سنة - 186
تتناقص الحرارة ويتدرج الهواء في البرودة لأننا صرنا في خط الجدي.
منذ يومين آلم نفوسنا فَقْد واحد من رجالنا.
ذلك أن قطعة من قطع الأخشاب المنحرفة الوضع المستعملة في السفينة لشد
حبالها لم يكن ربطها وثيقًا فأتت عليها نفحة من الريح ، فهوت بها على السطح
فصادمت في هويها رأس ذلك الملاح ، وهو قائم على الحراسة ، فلم آل جهدًا في
تجريب جميع الوسائل الفنية لإيقاظه وتنبيهه ، ولكني لم أفلح لأنه لم يبق فيه أدنى
علامة على الإدراك، فسرى الوجوم في السفينة؛ لأن هذا الملاح الباسل كان
محبوبًا عند رفقائه، وصاح الربان بصوت أجش ، وقد بدت على وجهه آثار
الحزن مع انتقابه بالتجلد بأن تنقل الجثة إلى غرفته.
استولى سكون الحِداد على السفينة فما كنت ترى على ظهرها إلا أنظارًا شقت
عن الأسى ، ووجوهًا نكرتها الأشجان، وأسدل الليل على البحر بالتدريج حجب
ظلماته كلها ، وأرخى عليه سدول أحزانه، فما رأيته قبل تلك الليلة بهذا المقدار من
العظم والكآبة ، وكانت الأمواج باصطخابها تشكو شكوى الأحياء من مضص
المصيبة؛ حتى خيل لي أنها نفوس تناجي نفوسنا.
وارباه! ما كان أشأم هذا الصخب المتقطع الناشئ من ملاطمة الأمواج لألواح
سفينة تقل ميتًا.
أقبل النهار وأدبر الليل بيد أن أضواء الشمس في إشراقها لم تقو على قشع ما
غشي النفوس من سحب الأكدار الليلية ، فبقيت جميع القلوب مثلوجة متبلدة بضرب
من الهول. ذلك أن وجود الميت في بيت يبث فيه على الدوام الحزن مشوبًا
بالإجلال والرعب ، والسفينة بيت مضطرب ، فما يسهل انفصامه من عرى المودة
بين من تطاوحت بهم النوى من العائشين في البر يتأكد بين العائشين في السفينة
بسبب اشتراكهم في الحاجات والمخاطر.
تخلف يعقوب في ذلك الصباح عن إجابة داعي الشمس المشرقة، وعهدنا به
أنه كان على الدوام أول من يسمع ديّ صوته الشديد على ظهر السفينة ، فأصبح
وقد قضي عليه أن لا يكون هو الصائح بكلمة (تمام) .
كان من أسباب اشتغال قلوب المسافرين والملاحين بالحزن أيضًا ارتقابهم لما
كان قريب الوقوع من دفن الميت ، ومع كون أعمال التجهيز كلها كانت تؤدى في
سكون كأنها من وراء حجاب، كنا نخلس الملاحين في بعض الأماكن روحات
وجيئات خفية. وقد أحدت السفينة بتنكيس الأعلام التي تزهو ذروتها عادة
بارتفاعها فوقها فخرًا بالأمة المنتسبة إليها ، وفي نحو الساعة العاشرة برز الربان
على ظهرها، ثم أقبل على ملاحيه ، وقال بصوت منخفض: قد حلت ساعة النحس ،
فعلي بالربان الثاني وأخبروه بأننا مستعدون. ويعلم الله مقدار ما يشق علي من
تأدية هذا الفرض ولكن من الواجب القيام بالواجب.
رتب الملاحون أكوام الحبال التي كانت تعيق السير بتبعثرها على سطح
السفينة، ورفعوا أحد الأجزاء التي تتألف منها جدران السفينة فكان من ذلك نافذة
شبيهة بالكوة كنا نرى منها البحر يتراوح بين الصعود والهبوط.
كان ناقوس السفينة يطن فيحدث عند طنينه المؤلم إذا انتشر على وجه
الأمواج أثر محزن يغادر جميع القلوب واجفة.
لما كانت السفينة خلوًا من القسيسين كان من العادات المطَّردة في مثل هذه
الحالة بإنكلترا أن يعهد بصلاة الجنازة إلى ربانيها. من أجل ذلك أخذ الربان
مجلسه، وهو مكشوف الرأس، وبين يديه كتاب مفتوح ، والتفت عليه حلقة من
المسافرين والملاحين يحفهم الوقار والخشية على تشوش هيئاتهم وأوضاعهم
ينتظرون البدء في الشعائر الدينية.
أشار الربان إلى رجلين من الملاحين بأن يهبطا من أحد سلالم السفينة الضيقة
فلم يلبثا أن صعدا يحملان الميت على نعش كبير مثقب ، وقد لف في قطعة من
نسيج الشراع خيطت عليه وكان من الميسور تقدير ثقله بما كانا يعانيانه من الجهد
في حمله ، ذلك أن العادة تقتضي في مثل هذا المقام أن يوضع في الكفن مع الجثة
قذيفا مدفع (القذيفة الكرة التي تقذف من المدفع) إحداهما عند رجليها ، والأخرى
عند رأسها.
ما برزت هذه الصورة المشئومة من سدفة السلالم (السدفة الظلمة المختطلة
بالضوء) حيث كانت تبدو منها ببطء حتى اقشعرت لمرآها أبدان الحاضرين ، وقد
بسط على صدر المتوفى علم من أعلام السفينة عليه ألوان البحرية الإنكليزية.
أنشأ الربان يتلو صلاة الجنازة بصوت شديد معتاد على الأمر والنهي غير أنه
كان يعتوره اللين حينًا بعد حين، فتتخلله نغمات ضعيفة مهتزة كأنها تنبعث من
القلب ، وكان ما يحصل في نفسه من التنازع بين التمالك والسكينة التي يراها
لازمة لكرامته من حيث هو رجل ، وبين عاطفة الرحمة التي كان يكاد يبدي بها
يكسو وجهه هيأة غريبة، جمعت بين القسوة والرحمة ، وكان كاتب السفينة يتلو في
ذلك الكتاب عينه الحِكم الإنجيلية ، وما كان يسع أحدًا من السامعين أن لا يعترف
بشيء من الجلال لهذا الضرب من التحاور في معنى الموت بين رجلين مستهدفين
في كل يوم لآلاف من المعاطب قد شهد كلاهما كثيرًا من إخوانهما يتخرمون من
حولهما ، ويثوون في ظلمات البحر السرمدية.
هذا الذي كانا يتناوبان تلاوته، لم يك يشبه الصلوات بحال (فالكنيسة
الإنكليزية لا يصلى فيها قط على المتوفين) بل كان عبارة عن فكر مأخوذة من
التوراة في معنى قصر الأجل، ومصوغة في قوالب تشبيهات شعرية كتشبيه الحياة
بعشب البوادي يخضر في الصباح ويذبل في المساء، أو بالظل يسري علي الماء
وتشبيه جمال الرجل والمرأة شوهته السنون بثوب أكلته الأرضة، وكان جميع
الحاضرين يفهمون نص هذه العبارات العبرية؛ لأنه كان مترجمًا إلى الإنكليزية.
على أن الساعة الأخيرة قد اقتربت فكف الربان عن التلاوة ، وأخذ يرقب
عظم اتساع السماء والماء، ثم صوب بصره آخر مرة إلى ذلك الشيء وهو مدرج
في نسيج يعرف الناظر إليه من خلاله شكل آدمي معرفة مبهمة ، وقد وضع على
شفا الفوهة التي صنعت في جدار السفينة ليلقى منها في البحر ، ولم تكن إلا إشارة
من الربان أن سمع صوت غليظ رخو لسقوط رجل ميت في البحر ، فشوهد
للأمواج فوران شديد ، فترجرج خفيف ، فدوائر من الماء متداخل بعضها في بعض ،
فلا شيء.
التأم الآذيّ على الجثة كما يلتئم بلاط اللحد. وقال الربان بصوت خنقته
العبرة والانفعال: (أنت في وديعة البحر) .
كنت في كل المدة التي استغرقها أداء هذه الشعائر أرقب (أميل) حينًا فحينًا ،
فأجده شديد التأثر ، وأما (لولا) فكنت أراها باكية.
يرجع تأثر هذين الغلامين إلى سببين؛ أولهما أن تجهيز الميت كان مقرونًا
من الوقار والهيبة بما يهز القلوب ، ثانيهما أنهما لم يكونا شهدا الدفن قبل هذه المرة
لجهلهما الموت حتى هذه الساعة. نعم إنهما كانا يعرفان بالتحقيق أن كل شيء
صائر إلى الفناء فقد شهدا حيوانات تزول ، وإخوانًا يتخطفون من حولهم؛ غير أني
في شك قوي من كثرة اشتغالهما بهذه الطوارئ الطبيعية ووقوفهما بالفكر عندها ،
والإنسان لا يعرف الأمور معرفة صحيحة إلا إذا فكر فيها بنفسه ، ولا أعدم واهمًا
يلقي عليَّ تبعة هذا الجهل لأني أعلم أنه كان ينبغي من أجل إنشاء (أميل) على
الأصول القويمة التي يحبها ذلك الواهم أن أربيه على الخوف ، وأن أحيط له الحياة
في مواعظي بوعيد القبر ومخاوف الخلود ، ولكن ما حيلتي إذا كنت لم أجد من
نفسي إقدامًا على ذلك ، فإني رأيته كثير الاغتباط بالحياة ، فصرفت جل عنايتي في
تحبيب الواجبات إلى نفسه لا في دناءة التخويف من عقوبات الآخرة أو التأميل في
مثوباتها الغيبية.
المواعظ المحزنة لا تربي الوجدان بل تكدر صفاءه وتزعجه ، فواشوقاه إلى
الساعة التي يتأثر فيها اليافع بمشهد الموت؛ فيأنس من نفسه الحاجة إلى سبر غور
ما قدر له في أخراه. [1] اهـ
***
يوم 6 مايو سنة - 186
الرياح باردة والسماء كدراء ، وتزعم (لولا) أن سفرنا استغرق الربيع
والصيف والخريف ، وأننا داخلون في الشتاء ، وحقيقة الأمر هي أن أقاليم البلاد
فصول ثابتة كما أن فصول السنة أقاليم مرتحلة.
صارت الأمواج من الثقل والضخامة بحيث أصبح مسير السفينة شاقًّا ، وقد
هبت علينا ريح خبيثة فهي ترفعنا إلى الشرق نحو جزائر فوقلند. [2] اهـ
***
يوم 8 مايو سنة - 186
اقتحمنا مدخل بوغاز ماجلان [3] ، وهو مجاز وعر خطر ، ورأينا هناك
طيورًا يسميها الملاحون: حمام الرأس ، الواحدة منها في حجم البطة البرية ، أحد
نصفيها أبيض والثاني أسود ، وكانت تحوم حولنا أسرابًا ، وتصطاد بشباك تمد على
كوثل السفينة (مؤخرها) ، فتنشب فيها أجنحتها في غدوها ورواحها عليها ،
وتتورط فلا تستطيع انفكاكًا.
وشاهدنا طيرًا آخر أثار العجب في نفس (أميل) بعلو قامته وارتفاع طيرانه
وهو المسمى بالبطروس [4] اهـ
***
يوم 10 مايو سنة -186
رأس القرن حقيق بأن يسمى رأس الزوابع ، فقد هاجت علينا فيه هيجة خلنا
فيها أن المحيط بأجمعه ينيخ بكلكله على سفينتنا الضئيلة ، على أنها تقاوم وتجري
مع ما يلاطمها من الأمواج ويتقاذفها من المهاوي ، لا يقعدها عن ذلك زمجرة البحر ،
فهو بهيمة كبرى وجدت من يروضها.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(1)
ما كرهه المربي لولده من إنشائه على الخوف من العقاب والرجاء في الثواب غير مكروه ، ووصفه هذين الأمرين بالدناءة غير صحيح ، وأمله في أن ولده يسبر غور ما قدر له في أخراه وهم ظاهر ، وخدعة زينها له شكه في اليوم الآخر.
(2)
جزائر فوقلند هي أرخبيل في المحيط الأطلانطيقي شرقي بوغاز ماجلان مملوك للإنكليز.
(3)
بوغاز ماجلان واقع بين بتاغوينا ويكردوفو (أرض النار) اكتشفه رحالة بورتغالي اسمه ماجلان، وهو أول من بدأ بالطواف حول الأرض.
(4)
البطروس طير من فصيلة الطيور الراحية الأجل يعيش في بحار إستراليا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
خلاصة تاريخ حرب اليابان وروسيا
في هذه الحرب عِبر كثيرة منها أن ما ظهر من ارتقاء اليابان العلمي
والصناعي والأدبي قد أبطل ما كانوا يزعمون من تفاوت استعداد أجناس البشر.
ككون الجنس الأصفر أضعف استعدادًا من الأبيض ، فقد اعترف الأوربيون بأن
ارتقاء اليابانيين لا يعلوه ارتقاء في أوربا ، وهذه الأمة الشرقية الصفراء قد ارتقت
في مدة ربع قرن ، وأوربا لم ترتق إلا بعدة قرون وما كلها في الارتقاء سواء.
ومنها أنه لا يوثق بأحد في نقل جزئيات التاريخ ، ولا يوثق منه إلا بالأمور
الكلية التي تستنبط من مجموع الحوادث بعد تمحيصها والاطلاع على اختلاف
الروابط فيها ، فإن نقل التاريخ لم يكن في عصر من الأعصار أيسر وأقرب إلى
الضبط منه في هذا العصر؛ لأن كل واقعة من الوقائع العظيمة يشهدها عدد من
أصحاب الشركات البرقية وأصحاب الصحف ومندوبو الدول ، وكلهم مؤرخون.
وإننا مع هذا نرى ما ينقلون من أخبار هذه الحرب تختلف جزئياته وتتناقض
ويكذب بعضها بعضًا.
ونرى مؤرخي العصر وهم أرباب الصحف يرجحون بأهوائهم. لذلك كان
الموثوق به حقيقة هو النتائج التي اتفق عليها جميع الناقلين ، وهي أن اليابانيين هم
الظافرون في جميع المواقع البرية والبحرية ، وأنهم أخف حركة وأعلم بالحرب
وأحسن نظامًا مع الشجاعة الكاملة ، وهاك ذكر أهم الحوادث والوقائع بتاريخها
ملخصًا مما عربه بعض الرصفاء عن جريدة التيمس:
في 5 فبراير أنذر المعتمد الياباني في بطرسبرج حكومة القيصر بقطع
العلاقات السياسية بين الدولتين بأمر حكومته. وفي 7 منه نشر التلغراف الذي
أرسله الكونت لمسدروف إلى سفراء روسيا ووكلائها السياسيين في أنحاء السلطنة
الروسية. وفي 8 منه وصل أسطول ياباني يخفر نقالات يابانية بقيادة الأميرال
أوريو إلى ميناء شملبو ، وأطلقت البارجة كورينز الروسية القنبلة الأولى في هذه
الحرب. وفي 8 منه أيضًا هاجم الأميرال توجو الأسطول الياباني الذي في بورت
آرثر في منتصف الليل ، ونسف ثلاث بوارج منه ، وهي الدارعتان زارويتش
ورتفيزان والطراد بوبيدا. وفي 9 منه أعاد توجو الكَرة على الأسطول الروسي في
الصباح ، فتعطلت الدارعة الروسية بولتافا وثلاثة طردات وهي نوفيك
وإسكولدوديانا. وفيه أيضًا وقعت معركة بحرية في شملبو فدمر اليابانيون الطراد
فارياج والمدفعية كوريتز. وفي 10 منه أعلنت اليابان الحرب رسميًّا ، وأصدر
القيصر منشورًا إلى الشعب الروسي أعلنه به بنشوب الحرب ، وقال: إنه سينتقم
من اليابان مائة ضعف ويقتل هذا الطفل قبل أن يشب. وفي 11 منه مست البارجة
الروسية ينيسي لغمًا فنسفها في تاليان وان وأغرق أسطول فلاديفوستوك باخرة
يابانية وأنقذ ركابها. وفي 12 منه أعلنت الصين الحياد وخرج المسيو بافلوف
معتمد روسيا في كوريا من سيول. وفي 14 منه اغتنمت النسافات اليابانية حدوث
عاصفة فهاجمت أسطول بورت آرثر ونسفت الطراد بويارين. وفي 17 منه تعين
الأميرال مكاروف قائدًا لأسطول بورت آرثر محل الأميرال ستارك. وفي 21 منه
صدرت إرادة قيصرية بتعين الجنرال كوروبتكين ناظر الحربية قائدًا عامًّا للجنود
الروسية في منشوريا فسافر إلى منشوريا في 12 مارس. وفي 23 منه عقد اتفاق
بين كوريا واليابان ، ووقع في سيول. وفي 24 منه أيضًا حاول اليابانيون أن
يسدوا مدخل بورت آرثر عند بزوغ الفجر. وفي 25 منه تجدد القتال في بورت
آرثر بحرًا. وفي 29 منه احتل اليابانيون جزيرة هي بون تو من جزر إليوت
شرقي بورت آرثر.
وفي 2 مارس أنكرت اليابان التهم التي وجهتها روسيا إليها في البلاغات التي
نشرت في 18 و20 الماضي. وفي 6 منه أطلق الأميرال كميمورا المدافع على
فلادفستوك. وفي 9 منه نشرت اليابان ردها على المنشور الذي أصدره الكونت
لمسدروف في 22 الماضي. وفي 10 منه هاجمت النسافات اليابانية أسطول بورت
آرثر بعد منتصف الليل بقليل فغرقت نسافة روسية ، وضرب الأسطول الياباني
بورت آرثر في الصباح ، فدمر مباني سان شان تاو. وفي 17 منه وصل المركيز
إيتو إلى سيول موفدًا من عاهل اليابان إلى عاهل كوريا. وفي 21 و 22 منه أطلق
الأسطول الياباني المدافع على بورت آرثر ، وجعل الأسطول الروسي موقفه عند
مدخل الميناء. وفي 6 منه احتل اليابانيون ويجو ، وبدأ الروس يعبرون نهر يالو
متقهقرين. وفي 8 و 9 منه حدثت مناوشات على نهر يالو. وفي 12 منه استعانت
البارجة كوريو مارو اليابانية بالنسافات ، ونصبت الألغام عند مدخل بورت آثر.
وفي 13 منه قطعت المدمرات اليابانية الطريق على مدمرة روسية في جوار بورت
آرثر ، فأغرقتها ، وفيه جرت الطرادات اليابانية أسطول الأميرال مكاروف خارج
الميناء ، فأصابت البارجة بترباولسك لغمًا عند رجوعها فغرقت وغرق الأميرال
مكاروف. وفي 23 منه عبرت طلائع اليابانيين نهر يالو. وفي 25 منه نهض
أسطول فلادفستوك إلى جنسان فجأة ، وأغرق فيها الباخرة اليابانية جويومارو.
وفي 26 منه أغرقت نسافتان روسيتان النقالة اليابانية كنشين مارو. وفي 27 منه
حاول اليابانيون سد مدخل بورت آرثر فلم يفلحوا ، وفيه بدأ القتال على نهر يالو.
وفي 29 و 30 منه وأول مايو عبر الجنرال كوروكي نهر يالو بجوار ويجو وكسر
الروس وكانوا بقيادة الجنرال ساسولتش وغنم منهم 38 مدفعًا ، واستولى على
كيوليان شنج وهي المعركة المعروفة باسم معركة يالو.
في أول مايو حاول الأميرال توجو أن يسد مدخل بورت آرثر بتغريق
البواخر والأخشاب فيه. وفي 3 منه سد اليابانيون المدخل على المدرعات
والطرادات فقط. وفي 4 منه أبحر الجيش الياباني الثاني من شلمبو صباحًا.
ووصل الأميرال (هوسايا) ومعه أسطول من النقالات إلى (بتزي هو) شرقي
بورت آرثر في شبه جزيرة لياوتونج مساء. وفي 5 منه أنزل الأميرال هوسايا
لواءً بحريًّا وفرقة من الجيش البري إلى بتزي هو. وفي 6 منه احتل الجنرال
كوروكي فنج هوانج شنج. وفي 8 منه قطع الجنرال أوكو خط السكة الحديدية عند
بولان تيان شمالي بورت آرثر. وفي 10 منه هاجم القوازق إنجو في كوريا على
غير جدوى. وفي 12 منه أطلق الأميرال كاتاوكا القابل على تاليان وان ، ومست
نسافة يابانية لغمًا فغرقت في خليج كر. وفي 14منه غرقت نقالة يابانية في خليج
كر أيضًا ، واحتل اليابانيون بولان تيان. وفي 15منه اصطدم الطرادان اليابانيان
يوشينو وكاسوجا فغرق الأول. وفيه مست الدراعة اليابانية هاتسوسي لغمًا بجوار
بورت آرثر. وفي 17 منه تعين الجنرال كيلر قائدًا للفرقة السيبيرية الثانية بدلاً من
الجنرال ساسوليتش. وفي 19 منه نزل الجيش الياباني الثالث إلى تاكوشان. وفي
20 منه قذفت العاصفة بالطراد الورسي بوغاتير على الصخور فتحطم بجوار
فلاديفوستوك. وفي 27 منه ألقى الأميرال توجو نطاق الحصار على شبه جزيرة
لياوتونج جنوبًا ،ى وفيه جرت معركة كنشاو ، فأخذ اليابانيون تل تان شان عنوة
وغنموا 78 مدفعًا من الروس. وفي 30 منه احتل اليابانيون دلني ، وبدأ الاحتكاك
بين اليابانيين وطلائع الجنرال ستكلبرج المنفذ لإنقاذ بورت آرثر في وافنج كاو.
وفي 4 يونيو مست مدفعية روسية لغمًا فغرقت بجوار بورت آرثر. وفي 7
منه أخذ اليابانيون يطلقون المدافع على بورت آرثر ، واستمروا على ذلك في الأيام
التالية وفيه بدأ كوروكي بالزحف على جيش منشوريا. وفي 8 منه احتل اليابانيون
سيوين وساي متسي. وفي 11منه وضع اليابانيون الحصار على نيوشوانج. وفي
14 منه خرجت المدمرات الروسية من بورت آرثر فردها الأميرال توجو على
الأعقاب. وفي 14 و15 منه وقعت معركة وافنج كاو فخسر الروس فيها 7000
رجل و16 مدفعًا وارتدوا إلى كاي بنج ، وكان الجنرال ستكلبرج يقودهم ، وتعرف
هذه المعركة عند الإنكليز بمعركة تليسوه ، وفي 15 منه أغرق أسطول فلاديفستوك
نقالتين بايانيتين ، وهما هيتاشي مارو وسادو مارو. وفي 21 منه احتل الجنرال
أوكو هسيونج باوشنج على بعد 30 ميلاً من تليسو شمالاً. وفي 23 منه خرج
الأسطول الروسي في بورت آرثر ، فرده الأميرال توجو إلى الميناء وفيه استلم
الجنرال كوروبتكين قيادة الجنود المقاتلة بنفسه. وفي 26 منه تقابل
الفريقان في جوار كاي بنج ، وكان الروس نازلين في كاي بنج وتاشي كياو
ولياوينج واليابانيون في جنوب كاي بنج وساي متسي وليان شان كوان. وفيه
ضرب اليابانيون بورت آرثر برًّا واستولوا على استحكامات في الجهة الشرقية.
وفي 27 منه استولى اليابانوين على مضيق فن شوي لينج ومضيق تالج ومضيق
موتيان لنج وهذه المضايق تعد مفتاح وادي لياو. وفيه أغرق اليابانيون باخرتين في
مدخل بورت آرثر لسدها. وفي 28 منه نزلت الفرقة السادسة اليابانية في خليج كر.
وفي 30 منه أطلق أسطول فلادفستوك المدافع على ثغر جنسان.
وفي أول يوليو وصل أسطول فلادفستوك إلى بوغاز كوريا فنمي خبره إلى
الأميرال كميمورا فهب لمقاتلته ولكنه لم يدركه. وفي 3و4و5 منه دار قتال شديد
في بورت آرثر برًّا وبحرًا ، ومس الطراد كيمون الياباني لغمًا في تاليان وان فغرق.
وفي 4 و6 منه اجتازت النقالتان بطرس برج وسمو لنسك من الأسطول الروسي
المتطوع بوغاز الدردنيل رافعتين العلم التجاري. وفي 6 منه غادر المارشال أوياما
توكيو قاصدًا ميدان القتال لاستلام القيادة العامة. وفيه استولى اليابانوين على
الحصن نمرة 16 في بورت آرثر. وفي 9 منه احتل الجنرال أوكو (كاي بنج) .
وفي 19 منه نسف الروس الباخرة هبسانج في خليج بتشيلي. وفي 20 منه اجتاز
أسطول فلادفستوك بوغاز تسوغارو فدخل الأوقيانوس الباسفيكي وفي أثره نسافات
يابانية. وفي 24 منه نسف اليابانيون ثلاث مدمرات روسية خارج بورت آرثر.
وفي 25 منه كسر الجنرال أوكو الروس في (تاشي كياو) بعد قتال شديد ، وفيه
احتل اليابانيون (نيوشوانج) . وفي 26 منه بدأ قتال شديد حول بورت أرثر ودام
حتى 30 منه ، فاستولى اليابانوين في أثنائه على (ولفشل) أي تل الذئب، وفي
31 منه زحف اليابانيوين زحفًا عموميًّا على الروس ، فأجلوهم عن مواقعهم على
طول الخط إلى هاي شنج وبنشي لو وينج زولنج.
في 1 أغسطس استولى اليابانيون على شان تاي كاو وهو حصن مهم بجوار
بوت آرثر ، وفي 3 منه احتل الجنرال أوكو هاي شنج ونيوشوانج ، وفيه رد
الروس إلى خط الدفاع الداخلي في بورت آرثر ، وفيه خرج الأسطول الروسي من
بورت آرثر ولكنه ردّ إليها، وفي 10 منه خرج الأسطول الروسي من بورت آرثر
بقيادة الأميرال ويتهوفت بناءً على الأوامر التي وردت إليه فقابله الأميرال توجو ،
ودار القتال بين الأسطولين ، فقتل الأميرال ويتهوفت وخلفه الأميرال أوخنمسكي
وانهزم الأسطول الروسي ، فرجع قسم منه إلى بورت آرثر ولجأت بوارج أخرى
إلى المواني المحايدة في كياوشو وتسنج تاو وشنغاي. وفي 11 منه جنحت مدمرة
روسية على بعد 20 ميلاً من واي هاي واي. وفي 12 منه ولد الغراندوق إلكسيس
ولي العهد في روسيا ، وفيه قبض اليابانيون على المدمرة الروسية ويسهتلني في
ميناء شيفو وأخذوها إلى اليابان. وفي 13 منه قلد الأميرال روجستفنسكي قيادة
أسطول البلطيق. وفي 14 منه قاتل الأميرال كميمورا أسطول فلاديفستوك على
بعد أربعين ميلاً من تسوشيما شمالاً بشرق فأغرق الطراد روريك وفيه أطلق
اليابانوين المدافع على بورت آرثر. وفي 16 حاول الأسطول الروسي الخروج من
بورت آرثر ثانية ، وفيه أرسل اليابانيون مندوبًا إلى الروس رافعًا الراية البيضاء
يدعوهم إلى تسليم المدينة ، وإخراج غير المقاتلين حقنًا للدماء فأبوا. وفي 18 منه
حمل اليابانيون حملة جديدة على بورت آرثر وفيه مست المدفعية الروسية أوتفاجني
لغمًا فغرقت بجوار رأس لياوتي شان. وفي 19 منه احتج اليابانيون على إقامة
الطرادين الروسيين اسكولد وجررذوفوي في ميناء شنغاي بعد انتهاء الأجل القانوني.
وفي 20 منه جنح الطراد الروسي نوفيك إلى شاطئ كورسا كوفسك فراراً من
الطرادين اليابانيين كيتوزي وتسوشيما. وفي 23 منه مست الدارعة الروسية
سفستبول لغمًا في بورت آرثر ، فأصابها تلف ، وفيه أيضًا بدأ كوروكي بالحركات
التي انتهت بمعركة لياوينج. وفي 24 منه أمر القيصر الطرادين أسكولد
وجروزوفوي بنزع السلاح في ميناء شنغاي. وفي 25 و26 منه استولى كوروكي
على كونج شنج لنج عنوة ، وحمل جيش اوكووندزو على آن شان شان. وفي 27
منه طرد اليابانيون الروس عن ضفة نهر تونج هو اليمنى. وفي 28 منه ارتد
الروس إلى لياونج بعدما خسروا كل مواقعهم الأمامية.
في أول سبتمبر انجلى الروس عن هسن لي تون وشوشان وارتدوا إلى النهر ،
وفيه استولى الجنرال كوروكي على سيكوانتون عنوة. وفي 2 و3 منه واصل
أوكو وندزو الهجوم على لياوينج. وفي 3 منه رأى كوربتكين أن الجنرال
أورلوف أتى هفوة أفسدت خطته وكشفت ميسرته للعدو، وخشي الهلاك إذا تمكن
أوكو وندزو من كسر ميمنته فأمر جيشه بالتقهقر إلى يان تاي ومكدن. وفي 4 منه
انجلت ساقة الروس عن لياوينج بعد أن قاومت اليابانيين مقاومة شديدة لتسهيل
التقهقر على كوربتكين. وفيه دخل اليابانيون لياوينج في الساعة الثالثة بعد الظهر.
(وكان الجيشان متقاربين في العدد ، ويقال أن عدد الروس كان أكثر) .
وفي 4و5 منه تواصل القتال بين الروس المتقهقرين وجيش الجنرال كوروكي
وكان قد احتل مناجم يان تاي، وفي 5 منه عين المسيو ستفنس مستشار الوكالة
السياسية اليابانية في واشنطن مستشارًا سياسيًّا في كوريا ، وعين المسيو ميجاتا
مستشارًا ماليًّا بناءً على المعاهدة التي أبرمت مع كوريا في 22 الجاري، وفيه
كانت ساقة الروس هدفاً لمدافع العدو فخسرت 100 رجل على طريق مكدن، وفي
6 منه تعين الكبتن فيرن قائدًا لأسطول بورت آرثر خلفًا للأميرال أوختمسكي وكان
قبلاً قومندانًا للدارعة بايان، وفي 11 منه استدعى القيصر الجيش الاحتياطي في
22 مقاطعة وطبقة واحدة من ضباط الاحتياط في كل السلطنة، وفي 14 منه نشر
تقدير الجنرال كوروبتكين لخسارة الروس بين 28 أغسطس و5 سبتمبر فبلغ 4
آلاف قتيل و12 ألف جريح ، وفيه ضربت الولايات المتحدة ميعادًا تنزع النقالة لينا
الروسية التي لجأت إلى سان فرنسسكو سلاحها فيه أو تغادر الميناء ، فأجاب الربان
أنه عازم على نزع السلاح، وفي 16 منه شرع اليابانيون بتضييق سكة حديد
منشوريا وفقًا لمقاس مركباتهم، وفي 18 منه هنأ القيصر الجنرال كوروبتكين
بحسن تقهقره كما هنأ الميكادو جيشه في 7 منه بانتصاره، وفي 20 منه حاول
اليابابيون اكتناف ميسرة كوروبتكين القصوى في مضيق دالنج فلم يفلحوا ، وفيه
وصلت نجدات جديدة و170 مدفعًا إلى كوروبتكين، وفي 24 منه استُدْعِي الجنرال
أورلوف بناءً على قرار الجنرال كوروبتكين ومحي اسمه من الجيش بلا محاكمة،
وفي 25 منه قسمت الجنود في منشوريا قسمين؛ قسمًا بقي بقيادة كوروبتكين ،
وقسمًا سلمت قيادته إلى الجنرال جريبن برج، وفي 26 منه احتفل بافتتاح السكة
الحديدية حول بحيرة بيكال، وفيه أقرت اليابان على عقد قرض داخلي قدره 8
ملايين جنيه ، وعزمت على تعديل لائحة القرعة العسكرية وجعل مدة الخدمة 17
سنة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الانتقاد على المنار
وعدنا بأن نذكر ما ينتقد به علينا ونبين رأينا فيه إما تسليمًا، وإما تفنيدًا. وقد
أرسلت إلينا قصيدة من الكويت يزعم ناظمها أنه رد على المنار ، وما هي إلا سب
وشتم لا يليق بالمؤمن أن يرد على صاحبها إلا بكلمة (سلام) وكذلك تصدت
بعض الجرائد الجديدة في تونس التي هي أدنى من جرائدنا الأسبوعية للخوض في
موضوعات المنار، فلم نر فيها شبهة تستحق الرد ، وقد نصحت لها أم الجرائد
التونسية (الحاضرة) ، الغراء فقبل النصيحة حسن القصد ، وكابر الكاتب فردت
عليه بالنبذة الآتية:
وإذا مروا باللغو مروا كرامًا
نصحت الحاضرة لرصيفيها الفاضلين صاحبي جريدتي الصواب، وجريدة
إظهار الحق إثر تحريرات شديدة اللهجة نشراها ضد بعضهما في صحيفتيهما ،
ودعتهما بلسان الصدق في خدمة المصلحة العامة أن يقلعا عن مثل تلك المطاعن
سيما وأن بعضها المدرج في ثانيتهما به تعريض مذموم بأكبر وأشهر مجلة علمية
أدبية إسلامية بالشرق، ونعني بها جريدة المنار الأغر التي يكتب بها فضيلة مفتي
الإسلام مولانا الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية ، وقلنا لهما برفق ولين:
إن موضوع مجادلتهما من فصيلة المجلات العلمية لا من علقة الجرائد الإخبارية ،
وعليه فلا ينتج عنها في نظرنا القاصر بما لدينا من التجربة الصحافية ثمرة مثافنة
نحو عشرين سنة إلا تضليل بسطاء العقول، والتلبيس على أهل النهى بسرد
النصوص المتناقضة تارة، وبتعقيد عبارة المحررين أخرى ، فتوفقت جريدة
الصواب بسلامة ذوقها لسماع النصيحة، وتطاولت خصيمتها عن الاقتداء بصنيعها
الممدوح فاستأنفت القول بعبارة أكثر قحة وأبلغ شدة مما كانت نشرته ، وذلك بقلم
محرر غير محرر ما سبق بها نشره أمضى مقالته باسمه (بو بكر العروسي)
عرف بنفسه في آخرمقاله بعد تعريض ممقوت بجريدتنا ، فقال: (أما الذين تعلموا
نبذة من الكتابة بكثرة مزاولة الجرائد أو موضوع مخصوص يصعب عليهم فهم
مدارك الكُتَّاب (يقصد المحرر بذلك نفسه لا محالة) الذين أخذوا فنهم من قواعد
وآداب عظيمة كالمتخرجين من الجامع الأعظم
…
إلخ) .
هذه خلاصة ما كنا كتبناه في عدد 812 من جريدتنا ، وزبدة ما كتبه الشاب
المتخرج من الجامع الأعظم في عدد 22 من جريدة إظهار الحق.
ونحن لا يجدر بنا أن نجاري هذا الشاب في تيار أهوائه، بل ننصح من جديد
لرصفينا الفاضل مدير إظهار الحق أن ينزه جريدته عن الخوض في تلك المواضيع
البعيدة عن خدمة المصلحة العامة ، وينبه إلى أن مثل هاتة التحريرات التي لا
تستفيد منها جريدته ولا قراؤها سيما إذا كان محررها صاحب طيش ويرى نفسه من
كتاب (الصف الأول في التحرير) الذين لا يخشون ردود محرري الشرق لأنه من
أولئك الذين قيل فيهم: (إن بني عمك فيهم رماح) كما صرح بذلك.
وإذا قدر الله على جريدة إظهار الحق بعدم إدراك هاته الحقيقة ، فإن صاحبها
لا محالة يسلك بجريدته طريقًا عوجاء لا يسلم من عاقبتها، ويعلم بعد حين أن حجة
مثل هذا المحرر ساقطة، وأن قلمه لا قبل له على رد سيل العرم الذي ربما يجرفه
يومًا ما فلا يجد لنفسه وليًّا ولا نصيرًا، إذ لا يخفى على صاحب إظهار الحق أن
خدمة الأمة الإسلامية عمومًا وخدمة الوطن خصوصًا لا تكون إلا بالتعاضد
والتكاتف لا بالتشاتم والتنافر بين أفرادها وخصوصًا حملة أقلامها ، ثم ما لنا
وللجرائد الشرقية التي يحررها كتبة أقلامهم من البلاغة بمكان ولها قراء تقدمونا
بمراحل في ميادين الترقيات الفكرية والعرفان ، فسمحت لهم معارفهم بولوج باب
المجادلات الدينية والفلسفية بصورة يقصر دونها فهم الطالب المشار إليه ومن جاء
على شاكلته ، فإن لأولئك العلماء والكتاب الشرقيين من المبادئ الراسخة والآراء
الثاقبة ما لا تزحزحه عوارض طيش التخيل والغرور مثل التي شاهدناها من أحد
متخرجي الجامع الأعظم نراه تارة يطعن بشيوخه وبنظام الجامع مما ننقمه عليه،
وآونة يزعم أنهم مصدر الفضائل وركن البراعة مما سبقناه للإعلان به ، ولكن لله
في خلقه أسرار) اهـ كلام الحاضرة الذي يتدفق إخلاصًا وصوابًا ، وعسى أن يفيد
المخلصين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية أدبية
(كمال العناية بتوجيه ما في] لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [[*] من الكناية، وبحث
علم النبي بالغيب)
مؤلف هذه الرسالة السيد أحمد رافع الطهطاوي أحد علماء الأزهر الأسبق ،
والسيد علي الببلاوي شيخ الأزهر لهذا العهد ، والشيخ عبد الرحمن الشربيني أعلم
علماء الشافعية بلا خلاف ، وغيرهم من أكابر علماء الأزهر كالمرحوم الشيخ حسن
الطويل والشيخ حمزة فتح الله مفتش العربية في نظارة المعارف والشيخ محمد
بخيت وغيرهم ، ولما نشرنا مسألة علم النبي الغيب في المسائل الزنجبارية كتب
إلينا مؤلف هذه الرسالة كتابًا يؤيد فيه رأينا ، ويقول إنه سبق له تفنيد زعم من يقول
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع على علم الغيب كله، في رسالته هذه ، وأهدانا
نسخة منها فإذا هو يقول في أول هذا المبحث ما نصه:
(تنبيه مهم) قد علمت أنه لا صفة لغيره تعالى تماثل صفة من صفاته جل
وعلا ، فليس لغيره علم محيط بجميع المعلومات كما قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255) أي لا يعلم أحد كنه شيء من
معلوماته تعالى إلا ما شاء الله أن يعلم وقال تعالى لأعلم الخلق: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي
عِلْماً} (طه: 114) وقد ذكر بعضهم أنه ما أمر عليه الصلاة والسلام بطلب
الزيادة في شيء إلا في العلم ، وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي
الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم انفعني بما
علمتني ، وعلمني ما ينفعني ، وزدني علمًا ، والحمد لله على كل حال) . قال
العلامة الملوي في شرحه الكبير على السلم: قلت: وهذا صريح في الرد على من
ادعى أن علم النبي صلى الله عليه وسلم مساوٍ لعلم الله تعالى محيط بكل شيء من
كل وجه إحاطة كإحاطة علم الله تعالى ، وأنه ما توفي حتى أعلمه الله تعالى كل
شيء علم إحاطة ، وقد ألف شيخ شيخنا العلامة اليوسي تأليفًا في الرد على من زعم
ذلك وتكفيره ، واستدل على ذلك بأدلة عقلية ونقلية. كيف وهو مصادم لقوله تعالى:
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ} (الأنعام: 59) وقوله تعالى: {وَلَوْ
كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (الأعراف: 188)
الآية، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (لقمان:
34) وعلى القول بأنه تعالى أعلمه صلى الله عليه وسلم مفاتيح الغيب فليس علم
إحاطة كعلمه تعالى ، وهو مصادم أيضًا للإجماع.
على أن سر القدر لم يعلمه ولا يعلمه نبي مرسل ولا ملك ولا غيرهما ، بل
هو من مواقف العقول ، ويلزم أن يكون علمه صلى الله عليه وسلم مساويًا لعلم الله
ومماثلاً له في الإحاطة والحقيقة ، فيلزم حدوث علمه تعالى للمماثلة؛ لأنه يجب
لأحد المثلين ما وجب للآخر ، بل ويلزم سائر لوازم العلم الحادث من العرضية
والافتقار وغيرهما ، ولا يجاب بالاختلاف بالقدم والحدوث لأن القدم والحدوث
خارجان عن حقيقة العلم ، والحقيقة لا تختلف باختلاف العوارض. وأما مع عدم
ادعاء المساواة لعلم الله تعالى كأن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم علم
الأولين والآخرين ، فلا يمتنع لأن ذلك ليس مستلزمًا لمساواته لعلم الله تعالى
والإحاطة من كل وجه ، ومن أقوى ما يرد على هذا ما ورد في الحديث من أنه
صلى الله تعالى عليه وسلم يلهم في الآخرة محامد يحمد بها الله عز وجل لم يكن
ألهمها قبل ، لكن شيخ شيخنا بالغ في القول بتكفيره ، والذي يظهر عدم التكفير؛
لأن هذه اللوازم بعيدة لا يقول بها هذا القائل ، ولازم المذهب ليس بمذهب خصوصًا
إذا كان اللازم بعيدًا اهـ ببعض اختصار. وإنما كانت هذه اللوازم بعيدة لأنها
مأخوذة من مقدمة أجنبية؛ وهي أنه يجب لأحد المثلين ما وجب للآخر فلا يلزم من
تصور مساواة علم النبي صلى الله عليه وسلم لعلم الله تعالى في الإحاطة تصورها
كما ذكرته في كتابي (الطراز المعلم) وقد عرَّفوا اللازم البعيد بأنه ما لا يلزم من
تصور ملزومه تصوره ، والقريب بأنه ما يلزم من تصور ملزومه تصوره.
والتحقيق الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم لم يفارق الحياة الدنيا حتى أعلمه الله
تعالى بالمغيبات التي يمكن البشر علمها ، وعلمه بها لا كعلم الله كما سترى فلا
يجوز القول بأنه مساوٍ له فاعرف ذلك ، وفي كلام العلامة أبي محمد الأمير موافقة
لكلام اليوسي حيث قال عند بيان أن علمه تعالى محيط بما هو غير متناهٍ كالأعداد
ونعيم الجنان أي فإنه لا يتناهى بمعنى أنه لا ينقطع أبدًا ما نصه: (وكون العلم
بالكمية يقتضي التناهي إنما هو في حق الحوادث لضيق دائرة العلم الحادث وقصر
تعلقه، وأما العلم القديم فتعلقه عام لا يتناهى فيتعلق تفصيلاً بما لا يتناهى) اهـ.
ووراء هذا مباحث طويلة في حقيقة علم الغيب ومفاتح الغيب، والخلاف فيما
يجوز أن يعلمه غير الله تعالى، وأكثرها مبنية على ما اعتاده المتأخرون من التعليل
والتأويل والتقييد والتخصيص والاحتمالات مما لا حاجة لأكثره ، ولا يترتب على
الخلاف فيه فائدة ، أما وعندنا الأصل اليقيني المتفق عليه المنصوص في كتاب الله
تعالى وهو أنه لا يعلم الغيب إلا الله ، وأن الله تعالى يظهر من شاء على ما شاء ،
ولكن لا يجوز لنا أن نتحكم برأينا فنقول: إنه أطلع فلانًا على مفاتح الغيب أو على
علم الساعة ونحو ذلك إلا بنص قطعي يخصص نص القرآن القطعي والله أعلم.
***
(تأسيس النظر وأصول الكرخي)
سبق لنا تقريظ هذا الكتاب ورسالة أصول الكرخي المطبوعة معه في المجلد
الخامس ، وإننا ننقل الآن ما ذكره الدبوسي مؤلف الكتاب في الفرق بين دار الإسلام
ودار الحرب لتوضيح ما تقدم في بحث الحكم بالقوانين الذي سنزيده بيانًا بعد ، قال:
دار الإسلام ودار الحرب
الأصل عندنا أن الدنيا كلها داران: دار الإسلام ودار الحرب، وعند الإمام
الشافعي الدنيا كلها دار واحدة ، وعلى هذا مسائل، منها: إذا خرج أحد الزوجين إلى
دار الإسلام مسلمًا مهاجرًا أو ذميًّا ، وتخلف الآخر في دار الحرب، وقعت الفرقة
عندنا فيما بينهما، وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: لا تقع الفرقة بنفس الخروج.
ومنها: إذا أخذوا أموالنا وأحرزوها بدار الحرب ثم أسلموا عليها وهي في أيديهم
كانت لهم ملكا وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: لا يملكونها، وكان عليهم ردها إلى
أربابها. ومنها ما قال أصحابنا: إن المسلمين إذا استنقذوا من أيدي المشركين ما
أخذوا من أموالنا لا يأخذها أصحابها إلا بالقيمة إذا وجدوها بعد القسمة عندنا، وعند
الإمام الشافعي يأخذونها بغير شيء، ومنها أن أهل الحرب لو أخذوا من أموالنا عبدًا
ثم دخل إليهم مسلم بأمان فاشتراه منهم وأخرجه إلى دار الإسلام فإنه لا يأخذه
صاحبه إلا بالثمن وإن وهب له منهم يأخذه بالقيمة ، وعند الإمام الشافعي يأخذه بغير
شيء. ومنها: أن الحربي إذا أسلم في دار الحرب ثم خرج إلينا وترك ماله ، ثم
ظهر المسلمون على دارهم؛ كان جميع ماله غنيمة عندنا لأنه وقع بينه وبين ماله
مباينة الدارين ، وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: لا يكون غنيمة، ولو أسلم ولم
يخرج إلينا حتى ظهر المسلمون عليهم؛ كان عقاره غنيمة لنا ، وعند الإمام الشافعي:
لا يكون غنيمة. وعلى هذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه في الآبق إليهم: إنهم لا
يملكونه بالأخذ لأنه لما أبق صار في يد نفسه في دار الحرب لأنهم لا يملكون قهره
وعارض يد قهر مولاه قهر نفسه وعصيانه ، وعند صاحبيه ملكوه ، ومنها ما قال
أصحابنا: إن دار الحرب تمنع وجوب ما يندرئ بالشبهة لأن أحكامنا لا تجري في
دارهم وحكم دارهم مخالف لحكم دارنا وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: عليه
القصاص ، وعلى هذا قال أصحابنا: لو دخل مسلمان مستأمنان في دار الحرب
فقتل أحدهما صاحبه لا قصاص عليه، وعند الإمام أبي عبد الله: عليه
القصاص، وكذلك قال أصحابنا في أسيرين مسلمين في دار الحرب قتل أحدهما
صاحبه: لا قصاص على القاتل عندنا ، وعند الإمام الشافعي: على القاتل
القصاص ، وعلى هذا قال أصحابنا: لو شرب المسلم الخمر أو زنا أو قذف في دار
الحرب: لا حد عليه عندنا ، ويجب عند الإمام الشافعي عليه الحد) اهـ وفيه
التصريح بأن أحكامنا لا تجري في دارهم، فما بقي على المسلم الذي يرى من
المصلحة للإسلام العمل في حكومة الحربي إلا أن يراعي مصلحة المسلمين إذا هو
حكم بالقوانين.
_________
(*)(الشورى: 11) .
الكاتب: رفيق بك العظم
ضعف المسلمين بمزج السياسة بالدين
مراجعة رفيق بك العظم للشيخ صالح بن علي اليافعي
كتبت في المنار الأغر فصلاً تحت عنوان (هذا أوان العبر) بحثت فيه عن
تقهقر المسلمين وسببه ، ورأيت بعد مقدمات سردتها أن استبداد الحكومة هو علة
هذا الضعف الشامل الذي ألَمَّ بالمسلمين، وجعلهم في أخريات الأمم ، وقلت: إنما
أنامهم لاستبداد الأمراء وأضعف بحياتهم السياسية الرجاء، مزج السياسية بالدين
مزجًا أدى إلى استئثار الخلفاء بالسلطة واستبدادهم بكل شئون الملك حتى أخذت
الحكومة الإسلامية شكل الحكومات المطلقة التي هي نار تأكل الممالك وتذهب بحياة
الشعوب. ولو تنبه العرب في بدء نشوء الدولة إلى أن الحياة السياسية غير الحياة
الدينية، وأسسوا هذا الملك الكبير على أساس الحكومات الديموقراطية التي كانت
عند مجاوريهم من الرومان لما استفحل داء الاستبداد المطلق في الدولة الإسلامية
إلى آخر ما ورد في ذلك الفصل.
وبما أن أكثر المقدمات كانت إجمالية أردت بها الإشارة إلى نتائج الحكم
المطلق قد التبست على حضرة الفاضل الهندي صاحب مقالة (ضعف المسلمين
وعلاجه) فحمل قولي على غير ما أردت ، وكتب في المنار المنير مقالته المسهبة
في الرد عليّ ، فذهب فيها مذاهب من بيان الداء والدواء تدل على وقوف على
أحوال المسلمين وعلم لا ينكر على مثله، إلا أنه آخذني على بعض المقدمات
مؤاخذة من التبس عليه فهم المراد منها ، فطفق يسرد الأدلة على فضائل الدين
الإسلامي وأنه صالح لترقي المسلمين، كأنه ظن أني بقولي: إن السياسية غير
الدين، أدعو المسلمين إلى ترك الدين أو أن الإسلام غير صالح لترقي الأمة، ومعاذ
الله أن يقول بهذا مسلم عنده ذره من العلم بحقيقة الإسلام ووقوف على تاريخ
المسلمين ، ولكي أدفع ما ورد على ذهنه من الشُّبه ، وما تبادر إلى فهمه من ظاهر
كلامي أريد مع احترامي لغيرته العظيمة ونيته السليمة مناقشته في بعض المقدمات
التي أوردها في مقالته (ضعف المسلمين وعلاجه) تمحيصًا للحق وبيانًا للحقيقة،
فأقول:
جاء في مقدمته الأولى عن أسباب تقهقر المسلمين أن أعظم تلك الأسباب
وأولاها تغلب من لا يستحق الخلافة على من يستحقها، وجعلها ملكًا عضوضًا قائمًا
بقوة السيف. وثانيهما: نبذ المسلمين للكتاب والسنة، وافتراقهم شيعًا في الدين.
فأما السبب الثاني فلا مشاحة فيه، وقد بسطه حضرته بسطًا وافيًا أعرب فيه
عما يخالج ضمائر العقلاء من الأمة، وهو سبب مهم من أسباب تدلي المسلمين لا
ينكره إلا مكابر أو جاهل، فلا نناقشه فيه بل نوافقه عليه، ولي فيه كلام طويل
وفصول كثيرة في كتبي (أشهر مشاهير الإسلام) و (تنبيه الأفهام) فليراجعهما إن
أحب.
وأما السبب الثاني فقد جعله أخونا الفاضل أساسًا، وهو في الحقيقة نتيجة
مقدمات وأسباب لو تتبعها لما خالفني في رأيي. وبيانه أني بنيت قولي بتقهقر
المسلمين على ثلاثة أمور: (الأول) الاستبداد ، و (الثاني) طرز الحكومة ،
و (الثالث) مزج المسلمين الحياة الدينية بالحياة السياسية ، وهذا الأخير ينقسم إلى
قسمين وهما: طرز الحكومة ، والاستبداد. فالاستبداد منشؤه الحكومة المطلقة،
وهذه منشؤها استئثار الخلفاء بالسلطة العامة باسم الدين لجعلهم حياة الأمة السياسية
حياة دينية، وأخونا الفاضل الهندي وافقني في بنائه للسبب الأول على الثاني،
وهو الاستبداد. وإنما أنكر علي كونه ناشئًا عن مزج السياسة بالدين ورأى أن منشأ
استبداد الأمراء تغلب النازعين إلى الملك ممن كانوا غير أهل للخلافة على من
كانوا أهلاً لها، وتشريدهم لهم في كل صقع وواد، وأخذ الخلافة بالغلبة دون اختيار
أهل الحل والعقد، وجعلها بعد أخذهم لها بقوة السيف ملكًا عضوضًا ذهبوا فيه
مذاهب أهل الأثرة والكبرياء وحادوا به عن طريق الشرع وآثروا الجهلة والفساق
…
إلخ ما قال.
والذي يستنتج من رأيه هذا أن الخلافة لو بقيت باختيار أهل الحل والعقد
ووسدت إلى أهلها ممن عناهم حضرته - لما حل بالأمة من مصائب الاستبداد ما حل ،
ولَمَا طرأ على الدول الإسلامية من الضعف ما طرأ، وما دام مُسَلِّمًا معنا بهذه
المقدمة فقد كان يلزمه أن يبحث عن السبب الذي أفضى بالخلافة إلى غير أهلها ،
ويبين الوجه الذي يضمن بقاءها على ما تركها عليه الخلفاء الأولون سائرة على
نهج الحق والعدل، لا سبيل لأولئك النازعين إلى الملك المتوثبين على الخلافة إلى
خرق حرمتها، والتغلب على من كانوا أهلاً لها وأحق بها، ويرى ما الذي أدخل
على مركز الخلافة الاضطراب من عهد الخليفة الثالث رضي الله عنه حتى
زعزعته عواصف الفتن وغلب عليه المتغلبون، فكانت من ثم أول حلقة من سلسلة
الانقسام والتغالب الذي جر على الأمة من البلاء وأذاقها من استبداد الأمراء ما انتهى
بها إلى الغاية الشنعاء التي نشاهدها الآن بالعيان.
لو نظر حضرته إلى السبب ودقق النظر في هذا البحث لعلم أني لم أخرج في
بحثي عن هذه الوجهة، ولم أتعرض في كلامي لأصل الشريعة التي قال فيها: لو
عمل بها الخلفاء لما أصاب الأمة ما أصابها من الجور؛ إذ هذا حق لا ريب فيه،
ولم يكن كلامي دائرًا عليه بل على الأساس الذي ينبغي أن تقام عليه دعائم الدولة،
ويتكفل بسير الأمراء على نهج العدل، وعملهم بأوامر الشريعة، ويقف بهم
مرغمين عند حد القانون.
وهذا الأساس هو الذي يعرف لهذا العهد بالنظام الأساسي الذي عليه تقدم
الدول الشورية والحكومات النيابية، ولا بقاء للحكم النيابي بدونه قط.
هذا النظام هو الذي يتكفل بتنفيذ القوانين الشرعية والوضعية، ويعطي
الشعوب حق السيطرة على الحكومة والمشاركة لها في الرأي، ويحدد سلطة الأمراء
والملوك تحديدًا يمنعهم من الذهاب في سياسة الأمم مذاهب الشهوات، وأن يكونوا
أربابًا والرعية مربوبين. وهذا النظام هو الذي نهض بدول الغرب إلى أوج القوة
والمجد والسيادة على الأرض، وخرج باليابان من وهدة الهوان إلى مقام الدول
العظيمة ذات القوة والسلطان، وإلى هذا المعنى أشرت بحياة الأمم السياسية، وأنها
غير الحياة الدينية ، وقلت: إن العرب بجعلهم الحياة السياسية حياة دينية مهدوا
للأمراء سبيل الاستئثار بالسلطة باسم الدين، والحكم بالهوى وبما تشتهيه نفوسهم
لا بما ينطبق على مصلحة الأمة والشرع، فإذا توهم أخونا الفاضل أن هذه الحياة لا
تكون حياة طيبة سعيدة إلا إذا انصبغت بصبغة الدين، فما رأيه في اليابانيين وهم
من الوثنيين.
استغرب الفاضل الهندي قولي أن العرب فاتهم أن يجاروا في وضع قواعد
الدولة وتأسيس أصول الحكومات ذات الصبغة الدستورية كالجمهورية والقنصلية
والحكومة المقيدة - أقرب الأمم جوارًا لهم وهم الرومان، واستعظم قولي بترك الدين
جانبًا والسياسة جانبًا، وبالغ في الاستعظام، حتى خيل للقارئ أني أدعو إلى نحلة
جديدة بعيدة عن الدين والصواب ، لا أجاب إليها ولو ناديت قومي إلى يوم الحساب
يؤيد هذا قوله بعد كلام طويل: فإن دعوتهم (يعني المسلمين) إلى دينهم الخالص
أنفع لمرضهم
…
إلخ الجملة التي تدل على مبلغ ظنه بي، وإني أرجو الله أن يغفر
له ولي ما دامت وجهة كلينا إلى الحق، وغرضنا محض النصيحة، وإنما التبس
على مناظري فهم المدار من كلامي فحمله على غير ما أردت، وعسى أن إيضاحي
له الآن، وتصريحي بأنه إنما كان دائرًا على النظام الأساسي للدولة، يقنع حضرته
بأني لم أرد بفصل السياسة عن الدين ترك أحكام الدين وتعاليمه، بل أريد أن
النظامات الأساسية للدول تابعة للمصلحة منوطة بالاجتهاد ، وليست هي جزءًا من
الدين لا ينفصل عنه ، وبيانًا للحقيقة التي يشهد بها الشرع والعقل ألخص هنا ما
كتبته في صدر الجزء الأول من أشهر مشاهير الإسلام عند الكلام على خلافة أبي
بكر رضى الله عنه، وأزيد عليه بعض الشيء إيضاحًا لما أبهم في هذه المسألة
الكبرى فأقول:
(إن وظيفة الرسل هي تبليغ الشرائع، ووضع أصول الدعوة وتقريرها على
وجه يتكفل بسعادة الناس ، ولما كان لابد بعد الرسول من بقاء هذه الشرائع في قومه
للحكم بها بين الناس أنيط بالضرورة بمن يخلفه في قومه فكانت وظيفته دنيوية
يتعلق بها تنفيذ أحكام الشريعة التي تتكفل بحفظ الأمن والراحة والحقوق ، ووظيفة
الرسول دينية يتعلق بها تبليغ الدين وتقرير أصول الشريعة؛ لهذا لم يعهد نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم قبل مفارقته الدنيا إلى الملأ الأعلى بالخلافة إلى أحد
سوى أنه استخلف أبا بكر رضي الله عنه بالصلاة التي هي ركن من أركان الدين
فرضيه بعد ذلك الصحابة الكرام رئيسًا للدنيا بدليل قول علي رضى الله عنه: (قد
ارتضاه رسول الله لديننا أفلا نرتضيه لدنيانا) وهذا صريح في أن الدولة غير الدين.
ومعلوم بالبداهة أن الشرائع سواء كانت دينية أو وضعية تحتاج إلى منفذ ووهذا
المنفذ هو الدولة فأول رئيس لهذه الدولة في الإسلام هو أبو بكر رضي الله عنه
وإنما كان أبو بكر رئيسًا للدولة بالضرورة؛ لأن الإسلام له شرائع يقتضي
تنفيذها ، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤسس دولة بل شرع شرعًا، وجمع
الناس على دين فلهم أن يختاروا في حماية ذلك الشرع وتنفيذه الوجه الذي يتكفل
بقيامه ويعزز جانب أهله، وليس هناك نص بعينه بَيَّن كيفية تأسيس الدولة، فهم إذا
أحسنوا في الاختيار التأسيس فلأنفسهم، وإذا أخطؤوا فعليها، والشرع لا يطالبهم
بحكومة جمهورية ولا مطلقة ولا مقيدة بل يطالبهم بالعمل بأحكامه وقصد العمل بتلك
الأحكام وصونها عن العبث والضياع، وهو الذي يطالبهم باختيار طرز الحكومة
التي تضمن بقاء العمل بالشرع، وأي حكومة أفضل للمسلمين، بل لكل البشر من
الحكومة النيابية التي يتكافل بها الشعب برمته على سلامة القانون أو الشرع.
هذه مقدمة، ومقدمة أخرى وهي أن الشرع ينقسم إلى قسمين، قسم يتعلق
بالدين وهو قسم العبادات، وقسم يتعلق بالدنيا وهو قسم المعاملات، فالقسم المتعلق
بالدين نصوصه قطعية لا اجتهاد فيها ، ويتلقاه الناس من الكتاب والسنة فمخالفه
يعاقب والعامل به يثاب.
والقسم المتعلق بالدنيا هو قسم المعاملات ويشتمل على أحكام الحقوق
والعقوبات، وفيها القصاص والحدود، فأحكام هذا القسم منها قطعي ومنها ما هو
موكول للاجتهاد، وهو الأكثر، والاجتهاد كما هو معلوم بالبداهة معناه وضع
الأحكام بإزاء الحوادث التي تتجدد بتجدد الزمان، وتتعدد بتعدد المصالح. فإذا
أجاز الشارع الاجتهاد في هذا القسم لاعتبار أنه دنيوي تتعلق به مصالح الأمة
الاجتماعية، فما معنى اعتبار حياة المسلمين السياسية التي تتعلق بها حاجات الدولة
والملك الدنيوية في بدء نشوء الدولة وسذاجتها حياة دينية لا يجوز فيها الاجتهاد
بتأسيس الدولة على أصول الدول العريقة في الملك.
ومقدمة ثالثة وهي أنه قد ثبت عند الأصوليين أن الأنبياء عليهم السلام
قد يخطئون في اجتهادهم ، والعرب في صدر الإسلام لما لم يكن لديهم تاريخ في
ترتيب الحكومات يرجعون إليه لم يحسنوا تأسيس الدولة على أصول الشورى
الثابتة، فلو فرضنا أنهم اجتهدوا وأخطأوا فهل في هذا ما يدعو إلى استكبار ذكر
هذا الخطأ، والحال أن لهم أسوة بالرسل عليهم السلام ولماذا استكبر حضرة
المناظر الفاضل قولي: إن العرب لم يحسنوا تأسيس الدولة والملك.
ومقدمة رابعة: إذا كانت حياة المسلمين السياسية حياة دينية ، والسياسة لا
تنفصل عن الدين ، ومعلوم بالضرورة أن الدين لا ينسب إليه نقص في بيان وجوه
المصالح المتعلقة بسعادة المسلمين، فما هو سبب الاضطراب الذي دخل على
الخلافة من الصدر الأول وجر على الأمة من الفتن والأرزاء ما يعلمه كل واقف
على التاريخ؟ أهو نقص الدين؟ أم جهل الصحابة بأحكامه التي ترتبط بها مصلحة
دولة المسلمين ، وتتوحد المشارب السياسية بين المؤمنين؟ وإذا لم يكن هذا ولا ذاك
فهل يبقى إلا التقصير بما ذكرنا.
هذه المقدمات تنتج - على ما أعتقد أنه الحق - أن السياسة غير الدين ،
وأن تأسيس الدولة منوط بالمصلحة التي تقتضيها حاجة المسلمين، وأن الصحابة -
رضوان الله عليهم - لم يتوصلوا إلى جمع كلمة الأمة السياسية كما جمع النبي صلى
الله عليه وسلم كلمتها الدينية، لأنه فاتهم تأسيس الدولة على أصول الحكم النيابي
الثابت الذي تتحد به مصالح الشعوب مهما افترقوا في المشارب والأحزاب، وكان
مبلغ اجتهادهم - رضوان الله عليهم - أن حاولوا جمع كلمة الأمة على إمارة
المؤمنين باسم الدين على أن الأمة لم تكن وقتئذ مفترقة في الدين بل في السياسة،
وإنما حصل هذا الافتراق لما رسخ في أذهان العامة من أن السياسة هي الدين، وأن
فلانًا أو فلانًا أحق دينًا بإمارة المؤمنين، والصحابة إنما أرادوا جمع كلمة الأمة باسم
الدين اعتقادًا منهم بأن الدين أنفذ إلى القلوب وأملك للضمائر، فهم على كل حال
مثابون مأجورون؛ لأنهم لم يريدوا للأمة إلا الخير، ولكن تعذر عليهم الوصول إلى
جمع كلمة المسلمين السياسية التي لا تجتمع إلا إذا كان النظام الأساسي لكل دولة في
كفالة الأمة بأسرها لا كفالة الأمير وحده، وإلى هذا أشرت في مقالتي الماضية
بقولي: إن العرب فاتهم أن يجاروا أقرب الأمم جوارًا لهم وهم الرومان في تأسيس
الحكومات ذات الصبغة الدستورية، ولم أشر إلى غير الرومان من الدول القديمة
ولا الحديثة كما اتهمني مناظري الفاضل، ذلك لأن الحكم النيابي الذي يعطي الأمة
حق المشاركة للحكومة في الرأي، وتقوم به الدول بالتكافل بين الأحزاب إنما هو
من وضع الرومان، ولم يعرف عن الفرس ولا الهنود وغيرهم. والدولة الرومانية
وإن كانت في أيام الفتح وظهور دولة الإسلام قد صارت إلى ما صارت إليه من
الضعف والهرم وفقدان أصول الشورى، إلا أن لحكوماتها تاريخًا معروفًا يرجع إليه،
لذا تأصلت في الغرب دون الشرق روح الشورى والحكم النيابي، فكانت تظهر
تارة وتختفي أخرى، حتى كانت الثورة الفرنساوية الشهيرة، ونسفت قواعد الحكم
المطلق من المملكة الفرنساوية وتبعتها بعد ذلك بقية الممالك الأوربية، وكان من
آثار الحكومات النيابية في أوربا ما لا يحتاج إلي بيان بعد أن شهد به العيان.
والخلفاء الراشدون أخذوا كثيرًا من أمور الدولة عن الأعاجم كالديوان ونحوه ،
فماذا يضر قولنا: إنهم لو أخذوا عن الرومان أصول الحكومة النيابية لكان أنفع
للمسلمين. أجل ، إن الله تعالى مدح في كتابه الكريم قومًا كان أمرهم شورى بينهم،
وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة فجنح الخلفاء الراشدون - رضوان الله
عليهم - إلى الاستشارة في بعض أمور الدولة عملاً بأمر الله، وذلك لمكانتهم من
التقوى والصلاح والعدل ، لكن هذا المبدأ الشوري السامي صدر عنهم بمحض
الإرادة وأدبًا مع الشارع، ولم يضعوه موضع المبدأ الأساسي العام، ويشيدوا عليه
بنيان الدولة بطريقة تشعرأن لكل فرد من أفراد الأمة حقًّا بمكاتفة الحكومة
ومشاركتها كما هو شأن الحكومات النيابية الصحيحة، بل اعتبروا الخليفة مصدر
كل شئون الدولة، وكل ما يتعلق بأمور الأمة السياسية والدينية منوط به وموكول
إليه، لذا لما مضى عصرهم الذي هو خير العصور الإسلامية قلب الخلفاء للمسلمين
ظهر المجن واستأثروا بكل مصالح الدولة ، واتخذوا اسم الإمامة والخلافة سلاحًا
يضربون به وجوه المسلمين واستعبدوا به الأمة أي استعباد لما أوجدوه في نفوس
الناس من الاعتقاد بأن الإمامة ركن من أركان الدين ، والإمام خليفة الله ورسوله
على المؤمنين، وبلغ غلوهم في الاستبداد والترفع عن عامة الأمة أن خطب عبد
الملك بن مروان (من الأمويين) يومًا خطبة قال في آخرها: (والله لا يأمرني أحد
بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه) . واحتجب الخلفاء العباسيون عن أنظار
الناس داخل القصور فكانوا في أواخر دولتهم وسائل للتبرك وآلات للتعظيم مع أنه
ليس لهم من الأمر شيء. وادعى الخلفاء الفاطميون في مصر الألوهية ، وأوجبوا
تعظيمهم على الناس تعظيم عبادة لا سيادة، ولما زالت سطوة الخلافة، وتقلص
ظلها عن الناس، وآل الملك إلى أهل العصبيات الجديدة من الملوك والسلاطين
وكانت الأمة رضخت للاستعباد واستنامت لعوامل الاستبداد؛ استمرأوا مرعى
السلطان المطلق على الأمة، وبسطوا عليها يد القوة والقهر حتى آنست لهذا العهد
بالضعف ، واستسلمت لحكم السلطة الاستبدادية، حتى ما تطيق الحرية وتأبى
التخلص من هذا الأسر، وهي ترى بعينها نتائج الحرية والعدل في الأمم الأخرى ،
وتشاهد تفاني الشعوب واستهلاكهم في سبيل التخلص من حبائل الاستبداد، ولا
ينبض لفرد من أفرادها عرق أو يتحرك منها ساكن، وإذا نادى منادٍ من المسلمين
بالإصلاح، ودعا داعٍ إلى قَدَّ قيود الأسر والانطلاق من سجن العبودية والقهر؛
عَدُّوه من المارقين وأقاموا في وجهه ألف سد باسم الدين حتى جعلوا الدين
مضغة في أفواه الغربيين، ووسيلة من وسائل الحجر على العقول ، والله يشهد
والملائكة والرسول أن الإسلام أدعى إلى الخير وأهدى إلى سعادة الأمم مما
يعتقدون. وإنما إلصاقهم كل شيء بالدين وتكييفهم للدين كما يريدون؛ جعلنا
نتخبط في ظلام هذه الحيرة التي أودت بنا إلى العدم دون كل الأمم ، وقد أشار إلى
هذا أخونا الهندي في مقالته بما يغنينا عن إطالة البحث والاسترسال في الآلام لا في
الكلام ، وحسبنا شاهدًا على ذلك ما وصل إليه المسلمون والإسلام ، والله يتولى
هدانا جميعًا وهو خير المرشدين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... (رفيق)
(المنار)
قراء المنار يعرفون رأيه في هذه المسائل التي تناظر فيها هذان الكاتبان
الغيوران على ملتهما وأمتهما إلا مسألة نصب الخليفة ، فإن المناظرة تشعر بأنه
أصل من أصول الدين وليس كذلك ، وإنما هو من الأحكام الشرعية العلمية
الاجتهادية ، والقرآن قد وضع أساس الشورى، وعمل بها النبي ليبني عليه
المسلمون هيكل حكومتهم ، وترك التفصيل لاجتهادهم. فالسياسة دينية من جهة
اجتهادية من جهة أخرى ، وسنوضح ذلك في مقال مخصوص يكون فصل الخطاب
إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
التربية بسفر البحر
شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
يوم 14 مايو سنة - 186
انتهينا من الطواف بالرأس ، ولكن ما أعظم ما بذلنا في سبيل ذلك من الجهد،
وما أشد ما عانينا من المشاق. فقد كانت الريح تزفزف ثلاثة أيام وثلاث ليال
زفزفة بلغت من الشدة إلى حد أن ساري سفينتنا الأكبر كان فيها يتنوّد تنوّد القصدة
من يبس الحشيش.
لم يكن يؤلمنا على ظهر السفينة سوى أيدي البحارين في ممارسة أعمالهم ،
وما كان أشدني إعجابًا في نفسي بسيرتهم في تلك الساعات التي قضيناها في مكافحة
البحر ومغالبة الخطر، فليست بسالة الملاح من قبيل بسالة الجندي، ولكنها تفضلها
في رأيي لأن الملاح بما له من الجرأة على الموجودات والفواعل الكونية يكافح
الموت مواجهة فلا يحول بينهما إلا سُمك لوح من الخشب ، وليس غرضه من
الكفاح إبادة نظرائه بل هو في مدافعة عن حياته يعمل لتنجيتهم من الهلاك وناهيك
بالبحر عدوًّا أوتي من العدد ما هو أشدها رهبة في العالم بأسره، فإنك ترى السفينة
على وهنها وكونها ليست إلا دولابًا من الخشب تطاردها الريح والبرد والبرق
وجبال من الموج ، فهي في الحقيقة تقاوم قوى كون من الأكوان برمتها.
ولا مشابهة أيضًا بين قدر الملاح وبين ما يفاخر به السفسطي من اجترائه
على معاندة القدر باستدلالاته الدقيقة اجتراءً باردًا خاليًا من العمل ، هيهات فإن قدر
الملاح هو ما يتجلى في عمله من قوة نفسه وهمتها فتراه مع استعانته بربه
لاستمساكه بدينه لا يعتمد بعد ذلك إلا على نفسه أعني على صحة بصره، وضبط
حركاته وقوة أعصابه فإن قهره عدوه سلم إليه ، ولكن هذا لا يكون إلا بعد أن يرى
آخر سلاح له قد تحطم.
تلك البسالة تكتسب بالتعلم، وهذه الثقة بالنفس تسري بالمعاشرة، يدلك على
ذلك أن (أميل) كان في أول عهده بالملاحة شديد الروع فما لبث أن ذهب عنه
روعه بالتأسي برفقائه؛ لأنه كان يرى من العار أن يرتجف فؤاده وتتزلزل قدماه
أمام هؤلاء الأبطال وهم ثابتون في مواطنهم. كانوا يشغلون حينًا بعد حين بإدارة
الممصات (الطلمبات) ومعالجة الحبال ، فلا شيء كالعمل البدني في تقوية القلب ،
فبطالة المسافرين هي التي عند أدنى هيعة تملأ قلوبهم بالمخاوف وأدمغتهم
بالخيالات، وأما الملاح فليس للخوف متسع في وقته.
من مزايا الملاحة أيضًا أن ما فيها من مكافحة الخطر ينمي في قلوب الملاحين
حب الحياة ، فمن ذا الذي كان يحسب أن الانتحار لا يكاد يكون معروفًا بينهم.
الضجر من الحياة من مميزات العصور الحديثة، وهو أخوفها عندي على
الشبان، وأشدها إيلامًا لنفسي؛ فإني أرى الأطفال يولدون غير مبالين بشيء
سائمين من كل شيء خامدي الإحساس ميتي القلوب، فكم من فتاة إذا انكشف لها
وهمها لأول مرة فيما كانت تعتقده واقعًا تمنت لو أنها ماتت قبل انكشافه. وكم من
فتى كسول لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره ولم يعامله الجد إلا معاملة الغلام
العارم يصيح قائلاً: (ما فائدة الحياة) وليس من غرضي هنا أن أبحث عن أسباب
هذه المصيبة الملمة بالنفوس والأخلاق ، وإنما غرضي أن أقول لكل هؤلاء
المتبرمين: (انظروا إلى الملاح؛ تجدوا أنه هو الذي عرف قيمة الحياة لأنه في
كل يوم يذود عنها أخطارًا حقيقية لغاية نافعة وبذلك صار أهلاً لأن يقدرها حق
قدرها) .
من أجل هذه الأسباب كلها أرى أن (أميل) الآن في ولاية معلمين حاذقين.
وأما (لولا) فإنها - والحق يقال - لم تُبدِ من البسالة شيئًا يذكر لأنها لبثت
مختبأة في إحدى زوايا حجرتها فكانت كالنعامة التي يؤكد العارفون بأخلاقها أنها
تتوهم أن غمر رأسها في الظلام منجاة لها من الخطر الملم بها، وذلك ما اضطر
هيلانة إلى أن تكون قدوة لها في الإقدام تسكينًا لروعها ، وكان هذا موجبًا للإعجاب
بها بحق
شجاعة النساء المحمودة
من الخطأ أن يتوهم متوهم أن لا فائدة في الشجاعة للنساء؛ فإنه إن كان يريد
بها الشجاعة الحربية فإني قليل الاعتداد بها في الرجال فأكون أقل اعتدادًا بها في
المرأة المترجلة، ولكن لا يعزب عن ذهنه أنه يوجد من ضروب الأقدار غير واحد
فإن النساء مستهدفات للمخاطر التي نحن عرضة لها ومضطرات لمغالبة ما نغالبه
من حوادث الكون الخارجي ، وقد يوجد من الأحوال ما تتوقف حياتهن فيها بل
وحياة أطفالهن على سكينتهن ورباطه جأشهن ، فقوة العزيمة وثبات الجنان هما من
الأخلاق اللازمة للمرأة لزومهما للرجل.
من المصائب أن تسوء تربية الفتيات إلى حد أن يتوهمن أن تكلف ضروب
الفزع القاتل عند كل مناسبة خصوصًا بحضرة الشبان مما يلفت الأنظار إليهن
فيقول من يراهن في هذه الحالة: إنهن يقصدن أن يظهرن في شكل الحمائم
المروعة، ويجمل أن يوعظن بأن الخوف لا حسن فيه مطلقًا، وأنه يجب عليهن
لأنفسهن إذا أحدق بهن الخطر أن يجتهدن في استشعار الاطمئنان والسكينة إن كن
يردن أن يصرن مثارًا للإعجاب والاستحسان. ولا صحة لما يعتقدنه على ما يظهر
من أن ثبات جنان المرأة يسيء خلقها، بل إني أجد جمالاً وشرفًا فائقين في تلك
الذات إذا كانت مع تجردها من القدرة على المهاجمة بل ومن قوة المدافعة، تقتحم
الخطر بقوة جأش تكافئ قوة الرجل.
أنا أعلم أن من الأوهام السخيفة اعتقاد أن جفاء الطبع من لوازم الشجاعة ،
ولكني أود لو أدري متى شوهد أن الشجاعة الحقيقية غيرت من رقة المرأة ورحمتها
وغير ذلك من فضائلها ، حاشاها من هذا، وأن الجبن والأثرة لهما اللذان يوجبان
قسوة القلب وغلظه.
سل أمًّا جبانًا أن تشهد عملاً جراحيًّا يعمل في جسم ولدها لتسليه وتسري من
ألمه تجبك بأنها شديدة الإحساس كثيرة التأثر، وبئس العذر عذرها ، فما مرادها إلا
الاحتماء من كلفة التسخير. ثم لا يتخيلنَّ أحد أن قوة العزيمة والسلطان على النفس
أو الشجاعة الحقيقية هي من الأخلاق التي لا ينتفع بها إلا في طائفتين من الأعمال
هما الحرب والملاحة، فإني أرى أن منفعتها تتعدى إلى كثير من الأمور الأخرى لأن
الرجل والمرأة مهددان كل يوم في القوم الذين يعيشان بينهم بآلاف من الأعداء
والمعاطب ، ولأن البحر لا يقصد إلا إزهاق أرواحنا وما أكثر ما يعرض لنا من
الأحوال الخطرة التي يقصد فيها نقص أعراضنا والذهاب بحرماتنا. اهـ
***
يوم 20 مايو سنة - 186
تشق سفينتنا (المونيتور) بجلالة خطرها عباب أمواج المحيط الهادي ،
وتتخذ لها فيه سبيلاً ، وقد عادت (لولا) بعد زوال الخطر إلى ما كانت عليه من
الابتهاج والسرور فهي تمرح وتعدو على ظهر السفينة مع ما لها من الحركات
حافظة لتوازنها ، وتبدو قدماها الصغيرتان في خببها من تحت حلتها كأنهما فأرتان.
اهـ
***
يوم 25 مايو سنة -186
رسونا غداة اليوم في جوان فرناندز لضبط مقياس الزمن (الكرونومتر) .
وهذه البقعة مركبة في الحقيقة من ثلاث جزر يتألف منها مجموع متلاصق الأجزاء ،
وتسمى الأولى منها (ماساتيرا) والثانية (ماسافويرا) والثالثة (إسلادولوبوس) ،
وهي صخرة تكاد تكون جرداء أكثر الثلاثة تطوحًا نحو الجنوب ، ويلقبها الملاحون
بجزيرة القيطس (عجل البحر) لأن القياطس تأوي إليها طلبًا للراحة والدفء.
الجزيرتان الأوليان ماستيرا ومسافويرا معشوشبتان شجراوان ، ومع اجتهاد
الحكومة التابعتان لها في تعميرهما لا تزال قفرًا لا يعمرهما إلا المعز الوحشية،
وهي كثيرة فيهما ، ويقال: إنها كانت تزيد عن ذلك لو لم تسلط عليها كلاب وحشية
مثلها تقاتلها وتفترسها. وليت شعري إلى أي حالة تصير هذه الكلاب إذا أبادت
جميع ما هنالك من المعز؟ لابد أن يأكل بعضها بعضًا.
وجزيرة جوان فرناندز تذكر بواقعة عظيمة جرت فيها وهي:
إنه في سنة 1704 رسا الملاح الإنكليزي دامبير على ماستيرا ، فألقى فيها
وكيله على القوارب المدعو إسكندر شالكرك إثر مشاجرة احتدمت بينهما ترك هذا
التعيس في هذه الجزيرة القفر غير مزود إياه إلا بشيء يسير من الغذاء والعدد ،
فعاش هناك أربع سنين وأربعة أشهر من صيده وصناعته ، وفي سنة 1709 اتفق
لاثنين من صيادي الثيران الوحشية أن نزلا بالجزيرة ، فعثرا على ذلك الرجل فرقَّا
لحاله وحملاه معهما إلى أوربا.
وكان شالكيرك قد قيد بعض مذكرات في طريقة عيشته على تلك الجزيرة
البلقع ، فاستعان بها دانيال روفويه فيما بعد على تأليف كتابه العجيب الذي عرفه
الناس جميعًا ، ولشد ما يبديه الآن (أميل) و (لولا) من الاهتمام بمطالعة وقائع
روبنس كروزويه. اهـ
***
يوم 5 يونية سنة - 186
يا بشرى هذه أرض هذه أرض.
بعد أن سافرنا تسعين يومًا دخلنا خليج قلَاّ وهو من أبهى مناظر الدنيا.
وأبصرنا جزيرة لورنز وترتفع حيالنا. أقول: ترتفع وأقل ما في هذا اللفظ أنه
حقيقة في استعماله هنا ، فقد نتج من حساب أحد العلماء أن سواحل سان لورنزو
كسواحل الشاطئ المجاور لها ارتفعت عن سطح البحر خمسًا وثمانين قدمًا إنكليزية
من عهد العصور التي يعرفها التاريخ.
صخور هذه الجزيرة يغمرها آلاف مؤلفة من الطيور، أخص بالذكر منها
طيرًا رأسه أسمر إلى السنجابية ، وبطنه أبيض ناصع ، وذنبه أسود. يقال: إنه
هو الذي يحصل منه أهل الجزيرة على السماد المعروف بالغوانو ، وهو ثروتهم
الكبرى لأن الذهب والفضة كادا ينضبان من معادن بلاد البيرو فهي تتسلى عن
الحرمان منها ببيع القذر ، ولا غرو فالذهب مُذهب ومُفسد والقذر مُوجد ومُخصب.
اهـ
***
يوم 6 يونيه سنة - 186
رسونا في ميناء سيودال دولوس ريس.
أخص ما أدهش (أميل) و (لولا) عند هبوطهما على البر كثرة العقبان
التي تسكن سواحل هذه الجهة ، فإنها تُرى عند كل خطوة في الشوارع، وعلى
سطوح المساكن ، وقد رأينا منها طائفة تبلغ الستين أو الثمانين نائمة وهى جاثمة
على جدار ورءوسها مختبئة تحت أجنحتها. ذلك أنها ليس من خلقها الجفلان ، ولا
تخشى من السكان شيئًا لأنهم يجلونها. هذه الطيور في غاية الشره ، وشرهها نفسه
نعمة من نعم الله على أهل تلك البلاد لأنه يساعد على حفظ الصحة في المدن،
وكان (لأميل) فيما أرى أخطاء غريبة في شأنها، فإنه لما سمع الزراية عليها ممن
درسوا أخلاقها في الكتب كان يتخيلها سلابة تسكن الهواء ، أكالة دنيئة للرمم ، فلم
يمض إلا ساعات قلائل حتى زال الوهم وتبين له خلاف ما كان يتوهمه أنها محتسبة ،
عيَّنها الخالق سبحانه في البلاد الحارة للقيام على تنظيف الطرق العامة ، فهي
تنقيها مما يلقى على الأبواب من القمام واللحوم الفاسدة، ومما يطرح فيها من
الجيف، ويدل ما تبديه هذه الطيور من الاطمئنان إلى الإنسان والثقة به حق الدلالة
على شعورها بنفعها له.
المسافة بين قلاو وليما فرسخان أسبانوليان ، وسنبلغها غدًا. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مدرسة الجمعية الخيريةفي المحلة الكبرى
الاحتفال بافتتاحها والغرض من تعليمها
ذكرنا في الجزء الخامس من هذه السنة خبر الاحتفال بتأسيس هذه المدرسة ،
وقد تم ولله الحمد بناؤها ، وأهلت بالتلامذة ، وانتظمت عقود الدروس فيها ،
واحتفل بافتتاحها رسميًّا أول أمس بحضور رئيس الجمعية الأستاذ الإمام وإبراهيم
بك الهلباوي من أعضاء مجلس إدارتها ، ومنشئ هذه المجلة من أعضاء الجمعية،
وحضور وجهاء المجلة وعمال الحكومة فيها. وبدئ الاحتفال بتلاوة أحد التلامذة
لآيات من الكتاب العزيز، ثم وقف الرئيس فبسمل وحمد الله تعالى وصلى وسلم على
رسوله ، وشكر للحاضرين عنايتهم بحضور الاحتفال الدالة على رغبتهم في نشر
العلم ومساعدة الجمعية الخيرية على عملها، وذكر الغرض من هذا التعليم الابتدائي
فقال ما خلاصته:
المدرسة تعلم المبتدئين القراءة والخط والحساب ومبادئ العربية ، وتربيهم
على الأعمال الدينية والأدبية تعدهم بذلك للعيشة الصالحة في أنفسهم ومع الناس
الذين يعيشون معهم، وهذه المبادئ لا يستغني عنها إنسان فقيرًا كان أو غنيًّا ،
فالفلاح يحتاج إلى مكاتبة بعض الناس، فإذا كتب بيده أو قرأ ما يكتب إليه حسب
ما يبيعه ويشتريه بنفسه فهو خير له من الاستعانة بغيره على ذلك، ولهذا التعليم
فائدة أعلى من الاستعانة على المعيشة، وهى ارتقاء العقل واستعداده لفهم المصلحة
وتمييزها عن المفسدة ، فإننا نرى كثيرًا من الناس يقع التنازع بينهم فيعتدي بعضهم
على بعض حتى تفنى ثروة الفريقين في التنازع، وإذا حاولت إقناعهم بأن هذا
ضار، وأن الخير والصواب في خلافه لا يسهل عليك ذلك لأنهم لا يفهمون. وأهم
ما تقصده الجمعية من التربية في مدارسها تنشئة المتعلمين على الفضائل كالصدق
والأمانة للذين عليهما مدار السعادة، ما نجحت أمة إلا بهما ولا هلكت إلا بفقدهما،
وقد حث الإسلام وجميع الأديان على هذين الخلقين ، ونهى عن الكذب والخيانة أشد
النهي، وإننا مع ذلك نرى الكذب والخيانة فاشيين في الناس إلى حد سلبت معه ثقة
الناس بعضهم ببعض، وفقد الثقة مؤذن بالخراب والدمار. هذا التعليم سلم يرتقي
عنه الغني إلى التعليم العالي، ويجعل الفقير على مقربة من الغني في الفكر والخلق،
فإما أن يجد فيلحقه، وإما أن يحسن الاستفادة منه بخدمته ومساعدته في أعماله
بالصدق والأمانة، فهذا التعليم لا يستغني عنه أحد حتى الحمّار والجمّال.
وتعلم المدرسة أيضًا مبادئ العلوم ولغة أجنبية لإعداد من يريد خدمة
الحكومة لها. وهذا ما لا ترغب فيه الجمعية نفسها، لكنه من حاجة الناس ، وإنما
رغبتها في الاستعانة به على تعلم الصناعة لمن يريدها، ولها الرجاء بهمة وجهاء
المحلة، وأهل الغيرة في أغنيائها في تأسيس قسم صناعي في هذه المدرسة ، فإن
المحلة بلدة كانت معروفة بالصناعة، وقد وعد صاحب السعادة أحمد باشا المنشاوي
بأنه مستعد لمساعدة الجمعية على إنشاء القسم الصناعي، فلم يبق إلا اهتمام الوجهاء
الحاضرين بالاكتتاب في جميع المركز، وجمع المال الذي يُمكن من إتمام العمل.
وقال: قد علمت بأن أهل المحلة الكبرى ثلاثون ألفًا أو يزيدون، وهي قاعدة
مركز عدده كثير ، وليس فيها إلا مدرسة للقبط ، وأخرى للأمريكان ، وإنني قد
رأيت في بعض سياحاتي في البلاد الأجنبية مدينة عدد سكانها ستة عشر ألف نسمة ،
وقد أنشأ الأهالي فيها مدرسة كلية تعلم فيها جميع العلوم العالية بمساعدة أهل
المركز الذي هي قاعدته أنفقوا عليها كذا من ملايين الفرنكات (نسيت العدد) على
أن فيها عدة مدارس ابتدائية، وفي كل قرية من قرى ذلك المركز مدرسة ابتدائية ،
فنرجو أن نبلغ من مجاراة أمثال هؤلاء الأحياء أن ترتقي مدرستنا هذه ويكون فيها
قسم صناعي ، وأن يكون لنا في القاهرة مدرسة كلية فإن القطر المصري كله لم
يبلغ من التقدم في العلم أن كانت فيه مدرسة كلية تعلم فيها العلوم العالية.
ثم دعي كاتب هذه السطور إلى أن يخطب فيهم فلبى وقام فقال - بعد الافتتاح
بذكر الله -: رغبتم إليّ في الكلام، بعدما سمعتم من حِكَم الأستاذ الأمام، وإن مثل
الذي يعرض ما عنده من ذلك في حضرة الأستاذ إذا هو أحسن كمثل ذلك الوزير
العجمي في الآستانة، إذ كانت له منطقة مرصعة بالجواهر يتمنطق بها فوق ثيابه
يتراءى أمام الناس ويفتخر ، فعلم السلطان بذلك فأمر بعض وزرائه ، ويقال إنه
مصطفى فاضل باشا المصري بأن يدعوه إلى داره ، ويريه ما يصغر منطقته في
عينه ، فدعاه إلى العشاء والسمر فرأى من الآنية والماعون والأثاث المرصعة
بالجواهر ما خطف بصره حتى قيل إنه رأى الشباشب (كلمة مصرية مفردها
شبشب وهو الكوث أو القفش في العربية) وسيور القبقاب في المرحاض مرصعة
بالجواهر ، فصار بعد ذلك يخفي منطقته تحت كسائه، ولكننا نقول شيئًا تلبية
للطلب:
جرت العادة بأن يكون الكلام في مقام الاحتفال بافتتاح مدرسة محصورًا في
مدح العلم والتعليم على أن العلم غني عن المدح باتفاق الناس على فضله، فلا يوجد
جاهل ينكر شرف العلم وشدة الحاجة إليه، ولكن الناس في أمتنا كانوا يعتقدون أن
العلم محصور في أمور مخصوصة يكفي أن يقوم بها بعض الناس فيسقط الطلب
عن الآخرين، وكان يصعب إقناع الجمهور بوجوب تعميم العلم، وبأنه يحتاج إليه
في كل شيء ، ولكن قد تغيرت الآن الأحوال في هذه البلاد، وصرنا نرى جميع
طبقات الناس حتى الطهاة (الطابخين) يقذفون أولادهم ذكرانًا وإناثًا في المدارس
لإحساسهم بأن التعليم لابد منه ، ولكن هذا الإحساس عند الأكثرين مبهم لا يعرفون
حقيقته ولا سببه ولا فائدة التعليم الحقيقية.
والسبب الحقيقي فيه التأثر بحال الأجانب الذين انتشروا في هذه البلاد ، فهو
سبب من الخارج لا من النفس ، فهذه البلاد الآن في طور الانقلاب من حال إلى
حال؛ إذ حدثت فيها مجارٍ جديدة للحياة، أو تيارات تجرف في طريقها الناس من
حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، ومنها تيار تعميم التعليم ، فالناس يرغبون
في تعليم أولادهم وهم لا يدرون ماذا يتعلمون، ولا ما هي فائدة التعلم، ولذلك لا
يميزون بين مدرسة وأخرى. وقد سألت بعض المتعلمين التعليم الثاني في المدرسة
الخديوية عن رأي التلامذة في فائدة التعليم مع العلم بأن أعمال الحكومة لا تفي
بجميع المتعلمين ، فقال أنهم يرون أن المتعلم يقدر على أعمال شريفة يستغني بها لا
يقدر عليها غيره. فقلت له: إن الذي يتعلم ليعيش بعلمه لا غرض له إلا نفسه،
فهو محترف كالصانع والزارع، وقد رأينا كثيرًا من العوام حصلوا من الثروة
بالزراعة والتجارة ما لم يقاربهم فيه متعلم كزعزوع بك وفلان وفلان. والذين
ارتقوا بالتعلم في مصر قليلون كفلان وفلان من القضاة وغيرهم ، ولم نجد فيهم من
حصل بعلمه ثروة كبيرة كأولئك العامة ، فالتعليم في مصر لم يرتق إلى درجة يسهل
معها تحصيل الثروة الواسعة ، على أن نفقات المتعلمين تكون أكثر ، فإذا طلبوا
الثروة ولم يجدوها كانوا أشقى من غيرهم في المعيشة. فقال: هذا صحيح. ثم
قلت له: ألا يوجد في إخوانك المتعلمين من يفكر في التوسل بالعلم إلى خدمة أمته
وبلاده خدمة عامة ، فيكون أفضل من النجار والحداد والفلاح الذين لا يعملون إلا
لأجل بطونهم، وإن كان عملهم الجزئي نافعًا للناس؟ فقال: يوجد قليل منهم يفكر
في إنشاء جريدة لخدمة الوطن. قلت: وماذا رأوا من خدمة الجرائد للناس؟ أي
شيء ضار كانت عليه الأمة فتحولت عنه بإرشاد الجرائد ، وأي شيء نافع كانت
منصرفة عنه فتوجهت إليه بحثها وترغيبها؟ وهل تعرف أنت للجريدة الفلانية
والجريدة الفلانية مذهبًا ورأيًا نافعًا تمتاز بالدعوة إليه لترقية البلاد؟ فقال: لا ،
وكان قصارى الحديث معه أنه ليس لأحد غاية مقصودة من التعلم وراء خدمة
الحكومة (أقول: ويلحق بها الطب والمحاماة عند نفر قليل) .
لهذا التعليم الناقص في مصر سيئات ومضار ، فإن الفتن والمعاصي الضارة
التي ألمت بالبلاد بواسطة الأجانب لم تنتشر فيها إلا بسعي هؤلاء المتعلمين، وقد
قال الأستاذ الأمام: إن من مقاصد المدارس إفادة المتعلمين الصدق والأمانة ، فسلوه
وسلوا غيره من العقلاء المختبرين: ألهم ثقة بصدق أكثر المتعلمين وأمانتهم؟
يجيبوك: لا لا. والسبب في عدم إفادة التعليم أمثال هذه الصفات هو أن القائمين
بأمر التعليم لا يقصدون ذلك ، فإن الحكومة إنما تقصد بمدارسها إيجاد خدم لها
يقدرون على أعمال مخصوصة ، وليس لها عناية بتربية الأرواح وترقية الأمة ،
هذا وإن مدارس الحكومة خير المدارس وأرقاها تعليمًا ونظامًا. وأما المدارس
الأهلية فالمقصود منها التجارة والكسب، وأكثر أصحابها لا يعرفون طريق الجمع
بين الإفادة المطلوبة والاستفادة، وقد دخلت مرة إحدى هذه المدارس وسألت أحد
المدرسين عن الكتب التي يقرأها في الدين - والدين كما لا يخفى أساس التهذيب -
فقال: إنني كنت بدأت بقراءة شيء من السيرة النبوية ، وبمناسبة ذكر المعراج
ذكرت لهم فرضية الصلاة، وأردت أن أذكر شيئًا من أحكامها، فرأيت على وجوه
التلامذة ما يدل على عدم الارتياح، فتركت درس الدين ، يعني أن هؤلاء لا يعلمون
إلا ما ترتاح إليه نفوس التلامذة وتتلذذ به ، أي يريدون أن يكون التلامذة هم نظار
المدارس.
ولا نعرف في البلاد مدارس غرضها تهذيب النفوس غير مدارس الجمعية
الخيرية، وذلك أن رئيس هذه الجمعية ومساعديه في إدارتها هم خيرة رجال هذه
البلاد معرفة وغيْرةً، وأقدرهم على إيجاد التعليم النافع والتربية الصحيحة، ولا
تنتج الأمم الضعيفة أمثالهم إلا بعد مخض الزمان لها في قرون طويلة، فيجب أن
تُغتنم فرصة وجودهم بمساعدة الجمعية على نشر التعليم والتربية على الوجه
الصحيح النافع، فإنه ما قصر بها إلا قلة المال. وقد أحسن وجهاء المحلة صنعًا
بتفويض أمر مدرستهم إلى الجمعية ، وإنني أدعو كل واحد من السامعين إلى
مساعدة هذه الجمعية بنفسه، وبدعوة غيره إلى ذلك ، فإن الأمور العامة لا تحيا
وتبلغ كمالها إلا بالدعوة، فينبغي لكل واحد أن يدعو نفسه ، وكل من يظن فيه
الخير إلى مساعدتها على قدر الاستطاعة من غير تفرقة بين غني وفقير ، فإن الله
تعالى يقول: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا} (الطلاق: 7) أي من كان رزقه ضيقًا فلينفق بقدر
حاله. والقليل من الكثير كثير، فلو أن كل واحد من أهالي القطر بذل للجمعية
قرشًا واحدًا في السنة لكان لها من ذلك ملايين تمكنها من تعميم التعليم في القطر.
وليعلم كل من يبذل شيئًا للجمعية ولو قليلاً أنه شريك في الأجر وفي الشرف
لمن بذل الكثير من حيث أن كل واحد بذل ما في وسعه. ومن حيث أن العمل العام
لم يقم ولا يقوم به واحد ، وإنما بالتعاون والمساعدة ، وباذل القليل ركن من أركان
التعاون.
ثم دعي إلى الخطابة إبراهيم بك الهلباوي فقام وذكر ملخص تاريخ هذه
الجمعية، وبَيَّن أنها جمعية عمل لا جمعية قول، وأنه أحس من نفسه بالعجز عن
الخطابة في احتفال مدرسة للجمعية على تمرنه على الخطابة.
قال: إنني دخلت في هذه الجمعية في أول تأسيسها منذ اثنتي عشرة سنة،
ولم أخطب فيها قط، وقد عرضت مناسبات للخطابة فكنت أستأذن مولانا الرئيس
بالتلويح ، ووكيل الجمعية وبعض أعضاء الإدارة بالتصريح ، فكانوا يضعون
أصابعهم على أفواههم إشارة إلى وجوب السكوت، وقد قامت في هذه المدة جمعيات
قولية كثيرة فذهب بها ودرس رسومها القول والخطابة على أنها لم تصادف من
المقاومة ما لقيت الجمعية الخيرية الإسلامية، وذكر أسماء هذه الجمعيات التي كانت
محترمة في أوقات كان فيها ذكر الجمعية الخيرية مخيفًا ومزدرى به، حتى كان
الداعي إلى مساعدتها لا يتوقع إلا الخيبة، وحتى إن بعض الباشوات هدد محصلها
مرة بالضرب بعد أن أهانه بالقول.
وقد ثبت رجالها مع هذه الصعوبات على عملهم ليثبتوا للناس أن الساعي
بالخير مع الصدق والإخلاص لابد أن يظفر بالنجاح إذا هو ثبت وصبر ووكذلك
كان. ونالت هذه الجمعية الثقة في نفوس الناس بعدما تولى رئاستها مولانا الرئيس
الحاضر ، حتى أحس كثير من العقلاء بوجوب كفالتها للمدارس الأهلية التي ينشئها
الأهالي لتربية أولادهم، وكان السابق لذلك وجهاء المنيا فقد أنشأوا مدرسة في بني
مزار وعهدوا بإدارتها إلى الجمعية رجاء بقائها وثباتها والانتفاع بتعليمها، وكذلك
فعلتم يا وجهاء أهل المحلة ، فإنكم طلبتم من الجمعية أن تدير لكم هذه المدرسة التي
أنشأتموها بأموالكم لمثل ذلك الغرض بمحض الإحساس بالثقة بالجمعية.
وبعدما أتم خطابه المفيد خُتم الاحتفال كما بدئ بتلاوة القرآن الكريم ، ولا صحة
لما ذكر في المؤيد أمس من أن بعض المدعوين تصدوا للخطابة فمنعهم مأمور المركز
…
إلخ. فنثني على وجهاء المحلة أطيب الثناء. ونرجو لهم كمال الارتقاء.
(إرجاء وعد)
وعدنا في الجزء الماضي بأن نكتب في هذا الجزء مقالاً في طريق تعلم النابتة
المصرية ، والروح الذي تحيا به الأمم، وقد حال دون ذلك ما عرض من الكلام في
احتفال مدرسة المحلة. وفي خطبتنا فيه شيء من الموضوع الموعود به، وسنعود
إليه في جزء آخر إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(كتاب الاقتصاد في الاعتقاد لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي)
أبو حامد من أكبر أئمة الأشاعرة في الكلام، وكتبه أسهل عبارة وأحسن بسطًا
وتقسيمًا وتحقيقًا من سائر الكتب، فكتابه الاقتصاد من أنفع كتب الكلام وأفيدها،
وفيه مباحث كثيرة لا توجد في كل كتب هذا العلم المعتبرة ، وينتقد عليه ما ينتقد
على جميع كتب الأشاعرة من الفلسفة التي لا معنى لها في عقائد الدين ، وإن كان
هو أبعد من غيره عن الجمود على المذهب لأنه خالف أصحابه الأشاعرة في بعض
المسائل ، وذلك كالبحث في صفات الله تعالى من حيث أنها زائدة على الذات ، فإن
الذي ساقه وأمثاله إلى ذلك الجدلَ مع المعتزلة، وما أغنى المسلمين عن المذهبين
والاكتفاء بالوقوف عند ما ورد به الشرع، وقطع به العقل من غير فلسفة فيه.
مثال هذا أن العقل والشرع علمانا أن الله تعالى خالق العالمين عالم بما خلق لا
يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فأي حاجة بنا مع هذا إلى أن
نبحث عن هذا العلم الإلهي هل هو عين الذات الإلهية أم غيرها، أم لا عينها ولا
غيرها ، هل عرفنا حقيقة ذات الله وحقيقة علم الله فننسب هذا إلى تلك ونحكم بأن
النسبة بينهما كذا؟
كلا، إنها فتنة ابتلي بها علماء المسلمين إلا من لزم طريقة السلف الصالح من
الصحابة والتابعين إلى عهد الأئمة الأربعة وقد نجا منها الإمام الغزالي بعدما تصوف.
وجملة القول: إن هذا الكتاب لا يستغني عنه المشتغل بتحصيل علم الكلام لأنه
من أوضح الكتب وأحسنها ، وهو يطلب من الشيخ مصطفى القباني الدمشقي
طابعه في مصر.
***
(كتاب حكمة المخلوقات للغزالي)
التفكر من أفضل العبادات بل هو عبادة النبيين والصديقين والعلماء
الراسخين ، والتفكر في حكم المخلوقات يرقي العقل بزيادة العلم والروح بقوة
الإيمان. وهذا الكتاب يفتح لقارئه أبواب التفكر في الخلق بما ينبهه إلى حكمها؛ فمنها
حكم الله في السموات والنيرات، ومنها حكمه في الأرض والبحار والماء
والهواء والنار، ومنها حكمه في خلق الإنسان وأنواع الحيوان، وحكمه في خلق
النبات، فرحم الله أبا حامد، ما أعرفه بطرق النفع وما أحسن بيانه. والكتاب يطلب
من الشيخ مصطفى القباني الذي تولى طبعه وتصحيحه جزاه الله خيرًا.
***
(كتاب أنباء نجباء الأبناء)
مؤلف هذا الكتاب أبو هاشم محمد بن محمد ظفر الصقلي المتوفى سنة 565 ،
وهو مبتدأ بنبذة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ونبذ أخرى في أخبار بعض
كبار الصحابة، ثم في أخبار بعض الملوك الكبراء وبعض الصالحين، وأخبار
الكتاب كلها تربية مفيدة وفكاهات مستطابة، وإنني قد فتحته الآن لأنقل نبذة من
غير اختيار فإذا أنا قد فتحته على هذه الحكاية قال:
(درتازين، لقرتي عين)
قال الشيخ رحمه الله ورضي عنه: بلغني أن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي
قال: كانت عنابة أم جعفر بن يحيى تزور أمي ، وكانت لبيبة من النساء حازمة
فصيحة برزة، يعجبني أن أجدها عند أمي فأستكثر من حديثها ، فقلت لها يومًا: يا أم
جعفر ، إن بعض الناس يفضل جعفر على الفضل، وبعضهم يفضل الفضل على
جعفر، فأخبريني. فقالت: ما زلنا نعرف الفضل للفضل. فقلت: إن أكثر الناس
على خلاف هذا ، فقالت: ها أنا أحدثك واقض أنت ، وذلك الذي أردت منها.
فقالت: كانا يومًا يلعبان في داري، فدخل أبوهما فدعا بالغذاء وأحضرهما ، فطعما
معه ، ثم آنسهما بحديثه، ثم قال لهما: أتلعبان بالشطرنج؟ فقال جعفر - وكان
أجرأهما -: نعم. قال: فهل لاعبت أخاك بها؟ قال جعفر: لا. قال: فالعبا بها
بين يدي لأرى لمن الغلب ، فقال جعفر: نعم. وكان الفضل أبصر منه بها ، فجيء
بالشطرنج فصفت بينهما ، وأقبل عليها جعفر وأعرض عنها الفضل ، فقال له
أبوه: ما لك لا تلاعب أخاك؟ فقال: لا أحب ذلك ، فقال جعفر: إنه يرى أنه أعلم
بها فيأنف من ملاعبتي، وأنا ألاعبه مخاطرة، فقال الفضل: لا أفعل، فقال أبوه:
لاعبه وأنا معك. فقال جعفر: رضيت ، وأبى الفضل واستعفى أباه فأعفاه. ثم
قالت لي: قد حدثتك فاقض. فقلت: قد قضيت للفضل بالفضل على أخيه، فقالت:
لو علمت أنك لا تحسن القضاء لما حكمتك ، أفلا ترى أن جعفرًا قد سقط أربع
سقطات تنزه الفضل عنهن. فسقط حين اعترف على نفسه بأنه يلعب بالشطرنج،
وكان أبوه صاحب جد. وسقط على التزام ملاعبة أخيه وإظهار الشهوة لغلبه
والتعرض لغضبه. وسقط في طلب المقامرة وإظهار الحرص على مال أخيه.
والرابعة قاصمة الظهر حين قال أبوه لأخيه: لاعبه وأنا معك، فقال أخوه: لا،
وقال هو: نعم ، فناصب صفًّا فيه أبوه وأخوه. فقلت: أحسنت والله، وإنك
لأقضى من الشعبي، ثم قلت لها: عزمت عليك أخبريني هل خفي مثل هذا على
جعفر وقد فطن له أخوه؟ فقالت: لولا العزمة لما أخبرتك. إن أباهما لما خرج
قلت للفضل خالية به: ما منعك من إدخال السرور على أبيك بملاعبة أخيك؟ فقال:
أمران؛ أحدهما لو أني لاعبته لغلبته فأخجلته، والثاني قول أبي: لاعبه وأنا
معك. فما يسرني أن يكون أبي معي على أخي. ثم خلوت بجعفر فقلت له: يسأل
أبوك عن اللعب بالشطرنج فيصمت أخوك وتعترف وأبوك صاحب جد. فقال:
سمعت أبي يقول: نعم لهو البال المكدود ، وقد علم ما نلقاه من كد التعلم والتأدب،
ولم آمن أن يكون بلغه أنَّا نلعب بها ولا أن يبادر فينكر ، فبادرت بالإقرار إشفاقًا
على نفسي وعليه. وقلت: إن كان توبيخ فديته من المواجهة به ، فقلت له: يا بني
فلمَ تقول: ألاعبه مخاطرة كأنك تقامر أخاك وتستكثر ماله؟ فقال: كلا ، ولكنه
يستحسن الدواة التي وهبها لي أمير المؤمنين ، فعرضتها عليه فأبى قبولها ،
وطمعت أن يلاعبني فأخاطره عليها وهو يغلبني فتطيب نفسه بأخذها. فقلت لها:
يا أماه ما كانت هذه الدواة؟ فقالت: إن جعفرًا دخل على أمير المؤمنين فرأى بين
يديه دواة من العقيق الأحمر محلاة بالياقوت الأزرق والأصفر ، فرآه ينظر إليها
فوهبها له. فقلت: إيه. فقالت: ثم قلت لجعفر: هبك اعتذرت بما سمعت، فما
عذرك من الرضا بمناصبة أبيك حين قال: لاعبه وأنا معك، فقلت أنت: نعم،
وقال هو: لا؟ قال: عرفت أنه غالبي ولو فتر لعبه لتغالبت له مع ما له من
الشرف والسرور بتحيز أبيه إليه. قال محمد بن عبد الرحمن: فقلت: بخ بخ ،
هذه والله السيادة. ثم قلت لها: يا أماه أكان منهما من بلغ الحلم؟ ! فقالت: يا بني
أين يذهب بك؟ أخبرك عن صبيين يلعبان فتقول: كان منهما من بلغ الحلم؟ لقد
كنا ننهى الصبي إذا بلغ العشر وحضر من يستحي منه أن يتبسم.
(المنار)
فليتأمل هذه التربية العالية الذين يتبجحون بلفظ التربية اليوم ، ويقولون: إن
المسلمين في أيام مدنيتهم لم يكن لهم عناية بالتربية، إذ لم نجد في كتبهم لهجًا بها
(أي بلفظها) فأين يوجد مثل هذه التربية عند معاصرينا اللاهجين بالكلمة الشريفة
وما اشتق منها.
_________