الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة السابعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} (الحج: 66) أحيانا بتلك الروح التي نفخها في
البلاد العربية، ثم أماتنا بالإعراض عن تلك الهداية السماوية، أحيانا بضع قرون
وأماتنا بضع قرون، فنسأله إتمام وعده المشار إليه في الآية الكريمة بأن يؤيدنا
بروح منه، وينزل علينا السكينة، ونصلي ونسلم على محمد عبده ورسوله رسول
الرحمة، ومعلم الحكمة، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بتأييد دعوته، ونصرة
حزبه.
وبعد ، فقد دخل المنار في العام السابع من حياته، وهو سن التمييز في الحياة
الشخصية، ولعل حياته تكون في هذا الطور خيرًا منها فيما قبله إن شاء الله تعالى،
فإذا كان في طفوليته قد نجا من الماكرين، وانتصر على المعارضين ، وقابل ما
صادفه من الوثبات بكل صبر وثبات. فالرجاء بفضل الله وعنايته أن يجعله في
طور التمييز أحسن هداية ورشدًا، وأقوى ناصرًا، وأكثر مددًا، وما بلغ المسلمون
من الضعف والتخاذل أن لا تعيش لهم صحيفة مفيدة ، وأن حاجتهم إليها لا بد مع
حاجتهم إلى الصحف السياسية، كيف وهم يرون الأمم التي هي دونهم في الاعتصام
بالدين، وفوقهم في الاشتغال بالدنيا، وقد سبقتهم في إنشاء الصحف الدينية. ففي
مصر وبيروت، كثير من هذه الصحف باللغة العربية فما بالك بسائر اللغات،
وهي لغات القوم الأصلية.
بل إن جميع الأمم والشعوب قد سبقوا المسلمين في جميع الأعمال الاجتماعية
التي ملاكها التعاون لا في الصحف الملية فقط.
والتعاون فرض في ديننا مأمور به في كتابنا، ولكن أين نحن من الكتاب
وفرائضه. فيا ليت الذين لا يعاونون العاملين منا للأمة لا يخذلونهم، ولا يعارضونهم
في أعمالهم ومشروعاتهم ، كلا إننا نحن أعداء أنفسنا، وإننا نحن مرض أمتنا،
وإننا نحن آفة نجاحنا، ولو غفل الذين يشكون من الأجانب لشكوا من قومهم، ولو
شعر الذين يشكون من أخوتهم لشكوا من أنفسهم.
أرأيت هذا المنار الذي أنشئ لخدمة الأمة، والدفاع عن الملة. إنه ليطالب
الذين ينكرون فائدته، أو يدعون مضرته بأن يبينوا له وجه الضر ليتقيه، ووجه النفع لينتحيه، وأنه لا يطالب الذين يقولون: إنه نافع، ولا الذين يقولون: إنه أنفع
ما يكتب للمسلمين في هذا العصر بأن يتبرعوا له بمال لتوسيع دائرته، أو لزيادة
مادته، وإنما يرضى منهم أداء حقه، وحقه على جميع قرائه أداء قيمة الاشتراك التي
هي قوام العمل، وأداته التي لا يوجد إلا بها، وحقه على الخواص منهم
الدعوة إليه والترغيب فيه عندما تسنح لهم الفرص، ويخاطبون من يتوسمون فيه
الاستشهاد.
لست أعني بالخواص الأغنياء ولا كبار الموظفين، فإن منهم من يملك
الألوف وعشرات الألوف من الفدادين أو الدنانير، وهو يماطل في دفع قيمة
الاشتراك عدة سنين، وإنما أعني بهم كل من له عقل يتفكر به في مصلحة الأمة،
وقلب يشعر بمعنى الشرف والفضيلة؛ أولئك هم خواص الأمم الذين لم تنجح أمة
إلا بكثرتهم فيها.
لا يكثر في الأمة العقلاء المفكرون إلا بالتعليم العالي، وأَنَّى لنا به، ولم
ترتق هذه البلاد إلى أن يكون فيها، مدرسة كلية، ولا يكثر في الأمة أهل الشمور
بالصرف حتى ترتقي التربية النفسية فيها وأَنَّى لنا بذلك ولم ترتق معارف الناس
إلى أن يفصلوا بين التعليم وبين التربية، فترى كبراءنا وأذكياءنا يخصون بلقب
التربية نفرًا من الناس تلقوا شيئًا من التعليم المصري الناقص، وأعلاهم تربية في
عرفهم مَنْ دخل في مدارس أوربا، وإن كان أكثرهم كما يعرف العارفون في
أخلاقهم وأعمالهم لا سيما الذين تعلموا في فرنسا منهم.
إن ارتقاء الفكر والشعور لا يعرف إلا بأثره في العمل للأمة؛ فإذا قلنا: إن
خواص الأمة هم العاملون لها المخلصون في خدمتها، الذين لا يشترون مصلحتهم
بمصلحتها فكم رجلا نُعد من هؤلاء فينا؟ هل نُعد منهم من يَرَى منتهى الشرف أن
يشتري رتبة يتزيا بحلتها، وأوسمة يتزين بحليتها؟
هل نعد منهم سماسرة الرتب والأوسمة الذين يأخذون عليها الأجور من أهل
الدثور، ثم يطرونهم بالأماديح قائلين: إنهم ما وصلوا إلى هذه الحلي والحلل، إلا
بإخلاصهم للبلاد ولسيد البلاد وممثل الأمة؟
هل نعد منهم الذين يقولون ويكتبون ما يراه غيرهم حسنًا، وإن رأوه قبيحًا،
ويدعون إلى ما يشعر غيرهم بفائدته أو لذته، وإن كانوا يشعرون بغائلته ومرارته؟
هؤلاء هم الذين ورد في أمثالهم {لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف:
179) وإنما يعقلون بقلوب من ينتفعون منهم {وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الأعراف: 179) وإنما يسمعون بآذان من باعوهم حواسهم ومشاعرهم، كما باعوهم
قلوبهم وأفكارهم {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ} (الأعراف: 179) لأنهم
خرجوا عن قانون فطرتهم بما أوتوه من الدهاء والأنعام لم تخرج عن الفطرة؛ ولأن
في الأنعام منافع للناس وهم ضارون للناس {أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف:
179) عما يحل بأمتهم وينزل بها من المصائب بإفسادهم لأخلاقها، ومحوهم لوجدان
الفضيلة والشرف الحقيقي منها، ويا حسرة على أمة تعد هؤلاء من خواصها ومن
مرشديها.
الخواص: هم أصحاب الأخلاق والعزائم، وهم الذين ينهضون بالأمم في كل
عمل نافع، فاللهم أكثر عددهم فينا، ووفقنا اللهم جميعًا للإحسان في العمل،
والتعاون على البر والتقوى والإخلاص لك في السر والنجوى، عسى أن نكون من
المفلحين.
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كلمة ثانية في أهل الذمة
هذه المقالة منقولة عن الجزء الثالث من تاريخ (أشهر مشاهير الإسلام) لرفيق
بك العظم، وهو تحت الطبع، وله كلمة أخرى في حسن معاملة الإسلام لأهل الذمة
في الجزء الثاني من الكتاب، وقد أورد هذه الكلمة بمناسبة كتاب من عمر بن
الخطاب إلى عمرو بن العاص يوصيه فيه بأهل العهد والذمة، ويذكره بوصية النبي
بهم عامة، وبالقبط خاصة، ومن ذلك حديث (من ظلم معاهدًا، أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة) .
هذا الكتاب يمثل لنا سيرة عمر بن الخطاب مع أهل الذمة، ويبين شدته على
العمال في منعهم عن إيذاء أهل الكتاب؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم
وعملاً بأمره، ومن تكون هذه سيرته مع أهل الذمة، أفيعقل أن يريد بهم أذى بقول
أو فعل؟ كلا، إن العقل والبديهة يرفضان نسبة أي قول أو فعل إليه يَشْتَمُّ منه
ولو رائحة الجفاء، فضلاً عن امتهان الذمي أو ظلمه.
وإذ علم هذا فالذي يدعو إلى العجب هو غفلة نقلة الأخبار، ورواتها عن
مقاصد عمر رضي الله عنه التي هي مقاصد الشرع الإسلامي الذي جاء للتأليف
بين القلوب وعدم استحيائهم، وعدم جمع المتناقضات من الأخبار، ونقلهم
الموضوعات منها بلا تمحيص لصحيحها من كاذبها، وبدون ترو في النافع والضار
منها.
كتبنا في الجزء الثاني فصلاً عن أهل الذمة نقلنا فيه رواية لابن الجوزي في أن
عمر تقدم إلى أحد عماله بختم رقاب أهل الذمة بالرصاص [1] ، وأبنا ثمة وجه
الضعف في هذا الخبر، وعجبنا من مثل ابن الجوزي كيف ينقل مثل ذلك الخبر، مع
أنه ليس في الدرجة التي تؤلم النفس؛ إذ لو صح لحمل على قصد سياسي أو إداري
على تعبير المتأخرين يراد به ضبط إحصاء أهل الجزية من الذميين لا امتهانهم
اقتداء بالدول الفاتحة قبل الإسلام، كالرومان والفرس الذين ثبت أنهم كانوا يضربون
على الرعية الجزية، وربما كانت هذه العادة متبعة عندهم في إحصاء أهل الجزية،
وقد زاد عجبنا أضعافًا الآن؛ إذ رأينا هذا الخبر في الخطط نقله صاحبها المقريزي
عن ابن عبد الحكم بزيادة أحر بها أن تكون محض افتراء على عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وإذ قلنا بوهن الرواية الأولى في جانب العقل، وهي لأحد حفاظ
الحديث فما أحرانا بتكذيب الرواية الثانية. وإليكها بنصها مع الزيادة التي أوردها
المقريزي قال:
كان عمرو بن العاص يبعث إلى عمر بالجزية بعد حبس ما كان يحتاج إليه،
وكانت فريضة مصر لحفر خلجها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها، وقطع
جزائرها مائة ألف وعشرين ألفًا (أي: من العمال) معهم الطور، والمساحي والأداة
يعتقبون ذلك لا يدعون ذلك صيفًا ولا شتًاء.
ثم كتب إليه عمر أن تختم في رقاب أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا
مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، ويركبوا على الأكف - جمع أكاف وهو البردعة -
عرضًا، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي، ولا يضربوا على
النساء، ولا على الولدان ولا يتشبهوا بالمسلمين.
فانظر أيها العاقل إلى هذا الكتاب، وقابله بكتاب عمر الذي يوصي فيه عمرو
بن العاص بأهل الذمة، هل تجد بينهما التئامًا بالوجهة؟ أم بينهما من البون البعيد ما
بين الحق والباطل، وقد أوضحنا في الجزء الثاني ضعف أمثال هذه الأخبار بما فيه
الكفاية، وإنما عدنا إليها الآن لأمر ظهر لنا بعد البحث والروية، وهو: أن واضعي
هذه الأخبار إنما ألجأهم لوضعها أمران:
الأمر الأول: أن الشئون الإدارية - وأهمها دواوين الخراج - كانت تناط في
أكثر الأوقات بأهل الذمة، بل استمرت تكتب بلغتهم أيضًا إلى عهد عبد الملك بن
مروان فكانوا يستطليون أحيانًا على رجال الدولة، وأهل المكانة وربما تحرج منهم
أحيانًا بعض الفقهاء، فوضعوا لهم أمثال تلك الأخبار تنقيصًا، لهم وحطًّا من
مكانتهم عند الخلفاء والملوك، وإبعادًا لهم عن مناصب الدولة، وإنما ألجأهم إلى نسبة
هذه الأخبار إلى عمر كونه كان رضي الله عنه قدوة فيما لم يرد بخصوصه شيء
في الشرع.
وهذا بلا ريب يعد من أولئك الوضاعين تناهيًا في ضعف الرأي، لا سيما إذا
علموا بأحوال أهل التقى والعدل من الخلفاء، ومعاملتهم الجميلة لأهل الذمة كعمر ابن
عبد العزيز، ومن حذا في ذلك حذوه من الخلفاء، وبالأخص الخلفاء من بني
العباس الذين كان أكثرهم متفقهًا في الدين، واقفًا على أخبار السلف كالمنصور
والمهدي والرشيد والمأمون وأمثالهم ممن أتى بعدهم؛ فكانوا يوسدون كثيرًا من شؤون
الدولة إلى أهل الذمة، ويقربونهم منهم لا سيما الأطباء والكتاب؛ بلا أدنى
تحرج في الدين، وأي حرج في الدين يمنع من محاسنة الذميين، وعدم إيذائهم
بمثل ذلك الامتهان المشين من كلام الوضاعين، ومن وقف على أخبار
ماسويه، وحنين بن إسحق وأضرابهما مع المأمون والمتوكل يعلم هذا. وكذلك كان
حالهم مع خلفاء الفاطميين في مصر؛ فكان القبط أرباب الكلمة العليا عند
الخلفاء، وكانوا - كما نقل المقريزي - يتولون دواوين الخراج، ويركبون البغال
الفارهة، ويتصرفون بأموال الدولة، بل بلغ بالخلفاء أن كانوا يعطون ألقاب التشريف
الخاصة بالعلماء والملوك - وهي الألقاب المضافة إلى الدين - للأطباء والكتبة من
النصارى واليهود وما نذكره من هؤلاء الشيخ موفق الدين ابن البورى الكاتب
النصراني، والحكيم موفق الدين بن المطران، وغيرهما ممن لم تحضرني أسماؤهم
الآن.
هذا هو السبب الأول ، وأما السبب الثاني لوضع تلك الأخبار فمنشؤه نزوع
بعض الأمراء إلى إجهاد الرعية من مسلمين وذميين بالضرائب، ونكث عهود هؤلاء
القديمة، ولما لم يروا في الشريعة مخرجًا لهم يتوصلون به إلى الاستبداد بالرعية،
وتحميل الذمي فوق ما حدده الشرع من الخراج والجزية كما حملوا المسلم - لا سيما
والأخبار النبوية آمرة بالوفاء معهم بالعهد، والمحافظة على ما لهم من حقوق الذمة
والجوار- وأنهم أهل ذمة الله وذمة رسوله - مهدوا لأغراضهم السبيل بالإيعاز إلى
بعض مقربيهم بوضع مثل ذلك الخبر مقدمة لاستباحة امتهانهم، ثم إجهادهم
بالضرائب يدلك عليه ما حدث في عهد المروانيين من الاجتراء على استزادة الخراج
والجزية في مصر وغيرها من غير حقها، كما ستراه مبسوطًا في محله إن شاء الله.
على أن سيرة الصحابة، ورجال الفتح في الصدر الأول مع أهل الذمة وحدها
كافية لدحض أمثال تلك الأقوال الواهية، حتى إنهم افتتحوا بحسن السيرة وجميل
المجاورة والمعاملة ما لا يقوى عليه الحسام، ويخرج عن طوق عددهم القليل بالنسبة
لبقية الأقوام [2] ، وحسبك من أدبهم مع أهل الذمة من الكتابيين أن ما روي عنهم من
أخبار الحروب مع الروم لم يستعملوا فيه لفظ الكافرين والمشركين ألبتة مع أنهم كانوا
يعبرون عن مجوس الفرس ووثنيي العرب - قبل الإسلام - بالمشركين، ويقولون
عن أولئك: الروم والقبط - مثلاً كانهزام الروم، وقاتل القبط ونحوه - يؤيد هذا كتب
التاريخ التي نقلت إلينا أخبار الفتح بالرواية كالطبري وأشباهه، ولو فرض وجود
شيء من تلك الألفاظ فيها فإنه نزر يسير، وهو من حشو النساخ، وأما كتب
المتأخرين أو المقلدين فإن أصحابها لم يراعوا فيها ما راعاه السلف من الأدب،
وحسن الأداء؛ لما وقر في نفوسهم من التعصب الذي حدث في القرون الوسطى، ولم
يكن له أثر في النفوس في صدر الإسلام؛ لعلم أهل ذلك الصدر أن الإسلام جاء
للتأليف والوئام، لا للتفريق بين الأقوام، وأن اختلاف الأديان لا يوجب الفرقة
والخصام لقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) ولأن القرآن نطق
بأن أهل الكتاب أقرب مودة للمؤمنين، وذلك في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم
مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة: 82) ولهذا سر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بانتصارهم على مجوس الفرس كما ذكرنا ذلك في الجزء الثاني في حكاية هرقل
مع الفرس، وهي القصة التي جاءت في قوله تعالى:{الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} (الروم
: 1-2) الآية، فلتراجع في محلها.
هذا ما أردنا بسطه ليكون فيه ذكرى للذاكرين، وإنما أطلنا الكلام في هذا الباب
إظهارًا لبراءة عمر رضي الله عنه مما عزي إليه، وتنبيها لأوُلي النُهى من
المسلمين إلى أن دينهم يأمر بمحاسنة الذميين، وينهى عن مخاشنة الكتابيين، وأن
مرض التعصب الذميم إنما طرأت أعراضه على الأمة تدريجًا سيما على عقب
الحروب الصليبية، وإن من آثار ذلك التعصب القبيح ما يلاقيه المسلمون لهذا العهد
من ضروب الإهانة، والعسف من الدول المسيحية التي حكمت بعض الممالك
الإسلامية، ولم تراع في حكم المسلمين حقوق الإنسانية ولا الدين بحجة الانتقام
للمسيحية.
والمسيحية والإسلام يبرآن إلى الله من ظلم البشر بعضهم لبعض ،
ولكن ما الحيلة والإنسان مهما ترقت مداركه، وسمى عقله فإنه لا يزال يتقاصر
دون الوصول إلى مرتبة العلم الكامل الذي يجعل البشر كلهم بالإضافة إلى وجوب
التعاون والاجتماع سواء، وإن اختلفوا في المذاهب والأهواء؛ إذ كل امرئ مسؤول
عن اعتقاده عند الله. وإنه سبحانه يبين آياته للناس ، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل
فعليها، ولكن إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. اهـ
_________
(1)
المراد بختم رقاب أهل الذمة بالرصاص هو: حمل طوق فيه علامة من الرصاص كما في بعض التواريخ.
(2)
قد كان المسلمون كلهم كعمر من حيث العمل بمراعاة أهل الذمة ، ولزوم تجنب إيذائهم بالقول أو الفعل خصوصًا عماله يدلك عليه ما ذكره في سراج الملوك في حكاية طويلة لا محل لذكرها هنا،وخلاصتها أن عمير بن سعد عامل عمر على حمص وفد عليه مرة فسأله عن أشياء ، ثم قال له: عد إلى عملك. فقال عمير: أنشدك الله ألا تردني إلى عملي فإني لم أسلم منه حتى قلت لذمي: أخزاك الله، ولقد خشيت أن يخصمني له محمد صلى الله عليه وسلم ولقد سمعته يقول:(أنا حجيج المظلوم فمن حاججته حججته) ولكن ائذن لي إلى أهلي. فأذن له فأتى أهله
…
إلى آخر الحكاية فإذا كان مثل عمير بن سعد يستعفي من عمله لكلمة قالها لذمي وخاف أن يخصمه رسول الله عليها لأنه قال: (من ظلم ذميًّا فأنا خصمه يوم القيامة) فهل يسوغ العقل أن يؤذي عمر وعماله الذميين بمثل جز النواصي والركوب على الأكف ونحو ذلك من أنواع الإيذاء الذي لا شيء بالنسبة إليه قول عمير للذمي: أخزاك الله. فاللهم إنا نبرأ إليك مما كتبه الوضاعون، وأخذ به الفقهاء على غير روية ولا تحكيم للعقل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
شبهات النصارى وحجج المسلمين
سوريا والإسلام
سوريا في حاجة شديدة إلى اتفاق عناصرها لا سيما المسلمون والنصارى ، فإذا
لم يتفقوا فلا عمران في سوريا ولا حياة. المسلم في سوريا محتاج إلى مسالمة
النصراني ، وربما كان هذا أحوج منه إلى هذه المسالمة، النصارى في سوريا
أجدر من المسلمين بالسعي في الوفاق والمسالمة؛ لأنهم سبقوهم إلى العلم، فكان يجب
أن يسبقوهم بإحساس حاجة بعضهم إلى بعض، ولأن الحاجة إذا لم تكن متساوية
في الفريقين فالأضعف يكون هو الأحوج كما أشرنا إليه آنفًا، وهذا ما آنسته من
أكثر فضلاء النصارى الذين ذاكرتهم في المسائل الاجتماعية.
نرى عقلاء المسلمين وطلاب الإصلاح فيهم يكتبون في صحفهم ومؤلفاتهم ما
يقنع المسلمين بأن دينهم يرشدهم إلى محاسنة أهل الكتاب ومسالمتهم ، ويفرض
عليهم مساواتهم في الحقوق ، ويحرم عليهم إيذاءهم ، ويخص النصارى بأنهم أقرب
مودة إلى المسلمين من غيرهم ، وبأن مصلحة البلاد تقضي مع ذلك باتفاقهم في
الأعمال الدنيوية، وتعاونهم في الكسب إلى غير ذلك من الإرشاد ، وبينا نحن نطبع
تاريخ رفيق بك العظم - وفيه ما رأيت (في النبذة السابقة) من الكلام الحسن في أهل
الذمة - إذا نحن بجريدة (المناظر) ترد علينا بمقالات غريبة عن موضوعها عنوانها
(سوريا والإسلام) ينفث فيها صاحبها من سموم التعصب الأعمى، والقدح في
الإسلام والمسلمين ما يحول دون التأليف والتوفيق ، ويدفع في صدور طالبي
الإصلاح فيردهم على أعقابهم.
قلنا: إن هذه المقالات غريبة عن موضوع (المناظر) فإن هذه الجريدة قد
سبقت جميع الجرائد العربية في العناية بالدعوة إلى الوطنية الصحيحة النافعة ،
وترك التعصب الذميم الذي يلقي الشقاق بين أهل البلاد حتى يحل بها الدمار وتكون
طعمة للأغيار، وقد عجبنا من قبوله لهذه المقالات التي تخالف خطته الحسنة.
ما راعى الكاتب المصلحة ، ولا صدق التاريخ، ولكنه اقتبس جذوة من جذى
دعاة الحروب الصليبية فألقاها في الأمة التي صوَّح التعصب نجمها وشجرها
فصيره هشيمًا ، وناهيك بما تفعل النار بالهشيم.
* * *
(1)
كلمة جديدة
جاء الكاتب بملخص من سيرة الإسلام وسريرته في (كلمة جديدة) له لا
يعرفها الإسلام ولا المسلمون. لا يعرفها القرآن ولا السنة الصحيحة. لا يعرفها
التاريخ ولا الفقه الإسلامي ، ولكن يوشك أن يكون عرفها أو ادعاها أو مثلها بطرس
الراهب، أو أعضاء محكمة التفتيش، أو قسوس أسبانيا في القرن السادس عشر ، وقد
أنصف الكاتب إذ اعترف بأن كلمته في الإسلام جديدة!
نعم إنها جديدة لم يقل بها قبله أحد فيما نعرف ، ولو أردنا أن نبرئ الإسلام
مما رماه به الكاتب - وهو بريء منه - ونبرئ التاريخ مما أسنده إليه بغير رضاه ولا
معرفته؛ لما بقي من تلك المقالات الطويلة إلا رأي الكاتب. فملخص
تلك المقالات أن الكاتب يرى أو يحب أن يرى قومه أن الإسلام في طبيعته ،
والمسلمين خاصتهم وعامتهم منابع للتعصب كذلك كانوا في ماضيهم ، وكذلك هم في
حاضرهم ، وكذلك يكونون في مستقبلهم فلا يطمعن المسيحيون في وفاقهم والاتحاد
معهم على ترقية سوريا أو غيرها ولكن ماذا يعملون بالمسلمين؟
للكاتب أن يرى ولغيره أن يقبل أو يرفض ، ونحن لا يهمنا إلا أن نبين
الحق وندعوا إلى الخير والوفاق ما استطعنا، ولا نسمح بكثير من صحائف المنار للرد
عليه، بل نكتفي بالإشارة فنقول:
* * *
(2)
لماذا ظهر الدين الإسلامي؟
مهد لجواب هذا السؤال تمهيدًا من التاريخ خالف فيه مؤرخي الأمم كلها
صور بتمهيده الأمم التي أظلها الإسلام بجناحيه في أول ظهوره بصور بهية سنيعة
انتهت إليها الحضارة والمدنية في سوريا ومصر، ولكن جميع المؤرخين يصورونها
بصورة شنيعة قبيحة ، لا سنيعة ولا مليحة ، ويقول المتعصبون منهم على الإسلام:
إنه لولا ذلك الفساد في الأخلاق والعقائد والأعمال ، ولولا ذلك الاستبداد في الأحكام
والاستعباد للأقوام ، ولولا تلاشي العلم والمدنية في مصر وفارس والشام لما
نجحت في هذه الممالك دعوة الإسلام ، ولما تيسر لتلك الأمة الأمية أن تسود في
بضع سنين على جميع أمم القوة والمدنية.
ونحن نقول لهؤلاء: نعم إن الإسلام لم ينتصر إلا لأنه الحق قذف به على
الأباطيل، ونور الهدى المشرق في ظلمات الأضاليل.
ونقول لكاتبنا ومؤرخنا الجديد: إذا كان المسلمون على بداوتهم وبعدهم عن
العلوم والمعارف والحق والعدالة (بزعمك) قد انتصروا (على التمدن الفينيقي
ينشئ المستعمرات على الشطوط الأفريقية، والتمدن المصري يفغر فاه ليبتلع
سورية) واصطادوا (النسر الروماني يظلل بجناحيه القارة الأوربية والقسم الأعظم
من الأسيوية) فلا شك أن انتصارهم هذا أعجوبة سماوية قد حدثت بمحض
العناية الإلهية، ويقول الكاتب: إن انتشار النصرانية في بلاد العرب كان السبب
الوحيد لتغير حالة البدو وطلبهم المحافظة على حريتهم واستقلالهم ، فالإسلام لم
يظهر إلا بسبب المبادئ النصرانية.
ونقول له: إن حوادث الزمان التي أعدت العرب لظهور دين المدنية
والعلم فيها - على أميتها - كثيرة ، فإذا كان منها خوفهم من النصارى المعتدين على
استقلالهم كما قال؛ فلا يصح أن تجعل النصرانية هي السبب الوحيد لظهور
الإسلام ، ولا يقول ذلك إلا الغالي في التعصب والتحمس الديني، وإن للحرية نشوة
كنشوة الخمر، وطغيانًا كطغيان الغنى ، وإنها لأعظم ثروة وأكبر لذة. فللمتمتع بها
أن يقول ويكتب ما يلذ له ويطيب.
* * *
(3)
النبي العربي
ذكر الكاتب ههنا ملخصًا لتاريخ النبي عليه الصلاة والسلام فقال: إنه (ولد
بين سنة 570 و578 للمسيح) والصواب أنه ولد في نيسان (أبريل) سنة 571.
وقال: إن أباه مات بعد ولادته بشهر. والصواب أنه مات قبل ولادته. وقال: إن
عمه أبا طالب سافر به وهو ابن اثنتي عشرة سنة. والصواب أنه كان ابن تسع
سنين. وقال: إنه بعد ذلك كان يسافر إلى الشام من وقت الى آخر. والصواب أنه
ما سافر بعد ذلك إلا مرة واحدة مع ميسرة غلام خديجة. وقال: إنه تزوج خديجة (سنة 595) حين بلغ العشرين. والصواب أنه تزوج بها وله خمس وعشرون سنة
وشهران وأيامًا قيل: عشرة ، وقيل: خمسة عشر. وكل هذه الأغلاط في سطور
لا تُكَوّن صفحة واحدة من المنار. ومن الاختصار الذي أشرنا إليه أن لا نستقصي
أمثال هذه الأغلاط التاريخية ، وإنما نعنى بالآراء والنتائج الجوهرية ، ومنها في
هذه النبذة إشارة الكاتب إلى أن ما جاء في القرآن من الكلام في المسيح، وإثبات أن
مريم ولدت بشرًا لا إلهًا قد أخذه النبي من النساطرة إذ عرج به عمه على ديرهم في
سفره به إلى الشام ، وقد علم القارئ أنه كان يومئذ في التاسعة من عمره ، فلا
عجب عند كاتبنا أن يحفظ ابن تسع بعض كلام الرهبان، ويسره في نفسه زيادة عن
ثلاثين سنة لا ينطق به في صباه ولا في شبابه، ثم يبني عليه دينًا عظيمًا!! إن
هذا الاستدلال يشبه ما قاله بعض الظرفاء من كتاب المحاكم في قصيدة نظمها شاعر
بليغ: إنه سرق قصيدته مني؛ لأنه جاء فيها:
سليل بني الزهرا ولله نسخة
…
لقد قوبلت بالأصل في اللفظ والفحوى
قال: فإننا نكتب على ما نبيضه من الصحف أنه قوبل بالأصل! ! . أو يشبه قول
بعض ملاحدة أوربا: إن مواعظ الإنجيل الحسنة مأخوذة من حكم كونفشيوس
الصيني، وبعض فلاسفة اليونان، وأورد أمثلة في ذلك منها: الأمر بأن يعامل
المرء الناس بما يحب أن يعاملوه به ، فإنها مأثورة عن كونفشيوس ، ومن الخطأ
العظيم قول الكاتب: إن الإسلام ثبت في البادية بالسيف ، وإن النبي أجبر اليهود
والنصارى على الإسلام. كيف والله تعالى يقول فيه: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) ويقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) وأما الحرب فقد
كانت بعد قوة الإسلام وانتشاره بالدعوة لمدافعة المعتدين على أهله، والمهددين
لدعوته ، وسنبين هذا بمقال مسهب في فرصة أخرى.
* * *
(4)
أمؤسس شريعة أم مؤسس مملكة؟
قال الكاتب في جملته الرابعة التي رأيت عنوانها: (لقد صور لنا التاريخ
محمدًا نبيًّا ومؤسس شريعة؛ أما العقل فيصوره سلطانًا ومؤسس مملكة؛ لأنه لا يرى
فيه غير صورة مؤسسي الدول والممالك ، وليس صورة بوذه وكونفشيوس والمسيح، التاريخ يرى وضع الإسلامية لأجل هداية قبائل العرب وردهم عن الوثنية، أما
العقل فسيرى أنه أبقاها على ما كانت عليه في زمن الجاهلية) نعوذ بالله من مكابرة
الحس.
ثم استدل على أن الإسلامية ليست بملة جديدة ولا شريعة وبأن العقل - أي:
عقله وحده - يحكم بأن التاريخ كاذب ، وبأن محمدًا أخذ التوحيد عن النساطرة ،
وأضاف إليه كثيرًا من التقاليد والعوائد النصرانية واليهودية! وقال: إنه إذا تجرد
عن كل غاية - أي: إلا غاية التعصب الذي يعمي ويصم - فإنه يحكم بأن تصوير
العقل - أي: عقله - هو الحقيقي دون تصوير التاريخ. ولخص الإسلام كله
بالتوحيد. وقال: إنه عن النساطرة ، وكذلك إنكار ألوهية المسيح ، وتعيين أوقات
الصلوات الخمس! ! وبالختان والغسل قبل الصلاة ، وقال: إنهما عن اليهود ،
وبتعدد الزوجات وقال: إنه عن العرب! ! أي: فلم يبق في الإسلام شيء من
الإسلام! ! يا أرض اشهدي ، ويا سماء شاهدي هذا الكاتب البريء من كل غاية
الذي يعيب التعصب على المسلمين، فيسمي الضياء ظلامًا، والنهار ليلاً لأن الشمس
طلعت عليهم فغمرهم ضياؤها.
ثم قال: ولو أن غاية محمد دينية فقط - لو أنها سامية كغايات جميع مؤسسي
الأديان لوضع التعاليم التي قام يبثها ويبشر بها بالسيف على أسس الإخاء والحب
والحرية والمساواة ، ولما كان عوَّل قبل وفاته على الزحف إلى سوريا. ثم زعم أن
الغاية سياسية ، وهي حب الرئاسة والسلطة ، وتفيهق في ذلك بما أملاه عليه
إحساس التساهل والبراءة من كل غاية! !
أظن أن الذين يكتبون الينا دائمًا بوجوب استقصاء شبهات النصارى المصوبة
إلى الإسلام من كل صوب لا يسمحون لي بأن أبين خطأ كل كلمة من هذا الكلام؛
لأنه ليس من قبيل الشبهات وإنما هو على حد: الشمس مظلمة ، والسماء تحتنا ،
والأرض فوقنا. لكنني أستأذنهم بأن أسأل الكاتب المنصف: لماذا لم يذكر في
مؤسسي الشرائع موسى مع أن شريعته هي شريعة المسيح الذي يعبده ، وفيها: قال
المسيح كما تروى أناجيله: (ما جئت لأنقض الناموس) وهذا الناموس هو بعينه
الذي يأمر بإفناء جميع الذكور من المحاربين ، واغتنام النساء والأولاد من أهل
المدن البعيدة ، ويأمر بإبادة الشعوب القريبة كبارًا وصغارًا رجالاً ونساءً كما في
سفر تثنية الاشتراع من توراتهم (20: 10 - 16) فهل ينكر التوراة وموسى
لأجل الطعن بمحمد؟ وإذا هو فعل هذا فمن أين يأتي بشبهة على ألوهية المسيح أو
على نبوته ، والعقل الذي يحكمه لا يتصور أن يكون بشرًا إلهًا خالقًا لمن كانوا قبل
ولادته ولمن يكونون بعد موته! ! فحجته إنما تقوم على صحة دين بوذه فقط.
إن مسألة الطعن في الإسلام لمشروعية الجهاد فيه مسألة سياسية ، وقد بينا في
المنار غير مرة أن الجهاد في الإسلام ما شرع إلا للمدافعة عن الحق وأهله وتأمين
الدعوة وحرية الاعتقاد. وقد نشرت جريدة المناظر الغراء في ذلك ما كتبه إمامنا
الحكيم في مقالات (الإسلام والنصرانية) ولكن شره الكاتب على الطعن في الإسلام
ينسيه ما يقرأ ، أو يحمله على رفضه والاكتفاء بما يصوره له تعصبه فقط. ولولا
السياسة لما أكثروا من ذم الإسلام بالجهاد ، وكتابهم التوراة يحكم بما تقدم آنفًا،
وتؤيد ذلك أناجيلهم بروايتها عن المسيح أنه قال: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا
على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا) (متى 10-34) وقال: (أما أعدائي
الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) (لوقا 19-
27) وهو صريح في أن المسيح طالب ملك ، وأنه يبيح دم من لا يقبلون ملكه
عليهم ، ثم إن تاريخهم ملطخ بالدماء لأجل الإكراه على الدين. وآية الجهاد في
القرآن هي: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (الحج: 39) إلخ ، ولعلنا نفي
بوعدنا بتفصيل القول في تخطئة قول الذين يدعون أن الإسلام قام بالسيف ، وأن
الجهاد فيه مطلوب لذاته.
ثم انتقل من الاستدلال بالوهم والتخيل إلى الاستدلال بشيء له أصل في
التاريخ ، ولكنه لا يدل على ما استدل به عليه. استدل على كون غاية محمد صلى
الله عليه وسلم سياسية بتنازع الصحابة على الخلافة ، ويصح لنا أن نحتج بهذا على
نقيض زعمه ، وهو أنه لو كان الغرض من الإسلام تأسيس الملك لوضع المؤسس
قاعدة للحكومة ، وجعل الملك في أسباطه وأبنائهم ، ولكنه فوض ذلك إلى الأمة بعد
بيان الأصول التي لا يضل متبعها ما اتبعها كقاعدة (الشورى) ومنع الخروج على
الأمير.
ولو أوصى بالملك لذريته لما نازعهم أحد. وأمر الملك دنيوي مبني على
القوة والعصبية. ولما اتسعت فتوحات الإسلام ، ودخل الناس في الدين أفواجًا أمكن
لمثل معاوية أن يتخذ لنفسه عصبية في الشام ، ورأى أنه أهل لهذه السلطة فتصدى
لها ، وكان من الواجب على أمير المؤمنين أن يقاومه ويحاربه عند عدم الخضوع؛
لئلا تتفرق الكلمة ، فهل يقول عاقل بأن طمع معاوية في السلطة والملك يكون دليلاً
على أن محمدًا عليه الصلاة والسلام كان طالب ملك ، وهو الذي كان يعيش
عيشة المساكين ، ويفيض بجميع ما يملك على الناس ، ويقيد من نفسه (أي: يمكن
الناس من القصاص منه) ولا ينتقم لها إلخ إلخ؟ ؟
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تأييد علماء الآفاق للفتوى
بحل طعام الكتابي ولباسه
نشرنا في الجزء الرابع والعشرين من السنة الماضية مقالين في ذلك لعالمين
من علماء المغرب الأدنى (تونس) ، والمغرب الأقصى (مراكش) ، وذكرنا في مقدمتها أننا رأينا في الجرائد الهندية مقالات في الموضوع، وعلمنا أن بعض القراء يودون لو يعرب شيء منها للمنار، ولكننا نعتذر لهم بأن الأكثرين قد اكتفوا بما كتبناه في المسألة وأهل المشرق الهند وغيرها كأهل المغرب مقتنعون بما قلناه، ومؤيدون له ولكننا نذكر المقدمة الوجيزة التي افتتحت الكلام بها في الموضوع جريدة المسلمين في (عليكده) منبع الحياة العلمية، وموطن النهضة الإسلامية في الهند ، فقد جاء في العدد الصادر من تلك الجريدة في 8 فبراير سنة 1904م ما تعريبه:
(هل ولد السيد أحمد خان ثانية في مصر، وظهرت جريدته (تهذيب الأخلاق)
بشكل المنار؟)
إن الله وهب للمرحوم السيد أحمد خان طبعًا سليمًا، ودماغًا عجيبًا فبينا العلماء
الأعلام، والفقهاء الكرام يشتغلون عامة بوسائل التقليد، وطرقه، وينهمكون في
البحث بعبارات أمثالهم كان السيد يبحث في أصول الدين، ومقاصده بحث المجتهد
المحقق، وانبرى بهمة (أسدية) قوية لإظهار الإسلام بصورته الأصلية الأولى
بنزع لباس التقليد عنه وإزالة شوائبه منه؛ إذ كان شيوخ الملة المقيدين بقيود
التعصبات والأوهام قد جعلوا أحكام الحنيفية السمحة البريئة من الحرج في غاية
الضيق والشدة، وحكموا فيها الرسوم والعادات فجعلوها مذهبًا، وشريعة.
عنى السيد بتحقيق العقائد والأحكام، وبيان الحق، ولم يخف في مخالفة
الجمهور لومة لائم ففصل بين العادة والعبادة، وبين الرسوم الموضوعة والأحكام
المشروعة؛ ليخرج المسلمين من تلك الأوهام، ويعود بهم إلى أصل الإسلام، ولما
أنشأ يطبع تحقيقاته، وينشرها علت الجلبة والضوضاء، وصاح مع العامة العلماء
والفقهاء: قد كفر قد كفر.
وطلبوا من الحرمين الشريفين الفتوى بتكفير السيد، والغالب أنه لم يكن في ذلك
الوقت أحد من المسلمين في الهند إلا وهو ينظر إلى أفكار السيد وتصوراته بعين
الحيرة والتعجب.
لعل أكثر الناس يتذكرون ذلك الزمان الذي أجاز السيد فيه لباس الإنكليز،
وأباح الأكل معهم، وقال: إن اللباس ليس من الأمور الدينية، بل من الرسوم
والعادات، ولم يحكم الشرع بالتزام زي يختص به المسلمون، وأما الأكل فهو حل
بنص الآية القرآنية ، ويتذكرون كيف هب العلماء للرد عليه، واستدلوا بحديث:
(من تشبه بقوم فهو منهم) ، وكفروا السيد، ولكن الأقوال التي قالها السيد منذ ثلاثين
سنة يقولها الآن أشهر العلماء في الممالك الإسلامية، والأفكار التي أظهرها السيد
في الماضي يظهرها في هذا الوقت مفتي الديار المصرية بالحرية التامة،
و (النظافة) ، ونحن الآن نترجم الفتوى بحل طعام أهل الكتاب ولباسهم، ولكن لا
ندري ماذا يقول الناس في هذا؟ - اتفاق الحاضر مع الماضي - فإن كان المسلمون
قائلين بالتناسخ؛ فليقولوا ضرورة بأن السيد قد ولد (ثانية) في مصر، وظهرت
جريدته (تهذيب الأخلاق) في شكل (المنار) اهـ المقدمة.
(المنار)
لتعتبر الجريدة المحدثة بأقوال علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فإن كانت كتبت ما كتبته من الطعن في الفتوى عن جهل، وكانت تريد باستنجاد مسلمي الآفاق بيان الحق؛ فهاهم أولاء قد أيدوا الفتوى، فعليها أن تعترف بخطئها،
وتتوب إلى ربها، ويا ليت أصحاب الجمود ودعاة التأخير يعلمون أن الأستاذ الإمام وحزبه هم الذين يخدمون الإسلام والمسلمين في هذه البلاد دون سواهم، وأن عقلاء المسلمين في جميع الأقطار معهم، ومؤيدون لدعوتهم، ومرتبطون معهم
بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم، فلا يغتر حزب التأخير، بمال
فلان الغني، وجاه فلان الأمير، فإن الحق يعلو ولا يُعْلى ، وإن حزب الله هم
الغالبون.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
الزي والدين
(س1) الزي والدين ر. ع: بالقاهرة
إن بعض الكتابيين من أهل إنكلترا وأمريكا أسلموا، ولم يغيروا زيهم في
اللباس (كالبرنيطة والبنطلون)، فهل يصح إسلامهم أم لا؟ فإن قلتم: لا يصح؛
فهل من دليل نقلي على ذلك؛ إذ ما نعلمه من التاريخ أن الشعوب التي أسلم منها
من أسلم في العصور الأولى ما كان يشترط في إسلامهم تغيير الزي، وما كانوا
يلبسون لباسًا مخصوصًا بأهل الإسلام؟ وإن قلتم: يصح إسلامهم، ويقرون على
لبس البرنيطة والبنطلون؛ فكيف جاز لبعض الناس لهذا العهد القول بحرمة لبس
البرنيطة على المسلم، مع أن حرمتها - على ما أعتقد - يقتضي أن يكون الإسلام
بالزي لا بالعمل أو بكليهما معا؟ وإذا كان ذلك كذلك فإسلام من أسلم من أهل
أمريكا وإنكلترا غير صحيح ما لم يغيروا أزياءهم، وهذا من الإشكال في
الدرجة القصوى، كما لا يخفى على بصير؛ إذ ربما كان ذلك مدعاة لعدم انتشار
الإسلام بين الأقوام الذين تقضي عوائدهم بعدم التخلي عن لبس البرنيطة وما شابهها،
وأمر آخر وهو أَنَّا نرى عشرات الملايين من المسلمين يلبسون لباس الإفرنج
(بنطلون) فإذا صح قولهم بعدم جواز هذا اللبس، وأن الإسلام بالأزياء أو
بالأزياء والأعمال فما حكم هؤلاء؟ هل يعتبرهم القائلون بهذا مرتدين مع
أن المسلمين لم يكونوا يذكرون ذلك في دعوتهم إلى الإسلام؛ بل كانوا يكتفون
بالشهادتين فيه ، وورد في الحديث: (من قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله
ودمه إلا بحقه وحسابه على الله) وهؤلاء المسلمون الذين يلبسون البنطلون يقولون:
(لا إله الله. ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) ، فما رأيكم في هذا كله؟ نرجو
الجواب ولكم الثواب.
(ج) لا يوجد دليل في الكتاب، ولا في السنة، ولا في أقوال الأئمة على
اشتراط زي مخصوص للمسلم، بل هناك أدلة على عدم الاشتراط كما رأيتم في
المقالات التي نشرناها في الموضوع ، والذين قالوا ما قالوا في منافاة لبس قلانس
النصارى (البراطل أو البرانيط) للإسلام لا يعرفون من الإسلام إلا التقاليد العامة
التي يعرفها الحوذي.
قلتم: إن الذين أسلموا في الصدر الأول لم يشترط عليهم تغيير
أزيائهم، ونزيدكم على هذا أن الصحابة كانوا يلبسون الثياب التي يغنمونها من
المشركين والمجوس وأهل الكتاب، بل النبي صلى الله عليه وسلم لبس من
لبوسهم أيضًا كما ذكرنا من قبل، ولو أراد الله أن يتعبدنا بزي مخصوص لاختار
زيًّا وألزمنا به، فإن لم يكن الزي الإسلامي مخترعًا جديدًا من الشارع فموافقته لزي
أهل الكتاب أولى من موافقته لأزياء المشركين؛ لأن الإسلام يفضل الكتابي الرومي
أو الروسي على المشرك الهاشمي القرشي، هذا وإن المسلمين لم يلتزموا زيًّا واحدًا
في عصر من الأعصار، فأي أزيائهم كان زي الدين، وأيها كان زي الكافرين أو
المرتدين.
وما ذكرتم من مفاسد جعل الزي داخلاً في مفهوم الإسلام صحيح، وأهمه
امتناع من يصعب عليهم تغيير أزيائهم من قبوله، وأقول: إن كل أمة من الأمم
التي تعقل تهزأ بدين يجعل الزي ركنًا من أركانه، أو عملاً من أعماله فلو قيل
لأهل أوربا أو أمريكا: إن الإسلام يشترط أن يلبس الداخل فيه (فرجية) واسعة
الأكمام، وجبة طويلة الأذيال، وحذاء أصفر يظهر منه معظم الرِّجْل لقالوا: إن
هذا دين لا يليق إلا بالكسالى والبطالين من أهل البلاد الحارة، وما قاربها، ولا ينبغي
لأهل العمل والنشاط، ولا يرضى به ذو عقل ولا ذوق.
أما حديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) فهو غير صحيح، ولو صح لما أفاد
المشاغبين في مسألة، فإن معناه أن من تكلف أن يكون شبيهًا بقوم؛ فإنه يلتحق
بطبقتهم، فإن تشبه بالكرام في أخلاقهم وأعمالهم عُدَّ منهم، وإن كان متكلفًا والعكس
بالعكس، ومثل هذا التشبه لا يحصل إلا بتكلف السجايا الخاصة بالقوم، فإن من
يلبس لباس الشجعان أو الأسخياء لا يعد منهم، فالحديث إذن في معنى قول الشاعر
الذي اقتبسه:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
…
إن التشبه بالكرام فلاح
* * *
زيارة المسلم لغير المسلم
(س2) ح. ح في الجبل الأسود معلوم عند جنابكم أننا تحت تصرف
حكومة نصرانية، وأن النصارى يزوروننا يوم عيدنا للتهنئة بالعيد، ويطلبون منا
مثل هذه الزيارة في أعيادهم، فهل نحن معذورون إذا زرناهم أم لا؟
(ج) ثبت في الحديث الصحيح عند أحمد والبخاري وغيرهما أن النبي
صلى الله عليه وسلم عاد غلامًا يهوديًّا كان يخدمه قبل مرضه وقد استكبر الغلام،
وأبوه الفقير هذه العناية، ودعا النبي الغلام الى الإسلام فقال له أبوه: أطع أبا
القاسم. فأسلم، والحديث يدل على مشروعية الابتداء بالزيارة. قال الماوردي:(عيادة الذمي جائزة والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة)
- أي: إن العيادة في المرض ومثلها الزيارة جائزة، ولكنها لا تكون عبادة يتقرب بها
إلى الله إلا إذا اقترن بها شيء مما هو مطلوب في الشرع كحرمة الجوار والقرابة -
وحسبك أن تكون الزيارة في العيد وغيره مباحة. على أن القواعد الإسلامية ترشدنا
إلى أن حسن النية في الأعمال المباحة تلحقها بالعبادات.
هذا وأنت تعرف الفرق بين الذمي الداخل في حكمنا وبين من نحن داخلون
في حكمهم ، فإذا صح لنا أن نجامل من نحكمهم عملاً بمكارم الأخلاق التي هي
أساس ديننا، أفلا يصح لنا أن نجامل من يحكموننا من غيرنا، ونحن أحوج إلى
مجاملتهم؛ لأجل مصالحنا، كما أننا نرى أنفسنا أحق منهم بمكارم الأخلاق؟
وكأني بمتعصب يقول: قال ابن بطال: (إنما تشرع عيادة المشرك إذا رجي
أن يجيب إلى الإسلام) .
وأقول أولاً: إن كلامه في العيادة المشروعة؛ أي: المطلوبة شرعًا، ونحن
نتكلم في العادات المباحة.
وثانيًا: إن الحديث السابق لا يدل على الاشتراط، وقد أورد الحافظ ابن حجر
كلامه في شرح البخاري ثم قال: (والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد،
فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى) ، وظاهر أن مصالح أهل الوطن الواحد مرتبطة
بمحاسنة أهل بعضهم بعضًا، وأن الذي يسيء معاملة الناس يمقته الناس فتفوته
جميع المصالح، لا سيما إذا كان ضعيفًا وهم أقوياء، وإذا أسند سوء المعاملة إلى
الدين، يكون ذلك أكبر مطعن في الدين؛ فلك أيها السائل ولغيرك من المسلمين أن
تزوروا النصارى في أعيادهم، وتعاملوهم بمكارم الأخلاق أحسن مما يعاملونكم،
ولا تعدوا هذا من باب الضرورة؛ فإنه مطلوب لذاته مع حسن النية واتقاء
مشاركتهم في المحرمات كشرب الخمر مثلاً والله أعلم وأحكم.
* * *
صوم يوم عرفة
(س3) ومنه: هل وردت أحاديث صحيحة في صوم يوم عرفة؟ ولماذا يصومه المؤمنون؟
(ج) ورد في حديث أبي قتادة عند البخاري وغيره ما يدل على استحباب
صوم يوم عرفة، ووردت أحاديث أخرى في النهي عن صومه أصحها حديث عقبة
بن عامر عند أحمد وأبي داود والترمذي وصححه وغيرهما، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) . وورد النهي عنه للحاج بخصوصه وعللوه بأنه يضعفه
عن الأذكار المشروعة في ذلك اليوم للواقف بعرفات ، وحمل أكثر العلماء حديث
أبي قتادة على هذا التخصيص ، وقالوا: إنه يستحب صومه لغير الحاج، وقال
بعضهم: يستحب إفطاره. فأما علة الإفطار فلكونه ملحقًا بأيام العيد، وأما علة
الصوم عند القائل به فلعلها مشاركة الحجاج بالعناية بالعبادة الممكنة في ذلك اليوم،
فيصوم غير الحاج ويكثر من التكبير؛ فيكون ذلك مذكرًا له بعبادة الحج ومشوقًا
إليها حتى تتيسر له إن شاء الله تعالى.
* * *
صندوق التوفير في إدارة البريد
وبيان حكمة تحريم الربا
(س4) مصطفى أفندي رشدي المورلي بنيابة الزقازيق: ما هو رأي
سيادتكم في صندوق التوفير بعد تعديله الأخير؟ وهل يجوز الادخار فيه وأخذ
أرباحه شرعًا؟ ولا يخفى على حضرتكم فوائده سيما أنه يربي ملكة الاقتصاد في
الإنسان وهو ما يؤيده الشرع في ذاته أفيدونا آجركم الله.
(ج) : إن التعديل الذي تعنونه قد كان برأي لجنة من علماء الأزهر جمعها
أمير البلاد لأجل تطبيق إيداع النقود في الصندوق على قواعد الفقه المعروفة، وقد
كتبوا في ذلك ما ظهر لهم وأرسلته (المعية) إلى الحكومة فعرضته على المفتي،
وبعد تصديقه عليه أمرت بالعمل به. هذا ما اشتهر ونحن لم نقف على ما كتبوه
فنبدي رأينا فيه ، ولكننا مع ذلك لا نرى بأسًا من العمل به؛ لأننا إنما ننتقد من الحيل
على علماء الظاهر أو علماء الرسوم - كما يقول الغزالي - وينافي مقاصد الشرع
الثابتة بالكتاب والسنة، كالحيلة في منع الزكاة والحيلة في الربا الحقيقي، الذي
علل القرآن تحريمه بقوله تعالى: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279)
والذي فصل بينه وبين التجارة بقوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا} (البقرة: 275) فالتعاقد في عمل يفيد الآخذ والمعطي ببيع أو تجارة،
والذي يفهم سبب تحريمه من قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً
مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) وذلك أنه: كان في المدينة وغيرها من اليهود
والمشركين من يقرض المحتاج بالربا الفاحش كما نعهد من اليهود والخواجات في
هذه البلاد، وفي ذلك من خراب البيوت ما فيه.
فالحكمة في تحريم الربا إزالة نحو هذا الظلم ، والمحافظة على فضيلة التراحم
والتعاون أو فقل: أن لا يستغل الغني حاجة أخيه الفقير إليه - كما قال الأستاذ
الإمام - وهذا هو المراد بقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا
تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) ولا يخفى أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ
والمعطي والتي لولاها لفاتتهما المنفعة معًا لا تدخل في هذا التعليل {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا
تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) ؛ لأنها ضده على أن المعاملة التي يقصدها البيع
والإتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج،
ولا يخفى أن إدارة البريد هي مصلحة غنية من مصالح الحكومة ، وأنها تستغل
المال الذي يودع في صندوق التوفير فينتفع المودع والعمال المستخدمون في
المصلحة والحكومة فلا يظلم أحدهم الآخر؛ فالأرجح أن ما قالوه ليس من الحيل
الشرعية وإنما هو من قبيل الشركة الصحيحة؛ من قوم المال ومن آخرين
الاستغلال؛ فلا مانع إذن في رأينا من العمل بتعديلهم، على أن العبرة في نظر
الفقه بالعقد؛ ولذلك يحتال بعض علماء الرسوم في الربا الحقيقي فيأكلونه بلا عقد،
ويقولون: إن ذلك من قبيل البيوع الفاسدة، وهي صغيرة أو مكروهة، وهذا شيء
لا يحل ولا نقول به، والحاصل أن المسألة قد أحلوها من طريق الفقه الظاهر،
والباحث في الفقه الحقيقي، وهو حكمة الشرع وسره لا يرى ما ينافي حلها بناء
على ما تقدم، والتضييق في التعامل يفقر الأمة، ويضعفها ويجعلها مسودة للأمم،
والله أعلم وأحكم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع
حب القوة.. رابطة المدنية
(تمهيد)
(ما اجتمع اثنان فأكثر اجتماعًا تراد به المصلحة إلا احتاجوا في انتظام
شملهم وتحصيل مصلحتهم إلى ناموس، إما فطري بشيء من التعليم، وإما تعليمي
مشوب بمقتضيات الفطرة) لتحفظ هذه الكلمة، فإننا نحسبها أصل الأصول في
الأخلاق والشرائع. ولكن لا يحيط بها سريعًا إلا ذهن الذين سيروا تلك الأصول
وسيجدونها عينًا صغيرة تتفجر منها مياه كثيرة أو عينًا صغيرة تنطبع فيها
محسوسات كبيرة. أو مرآة صغيرة تقابلها أشكال متعددة فترى فيها صورها، وأما
غيرهم فيناسبهم شرح هذه الكلمة.
فافرضوا أن المجتمعين أربعة: امرآن وامرأتان ، وافرضوا أن مصلحتهم
الأولى من الاجتماع أن يحفروا لهم غارًا ليسكنوا فيه ويأمنوا العوادي من حر وبرد
ووحش، ويجمعوا أقواتهم فيه.
هذا القدر، افرضوا فقط فإنكم ستروننا نشرح لكم في هذا الاجتماع إجمال
كثير مما يدعو علماء الأخلاق والشرائع أن يبحثوا فيه. وإليكم هذا النموذج من
بيان ذلك:
(الأول) مما يلزم لأولئكم قبل مباشرة حفر الغار محبة كل منهم ذاته إذ لو
كانوا بحيث لا يحب كل منهم ذاته لما كانوا ليقدموا على هذا العمل الذي تحصل به
لجميعهم مصلحة لكل منهم حصة من فوائدها. ولو كان واحد منهم لا يحب ذاته
لنكف وحده عن العمل (امتنع أو عدل) فيكون الثلاثة قد خسروه وما خسروا إلا
معينًا، ولو نكف اثنان لخسر الآخران معينين ولو نكف ثلاثة لعمت المصائب
الأربعة.
فأنتم ترون أن حب الإنسان ذاته هو أول ما يلزم للمجتمعين وهو أول ما
يبحث فيه فلاسفة الأخلاق؛ إذ هو الأصل الأعظم في صلاح الأخلاق إن صلح،
وفي فسادها إن فسد، وهو موجود في الفطرة ولكن لطروء المرض يحتاج لطب
التعليم.
(الثاني) مما يلزم لهؤلاء محبة كل منهم غيره؛ إذ محبة الغير هي الأصل
في تحصيل مصالح الذات وهي الأصل الأعظم في اجتماع المتعددين ، ولولاها
لكان هؤلاء الأربعة متنافرين متناحرين، لا متضافرين متناصرين.
(الثالث) مما يلزم لهؤلاء العدل، ومعناه إعطاء المرء لغيره عدل ما أعطاه
أي شيئًا يعادله. فإذا عمل كل واحد من هؤلاء مثل ما يعمل صحبه كان ذلك من
دواعي محبة بعضهم بعضًا ومما يطِد اجتماعهم. وأما إذا أراد أحد منهم أن يفضل
نفسه عليهم فلا يعمل معهم كما يعملون ويريد أن ينتفع بما عملوا، أو أن ينتفع
بنصيب هو أكبر من أنصبائهم، فربما أوجب أن ينقموا منه ذلك؛ لأن (بدل الأصل
سبب الوصل، وبدل الفضل سبب الفصل) .
(الرابع) مما يلزم لهؤلاء الإحسان، ومعناه: رضا النفس بإيجاد الحسن
ولو من غير بدل أو ببدل أقل مما هو عدله. فإذا كان أحد هؤلاء أضعف من
الباقين فيحسن بهم أن يحسنوا فيعملوا عمل الأقوياء، ويقبلوا من الضعيف عمل
الضعفاء، على أنهم في النصيب سواء وفي الإحسان مباحثات ومحاورات ليس هذا
محلها ، وربما أتينا بها في محل آخر. والذي لا خلاف فيه بين المعتدلين هو أن
الإحسان لا يجب وجوبًا كالعدل بل يحسن بالإنسان التحلي به وقد يشتد لزومه في
المجتمعين القليلين.
(الخامس) مما يلزم لهؤلاء المعرفة، إذ كل عمل لا يكون إلا بعلم فإن
صلح العلم صلح العمل، وإن فسد العلم فسد العمل. ومعنى العلم وجدان الذهن: ما
هو الشيء؟ أو كيف هو؟ أو أين هو؟ أو لم هو؟ أو متى هو؟ أو كم هو؟ أو
بم هو؟ فيلزم هؤلاء أن يعرفوا أين يحفرون؟ وكيف يحفرون؟ وبم يحفرون؟
وكم يحفرون؟
(السادس) مما يلزم لهؤلاء التعريف. ومعناه: إحضار ما وجده العارف
بقوة ذهنه بغير واسطة إلا الإلهام إلى ذهن من لم يجد ذلك بواسطة الدلالات على
اختلافها. ومن البديهي أن الأذهان مختلفة في قبول الفائضات، ولا يتم العمل
اللازم للكثيرين إلا بتعليم من علم لمن لم يعلم، ومن ثمة عندما تكثر اللوازم ويقل
العالمون بها يعد تعليمها أو تعليم الوسائل المؤدية إليها عملاً عظيمًا يعادل أكبر عمل
من أعمال الموجدين للوازم.
هذا وبينما كان هَمُّ هؤلاء واحدًا ومصلحتهم واحدة أي تعاونهم في حفر الغار
ليأووا إليه؛ إذ حدثت لهم بعد حفر الغار مصالح أخرى منها: حراسة المنزل خشية
أن يطرقه طارق من وحش؛ إذا خرجوا جميعًا، ومنها: الاشتراك في تحصيل
القوت رجاء أن يكونوا باجتماعهم أقوى إذا انفردوا، ومنها التراضي في أمر الوقاع؛ لأن في فطرة كل من المرء والمرأة اقتضاء الوقاع، وإن ترك هذا الأمر بلا
قاعدة بينهم يتراضون بها يؤدي إلى تفرقهم أو تجادلهم أو تذابحهم، وهم أشد من في
الأرض احتياجًا للاجتماع والتآلف والتناصر، فهم في هذه المصالح المتعددة (وهي
من أولى المصالح) محتاجون الى تدبيرها. وفي تدبيرها محتاجون على الأقل إلى
ثلاثة أشياء: (1) اقتسام الأعمال، و (2) نظام العائلة ، و (3) نظام التساكن.
فاقتسام الأعمال هو اللازم (السابع) وهو عبارة عن أن يعمل كل واحد عملاً
يحتاجه الكل على أن يكون له نصيب في عمل الآخر. فمن قام في المنزل حارسًا
فله حق بما يأتي به من سار للقوت محصلاً.
ونظام العائلة هو اللازم الثامن (الثامن) وهو عبارة عن العهد الذي يقيمه
المرء مع المرأة على أن يكون كل منهما للآخر زوجًا بشرط كذا وكذا.. على ما
يظهر لهما من المعاهدة.
ونظام التساكن هو اللازم (التاسع) وهو عبارة عن السبيل الحسن الذي
يسير عليه جماعة أقامتهم الحاجة في منزل واحد، ثم بينما هم في حاجة لأفراد
آخرين ليتم بهم تعاونهم على مشاق الأعباء التي لا يستطيعون وحدهم تحملها لما
يصادفهم من الطوارئ الخارجية كغلبة الوحوش ، والداخلية كالضعف بنحو مرض
أو تغير قلوب متحدة، أو اختلال نظام عائلة أو نظام تساكن؛ إذ جبر نقصهم،
وسدت حاجتهم بالأنسال التي أخذت تتزايد في كل عام.
ولكن هل يوجد خير غير مشوب بما يقابله من ضد؟ كلا: إن هؤلاء لما
أصابهم هذا الخير الذي هو توفير العدد لإتمام العدد أصابهم في مقابلته شر هو
توسع الفرق والتفاوت بين أفراد المجتمعين، فأصبحوا كثيرين بينهم الضعفاء من
صغار، ومرضى مثلاً، وأصبح الأقوياء فيهم منهم عارف بقيمة الحي (وإن كان
صغيرًا، فإنه يكبر وإن كان مريضًا فإنه يصح) ، ومنهم غير عارف، ومنهم
محسن، ومنهم غير محسن، ومنهم واف بالعهود، ومنهم غير وافٍ، وبالجملة
أصبحت تلك الوحدة ممزقة، وهاتيك الأوضاع متغيرة، أو ضاق بهم ذلك الوطن
الواحد فاضطروا إلى تعديد الوطن وبتعديده انقلب شكل تلك الوحدة فبينما كانوا
أربعة يتفكرون بتدبير مصالح لهم مشتركة باتحاد القلوب وتعادل الأعمال إذ صاروا
أربعين مثلاً، وبينما كان غار واحد إذ صارت غيران عشرة مثلا.
وبينما كان العمال متعادلين صار العمال متفاوتين ، وبينما كانوا يضربون
في جهة واحدة لتحصيل القوت صاروا يضربون في جهات متعددة، وبينما
كانوا يخافون من الوحوش فقط، صاروا يخاف بعضهم من بعض؛ لأنه وجد بينهم
غير العادل وغير الوافي بالعهود، ولولا أن وجد هؤلاء لكان مليار من البشر
المتناسلين من أولئك المفروضين أولاً على وتيرة واحدة في كل شيء، فلا أريد مليارًا
على هذا النحو، ولا مليونًا، ولا مائة ألف، ولا عشرة آلاف، ولا ألفًا، ولا
مائة أريد اثني عشر إنسانًا ليس فيهم مخادع.
التفاوت بين البشر أمر طبيعي - أي: من جملة سنة الله في خلقه - ومن
اقتضاء التفاوت أن يكون التضاد، ومن اقتضاء التضاد أن تكون المنازعات، ومن
اقتضاء المنازعات أن يتعاون المتقاربون -في أكثر الأشياء المحسوسة والمنصورة-
على المتباعدين عنهم - المتقاربين أيضًا في أكثر الأشياء - ومن اقتضاء
الاجتماع تقارب المنازل. ومن اقتضاء تقارب المنازل اقتسام الأعمال ، ومن اقتضاء
العدل التراضي بتعيين الحدود والمقادير، ومن اقتضاء التراضي تكون
نظام، ومن اقتضاء النظام وجوب حفظه، ومن اقتضاء حفظه إيجاد قوة حافظة له،
ولا بد للقوة من مركز ومحور لحركتها، ولا بد من أن يكون هذا المركز حيًّا سميعًا
بصيرًا عليمًا مريدًا قادرًا متكلمًا - أي: إنسانًا بالغًا سن الرشد والقوة سالمًا من
نواقص الجسد والعقل.
انظروا كم ترون في هذه الحالات من حاجات. كل هذه الحاجات مرت على
الإنسان، وكل حلقة من هذه الحلق بقيت محفوظة في هذه السلسلة حتى هذا اليوم ،
وفي هذه الحاجات والمقتضيات كانت تحدث لهؤلاء المجتمعين القليلين صناعات
يتبادلونها فيما بينهم ، ويغلب في الظن أن صنع آلات الدفاع والهجوم له حظ من
التقدم، ويظهر أن أول ما صنع الإنسان من هذا القبيل - بعد حفر الغيران التي
هي معاقل - هو ترقيق شبا الصلد من الحجارة بواسطة حجارة أخرى، حتى يقطع
بها ما شاء.
ربما صنعت هذه المدى الصوانية لأمر، ثم تبين أن لها نفعًا في أمور أخرى
كثيرة، ويظهر أنه بها نجر الشظايا من الأشجار على هيئات مختلفة لمقاصد متعددة، فكان لهم من تلك الشظايا مغزل يفتلون به أوبار الحيوانات التي يصطادونها،
وكان لهم منها منسج يجمعون عليه الخيوط المفتولة، حتى تكون كسفًا، وكان لهم
منها مخيط يضمون به بعض الكسف إلى بعض ليكون لهم من مجموع ذلك أكسية (يستبدلونها بما كانوا يكتسونه من جلود المصيدات من الحيوانات، أو المنسوج من
الأعواد ولحاء الأشجار أو بعض الأوراق) وأخبية (يستبدلونها بما كانوا يختبئون
فيه من الغيران الطبيعية أو الصناعية) ، ولا يخفى أن الحاجة كانت هي الدافعة
بهم إلى استبدال الأكسية والأخبية المنسوجة من الأوبار بالجلود والغيران؛ إذ
الجلود ثقيلة مثقلة للحركة، ولا تفي بستر البدن على الوجه الكافي ، وهذه الأكسية
الجديدة - التي شرح وصفها - يتكون منها لباس كاف واف بالحاجة. منه الرقيق
والصفيق، ومنه الطويل والقصير ، ومنه الصغير والكبير؛ وإذا تراكمت عليه
الأوضار كانت تنحيتها متيسرة ، وهذه الأخبية الجديدة يتكون منها مآوٍ كافية وافية
بالحاجة للظعن والإقامة فإذا استوبلوا أرضًا تركوها ونزلوا فيما استطابوا لا
يحتاجون الى حفر مآو جديدة.
ومما يغلب في الظن أيضًا أنهم شعروا باحتياجهم لادخار زوائد من المكسوبات
اللازمة للقوت والكساء والخباء والزينة، نعم، إن الادخار للمجتمعين لابد منه
ليكون بالزوائد المحفوظة غناء يوم لا يغني سعيهم في الكسب شيئًا.
وقد سمي الزائد المدخر - في لغتنا - مالاً كأن أهل هذا اللسان سموه بهذا
الاسم المشتق؛ لأن النفوس تميل إليه بالفطرة أو بحسب التجربة والاحتياج ، وهم
يقولون لمن حوى مكسوبات زائدة تمول.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(ع. ز)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: سائح بصير
بلرم صقلية
(4)
(دور الآثار وبساتين النبات)
لا تبخس أهل سيسليا (صقلية) حقهم فإنهم فهموا مسألة لا بأس بفهمها ،
وأظنهم عرفوا ذلك من إخوانهم أهل شمالي إيطاليا وبقية الأوربيين، وهي المحافظة
على الآثار القديمة والجديدة، أما القديمة فتحفظ بذواتها ، وأما الجديدة فتحفظ ولو
بنموذج منها.
بنوا ملعبًا في بلرم فصنعوا له مثالاً من الخشب ووضعوه في دار
الآثار. مدينة بلرم لها مثال مجسم رسمت فيه البساتين والجبال والكنائس مجسمة
مصغرة بألوانها الطبيعية وألوان الأرض نفسها ، وذلك المثال في دار الآثار.
حفظوا لباس امرأة مسلمة من مسلمي صقلية وهو زي يشبه الأزياء الأوربية مع
ساتر للوجه يدل على أن ستر الوجه كان عامًّا حتى في صقلية، وإن كان ذلك قد
يغضب قاسم بك أمين فإنه يجد له أضدادًا في مسلمي أوربا فضلا عن مسلمي آسيا
وأفريقيا.
يحفظ القوم في متاحفهم هذه كل ما يوجد من آثار المتقدمين من مصنوعات،
وأشجار، وأحجار، ولا يدخرون جهدًا في حفظ ذلك حتى إذا وجدت اسم شيء في
كتاب تاريخ مثلاً أو عرض لك اسم في علم من العلوم كان يدل على معنى في
الزمن السابق؛ أمكنك أن تعرف المدلول بالعيان والمشاهدة، وتتحقق صحة الوصف
والتعريف فما استعمله الأقدمون من آلات وأدوات، وأنواع ثياب، وضروب
مراكب، ونحو ذلك تجد شيئًا منه في متحف من المتاحف ، أو في قصر من
القصور، أو في كنيسة من الكنائس، أو في داهية من الدواهي التي هناك.
وهذا مما يفيد في تحقيق المعاني التاريخية واللغوية فائدة لا يعرف مقدارها
إلا من يسمع اسم اللأمة، والدلاص، والدرع والخوذة، والعمامة (عمامة الحرب)
ونحو ذلك من الألفاظ العربية الكثيرة الاستعمال، ثم يراجعها في القاموس أو
غيره من كتب المعجمات، وبعد ذلك لا تستقر في خياله صورة لمدلول من مدلولات
هذه الألفاظ، وقد يتخيل صورة لا مناسبة بينها وبين الحقيقة، وهو جهل باللغة
فاضح، وكثير منا يأكلون اللوز والجوز، وينطقون باسمه في البيت، وعند البائع؛
إذا طلبوا شراء شيء منه ، وهم إذا رأوا شجرة الجوز أو اللوز لا يميزون بينها وبين
شجرة الجميز أو الفلفل، أما الجماعة فعندهم في بساتين النبات جميع هذه الأنواع
من الأشجار، وما لا تناسبه درجة الحرارة في الهواء يحدثون له جواء
تناسبه بالتسخين أو التبريد حتى يعيش في جو مثل جوه ولكل من يريد معرفة
شيء أن يذهب ويعرفه بعينه ذلك. وقد رسموا صور هذا كله فيما كتبوا من كتب
اللغة ومعجمات العلوم ، ويتيسر للحاذق أن يعرف هذه الأشياء بصورها المرسومة
في تلك الكتب؛ أما إذا قال لك صاحب القاموس: الجوز شجرم؛ أي: معروف فماذا
تستفيد من هذا وأنت في مصر وليس في قرب الأزهر شيء من شجر الجوز بل ولا
في الأزبكية نفسها، فكيف يصير هذا عندك معروفًا؟ وكيف يمكنك أن تحدث عن هذا
الشجر إذا كنت كاتبًا أو شاعرًا أو طبيبًا أو عالمًا أو أديبًا.
* * *
الصور
والتماثيل وفوائدها وحكمها
لهؤلاء القوم حرص غريب على حفظ الصور المرسومة على الورق والنسيج،
ويوجد في دار الآثار عند الأمم الكبرى ما لا يوجد عند الأمم الصغرى كالصقليين
مثلاً، يحققون تاريخ رسمها، واليد التي رسمتها، ولهم تنافس في اقتناء ذلك
غريب حتى إن القطعة الواحدة من رسم روفائيل مثلاً ربما تساوي مائتين من
الآلاف في بعض المتاحف، ولا يهمك معرفة القيمة بالتحقيق، وإنما المهم هو
التنافس في اقتناء الأمم لهذه النقوش، وعد ما أتقن منها من أفضل ما ترك المتقدم
للمتأخر، وكذلك الحال في التماثيل، وكلما قدم المتروك من ذلك كان أغلى قيمة،
وكان القوم عليه أشد حرصًا، هل تدري لماذا؟
إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر، وضبطه في دواوينه، والمبالغة
في تحريره خصوصًا شعر الجاهلية، وما عني الأوائل رحمهم الله بجمعه
وترتيبه؛ أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من
الرسوم والتماثيل؛ فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع ، والشعر
ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى.
إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة،
ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات
والأحوال البشرية. يصورون الإنسان أو الحيوان في حال الفرح والرضى
والطمأنينة والتسليم، وهذه المعاني المدرجة في هذه الألفاظ متقاربة لا يسهل عليك
تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهرًا باهرًا
يصورونه مثلاً في حالة الجزع والفزع والخوف والخشية، والجزع والفزع مختلفان
في المعنى، ولم أجمعهما ههنا طمعًا في جمع عينين في سطر واحد؛ بل لأنهما
مختلفان حقيقة، ولكنك ربما تعتصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف
والخشية ، ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع ومتى يكون الجزع؟ وما الهيئة
التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك؟
أما إذا نظرت الى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت؛ فإنك تجد الحقيقة بارزة
لك تتمتع بها نفسك، كما يتلذذ بالنظر فيها حسك إذا نزعت نفسك إلى تحقيق الاستعارة
المصرحة في قولك: رأيت أسدًا: تريد رجلاً شجاعًا فانظر إلى صورة
أبي الهول بجانب الهرم الكبير؛ تجد الأسد رجلاً أو الرجل أسدًا، فحفظ هذه الآثار
حفظ للعلم في الحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها إن كنت فهمت من
هذا شيئًا فذلك بغيتي، أما إذا لم تفهم فليس عندي وقت لتفهيمك بأطول من هذا،
وعليك بأحد اللغويين أو الرسامين أو الشعراء المفلقين ليوضح لك ما غمض عليك؛
إذا كان ذلك من ذرعه.
ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه الصور في
الشريعة الإسلامية؛ إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في
انفعالاتهم النفسية أو أوضاعهم الجثمانية، هل هذا حرام أو جائز أو مكروه أو
مندوب، أو واجب؟ فأقول لك: إن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها،
ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان؛ فإما أن تفهم الحكم
من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة؛
فإذا أوردت عليه حديث: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون، أو ما في
معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك: إن الحديث
جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببين: الأول: اللهو،
والثاني: التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين،
والثاني مما جاء الإسلام لمحوه. والمصور في الحالين شاغل عن الله، أو ممهد
للإشراك به؛ فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة كان تصوير الأشخاص
بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي
المصاحف وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء مع أن الفائدة في نقش
المصاحف موضع النزاع أما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر [1]
وأما إذا أردت أن ترتكب بعض السيئات في محل فيه صور طمعًا في أن الملكين
الكاتبين، أو كاتب السيئات على الأقل لا يدخل محلاًّ فيه صور كما ورد فإياك أن
تظن أن ذلك ينجيك من إحصاء ما تفعل؛ فإن الله رقيب عليك، وناظر إليك حتى
في البيت الذي فيه صور، ولا أظن أن الملك يتأخر عن مرافقتك إذا تعمدت دخول
البيت لأن فيه صورًا، ولا يمكنك أن تجيب المفتي بأن الصورة على كل حال
مظنة بالعبادة فإني أظن أنه يقول لك: إن لسانك أيضًا مظنة الكذب، فهل يجب
ربطه مع أنه يجوز أن يصدق كما يجوز أن يكذب.
وبالجملة إنه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة
من أفضل وسائل العلم بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة
ولا من وجهة العمل. على أن المسلمين لا يتساءلون إلا فيما تظهر فائدته ليحرموا
أنفسهم منها وإلا فما بالهم لا يتساءلون عن زيارة قبور الأولياء، أو ما سماهم بعضهم
بالأولياء، وهم ممن لا تعرف لهم سيرة ولم يطلع لهم أحد على سريرة، ولا
يستفتون فيما يفعلون عندها من ضروب التوسل والضراعة وما يعرضون عليها من
الأموال والمتاع، وهم يخشونها كخشية الله أو أشد ، ويطلبون منها ما يخشون أن لا
يجيبهم الله فيه، ويظنون أنها أسرع إلى إجابتهم من عنايته سبحانه وتعالى، لا شك
أنه لا يمكنهم الجمع بين هذه العقائد، وعقيدة التوحيد، ولكن يمكنهم الجمع بين
التوحيد، ورسم صور الإنسان والحيوان لتحقيق المعاني العلمية، وتمثيل الصور
الذهنية.
هل سمعت أننا حفظنا شيئًا حتى غير الصور والرسوم مع شدة حاجتنا إلى
حفظ كثير مما كان عند أسلافنا؟ لو حفظنا الدراهم والدنانير التي كان يقدر بها
نصاب الزكاة ولا يزال يقدر بها إلى اليوم أفما كان يسهل علينا تقدير النصاب
بالجنيهات والفرنكات، ونحو ذلك ما دام المثال الأول موجودًا بين أيدينا؟ ولو حفظ
الصاع والمد وغيرهما من المكاييل أفما كان ذلك مما ييسر لنا معرفة ما يصرف في
زكاة الفطر وما تجب فيه الزكاة من غلات الزرع بعد تغيير المكاييل؟ وما كان
علينا إلا أن نقيس مكيالنا بتلك المكاييل المحفوظة فنصل إلى حقيقة الأمر بدون
خلاف؟ أظنك توافقني على أنه لو حفظ درهم كل زمان وديناره ومده وصاعه لما
وجد ذلك الخلاف الذي استمر بين الفقهاء يتوارثونه سلفًا عن خلف كل منهم يقدر
للمكيال والميزان بما لا يقدره به الآخر حتى جاء في آخر الزمان أحمد بك الحسيني
يخطئ بعضهم ويوفق بين أقوال البعض الآخر بدون أن يكون بين يديه صاع ولا
مد من تلك الآصع والأمداد، وما أصعب التخطئة والتوفيق؛ إذا لم يكن العيان هو
المميز بين فريق وفريق.
لو نظرت إلى ما كان يوجب الدين علينا أن نحافظ عليه لوجدته كثيرًا لا
يحصى عده ولم نحفظ منه شيئًا فلنتركه كما تركه من كان قبلنا ، ولكن ما نقول في
الكتب وودائع العلم هل حفظناها كما كان ينبغي أن نحفظها أو أضعناها كما لا
ينبغي أن نضيعها؟ ضاعت كتب العلم وفارقت ديارنا نفائسه؛ فإذا أردت أن تبحث
عن كتاب نادر، أو مؤلف فاخر، أو مصنف جليل أو أثر مفيد فاذهب إلى خزائن
بلاد أوربا تجد ذلك فيها. أما بلادنا فقلما تجد فيها إلا ما ترك الأوربيون ولم يحفلوا
به من نفائس الكتب التاريخية والأدبية والعلمية ، وقد تجد بعض النسخة من الكتاب
في دار الكتب المصرية مثلاً وبعضها الآخر في دار الكتب بمدينة كمبردج من البلاد
الإنكليزية، ولو أردت أن أسرد لك ما حفظوا وضيعنا من دفاتر العلم لكتبت لك في
ذلك كتابًا يضيع كما ضاع غيره وتجده بعد مدة في يد أوربي في فرنسا أو غيرها
من بلاد أوربا.
نحن لا نعنى بحفظ شيء نستبقي نفعه لمن يأتي بعدنا، ولو خطر ببال أحد
منا أن يترك لمن بعده شيئًا جاء ذلك الذي بعده أشد الناس كفرًا بتلك النعمة، وأخذ في
إضاعة ما عني السابق بحفظه له ، فليست ملكة الحفظ مما يتوارث عندنا وإنما الذي
يتوارث هو ملكات الضغائن والأحقاد، تنتقل من الآباء إلى الأولاد حتى تفسد
العباد وتخرب البلاد ويلتقي بها أربابها على شفير جهنم يوم المعاد.
(للرحلة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: إن الذين رسموا الصالحين والأنبياء إنما أرادوا التبرك بصورهم وتعظيمها إكرامًا لها، وهذا التعظيم يسمى في كل اللغات عبادة ، وجميع الصور والتماثيل التي كانت عند العرب كانت معظمة للدين؛ ولذلك سمي في القرآن تعظيمها عبادة وكذلك النصارى كانوا يصرحون أن تعظيم الأيقونات ونحوها من الصور عبادة فلما عارض المصلحون في ذلك صار بعض المصرين عليه يسمي تعظيمها إكرامًا وأصر بعضهم على تسميته عبادة، وإن النهي عن التصوير في الإسلام لم يزد على النهي عن تعظيم القبور وتشريفها وبناء المساجد عليها وإيقاد السرج عليها ، وقد فعل المسلمون هذا مع بقاء علته وهم يتركون التصوير وفوائده مع انتفاء علة النهي عنه أفنؤمن بظاهر بعض الدين ونكفر بحقيقة بعض.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(الاشتراك في المنار)
كل من قبل هذا الجزء من المنار يعد مشتركًا إلى سنة كاملة ويجب عليه دفع
قيمة الاشتراك كاملة، وإن رد المجلة في أثناء السنة فمن لم يرض بهذا الشرط
فليرجع إلينا الجزء. ونرجو أن لا يطلب أحد منا الاشتراك بدون القيمة المقررة.
* * *
(الأسطول العثماني)
بشرتنا أنباء الآستانة بأن سيجهز أسطول عثماني مؤلف من السفن الجديدة
التي ابتاعتها الدولة العلية من عهد قريب، ومن السفن القديمة التي أصلحتها في
أوربا حقق الله الآمال.
* * *
(منشور شيخ الإسلام في تفليس)
كتب شيخ الإسلام في تفليس عاصمة بلاد القوقاس الروسية منشورًا ينصح
فيه للمسلمين بالطاعة والإخلاص لدولتهم، وبذل النفس والنفيس في مساعدتها على
حرب دولة اليابان الوثنية، وقد أحسن فيما فعل ، ونوافقه عليه في جملته، وكان
في عزمنا أن ننشر في المنار الماضي نصيحة لمسلمي روسيا بأن يفترضوا الحرب
لإقناع دولتهم بإخلاصهم لها؛ لأن هذا هو الذي ينفعهم، ولا يغتروا ببعض اليهود
والأرمن الشامتين بدولتهم، فالغدر والخيانة يحرمهما الإسلام في كل حال، هذا وإن
النصرانية أقرب إلى الإسلام من الوثنية، وما قلناه من ميل المسلمين إلى اليابان
فسببه سياسي لا ديني.
* * *
(تغاير العلماء في روسيا)
كتب إلينا فيض الرحمن أفندي أحمد القزاني المجاور رسالة ملخصها أن أحد
علماء (خان كرمان) تلقى العلم في الآستانة، ولما رجع إلى وطنه سعى بإنشاء
مدرسة خيرية وكان يعلم فيها حتى وشى عليه بعض المعممين إلى الحكومة بأنه
يستميل التلامذة إلى تركيا بتعليمه على الطريقة التركية فأقفلت الحكومة المدرسة ،
ثم سعى فاستصدر أمرًا بفتحها فعاد أصحاب العمائم إلى الوشاية حتى أقفلوها، ولا
شك أن أولئك السعاة الوشاة هم أكبر بلاء على أمتهم وملتهم، وقد خجلنا من ذكر
صنيعهم مع كثرة ثنائنا على أخلاق مسلمي تلك البلاد، فعسى أن يتوبوا إلى ربهم،
ويثوبوا إلى رشدهم.
* * *
(استعمار مصر ومراكش)
إنكلترا وفرنسا تتباحثان في وسائل الوفاق في المسائل الاستعمارية بينهما،
ومنها: مسألة مصر التي تستعمرها إنكلترا بدون نطق بكلمة حماية أو امتلاك إلا ما
لونت به رسم مصر في خريطة أفريقية، وهو لون بلاد السودان وبلاد الترنسفال
وبلاد الكاب أو رأس الرجاء الصالح، ومسألة مراكش التي تريد فرنسا أن تستعمرها
هذا النوع من الاستعمار، ويوشك أن تتفق الدولتان على أن إحداهما لا تنازع
الأخرى في مسألتها، ولكن ماذا يفعل سلطان مراكش وأمير مصر في هذه الأيام؟
أما أمير هذه البلاد فلا نبحث في أعماله، وأما سلطان مراكش فلم يكتف بما عنده
من آلات اللهو الأوربية، وما اجتلبه من حور الآستانة وولدانها حتى أرسل يطلب
من مصر جوقة من المطربين والمطربات، وشاع هنا أن محمد بن شعرون سافر
بالجوقة، وهي تسعة رهط، وفيها بعض الراقصات المشهورات وتعهد لها بدفع
1500 جنيه في الشهر، وقيل أقل، ومعلوم أن السلطان يقترض المال من فرنسا،
وأن الدين هو أوسع الأبواب لدخول أوربا في البلاد، وإننا ندعو الله تعالى أن
يوفقه وسائر أمراء المسلمين إلى ما فيه الخير الحقيقي للأمة والبلاد كيفما جاء، ومن
أيِّ طريق جاء.
* * *
(مسألة الرتب والأوسمة)
قد وصل الإتجار بالرتب في الآستانة إلى حد التزوير فصار السماسرة
مزورين، وقد حوكم من عهد قريب طاهر بك صاحب جريدة (معلومات) وغيرها
متهمًا بتزويرها، وقد اقتدت مصر بالآستانة فصار المقربون من الأمير ومنهم
بعض أصحاب الصحف يتوسلون إليه بهذه الرتب والأوسمة حتى علم الخاص
والعام أن أكثر من نالها من غير الحكومة قد اشتراها بالمال، وقد انتهى الأمر
بدخول اللورد كرومر في الأمر، وتقرر إلغاء بعض الرتب والأوسمة التي أنعم بها
على المرتكبين والمزورين، وفي ذلك عبرة للمعتبرين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
موعظة للمسلمين بآيات الكتاب المبين
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ
الغَرُورُ} (فاطر: 5) ، {مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ
هُوَ يَبُورُ} (فاطر: 10) {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا
لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ المَصِيرُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى
وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ
وَلَا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ} (فاطر:
18-
22) ، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا
وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ
وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ *
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ
تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر:
27-
30) .
لك الحمد اللهم أن أنزلت هذه الآيات البينات بلسان عربي مبين على عبدك
ورسولك محمد خاتم النبيين، وإمام المصلحين، فأنرت بها وبأمثالها تلك الظلمات،
وأحييت بها أولئك الأموات، فأقاموا ما أنزلت من الكتاب والميزان [1] وأدبوا
بالحديد من أباهما من أهل الطغيان، حتى تزلزلت في الممالك تلك التقاليد، وألقت
اليهم الأمم بالمقاليد فكانوا وهم الأميون أئمة أهل الكتاب والحكمة، وسادة أهل
السلطان والقوة؛ فصل وسلم اللهم على ذلك النبي المرشد الحكيم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ
رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) .
ثم خلف من بعد هذا السلف الصالح خلف كفروا بنعمة آياتك فاستبدلوا بها
مذاهب وتقاليد هم بها عاملون {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) وغرتهم الحياة الدنيا فطغوا بالميزان ، وغرهم بالله
الغرور فانحرفوا عن صراط القرآن، وطلبوا العزة بالكلم الخبيث دون العمل
الصالح والسعي الحثيث؛ فكانت عزتهم ذلاًّ وكثرهم قلاً، ومكروا السيئات فقادوا
العلماء والفقهاء بسلاسل سياسة السلاطين والأمراء، وأوهموا الوازرين والخاطئين
بأن سيحمل أثقالهم عنهم نفر من صلحاء الميتين؛ ففسدت الأعمال والنيات، واتكل
الأحياء على شفاعة الأموات، وتبع ذلك تفرق الكلمة بالباطل، وعدم الاجتماع على
نصرة الحق؛ فخلا الجو للأمراء الظالمين والرؤساء الغارِّين، وفسد بذلك على الأمة
أمر الدنيا والدين.
طغوا في الكتاب ففضلوا الأعمى على البصير، وطغوا في الميزان، فاختاروا الظلمات على النور؛ وأخرجوا الأمة من الظل إلى الحرور ، وفقدوا حياة العمل والتعاون فاستمدوا المعونة من أصحاب القبور.
جهلوا آيات الله في الأكوان ، وحكمه في اختلاف الأوضاع والألوان،
ورغبوا عن معرفته تعالى بآياته في الآفاق وفي أنفسهم كما أرشدهم القرآن،
وحاولوا معرفته بنظريات فلسفة اليونان فتماروا بالبيان، وقلدوا في الدليل
والبرهان؛ فكانوا بلا علم ولا عرفان، ولا خشية ولا إذعان؛ وإنما هي دعاوي يلوكها اللسان، وأماني يسولها الشيطان.
وجملة القول أنهم أضاعوا مقاصد القرآن كلها، وإن شئت قلت: أضاعوا
دين الإسلام كله فإن الإسلام هو القرآن وما جاء في بيانه من سنة النبي - عليه
الصلاة والسلام - قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان شيء من أمر دينكم
فإليَّ؛ وإذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه
عن أنس، والأخير عن عائشة، وقال أيضًا:(أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواه مسلم
عن أنس وعائشة.
وقد حرم علينا الخلف الطالح الاهتداء بالقرآن والسنة في أمر ديننا، ولم
يعطونا حرية للعمل في أمر دنيانا، وزعموا أن الدين هو حكم بذلك التحريم،
وبسلب هذه الحرية. فإذا احتجت عليهم بالكتاب والسنة على أن طريقتهم هي
المخالفة للدين؛ قالوا: إنما نحن وإياك من المقلدين. وإذا استدلت عليهم بالعقل؛
قالوا: إنما أنت من الملحدين، ولا يرضيهم إلا اتباع آرائهم وآراء بعض المؤلفين
الميتين. على هذا جرى علماء الرسوم مع الحكام والسلاطين فهدموا ذلك البناء المتين
وما زالوا هادمين، وكذلك أهلك الله من أهلك من الأمم باستبداد الرؤساء المترفين.
ليت هذه الأمة التي نكبت بهؤلاء الرؤساء في دينها ودنياها تعلم ما هي قوتهم
التي يستعينون بها عليها. ليتها تعلم أنها هي قوتهم التي بها يعتزون، وأنها هي
معاولهم التي بها يهدمون، وإنها هي قوتهم التي بها يحتجون، ذلك بأنهم إذا قالوا:
إن وضع كتب الشريعة بصفة سهلة كوضع كتب القوانين بدعة منكرة، قالت العامة: بدعة منكرة. وإن أدى هذا القول إلى استبدال القانون الفرنسي بالشريعة. وإذا
قالوا: إن العلوم الطبيعية والرياضية كفر أو طريق إلى الكفر قالت العامة: هي
كفر وأي كفر، وإن حرمت الأمة بذلك من مجاراة الأمم الحية، وصارت تحت
أقدام الأمم التي يسمونها كافرة فاجرة، فيا ليت هذه الأمة تعلم من أضاع شريعتها
ودينها ومن أفسد عليها أمر دنياها، ويا ليتها تعلم أنهم ما قدروا عليها لولاها.
طال زمن الهدم في هذه الأمة لاتفاق رؤساء الدين مع رؤساء الدنيا عليه،
ولكن قد تباينت الرغائب في هذا العصر لا سيما في البلاد الهندية والعثمانية
والمصرية؛ فقد دخلت في الأمم بعض العلوم العصرية، والأعمال المدنية؛
فانقسمت الأمم إلى قسمين عظيمين: قسم يريد المحافظة على التقاليد والعادات
القديمة باسم الدين، وسلاحه موافقة العامة، وقسم يريد الانسلاخ منها، وأكثر أهله
من الخاصة. وأهم ما استفاد هذا القسم من التعليم الجديد حرية الفكر؛ لذلك تولد من
بين هذين الزوجين قسم ثالث يريد التوفيق بينهما وإقناع الجميع بأن الإسلام دين
الفطرة والمدنية ودين العلم والعقل، والمنار إنما أنشئ لهذه الدعوة وتأييد هذا
الحزب وتنميته، والرجاء بالله أن يكون هذا الحزب هو الفائز والعاقبة له {فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) .
_________
(1)
قال تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ](الحديد: 25) والمراد بالميزان: البرهان العقلي في العقائد والعدل في الأحكام.
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطبة من خطب عمرو بن العاص
منقولة من الجزء الثالث من كتاب أشهر مشاهير الإسلام
رأينا في تاريخ ابن عساكر خطبة نفيسة لعمرو بن العاص من أحسن أقواله،
يوصي بها الناس بالقصد، وعدم السرف، وحسن معاملة القبط، وصرف العناية إلى
خيل الجند بالقيام على تربيتها وسمنها، وغير ذلك من الوصايا الجميلة النافعة رواها
ابن عساكر عن بُحَير بن داخر المعافري قال:
ركبت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة، وذلك آخر الشتاء بعد حمم (كذا)
النصارى بأيام يسيرة فأطلنا الركوع؛ إذ أقبل رجال بأيديهم السياط يؤخرون الناس
فذعرت، فقلت: يا أبت من هؤلاء؟ قال: يا بني هؤلاء الشُّرَط. وأقام المؤذن
الصلاة فقام عمرو بن العاص على المنبر فرأيت رجلاً قصير القامة أدعج أبلج [1]
عليه ثياب موشية (أو موشاة) كأن بها العقيان [2] تتألق عليه وعمامة وجبة ، فحمد الله
وأثنى عليه حمدًا موجزًا، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ووعظ الناس
فأمرهم، ونهاهم فسمعته يحض على الزكاة وصلة الرحم وينهى عن الفضول وكثرة
العيال، وقال في ذلك:
يا معشر الناس إياي وخلالاً أربعًا فإنها تدعو إلى النَّصَب بعد الراحة، وإلى
الضيق بعد السعة وإلى الذلة بعد العز؛ إياي وكثرة العيال، وانخفاض الحال
وتضييع المال، والقيل بعد القال في غير دَرَك ولا نوال، ثم إنه لا بد من فراغ يؤول
المرء إليه في توديع جسمه والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، فمن
صار إلى ذلك؛ فليأخذ بالقصد [3] والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء في فراغه
نصيب نفسه من العلم، فيكون من الخير عاطلاً، وعن حلال الله وحرامه عادلاً، يا
معشر الناس قد تدلت الجوزاء وركبت الشعرى، وأقلعت [4] السماء وارتفع الوفاء
وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرجت السمائم [5] وعلى الراعي حسن النظر. فحي بكم على بركة الله على ريفكم، فتناولوا من خيره ولبنه ومرافقه وصيده ،
وأربعوا بخيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها فإنها جنتكم [6] من عدوكم وبها
تنالون مغانمكم، وتحملون أثقالكم، واستوصوا بمن جاورتم من القبط خيرًا. وإياي
والمومسات [7] المفسدات؛ فإنهن يفسدن الدين، ويقصرن الهمم، حدثني عمر أمير
المؤمنين، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله سيفتح عليكم
بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرًا فإن لكم منهم صهرًا وذمة) فكفوا أيديكم،
وفروجكم وغضوا أبصاركم فلأعلمن ما أتاني رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه [8]
من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك ، واعلموا أنكم في رباط الى يوم القيامة؛
لكثرة الأعداء حولكم، ولإشراف قلوبهم إليكم وإلى داركم، معدن الزرع والمال
والخير الواسع والبركة التامة. حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: (إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندًا كثيفًَا فذلك الجند
خير أجناد الأرض) فقال له أبو بكر: ولِمَ ذاك يا رسول الله؟ قال: (لأنهم في
رباط إلى يوم القيامة) . فاحمدوا ربكم معشر الناس على ما أولاكم وأقيموا في ريفكم
ما بدا لكم. فإذا يبس العود، وسحق العمود، وكثر الذباب، وحمض اللبن،
وصوَّح [9] البقل، وانقطع الورد، فحي على فسطاطكم على بركة الله ، ولا يقدمن أحد
منكم على عياله إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطلق من سعته أو عسرته) اهـ.
(المنار)
هكذا كانوا يخطبون الناس يعلمونهم ما به صلاح دينهم ودنياهم،
ويرشدونهم إلى حسن العمل في المعايش، وحسن المعاملة مع الموافق والمخالف،
فليعتبر بهذا خطباء التقليد في هذا العصر إن كانوا يفقهون. و (السمائم) نوع من
الطير: و (السماسم) النمل و (الشعرى) الكوكب الذي يطلع في الجوزاء، وذلك
عند إقبال الحر فهو يقول: ذهب الشتاء وجاء وقت العمل والحرث. والوصية من
النبي وعمر وبالمرابطة في مصر تدل على أن هذه البلاد لا تحفظ من اعتداء الأجانب
إلا بالقوة الجندية الدائمة، فإنها مقصودة من الفاتحين لخيرها وضعف أهلها، ولكن
المسلمين المتأخرين والمتوسطين لم يفهموا ما يؤثر عن الأولين.
_________
(1)
الأدعج: أسود العينيين، والأبلج: المضيء المشرق.
(2)
العقيان: الذهب الخالص.
(3)
أي: بالاعتدال.
(4)
وأقلعت السماء أي: كفت وهو كناية عن انقطاع المطر.
(5)
كذا في الأصل ولعلها: السوائم وهي الماشية.
(6)
الجنة هي: الوقاية.
(7)
العواهر.
(8)
جواب قسم محذوف أكد بالنون الثقيلة، وما: مصدرية؛ أي: فوالله لأعلمن إتيان رجل موصوف بما ذكر وفي طيه من الترهيب البليغ ما لا يخفى، وقد بين بعد جزاء من فعل ذلك بقوله فمن أهزل فرسه إلخ.
(9)
صوح؛ أي: يبس أعلاه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
البعث الجثماني
(س5) عبد الرحيم أفندي محمد القناوي الحسيني بمدرسة الحقوق
بمصر تحادثت مرة مع صديق عن كيفية البعث والنشور ، وهل الحشر والحساب
يكونان بالأجسام التي نحن بها في عالم الدنيا كما جاء في أصول الشريعة، أم بغير
ذلك، فأنكر عليَّ أن الحشر يكون بالأجساد ، وعد ذلك من المستحيلات مستندًا في
رأيه على ما درسه من علوم الطبيعة حيث تقرر بها أن العلم التجريبي أثبت أن
المادة لا تزيد ولا تنقص ولا تنعدم مطلقًا، وأن جميع الكائنات من نبات وجماد
وحيوان تتداخل وتتناسخ، فإذا مات الإنسان وصار رفاتًا تحلل جسمه إلى العناصر
البسيطة الأولية التي يتركب منها كالكربون والأزوت، وقد ذهب بعض علماء
الكيمياء إلى أن الجسم يتركب من سبعين عنصرًا مختلفة، فهذه العناصر التي
يتركب منها الجسم حال وجوده لا تنعدم بعد فقده، وإنما تحلل تحليلاً كيماويًّا،
وينفرد كل عنصر على حدته، ثم يمتزج بما يلائمه من المواد الأخرى، ومن
ذلك تتكون الأسمدة والأسبخة التي تتغذى منها النباتات والأشجار، ومنها يأكل
الإنسان؛ فيتغذى جسمه وينمو، وبهذه الواسطة تتكون الأجسام الحية من
ثمرات البالية المندثرة ، وهكذا تتقدم تلك الأجسام الحية وتتكون منها أجسام أخرى
حتى يأذن الله؛ إذا تقرر ذلك نتج بلا شك أن جثمان أحد معاصرينا مثلاً مركب
من عدة أجسام تحللت ، وقد دخلت في تكوينه بواسطة الطريقة المتقدمة؛ فإذا
سلمنا بأن الحشر سيكون بالأجساد التي نحن بها في الدنيا فكيف يمكن حشر هذه
العناصر إذا جاء يوم الحساب؟ بل كيف يمكن حشر العالم بأجمعه منذ خلق الدنيا؛
لأن المادة الموجودة لا تكفي لذلك؟ فدعتني الحالة إلى تحرير ذلك إليكم؛ لتزيلوا
بفضل علمكم كل شبهة تتعلق بهذا الموضوع، والسلام عليكم.
(ج) إن علم الكيمياء قد قرب بارتقائه مسألة حشر الأجساد من العقل، وأدناها
من التصور حتى صرنا نبحث في كيفيتها بحثًا علميًّا. على أن أمور الآخرة من
عالم الغيب التي يكتفى فيها بالتسليم الإجمالي من غير بحث في الكيفية، وإنما
يشترط فيها أن تكون من غير المحال عقلاً؛ فليس لنا أن نبحث عن كيفية البعث،
ولا عن كيفية الحساب، ولا عن كيفية الجزاء في دار النعيم ودار العذاب متى علمنا
أنها ممكنة.
أما شبهة محادثك التي صورت له البعث بالروح والجسم معًا محالاً فهي واردة
على أقوال بعض العلماء أو أكثرهم؛ إذ زعموا أن البعث إنما يكون بالجسم الذي
عمل به الإنسان أعماله التي يجازى عليها. ولم يرد هذا القول في النصوص
الإلهية؛ وإنما هو شيء استنبطوه بأقيستهم، وفلسفتهم النظرية؛ إذ قالوا: لا يجوز
أن يقع الجزاء إلا على الجسم الذي تلبس بالعمل لئلا يكون الجزاء على غير العامل.
ويا ليت شعري! ماذا يقول هؤلاء إذا اطلعوا على ما أثبته العلم حديثًا من تبدل
مادة جسم الإنسان في كل بضع سنين مرة؟ ! بمعنى أن الأجسام التي نعيش بها
اليوم ليست عين الأجسام التي كانت لنا قبل هذه المدة. أيقولون فيمن ارتكب ما
يوجب الحد وغاب مدة يثبت العلم أنه قد تحلل فيها كل جسمه الذي زاول به ذلك
العمل السيء أنه لا حد عليه، ولا جزاء؛ لأن الجسم الذي عمل قد ذهب وحل
محله جسم آخر؟
إن الدين قد أثبت أن للناس حياة أخرى بعد هذه الحياة، وإنما الناس خلق
مركب من جسد وروح؛ وسيكونون في الحياة الثانية ناسًا كما كانوا في الحياة
الأولى؛ إلا أن تلك الحياة أرقى من هذه الحياة للراقين، وأسفل منها للمتسفلين.
فمن عرف ما هو الإنسان بحسب العلم الحديث سهل عليه أن يقبل هذا الاعتقاد؛ لأنه
يعلم أن الحياة صفة لازمة للروح وأن ظهور الأرواح في الصور المادية هو الذي
يعطي المادة الحياة، وبهذه الحياة تأخذ من عناصر الطبيعة ما يكون ممدًّا للجسم
الذي تظهر فيه ، وعوضًا عما يتحلل منه ويندثر كل آن، وبها يكون الجديد كالقديم
في وضعه، وصفاته الصورية والمعنوية بحيث لا يكون الإنسان المعين بتحلل جسمه
الأول وحدوث جسم جديد له إنسانًا آخر.
وإذا فهمنا هذا نفهم أنه لا يشترط في تحقق الحياة الثانية أن تكون مادة الجسم
هناك عين مادته هنا مادة ثابتة مستقرة بذاتها وعينها، وإنما هي مواد معينة بالتعيين
النوعي دون الشخصي؛ فالعناصر البسيطة لا تشخص في أجزائها ما يميز جزءًا عن
جزء، وإنما هي كالثياب تتجدد على كل حي ويبق هو هو {وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا
تَعْلَمُونَ} (الواقعة: 61) .
والقول بأن كل جزء من أجزاء العناصر دخل في بدن إنسان لا بد أن يعود بعينه
في الآخرة إليه فلسفة باطلة، وهو محال كما قال محدث السائل؛ لأن هذه الأجزاء
كما دخلت في بدن زيد دخلت في أبدان الألوف وألوف الألوف من الناس والحيوان
والنبات؛ ولأن هذا القول يقتضي أن يكون كل شخص في الآخرة كبير الجرم جدًّا
إلى درجة لم تخطر على بال أحد، حتى الذين قالوا: إن طول الإنسان في الجنة يكون
ستين ذراعًا.
ولا يقال: إن مادة الأرض لا تكفي لأجسام جميع من عاشوا عليها إذا عادوا
كلهم أحياء في ذلك اليوم الآخر؛ لأن الحياة الأخرى ليست على هذه الأرض وإنما
تكون {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَات} (إبراهيم: 48) وإنما يكون
خراب العالم باصطدام الأرض بأحد الأجرام السماوية، ثم بانتثار الكواكب
ورجوعها هباء (أو سديمًا) كما كانت قبل هذا التكوين {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجاًّ *
وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَساّ} (الواقعة: 4-5) أي: تفتت {فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثاًّ} (الواقعة:
6) ، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} (الانفطار: 1-2) وفي
معنى هذه الآيات آيات كثيرة فالنشأة الآخرة تكون في كوكب أو عالم أكبر من هذا
العالم، والأرواح الخالدة تأخذ منه مادتها؛ ويكون الناس هم هم كما يتبدل جسم
الإنسان في الدنيا عدة مرات ويبقى هو هو في عقائده وأخلاقه وعاداته، والله أعلم
وأحكم.
* * *
علم الغيب للأنبياء
ومسألة كتابة عمر للنيل
(س6 و7) الدكتور نصر أفندي فريد بالمنصورة: جمعنا مجلس
علمي تناقشنا فيه مع أحد أفاضل الأزهريين إذ تنبأ أن المحكمة ستبرئ متهمين في
قضية ، فقلنا له: لا يعلم الغيب إلا الله. فقال: إن لي حجة في قوله تعالى: {إِلَاّ
مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 27) قلنا: لست برسول. فقال: يقصد
برسول هنا في اللغة ما يعم، لا النبي المرسل المصطلح عليه فقط. فحاججناه فلم
يقتنع ، ثم دار بنا الحديث على مسألة كتابة عمر رضي الله عنه ورقة للنيل في
مسألة الفيضان المعلومة. فقلنا له: إنها خرافة وثنية مخالفة للدين ، وقد كنا قرأنا
ذلك في مناركم الأغر لكننا لم نعثر عليه الآن فنرجو نشر ذلك مع الفتوى في
مناركم الأغر إحقاقًا للحق وإزهاقًا للباطل حتى لا تعم هذه الخرافات التي أضرت
بالدين الحنيف.
(ج) قوله تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَاّ مَنِ
ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) يراد بالرسول فيه: النبي المرسل المبلغ
عن الله تعالى دينه بدليل قوله تعالى في الآية التي بعد هذه: {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا
رِسَالاتِ رَبِّهِم} (الجن: 28) فقول الأزهري: إن لفظ الرسول هنا عام يشمل
النبي المرسل وغيره باطل لا وجه له ويا ليتكم سألتموه عن هذا العموم اللغوي أيدخل
فيه كل رسول أرسله إنسان في حاجة له أم يشمل بعض رسل الناس دون بعض؟
وما معنى العموم حينئذ؟ وإننا لنعلم أن كثيرًا من الذين أخذوا بعض قشور العلم
يحرفون كل كلام حتى كلام الله تعالى ليؤيدوا دعاويهم أمام الناس ، وأن هذا من أكبر
أبواب الفساد الذي طرأ على العلم والدين ، ولكنهم كانوا يحرفون ويأولون ما يحتمل
ذلك بحسب اللفظ في الجملة. وما رأينا أحدًا تجرأ مثل أزهريكم على تحريف
القطعي تفسيرًا للقرآن برأيه وهواه نعوذ بالله ، ولو صح أن يكون مثل هذا رسولاً
لما كان ممن ارتضى الله.
ثم إن المراد بالغيب الذي يظهر الله من ارتضى من رسله عليه هو: عالم
الآخرة فقد أظهرهم على أمر الحساب والجزاء، وأعلمهم بأن هناك دارًا للنعيم، ودارًا
للعذاب وأطلعهم على عالم الملائكة
…
إلخ، ما أبلغوه من رسالات ربهم كما هو
منصوص في الكتاب العزيز، وليس معناه أن الله تعالى يطلع الرسل على ما غاب من
أمر العباد وما يجري لهم في الدنيا من رزق ونعيم وبلاء وغير ذلك، والدليل على أن
هذا غير مراد ما أمر الله تعالى خاتم النبيين أن يبلغه للناس عن نفسه بقوله: {وَلَوْ
كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) وما حكاه أيضًا عن غيره من رسله، كقوله عن لسان
نوح عليه السلام: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي
مَلَكٌ} (هود: 31)
…
إلخ، وأمر نبينا بمثل هذا في سورة الأنعام.
وأما مسألة النيل فقد كان من وثنية قدماء المصريين الاعتقاد بأن النيل مقدس أو
إله، وأن عمر بن الخطاب عليه الرضوان أبطل خرافة إلقاء البنت العذراء فيه كما
نقل، والقصة مبسوطه مع تأويلها في مجلد المنار الثاني فلتراجع في مبحث الكرامات
المأثورة (ص 550) .
* * *
البدعة الدينية والبدعة الدنيوية
(س 8) ا. ش. التتاري بروسيا: إيش معنى البدعة والمحدثة في قول
النبي صلى الله عليه وسلم: (وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في
النار) ومعنى السنة الحسنة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة
حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها) ؟ وقد قسم بعض العلماء البدعة إلى حسنة
وسيئة وبعضهم يقول: إن كل بدعة سيئة، وضلالة كما في الحديث والمراد من السنة
الحسنة الشيء الآخر فكيف العمل دام فضلكم؟
(ج) كل ما أحدثه الناس في أمر الدين ولم يأخذوه من كتاب الله أو سنة
رسوله المبينة لكتابه فهو بدعة سيئة وضلالة يستحق متبعها العقوبة في النار، وإن لم
يصح في الحديث زيادة: (وكل ضلالة في النار) فقد أتم الله الدين وأكمله فمن
زاد فيه كمن نقص منه كلاهما جان عليه وغير راض بما شرعه الله، وأعني
بالدين هنا: مسائل العقائد والعبادات والحلال والحرام دون الأحكام الدنيوية التي
فوض الشرع أمرها إلى أولي الأمر ليقيسوها على الأصول العامة التي وضعها
لها. ذلك أن الجزئيات لا تنحصر فيحددها الشرع؛ بل تختلف باختلاف العرف
والزمان والمكان؛ فمن ابتدع طريقة لتسهيل التعامل أو التقاضي غير ما كان
عليه السلف؛ وكانت نافعة غير منافية للأصول الشرعية العامة كبعض نظام
المحاكم الجديد؛ كان له أجر ذلك.
وأما ما يعتقد في الله واليوم الآخر ، وما يتقرب إلى الله تعالى به من العبادة فهو
لا يختلف ولذلك لا يقبل رأي أحد فيه ، بل يؤخذ كما ورد عن الشارع من غير زيادة
ولا نقصان، وإننا لنعجب من الذين زادوا في العبادات أحكامًا وأذكارًا، وأورادًا كيف
غفلوا عن تقصير الناس في القيام بما ورد فقاموا يطالبونهم بأكثر منه ، وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأعرابي الذي حلف أنه لا يزيد على ما فرض الله
عليه شيئًا ، ولا ينقص منه شيئًا:(أفلح الأعرابي إن صدق) وهذه أذكار
القرآن وأدعيته لا نكاد نرى مسلمًا من أهل الأوراد يدعو بها كلها، فهل كانت أدعية
شيوخهم المخترعة خيرًا منها؟ على أن الدعاء بغير ما ورد لا يعد بدعة إلا إذا كان
مخالفًا لما ورد، أو كان معه بدعة أخرى كاتخاذه شعارًا دينيًّا والتزامه في مواقيت
معينة.
وأما السنة الحسنة والسنة السيئة في الحديث الآخر فهي تشمل كل ما يخترعه
الناس من طرق المنافع والمرافق الدنيوية أو طرق المضار والشرور ، فمن اخترع
طريقة نافعة؛ كان مأجورًا عند الله تعالى ما عمل الناس بسنته، وله مثل أجر كل
عامل به؛ لأنه السبب فيه، وكذلك حكم مخترعي طرائق الشرور والمضار،
كالضرائب والغرامات والفواحش عليهم وزرها ما عمل الناس بها كما تقدم، ونظن أن
قد سبق لنا الإلمام بهذا المعنى ، وقد أوضحناه أتم الإيضاح في كتابنا (الحكمة
الشرعية) فعسى أن نوفق لطبعه.
وقالوا: بدعة حسنة وبدعة سيئة وهو يصح في البدعة اللغوية أو الدنيوية،
ومن قال من العلماء: إن البدعة لا تكون إلا سيئة أراد البدعة الشرعية - أي:
الابتداع في الدين - وقد ذكر نحو هذا ابن حجر في الفتاوى الحديثية.
* * *
كيفية زيارة قبور الصالحين
(س 9) محمد أفندي صدقي بزفتى طالعنا ما نشرتموه في شأن البدع التي
تحصل عند زيارة مقامات الأولياء مما تكافئون عليه من الله بأحسن الجزاء،
ونسأل الله أن يوفقكم إلى تربيتنا وهدينا إلى سواء السبيل، ونرجو أن ترشدونا إلى
ما يحسن اتباعه عند زيارة هذه المقامات خصوصًا مقامات آل البيت ولكم الشكر.
(ج) لم يرد في الكتاب ولا السنة التي يحتج بها شيء في زيارة قبور
الصالحين خاصة ، بل كان النهي عن زيارة القبور في أول الإسلام مقصودًا به إبعاد
المسلمين عن مظنة تعظيم قبور الصالحين، ولما أذن النبي بعد ذلك بالزيارة
للرجال ، وعلل ذلك بأنها تذكر بالموت أو بالآخرة ظل ينهى عن تشريف
القبور وبناء المساجد عليها، وعن الصلاة بالقرب منها ، وعن إيقاد السرج عليها
وكان يلعن فاعلي ذلك ، وقال في بعض هذه الأحاديث: (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا
…
إلخ) كما في مسند أحمد وصحيحي
البخاري ومسلم وغيرها من الكتب. فعلم من هذه الأحاديث أن زيارة قبور الصالحين هي مظنة الفتنة وتعظيم ما لم يأذن الله بتعظيمه، لا سيما إذا كانت هذه القبور
محاطة بالبدع كبناء المساجد عليها ، وإيقاد الشموع عندها، والصلاة بالقرب منها،
والتمسح بأحجارها ونحاسها، والتماس الخير ودفع الشر منها بالاستقلال أو
الواسطة. فهذه البدع والمنكرات تجعل زيارة قبور الصالحين دون زيارة سائر
القبور التى تقل عندها المنكرات إلا إذا كان من يحضر عند تلك القباب والمساجد
يأمر بالمعروف وينهى عن كل منكر يراه. فإن كان لا يفعل هذا فأي فائدة له من حمل حرمة السكوت على المنكرات الكثيرة لأجل فائدة الزيارة التى لم تفرض عليه ، ولم تسن له، ولم تعهد من الصحابة عليهم الرضوان، وغاية ما فيها أن النبى صلى الله عليه وسلم أذن بها لأجل الاعتبار بعد النهي والمنع، والأمر الوارد على منهي عنه يفيد الإباحة وأكثر ما فيه أن يقال: هو مستحب إذا خلا من
كل منكر.
على أننا مع العلم بهذا كله قد اهتدينا لحكمة ومنفعة خاصة لزيارة قبور
المعروفين بالعلم والصلاح، وبيناها فى المنار من قبل، وهى تذكر تاريخهم
وسيرتهم الحسنة، وما يبعث فى النفس حب التأسي بهم فى طاعة الله، وخدمة الحق،
وخذلان الباطل، وهذا المعنى هو المراد من قول بعض العلماء: إن فى زيارة قبور
العلماء العاملين والصالحين بركة، فإن البركة هي الزيادة، والزيادة لا بد أن تكون
فى شيء مزيد فيه، ولا شيء في مقام الزيارة موضع للمزيد إلا الاعتبار المقصود
من الزيارة شرعًا. ويستحب للزائر أن يسلم ويدعو للمزور، كما ورد فيقف متأملاً
معتبرًا داعيًا مستعبرًا. فهذه هى الزيارة المحمودة، والأحاديث صريحة في أن
الرخصة فى زيارة القبور خاصة بالرجال فلا تجوز للنساء.
* * *
(تشييع الجنازة)
(س10) ومنه: نرجو الإفادة عما يجب اتباعه في تشييع جنازة الميت وهل
يجوز ما هو شائع الآن من قراءة القرآن والأذكار والصلوات وغير ذلك في الشوارع
والأسواق أم لا؟ والله المسؤول أن يبقيكم ويجعلكم خير مرب للأمة آمين.
(ج) الذي يستفاد من الأحاديث الصحيحة أنه يستحب الإسراع بالجنازة،
ويحرم اتباع المصحوبة بنائحة، وقد ذكرنا من قبل أن هذه الأذكار والأشعار والترانيم
التي يصيح بها المسلمون أمام الجنازة مبتدعة، وأنها سرت إليهم من الملل الأخرى ،
وأظن أن أكثر الناس لا يزالون يعرفون هذا فإننا نسمعهم يقولون فى الجنازة التى لا
أصوات معها: إنها على السنة. وإن لكل حالة عبادة تناسبها ولا أفضل لمشيع
الجنازة من التفكر فى الموت وما بعد الموت.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع
حب القوة.. رابطة المدنية
ويظهر أن أول مال تموله الإنسان هو ما أسره من الحيوانات الكثيرة التي سهل
عليه أسرها وتأنيسها؛ أي: جعلها أنيسة غير نافرة ولا عادية. وبهذه الحيوانات التي
طفقت تتناسل وتتزايد في ظل حمايته ورعايته وعنايته قد استغنى أولئك الأوائل
بعض الاستغناء عن الكد في الصيد. فإن الفاطر أوحى إليهم أن يجربوا ألبان
الحيوانات المأسورة فرأوا أن ألبان البعض منها غذاء طيب ساد عن كل شيء ،
ووجدوا بعد هذا أن اللحوم أمر زايد يجنحون إليها إذا ما وجدوا في أنفسهم سآمة من
الألبان.
ولا يبعد أنهم قبل أن يتمولوا هذا المال كانوا يجتزءون بالعشب والحبوب يوم
لا يجدون مصيدًا؛ ولذلك بقوا يحنون إلى بعض الأعشاب التي استطابوها بعد أن
جربوا هذا الغذاء الكافي. وربما كان تخصيص بعض الحبوب والنباتات بالأكل تطلبًا
بوحي وإلهام، ثم اعتادوها دائمًا حتى صاروا يدخرونها؛ ولذلك يجوز لنا أن نظن أن
المال الثاني الذي تموله النوع هو ما اعتاد أكله الإنسان مما تخرج الأرض من نباتها
وحَبها؛ فكأن طفق فريق منهم يجمعونها ويدخرونها، ثم وجدوا حرجًا في جمعها حبة
حبة مثلاً من كل بقعة فرأوا أن يبذروها في بقاع خاصة فحدثت لهم صناعة الحرث
والزرع، ولا تنسوا تلك المدى الصوانية فهي التي نجرت لهم المحراث الذي
يبحثون به في الأرض ليدفنوا به الحبوب ، وهي التي نجرت المدق لاستخراج
الحبوب.
ولما كان المزروع يستدعي الحفظ من الحيوانات طواعم الأعشاب ، وادخار
الحبوب ليوم البذار؛ ليستدعي أماكن يؤمن فيها من البلل الضار بها؛ احتاج الذين
عنوا بهذا المال الثاني إلى الإقامة بجوار الأرضين التي يبذرون فيها، واحتاجوا إلى
اتخاذ بدل عن تلك الأخبية التي لا تقي الحبوب الكثيرة من البلل، فرأوا أن يقلدوا
الغيران، ويتخذوا لهم ولحبوبهم أماكن ثخينة يؤلفونها من الحجر والتراب، أو من
الأعواد والتراب، وليس ببعيد أن يكونوا تعلموا صنعة البناء من الحيوانات الصغيرة
التي تدخر الحبوب كالنمل مثلاً كما تعلموا صنعة النسيج من الحيوانات التي تنسج
كالعنكبوت مثلاً، ولكن الأقرب أن يكونوا تعلموا كل أوائل الأشياء بإلهام من الفاطر
كما أن الحيوانات كلها تعلمت ما تحتاج إليه بحسب خلقتها بإلهام منه - جل وعلا -
ثم عجز هؤلاء الزراع عن أن يتمولوا الكثير من الحيوانات المأسورة؛ لأن
العناية بها تقتضي الرحيل الدائم لأجل تتبع الأرضين التي فيها الكثير من العشب
الطبيعي ، وعجز أولئك الرعاة عن أن يتمولوا الكثير من تلك الحبوب التي تقتضي
الإقامة، والاشتغال بالحرث وتوابعه؛ فانقسم الذين كانوا مجتمعين إلى فريقين: فريق
المتمولين من الحيوانات، وفريق المتمولين من الحبوب. واختار كل من الفريقين ما
مالت إليه نفسه من المال، ودأب يسعى في تنميته والإثراء منه، وبحسب هذا
الانقسام انقسم الوطن إلى قسمين، وطن الرحَّل، ووطن المقيمين. وأصبح كل من
الرحل والمقيمين محتاجين في الحقوق والمعاملات التي بينهم أنفسهم إلى ناموس.
ومحتاجين إلى ناموس آخر في الحقوق والمعاملات التي بينهم وبين الآخرين.
ويمكننا أن نسمي الأول بالسياسة الداخلية، والثاني بالسياسة الخارجية.
وههنا حان لنا أن نأتي القراء بالإشارة إلى أقسام النظامات التي تندرج تحت
تينكم السياستين؛ لتعلموا أن الشرائع كتربية الأخلاق قديمة جدًّا ينتهي قدمها إلى
أوائل المجتمعين من البشر، وذلك لا يعلمه إلا الذي خلق. وبذلك تعلمون قدم عهد
المدنيات التي بسطنا هذا الكلام لتشريح شيء من بنيتها التي عظمت جدًّا. والخالق
أعلم بما سيكون.
فمن تلكم الأقسام نظام المبادلات والمعادلات ، وبدون هذا النظام لا يتم اجتماع
صالح للنمو والأمن والتميز على الحيوانات، وفيه أقسام:
(1)
شريعة البيوع، وهو اللازم العاشر.
(2)
شريعة الإجارات وهو اللازم الحادي عشر.
(3)
شريعة القسمة: وهو اللازم الثاني عشر.
و (4) شريعة القروض والودائع والعواري، وهو اللازم الثالث عشر.
و (5) شريعة الغصب والإتلاف، وهو اللازم الرابع عشر.
ومنها نظام المواريث ، وهو اللازم الخامس عشر، وهذا أيضًا من
الضروري؛ لأنه إذا مات الواحد لابد من أن يأخذ ماله الأحياء فمن هو الأحق بأخذه.
ومنها نظام الجزاء: وهو اللازم السادس عشر فبدون الجزاء يتمادى المعتدي
وينتفي الأمن.
ومنها نظام حماية الضعفاء: وهو اللازم السابع عشر فبدون تي الحماية يؤول
الأمر إلى عدم تكاثر القليلين، وهم إلى ذلك محتاجون.
ومنها نظام المعاهدات الخارجية: وهو اللازم الثامن عشر فبدونه لا يتسنى
لسكان الأرض من البشر أن يستريحوا طرفة عين، ولولاه لما نما البشر ، ولما أخذ
النوع حظه من التميزات، والارتقاء البديع.
ومنها نظام إحداث القوة وهو اللازم التاسع عشر.
وفي هذا أقسام:
(1)
ركز القوة في مركز؛ أي: إقامة الرئيس ونصبه.
(2)
طاعة المرءوسين للرئيس.
(3)
تسليم القوة للرئيس.
(4)
شروط الرئيس والرئاسة والطاعة ، واستلام القوة والتصرف بالقوة،
وحدود كل من المذكورات ومقاديرها.
ومنها نظام وضع النظامات. وهو اللازم العشرون. وما أخرناه في الذكر إلا
لأنه يتأخر حدوثه في المجتمعين؛ لأنهم يضعون النظامات أولاً من غير نظام
فيظهر فيها خلل ما قليل أو كثير؛ فيحتاجون لنظام النظامات، قانون القوانين
ناموس النواميس، شريعة الشرائع.
هذه الشرائع والنظامات، أو هذه اللوازم والمقتضيات هي جُل، أو كل
الأصول التي يخوض في جداول فروعها علماء الأخلاق وعلماء الشرائع. وإن
كنت قد نسيت شيئًا فليس على من قرأ هذا النموذج أن يحصي ما نسيت مع ما
ذكرت.
وكل ما أحصيناه يحتاج إليه الفريق الرحَّل كالفريق المقيمين غير أن الرحَّل
الرعاة بما جمدوا على ذلك المال الواحد ، وبما رضوا من الحياة البسيطة التي لا
زينة فيها؛ بقوا في أمر هذه الشرائع على سذاجة الفطرة أو ما هو قريب منها،
وأما المقيمون فإنهم ما زالوا يتقلبون في الحاجات التي يسوقهم إليها حب الزينة
(الذي يألف المقيمين وينيخ لديهم) حتى توسعوا في الحياة؛ فاحتاجوا أن يتوسعوا
في أمر الشرائع. ويظهر أن هؤلاء المقيمين بعد أن اختاروا الإقامة لأجل زرع
الحبوب وحفظها، وما هو من بابها بدأوا يطلعون بواسطة البحث في الأرض للبذر
فيها على ما في خزائن الأرض مما نسميه (المعدن) وهو المال الثالث ، ثم أخذوا
يصطنعون من المعدن، وبواسطة المعدن مصنوعات كثيرة زائدة وهي المال الرابع.
ولا مجال للظن في معرفة أول معدن اطلع عليه البشر، وعرفوا خاصته
ولكن يمكننا أن نظن أن الإنسان بقي في أبسط الحالات حتى اكتشف سر النار ،
وأنه لم ينفعه شيء من المعادن مثل ما نفعه الحديد؛ لأن الحديد أبو الآلات كلها ،
ففي اليوم الذي عرف الإنسان خاصة الحديد دخل في دور جديد؛ وذلك لأن
اجتماع مائة إنسان مثلاً في أرض واحدة، وتجاورهم في المساكن يقضي عليهم أن لا
يكونوا متحدين في الصنعة لوجوه كثيرة.
منها: أن قواهم البدنية تختلف فمنهم من يستطيع الحرث، ومنهم من لا
يستطيع، أفيترك من لا يستطيع الحرث سدى أم يعمل شيئًا آخر؟ وماذا يعمل؟
ومنها: أن قواهم العقلية تختلف فمنهم من يجد ذهنه أعمالاً غير الحرث، فهل
يجبر على الحرث أم يعمل كما وجد ذهنه؟ وما هو؟
ومنها: أن قواهم القلبية تختلف فمنهم من يقنع بحالة واحدة ، ولا يغرم بالزينة ،
ومنهم من لا يقنع ويكلف بها. أفيموت قهرًا؛ لأنه لم يجد ما يقنعه؟ أم يتفكر
بإيجاد ما يقنعه؟ وما هو؟
ومنها: أن المال الواحد إذا عمل الكل على تنميته؛ نما جدًّا حتى يتعسر حفظه،
أو يصير العمل بتنميته على الدوام مع كثرته الهائلة عبثًا، فهل يشتغلون بالعبث؟ أم
يتفكرون بمال آخر؟ وما هو؟
هذه الوجوه المبينات هي الحاكمة على مائة مجتمعين معًا أن يتفكروا فيجدوا
بأذهانهم ما هي تلك الأشياء المسئول عنها من الأعمال والصنائع اللازمة، وبعد أن
يجدوا بأذهانهم يعمل كل واحد منهم في العمل الذي استعد له بحسب بدنه، بحسب
عقله، بحسب قلبه؛ وإذا كان عشرة من المائة يكفونهم جميعهم الهم في تحصيل
الحبوب اللازمة مع الزيادة، فماذا يصنع التسعون؟ ثم إذا وسعنا هذا المقياس نرى
أن ألف ألف من البشر يكفيهم في الحرث مائة ألف مثلاً فماذا يصنع (900000) ؟
ليس شيء أسهل من أن يقول السامع: يشتغل هذا العدد بصناعات متعددة.
نعم، ولكن بم يصنعون؟ أبأيديهم اللحمية؟ أم بآلاتهم الأولى الخشبية؟ أم بمداهم
الأولى الصوانية؟
لا يسهل الجواب عن هذا إلا من بعد معرفة خاصة الحديد والاستفادة منه ،
فإنه في ذلك اليوم الذي عرف فيه الحديد تعددت المصانع، فاتسعت المزارع،
فتوفرت المتاجر، فتعظمت الشرائع.
وإننا لنعلم أنه ليس لأحد غير الخالق علم بكل ما تقلب فيه الإنسان من
الأطوار لا سيما التي في بدء أمره، ولكن جرأنا على هذه الظنون اعتقادنا أن هذا
النوع لم تخلق له كل العلوم والصنائع التي نراها اليوم مثلاً يوم خلق، وحملنا
عليها اعتقادنا أن الاجتماعات العظيمة في النوع إنما كانت على التدرج ، واعتقادنا
أن لكل اجتماع خواص تقتضي ظهور أمور جديدة، فتتبعها تلك المقتضيات وتظهر
بسرعة أو بطء على قدر الاقتضاء.
على أننا إذا لم نجل الخاطر فيما جرى للأولين لا يكمل تفقهنا في أحوال
الحاضرين، ولا نكون قد أخذنا لأنفسنا حظًّا من لذة النظر في مرائي الكون
الإنساني التي تتجلى فيها الصور على أنحاء شتى بعضها في نظرنا أجمل من
بعض، ولاحَظَّ من فائدة التفكر لوجدان أسباب معقولة لمسببات محسوسة، ووجدان
حلق مجهولة تتصل بها الحلق المعلومة.
نحن اليوم في قرى ومدن، وبين أيدينا ما لا يحصي من مزارع ومصانع
ومعادن وحيوانات، ونحن اليوم جماعات كثيرة بعضنا لبعض عدو، وبعضنا
لبعض ظهير، أفخلقنا هكذا؟ أم أوصَلَنَا إلى هذا الحاضر ماضٍ طويل؟ أجيِّد لنا
هذا الحاضر؟ أيوجد أجود منه؟ هل الأجود في الحاضر؟ إن كان في الماضي فما
محاه؟ إن كان في الآتي فكيف يأتي ومتى؟
يا إخوان القراءة ألا تخطر في بالكم هذه الأسئلة؟ ألا تهيئ شئون هذه الحياة
الاجتماعية الملفقة من لبنات متعددة الألوان؟
وكيف يمكننا الجواب عنها إذا لم نجل الخاطر يمنة وشمالاً في التقلبات
الماضية؟
من أجل ذلك تكلمنا في (رابطة القومية) على نبذة من ماضي الإنسان في
تناسله وتقاربه وتباعده حتى بينا أن تلك الرابطة نافعة غير أن نفعها أبتر، وأنه قد
ينقلب نفعها ضررًا؛ إذا قاومت بأحكامها ما هو أنفع منها ، ثم تكلمنا في (رابطة
الدين) على نبذة من ماضي الإنسان في احتياجاته للمصطفين الأخيار الذين يوحى
إليهم أن يعلموا البشر أعظم أركان الحكمة، وأصل الأصول في مصلحة النفس في
انفرادها واجتماعها ، وبينا فوائدها في شئون نظام الاجتماع من حيث هو.
وبالجملة قد بينا في الاثنتين الأسباب التي تدعو إليهما، والنتائج التي تنتج
منهما ، وبديهي لمن قرأ أنهما كلتيهما لم تنتج عنهما وحدهما هذه البزة الحاضرة
للبنية الاجتماعية. أفلا يقال: ما أحدثتها؟
إن أقل: إنما أحدثها (حب الزينة) و (حب التميز) ؛ فما كان الصواب
ليعدوني في هذه القولة، وقد قلتها من قبل في مناسبة أخرى، ولكن هل يكفي حب
الشيء في تحصيله من غير آلات؟ إن ذلك لم يكن قط. فالآلات التي تحصل
للنوع (أفرادًا ومجموعًا) ما به الزينة - على حسب اعتبار كل - وما به التميز (على حسب تصور كل) هي أعضاء هذه البنية. وحب الزينة وحب التميز روح
حركتها. والنظام الناموس، القانون، الشريعة، المنهاج روح تَعَظُّمِها وتكملها
وانبساطها.
ونسمي المجموع (رابطة المدنية) أو (رابطة الوطنية) و (رابطة
الاجتماع) أو (رابطة الحكومات) ، وقد اخترنا الأول واقتصرنا عليه؛ لأنه أظهر
دلالة بحسب اللغة والاصطلاح والحقيقة. وللكلام في هذه الرابطة التي تحدث قوة
كبرى للأمم المجتمعة نحرر هذه النبذة، وقدمنا بين يديها هذا التمهيد عسى أن يكون
موقظًا للتفكر؛ فإنما يسطع العلم في الأفكار المتهيئة.
(لها بقية)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(ع. ز)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: أحد علماء الشيعة الأماجيد
تقريظ المنار ورسالة التوحيد
لأحد علماء الشيعة الأماجيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه، وسيد أنبيائه ورسله
وعلى آله، وصحبه أجمعين.
لَمْ أكن منذ تصديت لاكتساب المعارف، والنظر في علوم الدين أرغب في
الاطلاع على جريدة، أو صرف مدة في إمعان النظر في مجلة لما انغرس في
فكري من قلة الفائدة بذلك، وتضييع الوقت حتى ملأت مسمعي ضوضاء المجلات
وتعرضها للدين. كل على حسب أغراضه ودواعيه فتاقت نفسي لمطالعة بعضها
وتفريغ وقت لتسريح النظر فيها، وأولها وقع في يدي كراريس وصحف متفرقة من
مجلة الإسلام في عصر العلم فأعجبني من منشئها الفاضل الحمية للإسلام، وعلو
همته، وتعلقه بأمور عالية يعم نفعها، وتكثر حاجة الوقت إلى بسطها ونشرها،
ونسأله تعالى أن يمده بسعة الباع، وكثرة الأعوان، وعوز الاطلاع، وقد رأيته
يدور حول مركز لا يعدوه، ويقرع بابًا ربما يفتح له إن أدمن، وإلا فحسبه ثواب
حسن النية، ولكل امرئ ما نوى، وقد انقطع صوته عني منذ برهة. وعسى أن
تفتح له أبواب مقاصده، ويتسع عليه مجاله، وتزول العوائق عن سير مجلته،
وينفع الخاصة والعامة بما يهتدي إليه ويهديه للأمة من دواء دائها العضال.
ومنذ أيام أتحفت بالمجلد الخامس من مجلتكم الغراء حسنة هذه الأيام، ونتيجة
سعد هذا الدور (منار الإسلام) بل النور الساطع في كافة الأنام، والماحي بلألائه
حنادس الظلام، ولا بدع إذا انبثق من فرع زيتونة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه
نار، وغصن شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومن طابت أرومته وزكت
جرثومته ، فهو الجدير بأن يحلو جناه، وتعرب عن طيب أصله أقواله وسجاياه.
مما استعذبته - وكلها عذب سائغ - تأليفكم بين فرق الإسلام، ورفع الوحشة
التي نشأت عليها أحداث الأمة في الأعصر الأواخر، وفشت بين العامة والخاصة
حتى فتت في عضد الاجتماع، وحلت عرى الارتباط ، وخيل للسواد أن لا جامع
ولا رابط، وأن البون بعيد المسافة، والقرن مبتول ومنفصم، وجعلوا لكل فرقة
نبزًا تمتاز به، ونسبة تنحاز إليها، وما هي إلا فتنة ألقحها من الماضين حب تشتت
الرأي في ذوي الآراء، وإلجائهم للمناظرة واستحكام شبهة للبعض، حتى أصر كل
على رأيه، ولم يكن في شيء من دعائم الدين، ولا في الضروريات من أصوله،
ولا في أمهات فروعه، أترى فيهم حاشاهم من يشك في التوحيد، أو ينازع في
النبوة أو يخالف في المعاد، أو يتأمل في وجوب الصلاة ، أو ينتظر في افتراض
الزكاة ، أو يناقش في الحج، أو يثبط عن حفظ بيضة الإسلام وحوزته؟ كلا،
وإنما ذاك في أمور، وربما يعذر المخطئ بها بل يؤجر بعد الاجتهاد، وبذل الوسع
والطاقة في النظر بالمقدمات التي يتوقف عليها البرهان، وإتقانها وأحكامها حسب
الجهد والإمكان {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) وما هو إلا
كاختلاف الأئمة - رضوان الله عليهم - (الذي هو رحمة للأمة) في فروع لم تعلم
من نص الكتاب ولا من السنة المتواترة، ولا من إجماع الأمة والأصحاب. على
أن ذلك في الكثير يسير، وفي الباقي لفظي يئول إلى الوفاق في المقصد، والاتحاد
في المراد، وإن اختلف التعبير.
وحسبك في ذلك ما يقتبس من رسالة التوحيد لأستاذ الكل ووحيد هذا العصر
أو من نظيره قل ، عليم العلوم الذي عم مده، الشيخ محمد عبده كثر الله في الأمة
أمثاله، وزاد بين الورى إعظامه وإجلاله، فكم له فيها من حز أصاب المفصل
ورمية لم يخط بها الغرض، وإن خفي على المتأمل، وتحقيق كشف به الحُجَّاب
لأولي البصائر والألباب، ولم يدع بعده عذرًا لمنكرٍ ولا مرتاب ، وحاشا أن تخلو
الأرض من عامل يعمل فيها بخير وهدى، وداع يدعو فيها إلى طريق نجاة ورشاد
للورى، فكم دافع عن الإيمان بلسان أمضى من السنان، وعن الإسلام بأقلام أمض
وقعًا في الكفر من مريشات السهام، وعن الحنيفية البيضاء بمسود مداد أقطع من
البيض الحداد، أوضح مع الإيجاز أدلة التوحيد بعد إثبات الواجب بما لا يطلب
المتأمل بعده من مزيد ، وجال جولة في بيان ما يمكن الوصول إليه من الصفات -
أغنى بها المنصف عن اللجاج والتعرض للهلكات - وأوجز في صفتي الكلام
والبصر ما فيه البلاغ والعبر، وتكلم في أفعاله تعالى بما يسبق إلى القلوب اعتقاده،
وألف بين الفريقين كما هو حري أن يتبع، وقرب ما توهم استبعاده، وسلك في
الجبر والاختيار جادة الاعتدال، ومال في مبحث حسن الأفعال إلى أحسن الأقوال،
وبسط القول في النبوة والرسالة حتى أوضح الحق وقمع الجهالة ، وألف في مبحث
الرؤية بين الفريقين، ورفع الوحشة، وأزال النزاع من البين ، وذلك الفضل من الله
يؤتيه من عبادة من يشاء ، ويمنحه من سبقت له العناية فيه منذ فطر الأشياء؛
فجدير بمصر أن تفتخر بمن فيها من أفاضل العصر ، وحقيق بحملة العلم في كل
قطر أن ترفع أيدي الابتهال لعزة ذي الجلال بالدعاء لكم بدوام التأييد والمجد ،
والتوفيق لنصرة الدين، وإيضاح الحق، ودحض الباطل، وإرشاد الضال ، وجمع
الكلمة وإحكام الألفة بين المسلمين. إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير آمين آمين.
(لها بقية)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(ع. ز)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: حافظ إبراهيم
الفتاة اليابانية والحرب
لا تلم كفي إذا السيف نبا
…
صح مني العزم والدهر أبى
رب ساع مبصر في سعيه
…
أخطأ التوفيق فيما طلبا
مرحبا بالخطب يبلوني إذا
…
كانت العلياء فيه السببا
عقني الدهر ولولا أنني
…
أوثر الحسنى عققت الأدبا
إيه يا دنيا اعبسي أو فابسمي
…
لا أدري برقك إلا خلبا
أنا لولا أن لي من أمتي
…
خاذلاً ما بت أشكو النوبا
أمة قد فت ساعدها
…
بغضها الأهل وحب الغربا
وهي والأحداث تستهدفها
…
تعشق اللهو وتهوى الطربا
لا تبالي لعب القوم بها
…
أم بها صرف الليالي لعبا
ليتها تسمع مني قصة
…
ذات شجو وحديثًا عجبا
* * *
كنت أهوى في زماني غادة
…
وهب الله لها ما وهبا
ذات وجه مزج الحسن به
…
صفرة تنسي اليهود الذهبا
حملت لي ذات يوم نبأ
…
لا رعاك الله يا ذاك النبا
وأتت تخطر والليل فتى
…
وهلال الأفق في الأفق حبا
ثم قالت لي بثغر باسم
…
نظم الدر به والحببا
نبأوني برحيل عاجل
…
لا أرى لي بعده منقلبا
ودعاني موطني أن أغتدي
…
علني أقضي له ما وجبا
نذبح الدب ونفري جلده
…
أيظن الدب أن لا يغلبا
قلت والآلام تفري مهجتي
…
ويك ما تصنع في الحرب الظبا
ما عهدناها لظبي مسرحا
…
يبتغي ملهى به أو ملعبا
ليست الحرب نفوسًا تشترى
…
بالتمني أو عقولا تستبى
أحسبت القد من عدتها
…
أم ظننت اللحظ فيها كالشبا
وتقحمت الردى في غارة
…
أسدل النقع عليها هيدبا
قطبت ما بين عينيها لنا
…
فرأيت الموت فيها قطبا
جال عزرائيل في أنحائها
…
تحت ذاك النقع يمشي الهيدبى
فدعيها للذي يعرفها
…
والزمي يا ظبية البان الخبا
فأجابتني بصوت راعني
…
وأرتني الظبي ليثًا أغلبا
إن قومي استعذبوا ورد الردى
…
كيف تدعوني أن لا أشربا
أنا يابانية لا أنثني
…
عن مرادي أو أذوق العطبا
أنا إن لم أحسن الرمي ولم
…
تستطع كفاي تقليب الظبى
أخدم الجرحى وأقضي حقهم
…
وأواسي في الوغى من نكبا
هكذا (الميكاد) قد علمنا
…
أن نرى الأوطان أما وأبا
ملك يكفيك منه أنه
…
أنهض الشرق فهز المغربا
وإذا مارسته ألفيته
…
حوَّلا في كل أمر قلبا
كان والتاج صغيرين معًا
…
وجلال الملك في مهد الصبا
فغدا هذا سماء للعلا
…
وغدا ذلك فيها كوكبا
بعث الأمة من مرقدها
…
ودعاها للعلا أن تدأبا
فسمت للمجد تبغي شأوه
…
وقضت من كل شئ مأربا
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محمد حافظ إبراهيم
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(الخلافة أو الترك والعرب)
ما رأينا جريدة بينها وبين مشرب صاحبها من البون مثل ما نراه في جريدة
الجوائب المصرية فإن صاحبها خليل أفندي المطران لا يرى منه جليسه إلا الأدب
والذكاء، ونبذ التعصب والتحمس الديني ، ولكنه يرى من جريدته أحيانًا ما يخالف
هذه المزايا. ذلك أن هذه الجريدة كانت أيام فتنة بيروت نارًا تتلظى من التعصب
على المسلمين ، ولو كانت منتشرة في سوريا لما خمد لهيب الفتنة إلى اليوم، وإلى ما
شاء الله تعالى.
والشاهد المقصود لنا بالذات ما كتبه في مسألة (دعوى الخلافة) التي ناقشنا
فيها جريدة ترك الغراء. إذ ادعت أن العرب في جميع البلاد وسائر الشعوب
الإسلامية تحسد الترك على لقب الخلافة ، ويدعي كل منها أنه أحق بالخلافة من
الترك ، وإذ قامت تفاخر هذه الشعوب بتفضيل الترك عليهم ، ولمَّا كنا على علم
يقيني بأن النداء باسم الجنسية والتفاخر بها والتعصب لها مما لا يبيحه دين الإسلام،
ومما يفرق كلمة المسلمين ويجعل بأسهم بينهم شديدًا؛ أنكرنا على رصيفتنا هذه
الخطة ، وأكدنا لها القول بأنه لا يوجد إسلامي يفكر في منازعة الترك السلطة لأجل
لقب الخلافة ، وأن العرب في الحجاز ونجد والشام ومصر وغيرها من الأقطار
يتمنون لو تدوم سلطة الدولة العثمانية مؤيدة بالقوة والعدل ما دامت الأرض والسماء ،
وأنه لا يضر هذه السلطة شيء مثل المفاخرة بالجنس التركي واحتقار سائر
الشعوب الإسلامية لإثبات فضله عليها. وقد قلنا: إن جميع من لقيناهم من كبار
رجال الترك الفضلاء قد وافقونا على اعتقادنا هذا.
فتطفلت جريدة الجوائب المصرية على الجريدتين الإسلاميتين ، وافتاتت علينا
بالحكم ، فكتبت في العدد الـ 354 الصادر في 12 المحرم نبذة افتتحتها بقولها:
(تشغل الخلافة أفكار المسلمين في جميع الأقطار لكثرة ادعاء الملل الإسلامية بها
فالعرب والترك يتزاحمون عليها) إلخ ما قاله مناقضًا لقولنا في الرد على جريدة
(ترك) .
وقد جعل ملة الإسلام الواحدة مللاً متعددة فكنا نداوي علة اختلاف الجنس
بمرهم الاتحاد الملي ، فحكمت علينا جريدة الجوائب المصرية الغراء بأنه ملل
متعددة لا ملة واحدة ، فما هذا الافتئات؟ وما هو الغرض منه يا ترى؟
ومن العجب أن هذه الجريدة على تحكمها قد تبرأت من التحكم ، وزعمت أن
كلامنا ومناقشتنا تنتج التفريق الضار بجميع الأمم الشرقية فانتحلت لنفسها القصد
الذي دفعنا إلى الكلام ، وكلامها ينتج نقيضه إذ أثبتت أن التنازع بين الترك والعرب
واقع بالفعل ، فإذا صدقها الشعبان فإن كلاًّ منهما يعتقد أن الآخر خصمه ، وإنما
نحاول نحن إقناع الفريقين بأن هذا التنازع وهمي أو خيالي لا وجود له إلا على
ألسنة أفراد من المنافقين.
ثم استدلت الجريدة على أن الترك أحق من العرب بالخلافة بدليل يثبت نقيض
المدعى ، وهي أبلغ المطاعن في السلطان عبد الحميد قالت: (لا بأس أن نذكر
كلمة تنسب لجلالة السلطان الأعظم عبد الحميد فقد أوصل إليه بعض المقربين
لجلالته صوت تشكي الحجاج عمومًا من عون الرفيق باشا شريف مكة، وظلمه
واستبداده الفائقي التصور والحد طمعًا بأن يصدر جلالته إرادته السنية بعزله وتعيين
خلف له ، فدرى جلالته بالغرض من التشكي وقال: إنني لا أعزل عون الرفيق
باشا ولن أعزله كل حياتي ، بل أتركه عبرة ومثالاً للذين يستثقلون ظلم خليفة الترك
لأريهم كيف يكون ظلم خليفة العرب) اهـ كلام الجوائب المصرية بحروفه.
فهذه الجريدة تريد أن تقنع قراءها من العرب بأن ظلم الشريف الذي يشكون
منه مع غيرهم إنما هو جزء من ظلم السلطان التركي؛ لأنه على قولها قد أقامه هناك
ليظلم، ولن يردعه عن ظلمه في الحرم لغرضه السياسي في ذلك، وكل الناس يعلمون
أن أمراء مكة يربون في الآستانة على ما تحب الدولة العثمانية وترضى ، وأنهم
عمال للحكومة العثمانية، فإن أساءوا وظلموا فالإساءة والظلم ينسبان إلى من ولاهم
وأقرهم على ظلمهم
ومن يربط الكلب العقور ببابه
…
فكل بلاء الناس من رابط الكلب
هذا ما تنشره هذه الجريدة ، وأصحاب جريدة ترك الفضلاء يطبعون جريدتهم
في مطبعتها فيعلمون ما هنالك ، ولا يردون عليها، ولا يدافعون عن جنسهم وسلطانهم
إلا الأوهام التي يسندها الجواسيس ودعاة الفتنة إلى العرب فحسبنا الله ونعم الوكيل.
كتبنا هذه الكلمات بمداد الثأثر مما كتبت جريدة الجوائب الغراء، ويغلب على
ظننا أن هذه النبذة المردودة ليست من قلم صاحب الجريدة، ولا اطلع عليها قبل
نشرها لما لنا من حسن الظن بقصده وأدبه ، فعسى أن نرى فيها بعدما يحقق حسن
ظننا.
عرف قراء المنار أن من منهجه الدعوة إلى الوحدة ، والنهي عن الفرقة،
والتسليم لذوي السلطة ، وقد كتبنا في السنة الأولى مقالات في الخلافة والخلفاء مثلنا
فيها تاريخ الإسلام ومناشئ علله وأمراضه من هذه الجهة كما مثلناها في مقالات
أخرى في العلماء والمرشدين ، وقد قلنا في فاتحة المقالة الأولى ما نصه: (كما في
العدد (33 ص 257) :
(ليس من غرضنا في الكلام على الخلافة بيان شرطها وانطباقها على القائم
في مقام الخلافة الآن أو عدم انطباقها ، فإن هذه المباحث إنما يأتيها أرباب
الأغراض الدنيوية، بل الأمراض الروحية الذين يثيرون رواكد الأوهام، ويسرون في دياجير الظلام ، ونقول قبل الدخول في المبحث: إن كل من يحاول إشراب الأفهام
وجوب نزع الإمامة من بني عثمان فهو عامل على الإجهاز على السلطة
الإسلامية، ومحوها من لوح الوجود ، وما لهؤلاء النوكى تكأة يتكئون عليها إلا
قولهم: (الخلافة في قريش) وغفلوا أو أغفلوا الشروط المهمة التي لا تكاد
توجد اليوم في قرشي ، كالعدالة على شروطها الجامعة ، والعلم المؤدي إلى الاجتهاد
في النوازل والأحكام ، والرأي الصحيح المفضي إلى سياسة الرعية، وتدبير
المصالح، وجمع الكلمة) .
وكل الذين توسوس لهم أمانيهم بالخلافة ، وتطريهم جرائدهم باستحقاقهم لها
عراة من هذه الصفات التي هي أركان بناء الخلافة ، وما جعل النبي صلى الله عليه
وسلم الخلافة في قريش إلا لما كان لهم من المكانة في النفوس التي من أثرها
اجتماع القلوب عليهم ، والإذعان لسلطانهم عن رضى واختيار ، وقد نال هذا
المعنى آل عثمان فحصل المقصود الشرعي به) .
هذا ما كتبناه من بضع سنين ، ولم يكن قد مضى علينا في هذه البلاد الحول ،
فكنا نتوهم صدق بعض أقوال المرجفين ، ونحاول إقفال هذا الباب وإيئاس الناس
منه لما فيه من الضرر.
وكتبنا في تقريظ جريدة اللواء كما في (ص702) من السنة الثانية ما نصه:
(وقد انتقدنا عليها (أي: جريدة اللواء) أمرًا ذا بال وهو الإرجاف بأن بعض
الناس في مصر يسعون في إقامة خلافة عربية ، كأن الخلافة من الهنات الهينات
تنال بسعي جماعة أو جماعات ، ولا يمكن احتقار مقام الخلافة الأعلى بأكثر من هذا
الإرجاف.
مقام الخلافة أسمى من أن يتطاول إليه أحد ، وقد سلم السواد الأعظم من
المسلمين زمامه لبني عثمان تسليمًا. والرابطة بين الترك والعرب هي (كما قال
المرحوم كمال بك الكاتب الشهير) موثقة بالأخوة الإسلامية والخلافة العثمانية ، فإن
كان أحد يقدر على حلها فهو الله وحده ، وإن كان أحد يفكر في ذلك فهو الشيطان.
ويعلم كل خبير بحال هذا الزمن أنه لا يرجف بالخلافة إلا رجلان: رجل اتخذ
الإرجاف حرفة للتعيش وأكل السحت أو التحلي بالوسامات والألقاب الضخمة ،
ورجل اتخذه الأجانب آلة لخداع بسطاء المسلمين بإيهامهم أن منصب الخلافة
ضعيف متزعزع يمكن لأي أمير أن يناله ، ولأية جمعية أن تزحزحه عن مكانه
ليزيلوا هيبته من القلوب ، ويقنعوا نفوس العامة الأغرار بإمكان تحويله في وقت
من الأوقات ، وبأن المسلمين ليسوا راضين من الخلافة العثمانية جميعًا.
(كان مصطفى كامل أفندي يوم ألف كتاب المسألة الشرقية ينسب هذا الطمع
الأشعبي للإنكليز ، واليوم نرى مصطفى كامل بك يلقي القول فيه على عواهنه في
خطبته وجريدته ، ويدع نفوس البسطاء تذهب فيه كل مذهب ، وإذا سئل الإفصاح
وبيان المجمل؛ يجمجم ويغمغم. فإن كان على رأيه الأول فليصرح به ليرجع
العامة عن أوهامهم، والخاصة عن سوء الظن به ، وأنه أحد الرجلين اللذين ذكرناهما
آنفًا ، ولا نظنه إلا على مذهبه الأول وعلى اللواء في البيان المعول) اهـ.
فيرى القارئ أننا في عبارة السنة الأولى كنا مغترين بكلام بعض المرجفين ،
وأننا في السنة الثانية علمنا حق العلم أن مسألة الخلافة لا يلغط بها من أصحاب
الأغراض كما قلنا في مقالة (دعوى الخلافة) ويرى أن لهجتنا قوية في الإنكار
على كل من تكلم في هذه المسألة، لاعتقادنا بضرر الخوض فيها ، فقد عادانا صاحب
جريدة اللواء لتشديدنا في الإنكار على ما كتبه بذلك في أول ظهورها ، وما قاله في
خطبة له تلاها في ذلك العهد. وقد كنا في غنى عن إحراج مثله بعدما كان راضيًا
عنا وعن المنار حتى إنه كان يهنئنا على بعض المقالات ، ويقول: إن هذه الخطة
أنفع ما يكتب للمسلمين. فليعذرنا أصحاب جريدة ترك ، وصاحب جريدة الجوائب
فإننا لا يمكننا السكوت عن الإنكار على كل من يذكر الناس بما يوجب التفرق
والخلاف لأجل لقب الخلافة المشئوم ، أو اختلاف الجنسية اللغوية ، فحسبنا ما منينا
به من المصائب والنوائب واستبداد الحكام وسلطة الأجانب.
* * *
(أخبار الحجاز والحجاج في هذا الموسم)
كتب إلينا كاتب مرافق للمحمل المصري بمثل ما كتب إلينا آخر من سوريا
عن فقد الأمن، وعموم المخاوف في بلاد الحجاز، وما حل بالحجاج في هذا الموسم
من القتل والسلب والنهب، وكتب كاتب مصري مع المحمل من ينبع إلى صديق له
في مصر كتابًا في تسع خلون من المحرم، قال فيه ما نصه:
(الحج في هذا العام لم يطرأ عليه أي طارئ وبائي فضلاً عن كثرة الحجاج
وازدحامهم وقذارة الطرق وإهمال موظفي الصحة العثمانية.
الأمن مفقود في كل بلدة مر بها الحجاج ، والعربان مسلحون بسلاح جيد،
وأغلبه مكتوب عليه بالحروف الإفرنجية (س. إيتمنس) والأهالي مجردون من
السلاح، والحكومة تمنع حمل السلاح بكل تدقيق إلا الأعراب، كما أنها لا تحرك
ساكنًا؛ إذا وقع أمامها أيّ مقتلة ، وقد حدث ليلة نزولنا عن عرفة قتال بالبنادق أمام
مركز الحكومة الحميدية بمكة بقرب الحرم المكي الذي يقول الله فيه: {وَمَن دَخَلَهُ
كَانَ آمِناً} (آل عمران: 97) وقتل في تلك الليلة بجهة خيام المحمل (ديده بان)
من العسكر المصري أثناء تأدية وظيفته ، ولابد أن تكونوا عرفتم تفصيل الحادثة؛
لأن أمير الحج بادر بإخبار الحكومة المصرية بذلك بالبرق وبالبريد، وإلى الآن لم نر
من الحكومة العثمانية نتيجة.
قتل وجرح وسلب عدد ليس بالقليل من الحجاج الذين لم يكونوا مرافقين
للمحمل على الطريق بين جدة ومكة ، ومن وصل من الجرحى لم تسعفهم الحكومة
ولا بشربة ماء إلى أن وصل المحمل وأسعفهم بالقوت والعلاج. لجأ واحد منهم إلى
بيت الشريف، فلم يسمع له قول، وحتم عليه أن يفصل واقعته على ورق تمغة
وهو أمامهم مجروح مجرد ، ولو كان معه ثمن ورقة تمغة لسد به رمقه، وستر به
بدنه.
تعدد خروج الحجاج المسافرين من مكة وكانت الجمالة تقتل بعض الركاب
معهم ، وتسلب أمتعة الجميع وتهرب بالأجرة وبما سلبت، ولما طالب أمير الحج
الوالي ولو برد الأجرة (أي: الثابتة عند حكومة الحجاز رسميًّا) وعد بالنظر، ولم
يكن لوعده أقل فائدة!
أخذ المطوفون من الحجاج إعانة لسكة الحديد الحجازية، ومن تأخر عن الدفع
كانوا يشيرون بحبسه، والذي يأمر بالحبس يكفي أن يكون واحد من عبيد الشريف
بحيث تعددت السلطة ومصادرها، فلا يدري الإنسان من يخافه ومن يتقيه!
الباعة في الأسواق، والمطوفون في الحرم، وأعوان الشريف في كل مكان،
وكل من في مكة إلا القليل عبارة عن منصر حرامية (زعماء لصوص) يسلبون
الناس أموالهم بحيث يهلك الفقير جوعًا؛ لأن الأسعار غالية جدًّا، والشيء الذي
كانت قيمته في مكة خمسة قروش وصل إلى ريالين ذلك؛ لأن كل ما يرد من
المأكولات وما يذبح يلتزمه أحد (محاسيب) الشريف، ويبيعه بالثمن الذي يرضيه
للباعة ، وأولئك قوم من جهة يشترون بأغلى الأثمان ، ومن جهة أخرى يستوفون
من الناس أضعاف القيمة. والفقير حائر كيف يقتات ، وهو مجبور على الإقامة
أيامًا معدودات.
بماذا أحدثك أيها الأخ (الشفوق) ؟ أين المنصفون من أصحاب النظر
يشاهدون ما شاهدناه، ويعودون إليكم شارحين الحال واصفين بلسان المقال؟
تعددت الشكاوي إلى أمير الحج المصري، فكتب وتوجه بنفسه إلى الوالي
والشريف فاعترف الأول بالكتابة بأن المطوفين يحبسون الحجاج، والثاني كذب.
ولما أراد سعادة أمير الحج إثبات الأمر رسميًّا خاطبه الشريف بقوله: (يا حضرة
الباشا ما لكم حق في التداخل) وكررها مرارًا. خاطبت واحدًا من التجار الأجانب:
هل يعاملونكم كما يعاملون باقي التجار المكيين؟ فقال: لا، وإنما نتيجة السلب
واحدة فإننا ندفع أجرة نقل بضائعنا بين جدة ومكة أضعافًا. قلت: أما تشكون
لقناصلكم؟ فقال لي: كأنهم متحدون مع السالب تمام الاتحاد، فالسلب عام من
الجميع، والكيفية مختلفة.
سمعت أن بائعي السبح قد منعوا من بيعها أولاً ، وكانوا قد استعدوا على
كميات وافرة منها فساءهم هذا الأمر ، ولكنهم أدركوا المقصود فجمعوا مبلغًا من
المال وقدموه فألغوا تنبيههم الأول وأباحوا لهم بيع السبح ، وانظر بعد ذلك أثمان
السبح
…
آه! لو سمعت (الفرمان العلي الشأن) وهو يتلى في صيوان الشريف ثاني
العيد ذلك الفرمان الطويل العريض مملوء بعبارات الثناء العاطر ، وتعديد صفات ما
سمعت تركيًّا وصف بها نبيًّا من الأنبياء. ولو رأيت النياشين المرصعة في صدر
الشريف، والخلع التي ألبسها في هذه الحفلة بعضها فوق بعض ، والوزراء
والأمراء والوجهاء واقفون وقوفهم للصلاة وكذلك العسكر، ولو رأيت ما حوله من
الجياد المطهمة عليها السرج المثقلة بالذهب الخالص الوهاج، ولو نظرت جميع
الحاضرين يقبلون يد الشريف أو ثيابه (إلا أنا فإنني - ولله الحمد - لم أسلم عليه
ولا بالإشارة) وهو لا يتحرك لأكبرهم؛ لاستكبرت الأمر واستنكرته ، وعلمت أن
المسلمين في غفلة أينما كانوا في كل قطر وفي ظل كل دولة لكن بؤسهم يتفاوت
بحسب حال دولهم.
لا شك أننا وصلنا إلى حال يتبرأ منها الدين، ويحل بنا غضب الله بسببها.
كيف نصدق فرمان خليفة المسلمين وشاهد الحال يناقضه في نفس الحفلة؟ كيف
نسمع أن الشريف مؤمن الطرق وقاطع الأشرار، والسالك نهج آبائه الأطهار، وأنه
مقيم الدين، وناشر لواء شريعة سيد المرسلين - أي هذه بعض الألقاب التي
يوصف بها في الفرمان وهي عشر معشار ألقاب رئيسه السلطان - أين أثر الدين
فيما شاهدنا، والإسلام يتبرأ من هذا الذي رأينا، أين الهداة الداعون إلى الإسلام؟
هل ألغي حكم آية: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
خاطبت واحدًا - قيل لي: إنه من علماء مكة - في شأن ما أشاهده وما حل
بالحجاج فقال: لا يهولنك الأمر فقد ورد في القرآن في حق الحرم {وَيُتَخَطَّفُ
النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: 67)(كذا) وقال لي آخر: {لَّمْ تَكُونُوا
بَالِغِيهِ إِلَاّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} (النحل: 7) ألفاظ لا يعون لها معاني، ولن ترى أمامك إلا
عمائم لا تفضل أمثالها في باب المزينين فما دونه! وحدث عن الوثنيات هنا بما لا
تحتمله الروايات، واسمع من المطوفين ما يثقل على الآذان خرافات وموضوعات
تخرج الضعيف من الإسلام، إلى عقائد أولئك الجهلة الطغام والجهل سائد عام،
والضال المضل سيد وإمام.
يأسف الإنسان على بلاد كانت مشرق شمس الإسلام، وفيها بيت الله الحرام،
ويكون هذا مصيرها. أريد الكلام ويمنعني أنك سريع التأثر ، ولكن القلب والقلم
يحتمان عليَّ الكتابة، لعلك تنيبني عنك في صدقة مقبولة هي في مقدمة الصدقات ،
ألا أصرف على حسابك ما تجود به نفسك على عسكر الدولة الأنفار الصابرين
الذين هم يبيعون الأشياء التافهة على الحجاج وحالهم أسوأ حال.
كنا نسمع عن دراويش التعايش أنهم يلبسون المرقعات، ولكن الفرق بين
مرقعاتهم وكساوي عسكر الدولة أن مرقعات الدراويش تخاط من أول أمرها،
وثياب العسكر هنا من أرثِّ ما يكون مرقعة في أغلبها رقعًا متراكمة فوق بعضها
مختلفة الألوان، وهي بجملتها في أشد حالات البلى والرثاثة، وهم مع ذلك من
أصبرالناس على هذه الحال، وأمرهم في ذلك معروف، وبأسهم الحرب موصوف ،
والذي سمعته أن ذلك لم يكن من تقتير الدولة، بل من سلب رؤسائهم حقوقهم.
وملبسهم سواء يوم الاستعراض والأيام المعتادة، وكثير منهم يلبس النعال القديمة أو
(المراكيب) الحمر بدل (الجزم) حتى وقت (التشريفة الكبرى) .
قد رافق المحمل الشامي من المدينة إلى مكة (البيجم) وهي ملكة بهوبال
التابعة للحكومة الإنكليزية، وكاد العرب يقتلونها وهي في ركب المحمل طمعًا في
المال ، لولا أن هربوها من تحتها في شقدف كواحدة من الناس، ولولا أن أمير
الحج الشامي أرضاهم لفتكوا بها إن لم تعطهم كل ما طلبوا ، وقد قتل أحد
اليوزباشية الأتراك ، وجرح بيكباشي في هذه الواقعة. وقد قابلني ابنها الثاني (أي:
ابن الملكة) الذي يلقبونه بالنواب ، وكنت أنا وسعادة أمير الحج على سطح الحرم
المكي ودعانا إلى بيته، ثم دعا بعض رجال المحمل معنا ، وتوجهنا إلى مقر
(البيجم) فأكرمونا ، ثم ألقت علينا خطابًا من خلف ستار ترجمه لنا (فليس) قنصل
الإنكليز بجدة، وقد أجاب عليه سعادة أمير الحج، ومتى عدت إلى مصر أعدت إليكم
أكثر ما شاهدته ، وقد سافرت (أي: الملكة) إلى بلادها ساخطة على فقد الأمن،
وبلغني أنها شافهت الشريف بعبارات شديدة، وقد انتقد ابنها على شهامة العرب
قائلاً: كيف يتعدون على امرأة؟
رافقنا من مكة إلى ينبع الصدر الأعظم السابق لدولة إيران لنزور المدينة معًا،
فلما وصلنا إلى ينبع تعنت الأعراب معنا ، ومنعونا المرور للأسباب التي
سأذكرها لكم بعد، ولما كان يهمه دخول المدينة باكرًا ليحضر بها يوم عاشوراء
(والقوم أمثال القوم) اتفق مع العرب على دفع خمس جنيهات عن كل نفر معه جُعْلاً
للعرب نظير المرور فقط، لا في نظير خدمة، وترك مرافقة المحمل وسافر ،
ورافقنا من مصر وزير المغرب الأقصى إلى ينبع، ورافقنا من مكة أمير حج ابن
دينار وجماعة ، فقال عنهم الأعراب: إن معكم سلطان مراكش، وسلطان دارفور لا
تمرون إلا بما يناسب مقام الدولة، ومقام ذينك السلطانين.
وصلنا إلى ينبع يوم السبت الماضي ، ولا نزال بها إلى اليوم ننتظر عودة
سعادة أمير الحج من جدة الذي ذهب ليخابر الحكومة المصرية بالتلغراف بما يرغبه
الأعراب لخلو ميناء ينبع من التلغراف، ومحصل مسألتهم أنهم في العام الماضي
طلبوا من أمير الحج أن يصرف لهم مرتبات لم تصرف إليهم منذ ثلاثين سنة،
وهي آلاف من الريالات فقال لهم: إني لا أعلم بأثر من مرتباتكم هذه، ولكن لكم
أن تكتبوا طلبًا إلى الحكومة بها، وأن تتنازلوا عن الماضي إلى الآن ، ومتى وجد
لمرتباتكم أثر تصرف إليكم من جديد، عاد بطلباتهم واستكشف عنها فلم يجد لها
أثرًا فأعادوا الطلب منه الآن، وامتنعوا عن التنازل عن ما مضى ، وأغلظوا القول،
وبعثوا إليه الكتاب بالتهديد والإنذار والممانعة من المرور، وليتنا رأينا فيهم رشيدًا،
بل هم أراذل أدنياء قليلو الأدب يكذب بعضهم بعضًا، ويحتقر أحدهم الآخرين،
كثيروا اللغط بلا فائدة، ومع محاسنتنا لهم ، وتعب أمير الحج والمحافظ معهم سرًّا
وعلانية لم يفد كل ذلك فيهم فاضطر إلى السفر إلى جدة للمخابرة ، ولا بد أنكم
تعلمون النتيجة قبل أن نعلمها هنا.
التلغراف: في هذه البلاد يؤخذ فيه عن كل كلمة ثلاثة فرنكات تقريبًا ، وواو
العطف كلمة، ولو كانوا قومًا يفقهون لرخصوا الأجرة فيقبل الحجاج عليهم
ويتخاطبون مع أهليهم بتلغرافات عديدة، ولربحوا الأموال الطائلة. غريبة في كل
أحوالها التي لا تتفق مع المعقول، ولا أمان فيها على المراسلات حتى إنني لا
أدري أيصل إليكم هذا أو يصل إلى الشريف؟ وقد كتبته وكلا الأمرين مفيد عندي.
رأيت وأنا على جبل عرفات عربية على رأسها برنيطة فقلت لها: بيعيني مظلتك
هذه. فقالت: الشمس تؤذيني. قلت: هذه شمسيتي الثمينة خذيها فهي أنفع وتعبت
معها حتى أقنعتها وسأحضرها معي. اهـ المراد منه.
(المنار)
قد كتب بمعنى هذا الكتاب كثيرون من الحجاج إلى أهليهم وأصدقائهم، وأعجب
شيء فيه عندي تحريف ذلك الجاهل المعمم في مكة لقوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا
جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: 67) فإن الله يمتن
بهذه الآية على من في الحرم بأنه وهبهم الأمن في بلاد المخاوف فهم آمنون ،
والبلاد التي وراء الحرم من كل ناحية أي: التي حوله لا أمن فيها ، وقد جعل ذلك
الجهول الآية مثبته لنفي الأمن من الحرم نفسه ، ومثله في الجهل من حرف امتنان
الله تعالى على أهل مكة والناس عامة بالأنعام؛ إذ جعل من منافعها أنها تحمل
أثقالهم إلى البلاد التي لا تبلغ لولاها إلا بشق الأنفس فجعلها مثبتة لوجوب إهانة
الحجاج والتعدي عليهم. ويقصد الكاتب بأمثالهم في باب المزينين أهل الأزهر، وقد
رأى القراء في باب السؤال والفتوى نموذجًا من تحريف بعضهم لكتاب الله تعالى.
اللهم إن بني إسرائيل لم يحرفوا كتابك التوارة بأكثر مما تحرف هذه العمائم كتابك
الفرقان فافرق بينهم وبين عبادك المعذورين بغرورهم بهم ، وافصل بينهم بالحق
وأنت خير الفاصلين (انتظر الكلام على الحج في الجزء الآتي) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رزء الشام بالشيخ محمد علي أفندي مسلم
وافانا نبأ وفاة هذا النابغة قبيل طبع الصحيفة الأخيرة من هذا الجزء. عاجلته
المنية بالأمس عن أربعين سنة أي: عندما بلغ أشده، واستوى، وصار يرجى منه
في تحمل أعباء الدعوة إلى الإصلاح أكثر مما سبق له؛ فكان ألم المصاب به
عامًّا، وأشد وقعة على أنصار العلم والإصلاح الذي فقدوا بفقده ركنًا ركينًا، وأخًا
كريمًا. وقد قال صديقه رفيق بك العظم هذه الأبيات المؤثرة في رثائه رحمه الله
وأحسن عزاءنا فيه:
أيها الموت كم هززت نفوسًا
…
طالما هزت الخطوب الجساما
نحن كنا كالصلد إن مسه الخطـ
…
ـب ورت ناره وأذكت ضراما
فاصطلمت الجلادة اليوم منا
…
فغدا القلب يشتكي الآلاما
وتجاوزت غاية الصبر حتى
…
قد فقدنا السكون والاحتشاما
مذ صدعت القلوب بالنبأ الفا
…
جع صدعًا لن يقبل الالتئاما
ورميت الصديق منك بسهم
…
دأبه أن يصيب منا الكراما
قد كفانا بالأمس فقد همام
…
فلم اليوم قد فقدنا هماما
عمرك الله ما نطيق حياة
…
بعد ذا الخطب أو نريد سلاما
كلما أنعم الزمان بفرد
…
ورجونا أن ينفع الإسلاما
فجعتنا به المنون كأن الـ
…
ـموت يفدي بالأكرمين الطغاما
أم كأن المنون حاكم قوم
…
مستبد يصادر الأحلاما
يا عليا بت العلي وإنَّا
…
لم نزل بالدنا نعاني السقاما
ما رعينا فيك الذمام وإلا
…
لتبعناك لو رعينا الذماما
مذ رأيت الحياة في الشرق أضحت
…
نكدًا يؤلم النفوس العظاما
كبرت نفسك العظيمة حتى
…
ما تطيق الدنيا ولا الأجساما
فمضت للسماء تطلب فيها
…
عالم الروح منزلاً ومقاما
حبذا منزلا ولكن في عيـ
…
ـشك للناس حاجة ومراما
كنت للحق والفضيلة ركنًا
…
فتداعى وللثبات قواما
ولقيت الخطوب ممن يعادي الـ
…
ـعقل والعلم أو يحب الخصاما
فلك اليوم في النفوس مقام
…
نلت فيه محبة واحتراما
فعليك العيون تبكي دماء
…
وعليك السلام يتلو السلاما
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سوريا والإسلام
(2)
(5)
سوريا قبل الفتح العربي
أراد صاحب مقالات (سوريا والإسلام) أن يثبت أن التعصب لم يكن في
سوريا قبل الفتح الإسلامي ، فذكر أن تلك الشعوب العظيمة التي عاشت هناك منذ
أول عهد التاريخ حتى انقراض الدولة الفينيقية كانت الحروب بينها وبين الفراعنة
مستمرة، وكانت سجالاً ، والغالبة تأخذ الجزية من المغلوبة، ولكن لم يكن ذلك
لأجل الدين، بل لأجل السلطة والعظمة.
ثم ذكر أن الإسرائيليين الذين هجموا على فلسطين هجوم العرب على سوريا
(حاولوا) أن يلبسوا حروبهم صبغة دينية ، لكن قبائل الكنعانيين والحيثيين
والأموريين واليبوسيين وغيرها حاربهم دفاعًا عن الوطن، وعن الحرية
والاستقلال. ثم ذكر أن (هذا التعصب والثوب الديني الذي (حاول) الإسرائيليون
أن يلبسوه لحروبهم ، وأن يضموا به جامعتهم وينهضوا مملكتهم) ما لبث أن تمزق
بعد سليمان، ثم بلي.
ما أعجب شأن هذا الكاتب، وما أشد تعصبه لما يعلم أو لما لا يعلم! كان
بالأمس يمثل بديانة بوذه للدين الصحيح الذي لا حرب فيه، ويستدل على أنه شارع
محق، ولا يذكر موسى ولا شريعته عند التمثيل للديانات الصحيحة، بل يعرض بأنها
باطلة ، وهو اليوم يفضل تلك القبائل الهمجية الوثنية التي كانت تقيم في سوريا قبل
الفينقيين على شعب إسرائيل شعب الله كما يفضل عليهم فراعنة مصر وأهلها
الوثنيين، ويفضل عليهم أيضًا تلك القبائل الوثنية التي كانت في بلاد فلسطين ،
وإن كان الله قد فضل شعب إسرائيل على هؤلاء أجمعين ونجاه من سلطة بعضهم ،
وجعل له السيادة على الآخرين. كل هذا يخالف دينه واعتقاده وهكذا يفعل الغلو في
التعصب حتى يجني الغالي على ما يتعصب له! !
أي مزية لقبائل (نيفليم) و (أميم) و (رفايم) و (زوزيم) و (عناقيم)
و (زمزوميم) تلك الحيوانات الوثنية على بني إسرائيل سلالة النبيين وحملة الكتاب
والدين. إنه قد أثبت لليهود عين ما ينسبه إلى الإسلام، ولم يتلطف معهم إلا بكلمة
(حاولوا) وهي لغو حيث وضعها فإن كان ينكر الديانة الموسوية لأجل الإنكار على
الديانة المحمدية لشرهه وإسرافه في بعض هذه؛ أفلا يتذكر أنه يهدم بذلك الديانة
المسيحية أيضًا؟ ؟
وإن كان لا يبالي بهدم الأديان السماوية بغضًا بالمسلمين فليجعل المفاضلة بين
الديانة الوثنية وديانة التوحيد الإلهية. وإن كان يرى تحريم الحرب لأجل حرية
الدين ونشره وهو ما لا يفعله الآن أحد إلا المسيحيون - وإن سبقهم به اليهود
والمسلمون - هو الذي يفضل به دين دينًا فلا شك أن الوثنية أفضل من المسيحية
وغيرها من الديانات السماوية فما باله يخص المسلمين بالذم والقدح؟
هذا الكاتب نصراني في الظاهر، ولكنه في الواقع إما وثني وإما معطل يحكم
العقل فقط. فإن كان وثنيًّا؛ فلا كلام لنا معه إلا بعد المناظرة في أصل الوثنية ،
فإن أثبتها؛ فله الفلج فيما يتفرع عنها ، وإلا فكلامه ساقط. وإن كان يحكم العقل
فكيف ساغ له أن يعد الحرب السياسية لأجل (توسيع الحدود وبسط السلطة
والعظمة) جائزة وخيرًا ونافعة ، والحرب لأجل حرية الدين ونشر دعوة الحق التي
يعتقد صاحبها أن فيها سعادة الدارين ممنوعة وشرًّا وضارة؟ وكيف ذكر بعبارة
الرضى والاستحسان إغارة البابليين على الإسرائيليين، وسبيهم، وتخريب هيكلهم ،
وزحف الرومانيين إلى سوريا وإحراق الهيكل بعدما بني ثانية، وتدمير المدينة بفعل
طيطس؟ أليس هذا اضطهادًا للدين لم يفعل مثله المسلمون؟
ثم ذكر أن الرومانيين قد قضوا على بقية تعصب اليهود في سوريا بما فعله
طيطس الوثني الظالم ، وأنه لم يظهر التعصب في سوريا بعد ذلك إلا بعد الفتح
العربي، وطوى في هذه الدعوة تاريخ النصرانية، وما كان منها من التعصب الذي
تقشعر منه الجلود، والذي جعل اليهود من أنصار المجوس على النصارى تشفيًا
وانتقامًا، ثم انتصار المسلمين عليهم أيضًا ليستنشقوا في ظل هذا الدين نسيم الحرية
الدينية الرطب اللطيف بعد النجاة من رمضاء التعصب النصراني وسمومه التي
تلفح القلوب دون الجلود. وهذا الذي نومئ إليه مدون بالبسط في كتب أحرار
الإفرنج المنصفين وغيرهم، الذين لهم الفضل على محبي الحقائق في كل زمان
ومكان.
قال الكاتب المؤرخ: إن التعصب الإسرائيلي زال من سوريا بعد تدمير
طيطس مدينة أورشليم سنة 70 بعد المسيح.
ولكن التاريخ يقول بغير ما قال هذا المؤرخ، يقول التاريخ: إن اليهود قد
حقدوا زمنًا وكتموا تعصبهم عجزًا، ثم دفعهم الحقد إلى ثورة عظيمة ادعى زعيمها
بعزة قوشير أنه هو المسيح فاجتمع عليه اليهود ، واشتعلت نار الحرب بينهم
وبين الرومانيين على عهد الإمبراطور هارديان ثلاث سنين حتى قتل الزعيم.
ويقال: إنه قتل في هذه الحرب من الإسرائيليين خمس مائة ألف ونيف، وأمر
هارديان بمحو خرائب أورشليم، وطمس أطلالها ورسومها وأن تبنى هناك مدينة
جديدة تسمى عاصمة إيليا، فكان ذلك في سنة 132 للمسيح، وأباح للمسيحيين
الوثنيين الإقامة في هذه المدينة، وأخرج اليهود منها ، ثم لم يبح لهم الرومان الدخول
فيها إلا في القرن الرابع وإنما أذن لهم أن يدخلوها مرة واحدة في السنة زائرين من
شاء منهم فكانوا يدخلونها باكين نادبين. وقد اضطهد النصارى هؤلاء اليهود
في وطنهم أشد الاضطهاد ومنعوهم من كثير من بلادهم لا من مدينتهم
المقدسة فقط.
ولما زحف الفرس في عهد خسرو على سوريا وفلسطين كان اليهود أنصارًا
لهم حتى إذا ما فتحوا أورشليم ذبحوا سكانها النصارى، واصطلموهم اصطلامًا ولما
انتصر هرقل على الفرس وأجلاهم عن سوريا ومصر انتقم من اليهود شر انتقام،
وعاملهم بقانون هارديان، ومنه أنه يجب أن يكونوا على بعد ثلاثة أميال من
أورشليم على الأقل ، وكان الإسلام قد ظهر والمسلمون قد زحفوا على سوريا
وفلسطين.. إذن إن التعصب الديني بين اليهود والنصارى كان على أشده في سوريا
عند ظهور الإسلام ولم يكن قد زال قبل النصرانية كما زعم الكاتب الذي جنى
تعصبه على التاريخ والدين؛ لأجل تمكين العداوة في سوريا بين النصارى
والمسلمين. ولولا أن اشترطنا الاختصار لأطلنا في بيان هذا التعصب بين اليهود
والنصارى في سوريا وبيَّنا أن الإسلام أضعفه، بل أضعف التعصب المطلق، بل
أماته حتى أحيته الحروب الصليبية التي أضرمها تعصب النصارى.
* * *
(6)
سوريا والفتح العربي
يقول الكاتب: إن التعصب ظهر بعد فتح المسلمين أورشليم، وعقد المعاهدة
بينهم وبين النصارى في البيت المقدس، وذكر نص المعاهدة نقلاً عن المؤرخ
الإيطالي قيصر كنو وهي مزورة على نسق المعاهدات الأوربية مؤلفة من 15
مسألة (بند) ، ولا شك أن هذه المعاهدة مختلفة من الإيطالى أو غيره من غلاة
التعصب، وكل من قرأها من العارفين باللغة العربية وأساليبها والعارفين بحال الناس
في ذلك العصر يعرف أنها مكذوبة بالبداهة. وإننا نذكر نص المعاهدة التي أوردها
إمام المؤرخين والمحدثين ابن جرير الطبري في تاريخه، ثم ما أورده هذا الكاتب
المتعصب عن أساتذته متعصبي أوربا ليقارن صاحب جريدة المناظر الغراء
وأمثاله من فضلاء النصارى المنصفين بين الروايتين، ويعلموا من أين جاءنا
النزاع والخصام، أما نص ما في الطبري فهو:
(عهد سيدنا عمر لأهل بيت المقدس)
(بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم
أمانًا لأنفسهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها أن لا تسكن كنائسهم،
ولا تهدم، ولا ينقص منها، ولا من حيزها، ولا من حليهم ولا من شيء من أموالهم ،
ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود
وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن ، وعليهم أن يخرجوا
منها الروم واللصوص فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم.
ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان (كذا ولعله تحريف) فمن شاء منهم
قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ، ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء
رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا
الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم
من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن
عوف ومعاوية بن أبى سفيان. وكتب وحضر سنة 15. اهـ وفيه دليل على ما
نقلناه من التاريخ من منعهم اليهود من سكنى بيت المقدس، وأما المعاهدة المكذوبة
التي أوردها الكاتب المتعصب في جريدة المناظر فهي:
1-
يسمح للمسيحيين الذين سلموا للمسلمين أن يبقوا في مدينتهم المقدسة ،
وأن يقيموا فروض ديانتهم وطقوسهم كما يشاءون ، ولكن لا يسمح لهم أن ينشئوا
معابد، ولا كنائس جديدة لا في المدينة، ولا في نواحيها.
2-
يجب على المسيحيين أن يتركوا أبواب كنائسهم مفتوحة أوان الصلاة
واستعمال الطقوس، ويباح للمسلمين الدخول إليها عندئذ لمراقبة ما يصنعون خوفًا
من أن يتآمروا سرًّا على المسلمين.
3-
يجب أن تكون أبواب المسيحيين مفتوحة لجميع ضيوف المسلمين.
4-
يجب على المسيحيين أن يقدموا للمسلمين الذين يأتون لزيارة المدينة
المقدسة (أعني أورشليم) طعامًا ليوم واحد فقط بدون أن يأخذوا ثمنه ، وإذا مرض
أحد أولئك الضيوف التزموا بخدمته حتى يبرأ.
5-
لا يجوز للنصارى أن يمنعوا أولادهم من تعلم القرآن، ولا يجوز لهم أن
ينهوهم عن اعتناق المذهب الإسلامي إذا أرادوا.
6-
يجب أن يعتبر المسيحيون المسلمين أسيادًا لهم، وأن يكون لهم فيه المقام
الأول في كل شيء.
7-
لا يجوز للمسيحيين أن يلبسوا لباس الاسلام، ولا أن يتسموا بأسمائهم ،
ولا أن يتصفوا بصفاتهم، بل يجب أن يكونوا على خلاف منهم في كل شيء.
8-
يجب على المسيحيين إذا أرادوا أن يركبوا أن لا يركبوا خيلاً، ولا نوقًا،
بل حميرًا وبغالاً، ولا يجوز لهم أن يقلوا سلاحًا، ولا أن يستعملوه في بيوتهم،
وكذلك لا يجوز أن تكون منازلهم مزينة بمثل الزينة والتحف والأشياء التى يزين
بها المسلمون منازلهم، حتى ولا براذع حميرهم يجوز أن تكون كبراذع حمير
المسلمين.
9-
لا يجوز للمسيحيين أن يبيعوا خمرًا، ولا كحولاً ألبتة، ولا أشربة
روحية ما إلا بإذن الخليفة أو ممثليه فقط، ولا يجوز لهم أن يتركوا خنازيرهم
ومواشيهم تسرح في الأسواق.
10-
يجب على المسيحيين أن يلبسوا ثياب الحداد دائمًا، وأن يشدوا وسطهم
بسيور من جلد سواء كانوا في المدينة أم في الخارج.
11-
لا يجوز للمسيحيين أن يرفعوا صلبانًا فوق الكنائس، ولا أن يدقوا
جرسًا، والأجراس والصلبان الموجودة حالاً متى وقعت لا يجوز أن يوضع غيرها
في مكانها.
12-
لا يجوز للمسيحيين أن يطلوا على المسلمين في معابدهم.
13-
يجب أن يقدموا الجزية في أوانها، ولا يتأخروا عن جمع الضرائب
التى يفرضها عليهم المسلمون.
14-
يجب أن يحترموا الخلافة الاسلامية والمسلمين كسادة للبلاد وأصحابها،
ولا يتآمروا عليهم ألبتة.
15-
يلتزم الخليفة بتأمين النصارى الطائعين والخاضعين لجميع شروط
ونصوص هذه المعاهدة.
ومما ينتقد من هذه المعاهدة أن المسلمين لم يكونوا يقولون: (مدينتهم المقدسة)
ولا كلمة (الطقوس) ولم يكونوا يرحلون لزيارة تلك البلدة، ولم يكن لهم لباس
مخصوص، بل كانوا يلبسون ملابس الروم التى يغنمونها، ولم يكونوا يزينون
بيوتهم، ولم يكن في زمانهم شيء يسمى (الكحول) ، ولا الأشربة الروحية، وإنما
كانوا يسمون كل مسكر خمرًا إلا النبيذ، إذا صار يسكر. ويمتنع شرعًا أن يقيد بيع
الخمر بإذن الخليفة، ولم يكن لهم معابد يمنعون المسلمين من الإشراف عليها، ولم
يضربوا على أهل تلك البلدة ضرائب، ولم يكونوا يعبرون عن السلطة بالخلافة
الإسلامية، ولا عن عمر بالخليفة، هذا ولم يكونوا يخافون من المؤامرة عليهم ،
فإنهم غلبوا القوم، وهم مستعدون للقتال، ومعهم الروم فكيف يخافونهم بعد ذلك ،
ولو خافوا أو احتاطوا لم يكن ذلك معيبًا ولا منتقدًا ولا باعثًا للتعصب، فإنه أمر
طبيعي معهود من جميع الفاتحين ، والسيادة بطبيعتها للفاتح فلا معنى لاشتراطها،
ولم يكن من فائدتهم المنع من التشبه بهم، ورؤية عباداتهم، وتعلم كتابهم والتسمي
بأسمائهم.
فالظاهر أن المعاهدة وضعت في هذا العصر؛ لأن أسلوبها واصطلاحاتها كلها
عصرية. فأين المنصفون يميزون بين تساهل المسلمين وتعصب غيرهم. إنهم
ليختلفون على سلفنا حتى في هذا العصر عصر الحرية والعلم؛ ليعيبونا، وينفروا
قومهم وسائر الناس منا فهل فعلنا نحن شيئًا من مثل هذا؟ ؟
أكتفي بهذه الإشارات في تفنيد مسائل هذه المعاهدة المختلقة، ولكني أقول:
إنني لا أنكر أن منها ما له نظير في بعض كتب المسلمين، ولكن لا ثقة بروايته
ومن المأثور في ذلك ما رواه البيهقي من طريق حزام بن معاوية قال: كتب إلينا
عمر: (أدبوا الخيل، ولا يرفع بين ظهرانيكم الصليب، ولا تجاوركم الخنازير) ،
ولكن إسناده ضعيف، ولو صح لأمكن حمله على جماعة المسلمين على أن أقوال
الصحابة ليست حجة في الدين عند جمهور علماء الأصول، إلا أن يجمعوا عليها،
أو ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو يكون لها حكم المرفوع بأن يكون هناك
دليل على أنها ليست من اجتهادهم بل سمعوها عن الشارع صلى الله عليه وسلم.
ومنها ما رواه البيهقى عن ابن عباس: (كل مِصْرٍ مَصَّرَه المسلمون لا تبنى
فيه بيعة ولا كنيسة، ولا يضرب فيه ناقوس، ولا يباع فيه لحم خنزير) ، وفي
إسناده حنش، وهو ضعيف على أن المسلمين أحرار في مصْرٍ مَصَّروه لأنفسهم أن
يمنعوا غيرهم من الإقامة معهم فيه مطلقًا أو بشروط، وكذلك أهل الذمة، إذا كانت
لهم أرض وجعلوها بلدًا، ولم يقبلوا أن يبيعوا منها شيئًا لمسلم فإن الإسلام لا يكرههم
على بيعها، ولو لأجل المسجد. ومفهوم كلام ابن عباس أنه لا يمتنع بناء الكنائس في
غير المصر الذي مصره المسلمون كالأمصار القديمة ، وما مصره غيرهم ولو
بشركته معهم.
ولو صحت هذه المعاهدة التي نقلها لما كانت أبعد مما يعامل به أهل أوربا
المسلمين وغيرهم في مستعمراتهم لا سيما في أثناء الفتح إذ تكون السياسة عسكرية
بل هي أخف منه. وقد أعجبني قول إلياس أفندي الحداد من وجهاء نصارى
طرابلس الشام جوابًا عن قول آخر: إن بعض الأحكام التي عامل بها المسلمون
أهل الذمة قاسية.
قال إلياس أفندي: إن هذه سياسة عسكرية وهى ضرورية في أثناء الفتح
لا بد منها لكل فاتح مهما كان عادلاً ومتساهلاً. وأقول: إنها مع كونها عسكرية
كانت أعدل وأرحم سياسة - كما قال بعض فلاسفة أوربا - (راجع علوم العرب
واكتشافاتهم في المجلد الخامس من المنار أو ص 105 من كتاب الإسلام
والنصرانية) . ثم إننى لم أر في كتب الحديث والمغازي المأثورة شيئًا في معاملة
أهل الذمة. قال راويه: إن الصحابة اتفقوا أو أجمعوا عليه رأيًا إلا ما رواه ابن
عساكر عن الوليد عن عمر وغيره وهو:
(إن عمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمع رأيهم على إقرار
ما كان بأيديهم من أرضهم يعمرونها ويؤدون منها خراجها إلى المسلمين ، فمن أسلم
منهم؛ رفع عن رأسه الخراج، وصار ما كان في يده من الأرض وداره بين
أصحابه من أهل قريته يؤدون عنها ما كان يؤدي من خراجها، ويسلمون له ماله
ورقيقه وحيوانه، وفرضوا له في ديوان المسلمين، وصار من المسلمين له ما لهم،
وعليه ما عليهم، ولا يرون أنه - وإن أسلم - أولى بما كان في يده من أرضه
من أصحاب من أهل بيته وقرابته، ولا يجعلونها صافية للمسلمين. وسموا من ثبت
منهم على دينه وقريته ذمة للمسلمين، ويرون أنه لا يصلح لأحد من المسلمين شراء ما
في أيديهم من الأرضين كرهًا لما احتجوا به على المسلمين من إمساكهم كان عن قتالهم
وتركهم مظاهرة عدوهم من الروم عليهم. فهاب لذلك أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وولاة الأمر قسمهم وأخذ ما في أيديهم من تلك الأرضين،
وكره أيضًا المسلمون شراءها طوعًا؛ لما كان من ظهور المسلمين على البلاد
وعلى من كان يقاتلهم عنها ، ولتركهم كان البعثة إلى المسلمين وولاة الأمر في طلب
الأمان قبل ظهورهم عليهم. قال: وكرهوا شراءها منهم طوعًا لما كان من إيقاف
عمر وأصحاب الأرضين محبوسة على آخر الأمة من المسلمين المجاهدين لا تباع
ولا تورث قوة على جهاد من لم يظهروا عليه بعد من المشركين ، ولما ألزموه
أنفسهم من إقامة الجهاد) اهـ بحروفها كما في (كنز العمال) .
وأغرب ما في هذه الرواية أن يسلم الذمي فتنزع منه أرضه وتعطى لأصحابه
الذميين من ذوي قرباه، ويفرض له بدل ذلك من بيت مال المسلمين. فليقارن
المنصف بين هذا وبين انتزاع أعظم دول أوربا وطنية وحرية ومدنية أرض
المسلمين من أيديهم حتى أوقافهم الدينية، وذلك بوسائل لا مروج لها إلا القوة
القاهرة والبلاد التى يجري فيها ذلك قريبة منا، ويعرف ما فيها العارفون.
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تنوير الأفهام في مصادر الإسلام
تفنيد الكتاب بكلمة
نشرت الجمعية الإنكليزية المكلفة بالدعوة إلى النصرانية كتابًا سُمي بهذا الاسم
خاضت في أمره الجرائد الإخبارية، ويا ليتها لم تخض، فإنها بتهويلها تشوق
الناس إلى الاطلاع على هذا الهزء والتمويه الباطل من حيث لا تزيل تمويهه ولا
تبين هزؤه، حتى إنه ربما علقت ببعض الأذهان الضعيفة بعض شبهه وإن كانت
سخيفة، وقد رمينا بالبصر إلى جمل منه في مواضع متفرقة؛ فرأيناه قد سلك في
الرد على الإسلام المسلك الذي جرى عليه بعض علماء أوربا في هدم الديانتين
اليهودية والنصرانية؛ إذ ألفوا كتبًا بينوا فيها مصادر كتب العهد العتيق المُسَّمَى
بالتوراة، وكتب العهد الجديد المُسَّمَى بالإنجيل أو الأناجيل، ورسائل الرسل.
يعرف الناظرون في كتب العهد الجديد أن مؤلفيها لم يستدلوا على الدين
المدون فيها بأدلة عقلية نظرية أو كونية وإنما يقيمون أساسه على كلمات انتزعوها
من العهد العتيق على أنها بشارات أنبياء بني إسرائيل فهذا الدين الذي يسمونه
مسيحيًّا ونسميه نحن وبعض فلاسفتهم وعلمائهم (كتولستوي الروسي (بولسيا) ؛
مبني على كتب العهد العتيق، وينهدم بهدمها، وتبطل الثقة به بظهور بطلان الثقة
بها. وقد قال الحكيم الأفغاني ما مثاله: إن الناظر في كتب العهدين يتراءى له أن
مؤلفي كتب العهد الجديد قد فصلوا ثوبًا من كتب العهد العتيق، وألبسوه للمسيح بما
زعموا من انطباقه عليه.
ماذا فعل هؤلاء العلماء في بيان مصادر اليهودية والنصرانية؟ بينوا بالدلائل
التاريخية والأثرية واللغوية مصدر عقائد هذه الكتب، ومآخذ أحكامها من ديانات
الأولين وتقاليدهم، وأثبتوا أن الأسفار المنسوبة إلى موسى قد كتبت بعده، وكذلك
سائر الأسفار قد كتبت بعد من نسبت إليهم أو زيد فيها بعدهم، فهم يقولون مثلاً:
إن السفر الفلاني فيه كلمة كذا وكذا من اللغة البابلية، وهي لم تدخل اللغة العبرانية
إلا بعد السبي الأول أو الثاني، وفيه حكم كذا، وهو من تقاليد البابليين دون
العبرانيين بدليل كذا وكذا. وقد وضع بعض علماء الألمان جدولاً للكلام الدخيل في
الكتاب الذي يلقبونه بالمقدس، وبين ذلك بالتاريخ تحديدًا أو تقريبًا. فهذه المطاعن
في الكتاب الذي ظهر بالبراهين أنه غير مقدس، لا معارض لها؛ لأن هذا الكتاب
مؤلف من كتب كثيرة لم تعرف أزمنة تأليفها ، ولم تنقل بالتواتر، وكانت عرضة
للتغيير والتبديل والتحريف من الرؤساء الذين كانوا مستقلين بها في الأزمنة
الماضية، إذ لم تكن مما يتناوله سائر الناس.
ونحن معاشر المسلمين نعتقد أن منها ما هو وحي من الله في الأصل، وقد
وفقنا في المجلد السادس للجمع بين شهادة القرآن لها وبين ما أثبته العلم من كونها
وضعيه مقتبسة من أديان الأمم السابقة؛ فليراجع ذلك في مقالة (النبأ العظيم) التي
شرحنا فيها اكتشاف شريعة حمورابي التي ظهر أن معظم التوارة الحاضرة مأخوذ
منها.
صدم القسيسون ودعاة النصرانية بهذا النحو من الطعن بدينهم وهو ما يسميه
علماء أوربا - الانتقاد العالي أو الأعلى - فكانت صدمة صادعة حاروا فيها
فأرادوا أن يحاربوا الإسلام بالسلاح الذي حوربوا به ، وجهلوا الفرق بين الزجاج
الملون والياقوت، والفرق بين بيت الحديد وبيت العنكبوت. فالإسلام أصلب من
الياقوت، وأقوى من الحديد؛ لأن كتابه قد ظهر على لسان النبي الأمي الأمين ،
وحفظ من حوادث التاريخ وعبث العابثين.
نشرت جمعية التبشير أو التنصير الإنكليزية الكتاب الذي تبحث فيه عن
مصادر الإسلام فرأينا أن مؤلفيه قد أخذوا ألفاظًا وردت في الكتاب والسنة مما كان
مستعملاً عند العرب أو غيرهم من الأمم، ودخلت في اللغة العربية قبل الإسلام،
وألفاظًا قريبة في اللفظ من ألفاظ أعجمية أخرى، ولكن لم يعرف أن العرب نقلوها
عنها وجعلوا هذه وتلك دلائل على أن دين الإسلام نفسه مأخوذ عن الأمم التي وجد
في الكلم العربي ما هو معرب عنها، أو يشبه أن يكون معربًا، فهذا أصل من أصول
مطاعنهم في ذلك الكتاب، وهناك أصل آخر وهو أن ما أقره الإسلام مما كانت
عليه العرب وسواها قد عد دليلاً على أن الإسلام مأخوذ عن الجاهلية ومن هم على
مقربة من الجاهلية في اصطباغ أديانهم بصبغة الشرك وإن كان لبعضها أصل
صحيح.
وإنني أذكر قبل الكلمة الموعودة مثالاً من الأمثلة التي وردت في الكتاب؛
ليعرف سخافته من لم يره من أولي الألباب؛ فمن ذلك زعمه أن الإسلام أخذ حكم
توحيد الله تعالى عن العرب؛ لأنه ورد اسم (الله) واسم (الإله) في أشعارهم قبل
البعثة، وأورد شواهد منها قول النابغة:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم
…
من الجود والأحساب غير موارب
محلتهم ذات الإله ودينهم
…
قويم فما يرجون غير العواقب
وقد جهل المؤلف المسكين أن كل الأمم تعتقد بالله تعالى، ولكنها تشرك به
وتزعم أنه له أبناء أو أولياء يعمل بواسطتهم فهو غير مستقل بإرادته تمام الاستقلال،
ولا يقدر أن يكفر خطيئة آدم مثلاً بدون خطيئة صلب المسيح! ! فما كل من عرف
اسم الله موحدًا لله، وأنه هو يعرف هذا الاسم، ولكنه لا يعرف التوحيد، ولينظر
قول النابغة: (محلتهم ذات الإله) وكان يغنيه عن التعب في استخراج الاسم
الكريم من أشعار العرب استخراجه من القرآن في إثبات اعتقاد العرب وغيرها بالله
مع الاحتجاج على نفي الشرك {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ *
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ
عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ} (المؤمنون: 84-92) ، وأمثال هذه الآيات التي تثبت لهم الإيمان
بالله والشرك به جميعًا مع إقامة البراهين على التوحيد، والاعتقاد الصحيح كثيرة
جدًّا فهل كان مثل هذا عند العرب أو عند النصارى؟ !
أراد مؤلف الكتاب أن يقلد علماء أوربا في هذه المسألة فأساء التقليد، فإن
أولئك قد بينوا أن كلمة الإله والآلهة في التوراة مأخوذة من لغة أخرى، وأن
العبرانيين استعملوها كما كانت مستعملة في الملة التي أخذوها منها ، ولعلنا نفصل
ذلك في فرصة أخرى بترجمة ما قالوه، ولكن صاحبنا أساء التقليد ، وشبهته أن
الإسلام وافق الجاهلية في تسمية خالق الكون، وهل ينطق النبي إلا بلسان قومه أم
جاء نبي بلغة جديدة لا يعرفها أحد فأفاد الناس بها؟ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ
بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) .
مثل هذا المؤلف في صنيعه هذا كمثل الذي قلد جوابًا فأساء التقليد، سمع
جماعة رجلاً ينادي: يا عبد الله. فقال له أحدهم: كلنا عبيد الله فمن تعني؟ وكان
فيهم رجل بليد سمع مرة أخرى رجلاً ينادي: يا حمزة. فأجابه: كلنا حماميز الله
فمن تعني؟ ورأى أمير على غلام مخايل الذكاء والنجابة فامتحنه بأسئلة منها: ما
أطيب الدجاج؟ قال: جلدها؛ فأجازه جائزة حسنة ، وكان له أخ بليد فحسده
وتعرض للأمير قائلاً: سلني كما سألت أخي، فقال له الأمير: ما أطيب شيء في
الجاموسة؟ قال: جلدها؛ فأمر بجلده.
أما الكلمة التي أهدم بها هذا الكتاب فهي أن محمدًا النبي الأمي بعث ليهدي
الناس إلى صراط الفطرة السليمة بإصلاح ما أفسدوا من دين الأنبياء وإقامة الدين
على أساس الاستدلال والعلم دون التقليد للرؤساء ، وهذا الكتاب يثبت للنبي الأمي
الاطلاع على جميع أديان الأمم وتقاليدها، وعاداتها، ولغاتها، وانتخاب قواعد
الإسلام وأحكامه منها كأنه كان ناشئًا في مكتبة كمكاتب باريس وبرلين ولندره
حيث الكتب في جميع اللغات والعلوم والفنون تأتي طالبها بآلات كهربائية كلمح
البصر مع أنه لم يقرأ، ولم يكتب، ولا نشأ بين قوم قارئين كاتبين ، وإنما كان أميًّا
ناشئًا في أمة جاهلية لا كتب عندها ولا علوم. ثم إن هذا الكتاب لا يعتبر الدين
صحيحًا إلا إذا كانت أحكامه كلها مخالفة لما عليه البشر، وإن كان حقًّا وخيرًا
وفضيلة كأنه يشترط في الدين أن يكون مصادمًا للفطرة في كل شيء حتى إذا ما
أقرَّ شيئًا من الخير الذي لا يخلو من الناس كان فاسدًا ومقتبسًا كله من الناس.
فجميع طعن هذا الكتاب في الإسلام لا يعدو موافقة بعض أحكامه لما كان عند الناس
وإن كان عندهم فاسدًا فأصلحه أو ناقصًا فأتمه ، وقد رأيت مثالاً من طعنه ،
وسنريك غيره فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رأي في سلب الأمن من الحجاز
تواترت الأخبار تواترًا حقيقيًّا أصوليًّا باختلال الأمن في بلاد الحجاز، وبأن
حكومة الحجاز التي ألقي زمامها بيد أمير مكة ووالي الحجاز قد كانت من عوامل هذا
الخلل. ظهر للناس كلهم من سبب ذلك الطمع في مال الحجاج الذي كانت الحكومة
تسلبه منهم وتنهبه باسم إعانة سكة الحديد الحجازية، واسم زيادة أجرة الجمال،
وبأسماء أخرى سمَّتها ما أنزل الله بها من سلطان، والسبب الخفي الذي يعتقده بعض
الخواص دون بعض هو أن كل ما قد جرى، فإنما جرى بتمهيد وإيعاز من الآستانة،
ولا نبحث في أدلتهم على ذلك الآن، وإنما نقول: إنه لا يبرئ الدولة العثمانية من
هذه الجناية الكبرى إلا عزل أمير مكة وواليها، ومحاكمتهما، ومجازاتهما، وعزل
وكيلهما أيضًا؛ فإن فعل السلطان ذلك فقد استبرأ لدينه ومنصبه، وإلا ثبت لجميع
مسلمي الأرض ما يتهامس به بعضهم الآن من أن كل ما جرى مُوعز به من
الآستانة، وأن الغرض منه منع الحج بالمرة ، أو منع خواص المسلمين وعلمائهم من
زيارة تلك البلاد لئلا يتآمروا هناك، وينصبوا لهم خليفة بالانتخاب الشرعي، وذلك أن
الخواص وأهل العلم هم الذين يعلمون أن الفريضة تسقط عنهم عند عدم الأمن على
الأرواح أو الأموال ، وهم الذين يحافظون على حياتهم كما يجب، وهم الذين
تخشى جانبهم سياسة التفريق التي يصعب عليها أن يجتمع اثنان أو ثلاثة من
أهل العلم والرأي، ولو في بلد غمره الاستبداد وتغلغلت فيه العيون والجواسيس.
فكيف يسهل عليها أن يجتمع العلماء والفضلاء من جميع الأقطار في موقف مقدس
يتمتعون مع ذنب الاجتماع بالأمن على أرواحهم وأموالهم؟ وأكبر أمانينا أن يُكَذِّب
سلطاننا - وفقه الله - هذه الظنون بما ذكرنا، ويعين للحجاز أميرًا وواليًا
آخرين يجعل عليهما تبعة كل المصير في حفظ الأموال والأرواح في تلك البلاد
المقدسة؛ لأجل لقب الخلافة هو الذي ينزع منه اللقب العظيم، وينفر من الدولة
قلوب جميع المسلمين.
ليس أمر العبث بالأمن في الحجاز كأمر العبث بالأمن في بلاد مكدونية
وأرمينية ، ولا الإلحاد في الحرم كالإلحاد في بلاد الروم وإن كانت باية إستانبول
العلمية - أعلى في قانون الدولة من - باية الحرمين؛ فإن ملاك هذا الأمر الذي
يسمونه الخلافة هو في اعتقاد أكثر المسلمين القائلين به حفظ الحرمين وتسهيل إقامة
هذا الركن الديني ، فإذا صار مهددًا بالهدم برضاء السلطان أو بعجزه فأي عمل من
أعمال الخلافة يبقى له؟
وظيفة الخليفة إقامة الدين وحفظه فإذا كان المرتد لا يقتل، وإذا كان الألوف
من المسلمين يكلفون بترك صلاة الجمعة للوقوف أمام الجامع الحميدي عند
صلاتها؛ وإذا كان ركن الزكاة قد هدم ، والسلطان العثماني لا يبالي بهدمه كما
بالى الخليفة الأول؛ إذ حارب مانعي الزكاة بإقرار الصحابة ، وإذا كان الصوم
سرًّا بين العبد وربه؛ فهل بقي من ركن من الخمسة تطلب فيه عناية سلطان
المسلمين غير الحج؟ وهل يطلب منه في ذلك شيء أقل من حفظ الأمن، ومنع تعدي
العمال وأعوانهم من الأعراب على أنفس الحجاج وأموالهم؟ ألم ير السلطان كيف
أقبل المسلمون على إعانة سكة الحديد الحجازية بالألوف وألوف الألوف مع إهمالهم
فضيلة التعاون على الأعمال العمومية في هذا الزمان؟ ألم يعلم أن السبب في هذا هو
اعتقادهم بأن هذه السكة تسهل لهم طريق الحجاز؟ فإذا رأوها آلة لسلب الأمن على
المال والأنفس في الحال، فكيف يصدقون أن الغرض منها حفظ الأمن في الاستقبال؟
ألا يعلم السلطان أن كل مسلم يسائل نفسه اليوم: هل السلطان قادر على تأمين
الحرمين الشريفين أم لا؟ وأنهم لا يجدون في أنفسهم إلا أحد جوابين: إما أنه قادر
ولكنه يريد سلب الأمن، وإما أنه غير قادر. فأي الجوابين يرضيه إذا لم يبادر إلى
معاقبة أمير مكة وواليها وعزلهما مع وكيلهما، ووضع آخرين مسؤولين عن الأمن في
موضعهما وإعلام جميع الأقطار بذلك.
أيظن أن المسلمين في مشارق الارض ومغاربها ينخدعون بقول جرائد الآستانة
وجرائد بيروت: إن أمير الحجاز وواليه قد حفظا الأمن أتم حفظ، وأن الحجاج كانوا
في غاية الرفاهة والراحة لا شغل لهما إلا تكرار الدعاء للخليفة الأعظم والسلطان
الأفخم كما جاء في المنشور الرسمي الذي أرسلاه إلى الآستانة حسب العادة المتبعة في
كل عام؟ كيف ينخدع من يرى هذه الجرائد - وقليل ما هم - بقولها وقد انبث
في الأقطار مائتا ألف حاج، وكلهم يخبرون بكذبها؟ إذا حدث كل حاج عشرة من
الناس بما رأى وسمع وقاسى وعانى يكون مجموع العارفين مليونين، وكم يخبر كل
واحد من هذين المليونين؟ إن هذا أمر ليس كسائر الأمور فينفع فيه تضليل الجرائد
التي ينخدع بها الجاهلون بسلطة السياسة عليها. على أن الجرائد الحرة في مصر
وغيرها أكثر من تلك الجرائد انتشارًا وأصدق أخبارًا، وقد أجمعت على تمثيل فَقْد
الأمن في الحجاز لا سيما بعدما ورد تقرير أمير الحج المصري على الحكومة
ونشرته في الجريدة الرسمية، وفيه من تمثيل المخاوف والاعتداء على الأموال
والأنفس ما يؤكد رسائل الحجاج الكثيرة.
يسند بعض المنافقين من أصحاب الجرائد وغيرهم كل إلحاد في الحرم إلى
شريف مكة، وجريدة (ترك) تملأ ماضغيها بذم العرب والأشراف مستدلة بسوء
سيرة الشريف، ولكن العاقل والجاهل يعلم أن الشريف أحد عمال السلطان، ويذهب
كثير من الناس إلى صحة ما قالته جريدة الجوائب المصرية، كما في الجزء الماضي
أن السلطان قد أقامه هناك وأقره على الظلم؛ ليكون حجة على العرب والشرفاء أمام
المسلمين، ولكن هذا غير معقول فإن الناس يعرفون أن السلطان قادر على عزله
وعلى تأديبه في كل آن، ويعرف الكثيرون أن الشريف لم يكن له أمر ولا نهي على
عهد عثمان باشا والي الحجاز السابق، بل كان ذلك الوالي قد ألجأه إلى تَرْكِ المقام
في مكة، فأقام في المدينة المنورة حتى عزلت الدولة عثمان باشا عن الحجاز. وكان
أول عمل كسر به شرته أن أمر فرقتين من العسكر بحمل مدفعين والإحاطة ببيت
الشريف، وطلب جانٍ التجأ إليه منه وقال لهم: إن أبى تسليمه فضعوا الحديد في يد
الشريف نفسه ، وأحضروه إلى هنا بالقوة.
وقد بادر البكباشي إلى إخبار الشريف بذلك فأرسل الجاني حالاً، وكان يهزأ
قبل ذلك بالحكومة إذ تطلبه منه.
لعل بعض القراء يمتعض من شدة إنكارنا لميله مع ريح السياسة أكثر من ميله
إلى خدمة الدين، وربما يسبق إلى وهمه أن للنفس هوى في هذه الكتابة لما تعود عليه
من كتابة أهل السياسة. ولي أن أقول لهذا الواهم: إنني - ورب الكعبة - أتمنى لو
أحج ، وإنني - ورب الكعبة - لا آمن على نفسي، بل أعتقد أن الحج حرام عليَّ
ما دام هؤلاء الحكام على سيرتهم هذه في الحجاز ، وإنني - والله - أتمنى لو تصلح
حكومة الدولة العثمانية فتكون خير حكومة في الأرض، ولكنني أحب صلاح الدولة
لأجل الإسلام ، لا إنني أحب الإسلام لأجل الدولة.
إن الله تعالى امتن علينا بجعل البلد الحرام والبيت الحرام أمنًا للناس كما نطق
بذلك القرآن الكريم، وما نحن من تفسير بعض آياته في ذلك ببعيد ، منها قوله تعالى:
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل عمران: 97) ،
وقوله عز وجل {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج:
25) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته بعرفة يوم النحر من حجة
الوداع: (فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في
بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد،
فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مُبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب
بعضكم رقاب بعض) رواه أحمد والبخاري فجعل حرمة الدماء والأموال مشبهًا ،
وحرمة البلد الحرام والشهر الحرام مشبهًا به كأنه أبلغ في التحريم، فكيف صارت
الأموال والدماء تباح في البلد الحرام في الشهر الحرام، ولا يوجد من يسأل عنها؟
وكيف يحرم الله في ذلك المكان والزمان قتل القمل والحشرات، وقلع النبات،
وتحلل الحكومة العثمانية قتل النفوس المنيبة إلى ربها اللاجئة إلى بيته الداخلة في
ضيافته وسلب الأموال المحرمة كذلك ، ثم ندهن لها ونكون من المؤمنين!
إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده
فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه أحمد
ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم، ونحن قادرون على الإنكار بألسنتنا فكيف نسكت،
والواجب على المسلمين أنَّى خرجوا عن طاعة هذه الحكومة إذا ثبت أنها تتهاون
بأمر الأمن في الحجاز، ولا تمنع الظلم منه ، فإن سكتوا ورضوا كانوا ملعونين في
القرآن ، ويوشك أن يسلط الله عليهم من ينزع منهم ما بقي بأيديهم يعيثون فيه فسادًا
حتى الحجاز {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78-79) .
هذا وإننا إنما نشدد في الإنكار رجاء التأثير، ونسأل الله تعالى أن يوفق هذه
الدولة إلى المبادرة إلى تلافي هذا الأمر بطريقة تقنع القريب والبعيد، والذكي
والبليد، بأن الأمن قد عاد إلى تلك البلاد المقدسة، وإلا فإن العاقبة تنذر بخطر
عظيم يشعر به المتفكرون، وإن عمي عنه الطامعون، وتغافل عنه المنافقون،
وجهل مثاره الغافلون، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء:
227) .
_________
الكاتب: سائح بصير
بلرم صقلية
(5)
أمير وأميرة من الأسرة الخديوية
البحر هادئ والهواء عليل. وقد قرب الغروب واليوم آخر أيام السفر، وأنا
محبوس في هذا المكان الضيق لتحرير هذه الأحرف إجابة لطلب بعض الناس،
وبودي لو أستنشق الهواء لكن بقيت عليَّ قصة أقصها ولو تركتها اليوم، لم يعد
إليها القلم في يوم.
صعدت إلى المركب من مسينا وجلست أنتظر مسيره، وبينا أنا كذلك وإذا
بأمير من أعضاء العائلة الخديوية يصعد من السلم إلى السطح فنهضت للسلام عليه
وتساءلنا عن مراحل أسفارنا، وفهمت منه أن معه حرمه، وهي من أعضاء العائلة
الخديوية كذلك. فقلت: أمير جليل رُبِّي على الطريقة الأوربية، وتعود السفر إلى
بلاد أوربا مع حَرَمِهِ وهي كذلك قد ربيت على العظمة والحرية فلا ريب أن نرى
الأميرة مع الأمير، ولا يقدح ذلك في كرامة واحد منهما فإن الأميرات المصونات
قد يرين الناس من حيث لا يراهن الناس لا لأنهن من عالم غير عالمهم، ولكن لأن
الناس يغضون الطرف احترامًا لهن، ولا حظر عليهن في رؤية من لا يراهن.
لكني مكثت مع الأمير إلى وقت العصر، ثم تركته وذهبت إلى محل الأكل لأتناول
شيئًا مما يتناول في هذا الوقت فكان جلوسي مع بعض أرباب البيوت من الفرنسيين
المقيمين في الإسكندرية. فبدؤوني بالكلام فتكلمت، وامتد بي وبهم الحديث إلى حالة
المركب وازدحامه بالركاب وضيقه عنهم ، فقال قائل أو قالت قائلة: ما أسوأ ما
صنعت الشركة مع البرنسيس فإنها وضعتها في قُمْرَةٍ ضيقة لا شباك لها، وهي
ملازمة لها ليلها ونهارها، ولو كانت ممن يخرجن ويستنشقن الهواء لسهل الأمر،
ولكن الأميرة لا تخرج أبدًا؛ لأنها لم تخرج قط من يوم ركبت المركب، ومن
القُمرات ما هو أفضل من قُمْرَتِها وأوسع. فسألت: هل بها شيء تألم له لو خرجت؟
فقيل لي: لا ، الظاهر أنها في غاية الصحة، وكمال العافية غير أنها لا تحب أن
تخرج، والقُمرة مقفلة في جميع الأوقات.
أمكنني بعد ذلك أن أسأل حتى يتم سروري بما فرحت لأوله فعلمت أن الأميرة
كانت في أوربا تسدل على وجهها نقابًا أزرق على نحو ما يسدل نساء الآستانة أو
سوريا بحيث لا يميز الناظر شيئًا من وجهها، ومتى ركبت المركب لزمت قُمرتها ،
وأغلقتها عليها إلى أن تصل إلى غاية سفرها، وكل ذلك تفعله حرصًا منها على
كرامتها، ومحافظة على المعروف من عوائدها من حيث هي أميرة مسلمة. فقلت:
مَثَلٌ صالح لا بد من ذكره، والثناء عليه، حتى يتعلم أولئك المقلدون أن من أمرائهم
وأميراتهم من هم أَوْلَى بتقليده، وأن خيرًا لهم أن يقلدوا أميرًا مصريًّا من العائلة
الخديوية الكريمة من أن يقلدوا جماعة من الأوربيين غير معروفين لهم، ولا
يحسون بتقليدهم، ولا يستفيدون من حذوهم إلا تجردهم مما يميزهم من حيث هم
مصريون أو مسلمون، واختفاءهم في غمرة أولئك الأوربيين لا يتميزون عن
عامتهم في شيء، وسريان ما يشكو منه القوم من الفساد إلى أنفسهم أو أنفس نسائهم
فبارك الله في الأمير والأميرة، وأرشد الله شبابنا إلى التأسي بهما إن كان لا بد
لنسائهم أن يذهبن إلى أوربا لمداواة علة، أو إيناس في غربة.
لعلك تسأل: مَنْ هذا الأمير، ومَنْ هذه الأميرة؟ فإني أقول لك: الأمير هو:
الأمير عباس باشا حليم والأميرة هي: الأميرة خديجة أخت أفندينا الخديوي عباس
باشا حلمي ومما يسرك - إن كنت مثلي تحب العفة، ووضع الشيء موضعه -
أن الأمير لا ينفق في سفره إن كان وحده أكثر من ثلاث مائة وخمسين جنيهًا، وإذا
كان مع الأميرة فلا ينفق أكثر من ستمائة جنيه في مدة شهرين ونصف، وهو
يعيش عيشة الأمراء.
تقول: لعله يقتصد ليكتنز، ويوفر ليستكثر، فأقول لك: إني علمت أنه ينفق
من ماله في تربية تلامذة في مصر، وفي الآستانة وفي إنكلترا يتعلمون العلوم
العالية في المدارس الحربية أو مدارس الطب أو الزراعة. فما قولك في نفقة مثل
هذه بدل النفقة في الشهوات وفوائت اللذات؟ ألست توافقني على أنه من أفضل
الأمراء عملاً، ومن أنبلهم قصدًا فإنه يربي أناسًا يقومون بشئون بيوتهم أعرف
بعضهم وأجهل بعضًا، ألا يكسب بهذا حسن الأحدوثه وتخليد الذكر خصوصًا إذا
استزاد من هذا الخير فإنه بذلك يقوي عناصر العلم في البلاد ، وهو الأصل الذي
نحتاج إليه، لا سيما إذا انضم إليه حُسن التربية كما هو مقصد الأمير. ولو اقتدى
به الأمراء لأصبحنا في ثروة من العلم، ولم تصب حضراتهم بالإفلاس من المال.
بعد الإفلاس من الكمال، وفقه الله وأرشدهم ، والسلام. اهـ
(المنار)
تمت ملاحظات السائح البصير في تعريجه على صقلية وقد كتبت النبذة الرابعة
في الجزء الـ 24 من السنة الماضية ثالثة (3) ولعله يتكرم علينا بشيء من
ملاحظاته النافعة في البلاد الأخرى التي ساح فيها ليعلم السائحين الكثيرين من
أمته كيف ينتفع البصير بالسياحة، وكيف يأمن مضرتها ومن أجدر من سائحنا
بهذا الإرشاد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(تقريظ المنار لعالم غير مقلد)
قال بعد رسوم الخطاب:
منارك مرغوب المؤمن المحب لربه ، ولما أبدع ربه من الوجود البديع
الواقف عند حدود سنته ، وجدير بمن أكرمه الله بالمرغوب أن يأخذ بحظ وافر من
ذكره سبحانه الذكر المتعاقب الذي لا يلبث معه النسيان إلا خلسًا قليلة. ذلك ذكر الله
الذي تطمئن به القلوب، ويتوحد به المحبوب، ولا يفوت معه مرغوب، اللهم أعنا
على ذكرك.
نشكرك وأنت العليم بذات الصدور- يا من أكرمتنا بكتاب (المنار) المنير.
نشكرك أن أتممت على ظهوره السنة السادسة سائرًا سيرته التي نعتقد أنها ترضيك.
نشكر لك الفضل، ولك الحمد، ولك المنة، ومنك العون، ومنك التوفيق.
ويا صاحب المنار ، لقد قمت فينا مقام المصلحين. فعليك منا الثناء نعلنه لك
ليكون من آيات إثمار غرسكم النافع. ومن آيات حبنا إياك في الصراط المستقيم
الذي نرجو أن نصل فيه إلى المجد الحقيقي والسعادة التي لا ينكرها أحد- ولا
السوفسطائية.
انتهت السنة السادسة ، أما أشواق الملأ إلى بدائع ما تحيون من السنن؛ فلما
تنته ، ولما ينهها خاطر من الخواطر ، بل هنالك حداة بها يزيدون في سيرها. تلك
أشواق الذين ذاقوا كنه الأمور فأصبحوا يميزون بين الحقائق والأوهام، كالتمييز
بين وقائع اليقظة والأحلام.
وهذه السابعة أقبلت فعسى أن يكون مباركًا إقبالها ، وعسى أن يزيد المنار فيها
إشراقًا يستنير به المخلصون المنصفون، ويشرق به الحسدة والمعاندون.
وإليك أرسلنا هذا الكتاب نصف فيه مسرتنا بأننا من محبي المنار المتمنين
دوام سطوع أضوائه. وفي كل حرف حررناه نطق للفؤاد بأدعية خالصة بها
تضرعنا للقوي سبحانه أن لا يخيب أملنا ، وأن يخلص إليه عملنا، وأنت اللهم ولي
المؤمنين.
***
(الجزء الثالث من كتاب أشهر مشاهير الإسلام)
قد صدر الجزء الثالث من هذا التاريخ الاسلامي الوحيد في بابه ، وهو في
سيرة أشهر قواد الخليفة الثاني وعماله - أبي عبيدة عامر بن الجراح فاتح الشام،
وسعد بن أبي وقاص فاتح بلاد الفرس، وعمرو بن العاص فاتح مصر، وقد جرى
مؤلفه (رفيق بك العظم الشهير) في تراجمهم على الطريق التي جرى على تراجم
من سبقهم أعني طريق التمحيص والتحقيق ، وبيان أسباب الحوادث ونتائجها ،
والإرشاد إلى وجوه العبر فيها ، وبسط الكلام في موضوعات استطرادية نافعة يعبر
عنها بالكلمات، فمنها كلمة في العمال وكلمة في القبور ، وقد سبق لنا نشرها في
المنار ، وكلمة ثانية في أهل الذمة، وقد نشرناها أيضًا.
ومعظم الكتاب في ترجمة عمرو بن العاص فإنه أعظم عمال عمر دهاءً
وسياسةً وأعمالاً ، وإن كان أبو عبيدة أعظمهم أمانة واستقامة وورعًا وديانة ، ويليه
في ذلك سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وقد اعتذر المؤلف عن عمرو أن زج
نفسه في غمرة الفتنة بين أمير المؤمنين علي ومعاوية بأنه لم يسعه على حبه
للرياسة والتقدم في الأمور ما وسع النفر المعتزلين من حب السلامة؛ بل رأى أن
انتفاع فريق من أولئك المختلفين برأيه ربما كان فيه تعجيل بإطفاء شواظ الفتنة
وحسم لمادة الاختلاف الذي أهريق فيه دم الأمة ، وأنه في ذلك كغيره من الصحابة
الذين دخلوا مدخله، وأنه أراد أن يجعل معاوية وسيلة يعمل به ، ثم يعمل لنفسه
إذ كان يطمع في الخلافة، وأنه في ذلك كعظماء الدين في هذا الزمان وفي كل
زمان ، فإن كثيرًا من الملوك قتلوا إخوتهم أو أولادهم لأجل الملك ، ولم يطعن
الناس في أصل دين أحد منهم وأكثر ما يقال فيهم: إنهم عصوا الله إذ رجحوا
دنياهم على دينهم. وبين المؤلف أن عَمْرًا كان يعتقد أن معاوية على الخطأ ، وقال
بعد ذلك: (وهذا يدل على أن عليًّا رضي الله عنه لو تألف عَمْرًا واستدناه إليه
لانتفع به ولصدقه الخدمة أكثر منها لمعاوية ، ولكن إغراق علي في حب الفضيلة
دعاه إلى ترك الحيلة بمثل عمرو كما دعاه إلى عدم قبول إشارة من أشار عليه
بتأليف معاوية وتثبيته على ولاية الشام كما سترى بعد) اهـ. وهذا يؤكد أن تلك
الأعذار عين الذنوب.
أما الكتاب فهو في غنى عن التشويق إليه والترغيب فيه فإنه قد راج رواجًا
عظيمًا حتى إنه ليوشك أن يعاد طبع الأجزاء السابقة ، وطبع هذا الجزء في مطبعة
المنار ، وهو أحسن من سابقيه طبعًا وتصحيحًا. وثمن النسخة منه خمسة قروش
صحيحة ، وأجرة البريد قرش ونصف ، ويطلب من مؤلفه، ومن مكتبة المنار بشارع
درب الجماميز وغيرها من المكاتب المشهورة.
***
(الدولة العلية وماليتها)
رسالة نافعة مفيدة لكاتب عثماني غيور رمز إلى اسمه بحرفي (م. ق) بَيَّنَ
فيها النفقات الرسمية القانونية التي تنفقها الدولة في الوزارات والمصالح وغير
الرسمية ، وقد كان الكاتب أرسلها إلينا لننشرها تباعًا في المنار ، فنشرنا منها نبذة،
ثم رأينا بعد إشارة غير واحد من القراء عدم نشر الباقي ، ولكن الكاتب لم يرد أن
يحرم الأمة من الانتفاع بها فطبعها على حدتها. ومن هذه الرسالة يعلم أن كبار
رجال الدولة يأخذون رواتبهم الشهرية مضاعفة ويزادون من المكارم السلطانية ما لا
حصر له. وأما صغار العمال والجند فإنهم لا يصلون إلى رواتبهم القليلة إلا في كل
أشهر مرة. وقد اقترح الكاتب في آخر رسالته عشرين أمرًا رأى أن إصلاح الدولة
بدونها محال وهي:
1-
تنقيح دوائر الحكومة ، وتقليل المرتبات التي لا لزوم لأربابها، وإرجاعها
لأصل القانون العثماني ، والتخفيض من ذلك الجيش الجرار الموجود في تلك
المجالس المشكلة في الآستانة كما تقدم ذكره إلى عدد لا يتجاوز ما نص عليه في
القانون.
2-
إحالة أغلب القواد الحائزين على رتبة المشيرية والفريق الذين لا ينتظر
منهم خدمة حقيقية على المعاش ، والإقلال من الإنعام بهذه الرتب السامية ذات
المرتب ، وجعل عدد كل من الرتبتين لا يتجاوز حدًّا معلومًا أسوة بباقي الدول.
3-
إحالة قسم من الياوران على الجيش ، وخصم راتب الكوردون ، والاكتفاء
براتب الرتبة كما هي الحالة المتبعة عند الدول الأجنبية.
4-
قطع المرتبات عن الجرائد.
5-
حل جيوش الجواسيس واقتصاد رواتبهم.
6-
إلغاء الوظائف التي لا عمل لها ، وإبطال إسدائها لغير مستحقها لانتمائه
لبعض الكبار المعبر عنه بالمحسوبية.
7-
زيادة رواتب صغار المستخدمين ، ورواتب ضباط الجيش من رتبة الصاغ
وما تحتها.
8-
قطع دابر الرشوة من دواوين الحكومة.
9-
ترتيب الترقي في الخدمات الأميرية على الخطة الجارية في أوربا.
10-
عدم عزل الموظف إلا بعد محاكمته ، وعدم استخدام من يعزل لثبوت
جريمة عليه.
11-
عدم إعطاء امتيازات ذات ضمان للأجانب؛ بل حصرها في أهل البلاد.
12-
تنشيط التجارة والزراعة ، وتأليف شركت تجارية وصناعية.
13-
وضع رسم قليل على كل تلميذ يتعلم بالمدارس الأميرية للاستعانة بذلك
على توسيع دائرة التعليم.
14-
إعطاء الحرية للجرائد والمطبوعات.
15-
إصلاح المكاتب العمومية (الكتبخانات) بالآستانة أو جمعها بمكتبة
واحدة ، وفتحها دائمًا للمطالعة ، ويوضع رسم طفيف على كل داخل إليها.
16-
قطع المرتبات التي تعطى من البلديات إلى المنفيين أو بعض
(المحاسيب) .
17-
إعطاء الوزارة الحرية بالعمل.
18-
عمل ميزانية سنوية ونشرها في الجرائد.
19-
تنفيذ أحكام القانون بالمساواة واستقلال القضاء عن الإدارة والسياسة وهو
الأهم.
وفي الرسالة فوائد كثيرة وكلام في مستقبل الدولة ، وثمن النسخة منها قرش
واحد، وتطلب من مكتبة المنار.
***
(تقويم المؤيد لسنة 1322)
أصبح هذا التقويم أشهر من نار على علم، وهو يزداد فائدة عامًا بعد عام حتى
يقول الناظر فيه: ليت شعري! أي شيء جديد يكون فيه بعد هذا، وهو الآن
مؤلف من خمسة عشر بابًا يدخل في كل باب من الفوائد ما هو سمير السامر،
وأنيس المسافر، وفي باب التاريخ من هذه السنة تراجم سلاطين آل عثمان ،
وتاريخ أشهر الممالك الأوربية ، وكلام في مستعمراتها ، وجداول لتاريخ الملوك
والرؤساء من كل أمة. وفي بابي أحوال مصر والسودان ما لا يستغنى عن
معرفته، وفي باب القضاء معجم يشرح فيه الاصطلاحات القضائية. وفي باب
المعاهدات والسياسة كلام طويل في المسألة المكدونية والمسألة المراكشية والمسألة
اليابانية الروسية وغير ذلك. وفي باب تدبير المنزل ما يفيد كل منزل ، وفي سائر
الأبواب من الفوائد ما لا محل هنا للإشارة إليه. ولكننا نقول كلمة واحدة في تقريظ
هذا التقويم وهي: (إنه مكتبة في الحبيب) وهو مجلد تجليدًا جميلاً ، وثمن النسخة
منه خمسة قروش صحيحة فقط ، ويطلب من مؤلفه محمد أفندي مسعود المحرر
بجريدة المؤيد.
***
(تقويم العرب)
يطبع في مصر كثير من التقاويم المختصرة التي يسمونها (النتائج) وهي
لمعرفة تاريخ الشهور الهجري مع الإفرنجي والقبطي ، ويزيد بعضها العبري. وقد
جرت عادتهم بأن يكتبوا بإزاء الأيام ما يكون فيها، أو يحسن من احتفال ملي أو
عمل زراعي وغير ذلك. ويسمون ذلك بالتوقيعات ، والكثير من هذه التوقيعات يدخل
في باب العادات المنتقدة والأوهام الضارة. وقد وضع محمد أفندي حسين
مساعد سكرتير شركة طبع الكتب العربية تقويمًا جديدًا لهذه السنة بمساعدة خضر
أفندي إبراهيم. رغب فيه عن توقيعات العادات العمومية المعتادة إلى ذكر أشهر
الوقائع والحوادث التاريخية ، ولم يهمل ذكر الأعمال النافعة في أوقاتها كابتداء
زراعة القطن وغيره. فهذا التقويم على صغره تاريخ إسلامي وجيز فيه ذكر مواليد
أعظم رجال الإسلام ووفياتهم وأشهر الوقائع.
وقد طبعته شركة طبع الكتب على نفقتها ، ونرجو أن يفوق سائر النتائج في
الرواج والاشتهار ولو بعد حين. وثمن النسخة منه قرش واحد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(خطر علينا وعلى الدين)
نشر المقتطف مقالة بهذا العنوان لعبد القادر أفندي حمزة المحامي بالإسكندرية
أعجبني منها نظم الكلام وأسلوبه وترتيبه ، وتنسمت منه الغيْرَة، وحسن القصد،
فخطر لي عند القراءة أن أكتب إلى صاحب المقالة مُبينًا له رأيي فيها، ثم رأيت أن
أكتب ذلك في المنار بالإسهاب اللائق بالموضوع فلم تسمح لي الموضوعات
العارضة مع ما لا بد منه في كل جزء كالتفسير من كتابة ما أردت في الجزءين
السابقين، وقد كاد يتم هذا الجزء أيضًا، ولم يبق منه ما يسع كل ما أريد فأكتفي
ببعضه.
قال: إن الأمة إذا كانت متأخرة جاهلة لا تخطو إلى الإمام إلا بعد التقلب في
أدوار طبيعية، أولها: أن يكثر فيها الناصحون والمرشدون. وحكم بأن الأمه
المصرية في هذا الدور، والقاعدة صحيحة كما قال، ولكن المرشدين لم يكثروا إلا
أن نقول: إن المراد بالمرشدين من يتصدى للنصح على أن كثرتهم مرجوة، فنحن
في هذا الدور.
ثم قال الكاتب: إن هذه الأمة - على كثرة الصائحين فيها من
المرشدين - لا تفقه كلمة من عشر كلمات مما يلقون عليها، ولا تدري إلى أين تساق.
وهذه جملة مسلمة أيضًا ، فإنك كنت تجد المتعلمين يصدقون الأحداث إلى الأمس
فيما يخبرون عن مستقبل مصر، وإخراج فرنسا الإنكليز منها ، ويصدقون صاحب
الخمارة في أن العالم الفُلاني أخطأ في بحث القضاء والقدر! !
ثم انتقل الكاتب إلى مسألة الدين فزعم أن جميع المرشدين المختلفين في كل
شيء، متفقون على دعوة الأمة إلى الدين ، وأن الأمة متفقة معهم في ذلك فإذا
اختبرت الناس في كل بلد، وإذا راقبت معلمي المدارس، ومربي الأطفال، وإذا
نظرت إلى المؤلفات الجديدة، وإذا همت في أودية الشعر مع أهله ، وإذا تلوت
الجرائد والمجلات؛ فإنك لا تجد في هذا كله إلا دعوة الدين وإقناع النفوس بأن
النجاح والترقي لا يكون إلا به.
وهذه دعوى غير مسلمة قد غلا الكاتب فيها غلوًّا كبيرًا، فلو درت في البلد
واختبرت حال الناس؛ لقلت: إنهم لا دين لهم، ولا هَمَّ لهم في الدين ، ولكنك تجد
عند الفلاحين شيئًا من التقاليد المنسوبة إلى الدين ، وأكثرها ليس منه في شيء،
وهؤلاء لا ينظر إليهم في هذه المسألة؛ لأنهم لا رأي لهم وهم لم يأخذوا ذلك عن
المرشدين في هذا الدور.
ولو عرفت حالة معلمي المدارس لما رأيت فيهم عشرة في المائة، أو في
المجموع يؤدي الواجب عليه في قانون الحكومة من تعليم الدين، بل إن منهم من
يشغل وقت درس الدين بتعليم العربية، ويقول للتلامذة: هذا أنفع لكم؛ لأن درس
الدين لا شأن له في (نمر الشهادة) وقد اقترح واحد من الذين عهدت إليهم نظارة
المعارف بالنظر في قانونها (البروغرام) أن يضاف إليه درس ديني في القسم
التجهيزي فرفض طلبه بأكثر الآراء! ! ولو علم الناس ما علل به الرافضون
رفضهم لقضوا عجبًا! !
ولو التفت إلى الشعراء وطلاب الخيال لوجدتهم لا ينظمون شيئًا في ترقي
الأمة، ولا يذكرون ذلك إلا أن يحثوا الأمة على الفناء في حب الأمير وتفويض الأمر
كله إليه، والتعويل في السعادة عليه. أما المصنفات فالديني منها قليل جدًّا.
وأما الجرائد والمجلات، فليس فيها ما هو ديني إصلاحي إلا (المنار) ولا
أدري هل قلب صحائفه من قلب الدعوة الدينية على جميع وجوهها حولين كاملين أم
لا؟ ولا أنكر أنه يوجد أحيانًا في الجرائد كلام أَوْكلم في الدين، ولكنه يوجد عرضًا
يرمون به غرضًا لا أعرف جريدة لها دعوة دينية، أو رأي في الإصلاح الديني
تحاول إقناع الناس به ، فإن كان الكاتب يعرف فأرجو أن يدلني على هذه الجريدة
لأستعين بها في عملي.
من هذه الجرائد المعروفة ما هي للأمير خاصة تدور معه حيث دار، فإذا
حضر الأمير احتفالات الموالد والمواسم المبتدعة في الإسلام قامت تنادي بإحياء هذه
الأمور خدمة للإسلام، وإذا احتفل بمرقصه السنوي، وفيه ما فيه من شرب الخمور،
وهصر الخصور؛ قامت تنوه بفضل هذا الاحتفال وتعده من أصول المدنية
والعمران، ومرقيات الأمة، ومنهم ما لا هم لصاحبه إلا المال والفخفخة فهو يسلك
لأجله كل مسلك، ويسير في كل فج، ناصبًا للمال والجاه كل فخ، ومن ذلك
إظهار الغيرة على الدين عند سنوح الفرص وحدوث الحوادث، ويقل فيها ما يكتب
لمجرد الغيرة على الدين، وإن خالف أهواء العامة والحاكمين، ثم إن وجد هذا أحيانا
فإنه لا يلتزم دائمًا.
وهذا الذي قلناه قد اعترف به الكاتب ، وقال: إنهم يتاجرون بكلمة
الدين، ويتخذونها مطية للتغرير والتضليل، ولكننا نذكره بأنه لا يوجد واحد منهم
رسم لنفسه خطة، وفرض على نفسه الدعوة. إذًا لا يوجد فيهم من يشغل الأمة
بالدين عن أي عمل من أعمال الترقي فلا خطر علينا ولا على الدين منهم.
ثم انتقل إلى مسألة (ميراثنا الديني) فأحسن وأصاب في قوله: إن أهم
أسباب ما نحن فيه من الخلل الديني التقليد، ولكنه غلا في تمثيل إرثنا بعض
الشيء، ولا حاجة للبحث فيه ، وإنما ننتقل معه إلى البحث في النتيجة.
قال: (إن في الداء بالدين اليوم، وهو كما هو من الانحراف عن صورته
الأصلية خطرًا عليه لا يبعد إذا لم تتداركه أن ينتهي بانحلاله وضياع أصله في قليل
من السنين) .
ثم استدل على ذلك بسوء حال طلاب المدارس، وعلماء الشرع
وسائر طبقات المسلمين، وبَيَّن بُعْد الجميع عن الدين. وهذا صحيح، ولكنه لا
ينتج ما قال أولاً؛ لأن هذا ليس أثرًا لنداء المرشدين أو المتصدين للإرشاد بالدين،
وإنما هو أثر التقاليد المتبعة بالعمل قبل أن تدخل الأمة في هذا الطور أو الدور الذي
قال أولاً: إنه أول أدوار ترقي الأمم ، فليس الخطر علينا وعلى الدين إذًا من هذا
النداء الجديد - إن كان - وإنما الخطر كل الخطر في بقائنا على التقاليد الموروثة
بالتربية والعمل أو (بالبدع والخرافات والتقاليد والعادات) التي لها باب مخصوص
في المنار، فإننا لا نقوى بها على معارضة المدنية الجديدة، ولا على مجاراتها،
ولا نقدر أن نكون بها أمة عزيزة قوية.
ثم ضرب لنا مثلاً ما كان من الانقلاب الديني في أوربا ، وفي سياقه مجال
للبحث، ولكنه غير جوهري فهو لا يشغلنا عن الحقيقة البيضاء النقية في قوله: (ألا
فلنعرف جيدًا ولو ساءتنا هذه المعرفة أننا بجهلنا الأعمى وتشيعنا الكاذب أوصلنا
الدين اليوم إلى حال إن استمرت ولم نقف في طريقها؛ أدت ولا محالة إلى زواله)
ثم بين الكاتب طريق تلافي الخطر المتوقع بالإجمال فقال:
(لا يقولن مندفع أني أريد بهذا أن يترك الدين جانبًا! ! فمعاذ الله، ثم
معاذ الله أن أريد ذلك، أو أن يخطر على فكري شيء منه. إنما أريد أن يلبس
الدين بيننا ثوبه الحقيقي، ذلك الثوب الأبيض الطاهر الذي تنظره الأبصار فيعجبها
جماله، وتسرها حقيقته، أريد أن ترمى تلك التقاليد والعادات الموروثة التي تلبست
بالدين بعيدًا ليعود خاليًا من الشوائب يتسع المجال فيه للفهم السليم، والنظر
الصحيح، أريد أن تحفظ للدين كرامته، فلا يجعل هدفًا لكل متشدق مغرور يتجر
بالمناداة به على جهل ولغير داع، أريد أن تمحى من بيننا آثار التغالي والتشيع؛
فنعلم أن القرآن لم ينزل إلا بقواعد عامة للناس جميعًا، فلنا ولكل أمة أن تتصرف
في مدلولاتها بما يناسب الزمان والمكان دون تقييد، أو حجر على الأفهام، إلا ما
يخرج عن الدين، أريد أن لا يؤتى بكلمة الدين أمام العلم ليقال: إن آية أو حديثًا
يعارض معناهما شيئًا من العلم، فإن الدين لم ينزل ليعلم الناس العلم، أو لينافي
العقل في شيء حتى يعارضهما، ولو في بعض الأحايين، أريد أخيرًا أن لا نكثر
من الصياح باسم الدين؛ حتى لا تلتفت العقول الناشئة إليه قبل أن يظهر في ثوبه
الحقيقي لئلا تنفر منه ، ونكون قد جنينا من حيث طلبنا الفائدة) . اهـ
نقول: هذا هو صفوة المقالة، وجوهرها، ونحن نسلم له بكل ما يريد مع
بحث في الأمر الأخير المبني على المقدمات التي منعناها. وقلنا ونقول الآن: إن
الذين ينادون باسم الدين على قلتهم فيما نعلم وكثرتهم فيما قال - لا يضرون الدين
ولا أهله وإن كان الدين على غير وضعه؛ إذ لا نعرف بدعة جديدة حدثت بهذا
النداء، بل منه ما زعزع كثيرًا من البدع والتقاليد التي يريد الكاتب محوها، ثم
نقول له: كيف السبيل إلى الرغائب التي يريدها، ويريد أن لا يذكر الدين معلم،
ولا مُرَبٍّ، ولا كاتب، ولا مؤلف قبل وجودها؟
هل يريد ذلك إرادة حقيقية أم هي خواطر سنحت عند الكتابة، أو عند تصور
موضوعها؟ إن (المنار) يدعو منذ بضع سنين إلى مثل ما دعا إليه الآن، وكل ما
ذكره فهو إشارة إلى موضوعات مجملة، نشرت في المنار مبينة مفصلة، منها
ما هو لصاحب المنار، ومنها ما هو لأكبر المسلمين المعروفين عقلاً، وعلمًا كالأستاذ
الإمام وصاحب سجل جمعية أم القرى. فهل نظر في ذلك أم لا؟ إن كان لم ينظر
فيه فكيف يصح قوله: إنه لم يكتب في الموضوع إلا بعد أن قلبه، وعرف ظاهره
وباطنه، وإن كان نظر فيه فما هو رأيه في هذه الدعوة؟ إن كان يقول بها؛
فكيف اقترح إسكات كل متكلم بالدين؟ وإن كان يراها كغيرها مع تضمنها
لمراداته فما هي السبيل إلى هذه المرادات؟ أم هي أمانٍ ميئوس منها؟ عن هذه
الأسئلة نطالبه بالجواب، ولم نخاطبه ونطالبه إلا لأننا رأيناه بحث في أصول
دعوتنا بعقل نعترف به بالإجمال، ولذلك عنينا بكلامه على أننا قلما نتم قراءة شيء
مما يكتبه أكثر الكاتبين في هذه المسألة لأننا نراه من اللغو. ولعلنا لا نعدم من هذا
الكاتب الباحث رأيًا جديدًا، وإرشادًا مفيدًا. فإنه بذلك جدير، {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ
وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
* * *
(الوفاق الفرنسي الإنكليزي)
أصبحت الممالك الاسلامية بفضل ملوكها وأمرائها طعمة للأمم لا يصرفها عن
ابتلاعها صارف إلا التنازع وكالأرض الموات، مَنْ سبق إلى شيء منها مَلَكَه وقد
سبق الإنكليز إلى احتلال مصر بطلب من أميرها ليحمونه من أمته، وبرضى من
السلطان ليكفوه شر الحكومة الخديوية التي طالما نازعته في سلطته، وقد كان
لمصر من الأمل الوهمي أن حقوق الدول المالية في مصر تحول دون استئثار
إنكلترا بالسلطة فيها. فما زال هذا الأمل يذوب ويضمحل بفضل السلوك الذي سلكه
الأمير مع المحتلين، وهو مصادمة الضعيف للقوي أولاً، واستسلامه له ثانيًا حتى
فني بالمرة بالمعاهدة الأخيرة.
حقوق الدول في مصر مالية وبها يراقبون على مالية مصر؛ فلا تستطيع أن
تقوم بمشروع مالي دون إذن من صندوق الدين الرقيب من قبل أوربا على المالية
والمال المقصود من الاستعمار، وقد حمل مستشار المالية السابق دكريتو من الأمير،
وسافر الى أوربا لا يدري أحد ماذا يريد إلا الأمير واللورد كرومر والنظار،
وعلى هذا الدكريتو بني الاتفاق الجديد على مسألة مصر بين فرنسا وإنكلترا،
وبمقتضى هذا الوفاق صارت إنكلترا حرة في جميع تصرفاتها في مصر، فهي
تنفق باسم الحكومة الخديوية جميع الملايين المتوفرة، والتي تتوفر من مالية مصر
في المشروعات التي تراها، وبمقتضى هذه المعاهدة صار الاحتلال الإنكليزي غير
موقت، ولا يطلب توقيته. عاهدت فرنسا إنكلترا على هذا، وعلى مساعدتها في
إرضاء الدول ، وأعطتها إنكلترا مراكش بدلاً عن حقوقها في مصر! ! وفرنسا أكثر
الدول حقوقًا، فروسيا حليفتها راضية تبعًا لرضاها وإيطاليا وديدة الإنكليز راضية،
وكذلك النمسا راضية وألمانيا لا تشذ عن أوربا كلها فقد قضي أمر المسألة
المصرية من جهة الدول والأريكة الخديوية، ولم يبق للأمة رجاء إلا بعناية الله
تعالى، واستعدادها للارتقاء؛ فاذا صارت أمة فالمستقبل لها؛ وإذا بقيت لاهية
بالشهوات؛ فهي مستعبدة إلى ما شاء الله تعالى.
* * *
يطلب منا كثير من الناس أن نحط عنهم بعض قيمة الاشتراك، ولو علمنا من
هؤلاء الطالبين العجز عن دفع عشرة قروش، أو عشرين في السنة مع شدة الرغبة
في المطالعة كما يقولون لحططنا عنهم القيمة كلها كما حططناها عن قوم آخرين ،
ولكن ما يثقل بذله كل سنة في مثل هذه السبيل يخف بذله وبذل أضعافه كل يوم في
السُبل الأخرى.
وإن الذي يريد أن ينقصنا بعض الثمن، أو كله لا يفكر في كثرة أمثاله وفي
أن الكثير ينهض بالواحد، والواحد لا يقدر على النهوض بالكثير.
إن المنار أرخص المجلات العربية المنتشرة ثمنًا، وكم من مجلة وقد زادت
في قيمة اشتراكها عما قررته في أول إنشائها، ومنها ما قارن الزيادة في ثمنها
نقص في مادتها. وقد زدنا في مادة المنار وتحسينه مع بقاء قيمة الاشتراك على
أصلها. وإنا لنعلم أن طلب النقص لا بد منه سواء علينا أزدنا في القيمة أم نقصنا
فلو جعلناها ثلاثين لقال باذلها الآن: إنني لا أقدر على أكثر من عشرين: ولو
جعلناها ثمانين لجادت يده بالأربعين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه الخامس والخمسون)
قولكم: قد قال أُبَيٌّ: (ما اشتبه عليك فكله إلى عالمه) ، فهذا حق وهو
الواجب على من سوى الرسول؛ فإن كل أحد بعد الرسول لا بد أن يشتبه عليه
بعض ما جاء به، وكل من اشتبه عليه شيء وجب عليه أن يكله إلى من هو أعلم
منه فإن تبين له صار عالمًا مثله، وإلا وكله إليه، ولم يتكلف ما لا علم له به.
فهذا هو الواجب علينا فى كتاب ربنا وسنة نبينا، وأقوال أصحابه، وقد جعل الله -
سبحانه - فوق كل ذي علم عليمًا، فمن خفي له بعض الحق فوكله إلى من هو أعلم
منه فقد أصاب ، فأي شيء في هذا من الإعراض عن القرآن والسنن، وآثار
الصحابة، واتخاذ رجل بعينه معيارًا على ذلك، وترك النصوص لقوله، وعرضها
عليه، وقبول كل ما أفتى به، ورد كل ما خالفه، وهذا الأثر نفسه من أكبر الحجج
على بطلان التقليد، وإن أوله: (ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكله
إلى عالمه) ، ونحن نناشدكم الله إذا استبانت لكم السنة هل تتركون قول من قلدتموه
لها وتعملون بها، وتفتون أو تقضون بموجبها، أم تتركونها وتعدلون عنها إلى قوله ،
وتقولون: هو أعلم بها منا، فأَُبَيُّ رضي الله عنه مع سائر الصحابة على هذه
الوصية، وهي مبطلة للتقليد قطعًا، وبالله التوفيق.
ثم نقول: هلا وكلتم ما اشتبه عليكم من المسائل إلى عالمها من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ هم أعلم الأمة، وأفضلها، ثم تركتم
أقوالهم، وعدلتم عنها، فإن كان من قلدتموه ممن يوكل ذلك إليه، فالصحابة أحق
أن يوكل ذلك إليهم.
(الوجه السادس والخمسون)
قولكم: كان الصحابة يفتون ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حي
بين أظهرهم، وهذا تقليد للمستفتين لهم، فجوابه أن فتواهم إنما كانت تبليغًا عن
الله ورسوله، وكانوا بمنزلة المخبرين فقط. لم يكن فتواهم تقليدًا لرأي فلان وفلان
وإن خالفت النصوص، فهم لم يكونوا يقلدون في فتواهم، ولا يفتون بغير
النصوص، ولم تكن المستفتين [1] لهم تعتمد إلا على ما يبلغونهم إياه عن نبيهم
فيقولون: أمر بكذا، أو فعل كذا ونهى عن كذا.
هكذا كانت فتواهم فهي حجة على المستفتين لهم فى ذلك، إلا في الواسطة
بينهم وبين الرسول وعدمها. والله ورسوله وسائر أهل العلم يعلمون أنهم وأن
مستفتيهم لم يُعَلِّمُوا إلا بما علموه عن نبيهم وشاهدوه وسمعوه منه؛ هؤلاء بواسطة ،
وهؤلاء بغير واسطة، ولم يكن فيهم من يأخذ قول واحد من الأمة يحلل ما حلله
ويحرم ما حرمه، ويستبيح ما أباحه. وقد أنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
على من أفتى بغير السنة منهم، كما أنكر على أبي السنابل وكذبه، وأنكر على
من أفتى برجم الزاني البكر، وأنكر على من أفتى باغتسال الجريح حتى مات،
وأنكر على من أفتى بغير علم كمن يفتي بما لا يعلم صحته، وأخبر أن إثم
المستفتي عليه. فإفتاء الصحابة فى حياته نوعان: أحدهما كان يبلغه ويقرهم عليه
فهو حجة بإقراره لا بمجرد إفتائهم. الثاني: ما كانوا يفتون به مبلغين له عن نبيهم
فهم فيه رواة لا مقلَّدون ولا مقلِّدون.
(الوجه السابع والخمسون)
قولكم: وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ
فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (التوبة:
122) فأوجب قبول نذارتهم، وذلك تقليد لهم؛ جوابه من وجوه:
(أحدها) أن الله سبحانه إنما أوجب عليهم قبول ما أنذروهم به من الوحي
الذي ينزل فى غيبتهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فى الجهاد فأين في هذا
حجة لفرقة التقليد على تقديم آراء الرجال على الوحي.
(الثاني) أن الآية حجة عليهم ظاهرة؛ فإنه سبحانه نوع عبوديتهم وقيامهم
بأمره إلى نوعين أحدهما: نفير الجهاد، والثاني: التفقه في الدين، وجعل قيام الدين
بهذين الفريقين وهم: الأمراء والعلماء أهل الجهاد، وأهل العلم ، فالنافرون يجاهدون
عن القاعدين، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين؛ فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا
ما فاتهم من العلم بإخبار من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وهنا للناس فى الآية قولان أحدهما: إن المعنى: فهلا نفر من كل فرقة طائفة
تتفقه وتنذر القاعدة، فيكون المعنى في طلب العلم، وهذا قول الشافعي وجماعة
من المفسرين ، واحتجوا به على قبول خبر الواحد؛ لأن الطائفة لا يجب أن يكون
عدد التواتر.
والثاني: إن المعنى؛ فلولا نفر من كل فرقة طائفة تجاهد لتتفقه
القاعدة، وتنذر النافرة للجهاد إذا رجعوا إليهم ويخبرونهم، بما نزل بعدهم من
الوحي، وهذا قول الأكثرين وهو الصحيح؛ لأن النفير إنما هو الخروج للجهاد كما
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وإذا استنفرتم فانفروا) وأيضًا فإن
المؤمنين فى المقيمين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والغائبين عنه
والمقيمون مرادون، ولا بد فإنهم سادات المؤمنين، فكيف لا يتناولهم اللفظ؛ وعلى
قول أولئك يكون المؤمنون خاصًّا بالغائبين عنه فقط.
والمعنى: وما كان المؤمنون لينفروا إليه كلهم؛ فلولا نفر إليه من كل فرقة
منهم طائفة، وهذا خلاف ظاهر لفظ المؤمنين ، وإخراج للفظ النفير عن مفهومه فى
القرآن والسنة، وعلى كلا القولين فليس فى الآية ما يقتضي صحة القول بالتقليد
المذموم، بل هى حجة على فساده، وبطلانه فإن الإنذار إنما يقوم بالحجة؛ فمن لم
تقم عليه الحجة لم يكن قد أنذر.
كما أن النذير من أقام الحجة فمن لم يأت بحجة فليس بنذير ، فإن سميتم ذلك
تقليدًا؛ فليس الشأن في الأسماء، ونحن لا ننكر التقليد بهذا المعنى فسموه ما شئتم،
وإنما ننكر نصب رجل معين يجعل قوله عيارًا على القرآن والسنن ، فما وافق قوله
منها قبل، وما خالفه لم يقبل، ويقبل قوله بغير حجة، ويرد قول نظيره أو أعلم
منه والحجة معه. فهذا الذي أنكرناه، وكل عالم على وجه الأرض يعلن بإنكاره وذمه
وذم أهله.
(الوجه الثامن والخمسون)
قولكم: إن ابن الزبير سئل عن الجد والإخوة فقال: أما الذي قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذته
خليلاً) يريد: أبا بكر رضي الله عنه فإنه أنزله أبًا. فأي شيء في هذا مما يدل
على التقليد بوجه من الوجوه، وقد تقدم من الأدلة الشافية التي لا مطمع في رفعها
ما يدل على أن قول الصديق في الجد أصح الأقوال على الإطلاق، وابن الزبير لم
يخبر بذلك تقليدًا، بل أضاف المذهب إلى الصديق لينبه على جلالة قائله، وإنه
ممن لا يقاس غيره به لا ليقبل قوله بغير حجة، ويترك الحجة من القرآن والسنة
لقوله.
فابن الزبير وغيره من الصحابة كانوا أتقى لله، وحجج الله وبيناته أحب إليهم
من أن يتركوها لآراء الرجال، ولقول أحد كائنًا من كان، وقول ابن الزبير: إن
الصديق أنزله أبًا متضمن للحكم والدليل معًا.
(الوجه التاسع والخمسون)
قولكم: وقد أمر الله بقبول شهادة الشاهد وذلك تقليد له: فلو لم يكن فى آفات
التقليد غير هذا الاستدلال لكفى به بطلانًا، وهل قبلنا قول الشاهد إلا بنص كتاب
ربنا وسنة نبينا، وإجماع الأمة على قبول قوله، فإن الله سبحانه نصبه حجة يحكم
الحاكم بها، كما يحكم بالإقرار، وكذلك قول المقر أيضًا، حجة شرعية، وقبوله
تقليد له، كما سميتم قبول شهادة الشاهد تقليدًا فسموه ما شئتم ، فإن الله سبحانه أمرنا
بالحكم بذلك، وجعله دليلاً على الحكام ، فالحاكم بالشهادة والإقرار منفذ لأمر الله
ورسوله، ولو تركنا تقليد الشاهد لم يلزم به حكمًا، وقد كان النبي صلى الله عليه
وآله وسلم يقضي بالشاهد وبالإقرار، وذلك حكم بنفس ما أنزل الله لا بالتقليد
فالاستدلال بذلك على التقليد المتضمن للإعراض عن الكتاب والسنة وأقوال
الصحابة، وتقديم آراء الرجال عليها، وتقديم قول الرجل على من هو أعلم منه،
وإطراح قول من عداه جملة من باب قلب الحقائق، وانتكاس العقول والأفهام،
وبالجملة فنحن: إذا قبلنا قول الشاهد لم نقبله لمجرد كونه شهد به؛ بل لأن الله
سبحانه أمرنا بقبول قوله، فأنتم معشر المقلدين إذا قبلتم قول من قلدتموه قبلتموه
لمجرد كونه قاله ، أو لأن الله أمركم بقبول قوله، وطرح قول من سواه.
(الوجه الستون)
قولكم: وقد جاءت الشريعة بقبول قول القائف، والخارص، والقاسم،
والمقوم، والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد، وذلك تقليد محض، تعنون به أنه
تقليد لبعض العلماء فى قبول أقوالهم، أو التقليد لهم فيما يخبرون به؟ فإن عنيتم
الأول؛ فهو باطل؟ وإن عنيتم الثاني؛ فليس فيه ما تستروحون إليه من التقليد
الذي قام الدليل على بطلانه! وقبول قول هؤلاء من باب قبول خبر المخبر والشاهد
لا من باب قبول الفتيا في الدين من غير قيام دليل على صحتها، بل لمجرد إحسان
الظن بقائلها مع تجويز الخطأ عليه، فأين قبول الإخبار والشهادات والأقارير من
التقليد في الفتوى؟ والمخبر بهذه الأمور يخبر عن أمر حسي طريق العلم به إدراكه
بالحواس والمشاعر الظاهرة والباطنة، وقد أمر الله سبحانه بقبول خبر المخبر به
إذا كان ظاهر الصدق والعدالة، وطرد هذا ونظيره قبول خبر المخبر عن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه قال أو فعل، وقبول خبر المخبر عمن أخبر
عنه بذلك، وهلم جرًّا. فهذا حق لا ينازع فيه أحد، وأما تقليد الرجل فيما يخبر به
عن ظنه فليس فيه أكثر من العلم بأن ذلك ظنه واجتهاده. فتقليدنا له في ذلك بمنزلة
تقليدنا له فيما يخبر به عن رؤيته وسماعه وإدراكه، فأين في هذا ما يوجب علينا
أو يسوغ لنا أن نفتي بذلك، أو نحكم به، وندين الله به، ونقول: هذا هو الحق،
وما خالفه باطل ونترك له نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة، وأقوال من عداه
من جميع أهل العلم.
ومن هذا الباب تقليد الأعمى فى القبلة، ودخول الوقت لغيره. وقد كان ابن أم
مكتوم لا يؤذن حتى يقلد غيره فى طلوع الفجر، ويقال له: أصبحت أصبحت،
وكذلك تقليد الناس للمؤذن في دخول الوقت، وتقليد مَنْ في المطمورة لمن يعلمه
بأوقات الصلاة، والفطر، والصوم، وأمثال ذلك. ومن ذلك التقليد في قبول
الترجمة، والرسالة، والتعريف، والتعديل، والجرح كل هذا من باب الأخبار التى
أمر الله بقبول المخبر بها إذا كان عدلاً صادقًا.
وقد أجمع الناس على قبول خبر الواحد فى الهدية، وإدخال الزوجة على
زوجها، وقبول خبر المرأة ذمية كانت أو مسلمة فى انقطاع دم حيضها لوقته،
وجواز وطئها وإنكاحها بذلك، وليس هذا تقليدًا فى الفتيا والحكم، وإذا كان تقليدًا
لها فالله سبحانه شرع لنا أن نقبل قولها، ونقلدها فيه، ولم يشرع لنا أن نتلقى
أحكامه عن غير رسوله؛ فضلاً عن أن نترك سنة رسوله لقول واحد من أهل العلم ،
ونقدم قوله على قول من عداه من الأمة! ! !
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
كذا في الأصل ولعل كلمة سقطت كقوله (جماعة) أو (فئة) قبل المستفتين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
سوريا والإسلام
(7)
نهوض الدولة العربية وسقوطها
ما ناقشنا أحدًا وكنا عند الرد على كل جملة من كلامه نلوم النفس على
التصدي له إلا كاتب مقالات (سوريا والإسلام) فإن من كان يخلق ما يقول ،
ويفتحر له علله ونتائجه افتحارًا لا ينبغي إضاعة الوقت في الرد عليه ، وإن ساء
تأثير قوله، وقد خطر لنا الآن أن نترك الرد عليه لولا أننا لا نحب أن نشرع في
شيء وندع إتمامه مختارين.
قال: إن سبب تأسيس تلك المملكة العربية العظيمة هي:
(1)
كون جنات عدن لا يدخلها إلا المجاهدون. وهذا الحصر غير صحيح
في الإسلام.
(2)
والغنائم والتحف التي كانت ترسل من سوريا إلى بلاد العرب. وهذا
هذيان ظاهر ، فإن كل فاتح يغنم، وما كل من غنم أسس مثل ذلك الملك العظيم،
ثم إن إرسال الغنائم من الفاتحين بالفعل إلى المقيمين في بلاد العرب لا ينبغي أن
يزيد في همتهم إنما يزيد فيها استئثارهم بما يغنمون.
(3)
وتولية كل قائد على البلاد التي يدوخها، وهذا غير صحيح ، وإذا
صح فهو لا يصلح سببًا؛ لأن القائد في العرب لم يكن حاكمًا مستبدًّا مستعبدًا لجيشه
يسيرهم لمصلحته، ولأن أكثر أولئك القواد الكرام لم تكن لهم عناية بالولاية.
والسبب الصحيح لتأسيس الدولة العربية هو أن الأمم التي فتحت العرب
بلادها كانت كلها فاسدة الدين والأخلاق، مختلة النظام، معتلة الأحكام، فجاء
الإسلام وجمع كلمة العرب المتفرقة على الاعتقاد الصحيح، والتهذيب الكامل،
والعدل الشامل؛ فكانوا بذلك سادة لتلك الأمم التي سبقتهم بالمدنية، وبكل مقومات
الأمم قبل انحطاطها وتقدمهم.
وقد جاءت في كلامه كلمة فيها روح الحق لو فهم ما ترمي إليه لما كتبها؛
وهي أن العرب قنعوا أولاً بامتلاك سوريا، ولولا أن رأوا أنفسهم مهددين بالروم
الذين يحيطون بهم من كل جانب؛ لما تصدوا لافتتاح غيرها. وروح الحق في هذه
الجملة هو أن السبب الصحيح في زحف المسلمين إلى سوريا هو اعتداء أهلها من
العرب المتنصرة وغيرهم على من يدخل في الإسلام ، وقطع الطرق عليهم ومنعهم
من التجارة، وإنما شرع الجهاد في الاسلام لأجل تأمين الدعوة؛ ليكون الإنسان
على الدين الذي يختاره بلا إكراه ولا إجبار ، ثم إنهم بعد ذلك صاروا محاربين
للروم الحاكمين على سوريا ومصر وغيرهما من الأقطار، ومثل هذه الحرب لا
تنتهي إلا بتدويخ إحدى الطائفتين الأخرى.
ومثل هذا المقام يشتبه على الأكثرين، وسنبينه في المقال الموعود به في
تاريخ الحرب وإصلاح الإسلام فيه.
ثم أراد الكاتب أن يبين أسباب سقوط الدولة العربية فذكر أمورًا:
(أحدها) أن ما بني على الظلم مهدوم ، فإن الأمم التي خضعت للعرب
كرهًا كانت كالماء المحصور بسد عظيم يطلب ثغرة ينفجر منها، ولو كان سقوط
الدولة العربية بخروج السوريين والمصريين والفرس عليها، وإشعالهم نيران
الثورات والفتن الأهلية في بلادهم لإسقاطها، أو إزالة ظلمها؛ لكان لقوله وجه،
ولكن شيئًا من ذلك لم يكن إذ لم ير أهل هذه الممالك أرحم ولا أعدل من دولة
العرب فهذا السبب مخترع من مخيلة الكاتب المتعصب كما ترى.
(ثانيها) أن اتساع المملكة، وعدم وجود رابطة بين أممها غير الدين كان
يجزئها، ولهذا وجه يشرح بغير ما قرره.
(ثالثها) عدم مهادنة دولة الروم، وهو كما ترى لا قيمة له.
(رابعها) أن إطلاق الخلفاء لحكام المقاطعات والولايات الحرية التامة في
تدبير شئون ولاياتهم؛ حمل هؤلاء على الاستبداد والاستقلال عند ضعف الدولة.
وهذا سبب صحيح مسطور في الكتب لا ينازع فيه ، ولكنه لا يبرد غليل تعصب
الكاتب.
(خامسها) وهو المهم عنده: أن التعصب الديني واضطهاد المسلمين لتلك
العناصر المختلفة والتضييق عليهم في كل شيء بسبب الاختلاف الديني حمل هذه
العناصر على كره الإسلام وخلفائهم وولاتهم، وحمل مسيحيي سوريا على الأخص
على مد يد الاستغاثة إلى إخوانهم في أوربا حتى جروا على المسلمين الحروب
الصليبية المشهورة.
وهذا كما ترى مكرر مع الأول لا يزيد عليه إلا في ذكر نتيجة كراهة نصارى
سوريا للمسلمين، وقد أنسى الكاتب تعصبه أن الحروب الصليبية ما حدثت إلا بعد
انحطاط الدولة العربية، فكيف يكون الشيء سببًا لما وجد قبله؟ !
التاريخ الصحيح يشهد للعرب بأنهم كانوا أعدل الحاكمين، والحروب
الصليبية لم تحدث بسوء معاملتهم، ولكن بتعصب نصارى أوربا. وذكر كُتَّابُ
النصارى العارفون بالتاريخ أن الذين أساءوا معاملة زوار القدس هم السلجوقيون،
وإن تعصب أوربا إنما ثار لذلك. جاء في دائرة المعارف أن زوار النصارى كانوا
يفدون إلى بيت المقدس على عهد الدولة العربية ويذهبون (بأمان وطمأنينة، ولا
سيما في زمن العباسيين، حتى قيل: إن هارون الرشيد الذي استحكمت الصداقة
بينه وبين معاصره شرلمان بعث إليه بمفاتيح بيت المقدس تأمينًا لقلوب الزوار
وتطييبًا لخواطرهم. فكان القبر المقدس وكنيسة القيامة في أيديهم يتمتعون بزيارتها
بلا معارض ، ولا يدفعون إلا اليسير من المال. ولما انتقلت الخلافة إلى الفاطميين،
واستولوا على القدس سنة 972م ساروا على أثر العباسيين، وظلوا يحسنون إلى
المسيحيين وزوارهم إلى أن قام الخليفة الحاكم بأمر الله فضيق على النصارى،
وشوه الأمكنة المقدسة عندهم، وآذى الزوار، فقلقت أوربا لذلك، ولكنها ما لبثت أن
عادت إلى السكون؛ لأن خلفاء الحاكم رجعوا فأحسنوا السياسة.
ولما استولى السلاجقة على بلاد فلسطين ظلموا النصارى، وضايقوا زوارهم؛
فهاجت الخواطر في أوربا..) إلخ، فقد رأيت ما اعترف به مؤلف الدائرة، وهو
نصراني عالم بالتاريخ يقل نظيره في كتاب العربية. اعترف بأنه لم يظلم النصارى
أحد من ملوك العرب إلا الحاكم العُبيدي، وقد كان مجنونًا يظلم النصارى يومًا،
والمسلمين يومًا، ويحرم أكل الملوخية يومًا، ويحلها يومًا.. .
ولا يسع هذا الموضع ذكر الشواهد التاريخية على حسن معاملة العرب
للنصارى وسائر الملل بالعدل والمساواة، وكيف كان هؤلاء يفضلون سلطتهم على
سلطة أبناء دينهم لا سيما في أول الإسلام؛ إذ كان العمل بالدين دون السياسة. ولا
يسع أيضا ذكر الأكاذيب التي افتراها قسوس أوربا على الإسلام والمسلمين ليهيجوا
شعوبهم على غزو البلاد السورية، وإبادة المسلمين منها. فقد خلقوا لنا من العقائد
الوثنية والتقاليد الكفرية، والعيوب الدينية والخلقية ما تقشعر منه الجلود، ولا
يخطر على بال أحد من البشر أن يخترعه إلا أمثال هؤلاء المتعصبين الذي خلفوا
لنا من بعدهم (رفول سعادة) فورث تعصبهم وقرائحهم القادرة على الاختراع.
ومن شاء أن يرى العجب العُجاب من ذلك؛ فليقرأ كتاب (الإسلام- خواطر
وسوانح) لكونت كستري الفرنسي الذي عربه أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة
مصر.
ولد التعصب الدينى الذميم في أوربا وتربى فيها، وساح إلى الشرق فأفسده
على أهله، ولم يكن قبل حرب الصليب غلو في التعصب على المخالف في الدين
يذكر بعدما علم العرب الناس التساهل بالعدل والمساواة بينهم وبين غيرهم؛ فسكن
بذلك ما كان بين اليهود والنصارى من قبل. وكل ما كان يقع من النزاع والخلاف
بين المختلفين في الدين فقد كان يقع مثله بين أهل الدين الواحد، والجنس الواحد
ومن شاء زيادة البيان في هذا فليراجع مقالات (التعصب) التي نشرناها في السنة
الأولى للمنار ، فقد كانت موضع إعجاب النصارى والمسلمين.
افتات رفول سعادة على العرب ، وجردهم من مزية العدل والإنصاف التي
شهد لهم بها العالم أجمع، ولم يكتف تعصبه بهذا، بل جردهم أيضًا من سائر
المزايا العلمية فقال: (وهكذا سقطت الدولة العربية، ولا أسف عليها؛ لأنها لم تترك
أثرًا صالحًا إلا نشرها اللغة العربية في أطراف المعمورة. ولو سأل مؤرخي
الفرنجة وفلاسفتها وعلمائها عن آثارهم؛ لقالوا له: إن العرب أحيوا العلم بعد موته،
والفلسفة بعد دفنها، والفنون بعد تلاشيها، وأنهم أساتذتنا في كل العلوم والمعارف
فيا أسفى على دولتهم، ويا أسفى على أيامهم، ويا ليتها دامت أو طالت ، وبلغت
من السعي في الفضل ما أرادت؛ ليأخذ العالم عنها كل شيء كاملاً. ليقرأ تاريخ
.... [*] المؤرخ ، وكتاب الفيلسوف جيون ، وغيرها من الكتب الإفرنجية، بدلاً
من رسائل ذلك الراهب ، وخطبه التحمسية التعصبية ، فذلك خير له إن كان
يريد أن يكتب كلامًا مقبولاً عند العقلاء، ويخدم سوريا العربية التي يملك معظمها
المسلمون.
إن الكاتب يفتخر بالسوريين الأصليين الذين انقرضوا وبادوا ، وصارت
سوريا بعدهم عربية خالصة فليخبرنا أي أًثَارَةٍ من علم تركها السوريون الأصليون؟
وهم قبائل نيفليم وأميم ورافاييم وزوزيم وعناقيم. وإن ذَكَرَ الفنيقيين؛ أَقُلْ له: إنهم
جاءوا سوريا من جبال كردستان، وليسوا بسوريين أصليين، فهم فاتحون كالعرب ،
ولم يكن لهم من الآثار العلمية مثل ما للعرب، وإنما كانوا أصحاب ملاحة وتجارة.
أعود في آخر هذه النبذة إلى معاتبة نفسي على تفنيد كلام مخترع ككلام هذا
المتعصب الغالي الذي غرني بأوائله نشر جريدة المناظر محبة الإنصاف له ، ولعلها
تنشر الرد عليه؛ ليكون هذا كفارة لذلك، والله يتولى هدانا أجمعين.
للرد بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) بياض بالأصل لم نقف عليه بعد البحث عنه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
الدليل على وجود الله تعالى
(س 11) أحمد أفندي الألفي في ميت سمنود: ما هو الدليل العقلي على
وجود الله سبحانه وتعالى الذي لا يمكن لمشكك أن يشتبه فيه؟
(ج) إن الناس قد اشتبهوا في المشاهدات وغيرها من المحسوسات، وأنكر
السوفسطائية منهم حقائق الأشياء، وطفقوا يشككون الناس في ذلك قائلين: كيف
نثق بما نراه، وقد ظهر لنا الغلط في بعضه، ويجوز على بعض المتساويين ما جاز
على الآخر. مثلاً إننا نرى العود مستقيمًا خارج الماء ونراه معوجًّا في الماء، ونرى
النجم صغيرًا وكلنا يعلم أنه كبير، ويذوق من يسمونه الصفراوي العسل مرًّا ويذوقه
غيره حلوًا، ويرى المحموم أو النائم أمامه أشياء كثيرة يقول من في حضرته: إنها
لا وجود لها. فأمثال هؤلاء إذا كانوا يشكون أو يشككون في وجود الله تعالى لا
ينفع معهم دليل ولا برهان. وأما طالب الحقيقة فهو الذي لا يشتبه في الحق إلا
لعارض يصرفه عن الدليل؛ فإذا نبه إليه تنبه ورجع.
ومن الناس من يسهل تنبيهم وهم أصحاب الأفكار المستقلة، ومنهم من يتعذر
أو يتعسر تنبيهه على حسب بعده من التقليد وقربه من استقلال الفكر. وفي
المشتغلين بالعلم والفلسفة من المقلدين نحو ما في المشتغلين بعلم الدين فإن أحدهم
يسمع أو يقرأ أن فلانًا الفيلسوف، الذي يعجب به قال: إنه لم يثبت عندي دليل
على وجود الله تعالى ، فيقول هذا المقلد له: لو كان هناك دليل قطعي لما خفي على
ذلك الفيلسوف. ويكلف نفسه بأن تشك، وترتاب أو تنكر وتفند كل دليل من هذا
القبيل.
ذهب بعض العلماء والحكماء إلى أن معرفة الله تعالى فطرية في البشر لا
حاجة بهم إلى إقامة الدليل عليها لولا ما أحدثته الاصطلاحات العلمية من البحث في
الضروريات والبديهيات كعلم الإنسان وشعوره ووجدانه. واستدلوا على ذلك بأن
جميع أصناف البشر من أرقاهم كالأنبياء والحكماء إلى أدناهم كالقبائل الضاربين في
معامي الأرض وأغفالها كلهم يعتقدون بقوة غيبية وراء الطبيعة سواء منهم من تعلم
شيئًا من صفات ذي القوة ، وما يجب له من العبادة ومن لم يتعلم، وبأن المعطلين
نفر قليل يعدون من الشواذ، ويحال شذوذهم على مرض عرض على هذا الشعور
الفطري كما يعرض للإحساس بالحلاوة مرض يمنع من إدراكها، وكما يعرض
لبعض مراكز المخ شيء يحول دون إدراك بعض المعلومات مع سلامة سائر
المدارك، فقد ثبت أن بعض الناس نسي بعض أرقام الحساب، فكان لا يحسن
عملية حسابية هي فيها، ويحسن غيرها، ومثل هذا كثير فلا يقال: إن من
المعطلين من لا يشك أحد بسلامة عقولهم ، فإن من الناس من يضعف إدراكه لشيء
واحد وإن كان قويًّا في غيره، ولم يعرف أحد قويت مداركه في كل فرع من أنواع
الإدراك.
وذهب بعضهم إلى أن المسألة نظرية، وأنه لا بد من إقامة البراهين على
إثبات وجود البارئ تعالى؛ لأن الأنبياء والحكماء قد استدلوا وأقاموا الحجج على
ذلك. ونقول جمعًا بين القولين: إن المسألة فطرية في الحقيقة، وإن إقامة الأنبياء
والحكماء الحجج عليها هي لإصلاح فطرة من عرضت لهم الشبه فيها، كما تعرض
في غيرها من الأمور الفطرية والضرورية، ولإزالة غلط المعتقدين بتلك القوة
الغيبية، أو بالله تعالى في بعض صفاته، وفي نسبة المخلوقات إليه؛ إذ أشركوا به
وجعلوا له وسطاء وشفعاء كالملوك الظالمين؛ لذلك قال الله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ
فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (إبراهيم: 10)
…
إلخ فأشار أولاً إلى أن الإيمان به
أمر ثابت في الفطرة لا موضع للشك فيه، ثم ذكر بعض صنعه الدال على قدرته،
وانفراده بالتأثير، والتدبير وهو كونه فطر السموات والأرض؛ أي: شق وفصل
بعضها من بعض بعد أن كان الجميع مادة واحدة
…
إلخ ما جاء في الآية.
وإنني وجدت أقرب الدلائل تنبيهًا، وإقناعا لعقول المشتغلين بالعلوم العصرية
كما ثبت لي بالتجربة والمناظرات معهم هو أن جميع ما نعرفه من الموجودات
حادث عندهم، حتى إنهم ليقدرون للأرض والشمس والكواكب أعمارًا لقطعهم
بحدوثها، ثم إنهم قاطعون بأن الموجود لا يصدر عن نفسه، ولا عن معدوم كما قال
تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ} (الطور: 35) فتعين أن
يكون لهذه الموجودات كلها مصدر وجودي، ثم إنهم قاطعون بأن مصدر الكائنات
والأصل الذي وجدت منه غير معروف في ذاته ، وإنما يجب أن يكون موجودًا ذا
قوة، فالمادي منهم يقول: المادة مع القوة هي أصل الموجودات كلها؛ فإذا سألته:
ما هي المادة التي تعنيها؟ يقول: إن حقيقتها غير معروفة ، فكأنه اختلف مع غيره
في التسمية، واتفق الجميع على أن هذه الكائنات كلها قد صدرت عن موجود ذي
قوة حقيقية غير معروفة الكنه ، وهو ما عليه المسلمون؛ ولذلك قلنا في المنار: إن
الفلاسفة الأوربين الذين أنكروا إلههم ما أنكروا إلا إله الكنيسة؛ أي: الإله الذي تصفه
الكنيسة بصفات غير معقولة ككونه مركبًا من ثلاثة أقانيم وكون أحدها حل في
أحشاء امرأة فأولدها إلهًا كاملاً، وإنسانًا كاملاً إلى غير ذلك من الصفات التي لا
يقبلها عقل.
هذا الاعتقاد هو الذي صرح به سسل رود الذي قالوا: إنه كان غير مؤمن
بالله، وهو الذي كان يعتقده هكسلي وسبنسر وغيرهم من الفلاسفة الذين نقل عنهم
التعطيل، {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
***
البيع في الذمة والسلم
أو المضاربة العصرية
(س 12) محمد أفندي حسن وبعض تجار البورصة بالإسكندرية:
ما قولكم - دام فضلكم - في رجل من المسلمين اشترى من القطن ألف قنطار
مثلاً موصوفة في ذمة البائع بثمن معلوم في شهر المحرم مثلاً، على أن يستلمها
منه في أجل معلوم شهر ربيع الأول كذلك، ودفع بعض الثمن عند التعاقد وأجل
باقيه إلى الاستلام. فهل للمشتري قبل قبض المبيع، وقبل حلول الميعاد أن يبيع
ذلك القطن الموصوف في الذمة، ويكون تمكين البائع للمشتري من البيع في أي
وقت من أوقات الميعاد قبضًا وتخلية، حتى يكون ذلك البيع صحيحًا؛ لأنه معرض
للربح والخسران الذي هو قانون البيع، ويكون ما عليه المسلمون اليوم في تجاراتهم
من المضاربة، وبيع الكنتراتات جائزًا في دين الله تعالى، أم يكون ذلك بيعًا فاسدًا
وعملاً باطلاً مشابهًا للميسر كما يزعمه بعض الناس؟ وإذا كان باطلاً فأي فرق بين
قبضه بنفسه، وبين إذن البائع له بالبيع في أي وقت؟ وما السر في ذلك؟ وأين
اليسر في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة:
185) ، بل هو عين الحرج في البيع والشراء وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) أم كيف يحرم المسلمون من منفعة هذه
التجارة العظيمة التي تعود على الكثير منهم؟ نطلب من حضرتكم الجواب الموافق
لكتاب الله وسنة رسوله ودينه الصحيح من غير تقيد بمذهب من المذاهب مفصلاً
مبنيًّا، فيه سند الجواز أو المنع على لسان مجلتكم الغراء التي أخذت على عاتقها
خدمة الإسلام والمسلمين؛ لأن الإجابة على هذا السؤال بما يوافق الشرع أعظم
شيء يستفيده التجار المسلمون من أمر دينهم، وكلهم بلسان واحد يطلب من حضرتكم
الإجابة في أقرب وقت على صفحات المنار سواء كانوا بالإسكندرية أو غيرها
وفيهم مشتركون في مجلة المنار الغراء، والكل مشتاق إليها اشتياق الظمآن للماء
ليطمئن الجميع، نسأل الله تعالى أن يعلي شأنكم، ويعضد عملكم ، ويجعلكم
ملجأ للقاصدين.
(ج) نهى الكتاب العزيز عن أكل أموال الناس بالباطل؛ أي: بغير حق
يقابل ما يأخذه أحد المتعاوضين، وأحل التجارة، واشترط فيها التراضي فقط،
ومن أكل أموال الناس بالباطل ما ورد في الأحاديث من النهي عن بيع الغرر، وعن
الغش، وعن بيع ما لا يملك لعله لا يقدر عليه، وقد ورد في حديث ابن عمر في
الصحيحين وغيرهما أنهم كانوا يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق، فنهاهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يحولوه، وفي رواية: ينقلوه. وقال: (من
ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه) وفي رواية لأحمد: (من اشترى طعامًا بكيل أو
وزن فلا يبعه حتى يقبضه) .
وروى أحمد ومسلم من حديث جابر: (إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى
تستوفيه) وهذه الأحاديث خاصة بالطعام، وبالتجارة الحاضرة تدار بين التجار
كما يدل عليه كونهم كانوا يفعلون ذلك في السوق، وأُمروا بالتحويل. وفي حديث
حكيم بن حزام عند أحمد والطبراني قال: قلت: يا رسول الله إني أشتري بيوعًا فما
يحل لي منها وما يحرم؟ قال: (إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه) وهو عام
ولكن في سنده العلاء بن خالد الواسطي ضعفه موسى بن إسماعيل. وهناك حديث زيد
بن ثابت عند أبي داود وابن حبان والدارقطني والحاكم قال: إن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
وقد خص بعض العلماء النهي بالطعام، واستدلوا على ذلك بأحاديث أخرى تدل
على صحة التصرف بالمبيع قبل القبض، ومن هذه التصرفات ما هو مجمع عليه،
كالوقف، والعتق قبل القبض. وقد علل ابن عباس النهي بأن الشيء الحاضر إذا
تكرر بيعه ولم يقبض؛ كان ذلك بمنزلة بيع المال بالمال - أي: فإن المال ينتقل من
يد إلى يد - والشيء حاضر لا يمس كأنه غير محتاج إليه ولا مراد. رواه الشيخان،
قال مسلم: إنه قال لما سأله طاووس عن ذلك: ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام
مرجأ، وحاصل هذا التعليل أن النهي لمنع الاحتيال على الربا، ولا بد في التجارة
أن تكون السلع هي المقصودة فيها لا سيما ، فإذا كانت حاضرة فما معنى شراء فلان
السلعة الحاضرة بعشر جنيهات وبيعها من آخر بخمس عشرة، وهي حاضرة وهم
حاضرون إلا الحيلة على الربا؟ وأي فائدة للناس في حل مثل هذا اللعب بالتجارة،
وإننا نعلم أن بيع البورصة ليس من هذا القبيل، ولكن أحببنا أن نورد أصل مآخذ
العلماء في تحريم بيع الشيء قبل قبضه؛ ليميز المسلم بين البيوع التي تنطبق
عليها الأحاديث وغيرها.
ثم إن علماء المسلمين كافة يجيزون إرجاء الثمن أو إرجاء القبض، ولكن
أكثرهم يمنع بيع الشيء قبل قبضه مطلقًا؛ فإن احتجوا بالأحاديث المذكورة آنفًا فقد
علمت أنها لا تدل على هذا الإطلاق، وإن قالوا: إن بيع ما في الذمة لا يخلو من
غرَر، وربما يتعذر تسليمه، نقول: إن هذا رجوع إلى القواعد العامة التي وضعها
الدين للمعاملات، وكلها ترجع إلى حديث:(لا ضرر ولا ضرار) فكل ما ثبتت
مضرته، ولم يكن في ارتكابه منع ضرر أكبر منه؛ فهو محرم، وإلا كان حلالاً،
وهذا ينطبق على قاعدة بناء الشريعة على اليسر ودفع الحرج، ولا شك أن في
مبايعات البورصة ما هو ضار وما هو نافع، وتحرير ذلك بعد العلم بأصول الأحكام
التي ذكرناها متيسر للتاجر المتدين.
وقد جاء في الصحيح النهي عن بيع المخاضرة، وهو بيع الثمار والحبوب
قبل بدو صلاحه، وذلك لما كثر تشاكيهم، ودعوى البائعين أن الآفات والجوائح
أصابت الثمر قبل بدو صلاحه، وإنما هذا في ثمر شجر معين؛ لقوله صلى الله
عليه وسلم: (إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ !) والحديث في
البخاري. ولا يدخل في هذا بيع كذا قنطارًا من القطن قبل بدو صلاحه إذا لم يعين
شجر القطن، ويدل على ذلك جواز السلم الذي يدخل في جميع شروطه وأحكامه
المشروحة في كتب الفقه؛ فنذكر حقيقة ما جاء فيه في الأحاديث الصحيحة فيه إنارة
للموضوع؛ فإننا غير واقفين على تفصيل ما يجري في البورصة من البيوع فنكتفي
بالكلام فيها.
روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن من حديث ابن عباس قال: قدم النبي
صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين؛ فقال: (من
أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم) فالكيل المعلوم أو
الوزن المعلوم شرط؛ لأنهم كانوا يسلفون في ثمار نخيل بأعيانها، وفيه غَرَر
وخطر كما علم مما تقدم.
وأما الأجل؛ فقالت الشافعية: إنه ليس بشرط، وإن الجواز حالاً أولى، وهو
الراجح وإن خالفهم الجمهور، وأقل التأجيل عند المالكية ثلاثة أيام. وروى أحمد
والبخاري من حديث عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى، قالا: (كنا
نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتينا أنباط من أنباط
الشام فنسلفهم في الحنطة، والشعير، والزيت إلى أَجَلٍ مُسَمَّى، قيل: أكان لهم
زرع أو لم يكن؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك) ، وفي رواية لأحمد وأبي داود
والنسائي وابن ماجه (وما تراه عندهم) أي: المسلم فيه، وهو دليل على أنه لا
يشترط في المُسَلَّمِ فيه أن يكون عند المُسَلَّمِ إليه. قال ابن رسلان: وأما المعدوم
عند المسلم إليه وهو موجود عند غيره فلا خلاف في جوازه: وأجاز الجماهير السَلَم
فيما ليس بموجود عند العقد خِلافًا للحنفية، ويدل عليه حديث ابن عباس السابق،
فإن السلف في الثمار إلى سنتين نص فيه؛ إذ الثمار لا تمكث سنتين.
وروى أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره) وفي إسناده عطية بن
سعد العوفي قال المنذري: (لا يحتج بحديثه) وإذا كان هذا الحديث غير صحيح
ولا حسن ، فلا يوجد حديث غيره يدل على امتناع جعل المسلم فيه ثمنًا لشيءٍ قبل
قبضه أو امتناع بيعه قبل القبض. ثم إن بيعه قبل القبض ليس فيه شيء مما لم
يكن في العقد الأول فيحال عليه الفساد فهو جائز.
فعلم من هذا كله أن بيع ما في الذمة جائز كالحوالة فيه إلا إذا كانت التجارة
غير مقصودة، بل حيلة للربا أو المقامرة، أو كان في ذلك غش أو تغرير، ومنه
أن يبيع الإنسان ويشتري، وليس له مال ولا سلع تجارية، وإنما يخادع الناس فإن
ربح طالبهم، وإن خسر لا يأخذون منه شيئًا. فليحاسب مؤمن بالله نفسه بعد العلم
بأحكام دين الله، والله الموفق والمعين.
***
سادة أصناف البشر
وآية الكرسي
(س 13) محمد أفندي حلمي كاتب سجون حلفا:
جاء في كتاب المخلاة ما نصه: قال صلى الله عليه وسلم: (سيد البشر آدم،
وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد
الحبشة بلال، وسيد الجبال الطور، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن،
وسيد القرآن سورة البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي) ثم أورد في هذا الموضوع
فضائل آية الكرسي بكثرة، فهل ذلك حقيقي أرجو منكم إرشادي إلى الحقيقة، ولكم
مزيد الشكر والأجر.
(ج) هذا الحديث تشهد عبارته وأسلوبه والغلو فيه بأنه موضوع، ولكن
المحدثين قالوا: إنه ضعيف. وفي إسناده مجالد بن سعيد قال فيه الإمام أحمد: إنه
ليس بشيء وهو في الديلمي وابن عساكر. وقد ورد في سورة البقرة أحاديث
أمثلها حديث أبي هريرة عند الترمذي: (لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة
البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن - آية الكرسي) .
***
قضاء الفوائت في النار
(س14) ومنه: رجل بلغ من العمر نحو ثلاثين سنة وفي خلالها لم
يؤد الصلوات المفروضة عليه ، وابتدأ في تأدية الفريضة بعد هذه المدة ، هل هو
ملزم شرعًا بأن يعوض ما مضى في الدنيا؟ وإن كان لم يعوضها في الدنيا فهل
يؤديها يوم القيامة؟ أفيدونا بالصريح، ولجنابكم الثواب.
(ج) قضاء الصلوات الفائتة واجب، وما يتناقله العوام والصبيان من أن
من عليه فائتة يقضيها على بلاط جهنم غير صحيح لقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن
سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (القلم: 42) إلى قوله: {وَقَدْ
كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} (القلم: 43) .
***
القرآن لقضاء الحوائج
(س15) ومنه: ما قولكم - أدام الله النفع بكم للإسلام - فيما هو متبع،
وشائع، ومعلوم لكل إنسان من تلاوة بعض الآيات طلبًا للنجاة، أو السلامة فمنها ما
يقرأ قبل النوم، ومنها ما هو عند ركوب البحر، وللدخول أمام الحكام، وكذا
استعمالها لمداواة بعض الأمراض، مثل: وجع الرأس، والجنون، والحفظ من
الشيطان
…
إلخ، وكل هذا عمل بالحديث المتداول بين الناس وهو: (خذ من
القرآن ما شئت) فهل هو صحيح؟ أرجو التكرم بالإفادة ، ولكم الفضل.
(ج) لا أذكر أنني رأيت هذا الحديث في الكتب التي يعول عليها، وقد
راجعت عنه الآن في مظانه فلم أجده، وما أظنه إلا من اختراع أصحاب العزائم
والنشرات التي ورد في حديث جابر وغيره أنها من عمل الشيطان. فقد حول
هؤلاء فائدة القرآن إلى غير ما أنزل لأجله من الهداية، وجعلوه آلة لأكل أموال
الناس بالباطل؛ فإنك لتجد الذي يكتب لك ما تتقرب به إلى الحكام عاجزًا عن
التقرب إليهم، والقبول عندهم، وتجد الذي يكتب لك ما تغنى به من أفقر الناس إلا
حيث يروج الدجل، ويبذل المال الكثير في الوسائل الوهمية؛ فإن البارع في
الإيهام والدجل قد يستغني في أمثال هذه البلاد، ولكن ببركة جهل الناس لا بتأثير
عزائمه ونشراته، وكذلك الذين يكتبون لشفاء الأمراض تجدهم أو عيالهم غير
مُمَتعين بالصحة. ولو صح الحديث؛ لكان معناه: (خذ من القرآن ما شئت من
آيات الهداية والعبر لما شئت من أمراض النفس وعلل القلب) ، فإنه كما قال الله:
{وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُور} (يونس: 57) لا شفاء لما يقول الدجالون من أمراض
العظام والجلود.
***
المهدي المنتظر
(س16) ومنه: مشهور بين الكافة من أهل الإسلام على مر الأعصار أنه
لابد في آخر الزمان من ظهور رجل يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون،
ويستولي على الممالك الإسلامية، ويُسَمَّى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما
بعده من أشراط الساعة الثابتة بعده، وأن سيدنا عيسى عليه السلام ينزل من
بعده؛ فيقتل الدجال أو ينزل معه
…
إلخ - وإني نظرت ذلك في متن صحيح
البخاري - فرأيت أن أكتب لجنابكم في هذه المسألة لكي تتكرموا علينا بالإفادة
ولحضرتكم الأجر.
(ج) ليس في متن البخاري ذكر صريح للمهدي، ولكن وردت فيه أحاديث
عند غيره منها ما حكموا بقوة إسناده، ولكن ابن خلدون عني بإعلالها وتضعيفها
كلها. ومن استقصى جميع ما ورد في المهدي المنتظر من الأخبار والآثار،
وعرف مواردها ومصادرها؛ يرى أنها كلها منقولة عن الشيعة، وذلك أنه لما استبد
بنو أمية بأمر المسلمين وظلموا وجاروا وخرجوا بالحكومة الإسلامية عن وضعها
الذي يهدي إليه القرآن وعليه استقام الخلفاء الراشدون، وهو المشاورة في الأمر،
وفصل الأمور برأي أهل الحل والعقد من الأمة، حتى قال على المنبر - مَنْ يُعَد
مِنْ خِيَارِهم - وهو عبد الملك بن مروان: (من قال لي: اتق الله ضربت عنقه) لما
كان هذا، كان أشد الناس تألمًا له، وغَيْرَةً على المسلمين - آل بيت النبي عليه
وعليهم السلام - وكانوا يرون أنهم أولى بالأمر، وأحق بإقامة العدل، فكان من
تشيع لهم يؤلفون لهم عصبية دينية يقنعونها بأن سيقوم منهم قائم مبشر به يقيم العدل،
ويؤيد الدين، ويزيل ما أحدث بنو مروان من الاستبداد والظلم، وعن هذا
الاعتقاد صدرت تلك الروايات، والناظر في مجموعها يظهر له أنهم كانوا ينتظرون
ذلك في القرن الثاني، ثم في الثالث، وكانوا يعينون أشخاصًا من خيار آل البيت
يرجحون أن يكون كل منهم القائم المنتظر فلم يكن. وكان بعضهم يسأل من يعتقد
أنه صاحب هذا الأمر فيجيبه ذاك بأجوبة مبهمة، ومنهم من كان يتنصل ويقول:
إن الموعد ما جاء ولكنه اقترب، ومنهم من كان يضرب له أجلاً محدودًا، ولكن
مرت السنون والقرون، ولم يكن ما توقعوا أن سيكون.
وقد جرت هذه العقيدة على المسلمين شقاءً طويلاً؛ إذ قام فيهم كثيرون بهذه
الدعوى، وخرجوا على الحكام، فسفكت بذلك دماء غزيرة، وكان شر فتنها فتنة
البابية الذين أفسدوا عقائد كثير من المسلمين، وأخرجوهم من الإسلام ووضعوا لهم
دينًا جديدًا، وفي الشيعة ظهرت هذه الفتنة - وبهم قامت - ثم تعدى شرها إلى
غيرهم، ولا يزال الباقون منهم ومن سائر المسلمين ينتظرون ظهور المهدي،
ونصر الإسلام به، فهم مستعدون بهذا الاعتقاد لفتنة أخرى، نسأل الله أن يقيهم
شرها.
ومن الخذلان الذي ابتلي به المسلمون أن هذه العقيدة مبنية عندهم على القوة
الغيبية، والتأييد السماوي؛ لذلك كانت سببًا في ضعف استعدادهم العسكري
فصاروا أضعف الأمم بعد أن كانوا أقواها، وأشدهم ضعفًا أشدهم بهذه العقيدة تمسكًا
وهم مسلمو الشيعة في إيران، فإن المسألة عندهم اعتقادية أما سائر المسلمين فالأمر
عندهم أهون، فإن منكر المهدي عندهم لا يعد منكرًا لأصل من الدين. ولو كانوا
يعتقدون أنه يقوم بالسنن الإلهية والأسباب الكونية لاستعدوا لظهوره بما استطاعوا
من قوة، ولكان هذا الاعتقاد نافعًا لهم.
وجملة القول أننا لا نعتقد بهذا المهدي المنتظر، ونقول بضرر الاعتقاد به ،
ولو ظهر ونحن له منكرون لما ضره ذلك إذا كان مؤيدًا بالخوارق كما يقولون. وقد
بينا ذلك في كتابنا (الحكمة الشرعية) وفي هذه الأيام ألف أحد علماء الفرس
(زعيم الدولة الدكتور ميرزا محمد مهدي خان رئيس الحكماء) المقيم بالقاهرة كتابًا
في تاريخ البابية يطبع عندنا الآن واسمه (مفتاح باب الأبواب) ، وقد ذكر فيه
أصل هذا الاعتقاد وما ورد فيه وتاريخ من ادعى المهدوية مجملاً ، وماذا كان من
أثر ذلك فلينتظر صدوره محبو التفصيل فإن العاقل يستنبط منه ما سكت المصنف
عن استنباطه عمدًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
حب القوة.. رابطة المدنية
(تمهيد ثان) البر وطن البشر، يسبحون فيه كما تسبح الحيتان في البحر.
يوجد في الأرض بران عظيمان: أحدهما عُرف قديمًا، والآخر عرف أخيرًا (سنة
898هـ - 1492م)
البر القديم قطع ثلاث كبرى: أوربا في الغرب الشمالي، وأفريقية في
الغرب الجنوبي، وآسيا في الشرق من الشمال إلى الجنوب: والبر الجديد قطعة لا
شرقية ولا غربية.
وفي البحار قطع متجاورات من الجزائر صغيرة وكبيرة تتبع في اصطلاح
المقسمين لواحد من هذه البرور، إلا الجزائر التي تقع في الأوقيانوس الجنوبي فإنها
تحسب قطعة وحدها. على أنه حيث كان البر مهما عظمت مساحته فهو جزيرة في
البحر. وإذا كانت البرور كلها جزائر فأول بشر في أية جزيرة وجد؟ وكيف انتقل
البشر من جزيرة إلى أخرى؟ وفي أي الجزائر حدثت له مراقي المدنية؟ فلبيان
هذه المسائل حررت هذا التمهيد الثاني:
يلهج كثيرون بقولهم: إن آسيا مهد البشر، ولكن لا دليل على ذلك، بل لا
دليل على أن هذا النوع وجد بادىء بدء في البر القديم مطلقًا، كما لا دليل على أنه
وجد بادىء بدء في البر الجديد. وإنما لهج الناس بهذه القولة؛ لأن ما حفظه التاريخ
يدل على قدم سكان آسيا، ويدل على أن سكان أوربا أتوها مهاجرين من جهات
آسيا.
وفريق من الحكماء تقدست أفكارهم عن الجمود فراموا نبأ عن البشر قبل
العهد الذي حدثت فيه صناعة الكتابة، ولم يعبأوا بكثير من أساطير الأولين. ومنهم
من أوحى إليهم الروح الطاهر أن يستهدوا بطبقات الأرض فاهتدوا بها إلى معرفة
أنواع من الحيوانات كانت فبادت. وهدوا إلى معرفة العهد الذي وجد فيه الإنسان.
فمن هؤلاء يرجى أن نقتبس المعرفة في هذه المسألة. فسائلوهم إن حرصتهم على
هذه المعرفة، ولكن أوصيكم لا تقنعوا منهم بجواب مجرد عن الدليل، واعلموا أنه
لا يتم لهم دليل حتى يثبتوا أنهم نقبوا في كل جزيرة في كل طبقاتها. أما الآن فلتبق
هذه المسألة مجهولة لدينا، والله بكل شيء عليم.
ومن الناس من يزعمون أن البشر ينتهون إلى أصول متعددة وجدت في
جزائر متعددة وهو وَهْمٌ نَاجم من عدم التدقيق، ومن جمود الفكر على بعض
المحسوسات، وما أقبح جمودًا ينتهي بصاحبه إلى جهل يظنه علمًا. ويصرفه عن
علم يخاله جهلاً.
وإننا قدَّمنا إشارات نافعة إلى كيفية تحكم الحاجات على الإنسان مع مشاركة
فطرته لها بالتحكم، ومنها علمتم كيف تحدث له الصنائع والأعمال، على قدر
الحاجات والآمال.
والآن نبني على ما قدمنا فنقول: إن من فطرة الإنسان، وجملة خواصه
الحرص على ادخار الزوائد عن حاجته، وإن الحرص يحمله أن لا يقف موقفًا
واحدًا في اجتلاب المكسوبات والمدخرات، ففريق الرُّحَّل يحتاجون في توفير
الحيوانات المأسورة والاستكثار منها إلى التنقل الدائم في المراعي، ومتى كثروا
وكثرت أموالهم تلك؛ يحتاج كل طائفة منهم إلى ديار واسعة يتنقلون فيها في
الصيف والشتاء والاعتدالين، ولا يزالون يستولون على الديار ويتقاتلون من أجلها
حتى تضيق بهم؛ ويحتاج الأضعفون منهم أن يرحلوا إلى ديار لا ديَّار فيها من
الأقوين.
وفريق المقيمين يحتاجون في توفير الحبوب، والمعادن، والمصنوع من
المعادن إلى المبادلات الدائمة؛ فلا تزال طوائف منهم يضربون في الأرض يبتغون
أن يبدل بعضهم من بعض ما صنعوا وملكوا، ومتى كثروا وكثرت أموالهم - كثرت؛
على هذه النسبة - مقراتهم، ثم اضطروا أن يتغالبوا على أحسن الديار وأوسعها
ليتخذوا فيها أوطانهم. ولا يزالون يتغالبون حتى يضطر الأضعفون للرحيل إلى ديار
أخرى يتخذونها وطنًا. وعلى هذا الوجه حدث ما نسميه القُرى أو البلاد ، وتباعدت
بينها المسافات، وصار السفر للمقيمين ضربًا من اللوازم يقوم به طوائف منهم
على نسبة اقتسام الأعمال، وكثرة الأموال والآمال.
فافرضوا على هذا الوجه أن طائفة من الأضعفين القريبين من البحار ضايقهم
الأقوون من جيرانهم حتى اضطروهم إلى الرحيل، ولم يبق أمامهم إلا الموت أو
تجربة الحياة على متن ما كانوا قد جربوه فرأوه يطفو في البحر (وهم جيرته) من
ألواح الأخشاب، فأي الأمرين يختارون؟ أفلا يختارون أن يركبوا ما جربوه من
الطوافي، ويجربوا على ظهره كيف يحيون، ويأملوا أن يتاح لهم من الغيب ما به
يحيون؟
افرضوا أنهم سلموا أنفسهم للبحر على متن الألواح آملين ما هم آملون،
وبينما هم كذلك؛ إذ أشرفوا على بر في بحر، ودنت بهم الألواح حتى نزلوا إلى
ذلك البر، ووجدوا فيه ما كان يجده أوائل البشر من رزق، أفلا يصيرون أمة كما
صار من الزوج الأول أمم لا تحصى.
هكذا افرضوا إن أبيتم أن تقولوا: إن نفرًا من جيران البحر أولئكم جربوا
السير في البحر على الألواح من غير ضرورة ألجأتهم؛ كالتي مثلناها، بل أوحي
إليهم أن يجربوا تلك التجربة، وفي سيرهم وجدوا برًّا في بحر، ثم أحبوا أن
يتخذوا لهم وطنًا لِمَا وجدوا فيه من رَغدِ زائد على ما في وطنهم الأول. على أي
الوجهين بنى الباني يمكنه أن يقول: هكذا كان أول سير في البحر. وهكذا كان
أول انتقال من جزيرة إلى أخرى.
وهكذا عرف البشر أن في البحر برورًا؛ فصاروا يتنقلون حسب الحاجات أو
حسب الآمال من جزيرة إلى أخرى، حتى ملئت الجزائر بشرًا وملئوا بها.
أما الجزيرة الأولى التي حدثت فيها للنوع مراقي المَدَنية بادىء بدء؛ فلا يبعد
أن تكون هي البر المعروف قديمًا، ثم لا يبعد أن تكون قطعة آسيا منه هي مهد
المدنية وفرق بين قولنا: مهد البشر، وبين قولنا: مهد المدنية.
(ثمة بقية)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
ع. ز
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(تاريخ التمدن الإسلامي)
صدر الجزء الثاني من هذا التاريخ المفيد الذي يجب على الناطقين بالضاد
الاعتراف لمؤلفه جرجي أفندي زيدان بفضل السبق إلى خدمتهم به، ويا ليتهم
يتحدونه ويتلون تلوه فيه. صدر هذا الجزء من نحو تسعة أشهر، وقد أرجأنا الكلام
عليه لنطالعه كله، وننتقده إجابة لطلب المؤلف ، ولم نجد سعة في كل هذه المدة
لمطالعته على شدة الشوق، وصدق الرغبة فرأينا أن لا بد من التنويه به شكرًا لمؤلفه
، وتوجيهًا للنفوس إليه، وإن لم نقرأ منه إلا قليلاً.
الجزء في ثروة الدولة الإسلامية وأسباب تكونها وانحطاطها، وثروة المملكة
مدنها وقُراها. وقد أحسن المؤلف أن أشار في أخريات صفحات الكتاب إلى عزو
النقل إلى الكتب التي أَخَذَ عنها عملاً باقتراح بعض الفضلاء، ولكن الطريقة التي
جرى عليها، وسبقه بها غيره لا تخلو من إيهام وإبهام؛ فإنه يذكر أمرًا، ويضع
في آخره رقمًا يصنع مثله في أسفل الصفحة تحت خط أفقي، ويذكر عند الرقم اسم
الكتاب أو المؤلف الذي أخذ عنه، فيتوهم القارئ أن ذلك الأمر كله من ذلك الكتاب،
وربما كان المراد بعضه كما يظهر لك من أول عزو في الكتاب، وستراه قريبًا.
قسم المؤلف ثروة الدولة الإسلامية إلى خمسة أدوار أو أعصار، عصر النبي
صلى الله عليه وسلم، وعصر الخلفاء الراشدين، وعصر الأمويين، وعصر
العباسيين الأول، وعصرهم الثاني؛ فقال في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ما
نصه:
(إذا كان المراد بثروة الدولة ما يزيد من دخلها على خرجها، أو ما تختزنه
بعد نفقاتها من الأموال ونحوها، فالدولة الإسلامية في عصر النبي صلى الله عليه
وسلم لم يكن عندها ثروة حقيقية؛ لأنهم لم يكونوا يختزنون مالاً، ولا كان عندهم
بيت مال، بل كانوا إذا أصابوا غنيمة فرقوها فيما بينهم، وكذلك الصدقات؛ فإنها
كانت تفرق في أولها؛ وإذا ظل منها شيء؛ استبقوه لحين الحاجة إليه. وكان
النبي صلى الله عليه وسلم يتولى ذلك بنفسه، وأكثر الصدقات من الماشية والإبل
والخيل فكان يسمها بميسم خاص بها، تمتاز بها عن سواها.
(فكانت ثروة الدولة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن بقايا
الزكاة من إبل أو خيل أو ماشية، وتمتاز عن أموال سائر الناس بمراع خاصة
كانت تحبس فيها بالبقيع قرب المدينة يعبرون عنها بالحمى [1] ، وبميسم كان النبي
صلى الله عليه وسلم نفسه يسمها به [2] ، وبلغت الأموال في أيام النبي صلى الله
عليه وسلم نحو 40.000 بين إبل وخيل وغيرها [3] ومن هذه الأموال وما يلحق
بها من مال الصدقة النقد كانوا ينفقون على غزواتهم، وعلى تحصيل الزكاة، وإعالة
الفقراء ونحوهم) اهـ.
فترى أنه أشار عند الرقم (1) إلى النقل عن الماوردي فتتوهم أن الجملة من
قوله: (فكانت ثروة الدولة) إلى الرقم معزوة إلى الماوردي، والصواب أن
المأخوذ عن الماوردي هو تسمية المراعي بالحمى، وأنها كانت بالبقيع وقد وقع في
هذا السهو أيضًا كما تعرفه من عبارة الماوردي نفسها قال: (وحمى الموات - أي:
الأرض التي لا ملك لها - هو المنع من إحيائه أملاكًا ليكون مستبقى الإباحة لنبت
الكلأ، ورعي المواشي قد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وصعد
جبلاً بالبقيع، قال أبو عبيد:(هو النفيع بالنون)، وقال: هذا حماي، وأشار بيده
إلى القاع ، وهو قدر ميل في ستة أميال حماه لخيل المسلمين من الأنصار
والمهاجرين) : اهـ بنصه (ص 176) .
وعبارة صاحب التاريخ تفيد أن الخيل من مال الزكاة ، والصواب أنه لا زكاة
فيها والمراد بالخيل في عبارة الماوردي: خيل المسلمين المملوكة لهم. ومثل هذا
الغلط لا يسلم منه من يأخذ العلم عن الكتب من غير تلقي كل علم عن أهله.
فالمصنف جعل الخيل من مال الزكاة، وجعل الحمى خاصًّا بإبل الزكاة وخيلها
وماشيتها، وكلا الأمرين غلط كما رأيت. ثم قال في عصر الخلفاء ما نصه:
(هذا هو عصر الإسلام الذهبي، عصر العدل والتقوى، كانت الحكومة
جارية فيه على سنن العدل والاستقامة والغَيْرة الحقيقية على الدين، ونبذ الدنيا،
وهو العصر الذي اتخذه المسلمون منوالاً ينسجون عليه، وكلما حادت دولة من
دولهم عن جادة الحق، طلبوا إليها الرجوع إليه، والسير على خطوات الخلفاء
الراشدين؛ لأن الحكومة انتقلت بعدهم إلى طور جديد، وانقلبت من الخلافة الدينية
إلى الملك السياسي، ونشأت في الخلفاء والعمال المطامع، وأخذوا في حشد الأموال
بأية وسيلة كانت) اهـ.
فليتأمل قول هذا المؤرخ المنصف صاحب مقالات (سوريا والاسلام) ، وكم
في أبناء ملته من حجة مثله عليه ثم قال:
(فلما كثرت الأموال في أيام عمر، ووضع الديوان؛ فرض الرواتب للعمال،
ومنع ادخار المال، وحرم على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة أو المزارعة؛
لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم تدفع لهم من بيت المال، حتى إلى عبيدهم ومواليهم -
أراد بذلك أن يبقوا جندًا على أهبة الرحيل، لا يمنعهم انتظار الزرع، ولا يقعدهم
الترف والقصف؛ فإذا أسلم أحد من أهل الذمة سكان البلاد الأصليين صار ما كان
في يده من الأرض وداره إلى أصحابه من أهل قريته تفرق بينهم، وهم يؤدون
عنها ما كان يؤدي من خراجها، ويسلمون إليه ماله ورقيقه وحيوانه، ويفرضون له
راتبًا في الديوان مثل سائر المسلمين)
…
إلخ ما ذكره في هذا المقام نقلاً عن ابن
عساكر، وهو موافق لما نقلناه في الجزء الماضي ردًّا على صاحب مقالات سوريا
والإسلام. ثم ذكر أن الخلفاء الراشدين لم يتأثلوا مالاً، ولا عقارًا؛ لما كانوا عليه
من الزهد، وشدة التمسك بالدين. وذكر أن أكثر عمالهم كانوا كذلك، فليعتبر بهذا
ذلك المتعصب الذي ينسب إلى المسلمين في الصدر الأول ما هم براء منه بشهادة
جميع العلماء من جميع الملل.
ثم ذكر أن رأي عمر بعدم اختزان المال، ينافي المبدأ الأساسي الذي تقام
عليه الدول، وتتأيد به السلطات، وأن سببه النزعة الدينية، وأن المسلمين عادوا
بعد ذلكم إلى الأصل الطبيعي في الدول، فجمعوا الأموال في عهد بني أمية، حتى
إنهم بدءوا في زمن عثمان لتساهله مع عماله منهم، وأن معاوية اقتنى الأرضين ،
واقتدى به الناس في الاقتناء والبيع.
وبعد أن ختم الكلام بمثل ما بدأه من الثناء على الراشدين انتقل إلى عصر بني
أمية، وذكر ما كان فيه من اقتدائهم بالروم والفرس في الترف، وبسطة العيش
وما جرهم ذلك إليه من الظلم والجور، ولكن معظم ثروتهم كانت تنفق في الحروب
وأنهم ابتدعوا ضرائب جديدة، وظلموا الرعية حتى جاء عمر بن عبد العزيز
العادل فيهم فرد المظالم، وأنصف الناس مؤمنهم وكافرهم من أهله وولده وسائر
الناس، وعزل الولاة الظالمين، ثم قال: (فترى مما تقدم أن القواعد الأساسية
التي قام عليها الإسلام تدعو إلى الإنصاف والرفق، ولكنها تختلف مظاهرها
باختلاف الذين يتولون شئونها. ولو أتيح لعمر بن عبد العزيز أن يعيدها إلى ما
كانت عليه في عهد ابن الخطاب؛ لامَّحت مظالم بني أمية، ولكن جاء في غير
أوانه فذهب سعيه هدرًا، ولما مات عادت الأمور إلى مجاريها ورافقها رد الفعل)
…
إلخ.
ونقول: إن السبب الصحيح في تمكن بني أمية من الظلم هو هدم قاعدة
الشورى، وسيطرة الأمة على الحكام التي صرح به أبو بكر في خطبته يوم ولي
الخلافة، ثم صرح بها عمر كذلك يوم ولي (راجع المنار ص 234م4) . وقالها
عثمان يوم قام الناس عليه، قال على المنبر:(أمري لأمركم تبع) وقد تمكن بنو
أمية من هدم هذا الركن الركين بعصبتهم المؤلفة من الموالي وغيرهم ممن لم يتمكن
الإسلام من نفوسهم، واستعانوا على ذلك بالمال الذي يأخذوه من غير حقه، كما هو
مفصل في الكتاب الذي نقرظه ، ثم انتقل إلى الكلام على بني العباس، فأسهب
وأفاد، ولعلنا نعود إلى مطالعة ما كتبه واقتباس بعض فوائده ، وصفحات هذا الجزء
190 وثمنه 15 قرشًا، ويطلب من مكتبة الهلال.
***
(السعادة العظمى)
صدرت في تونس مجلة عربية جديدة بهذا الاسم، وهي مجلة علمية أدبية
إسلامية تصدر في غُرة كل شهر عربي، وفي سادس عشرة لمنشئها عبده محمد
الخضر بن الحسين المحصل على رتبة التطويع العلمية بجامع الزيتونة الأعظم ،
وقيمة الاشتراك فيها بالمملكة التونسية 8 فرنكات في السنة وبالجزائر وطرابلس
الغرب عشرة فرنكات، وبالممالك الشرقية ومراكش 12 فرنكًا والعدد منها يتألف من
كراستين، وهو مطبوع على ورق جيد بالحرف الإستانبولي. وقد سَرَّنَا من هذه
المجلة أنها دلت على تساهل من دولة فرنسا مع المسلمين في نشر العلم كما توقعنا،
وعلى توجه المشايخ المشتغلين بالعلوم الاسلامية إلى الصحافة؛ فنسأل الله تعالى أن
يوفقنا، ويوفق صاحب هذه المجلة إلى خدمة الإسلام الخدمة النافعة، وأن يُنَجِّح عملنا
وعمله آمين.
_________
(1)
الماوردي.
(2)
البخاري 190 ج 1.
(3)
شرح الموطأ.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التعليم الإسلامي في سيراليون
جاء في مجلة سيراليون الأسبوعية الإنكليزية (عدد 29م 20) تحت هذا
العنوان ما يأتي:
يخضع سكان هذه المستعمرة منذ بدء استعمارها أتم الخضوع للحكومة
الإنكليزية، وقد كان السير تشارلس ماك كارثي حاكم سيراليون - بين ثمانين
وتسعين سنة مضت - أول من وجه أنظار الحكومة الإنكليزية إلى فائدة تسهيل
المواصلات مع المسلمين القاطنين في البلاد الواقعة شرق سيراليون وسنغال ،
وكان يومئذ حاكم المقاطعتين إذ كانت سنغال من الأملاك الإنكليزية، وهو أول من
حول تجارة مقاطعات البربر إلى الشاطئ الغربي، وذلك بما كان يبديه من الكرم
والمجاملة لزعماء القبائل المحمدية الذين كانوا يأتون إلى الشاطئ تباعًا تلبية
لدعوته.
ولكن أعمال السير تشارلس ماك كارثي كانت تجارية بحتة؛ فإنه لم يحلم بأن
سيصبح أولئك الأقوام جزءًا من الإمبراطورية الإنكليزية في وقت من الأوقات،
وأنهم يحتاجون حينئذ إلى الدرية العلمية والسياسية ليكونوا عضوًا عاملاً في جسم
المملكة.
ولم يكن إلا في الثلاثين سنة الأخيرة أي منذ تولى السير أرثور كنيدي إدارة
تلك البلاد، أن اعتنى بتوسيع دائرة التعليم في المستعمرة لكي تضم المسلمين إليها.
وقد كان السير أرثورك كنيدي وخلفه السير جون بوب هنيسي ميالين أشد الميل إلى
تعليم المسلمين العلوم الغربية؛ لأنهما رأيا فيهم نشاطًا يُمَكِّن الحكومة من الاعتماد
عليهم في أعمالها الداخلية، وقد لحظا أن المسلمين هم الشعب الوحيد المستنير بنور
المدنية، والذي يؤلف هيئة اجتماعية في تلك الأقطار المظلمة، وأنه يمكن
بواسطتهم إخضاع جميع القبائل العظيمة في داخلية البلاد.
وفي عهد هذين الرجلين تمهدت الطرق للإنكليز في جميع المقاطعات الواقعة
بين سيراليون وسوكوتو، وكان في إمكانهم إنشاء مراكز سياسية، ودورًا علمية
متصلة بعضها ببعض بين سيراليون وهوسالاندر ، ولكن ذلك أصبح مستحيلاً الآن
لدخول القوات الأجنبية ، ومدها نفوذها في تلك الجهات. ومع ذلك فإن الساسة
الإنكليز يرون أن انتشار التعليم بين المسلمين في سيراليون لا يخلو من التأثير فيما
بقي من الأراضي الواقعة وراء المستعمرة في قبضة الإنكليز. ولا شك في أن إقامة
مدرسة للمسلمين ينطبق تعليمها على معتقدهم تجذب إلى المستعمرة جميع أهل
وطنهم والمتدينين بدينهم في قلب القارة.
ولكن أهم ما حمل الحكومة على إنشاء مدارس إسلامية أساسية في سيراليون
هو أن هذه المستعمرة التي هي المستعمرة الإنكليزية الوحيدة على الشاطئ، والتي
يتكلم باللغة الإنكليزية في جميع أنحائها يجب أن تكون قاعدة لمدرسة جامعة يعلم
فيها الشبان المسلمون العلوم العالية من علوم الإنكليز والغرب، وقد أشار الحاكم
ناتان إلى شيء من هذا القبيل في خطابه الذي ألقاه في 7 أغسطس 1899؛
إذ افتتح المدرسة الإسلامية في مدينة فوله قال:
إني أعتقد أن فتح هذه المدرسة سيكون فجر يوم باسم في التعليم الإسلامي ،
وأنه لا يمضي بضع سنين حتى يكون في سيراليون مدرسة جامعة تنبعث منها
الحكمة والمعرفة، وتنبسطان فوق جميع أرجاء غربي أفريقيا.
وهذا القول الذي فاه به الحاكم المذكور في ذاك الحين قد رددت صداه السياسة
الإنكليزية في الوقت الحاضر، وذلك بالنظر إلى ما تراه من التبعة الملقاة عليها
إزاء العدد العديد من الشعب الإسلامي الذي يقطن غربي أفريقيا وقلبها.
وقد انتبه الرأي العام الإنكليزي إلى أهمية تعليم مسلمي أفريقيا العلوم الغربية
على أثر قيام اللورد كتشنر ومناداته بطلب المال لتأسيس مدرسة جامعة في
الخرطوم لتعليم النشء الإسلامي.
وقد قال اللورد كتشنر في مخاطبته الشعب الإنكليزي: (إن علينا تبعة كبيرة
ملقاة على عواتقنا؛ فإن على الفاتح أن يهذب ويمدن. والعمل الذي قامت العقبات
في سبيله بعد موت غوردون يجب أن يجدد الآن؛ ولذلك أقترح أن تؤسس في
الخرطوم مدرسة جامعة بمال الإنكليز تنسب إلى اسم غوردون لإحياء ذكره، ولتدل
على أننا لا نزال نذكر هذا الرجل العظيم، ولنحقق أمانيه التي كان يسعى إلى
الحصول عليها، ولا يلزمني أن أضيف إلى قولي هذا أنه لا يجب أن نتداخل بعملنا
هذا في دين القوم، والمدرسة التي اقترحت إنشاءها ستوضع لها خطة تعليمية بحتة،
ولا يجب أن يدخل عليها شيء من الدروس الدينية. وسنجلب إليها التلامذة من
مسلمي السودان، وإني واثق بأن اتخاذ المدرسة للتعاليم الدينية يذهب بالفائدة
المطلوبة منها) .
وقد اقترح اللورد كتشنر هذا الاقتراح بعد ستة أشهر من إلقاء الماجور ناتان
لخطابه عند افتتاح مدرسة فوله.
فغربي أفريقيا في حاجة الآن إلى مدرسة جامعة كالمدرسة التي أسسها اللورد
كتشنر. فالحكومة الإنكليزية أنشأت خمس كليات في الهند على طراز كلية لندره.
وهذه الكليات أنشئت في كلكوتا ومِدْرَاس وبومباي والله أباد وبنجاب. ومن
الأسف أن يقال: إنه رغم التسهيلات الكبيرة التي أوجدت للتعليم في تلك الجهات
مدة جيلين على الأقل لم يكن للتلامذة حتى الذين حازوا قصب السبق منهم أدنى إلمام
بالحياة العملية، والحالة هناك سائرة من سيئة إلى سوءى.
والوطنيون الأذكياء قد شعروا بهذه الحالة السيئة منذ سنين عديدة. وجميع
حكام المستعمرة انتقدوا الخطة التي تسير عليها المدارس، والسير أرثور كنيدي
شعر بهذا الاحتلال بين عامي 1868 و1872. وفي عام 1872 تقدم بعض زعماء
الوطنيين بقيادة المرحوم المستر ويليام غرانت من السير جون بوب هنيسي الذي
كان حاكمًا على المستعمرة يومئذ، ورفعوا إليه عريضة يطلبون فيها من الحكومة
إنشاء كلية لغربي أفريقيا في سيراليون، فأعجب الحاكم بشعورهم هذا، ووافق
على مشروعهم، وأبدى آراء عديدة بهذا الشأن أدرجت في ذاك الحين في جريدة
(النيجرو) ، ولم يفكر في إنشاء كلية للأشراف وذوي الثروة، بل كان من رأيه
تأسيس كلية جامعة في غربي أفريقيا غير مختصة بأولاد الرؤساء وذوي اليسار،
بل يدخلها أيضًا أبناء الفقراء الذين فيهم قابلية للعلم ليتغذوا بلبان العلوم أسوة بأبناء
الكبار، كما كانت الحالة في كليات أيرلندا وفي كليات أوربا. وقد كتب الحاكم بهذا
الشأن إلى اللورد كمبرلي الذي كان وزير المستعمرات في ذاك الحين؛ ولم يعارض
الوزير في هذا الأمر، ولكن الحاكم كنيسي الذي كان مصممًا على إنفاذ هذا
المشروع غادر المستعمرة في أثناء المناقشات التي كانت جارية بهذا الصدد فأهمل
المشروع يومئذ ، ولكن تأثير هذه المناقشات ظل سائرًا، وقد لوحظ أن إلحاق
مدرسة خليج فوره العليا بكلية درهام كانت نتيجة ذلك المشروع.
ولا يوجد بلاد في العالم أحوج إلى التعليم من هذه البلاد؛ لأن عليه وحده
يتوقف الإصلاح. فالآراء التي تحكم العالم في هذه الأيام تتشعب جذورها ببطء،
ولكن تشعب الجذور في هذه البلاد أبطأ منه في غيرها، فالرجل الذي يُرجى منه
أن يكون معلمًا أو مُصْلِحًا في هذه البلاد يجب أن يعامل بمنتهى الصبر والأناة.
ولكن النتيجة لابد أن تكون مرضية، ولو بعد حين، ولذلك لا يجب أن يهمل
أي مشروع يكون من ورائه النجاح عاجلاً أو آجلاً. ففي الختام نزف التهاني إلى
السير تشارلس كنج هارمان حاكم المستعمرة الذي قام بهذا المشروع العظيم، ولا
شك أن مسلمي تلك البلاد يقدرون أعماله حق قدرها. اهـ وكتبت المجلة في هذا
العدد أيضا ما يأتي:
***
افتتاح مدرسة إسلامية
جديدة أميرية في سيراليون
بعد ظهر الاثنين في 14 مارس احتفل حاكم مستعمرة سيراليون السير
تشارلس كنج هرمان بافتتاح مدرسة إسلامية أميرية بحضور جم غفير، وقبل
الموعد المحدد اجتمع عدد كبير من المسلمين وغيرهم في الشوارع منتظرين قدوم
الحاكم وأتباعه، وعند قدومه أحاط به القوم تتقدمهم (البالانجاي) وهي موسيقى
وطنية فأخذ بعض مشاهير العازفين يعزفون عليها، وانتخب اثنتان من نساء
(البللي) لتنشدا مديح الحاكم، واللاِّدي كنج هارمان اتباعًا لعادة بعض قبائل البلاد
الداخلية، وهي أنه عند إقبال أحد الرجال العِظَام عليهم يَأْتُون ببعض النساء
المغنيات ليعدوا مآثره بالنشيد. وقد أحدثت هاتان المغنيتان تهييجًا بعبارات الإطراء
التي فاهتا بها. ولما دخل الحاكم غرفة المدرسة التي كانت الطريق المؤدية إليها
مزدانة بالأعلام وبأغصان النخل، نهض الأولاد وأنشدوا نشيد الملك، ثم مشى
الحاكم وجماعته وصعدوا إلى فسحة مرتفعة حيث كانت الكراسي معدة للزائرين.
وقد كانت غرفة المدرسة قبلاً قذرة وغير منتظمة، ولكنها أُصْلِحت الآن،
وأصبحت آية في النظام والرونق.
وقد أنشئت هذه المدرسة بناءً على مشروع جديد أُريد به ضم مدرستي
ماندينفو وفوله وجعلها مدرسة واحدة، وانتخب لها ناظر مدرب، ومعلمون ذوو
كفاءة. وقد كان تحاسد القبيلتين حائلاً دون هذا الضم والوحدة في العمل، ولكن ما
أُلقي على زعمائهما من الوعظ والإرشاد جعلهم يقدرون الاتحاد والتعاضد حق قدره
فنبذوا التباغض والتحاسد وراء ظهورهم، وتوافقوا على المنفعة العامة لأولادهم.
وبعد استقبال الحاكم بدأ الإمام عبد العزيز بالدعاء ، ثم رتل التلامذة ترنيمة
إسلامية باللغة العربية، ثم تلا الألفا إسكندر تقرير مدرسة الماندينغو، وعقبه الألفا
الحسين بتقرير المدرسة الإسلامية، وقدم التقريران إلى الحاكم، ثم قام الحاكم
لإبداء ملاحظاته ، فقوبل بأصوات الابتهاج. وبدأ أولاً بشكر الجمع الحاضر من
مسلمين ومسيحيين على حسن استقبالهم له وللاِّدي كنج هارمان، وأبدى لهم عظيم
ارتياحهما إلى المهمة التي أتيا من أجلها، وهي ضم المدرستين، وجعلهما مدرسة
واحدة. وقال: إن مدرسة الماندينغو أسسها الحاكم ناتان في عهد توليته إدارة
المستعمرة، وأراد بتأسيسها تعليم أولاد القبائل الداخلية اللغتين العربية والإنكليزية،
وقال: إنه لما زار المدرسة في أبريل العام الماضي وجد فيها ما لا يسر الخاطر،
فبدلاً من أن تكون مدرسة إسلامية وجدها مدرسة مسيحية خلافًا لما كانت تنويه
الحكومة من إنشائها. فرأى إذ ذاك أن يسحب من متولي المدرسة رخصة الحكومة؛
لأنهم لم يسيروا بموجبها، وسرَّ بأن عمله هذا أدى إلى نتيجة حسنة. وقد عاش
بينهم مدة طويلة، وعرف الطرق التي تعود عليهم بالمنفعة من وراء التعليم ، فبينما
كانت الحكومة راغبة في تعليمهم ما ينطبق على دينهم كانت أيضًا راغبة في
تعليمهم اللغة الإنكليزية التي تساعدهم على العمل والارتزاق. وإنه ليدهش حين
يرى قسمًا منهم يعارض في تعليم اللغة الإنكليزية ، فلا يبرحن أذهانهم أنهم مع
كونهم مسلمين فهم أيضًا رعايا الحكومة الإنكليزية، وتعلم اللغة الانكليزية يوصلهم
إلى معرفة ما هو جار من الأعمال العظيمة في العالم، وليس في نية الحكومة أن
تبدل جنسيتهم فتجعلهم إنكليزًا، بل تريد أن يبقوا أفريقيين، ولكن تعلم اللغة
الإنكليزية يساعدهم على حياتهم القومية، وعلى أعمالهم.
ثم أبدى أسفه لوفاة ناظر المدرسة الأول سانا جاوارا فقد كان رجلاً طيب
القلب، وصديقًا له، ولكنه سُرَّ بعد وفاته أن رأى الوسائل متخذة لإصلاح حالة
التعليم في المدرستين، وأنهم عولوا على إزالة النفور من بينهم ، وعلى العمل يدًا
واحدة لمنفعة أولادهم. فلا يتمكن شعب من الشعوب من السعي في خير وطنه إلا
بتكاتف أعضائه، والمباراة تعود بالربح في بعض الأحيان، ولكنها إذا أفضت إلى
سفك الدماء؛ فلا تكون عاقبتها إلا الخراب والدمار. وإنه ليسر بأن يراهم الآن
متعاضدين، ويشتغلون يدًا واحدة للنفع العام.
وفي الختام حرضهم الحاكم على التمسك بالطرق المعدة لهم الآن، واتخاذها
وسيلة لإصلاح حالهم، وقال إنه واثق بأن كل فرد منهم يسعى في جعل المدرسة
مركزًا للنور تنبعث منه الأشعة إلى القبائل التي يتألف منها الشعب، ثم أعلن الحاكم
فتح المدرسة.
وبعد ذلك أديرت المرطبات، ثم أخذ التلامذة ينشدون الأناشيد ، وانصرف
الجمع في الساعة الخامسة ونصف، وصحبت الموسيقى والمغنيتان الحاكم وقرينته
إلى دار الحكومة.
وقد كان في جملة الذين جلسوا مع الحاكم الإمام جامبوريا والألفا دارامي،
وعبد العزيز، والمستر باكارد، والمس باكارد، والمستر جونسون، وقرينته،
والمستر توماس، ورئيس الشمامسة ماكولي والمستر كومبر مدير عموم سكة حديد
سيراليون، والمستر ماي. وقام بإعداد معدات هذه الحفلة الدكتور بليدن مدير
المدارس الإسلامية. اهـ
(المنار)
إننا نوهنا في مجلد المنار الرابع (ص 707) بافتتاح مدرسة فوله في
سيراليون، وقلنا في فاتحة الكلام: (إنه لا توجد بلاد إسلامية أعطي أهلها من
حرية التعليم ما أعطي البلاد التي استعمرها الإنكليز. فعلى مسلمي تلك البلاد أن
يهتموا بالتعليم بالعربية، والإنكليزية، وأن يتركوا التنازع المبيد. ولنا عودة
لنصحهم إن شاء الله تعالى.
***
المنار
وجاء في العدد 30 من مجلة سيراليون أيضًا تحت هذا العنوان ما تعريبه:
هذا اسم مجلة عربية تطبع في القاهرة. وقد ورد علينا عدد فبراير منها، وفيه
مقالة ضافية الذيول عن مسلمي سيراليون يتضمن إلماعًا إلى بدء نشر التعليم
الإنكليزي بينهم. وفي هذه المقالة أيضًا إشارة إلى كتاب الدكتور بليدن عن
النصرانية والإسلام، والجنس الأسود مع إبداء الأسف والتصريح بأن هذا العمل لم
يعد معروفًا عند مسلمي الشرق.
وقد علمنا أن كاتب هذه المقالة هو مسلم شرقي متوطن في فريتون، وعلمنا
أيضًا أنه كان حاضر افتتاح المدرسة الإسلامية الجديدة في يوم الاثنين 14 مارس،
ولابد أن ينشر بعض مقالات أخرى في المجلة المذكورة.
وقد ذكرت المنار وصول هارون الرشيد إلى القاهرة منذ بضعة أشهر، وهو
شاب مسلم من مدينة فوله في هذه البلاد.
وقد تمكن الشاب المذكور من دخول الأزهر بمساعدة صاحب المجلة، وهذا
الجامع لا يزال يجذب إليه الطلبة من جميع أقطار العالم الإسلامي، وحبذا لو أمكننا
الحصول على معلمين من ذاك الجامع الشهير ليقوموا بتعليم تلامذتنا التعاليم
الإسلامية. اهـ
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
النساء المسلمات في الهند
قد سبقت الهند مصر وغيرها من بلاد المسلمين في المدنية الحديثة حتى صار
النساء فيها يخطبن في الأندية العامة على الملأ من الرجال والنساء. وقد تُلي في
مؤتمر التربية الإسلامية في هذا العام خطاب كتبته عَقيلة من فضليات نساء
المسلمين، وتلته عقيلة أخرى بالنيابة عنها لغيبتها.
أما الكاتبة فهي صبيحة زوج المير سلطان محيي الدين صاحب النائب
السياسي في مِدْرَاس، وأما التي خطبت به فهي فاضلة تسمى كابراجي. والخطاب
متضمن لتذكير الرجال بما منح الإسلام للنساء من الحقوق، وما حث عليه من
تعليمهن وتربيتهن، وشكر أعضاء المؤتمر على (تجديد السنة الإسلامية) بقبول
دخول النساء فيه ، واشتراكهن مع الرجال في البحث والائتمار بوسائل ترقي
المسلمين، وقالت عن هذه المزية: إنها كادت تجدد عندنا الإسلام لأول ظهوره،
وما أعطيت المرأة فيه من الحرية التامة فلا يعزب عن أذهانكم هدي هذا الدين
ووصاياه ، بل مثلوا عظمته وارتفاع شأنه وسعة ممالكه في أذهانكم وأحيوا أحكامه،
وانصروا برهانه فقد أمسى لهذا العهد على عظمته وقوته كالأسد المحتضر. ثم
اقترحت أن ينشئ المؤتمر معرضًا في وسط البلاد تعرض فيه مصنوعات أيدي
النساء ترغيبًا لهن في الصناعة، وتبرعت لذلك بخمسين روبية على أن تكون
فاتحة اكتتاب للعمل إذا أمكن ، وإلا فهي للمؤتمر.
***
رأي فاضلة هندية
في العرب والعربية
وخطبت في احتفال المؤتمر فاضلة تسمى (نفديدا) خطبة ضافية عن حال
الإسلام والمسلمين، ومن الأفكار العالية التي تكلمت فيها توسيع الإسلام دائرة
الوفاق والتأليف بين البشر بإلغاء الجنسية النسبية والوطنية، وجعل المؤمنين إخوانًا
حيث كانوا، وأين حلوا.
وأطنبت في الكلام عن العرب وما قاموا به من خدمة العلم والمدنية،
وإحيائهما بعد موتهما، وقالت ما معناه: إن الهند التي عاشت بالعلم بعد الدخول في
الإسلام إنما حُييت بإرشاد العرب، بل بامتزاج دم العرب بدم الهنود، حتى قالت:
إن الدم العربي لا يزال يجري حارًّا في عروقنا، وهو الذي يحركنا إلى الترقي
الآن، ووصفت الإسلام بأنه دين الفطرة والاستقلال والعلم وأنه يمشي معه الترقي
حيث مشى. وقالت: إن العلة في قلة انتشاره في الهند هو جهل الهنود باللغة
العربية فإنها أقل في الهند انتشارًا منها في سائر البلاد الإسلامية. قالت: ومن
البعيد أن نرجو تقدمًا في ديننا مع عدم التمكن من لغته، ولنا الرجاء في الوصول
إلى مقصدنا قريبًا بمساعدة المسلمين من أهل البلاد العربية بالرأي والعمل خدمة
للإسلام.
فلله در هذه الفاضلة! ! التي يقل نظيرها في علمائنا المدرسين في مصر
والهند، وقد سبق لنا من بيان فوائد ما دار عليه خطابها المفيد ما يمنع من العود إليه
الآن. أكثر الله من أمثالها في رجالنا ونسائنا فإننا لا نحيا إلا بأمثال الذين على هذا
المثال.
***
الجمعية الخيرية الإسلامية
دعا رئيس هذه الجمعية جميع المشتركين فيها للاجتماع في 29 المحرم
الماضي لعرض أعمال مجلس الإدارة عليهم وإطلاعهم على مشروع أعمال سنة
1322هـ وميزانيتها، وانتخاب خمسة أعضاء لمجلس الإدارة؛ فلبى الطلب بعض
واعتذر بعض، وتخلف الأكثرون. وقد بَيَّن الرئيس فائدة الحضور، ومضرة
التخلف، ومنه أن إشراف الجمهور على أعمال البعض يَحمِل على الإتقان
والنشاط ، ويُعوِّد الناس على الأعمال المشتركة والتعاون ، وبه قوام الأمم. ومن
مشروعات الجمعية الجديدة إنشاء مدرسة في المحلة الكبرى، وسنتكلم عليها في
الجزء القادم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتاب تنوير الأفهام
كلمة ثانية في هدم الكتاب
ذكرنا في الجزء الثالث كلمة هادمة لذلك الكتاب الذي زعم أنه بيَّن مصادر
الإسلام وليس للإسلام إلا مصدر واحد وهو الوحي، وذكرنا هنالك أننا لم نقرأ من
الكتاب إلا جملة قليلة. ثم إننا عدنا إليه؛ فألفيناه يبتدىء الكلام في الإسلام ابتداء
مَن يتوهم أنه عرفه، وأنه يتكلم في قواعده وأصوله، ولكن لم نلبث أن رأينا فيه
من الجهل والافتئات على الإسلام ما أثبت لنا أن واضعه كغيره من الطاعنين لم
يكتب ما يرى ويعتقد ، ولم يعتقد ما عرفه وعَلِمَه، بل خبَّط خبط عشواء فظلم
نفسه، وأتعب عقله وحسه، وكان بعد ذلك من الخاسرين.
انظر تعلم أننا نَصفه لا نَشْتُمه - ذكر أن أساس الدين القرآن والسنة أو
الحديث كما قال ، وذكر أن الحديث مُبَيِّن للقرآن فإن خالفه لا يقبل؛ لأن القرآن هو
الأصل، وذكر أن كُتب الحديث المعتمدة عند أهل السنة ستة، وعَدَّ منها المُوطأ
وأهمل سُنن النَّسائي، ولا بأس بذلك، وذكر الكتب المعتمدة عند الشيعة كذلك، ثم
بَنَى طَعْنَه في القرآن على ما فسره به من الحديث بزعمه ، وههنا الخلط والاختراع
وسُوء القَصْد كما ترى فيما نورد عنه من الشواهد.
أول مثال أورده لبيان القرآن بالسنة آية {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} (الإسراء:
1) فزعم أن حديث المعراج مُبَيِّن لها فأَوْهَمَ القارئين أن ما ورد من عروج النبي
صلى الله عليه وسلم إلى السماء - بروحه فقط كما عليه قوم من المسلمين أو بروحه
وجسده كما عليه آخرون - مُفَسِّر ومُبَيِّن لآية من القرآن، مع أن المسلمين مجمعون
على أن المعراج مأخوذ من الحديث لا من القرآن، ولذلك لا يقولون بكفر منكره،
بل نقلوا أن من الصحابة من أنكره بالمرة حتى السيدة عائشة زوج النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم -.
وأردف هذا المثال بآخر فقال: (وكذلك لولا الحديث لما فهم أحد معنى: (ق)
وهو اسم إحدى سور القرآن؛ فالأحاديث هي التي أوضحت أن المراد بالحرف (ق)
اسم جبل قاف؛ ولهذا عزمنا بحوله تعالى طلبًا للاختصار أن لا نورد في هذا
الكتاب شيئًا مختصًّا بمصادر الإسلام من عقيدة إسلامية، أو تعليم إلا ما كان له
أصل وأساس في القرآن ذاته، ويكون ورد له تفسير وشرح في الأحاديث المشهورة
المتواترة بين كل المسلمين سواء كانوا من أهل السنة أو الشيعة.
انظر إلى ما اشترطه على نفسه في الاعتماد على الأحاديث المُبَيِّنَة والمُفَسِّرَة
للقرآن؛ اشترط أن تكون الأحاديث مشهورة متواترة بين كل المسلمين، مع أن
تفسير حرف (ق) بأنه اسم جبل لم يرد في حديث مرفوع لا متواتر، ولا مشهور
ولا آحادي صحيح، ولا ضعيف، ولم يذكر في كتاب من الكتب الستة التي ذكر أن
أهل السنة وهم القسم الأكبر من المسلمين يعتمدون عليها. فكيف يوثق بكلام مؤلف
ويصدق بأنه التزم ما اشترطه على نفسه في هذا الكتاب.
نعم، إن في كتب التفسير التي لا يكاد يخلو واحد منها من سرد الأقوال
الإسرائيلية أثرًا في ذكر جبل قاف، وقد قال القرافي - من محققي الأمة -: إنه لا
يعول عليه، ولا يصح، وإن هذا الجبل لا يوجد، ولا يهمنا أن بعض عشاق
الروايات الكثيرة سلَّم به، وإنما نقول: إنه شيء لم يصح في الكتاب، ولا في السنة،
ولم يوجد في الكتب المعتمدة الذي ذكرها، ولا في غيرها مرفوعًا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إن للإسرائيليات منبعًا آخر في غير كتب التفسير - هو أغزر مادة أو أكثر
رواية -: وهو كُتب القَصص الخُرافية التي أسندت إلى مؤلفين لا شأن لهم ككتاب
(عرائس المجالس) وغيره في قَصص الأنبياء، و (خريدة العجائب) ، وأمثالها،
وهي كتب طافحة بالمَوْضُوعات والأكاذيب، كما نَبَّه على ذلك حُفَّاظُ الحديث،
حتى كان الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - يقول: (لا يصح في التفسير
شيء) ، وعلى أمثال هذه الكتب يَعْتَمِدُ صاحب كتاب (تنوير الأفهام في تفسير
القرآن) ، وبيانه مع ما علمت من شَرْطه الخادع. ومن ذلك ما أورده في الصفحة
(42)
وما بعدها من قصة إبراهيم عليه السلام أخذها من (عرائس المجالس)
ينبوع الكذب، واستدل منها على أن القرآن يستمد أحكامه وأخباره من كتب
اليهود، ثم اعترف بأن ما في القرآن، وعرائس المجالس غير مطابق لما في كتبهم،
وسببه بزعمه أن محمدًا أخذها عن اليهود مشافهة، ولم يرها في كتبهم! ! على
أن موافقة القرآن نفسه أو الحديث الصحيح لبعض ما في كتب اليهود دون بعض لا
يدل على أنه أخذ عنهم، وإنما يدل على أن الله تعالى بيَّن له حق كلامهم من باطله،
وصدقه من كذبه، فإن كتبهم كأقوالهم لا يعتمد عليها كلها لظهور الكذب والتناقض
فيها إلى اليوم، ولظهور تلفيقها واقتباسها من الأمم الأخرى كما بيَّنَّا ذلك مرارًا فهي
ككتب القصص عندنا فيها شيء من القرآن والسنة، ولكنه ممزوج بالأكاذيب
والآراء المقتبسة من الأمم. ولا شيء يعول عليه في صحة بعض أقوال كتب
اليهود دون بعض، بعدما طرأ عليها من الضياع والتحريف والخلط إلا الوحي،
وقد ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالدلائل الساطعة، والآثار النافعة، وهم
يقولون: إن المسيح فَرَّقَ بين الأنبياء الصادقين، والأنبياء الكذبة بآثارهم وثمارهم،
فوجب الاعتماد على ما جاء به هذا النبي الكريم دون غيره. والبحث بأنه سمع
أو اطلع من الهذيان. وأَنَّى يعول النبي الذي لا ينكر الكافرون رجحان عقله على
قول أولئك اليهود الذين شرح للناس مكرهم وكذبهم ، وتلطَّف في شأن ما يَعْزُونه
إلى الوحي، فأمر أصحابه بأن لا يصدِّقوهم فيه ولا يكذِّبوهم!!
كذلك تراه قد اعتمد على (عرائس المجالس) في قصة سليمان مع ملكة سبأ
(كما في ص 61) ، وفي قصة (هاروت وماروت)(كما في ص64) وقد مرَّ
تفسير القصة في المجلد السادس من المنار بما يكذب القَصاصين، كصاحب
(عرائس المجالس) وغيره ومَنْ على رأيهم من المفسرين (راجع ص 443 من
المجلد المذكور) ، وفي (سبع دركات الأرض)(كما في ص 85) واعتمد على
كتاب (قَصص الأنبياء) في وصف اللوح المحفوظ بناء على أنه تفسير لقوله
تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (البروج: 21-22) ذكر ذلك
في (ص 93) وعبر عنه بمعلومات المسلمين التي استفادوها من أحاديثهم. ثم
رَجَّحَ في الصفحة الـ 99 أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتبس هذه الكلمة من
اليهود حين سمعهم يقولون: إن الوصايا التي أعطاها الله لموسى كتبت في لوحين.
كأنه يرى أن محمدًا - عليه أفضل الصلاة والسلام - ما كان يعرف هذا اللفظ (لوح
محفوظ) لولا أنه سمعه من اليهود، وإن كان اللفظ عربيًّا، والسورة التي ورد فيها
مكية أنزلت قبل أن يعرف النبي أحدًا من اليهود؛ إذ كانوا في المدينة لا في مكة.
ثم رَجَّحَ بناءً على تحكمه هذا أن المسلمين لم يفهموا معنى قوله (لوح محفوظ)
فكذَّبُوا له تلك الكذبة المذكورة في قَصص الأنبياء! !
وليت شعري! كيف لم يفهموا هذه الكلمة وهي من لسانهم، والكتابة في
الألواح معهودة عندهم؟ وكيف اختص النبي بالسماع من اليهود دونهم؟ مع أنه كان
يراهم ويحاجهم إذ يدعوهم إلى الإسلام والمسلمون حاضرون، ولم يُعْرَفْ أنه كان
يخلو بهم! ! نعم إن ما ذكره صاحب قصص الأنبياء يجوز أن يكون بسوء فَهْم،
وأن يكون بسوء قَصْد، ثم عاد إلى تفصيل القول في تفسير (ق) بجبل قاف ناقلاً
عن (عرائس المجالس) ، وقصص الأنبياء، وذكر موافقة ما فيهما لما قاله أحد
اليهود في كتابٍ لهم اسمه (حكيكاه) .
ويا ليت مؤلف الكتاب كان سأل أحد علماء المسلمين عن كتاب (عرائس
المجالس) ، وكتاب (قصص الأنبياء) قبل أن يطالعهما، ويستخرج منهما تفسير
القرآن: هل هذان الكتابان معتمدان عندكم في التفسير وغيره؟ وهل تعدُّ روايتهما
صادقة؟ إذن لأجابه بما كان يكفيه مؤنة التعب والعناء بمطالعة تلك الخُرافات
والأكاذيب، وتلخيص الأخبار منها. إننا نشفق عليه من مطالعة كتب يحرم
المسلمون قراءتها لما فيها من الكذب والكفر؛ إذا كان قد طالعها ظانًّا أنها معتمدة
يحتج بها، ولكن الراجح أنه يعلم أنها كتب خرافية، بدليل أنه ذكر كتب الحديث
المعتبرة عند المسلمين وإن كانوا لا يحتجون بجميع ما فيها، ولكنه مع وعده بأنْ
سينقل منها المشهور والمتواتر؛ لم ينقل منها حتى ما لم يشتهر ولم يتواتر. لماذا؟
لأنه يريد أن يشكك عوامّ المسلمين في دينهم بإيهامهم أنه يعرف كتبهم المعتمدة،
وينقل عنها وينتقدها، وعند ذلك يتسنى له أو لغيره من شيعته أن ينصر بعض
هؤلاء العوام الجهال بعد تشكيكهم مرغبًا لهم بمنفعة دنيوية، كما عهد من المبشرين
في دعوة المسلمين. ولم يعلم المسكين أن من عرف من الإسلام شيئًا يصعب أن
يهين نفسه بالنصرانية ويعبد البشر (المسيح) من دون الله ويقول: إن الله مولود
من أنثى.
إن كتاب (عرائس المجالس) و (قصص الأنبياء) على شحنهما بما يخالف
عقائد الإسلام وأخباره وأحكامه هما أمثل من كتب النصرانية ، ولا يرضى لنفسه من
لم يعرف من الدين والعلم شيئًا غير خرافاتهما أن يستبدل بها عقيدة النصارى الوحيدة
التي هي مناط الخلاص عندهم، وهي أن الإله عجز عن التوفيق بين صفتَيْه
المتناقضتين من الأزل وهما العدل والرحمة فلم يهتد وسيلة لذلك إلا منذ 1904؛ إذ
رأى أن يحل في بطن امرأة ويولد منها فيكون إنسانًا ، ثم يصلب كارهًا راضيًا
ويجعل نفسه ملعونًا لأجل أن يخلِّص الناس؛ بحملهم على تصديق هذه القصة التي لا
تعقل ، ويجعل من يصدق بها من أهل الإباحة ، له الملكوت وإن كان أفسق
الفاسقين وأظلم الظالمين! ! ! هل يمكن لمَن له ذرة من العقل أن يفضل هذا
الاعتقاد الخرافي على خرافات عرائس المجالس وقصص الأنبياء؟ لا، لا، لا.
هذا نموذج من الشواهد التي زعم مؤلف الكتاب أن القرآن أخذها من كتب
اليهود بناءً على تفسير الأحاديث المتواترة المشهورة في كتب المسلمين على زعمه
وما هي إلا في كتب الخرافات كما علمت.
وقد ذكرنا لك في الجزء الثالث شاهدًا مما طعن فيه بالقرآن من حيث اقتباسه
من العرب، ونذكر لك الآن شاهدًا آخر على سبيل الفُكاهة لتعرف مبلغ علم هذا
المؤلف بالعربية وأساليبها، كما عرفت مبلغ علمه بالأحاديث المتواترة، وهي
عند المسلمين ما رواه جَمْع عظيم في كل زمن من عهد النبي صلى الله عليه وسلم
إلى الآن، وما أورده لم يروه جمع ولا واحد.
جاء في الصفحة الرابعة والعشرين وما بعدها عقيب الكلام في التوحيد الذي
مَرَّ الشاهد فيه، وفي الختان - الذي لم يذكر في القرآن - ما نصه:
(قال المعترضون: وبصرف النظر عن كل هذا؛ فإن بعض آيات القرآن
مقتبسة من القصائد التي كانت منتشرة ومتداولة بين قريش قبل بعثة محمد،
وأوردوا بعض قصائد منسوبة إلى امرىء القيس مطبوعة في الكتب باسمه لتأييد
قولهم هذا. ولا شك أنه ورد في هذه القصائد بعض أبيات تشبه بل هي عين آيات
القرآن على حد سواء، أو تختلف عنها في لفظة أو لفظتين، ولكنها لا تختلف عنها
في المعنى مطلقًا. وهاك الأبيات التي يوردها المعترضون وقد أشرنا على العبارات
التي اقتبسها القرآن بوضع علامة تحتها كهذه ـ:
دنت الساعة وانشق القمر
…
عن غزال صاد قلبي ونفر
أحور قد حرت في أوصافه
…
ناعس الطرف بعينيه حور
مر يوم العيد في زينته
…
فرماني فتعاطى فعقر
بسهام من لحاظ فاتك
…
فتركني كهشيم المحتظر
وإذا ما غاب عني ساعة
…
كانت الساعة أدهى وأمر
كتب الحسن على وجنته
…
بسحيق المسك سطرًا مختصر
عادة الأقمار تسري في الدجى
…
فرأيت الليل يسري بالقمر
بالضحى والليل من طرته
…
فرقه ذا النور كم شيء زهر
قلت إذ شق العذار خده
…
دنت الساعة وانشق القمر
وله أيضًا:
أقبل والعشاق من خلفه
…
كأنهم من حدب ينسلون
وجاء يوم العيد في زينته
…
لمثل ذا فليعمل العاملون
لولا أن في القراء بعض العوامّ؛ لما كنت في حاجة إلى التنبيه على أن هذه
القصيدة يستحيل أن تكون لعربي، بل يجب أن تكون لتلميذ أو مبتدئ ضعيف في
اللغة من أهل الحضر المخنثين عشاق الغِلمان، فهي في ركاكة أسلوبها وعبارتها
وضعف عربيّتها، وموضوعها بريئة من شعر العرب لا سيما الجاهليين منهم،
فكيف يصح أن تكون لحامل لوائهم، وأبلغ بلغائهم، هب أن امرأ القيس زير
النساء كان يتغزل بالغلمان - وافرضه جدلاً - ولكن هل يسهل عليك أن تقول: إن
أشعر شعراء العرب صاحب (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) يقول:
أحور قد حرت في أوصافه
…
ناعس الطرف بعينيه حور
وتضيق عليه اللغة فيكرر المعنى الواحد في البيت مرتين؛ فيقول: أحور
بعينيه حور. أتصدق أن عربيًّا يقول: انشق القمر عن غزال، وهو لغو من القول؟
وما معنى: دنت الساعة في البيت؟ وأي عيد كان عند الجاهلية يمر فيه الغلمان
متزينين؟ وهل يسمح لك ذوقك بأن تصدق أن امرأ القيس يقول: فرماني فتعاطى
فعقر، وأي شىء تعاطى بعد الرمي، والتعاطي: التناول ، ومعناه في الآية
{فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} (القمر: 29) أنه تناول رمحًا، أو خنجرًا،
فعقر الناقة به، والإبل تعقر في نحورها، والعُشَّاق إنما يرمون باللحاظ في قلوبهم،
فهل يقول العربي - بعد ما قال: إن محبوبه رماه -: إنه تعاطى بعد ذلك فعقر؟
وهل يقول امرؤ القيس: لحاظ فاتك؟ فيصف الجمع بالمفرد. وهل يشبه العربي
طلوع الشعر في الخد بالسُرى في الليل؟ مع أنه سير في ضياء كالنهار؟ وكيف
تفهم وتعرب قوله:
بالضحى والليل من طرته
…
فرقه ذا النور كم شيء زهر
وهل يقول عربي، أو مستعرب فصيح في حبيبه: إن العذار شق خده شقًّا؟ !
أما البيتان الآخران فهما أبعد عن ذوق العرب وعباراتهم، وأذكر أنني رأيت
من عزاهما إلى بعض المولِّدين، لا أدري هل هو ابن حُجَّة أو غيره على أنهما
اقتباس من القرآن. على أن في الإشارة إلى موضع الاقتباس هنا خطأ نحو الخطأ
في القصيدة ففي الآية {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} (الأنبياء: 96) .
وأنت ترى أن المعنى في البيت لا يستوي، فإن الحدب هو النَّشْز؛ أي:
المرتفع من الأرض ، والعشاق لم يكونوا يسرعون مقبلين من ذلك المحل الذي يشبهه
مثل هذا الشاعر بالحدب، وإنما يصح أن يكونوا مقبلين إليه! ! أما مخالفة
لفظ القرآن في البيت الثاني ففي استبدال ذا بهذا وانظر وزنه المجروح.
بعد هذه الإشارات الكافية في بيان أن الشعر ليس للعرب الجاهليين، ولا
للمخضرمين، وإنما هو من خنوثة وضعف المتأخرين، أسمح لك بأن تفرض أنه
لامرىء القيس إكرامًا واحترامًا للمؤلف، ولكن هل يمكن لأحد أن يكرمه ويحترمه
فيقول: إن الكلمات التي وضع لها العلامات هي عين آيات القرآن؟ أما البيتان فقد
رأيت ما فيهما، وأما ما في البيت الأول من القصيدة فهو دون جملة ولا يستقيم له
معنى. وليس في القرآن (فرماني فتعاطى فعقر) وقد ذكرنا لك الآية آنفًا. وقوله:
(تركني كهشيم المحتظر) مثله ، وإنما الآية الكريمة: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً
وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ} (القمر: 31) فالمعنى مختلف والنظم مختلف،
وليس في البيت إلا ذكر المشبه به، وهو فيه في غير محله؛ لأن تشبيه الشخص
الواحد بالهشيم يجمعه صاحب الحظيرة لغنمه لا معنى له، وإنما يحسن هذا التشبيه
لأمة فُنيت وبادت كما في الآية، ولعل في الأصل تركتني بدل (فتركني) وبها
يستقيم اللفظ والمعنى في الشطر. وليس في القرآن أيضًا: كانت الساعة أدهى
وأمر، وإنما فيه {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ
أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 45-46) ، فههنا وعيدان شرهما الساعة المنتظرة فصح
أن يقال: إنها أدهى وأمر، وليس في البيت شيء يأتي فيه التفضيل على بابه.
واعلم أن هذا الشعر من كلام المولدين المتأخرين هو أدنى ما نظموا في
الاقتباس، ولم ينسبه إلى امرىء القيس إلا أجهل الناس.
ثم إن المعنى مختلف، والنظم مختلف، فكيف يصح قول المؤلف: إن هذه
الكلمات من آيات القرآن، وإنها لا تختلف عنها في المعنى، ولو فرضنا أن هذه
الكلمات العربية استعملت في معنى سخيف في الشعر ليس فيه شائبة البلاغة، ثم
جاءت في القرآن العربي بمعان أخرى وأسلوب آخر، وكانت آيات في البلاغة كما
أنها في الشعر عِبرة في السخافة، فهل يصح لعاقل أن يقول: إن صاحب هذا
الكلام البليغ في موضوع الزجر والوعظ مأخوذ من ذلك الشعر الخنث في عشق
الغلمان، وأن المعنى واحد لا يختلف؟ فمن كان معتبرًا باستنباط هؤلاء الناس
وتهافتهم في الطعن والاعتراض على القرآن فليعتبر بهذا، ومن أراد أن يضحك من
النقد الفاضح لصاحبه الرافع لشأن خصمه فليضحك. ومن أراد أن يزن تعصب
هؤلاء النصارى بهذا الميزان فليزنه ، وإنه ليرجح بتعصب العالمين. ومن أراد أن
يقيس سائر ما قاله هذا المؤلف في الاستشهاد على كون القرآن مقتبسًا من كلام
العرب وعقائدهم بعد ما أعياهم أمره، وقلَّب طباعهم هديه، ومن كتب سائر الملل
في مشارق الأرض ومغاربها، وإن لم يسمع بها، بهذا الشاهد وبالشاهد الذي سبق،
فله أن يقيس فإن كل مزاعمه من هذا القبيل.
وإن لنا كلمة أوضح في الرد عليه نؤخرها لجزء آخر، وهي فصل الخطاب
إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
قصص القرآن
(س 17) الشيخ محمد نجيب بالمدرسة الشمسية بتونتار (روسيا) :
هل القَصص الواردة في القرآن أنزلت لأجل الاعتبار والاتعاظ؟ أم هي
وقائع تاريخية؟ أم على التبعيض؟ أرجو بيان هذه المسألة المهمة في أحد أعداد
المنار ولكم الأجر والمنة.
(ج) تقدم الإلماع في التفسير غير مرة إلى أن قصص القرآن لا يراد بها
سرد تاريخ الأمم أو الأشخاص وإنما هي عبرة للناس كما قال تعالى في سورة هود
بعد ما ذكر موجزًا من سيرة الأنبياء عليهم مع أقوامهم: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ
عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (يوسف: 111)
ولذلك لا تذكر الوقائع والحوادث بالترتيب، ولا تستقصى؛ فيذكر منها الطمّ
والرمّ، ويؤتى فيها بالذرة، وأذن الجرة كما في بعض الكتب التي تسميها الملل
الأخرى مقدَّسة. وللعبرة وجوه كثيرة، وفي تلك القصص فوائد عظيمة، أذكر أنني
كتبت منها نحو ثلاثين؛ إذ وجهت نفسي للبحث عن فوائد التكرار فيها ، وهذه
الوجوه تذكر مفصلة في مواضعها من التفسير الذي ننشره في المنار. وأفضل
الفوائد وأهم العبر فيها التنبيه على سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، وتأثير
أعمال الخير والشر في الحياة الإنسانية، وقد نبه الله تعالى على ذلك في مواضع
من كتابه كقوله: {ِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} (الحجر: 13)، وقوله: {سُنَّتَ
اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ} (غافر: 85) يذكر أمثال
هذا بعد بيان أحوال الأمم في غمط الحق والإعراض عنه والغرور بما أوتوا ونحو
ذلك، فالآية الأولى جاءت في سياق الكلام عن المعرضين عن الحق لا يلوون عليه،
ولا ينظرون في أدلته لانهماكهم في ترفهم وسرفهم وجمودهم على عاداتهم
وتقاليدهم. والآية الثانية جاءت في سياق مُحَاجَّة الكافرين والتذكير بما كان من
شأنهم مع الأنبياء، وبعد الأمر بالسير في الأرض والنظر في عاقبة الأمم القويّة
ذات القوة والآثار في الأرض، وكيف هلكوا بعدما دعوا إلى الحق والتهذيب، فلم
يستجيبوا لما صرفهم من الغرور ، وبما كانوا فيه، ولم ينفعهم إيمانهم عندما نزل
بهم بأس الله وحَلَّ بهم عذاب التفريط والاسترسال في الكفر وآثاره السوءى.
وليس المراد بنفي كون قصص القرآن تاريخًا أن التاريخ شيء باطل ضار
ينزه القرآن عنه. كلا ، إن قصصه شذور من التاريخ تُعَلِّم الناس كيف ينتفعون
بالتاريخ، فمثل ما في القرآن من التاريخ البشري كمثل ما فيه من التاريخ الطبيعي
من أحوال الحيوان والنبات والجماد، ومثل ما فيه من الكلام في الفلك - يراد بذلك
كله التوجيه إلى العبرة والاستدلال على قدرة الصانع وحكمته، لا تفصيل مسائل
العلوم الطبيعية والفلكية التي مكَّن الله البشر من الوقوف عليها بالبحث والنظر
والتجربة، وهداهم إلى ذلك بالفطرة وبالوحي معًا، ولذلك نقول: لو فرضنا أن
المسائل التاريخية والطبيعية المذكورة في الكتاب ليست مطابقة إلا لما يرى، أو
يعتقد الناس كلهم أو بعضهم في زمن التنزيل؛ لِمَا كان ذلك طعنًا فيه؛ لأن هذه
المسائل لم تقصد بذاتها، بل المراد منها توجيه النفوس لطريق الاستفادة بما أشرنا
إليه فتنبه.
* * *
المذاهب الاسلامية في الأصول وطريقة المنار
(س 18) أحمد أفندي صبحي بأشمون: إننا نود ، وغيرنا من إخوانكم
المسلمين يودّون من حضرتكم أن تدرجوا في المجلة طريقة كل مذهب من المذاهب
الأخرى مثل الشيعة والزيدية والوهَّابية والجبرية، وغيرهم لنطلع على ذلك،
ولنعرف ما عليه هذه المذاهب؛ فإن البعض من إخوانكم المسلمين يعتقدون أنهم
مسلمون، وعلى الكتاب الشريف، والبعض يقول غير ذلك.
(ج) كل هؤلاء الذين ذكرتم مسلمون، وأصل الدين عندهم كتاب الله تعالى
ويقرون بوحدانية الله، وبرسالة خاتم النبيين، وكون ما جاء به حقًّا ويقيمون
الصلاة، ويُؤْتون الزكاة، ويصومون رمضان، ويحجُّون البيت الحرام، ويصبرون
على ظلم الحكومة العثمانية فيه. ولكنهم يختلفون في تأويل بعض الآيات وبيان
المراد منها ، وفي رواية الحديث وسيرة السلف اختلافًا قريبًا أو بعيدًا من الحقِّ،
فللشيعة ومنهم الزيدية روايات غير معروفة، أو غير معتمدة عند أهل السنة،
وبذلك اختلفوا في مسائل كثيرة أغلبها في فروع الأحكام، ولهم أيضًا طرق في
الاستنباط يخالفون في بعضها طرق فقهاء المذاهب الأخرى، وأما الوهابية فليس لهم
كتب تعتمد في الحديث غير كتب أهل السنة، وهم أقرب إلى العمل بالسنة من
جميع المسلمين على غلوّ في بعضهم، وليس من موضوع المنار تفصيل مسائل
الخلاف، وإنما هو مجلة المسلمين عامة يخاطبهم ويعظهم بالأصل المتفق عليه عند
الجميع، وهو كتاب الله تعالى، والسنة العملية التي كان عليها السلف الصالح بلا
خلاف، ويدع لهم كل ما اختلفوا فيه حتى يفيئوا إلى أصل الوفاق إن شاء الله تعالى.
فالدين واحد، والكتاب واحد، والله يقول فيه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا
شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ويقول في قوم غير مرضيين عنده:
{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) ،
ولم يَسْلَم المسلمون مما جرى لمن قبلهم من الأمم باختلاف التأويل والروايات الآحادية
وأهواء الرؤساء والتعصب للمرشدين، ونرجو أن يعودوا بتربية الزمان القاسية إلى
الوفاق بالعود إلى الأصل المجمع عليه، وهو الكتاب والسنة العملية المتفق عليها،
ويعذر بعضهم بعضًا في الروايات القولية الآحادية ، مع البحث والمجادلة بالتي هي
أحسن حتى يفيء المخطئ إلى أمر الله الذي لا خلاف فيه.
هذه هي الطريقة المثلى في إرشاد المسلمين في رأينا، وقد أخطأها الوهابية
فحاولوا بغرارة البداوة، وقسوتها أن يرجعوا المسلمين عن البدع بالقوة القاهرة
فكانوا من الخائبين، وأساء الظن فيهم سائر المسلمين، ومن العجائب أن عند
المسلمين إحساسا عامًّا بأنه لا يصلح حالهم، ويعود مجد دينهم إلا بإبطال المذاهب
كلها، والرجوع إلى الأصل الأول، والإمام المبين، وهو القرآن إذ اتفق سنيهم
وشيعيهم على أن المصلح المسمى بالمهدي سيبطل المذاهب كلها؛ أي: أن الإصلاح
لا يكون إلا بذلك، ولكنهم جعلوا طريق ذلك غير معقول ، وهو شخص مخصوص
يظهر بالخوارق دون السنن كما تقدم في الجزء الماضي.
***
إثبات الولاية بالرؤى والأحلام
(س 19) أمين أفندي عبد الكريم بالزقازيق: ما هو رأي المنار فيما رواه
مُكاتب إحدى جرائد العاصمة (اللواء) بمركز ميت غمر تحت عنوان (ميت
يتكلم) وخلاصة روايته تنحصر في أنه رأى في منامه كأن شخصًا يخبره بأنه
مدفون في جزيرة بقريتهم، ويسأله تكليف العمدة بنقله لقبر آخر ، فقصّ الرجل
على العمدة رؤياه، وهذا قال له: من أين لنا معرفة محله؟ وفي الليلة التالية رأى
من أتاه أولاً في نومه، يقول له: أخبر عمدتكم أن اسمي (عمرو بن وهب)
وسأجعل لكم علامة على قبري فانقلوني ، فكان بعد ذلك أنهم وجدوا علامتين
عرفوا بهما محل القبر ففتحوه ووجدوا فيه ميتًا نظيف الثياب أسود اللحية؛ فنقلوه
إلى قبر في غير الجزيرة إلى آخر ما في رسالة المكاتب.
هذا ملخص تلك الرواية المدهشة التي نطلب من المنار الزاهر أنه يفيض
القول عليها من جهة مطابقتها للعلم، سواء كان شرعيًّا أو وضعيًّا، مع مراعاة
الجواب على تصور وضع العلامتين، وعدم طروء التحليل على هيكل ذلك الجسم،
ووجه الاتصال بين الروح والجسد، وسماع صوت من جانب الميت على ما
ورد في رسالة أخرى بتلك الجريدة جاءت تصديقًا للرواية الأولى، وذلك أن ناقلي
الميت عندما رأوا جثته ذعروا، وولوا مدبرين فسمعوا (أقبلوا أقبلوا فإن الجنة هي
المأوى) ومن هو (عمرو بن وهب) في سير السابقين إن صح في رأي حضرتكم
أن المسألة خوارق العادات، وتنطبق على الدين الحنيف من جهة إمكان وقوعها
ولكم الفضل.
(ج) أصابت الشمس جرة ماء فسخن جانبها الذي أصابته فجاء الفيلسوف
فحول الجرة، وجعل الجانب الساخن إلى جهة الأرض والجانب البارد إلى الشمس ،
ثم نادى تلامذته وسألهم يمتحنهم عن العلة في كون الجانب المقابل للشمس باردًا
والجانب الملاقي للأرض الباردة سخنًا؟ فطفقوا ينتحلون العلل، وهو يردها ويبيِّن
فسادها حتى اعترفوا بالعجز، وسألوه بيان العلّة الصحيحة، فقال لهم: إن الواجب
أن يتثبت في معرفة الشيء أولاً، ثم يبحث عن سببه، وعلّته، وما سألتكم عنه
غير حقيقي، وإنما قلبت الجرة لأختبر فطنتكم.
وهكذا نقول: أثبت لنا أن الأمر وقع حقيقة بلا حيلة، وسل بعد ذلك: هل
يصح أن نعتقد بأن الميت الذي رأوه أولاً في المنام، ثم كلمهم في اليقظة، هو من
الأولياء؟ وما هو تاريخه؟ أمثال هذه الحكايات تكثر في الأمم الجاهلة المستعبدة
للخرافات، ولقد روي أمثالها عن أهل أوربا في القرون المظلمة، حتى كان في
بعض بلاد فرنسا موضع يسمونه (الشهداء) كانت الأموات تظهر فيه جهارًا
لا سيما في الليل، ولماعقل الناس لم تعد تظهر! ! فمن الناس من يكذب في هذه
الحكايات المنقولة، ومنهم من يظهر غريبة من هذه الغرائب بالمواطأة مع أشخاص
آخرين لمنفعة ما، ومنهم من تعرض له شبهات في ذلك نعرف كثيرًا منها، وليس
هذا موضع شرحها، ولكننا سنذكر بعض الشواهد.
أما حكم الرُؤى والأَحْلام في الشرع فهو أنه لا يُبْنَى عليها حُكم، ولا يثبت بها
شيء من الأشياء، حتى صرّح العلماء بأن من يرى النبي - صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم - في الرؤيا ويتلقى منه أمرًا أو نهيًا لا يجوز له في اليقظة أن يعتمد
على ذلك؛ لعدم الثقة بضبطه لِمَا يرى وانتفاء اختلاط الأمر عليه فيه، ولأن الله
تعالى لم يتوف نبيه إليه إلا بعد أن أتم الدين على يديه، ولم تبق حاجة إلى بيان
آخر فيه (إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن) كما ورد، ولكن عوامَّ المسلمين
وجهالهم كجهال سائر الملل يرون أن الرؤى والأحلام من أَرْكان العلم والعِرْفَان،
لا سيما إذا كان موضوعها الخرافات والأوهام.
وأما القول ببقاء أجساد الأولياء بعد الموت فهو من القول بغير دليل مع تكذيب
الحسِّ لذلك، ومخالفته لسنة الله تعالى في تحليل الأجساد {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) وورد في الأنبياء حديث عند أحمد وغيره ، ولا يفيد
القطع فيعارض الحس والنصّ؛ لأنه من الآحاد، وورد ما يخالفه في يوسف - عليه
السلام - فقد أخرج الطبراني والحاكم من حديث أبي موسى والخرائطي في مكارم
الأخلاق من حديث عليّ أن موسى عليه السلام استخرج عظام يوسف من قبره
بأمر من الله قبل خروجه من مصر، وصيغة الأمر هكذا: (إنك عند قبر يوسف
فاحمل عظامه معك) ، وفيه أنهم أخرجوا عظام يوسف والناس يزورون قبر يوسف
في جامع الخليل بفلسطين مع العلم بأنه دُفِنَ في مصر اعتمادًا على هذا الحديث،
وأن موسى أحضر عظامه ودفنها هناك؛ فإذا بحثوا في سند الحديث، أو قالوا: لا
يعتمد عليه لأنه من الآحاد، نقول: نعم، ولكنه موافق لسنة الله والحديث الآخر
على كونه من الآحاد معارض بسنة الله في الخلق التي قال في كتابه، وأثبت النظر
في خليقته أنها لا تتبدَّل، ولا تتحوَّل؛ فإنْ لم تأخذ به فلنترك كل ما يقال في ذلك،
ونهدم ذلك القبر، حتى لا نكون مزورين.
وكذلك كلام الموتى مخالف لسنن الكون الثابتة بالعقل والنقل قطعًا، فلا نقول
به إلا بدليل قطعيٍّ، كأنْ نشاهد بأعيننا ميتًا قد ثبت موته قطعًا، ثم تكلم، ونحن
نسمع منه من غير مظنة شعوذة ولا تلبيس. أما طرق التلبيس في هذا المقام
فكثيرة نذكر حادثتَيْنِ منها على سبيل النموذج.
في طرابلس الشام قبر وليّ يسمى (سيدي عبد الواحد) في حجرة عند باب
مسجد منسوب إليه، وقد كانت الحكومة أسكنت في هذا المسجد طائفة من مهاجري
الشركس بعد الحرب الروسية العثمانية الأخيرة، وقد حدث ذات ليلة أن فر أولئك
المهاجرون من الجامع بنسائهم وأولادهم ومتاعهم زاعمين أنهم رأوا السيد
عبد الواحد الولي خرج من قبره بهيئة نورانية ، وصعد المنبر ووجْهه يتلألأ نورًا،
وطردهم من هناك. اعترف بهذه الكرامة كبيرهم وصغيرهم وذكرهم وأنثاهم،
وكانت شهادة حالهم أقوى دلالة على صدقهم من لسان مقالهم؛ إذ لولا ذلك لما
خرجوا من ذلك المأوى الكثير المرافق ، المتدفق الأمواه بتلك الهيئة المنكرة.
حقًّا إنهم قد رأوا رجلاً خرج من القبر يتألق وجهه نورًا محسوسًا ، وصعد
المنبر وأشار بطردهم من المسجد، ولكن من هو ذلك الرجل؟ هل هو السيد
عبد الواحد المدفون هناك من عدة قرون كما ينقلون؟ كلا، إنه الشيخ أحمد المغربي
إمام المسجد وخطيبه، وابن ناظره ضاق بوساختهم ذرعًا، ولم يجد حيلة لطردهم
من المسجد إلا هذه الطريقة؛ لأن العوام عبيد الخرافات والأوهام، وقد استحضر مادة
فسفورية ، واختبأ بحيلة لم يدركوها تحت تابوت الخشب الموضوع على القبر
من أول الليل وكان أخبر بعض أصحابه بما دبره من الكيد. فلما جنَّ الليل وأخذ القوم
مضاجعهم مسح وجهه بالمادة النيِّرة، ثم أحدث في مرقده اضطرابًا وصوتًا نبههم فهبوا
وأسرعوا إلى جهة الحجرة فرأوا التابوت قد ارتفع، وخرج من الأرض رجل
يزهر وجهه بالنور فولوا مذعورين وفتح هو الباب الذي كان يظنُّونه مقفلاً، ولكن
مفتاحه كان معه وابتدر المنبر وأشار إليهم بوجوب الخروج من المسجد فلبوا
خاضعين خاشعين. وقد سمعت هذا الحديث منه كما سمعه كثيرون.
وحدثني إلياس أفندي الحداد الطرابلسي المقيم في القطر المصري أنه مرَّ في
عهد الحداثة بمقبرة ليلاً فرأى رجلاً خرج من أحد القبور ومشى أمامه على بعد ،
ورأى معه نورًا فلم يشك في أنه أحد القديسين أو الشهداء لأن اعتقاد عوامّ النصارى
في ذلك كاعتقاد عوامّ المسلمين أخذ هؤلاء عن أولئك ما أخذوه عمّن قبلهم بالتقليد لِمَا
يسمعون من العجائز والبله. فملكه الرعب ولم يكن له مندوحة عن السير، حتى إذا
قرب من العمران الذي يقصده نبح كلب على هذا الرجل النوارني الذي كان يمشي
بالنور أمام إلياس أفندي فأجابه هذا بالنُباح؛ فإذا هو كلب، وإذا بالموضع الذي
خرج منه قبر منبوش، وإنما مثله الخيال رجلاً لأن الرائي لم يكن يعرف أن
الكلاب ونحوها تبرق أعينها في الليل، وكانت الخرافات متمكنة من خياله، فلَمَّا
رأى شيئًا غير معهود؛ إذ خرج من بطن الأرض بنور معه لم يشك في أنه مثال
لتلك الحكايات التي كان سمعها من بعض الجاهلين، وغلب خياله على حسِّه فكان
من الواهمين.
أمثال هَذَيْنِ الشاهدَيْنِ يحار فيهما العقل الصغير قبل أن يسمع تأويلهما، وبيان
الحقيقية فيهما، ولكن ذلك لا يمنعه أن يصدق ما يشابههما من الحكايات مما لا يظهر
له تأويله إلا إذا نضب ينبوع الخرافات من خياله، وزال سلطان الوهم من قلبه.
وهكذا يقيس الجاهل ما لا يعرف سببه على ما لم يعرف سببه، كما يرد العاقل ما
لا يعرف إلى ما يعرف.
وقد حدث مثل هذا الحُلم لرجل من أغنياء مديرية الجيزة رأى في نومه وليًّا
أخبره أنه مدفون في مكان كذا، وأخبره بنسبه فاشترى قطعة من الأرض بثمن غال
وبنى له فيها قبرًا مُشْرِفًا، وقبة عظيمة فخسر بذلك من دينه وعقله أضعاف ما
خسر من ماله.
ومن المصائب أن الجرائد التي من وظيفتها محاربة الأوهام، هي في مصر
تزيد الناس غِشًّا؛ فقد سمعنا أن جريدة (اللواء) لما نشرت خرافة السؤال أقرَّتْها.
فمثل هذه الجرائد كمثل رؤساء الأديان المضلِّين الذين يوافقون العامة على أهوائها
لأجل الانتفاع بما عندها من الحُطَام، ولتمكين الجاه في نفوسها، فلا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
المدنية وما هيه؟
للمدنيَّة تعريفان: أحدهما يُبَيِّن حقيقتها، والآخر يصف من مزاياها خواصَّها،
وآثارها وثمراتها، وللقارىء هنا حظه من التعريفين:
كلمة المدنيَّة من الكلمات المحدثة عند المتمدنين، والمقصود منها: (التعاون
في العلوم والأعمال لاكتساب المطالب التي تقتضيها حياة الإنسان النوعية) ، هذا
هو القول الشارح لحقيقتها.
المطالب آلام في آمال، وهي طبيعية للحياة النوعية من جملة سنة الله في
الإنسان، والمدنية طِبُّ هذه الآلام، وقد وهم مَنْ يزعمون أن المدنية هي مجلبة تلك
الآلام، بل الآلام طبيعية من اقتضاء الآمال التي لا تقف عند حدٍّ، وهي من
اقتضاء الفطرة.
وما المدنيَّة إلا علاج تلك الآلام، وتسكين ما هنالكم من الانزعاجات التي
يثيرها الطلب الحثيث لما فوق الحاجات. فلا تُقلدوا الواهمين، ولا يلفتنكم شعر
أولئكم الذين يهجون الحياة النوعية - التي يمتاز بها الإنسان - ويمدحون الحياة
الجنسية - التي للبهائم وغيرها - فإن الله ورسله والحكماء براء من الذين يحبون
أن لا تظهر فطرة الإنسان بأبهى مظاهرها.
المدنيَّة: هي التعاون في العلوم والأعمال. والإنسان مدني بالطبع، ولكن
مدنيَّة كل إنسان على مبلغه من العلم والعزم، ومدنية كل أمة على مبلغ أفرادها
النوابغ من النَّصَبِ في سبيل أمتهم. وكم من امرىء يعيش بين المتمدنين لا حظ له
من الشعور بالمدنيَّة وأسبابها إلا تقليد القوم بمآتيهم، ومآخذهم وشعاراتهم في كل
شيء، بل هذا حظ الجمهور الآن في كل المشرق. وكم من امرىء يعيش بين
المتوحشين فلا يلبث إلا قليلاً حتى ينهض بهم في المدنية إلى الدرجات العُلى.
علم أسباب المدنيّة يقال له: (طِبُّ الاجتماع)، والعالم بهذا العلم يقال له:
(سياسي) ، وللسياسيين تأثير في العالم كل بقدر، وهم الذين يغيرون بإذن الله
أطوار الأمم من هبوط إلى رِفْعَة، ومن رِفْعَة إلى هبوط؛ ولذلك كان مدار التاريخ
في الغالب على أحبار السياسيين، فالذين أخلصوا لله في مصنوعاته وأحسنوا عملاً
رَفَعُوا أُممهم، وأُممًا مع أُممِهم إلى منازل السعادة، وأوردوهم مناهل السيادة،
أولئك تزدان بهم سور الحمد في كل سفر من أسفار الأمم، وكل عصر من
أعصارهم، وكل مَصْرٍ من أَمْصَارِهم، يمجدهم الجمهور الأعداء كالأولياء،
والوضعاء كالأعلياء، والذين حادُّوا الله وحَادُوا في مصنوعاته عن حدود الإخلاص
والإصلاح هَووْا بأممهم وأمم مع أممهم إلى مهاوي البوار، وثَووْا معهم في مثاوي
النار، لا تخفف عنهم الأحمال، ولا توزن لهم الأعمال، ولا يبلغون في شيء
الآمال، ومن أخسر عملاً مِمَّنْ كفر بالنِّعَم فأضاعها، وأحاطت به خطيئته؟
المدنيَّة: جمال معقول مع جمال محسوس، عدل وإحسان، أدب وعرفان،
صنائع وبدائع، أموال وبضائع، أفهام وأوهام، آمال وأعمال، جمال وتجمل،
مجد وتمجد، ميزة وتميز.
المدنيَّة: مواهب الإنسان تتجلى للعيان، يشكرها أولو الألباب السليمة،
وينكرها أولو الأذهان السقيمة.
المدنيَّة: رابطة يحشر السياسيون تحت لوائها أقوامًا كثيرين مختلفين
بالأنساب، مختلفين بالأديان، فهي الرابطة التي يتجلّى نفوذها وتأثيرها في حفظ
نظام الاجتماع.
وللرابطتين المارتين - رابطة القومية ورابطة الدين - فضل في تعظيم شأنها
وتكبير سلطانها، وفضل آخر في تهديدها إذا طغت في الميزان، وأسرفت بالإثم
والعدوان، وهي الرابطة التي بواسطتها قامت هذه البنية الحاضرة للاجتماع
البشري العظيم. فاذكروا أيها البشر إذ كنتم في الأوجار، تأكلون الأعشاب
وتخصفون من ورق الأشجار، وإذ فَرَّق بَيْنَكُم شيطان الشهوات، وأوقعكم في
البغضاء والعداوات، وإذ أنتم اليوم في المدن الزاهرة، والمظاهر الباهرة، ترجون
ما فوق الزرقاء، ويرهبكم ما تحت الغبراء، قد ألفت بينكم قرابة الآمال
والمعاملات، أكثر مما ألفت قرابة الأبدان واللغات، يرحم الكبير الصغير،
والصحيح المريض، وابن البلد ابن السبيل، والآسر للأسير.
واذكروا ما أنتم فيه من الوابور، والبالون، والشمندفر، والتليفون،
والتلغراف، والفونوغراف، والفوطغراف، والليطوغراف، والتلسكوب،
والمكرسكوب، وما هنالكم مما لم نحصه، لتعلموا ما فعلت لكم المدنيَّة من خير وما
رفعت لكم من قَدْر على الأنعام.
في أقصى المشرق تأخذون نبأً عن أقصى المغرب في لحظة من الزمن لا
تتجاوز أن يطعم الواحد غداءه. من المسافات البعيدة يسمع أحدكم صوت صاحبه
كأنه في حضرته.
إلى حين من الدهر يُحفظ صوت أحدكم ، ثم يؤديه المستحفظ كما استودعه.
في الدقيقة الواحدة ينسخ لكم ألوف من الصحف السيارة التي تنقل إليكم أنباء
المَسْكُونَة وسكانها.
في البر تقطعون مسافة الأيام الكثيرة بساعات قليلة على مَتْن ذلول من الحديد
لا يَكِل، يطوي بكم البيد طيًّا.
في البحر على متن الوابور أَنَّى شِئْتُم تسيرون.
في الجو في بطن البالون حَيْثُ رُمْتُم تطيرون.
الأرض ألقت إليكم من أفلاذها ما لم تكونوا تعلمون، السماء عرفتم من أسرار
كونها كثيرًا مما كنتم تجهلون.
العُمْي في عَهْدِكُم يقرأون، والصُّم البكم يكتبون، ومن العجماوات عوارف
لما تقولون، فواعل لما تَأْمُرون، توارك لما تنهون وتزجرون.
هذه آثار المدنيَّة، وهذه ثمراتها، ولكن هل بلغ الإنسان فيها الكمال؟ كلا،
فإن كثيرين مِنَ البشر لم تدخل المدنيَّة في عَهْدِنا هذا ديارهم، وفي ديار المدنيَّة
يوجد كثيرون غير متمدنين حَق التمدن. والمتمدنون أنفسهم لا يزالون سائرين في
طرق التكمل. فلا المدنية عَمَّتْ كل الأرض، ولا المتمدنون بلغوا الكمال.
وقد عمر الأرض من قبلنا كثير من الأمم كان لهم نصيب من المدنيَّة، ثم
أبادهم ومدنيّاتهم إفساد السياسيين، وأقام غيرهم مقامهم إصلاح السياسيين. ولَمْ
توجد أُمة خلقها الخالق مُتَمدّنة، وإنما هو التَّدرج تراه في كل شيء. سنة الخالق
في خلقه.
فإذا رأيتم اليوم في إحدى الجزائر قومًا متوحشين (التوحش يقابل التمدن)
وقد غُبّيَ عليكم تاريخهم؛ فلكم أن تظنوا أن التمدن لم يدخل جزيرتهم قط؛ لأن
التوحش سابق دائمًا، ولكم أن تظنوا أنهم كانوا قد تمدنوا يومًا من الأيام، ثم أبادهم
وتمدنهم فِسْقَهم عن الناموس والنظام، كذلك عاقبة الظالمين.
يوجد الآن في الأرض أقوام كثيرة متوحشة، لا يزالون على ما هو قريب من
الأطوار الأولى للبشرية؛ إذا شئتم أن تجدوا فرقًا بينهم وبين الحيوانات العليا
يصعب عليكم أن تجدوا ذلك الفرق وذلك أعظم سيئات التوحش.
يوجد أولئكم المتوحشون هذا التوحش في كثير من مجاهل أفريقيا التي لم
تدخلها جيوش الفاتحة الإسلامية، ويوجدون في كثير من فدافد أمريكا التي لم تختلط
بعد بالمكتشفة الأوربية، ويوجدون في مجاهل أوستراليا (الجزائر الأوقيانوسية) ،
وفي جوار القطبين توجد هذه الضالة التي ينشدها محبو السذاجة.
أما الأمم الآسياوية الحاضرة - وفي حكمهم أمم أفريقيا الشمالية - فأكثرهم
وارثون لأسلاف متمدنين. ولكنهم أضاعوا ذلك التراث، ولم يرعوه حق رعايته
فلولا التمدن المستعار الذي وجد بواسطة الأوربيين لصحّ لنا أن نقول: إن آسيا لا
تفضل أفريقيا في التمدن إلا ببقية من تراث الأولين معرضة للزوال.
فمن أخذته الحمية الآسياوية، وكان حريصًا على أن يدّعي للآسياويين مقامًا
بين المتمدنين يجب عليه أن يرد العواري، ثم لينظر هل يجد ثمّة إلا العوار؟
إن يكن في آسيا تمدن غير مستعار؛ فإنه ناقص جدًّا. الأديان من التمدن وقد
ضعفنا بها علمًا وعملاً. الحكومات من التمدن وقد خسرنا بها حسًّا ومعنًى.
الزراعات من التمدن ونحن لا نتقنها. الصناعات من التمدن ولا خبرة لنا بأنواعها
الكثيرة، التجارات من التمدن وإننا فيها متأخرون، الزينة من التمدن وإننا فيها
مرضى الأذواق، العلوم من التمدن وهي عندنا كاسدة، الآداب من التمدن وهي
لدينا فاسدة، القوانين من التمدن ونحن فيها جامدون، الأعمال العظيمة من التمدن
ونحن فيها خامدون، الاختراعات من التمدن ولكننا فيها موتى، الاكتشافات من
التمدن ولكن لا تسمعون لنا فيها صوتًا.
فأعلموني يا رفاقي الآسياويين ما هو تمدننا المحلي الذي نقصه ليس بفاحش
وأنتم بعد ذلك غير محاسبين على النقص القليل؟
ثم هلموا ننظر نظرة في مدنيَّة أوربا وما أوربا؟ - أوربا الزاهرة ذات المدن
الباهرة، والصناعة الفاخرة الماهرة، مقر العلوم العالية، والأعمال الفائقة مهبط
السياسة السامية، وملتقى الساسة الناميّة.
هنالكم الاختراعات النافعة، والاكتشافات الهادية، على يدهم ظهرت الأرواح
الباطنة، فأصبحت أسرارها سارية في الأجسام الجامدة والجارية ، منهم ظهرت
الآلات المنبئة، وبهم تأتيكم أنباء الأمم النائية في اللحظة الواحدة، صحفهم ناشرة
للأنباء الجائبة، والأفكار الدائبة، أولئك هم السابقون في المدنية الرافعة.
هذه أوربا وهذا مجدها ، وأنا أريكموها من تلك الجهة الثانية جهة النواقص
التي فيها:
الاستبداد الذي حاربوه، وأهرقوا في سبيل محوه كثيرًا من دمائهم لا يزال له
أثر كامن في صدور العلية منهم ومقلديهم من الدهماء. ومن آثاره أنواع التعصبات
الباقية.
الجهل الذي حاربوه بأنفسهم وأموالهم لا يزال بين كثير من طبقاتهم، ومن
آثاره شيوع الفحشاء والرذائل المتنوعة.
الفقر الذي يدأبون وراء إبعاده عن ديارهم لا يزال آخذًا بتلابيب أكثر الأفراد
وليس أولو الثروات العظيمة إلا نفرًا قليلين في بعض المدن الكبيرة.
ثم إذا صرفنا النظر عن مراقي الحياة النوعية فبم يمتاز الأوربيون؟ هل
طالت أعمارهم؟ هل صرفت عنهم الأسواء من أسقام وآلام؟ هل خفت عنهم أعباء
الحياة التي تقتضي الكد والكدح؟ هل تقدسوا عن البغضاء فيما بينهم؟ هل ترفعوا
عن سفساف الأمور؟ هل استغنوا عن المشرق ألبتة؟ هل بلغوا بعلومهم أن يخرقوا
نواميس الوجود؟ هل بلغوا بها أن يكون عيش أحدهم كله كما يتمنى؟ هل بلغوا
بها أن يرتقوا لعيشة روحية محضة لا نصب فيها ولا لغوب؟ هل بلغوا بها أن
يستغنوا عن الحروب التي هي أليق بالعجماوات منها ببني الإنسان؟ هل بلغوا بها
أن يستخدموا بين الأرواح المدركة كهربائية للإنباء والاستنباء؟
إذا شئت أن أَعُدَّ كل ما هو من النواقص يطول بي العدّ والسرد. وفي الذي
ذكرت إشارات كافية للمتبصر تنبهه إلى أمثلة نقصان المدنية الأوربية التي لا يوجد
اليوم للبشر مثلها عند غيرهم من المشارقة والمغاربة الآخرين.
نعم، هم لم يبلغوا الكمال، ولكنهم ساعون لا يألون جهدًا بالاكتشاف
والاختراع والبحث والتفكر. ونحن مع نقصنا الفاحش غير ساعين، فهل يليق ذلك
بنا ونحن أبناء الذين ابتدأوا التمدن؟ أليست هذه آسياكم التي ربّت في حضنها أشهر
مشاهير الرجال؟
كلا، إن ذلك لا يجدر ولا يَحْسُن بأبناء تلك الأم التي أحسنت تربية كل
المؤسسين الأولين. بل علينا اليوم أن نتفقه في (رابطة المدنية) كما تفقه أسلافنا
من قبل، وكما يتفقه جيراننا ومعاملونا الأوربيون الذين نعدهم أجانب ومبغضين ،
ولا ينفعنا الجمود، ومعاداة كل أشياء الأجنبي باسم الوطن؛ فإن الوطن للبشر واحد
هو دار الأعمال والتكاليف التي تطلب من الكل، وتوزع على الكل، ويتبادلها الكل.
وليس حب الوطن هو الكزّ على عادات الأسلاف أو الحرص على اللبث في
مساقط الرؤوس كما يفسره جمهور العوام، ولا الإقدام على مجاهدة الذين يريدون
أن تكون لهم سلطة فيه، وإن كانت أنفع من السلطة الأولى كما يفسره جمهور
السياسيين ومقلديهم ، فإن كلا المعنيين بعيدان عن الحقيقة التي يحبها الحكماء أولو
الفضيلة وإخوانهم المخلصون من السياسيين. وكم ينشىء السياسيون أشعار حماسة
تفعل في عقول الجمهور فعل الأمراض العصبية، وقد تحقق للعلماء استعداد العامة
الذين لم يأخذوا حظًّا وافرًا من العلم لتلك الأمراض، وما هو على شاكلتها من
الانفعالات للتوهيمات الشعرية والخطابية.
وسوف يرون - حين نفيض في حب الوطن - أن الوطن هو سبيل الله،
وسبيل الله هو الوطن، وتعالى الله عن أن يكون محدودًا يؤدي إليه سبيل، أو
محسوسًا يدنو منه قبيل دون قبيل، فسبيله الذي يؤدي إلى القرب من منحه القدسيّة
التي يتسامى ويتكمل بها الإنسان هو استعمال الفكر مبلغ الاستطاعة في تفهم أسرار
الفائضات والمصنوعات الربانيّة، وإفراغ خواصّها وفوائدها في قوالب
المصنوعات الإنسانية، ليكون كل فرد عابدًا للصانع الحكيم بمعرفة شيء من
أسرار حكمته، وشاكرًا على مواهب نعمته، باستعمال القوى التي في فطرته فيما
خُلِقت لأجله، من عمل الصالحات لنفسه وإخوته بَني نوعه، والله غني حميد.
وهنالكم سنبين كيف اشتبه على الأقوام شكل الحقيقة في الوطن، وكيف
وَهِمُوا - تقليدًا للسياسيين - في حب شيء ليس بجدير أن يحب، كمساعدة حكومات
جائرة مفسدة على حكومات عادلة مُصلحة باسم الوطن الموهوم.
هذا، ولا ينفعنا أيضًا تقليد كل أشياء الأجانب باسم التمدن ، فإنه لا عصمة
لأمة من الخطأ، ولا يستحق أحد أن يقلد تقليدًا محضًا، بل علينا أن نستعمل التفكر
ونستهدي بالتجارب، ونساعد في تأييد أنفع الروابط، وإسقاط أضر الروابط للتكمل
البشري.
يومئذ تنقسم الأرض الطبيعية غير هذا الانقسام الصناعي ، ويصافح المشرقي
المغربي، والشمالي الجنوبي، على أنهم إخوان متعاونون في العلوم، متقاسمون
للأعمال في دار واحدة فسيحة، يحكم بينهم منتخبون منهم متعددون بنسبة التقسيم
ومتحدون بنسبة التنظيم، لا يحارب بعضهم بعضًا باسم القوميات، ولا باسم الأديان،
ولا باسم الديار والأقاليم، وإنما تحارب قوتهم العامة من فسق منهم عن أمر العهد
العام، والنظام الشامل.
هذه نسخة من صورة الكمال للتمدن؛ فانظروا ما أجملها! وتفكروا فيها إن
كنتم تحبون الجمال والكمال، وأما الصور الحاضرة فلا والله لا ألفي في واحدة
منهن جمالاً، ولا أتصور فيهن كلهن كمالاً، ولا تطمئن بهن قلوب صحيحة، ولا
تميل إليهن أفكار سليمة.
وإذا كان ميزان هذا الأمر بيد السياسيين فلا يحسن بالناس تركهم أن يفعلوا ما
يشتهون، بل ليكن شرع وقانون، ليكن رقباء عارفون، ليكن نواب محاسبون،
ليكن إخاء عام وتعاون عام، وعهد عام، ونظام عام، ووطن عام، وسِلْم عام، في
ظل قوة عامة {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال:
25) واعلموا أن الإنسان بتلك النعمة جدير، والله على كل شيء قدير.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
ع. ز
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(أخبار بلاد العرب)
عقد النصر لواءه في نجد لآل سعود أمرائها الأولين ، وغلب ابن الرشيد
أميرها الحالي على أمره حتى خرج معظم البلاد والقبائل من يده، وأكثر الأهالي
في جذل وفرح لَمَا قاسوا من ظلم ابن الرشيد، وما يعهدون من عدل آل سعود
واستقامتهم.
إذا تمت لهؤلاء النعمة، ودالت لهم الدولة، فإنهم يكونون للدولة العلية خيرًا
مما كان ابن الرشيد في الولاء - إذا هي شاءت ذلك -، ولم تساعد عليهم عدوهم
الآن، ولم ترهقهم من أمرهم عسرًا فيما بعد، فإن هؤلاء لا يرضون بالظلم، ولا
يجارون عليه. وقد شاع أن الدولة العلية أمدت ابن الرشيد بالمال والرجال، وما
نخال الخبر صحيحًا، ولئن صح ليكونن شرًّا على الدولة؛ إذ يخشى أن يستنجد
آل سعود إذا غلبهم جند الدولة بإنكلترا التي تخطب ودّهم فتمدهم بالجنود الهندية،
ويكون الخطب كبيرًا، وقد قيل: إن الأمير عبد الرحمن فيصل أنذر بذلك وَالي
البصرة ليعرضه على السلطان، ففعل ووَعد السلطان بأنه لا يحارب آل سعود
بالجنود العثمانية، والله أعلم بالمصير.
سبق لنا نشر رسالة من عدن في (ص 758) من المجلد السادس وردت في
رمضان الماضي فيها أن إنكلترا تحاول الاستيلاء على جهات جبل يافع المشهور
وأنها أرسلت شرذمة من جندها بالضالع إلى جبل شيب ولم تلبث أن عادت أدراجها
لشعورها بالخطر من العرب. وأن المناوشات بين الإنكليز والعرب على الحدود
مستمرة
…
إلخ. وقد كتب إلينا أخيرًا من عدن كتاب مؤرخ في 12 صفر الماضي
يقول فيه مرسله:
قد رجع أمير المكلا عن محاربة حجر بدون نتيجة، ووصل كثير من عساكره
إلى عدن قافلين إلى جبل يافع، ومن أجل ما خسره في تجهيز هذه الحملة والتي
قبلها قد ابتدع ضرائب، وضاعف المكوس، وستؤثر هذه السياسة الخرقاء بزيادة
الهلاك، وربما عجلت تداخل الإنكليز في تلك النواحي.
وقد أرجع الإنكليز كثيرًا من عسكرهم إلى الضالع لإتمامهم التحديد مع الترك
حسب زعمهم، أو لترقب فرصة أحسن لهم حسب عادتهم ولهم عناية باستمالة
صاحب نصاب والعوالق، ويتحدثون بمد سكة حديد من عدن تخترق جزيرة العرب
إلى الكويت، ثم قال: وقد وصل إلى عدن بعض الجند الإنكليزي من السومال إذ
انجلى الإنكليز عنها لتعسر هضمها الآن، وسيخلون بين الملا القائم وأرضه لعله
يَبْطُر ويظلم؛ سكرًا بنشوة السلطة والسيادة كما فعل خليفة مُتَمَهِّدي السودان، ثم
يكرون عليه إذا أبغضه قومه واختلفت القلوب. والله المسؤول أن يوفق المسلمين
لانتهاز الفرص والعمل السديد، ثم قال: إن في عدن كثيرًا من دعاة النصرانية،
أضجروا الأهالي، وملأوا آذانهم بالسب والشتم والحكومة معضدة لهم، ونقول: إن
هذا من سوء السياسة والجهل بالأمم ، فإن العرب لا يتنصرون، ودعاتهم
للنصرانية لا ينتصرون.
* * *
(الجمعية الخيرية الاسلامية)
صدر تقرير هذه الجمعية عن أعمالها وحسابها في سنة 1321هـ، ومشروع
أعمالها وميزانيتها، ومحضر جلستها العمومية في سنة 1322هـ، وقد جاء فيه أن
إيراد الجمعية من الاشتراكات والمساعدات السنوية قد بلغ 1162 جنيهًا وأربعين
قرشًا، ومن ريع الأطيان (وهي 80 فدانًا وكسور) 1223 جنيهًا وتسعة وخمسون
قرشًا ونصف، ومن الاحتفال السنوي 1634 جنيهًا وثلاثة وسبعون قرشًا ،
وهنالك إيرادات متفرقة نحو ما تقدم. والعبرة فيما ذكرنا أن الأصل في
الجمعيات الخيرية هي الاشتراكات والمساعدات السنوية. ومن العار العظيم على
أغنياء مصر ووجهائها من المسلمين ، وهم الأكثرون عددًا ومددًا أن يكون اشتراك
الجمعية الخيرية الوحيدة لهم بهذه الدرجة من القلّة. وأن تكون ليلة من ليالي اللهو
خيرًا لفقرائهم ولجمعياتهم من كرم جميع كرمائهم فيما يتفضلون به مدة سنة عن
روية وإخلاص لا لعب فيه ولا لهو. وإن كان معظم إيراد ليلة الاحتفال منهم أيضًا.
وللقارىء أن يجعل الجميعة الخيرية ميزانًا لترقي مسلمي مصر في الحياة
الاجتماعية، ومن البلية أنه يُرى كثيرين من المشتركين وهم خيار القوم لا يخرج
الحق منهم إلا نكدًا، ويرى مجلس إدارة الجمعية يمحو في كل سنة أسماء كثير من
المشتركين الأغنياء لمطلهم وليِّهم وتعذيب المحصل بالتردد عليهم المرة بعد المرة
عدة سنين (فيا للخجل ويا للعار) .
على أننا لا ننكر أن في مصر نسمة خفيفة من الحياة، ولكن ما أتعب الذين
يحاولون نفخها في سائر الأجسام المنفوخة من قبل بحب الفخفخة الباطلة، واللذة
القاتلة، ولعل التعب يفيد، ولو بعد أجل بعيد.
وجاء في قسم النفقات أن ما أُنفق في السنة الماضية على التعليم بلغ 2459
جنيهًا وكسور، وعلى إعانة الفقراء نحو 373 جنيهًا. ولو بذل كل مصري قرشًا
وحدًا لهذه الجمعية كل سنة، وتحمل الأغنياء ما يفرض من ذلك على الفقراء -
على أنه لا يصعب على أحد بذل قرش في السنة -؛ لسهل على الجمعية أن تُعمِّم
مدارسها حتى لا يخلو منها مركز من المراكز، ولكن أين الشعور الذي يدفع الناس
لجمع المال والتعاون على البر والتقوى؟ ! أما المخصص للتعليم في الميزانية
الجديدة فهو 3600 جنيه مصري، وأما المخصص لإعانة الفقراء فيها فهو نحو
655 جنيهًا.
* * *
(مدرسة الجمعية في المحلة الكبرى)
أشرنا إلى هذه المدرسة في الجزء الماضي، وقد جاء في آخر التقرير عنها
ما نصه:
(بعد تحرير هذه الميزانية ورد مبلغ 1333 جنيهًا و810 مليمات من أعيان
مدينة ومركز المحلة الكبرى جمعوه بالاكتتاب الذي عمل فيما بينهم على ذمة (كذا)
إنشاء مدرسة بالمحلة الكبرى بمعرفة الجمعية مثل مدارسها ، وقد لبت الجمعية
طلبهم، وستباشر فتح المدرسة من أول السنة المكتبية المقبلة. وعليه يجب إضافة
المبلغ المذكور على إيرادات التعليم على ذمة مدرسة المحلة الكبرى.
ونزيد على ذلك أن وجوه المحلة قد دعوا رئيس الجمعية للاحتفال بتأسيس
المدرسة فأجاب الدعوة هو وحسن باشا عاصم وكيل الجمعية ومدير مدارسها
وحسن باشا عبد الرازق أحد أعضائها ، فقوبلوا بالحفاوة اللائقة، وحضر الاحتفال
الألوف من الناس، وكان ذلك لخمس بقين من المحرم سنة 1322هـ، وتليت
الخطب، وأنشدت القصائد في مدح العلم والأستاذ الإمام ناشره وناصره. وقد
أعجب الفضلاء من خطبة الشيخ محمد بسطويسي بركات التاجر بالمحلة قوله:
(أيها الأستاذ الإمام قد جادلتنا فأحسنت جدالنا، حتى أجبنا دعوتك للعلم والدين،
وجاهدتنا في الله حتى محوت آية الجهل بالدليل، وجعلت فينا آية العلم مبصرة
باليقين، وها نحن (أولاء) الواقفون بباب علومك نرى أن قيامك بأمر الدين في
وقت امتزجت العادات فيه بالعبادات كِبْر إلا على العارفين - كبر على من أشربوا
حب التقليد وتعظيم من في القبور- كبر على من ورثوا حب الشرك الظاهر عن
آبائهم، وإن حُجُّوا أو طولبوا بالدليل قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِمْ مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: 23)
…
) إلخ.
وإننا نثني أطيب الثناء على وجهاء المحلة الكبرى، ونخص بالذكر محمد
أفندي البهلوان من أعيان الدواخلية؛ إذ تبرع ببيت من بيوته مدة خمس سنين لتنشأ
فيه المدرسة إلى ما أنفق على إصلاحه زيادة على ما تبرع به مع المتبرعين،
ونرجو أن يسري روح حب العلم في سائر المراكز فتتبارى سماحة الأغنياء وأهل
الغيرة في إنشاء المدارس ، وأن يعتمدوا في ذلك على الجمعية الخيرية الإسلامية
التي تسلك بهم الطريقة المثلى بمعارف رئيسها الإمام، وأعضائها الأعلام.
* * *
(مراكش)
ذكرنا في آخر صحيفة من الجزء الثالث نبذة عن الوفاق الفرنسي الإنكليزي
وأنه قُضي فيه على مصر بسوء سياسة الأمراء والحاكمين الذين استبدوا في الأمة
وأذلوها، حتى فقدت الاستقلال الشخصي والقومي، وهو قوة الأمم والدول وعدتها
ثم سلطوا عليها أوربا ، وأعطوها من الامتيازات ما شاركتهم فيه بالحكم، حتى
صار لكل مصري في بلاده ألوف من المستعبِدِين.
وأما مراكش فالذي قضى عليها هو الجهل الفاضح في حكامها ومحكوميها؛
فقد اختاروا أن يَبْقَوْا على البداوة والهمجية أمام أوربا التي تسير في المدنية والقوة
مع البرق، ولا أقول مع البرق على سبيل التشبيه كما كان يقول الأولون، بل
أقوله على سبيل الحقيقة، كما يعرف المتأخرون، فإن الإفرنج قد استخدموا أمَّ
البرق هي وولدها ، وما أمه إلا الكهربائية التي تنار بها الأسواق والبيوت والمساجد
والحوانيت الكثيرة، حتى في بعض بلاد الشرق كمصر.
نقول: إن الجهل قد قضى على مراكش، ولا نعني بها أن حالها بعد دخول
فرنسا في شؤونها ستكون شرًّا من حالها قبله، كلا إننا صرحنا في مقالة نشرت في
آخر الجزء الخامس عشر من السنة الماضية بأن كل حال تنتقل إليها البلاد فهي
خير من حالها الحاضرة، ولكننا نعني بذلك فقد الاستقلال الذي هو موت الدول
والأمم، على أن مراكش لم تكن حيّة فتموت، وإنما كانت مستعدة لحياة طيِّبة لو وجد
لها حُكَّام عارفون بطرق ترقّي الأمم.
لقد أنذرنا حكومة مراكش بسوء المصير كما أنذرها غيرنا، وأول نبذة كتبناها
في ذلك مضى عليها ست سنين؛ إذ نشرت في العدد الخامس عشر من السنة
الأولى للمنار الصادر في 9 خلون من صفر سنة 1316هـ، وقلنا هناك ردًّا على
جريدة قالت: إن مراكش يصعب على الأوربيين الاستيلاء عليها: إن الأوربيين لا
تقف أمامهم المصاعب، والأمم الهمجية لا تقدر على مقاومة الأمم المتمدنة. وإذا
دام أهل مراكش على جهلهم بالفنون العصريّة التي عليها مدار العمران اليوم تقليدًا
لآبائهم، وإبقاءً لِمَا كان على ما كان؛ فلا بد أن يغمرهم طوفان أوربا كما غمر
جيرانهم، ثم نبهنا السلطان عبد العزيز إلى ترك التقليد، والاعتبار بما بين يديه
وما خلفه، والاتعاظ بما عن يمينه وشماله، والاندفاع بهمته كلها إلى التربية
والتعليم، وأن يستعين بالسلطان العثماني على التعليم العسكري والمدني
والاقتصادي، وقلنا: إنه إذا فعل ذلك يرجى أن يندفع ذلك الطوفان الذي يتهدد
بلاده، وما هو إلا النفوذ الأجنبي الذي غمر جيرانه.
ومن البلاء أنه ترك التقليد لمن قبله بخير ما كانوا عليه، وقلد الأوربيين بشر
ما يوجد عليه سفهاؤهم، وسفهاء غيرهم، وهو التفنن في الشهوات واللهو الباطل
والزينة. وقد اجتمعنا بعد كتابتنا تلك بوجيه مراكشي يلقب بالدكتور - أي أنه عالم
فكلمناه في الموضوع، فقال: إنكم لا تعرفون حال مراكش؛ ولذلك تكتبون ما
تكتبون.
إن تلك البلاد أمنع من جبهة الأسد، وعندها من القوة والمنعة ما تصادم به
أوربا كلها؛ إذا زحفت عليها، فقلنا له: وأين السلاح الجديد والفنون العسكرية؟
فقال: إنها متوفرة، وتقدر الدولة على زيادة ما تشاء؛ فإن عندها من كنوز الأموال
مددًا لا ينفد، وهي أغنى دولة على وجه الأرض، ثم إن لها قوة أعلى من كل
القوى، وهي ما فيها من قبور الأولياء الحامين لها! ! ! .
هذا نموذج من غرور القوم بدنياهم ودينهم، وجهلهم بالأمرَيْنِ، فهم لم يَعُدُّوا
لأعدائهم ما استطاعوا من قوة المدافع والبنادق، والعلم والنظام كما أمر الله، ولم
يعتمدوا فيما وراء الأسباب على الله القوي القدير، وإنما يعتمدون على أصحاب
القبور الذين لا يملكون لهم ولا لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا. فهل يمكن أن تنزلهم فرنسا
عن هذه الدركة، وتدفنهم في حفرة أعمق من هذه الحفرة، كلا إنها ستعلمهم رغم
أنوفهم ما يرقيهم - لا بالمدارس تنشئها لهم، ولكن بالأعمال والسيرة التي تسلكها
فيهم سواء كانت قاسية أو ليّنة - ولا ينبغي لعاقل أن يكره التربية والنظام،
ويعادي وسائل العمران، وإنما الإنسان يحب أن يجيء الخير لأمته على أيدي
رؤسائها؛ فإذا كان الرؤساء هم المفسدون الذين يُخْرِبُون بُيوتهم بأيديهم، فماذا يفعل
المرؤوسون ولا جامعة لهم، ولا علم؟
ظهرت غاية قوة مراكش الحربية والمالية بعجزها عن إخماد ثورة داخلية
واضطرارها بها ، وبثوران شهوة السلطان إلى اقتراض المال من فرنسا، وهذا
المال سيكون ثمن تلك السلطة الجائرة الجاهلة. وقد عرج على مصر وزير حربها
السابق (المنبهي) قاصدًا الحج فسأله أرباب الجرائد عن حال الثورة والقائم،
فحدثهم عن ضعف القائم وقوة النائم (السلطان عبد العزيز) بمثل ما حدثني
الدكتور، أو بما يقرب منه، وكذب جميع ما نقله البرق وبريد أوربا من خبر
الخارج، وقوته على الحكومة! ! ! وقد عاد من الحج ونود أن يسأل عن الوفاق
الفرنسي الإنكليزي لنسمع ماذا يقول.
* * *
(المولد النبوي)
يحتفل المسلمون في هذا الشهر بتذكار المولد النبوي الشريف، ويقرؤون قصة
المولد في احتفالهم، وما هي بقصة واحدة، وإنما هي قصص، لم نر منها ما يخلو
من الكذب والوضع، إلا قصة جديدة ألفها الشيخ جمال الدين القاسمي من علماء
دمشق الشام سماها (شذرة من السيرة المحمدية) اقتبسها من كُتب الحديث المعتمدة؛
فنحث جميع الذين يقرأون تلك القصص على قراءتها لما فيها من الفائدة، وعلى
ترك القصص الكاذبة، وثمن النسخة منها اثنى عشر مليمًا، مع أجرة البريد،
وتباع بمكتبة المنار.
* * *
(المحكمة الشرعية بمصر)
كلما عَلَتْ شكوى الناس من هذه المحكمة، ومن سائر المحاكم الشرعية بناتها ،
وكلما ألحوا في طلب إصلاحها؛ يلح رجالها الذين يُشْكَى منهم في غَيّهِم، ويُسْرِفُون
فِي أعمالهم التي هي مثار الشكوى، وأصل البلوى. وقد أكثر الخواص في هذه
الأيام من الخوض في سيرة المحكمة العليا، لا سيما بعدما علموا بما نشره المؤيد
في يوم الخميس الماضي من إذن القاضي لابن رجل مُنع من دعوى فِي وَقْفٍ لعدم
جواز سماعها بمضي المدة الشرعية، بأن يخاصم في الدعوى التي مُنِعَ منها أبوه
في المحكمة نفسها، مع أنه لو صحت دعوى أبيه؛ لكان مستحقًّا في الوَقْفِ وأما
الوليد فليس بمستحق، وليس موضوع الدعوى مصلحة عامة، بل المراد إخراج
الوقف عن كونه خيريًّا وجعله أهليًّا. ويتحدثون بأن الابن قد طلب من بلد آخر،
وكلف برفع القضية بناءً على الإذن الذي ناله بعد طلب كلف به، ويقولون: إن
العلّة في هذه السنة السيئة ونحوها من الخلل بعض أعضاء المحكمة العليا، وأن
هذا هو الذي يعنيه المؤيد بقوله: إنه (علة العلل) لأمراض المحكمة العليا، ولعلنا
نسهب القول في وجوب إصلاح هذه المحاكم في جزء آخر.
* * *
(الحرب المضطرمة في الشرق)
ابتدأت الحرب في البحر فكان الفلج فيها لليابانيين، وتبين أن أسطولهم أتم
استعدادًا، وبحَّارتهم أوسع معرفة ودراية، وقد ألزم أسطول هؤلاء أسطولي روسيا
بأن يستعصم كل منهما في مينائه إلى أن حصرهما في المدة الأخيرة بسد مدخل
ميناء بور أرثر ، واكتفاء شر خروجه في غيبة الأسطول الياباني، ووقوفه
لأسطول فلاديفستك بالمرصاد. ولما ظهر فوز اليابان في البحر؛ قالوا: هي دولة
بحرية، ولكن لا يستطيع أولئك الأقزام الصُّفر أن يثبتوا أمام الجنود الروسية من
فرسان القوزاق، ومشاة الآفاق، ولَمْ يكن من بوادر الوقائع البرية إلا الفوز الباهر
المقرون بالشجاعة الكاملة، وحسن التدبير، وطول الباع في الفنون العسكرية. وقد
كانت الجرائد الإنكليزية تصف اليابانيين بذلك، والجرائد الفرنسية تشكك فيه،
حتى إذا أثبته العمل اتفق عليه المختلفون واعترفت أوربا وأميركا بأن الجيش
الياباني في مقدمة جيوش العالم، بل صرح بعضها حتى في ألمانيا بأنه أحسن
جيوش العالم. ولم يبق من منازع في ذلك إلا جريدة عربية في مصر برعت في
التأويل، حتى إن ما تكتبه لا يخطر على بال أحد في روسيا نفسها. نعم، إن ظفر
اليابان في البر والبحر لم يصل بالروسيين إلى هاوية اليأس بل يجوز أن ينتصروا
بعد بالكثرة. وقد خفي عن جريدتنا المصرية أن جريدة روسيا قامت تنذر أوربا
بالخطر الأصفر، وتحاول إقناعها بأن اليابان يوشك أن تنظم عسكرية الصين،
وتستولي بها على أوربا، بل على العالمين، وفي ذلك من تعظيم شأنها من عدوتها
ما لا تعظيم وراءه والفضل ما شهدت به الأعداء.
أما السبب في هذا الرقيِّ التام الذي أدهشت اليابان العالم به؛ فهو عزة نفوس
اليابانيين، وعلو أخلاقهم بسبب سلامة استقلالهم ألوفًا من السنين، لم يتسلط عليهم
فيها من يذلهم ويفسد بأسهم؛ فليعتبر بذلك حكامنا وقومنا إن كانوا معتبرين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
علماء الأزهر والمحاكم الشرعية
{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2)
قعد أهل الأزهر عن إجابة طلب إسماعيل باشا الخديو تأليف كتاب في
الحقوق والعقوبات موافق لحال العصر سهل العبارة مرتب المسائل على نحو
ترتيب كتب القوانين الأوربية. وكان رفضهم هذا الطلب هو السبب في إنشاء
المحاكم الأهلية واعتماد الحكومة فيها على قوانين فرنسا، وإلزام الحُكَّام بترك
شريعتهم وحرمانهم من فوائدها، وفي توجيه عزائم الكثيرين من نابتة الأمة إلى
درس تلك القوانين في مصر وأوربا وبذل النفقات العظيمة من الحكومة ومنهم
لأجل تحصيلها. ولولا جمود أهل النفوذ من علماء الأزهر لكانت كل هذه المحاكم
شرعية آهلة بالعمائم التي يتحاسد حملتها على الشيء اللقا ويتنافسون فيما يرغب
عنه غيرهم لقلة ذات يدهم. ولكانت تلك العمائم موضع الاحترام والإجلال، كما يليق
بها لا كما هي اليوم في نظر أكثر الناس، ثم إنك تجد بعض أصحاب هذه العمائم
يتشدقون بتلاوة: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة:
45) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44)
يُعَرِّضون بأهل المحاكم الأهلية ثم إنهم يتحاكمون إليهم عند الحاجة ويتملقون لهم في
المجامع.
ليس إبطال هؤلاء العلماء للشريعة بعدم إجابة طلب إسماعيل باشا السابق
بأعجب من اعتذارهم عنه وتعللهم فيه، إنهم تعللوا بل احتجوا بأنهم يحافظون بذلك
على الشرع وطريقة سلفهم الأزهري في كيفية التأليف ، وهو أن يكون الكتاب مؤلفًا
من متن وشرح وحاشية وعند زيادة البيان والتحقيق تضاف إليه التقارير- فهذه هي
سنة المشايخ المألوفة، وتأليف كتاب أو كتب يقتصر فيها على القول الصحيح
ويجعل بعبارة سهلة مقسمًا إلى مسائل تسرد بالعدد على كيفية كتب القوانين من
البدع الهادمة لتلك السنة التي جرى عليها الميتون من عدة قرون.
حدثني علي باشا رفاعة قال: إن إسماعيل باشا لما ضاق بالمشايخ ذرعًا
استحضر والده رفاعة بك ، وعهد إليه بأن يجتهد في إقناع شيخ الأزهر وغيره من
كبار الشيوخ بإجابة هذا الطلب ، وقال له: إنك منهم ونشأت معهم فأنت أقدر على
إقناعهم ، فأخبرهم أن أوربا تضطرني إذا هم لم يجيبوا إلى الحكم بشريعة نابليون.
فأجابه رفاعة: إنني يا مولاي قد شخت ولم يطعن أحد في ديني ، فلا تعرضني
لتكفير مشايخ الأزهر إياي في آخر حياتي ، وأقلني من هذا الأمر؛ فأقاله. وكان
إنشاء هذه المحاكم التي يرى المشايخ أنها مؤسسة على الكفر والظلم والفسق أثر
المحافظة على الدين، وصونه من عبث الحاكمين، وما هذا الدين الذي حافظوا
عليه إلا بدعة سيئة وهي كيفية التأليف التي ألفوها كما تقدم ، ولم ينزل بها كتاب ،
ولا وردت بها سنة ، ولا جاءت في أثر عن الصحابة والتابعين. والكيفية التي
دعوا إليها فحسبوها خرقًا في الإسلام هي أفضل وأنفع مما حافظوا عليه ، فالنتيجة
أنهم أضاعوا الشريعة لأجل الجمود على هذه الكتب الحديثة الضارة المضيعة للعلم
فكانوا من الخاطئين ، وأعني بما أقول جمهورهم لا كلهم كما لا يخفى.
حدثت المحاكم الأهلية فكانت قسيمة للمحاكم الشرعية ، ولكن ظهر للناس
بالاختبار أن المحاكم التي يحكم فيها بقانون فرنسا أضمن للحقوق وأقرب للإنصاف
من المحاكم التي تسند شريعتها إلى الوحي السماوي حتى كان شيوخ الأزهر
يتحاكمون إليها فالشيخ العباسي رفع إليها بعض القضايا ، وكان شيخ الأزهر ومفتي
الديار المصرية. وكذلك شيخ الأزهر السابق الشيخ سليم البشري تحاكم إليها في
قضية تتعلق بأوقاف الأزهر وكان له مندوحة عن ذلك. فكانت جنايتهم على
الشريعة أنهم كانوا السبب في إضاعة القسم الأكبر منها ، وأنهم سلكوا في القسم
الثاني الذي بقي للمحاكم الشرعية طريقة سوء ذهبت بثقتهم وثقة سائر الناس منها -
وكل ذلك بحجة حماية الدين وحفظ الشريعة الذي هو فخرهم ولو بالباطل ينالون به
الزلفى في نفوس عامة المسلمين المقلدين لهم الذين لا يعلمون بماذا يقلدون.
تكاد حماية الدين والمحافظة على الشريعة عند هؤلاء تذهب برسومها كما
ذهبت بروحهما ، فإن السماء والأرض تستغيثان من خلل المحاكم الشرعية وتلجآن
إلى الحكومة طلبًا لإصلاحها ، ولكن الشيوخ عقبة في طريق كل إصلاح ، وحجتهم
الوهمية المحافظة على الدين الذي لا يعرفه سواهم ، وقوتهم غرور العامة بهم
وتصديق دعاواهم ، والحكومات تحترم دائمًا عقائد العامة وعاداتها وتقاليدها حقًّا
كانت أو باطلة؛ لئلا تهيج عليها الرأي العام ، ولذلك كان صلاح حال العامة
بالتربية الصحيحة والتعليم النافع مفضيًا إلى صلاح حال الحكومة بالطبع لأن رأي
الأمة يكون حينئذ صحيحًا وقوة الأمة لا تقاوم لأن يد الله مع الجماعة.
هذا بعض آثار التقليد الأعمى للميتين والجمود على العادات الموروثة ، وليس
كل علماء الأزهر على هذا الجمود بل السواد والدهماء منهم ، وإنما العامة مع
الأكثرين حتى يظهر خطأهم الزمان والذي لا يعلو حكمه حكم إنسان، هذا أحدهم
الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية اليوم قد رأى منذ زمن طويل فساد هذه
المحاكم التي كثر تألم الناس منها وشكواهم للحكومة ، فأرشده الشيخ لذلك التقرير
فطلبه من أحد حاشية الأمير واستفاد منه واضعو اللائحة الحديثة كثيرًا من الفوائد ،
ولكنها لم تكن كافية.
وفي سنة 1899 م حاولت الحكومة المصرية عمل شيء في المحاكم الشرعية
على أنه من الإصلاح ، فقامت قيامة العلماء والجرائد ، وتهيجت العامة لاعتقاد
الجميع أن ما كان يحاول غير جائز شرعًا (وفي الحقيقة أنه لم يكن هو الإصلاح
المطلوب للمحاكم) ولكنهم لم يطلبوا شيئًا غيره يجوز عندهم شرعًا. وكنا قبل هذه
الفتنة قد كتبنا في المنار الصادر آخر سنة 1316هـ مقالة في (التعليم القضائي)
بينَّا فيها أن إصلاح المحاكم الشرعية لا يكون إلا بقضاة صالحين للقيام بأعباء
القضاء ، وأن هذا لا يتم إلا بتعليم خاصٍّ بيَّنا طريقه ، واقترحنا على شيخ الأزهر
ومجلس إدارته تنفيذه ، ولكن أنَّى ينفذ ، وحماة الدين من مشايخ الأزهر أصحاب
النفوذ لا يرضون بشيء جديد غير ما اتبعوا عليه آباءهم إلا الشيخ محمد عبده وهو
صاحب هذا الرأي ، لكن لا موافق له منهم عليه في مجلس الإدارة إلا الشيخ عبد
الكريم سلمان وأكثر الآراء كانت على ضد ما يطلبان.
انتهت فتنة المحاكم بسكوت الحكومة عن المشروع الذي أعدته ، ولكن
المتقاضين لم يسكتوا على حقوقهم تضيع. في أثرها عهد بمنصب إفتاء الديار
المصرية للرجل الذي كان أول ساع في الإصلاح والمشهود له بأنه أعرف الناس
بطرقه ، فكلفته الحكومة تفتيش هذه المحاكم ، ووصف خللها ، وبيان ما يحتاجه من
العلاج؛ ففعل ووضع في ذلك تقريره المشهور الذي أجمع الناس على استحسانه ،
حتى إن الذين يعادون الإصلاح باسم الدين لم يجهروا بنقده ولا بالاعتراض عليه.
ثم ألفت الحكومة لجنة للنظر فيما يمكن العمل به من التقرير ، رئيسها ناظر الحقانية
وكان في أعضاء اللجنة مع المفتي قاضي مصر السابق ، وشيخ الأزهر واخترمت
المنية القاضي في تلك الأثناء فوقف سير اللجنة ، واستمر على وقوفه وعذر
الحكومة في ذلك العامة ، وبلاء العامة العلماء ، وهاك ما قاله اللورد كرومر عن
هذه المحاكم في تقريره عن سنة 1902 وهو:
المحاكم الشرعية
(يقول المفتشون من العلماء التابعين لنظارة الحقانية: إن أحكام قضاة
المحاكم الشرعية في الأحوال الشخصية وإنجازهم للقضايا قد تحسنت بعض التحسن
ولا ريب أن زيادة إنفاق المال تقضي إلى إصلاح مهم في هذه المحاكم ، ولكن لا
ينتظر أن يجري حتى يلح الأهالي في طلب الإصلاح من أنفسهم وذلك يكون بتقدم
العلم والمعرفة. والشكاوي الآن كثيرة ، ولكن المعارضة شديدة في كل تغيير مهما
كان لازمًا وخاليًا من الضرر. والغالب أن تلك المعارضة تنجح بدعوى أن
الإصلاحات مخالفة للشريعة أو لعادة القوم) اهـ
فانظر؛ تجد أن هذا السياسي الواقف على حالة البلاد أتم الوقوف يصرح بأن
الإصلاح لا يمكن إلا بعد ان تتحول العامة عن اعتقاد ما يقوله المشايخ في مقاومة
الإصلاح ، وأوضح منه ما قاله في تقريره عن سنة 1903 الماضية. وإنك لتجد
شيوخنا يطلعون عليه ويعرفون ما يقول الناس في جمودهم ، ولا يرجعون عنه
رحمة بالشريعة التي انتحلوا حملها وبأنفسهم ، وهذا هو نصه:
المحاكم الشرعية
هذه ترجمة محضر مأخوذ عن الجريدة الرسمية وهو يتعلق بأعمال مجلس
شورى القوانين في جلسة حديثة العهد، والحديث فيها بين أحمد بك يحيى من أعيان
المصريين وحضرة الشيخ حسونة النواوي وهو عالم جليل من علمائهم تولى
منصب الإفتاء فيما مضى.
(حضرة أحمد بك يحيى: إن الطريقة المتبعة حتى الآن في المحاكم
الشرعية في أمر المرافعات وتأجيل القضايا أوجبت شكاوي كثيرة ، فلذا أقترح على
مجلس شورى القوانين تأليف لجنة تدرس هذه الأمور وتضع فيها تقريرًا.
(فضيلة الشيخ حسونة النواوي: إني لا أعلم أن المحاكم الشرعية تحتاج
إلى الإصلاح في أمر من أمورها.
(تقرير بالأغلبية التصديق على رأي الشيخ حسونة النواوي) انتهى.
فهذه الأعمال مشددة للعزائم؛ لأنها تدل على أن في مجلس شورى القوانين نفسه
بعضًا من الأعضاء الأذكياء الذين يشعرون بوجوب الإصلاح للمحاكم الشرعية.
أما كون الإصلاح ضروريًّا تتشوق إليه النفوس، فذلك أمر ثابت لا شك فيه إذ
ليس للناس أقل ثقة بهذه المحاكم الشرعية، وقد علا الضجيج من أعمالها، وكثرت
شكاوي المتقاضين بين يديها ، وحجتهم عليها ترجح يومًا عن يوم. والإصلاح
يطلب من وجه معروف لا يختلف فيه ، وهو بسيط سهل المنال ، وذلك أن الشرع
نفسه لا يمكن أن يطرأ عليه تغيير مطلقًا، فغاية ما يطلب إذًا هو أن يقضى به بين
الناس بطريقة معقولة على يد قضاة جمعوا من العلم والاستقلال ما يمتنع معه تأثير
كل مؤثر خارجي أيَّا كان مصدره.
وكانت الحكومة قد شرعت منذ خمس سنوات تقريبًا في معالجة هذا الداء
ولكنها عدلت عنه؛ لأن الغرض الذي كانت تقصده من الإصلاح إنما هو صيانة
المصريين أنفسهم فلم تجد منهم التأييد الكافي فأغفلته. أما الحكومة البريطانية فلا
تبدأ بالسير في هذا السبيل، ولكنها تنظر بعين الرضى إلى كل إصلاح يبدأ به ذوو
الشأن أنفسهم الذين يعنيهم أمر المحاكم الشرعية أكثر من سواهم وتؤيدهم وتشدد
عزائمهم. ورأيي الخصوصيِّ هو أن مجلس شورى القوانين يحسن صنعًا بالعودة
إلى هذا الموضوع وإيفائه حقه من البحث لا سيما أن التعجيل في إصلاح هذه
المحاكم خير من التأجيل ، ففي مصر جيل جديد يختلف عن أجداده في أمور كثيرة،
فيمكن أن تحدثه نفسه يومًا بأن يمد إلى تلك الأركان القديمة يدًا لا تعرف حرمة
القديم، فتكون أشد عليها من يد حكومة تمدها اليوم طبقًَا لإرشاد قوم لا شأن لهم في
الأمر لأنهم لا يدينون بالدين الإسلامي.
فإذا كان لهذا الحساب نصيب من الصواب فالأجدر بأبناء اليوم أن يشرعوا في
الإصلاح ويتلافوا الأمر قبل حلوله، وعسى أن المصلحين من أبناء القطر لا تضعف
عزيمتهم لأول فشل حل بهم ، فإن الرأي العام لأبناء دينهم هو في جانبهم وهو ينمو
ويزداد وإن كانوا لا يجاهرون به، فعليهم الثبات إذن لا سيما إذ لم يكن أحد
ينتظر أن الناس تتغلب على أميالها ، وتوافقهم على مرادهم بعد أول حملة.
ويجدر بي أن أذكر في هذا المقام أن مجلس شورى القوانين اقترح على
الحكومة في الملحوظات التي أبداها على ميزانية السنة الحاضرة أن تزيد مصروف
المحاكم الشرعية ، فرفضت الحكومة هذا الاقتراح. وعندي أنها أحسنت في
رفضها؛ لأن كل زيادة في هذا الباب تعد تبذيرًا لأموال الأمة حتى يجيء الوقت
الذي تباشر فيه مسألة الإصلاح بالجد والاهتمام، اهـ كلام اللورد.
قبل أن يظهر تقرير اللورد هذا اجتمعت الجمعية العمومية المؤلفة من نظار
الحكومة وأعضاء شورى القوانين ومندوبي البلاد المصرية ، واقترح غير واحد من
أعضائها مطالبة الحكومة بإصلاح المحاكم الشرعية. فأحيل الطلب على مجلس
شورى القوانين ، فأجمع الشيوخ أمرهم وأرادوا أن يدافعوا عن الحاضر حسب
عادتهم، فأتمر من يعنيهم الأمر مع أنصارهم في مجلس الشورى وكبيرهم
قاضي مصر الذي خلق في بلاد الروم مصريًّا، وتعلم في الآستانة ولكنه كأنه تخرج
أزهريًّا، وكثر السعي قبل الجلسة واتفقوا على شيء يدافع به القاضي الأكبر.
ولما طرحت المسألة في المجلس قال القاضي الأكبر كلمته المروّزَة وهي:
(قد سمعنا المقترحات المتعلقة بالمحاكم الشرعية ونقول: إن أعمال تلك
المحاكم ترجع أولاً إلى الشرع الشريف ، وهذا لا يُمَكِّن مسلمًا أن يقول إنه يحتاج
إلى إصلاح ، وثانيًا إلى قضاة يحكمون بذلك الشرع، وهؤلاء تنتخبهم لجنة من كبار
العلماء الخبيرين تُشَكَّل بنظارة الحقانية بحضور ناظرها ، وطبعا إنما تنتخبهم من
العلماء الأكفاء ، وثالثًا: إلى لوائح سنتها الحكومة بعد أخذ رأي مجلس شورى
القوانين، فإن كان هناك اعتراضات توجهت أو تتوجه في المستقبل فطبعًا إنما هي
متوجهة على تلك اللوائح ، ولو رجعت الحكومة في جميع أعمال المحاكم الشرعية
إلى قواعد الشرع ونَفَّذت بالطرق الشرعية جميع ما صدر من تلك المحاكم من
الأحكام لم يوجد أدنى اعتراض ، فلذلك أطلب استلفات الحكومة إلى ما ذكر.
هذا نص ما كتب، وتناقل الناس عن قاضي مصر يومئذ زيادةً منها أنه قال
في الجلسة: إن القضاة يدرسون علومهم في الأزهر ويمتحنون فيه بحضور جماعة
من كبار العلماء ، وأنه لم يعرف عن أحد من قضاة المحاكم ما يشكى منه ، وجاء
في آخر كلامه: أما إذا أرادت الحكومة تكميل المرشحين للقضاء بإضافة بعض
دروس مثل: أدب القاضي ، وشيء من التمرين فلا بأس، وذكرت جريدة المؤيد
يومئذ أنه قال ما ينبغي لمثله في مقامه أن يقوله، وكان له حزب مستعد لتأييد رأيه
ولكن مفتي الديار المصرية تعقبه بعد ما أمر الكاتب بكتابة جميع ما قاله وقرر
المفتي ما ملخصه:
أما كون الشرع نفسه لا يحتاج إلى إصلاح فَمُسَلَّمٌ، لكنه في كتبه التي في أيدي
الناس بعيد عن أفهام الخصوم فهو في أشد الحاجة إلى التقريب من الأفهام فيجب
النظر في ذلك ، ولا نطلب فيه إلا عملاً سبقتنا إلى مثله الدولة العثمانية في كتاب
المجلة التي عليها العمل في محاكمها المسمّاة (بالعدلية) وفي المحاكم الشرعية في
أبواب المرافعات جميعها ، ولم يقل أحد: إن الدولة في عملها ذلك قد خرجت عن
الدين (عند هذا قال الشيخ حسونة النواوي: كتاب الأحوال الشخصية الذي وضعه
قدري باشا موجود وهو من أحسن ما يكون) .
وأما مسألة امتحان القضاة في لجنة من علماء الأزهر وانتخابهم بلجنة فيها
كبار العلماء، فيجب بيان ما فيها لهيئة المجلس لأنني من اللجنتين - لجنة الامتحان
ولجنة الانتخاب - أما الامتحان فيجري في موضوعات خاصة من عدة فنون يبتدأ
فيها بالأصول فالمعاني فالبيان وهكذا ، ولا يأتي الفقه إلا في آخر الدروس عندما
يكون الممتحن قد ملّ السؤال ، والطالب قد مل الجواب ، فيكتفي الأساتذة من
الطالب ببعض كلمات ثم ينقلونه إلى فن آخر ، على أن الامتحان في الفقه كان
ولا يزال في أبواب العبادات مثل التيمم ونحوه ، وقد ألحّ في المدة الأخيرة على لجنة
الامتحان لتعين مواضع الامتحان في المعاملات فحصل ذلك ، لكن كثيرًا ما يرجع
عنه، فهل مثل هذا الامتحان له علاقة بالقضاء الشرعي ، وهل تعرف به درجة
القاضي إن كان أهلاً للقضاء أو غير أهل.
(قال) أنا عضو في اللجنتين كما قلت لكم ، وربما كنت أعرف الناس بمن
ينتخبون للقضاء ، ولكني أقول لكم: إننا نعمل في الانتخاب على قاعدة ارتكاب
أخف الشرين فنختار أخف القاصرين قصورًا وكثيرًا ما تكون الأغلبية على انتخاب
المتقدم في الزمان ، وإن كان متأخرا في العلم والاستعداد.
(قال) وأما لوائح المحاكم التي يتوهم من لم يعرف تاريخها أن الحكومة
وضعتها من عندها فهي بعيدة عن الشرع ومذاهبه ، فأنا أذكر لكم حقيقة أمرها،
كانت الحكومة في عهد أمراء مصر السابقين تاركةً للمحاكم الشرعية تمام الاستقلال ،
وكان الناس يستغيثون من خللها وظلمها وشيوع الرشوة فيها ، فلما أقلقوا الحكومة
أمر سعيد باشا بوضع لائحة لسير هذه المحاكم ، وقد كان ذلك بإقرار لجنة من
علماء الأزهر مؤلفة من علماء المذاهب الأربعة، فاللائحة الأولى كان متفقًا عليها من
علماء الشرع، طال الزمان وظهر أن اللائحة لم تأت بالمطلوب واستمرت الشكوى
من أعمال المحاكم ، فوضعت اللائحة الثانية بمعرفة الشيخ العبَّاسي شيخ الأزهر
ومفتي الديار المصرية لذلك العهد. وأما اللائحة الأخيرة فقد عرضت كذلك على
شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية ، وأقرّها كما أقرها قاضي مصر السابق.
فاللوائح لا تعاب إذن بمخالفة الشرع ، ولكنني أقول مع هذا: إنها قاصرة وفي
حاجة إلى الإصلاح فتعين أن المحاكم الشرعية في حاجة إلى الإصلاح من كل
جهة ، وهذا الإصلاح ينحصر عندي في خمسة أمور وهي:
(أولها) تقويم طريقة التعليم لعمال المحاكم الشرعية من قضاة وكَتَبَةٍ
وإضافة ما تحتاج إليه وظائف القضاء الشرعي وما يتعلق بها من المعلومات إلى ما
يتعلمون الآن ، وذلك يكون بإنشاء فرقة خاصة بهذا الغرض من طلبة الجامع
الأزهر بالجامع الأزهر، ثم تكميل قاعدة انتخابهم بما يكفل التحقق من كفاءتهم.
(ثانيها) تعديل لوائح المحاكم الشرعية على وجه يكفل انتظام سيرها وسرعة
الفصل في قضاياها ، وإزالة كل ما يشتكى منه بشرط المحافظة على الشرع.
(ثالثها) الاتفاق مع جماعة من شيوخ الحنفية على إيجاد طريقة لتقريب فهم
الأحكام الشرعية التي يتقاضى الناس على حسبها حتى يمكن للخصوم أن يعرفوا
إلى أية قاعدة شرعية يرجع الحكم فيما يتخاصمون فيه ويسهل على القضاة أنفسهم
خصوصًا في بدء أمرهم الرجوع إلى ما يحكمون بمقتضاه ويكون ذلك شاملاً
جميع أبواب المعاملات من الفقه.
(رابعها) وضع قاعدة لتنفيذ الأحكام الشرعية تكفل انتفاع المحكوم له
بالحكم ضد أي شخص كان بما لا يخالف الشرع.
(خامسها) ترقية مرتبات عُمّال المحاكم الشرعية ، وإلحاقهم بباقي موظفي
الحكومة.
اقترح المفتي هذا ، وأمر بكتابته ، فكتب وظهرت على المجلس أمارة
الإعجاب والرضى به ، فقال بعض المؤتمرين: إن هذا لا ينافي قول القاضي ،
والرأي ما رآه القاضي. قال المفتي: لك أن تقول: إن رأيك موافق لرأي القاضي ،
وليس لك أن تقول هذا عن غيرك ، وإن كان القاضي يقر هذا الرأي فهو ما نبغي
ولا فرق بين أن ينسب إليَّ أو إليه. فقال ذلك العضو: لا بأس بموافقة القاضي
على هذا ، ولكن تحذف المقدمات. قال المفتي: وتحذف مقدمات القاضي أيضًا.
قال بعض الأعضاء: الأَوْلَى إبقاء المقدمتين ، والموافقة على الرأي الأخير (رأي
المفتي) مع اتفاق القاضي. وبعد ذلك استقر الرأي على أن يمحى ما كتب عن
القاضي والمفتي ، ويستبدل به: أن المجلس يقترح على الحكومة الإصلاح بالأوجه
الخمسة المذكورة وكذلك كان.
هذا ملخص ما كان في الجلسة ، ولهج به الناس يومئذ، كتبناه كما سمعناه من
كثير من الأعضاء ومن يجتمع بهم، ولكن الجرائد خلطت في المسألة ، ومنها
ما نسب الاقتراح للقاضي ، وإنما كان ردًّا عليه ، ثم إنه لم ير بُدًّا من موافقة المجلس.
والذي يهمنا أننا وصلنا بعد جهاد المجاهدين في سبيل الإصلاح إلى أن مجلس
الشورى طلب باتفاق الآراء أن تبادر الحكومة إلى إصلاح هذه المحاكم ، فليس لها
بعد هذا عذر بالإرجاء وهو أقصى أو فوق ما كان يتمنى اللورد كرومر.
أرأيتك هؤلاء القضاة الشرعيين؛ هل اعتبروا بإجماع أهل الرأي والحل
والعقد وغيرهم على فساد أمرهم وسوء سيرتهم؟ كلا إنهم لم يزدادوا إلا غيًّا وتماديًا،
حتى إن المحكمة العليا التي تشرف على جميع مجاري العبر هي أَوْغَل من محاكم
الواحات في الغرور والخلل والزلل، ومن أعجب ما صدر عن قاضي مصر في
هذه الأيام ببركة مستشاره أو مشيره؛ التصدي لمنع ديوان الأوقاف من تنفيذ لائحة
المساجد التي وضعها مفتي الديار المصرية ، وأقرّها مجلس الأوقاف الأعلى بعد
مباحثات طويلة.
* * *
لائحة المساجد
ماهي لائحة المساجد وما وجه الحاجة إليها؟ هي لائحة تدور على جعل أئمة
المساجد وخطبائها من أهل العلم بالدين ليؤدوا الفرائض على وجهها ، وجعل
مؤذنيها وخدمتها من أهل الكفاءة للقيام بعملهم على وجهه. ولا يجهل أحد أن أكثر
الأئمة في هذا العهد من الجُهّال حتى بأحكام الطهارة والصلاة ، وأكثر الخطباء
يغلطون على المنبر حتى بآيات القرآن ، ويأتون في وعظهم بما يتبرأ الدين منه في
الغشّ والكذب على الله ورسوله ودينه بسرد الأحاديث الموضوعة والخرافات
المصنوعة. أليس من العجائب أن يوجد في المسلمين من يحافظ على هذه
المنكرات ويطلب بقاءها وعدم إزالتها باسم الدين ، وهو يعدّ مع هذا من علماء
المسلمين؟ بلى وإنهم ليحتجون بأنهم يحافظون على شروط الواقفين، وهل وجد
واقف اشترط أن يكون الأئمة والخطباء من الجاهلين؟ ربِّ أعوذ بك من همزات
الشياطين.
أوقاف المسلمين تزداد ريعًا ونموًّا ، ومساجد المسلمين في خراب حسيٍّ
ومعنويٍّ إلا ما عمرت جدره ، وزخرفت سقفه لجنة الآثار العربية ليتمتع بالنظر
إليها السائحون من الإفرنج الذين يحبون الاطلاع على مباني الأولين، وراتب
الخطيب والإمام اليوم كما كان منذ قرن أو قرون ، إذ كان مالك الألف يعدّ غنيًّا
كبيرًا، والألف لا تشبع في سنتنا الحمار شعيرًا، لهذا يضطر ديوان الأوقاف أن
يجعل الجاهلين الكسالى المعدمين أئمةً وخطباءً؛ إذ لا يرضى العالم الفاضل أن ينقطع
لعمل لا يزيد راتبه في الشهر على مائة قرش ، وقد يكون خمسين قرشًا. هذا وإن
مساعدة أهل العلم والدين على معايشهم من أفضل المبرات التي تنشأ لها الأوقاف
الخيريّة - لهذا كان من موضوع لائحة المساجد أن يجعل للإمام والخطيب راتب
يتراوح بين خمسمائة قرش وثمانمائة قرش ، وللمؤذن والخادم راتب يرتقي إلى
ثلاثمائة قرش ، وذلك بعد انتقائهم بحسب الشروط التي تؤهلهم للقيام بعملهم على
أكمل وجه، وقد رفضت اللائحة بحال الحاضرين على ما بهم فلم تقض بعزل أحد
منهم ، وإنما جعلت مبدأ الإصلاح فيمن يتجدد.
بهذه اللائحة تصرف أموال الأوقاف المكنوزة في أفضل مصارفها، بهذه
اللائحة تقام صلاة الجماعة على وجهها، بهذه اللائحة تكون الخطابة مؤدية للحكمة
التي شرعت لأجلها، بهذه اللائحة تكون بيوت الله نظيفة طاهرة كما يليق بها، بهذه
اللائحة ينمو علم الدين بما وجد لأهله من المعاش الطبيعي الذي يليق بكرامتهم بعد
أن أقفلت في وجوه المنقطعين له أبواب الرزق واحتقرهم الناس ولو بغير حق، ومع
هذا كله تجد في أصحاب العمائم من يسعى في إلغاء اللائحة بحجة أنها مخالفة للدين
وأنها وضعت للإفساد، وهم من المصلحين يحاولون إلغاءها بسلطة المحكمة الشرعية
التي ضجت السماء والأرض من فساد حالها وشدة اختلالها، فلماذا لا يصلحونها
ويقيمون حكم الله فيها إن كانوا صادقين؟
كتب قاضي مصر إلى مدير الأوقاف يطلب اللائحة لينظر فيها ، ويأمر بتنفيذ
ما يرى تنفيذه منها ، وإلغاء ما يرى إلغاءه ، وذكرت الجرائد أنه هدّد المدير بعزله
إذا لم يفعل، فعرض المدير كتابته على مجلس الأوقاف الأعلى، فقرر المجلس إجابة
القاضي بأن هذا أمر لا يعنيه وأنه ليس في اللائحة أمر مخالف للشرع كما قرر
مفتي الديار المصرية وأن الأمر العالي الصادر في سنة 1291 يجيز للمجلس سنِّ
أمثال هذه اللائحة ولهذا يرفض المجلس طلب القاضي ، ويأمر بتنفيذها كما قررها.
هكذا ورد في جريدة الأهرام ، وقد أنذرت القاضي بأن لا يلعب بالنار ونعم ما
فعلت ، فإن الأمر خطير كما ذكرت.
هذا نموذج من سيرة هذه المحكمة بعد ماعمّت البلوى ، وعظمت الشكوى
يلعب أهلها بالنار ويسخطون الديار ويفقدون الأنصار ، ولا تسمع من علماء الأزهر
كلمة إنكار بل يُخْرِبُون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه الحادي والستون)
قولكم: وأجمعوا على جواز شراء اللحمان والأطعمة والثياب وغيرها من
غير سؤال حلها، اكتفاءً بتقليد أربابها. جوابه: إن هذا ليس تقليدًا في حكم من
أحكام الله ورسوله من غير دليل، بل هو اكتفاء بقبول قول الذابح والبائع، وهو
اقتداء واتباع لأمر الله ورسوله، حتى لو كان الذابح والبائع يهوديًّا أو نصرانيًّا أو
فاجرًا؛ اكتفينا بقوله في ذلك، ولم نسأله عن أسباب الحل، كما قالت عائشة رضي
الله عنها: يا رسول الله ، إن ناسًا يأتوننا باللحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم
لا؟ فقال: (سمّوا أنتم وكلوا) فهل يسوغ لكم تقليد الكفار والفُسَّاق في الدين كما
تقلدونهم في الذبائح والأطعمة؟ ؟
فدعوا هذه الاحتجاجات الباردة وادخلوا معنا في الأدلة الفارقة بين الحقّ
والباطل؛ لنعقد معكم عقد الصلح للأمّة على تحكيم كتاب الله وسنة رسوله،
والتحاكم إليهما، وترك أقوال الرجال لهما، وأن ندور مع الحق حيث كان، ولا
نتخير إلى شخص معين غير الرسول، ونرد قول من خالفه كله، وإلا فاشهدوا بأنَّا
أول منكر لهذه الطريقة وراغب عنها، وداع إلى خلافها، والله المستعان.
(الوجه الثاني والستون)
قولكم: لو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء، ضاعت مصالح
العباد، وتعطلت الصنائع والمتاجر، وهذا مما لا سبيل إليه شرعًا وقدرًا! !
فجوابه من وجوه:
(أحدها) إن من رحمة الله - سبحانه - بنا ورأفته أنه لم يكلفنا بالتقليد ، فلو
كلفنا به؛ لضاعت أمورنا، وفسدت مصالحنا؛ لأنَّا لم نكن ندري مَنْ نُقَلِّد من
المُفْتِين والفقهاء، وهم عدد فوق المئين، ولا يدري عددهم في الحقيقة إلا الله ، فإن
المسلمين قد ملأوا الأرض شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالاً، وانتشر الإسلام بحمد الله
وفضله، وبلغ مبلغ الليل، فلو كلفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العَنَت والفساد، ولكلفنا
بتحليل الشيء وتحريمه، وإيجاب الشيء وإسقاطه معًا؛ إن كلفنا بتقليد كل عالم.
وإن كلفنا بتقليد الأعلم فالأعلم؛ فمعرفة ما دل عليه القرآن والسنن من الأحكام أسهل
بكثير كثير من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شروط التقليد، ومعرفة ذلك مشقة
على العالم الراسخ فضلاً عن المقلد الذي هو كالأعمى. وإن كلفنا بتقليد البعض ،
وكان جعل ذلك إلى تشهينا واختيارنا؛ صار دين الله تبعًا لإرادتنا واختيارنا
وشهواتنا وهو عين المحال، فلا بد أن يكون ذلك راجعًا إلى أمر الله ورسوله باتباع
قوله وتلقي الدين من يديه، وذلك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله
وأمينه على وحيه، وحجته على خلقه. ولم يجعل الله هذا المنصب لسواه بعده أبدًا.
(الثاني) إن بالنظر والاستدلال صلاح الأمور لا ضياعها ، وبإهماله وتقليد
من يخطىء ويصيب إضاعتها وفسادها كما الواقع شاهد به.
(الثالث) إن كل واحد منا مأمور بأن يصدق الرسول فيما أخبر به ويطيعه
فيما أمر، وذلك لا يكون إلا بعد معرفة أمره وخبره، ولم يوجب الله سبحانه من ذلك
على الأمة إلا ما فيه حفظ دينها ودنياها، وصلاحها في معاشها ومعادها، وبإهمال
ذلك تضيع مصالحها، وتفسد أمورها، فما خراب العالم إلا بالجهل، ولا عمارته
إلا بالعلم، وإذا ظهر العلم في بلد أو محلة قلّ الشرّ في أهلها، وإذا خفي العلم هناك؛
ظهر الشر والفساد، ومن لم يعرف هذا فهو ممن لم يجعل الله له نورًا، قال
الإمام أحمد: (لولا العلم كان الناس كالبهائم) . وقال: (الناس أحوج إلى العلم
منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو
ثلاثًا ، والعلم يحتاج إليه في كل وقت) .
(الرابع) إن الواجب على كل عبد أن يعرف ما يخصه من الأحكام، ولا
يجب عليه أن يعرف ما لا تدعوه الحاجة إلى معرفته، وليس في ذلك إضاعة
مصالح الخلق، ولا تعطيل لمعاشهم؛ فقد كان الصحابة - رضي الله - عنهم
قائمين بمصالحهم ومعاشهم، وعمارة حروثهم، والقيام على مواشيهم، والضرب في
الأرض لمتاجرهم، والصفق بالأسواق، وهم أهدى العلماء الذين لا يشق في العلم
غبارهم.
(الخامس) إن العلم النافع هو الذي جاء به الرسول دون مقدرات الأذهان
ومسائل الخرص والألغاز، وذلك بحمد الله تعالى أيسر شيء على النفوس تحصيله
وحفظه وفهمه، فإنه كتاب الله الذي يسره للذكر، كما قال - تعالى -: {وَلَقَدْ
يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17) قال البخاري في صحيحه:
قال مطر الوراق: (هل من طالب علم فيعان عليه؟)، ولم يقل: فتضيع عليه
مصالحه، وتتعطل عليه معايشه، وسنة رسول الله وهي - بحمد الله - مضبوطة
محفوظة، أصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث. وفرشها
وتفاصيلها نحو أربعة آلاف. وإنما الذي هو في غاية الصعوبة والمشقة مقدرات
الأذهان، وأغلوطات المسائل، والفروع والأصول التي ما أنزل الله بها من سلطان
التي كل ما لها في نمو وزيادة وتوليد ، والدين كل ما له في غربة ونقصان، والله
المستعان.
(الوجه الثالث والستون)
قولكم: قد أجمع الناس على تقليد الزوج لمن يهدي إليه زوجته ليلة الدخول،
وعلى تقليد الأعمى في القبلة والوقت، وعلى تقليد المؤذنين ، وتقليد الأئمة في
الطهارة وقراءة الفاتحة، وتقليد الزوجة في انقطاع دمها ووطئها وتزويجها؛ فجوابه
ما تقدم أن استدلالكم بهذا من باب المغاليط، وليس هذا من التقليد المذموم على لسان
السلف والخلف في شيء، ونحن لم نرجع إلى أقوال هؤلاء لكونهم أخبروا بها، بل
لأن الله ورسوله أمر بقبول قولهم، وجعله دليلاً على ترتيب الأحكام، فإخبارهم
بمنزلة الشهادة والإقرار. فأين في هذا ما يسوغ التقليد في أحكام الدين.
والإعراض عن القرآن والسنن، ونصب رجل بعينه ميزانًا على كتاب الله
وسنة رسوله؟ ؟
(الوجه الرابع والستون)
قولكم: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقبة بن الحرث أن يقلّد
المرأة التي أخبرته بأنها أرضعته وزوجته. فيالله العجب! !
فأنتم لا تقلّدونها في ذلك، ولو كانت إحدى أمهات المؤمنين ولا تأخذون
بهذا الحديث، وتتركونه تقليدًا لمن قلدتموه دينكم، وأي شيء في هذا مما يدل
على التقليد في دين الله؟ وهل هذا إلا بمنزلة قبول خبر المخبر عن أمر حسي يخبر
به ، وبمنزلة قبول الشاهد؟ وهل كان مفارقة عقبة لها تقليدًا لتلك الأمة أو
اتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث أمره بفراقها؟ فمن بركة
التقليد أنكم لا تأمرونه بفراقها، وتقولون: هي زوجتك حلال وطئها! ! ! وأما نحن
فمن حقوق الدليل علينا أن نأمر من وقعت له هذه الواقعة بمثل ما أمر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم لعقبة بن عامر سواء، ولا نترك الحديث تقليدًا
لأحد.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سوريا والإسلام
(8)
مسيحو سوريا في أيام الدولة العربية
زعم الكاتب المتحمس أن المسلمين لما استولوا على سوريا ابتدؤوا يسومون
السوريين الذل والهوان، قال: (ولو أن المسلمين حكماء كباقي الفاتحين الذين
اكتسحوا سوريا أو بالحري كالسلوقيين والرومانيين الذين لم يكونوا يتعرضون
للسوريين بما يمس عوائدهم وعواطفهم دينيًّا وأدبيًّا، بل كانوا يكتفون بحفظ
سيطرتهم السياسية عليهم؛ لو كانوا حكماء، ولم يصنعوا بهم ما صنعوه؛ لما كانوا
لاقوا من السوريين إلا الملاطفة والطاعة.
ثم طفق يسرد الألفاظ التي يعرفها من اللغة تدلّ على الظلم والاستعباد ، والتي
لا تدل أيضًا؛ ليعظم الأمر، ويهيج تعصب نصارى سوريا على مسلميها ، وإن
كان هذا التعصب يضرّ قومه أكثر مما يضر المسلمين، وهو لا يدري لسكره بخمرة
حرية أمريكا التي سمحت له بأن يشتم الإسلام والمسلمين بما شاء قال:
(ولا يظن القارئ أن تعصب المسلمين ضد المسيحين في أيام الدولة
العربية كان بسيطًا كما نفهمه اليوم؛ كلا، بل كان استبدادًا مطلقًا واستعبادًا.
تصور أيها القارئ حالة أمة يهجم عليها في منازلها وكنائسها ، ويقتل بعضها
ويسبي البعض الآخر. تصور حالة أمة يحكم عليها تارة بهدم معابدها وأخذ عشر
بيوتها، وطورًا بأخذ أحسن دورها ومنازلها لتجعل جوامع أو بيوتًا للقضاء، تصور
حال أمة يحكم عليها بأن تعلق على أبواب منازلها صور الشياطين تمييزًا لها عن
بيوت المسلمين، تصور حال أمة يحكم عليها بأن تقفل مكاتبها ويمنع أولادها
وصغارها من تعلم القراءة، تصور حال أمة لم يكن يقبل أحد من أفرادها في
دواوين الحكومة المتسلطة عليها، تصور حال أمة لم يكن يسمح لها بأن تظهر
صلبانها في الأسواق ولا بأن تدق جرسًا. تلك هي حالة المسيحيين في سوريا في
أيام الدولة العربية. ولقد حدثت هذه وجرى هذا الضغط في أيام جميع الخلفاء
الأمويين والعباسيين ، وكان في الأكثر أيام جعفر المتوكل على الله في سنة
849 هـ أو بِالحَرِيّ عندما ابتدأت العربية أن تشعر بضعفها وانحطاطها.
وجوابنا عن هذا كله كلمة فذة نضطر أن نصرح بها مع الأسف ، وهي أن
هذا اختراع محض ، فلا هجوم على البيوت والكنائس ولا صور شياطين، ولا منع
من تعليم، فإن العرب كانوا أرحم الدول الفاتحة وأعدلها ، وكانت سيرتهم نقيض ما
قال هذا المتعصب بشهادة عدول المؤرخين، حتى من الإفرنج الذين أوجدوا الغلوَّ
في التعصب الديني في الأرض، ثم طفق بعضهم يذمّه في هذا الزمان. ومن شاهد
ما تعامل به دولهم المسلمين وغيرهم في مثل بلاد جاوه؛ لشاهد ما تقشعر منه
الأبدان، وهو فوق ما اخترعته مخيلة رفول سعادة، وألصقته بالعرب ، وقد تقدم
في رد النبذة السابعة السابقة ما يؤيد قولنا هذا في العرب وسنزيده بيانًا.
أما السلوقيون فقد كانت أيامهم كلها حروبًا داخلية وخارجية من أول عهدها
إلى آخره، وكان فيها من الفظائع ما فيها، ومن أقبحها ضغط الملك أنطوخيوس
الثاني على اليهود، ونهب هيكلهم ، وإسرافه في قتلهم، ونهب أموالهم في القرن
الثاني قبل المسيح، وقد سَلَّم هذا الملك الفاجر الذي لقب نفسه باسم (الله) زمام
حكومته لنسائه وندمائه؛ فأسرع الخراب والدمار بسوء سيرتهن وسيرتهم إلى سوريا،
ولم تنطف من بعده نيران الثورات والفتن في سوريا. ولما ولي أنطيخوس الثالث
المُلْك انبرى لإخماد ثورة مولو القائد السوري الذي استقل في جهة نهر الفرات
فانتهز الفرصة أخيوس، وخرج عليه، وادعى الملك لنفسه وهو من بيت سلقوس
مؤسس المملكة ، فشغله ذلك عن محاربة مصر زمنًا ثم عاد إليها بعدما تولاها
بطليموس الخامس وهو صغير السن، وكان استولى على فلسطين وفينيقية وسوريا
السفلى. ثم زوج بطليموس ابنته ، ووعده بأن يعطيه فلسطين وسوريا السفلى مهرًا
لها، ولكنه لم يصدق. وبعد محاربة الرومانيين إياه وثورة أرمينيا عليه نهب هياكل
آسيا ومعابدها فاحتوى جميع كنوزها وخزائنها، ثم طالبه ملك مصر بما وعد به
أبوه من مهر ابنته وهو فلسطين وسوريا السفلى ، فأغار على مصر حتى إذا كاد
يظفر صده الرومانيون ، فعاد ينتقم من اليهود بما جنى غيرهم؛ فهجم على بيت
المقدس ونهب الهيكل ، وعاث فيه فسادًا ولطخه بالنجاسة. ولم تكن حال من بعده
بأمثل من حاله، فهذا نموذج من سيرة السلوقيين الذين فضلهم هذا المتعصب الغالي
على العرب الذين كانوا أفضل الفاتحين في الأرض وأرفقهم وأعدلهم. إن سوريا لم
يستقر لها في أيامها قرار، ولم تكنها مع الأمان دار، حتى إن السوريين سئموا
الحياة في آخر عهدهم، ودعوا طغرانيس ملك أرمينية فولوه عليهم فأمنت البلاد،
واطمأن العباد، فأين مثل هذه الثورات والفتن في أيام العرب؟ لقد استولى على
سوريا كثير من الفاتحين الغرباء فلم يمتزج السوريون بأحد امتزاجهم بالعرب،
وحسبك أنهم استعربوا فلم تعد تعرف لهم جنسية غير العربية. فاعتبر بتعصب هذا
الكاتب الذي أراه بغض المسلمين النور ظلمة، والسعادة شقاءً، والخير شرًّا،
والحق باطلاً، وانظر هل يتيسر لنا جمع كلمة السوريين ، وفيهم مثل هذا يكتب
وينشر ويفرق ويمزق، ويقنع المسلمين بأن سيرة سلفهم توجب عليهم عداوة
النصارى، ولا يجد له من أبناء ملته مفندًا ولا رادعًا، حتى كأن الجميع معه في
آرائه مع علمهم بخطأه واختلاقه.
أما الرومانيون فتاريخهم معروف، وعتوهم وجورهم غير مجهول ، ومؤرخو
النصارى يعترفون بما قاسى السوريون منهم عامة، وما قاسى اليهود منهم خاصة،
لا سيما بعد ما دخل الرومانيون في النصرانية. ولقد تنصر معظم أهل سوريا،
ولكن لم يتجنسوا بالجنسية الرومانية، ولم يكن حكامهم يعاملونهم على اتفاقهم معهم
في الدين معاملة المساواة؛ لذلك أدهشهم عدل الإسلام، ومساواته فكانوا عونًا
للمسلمين على الروم في حربهم، ولولا ذلك لم يتم للعرب فتح سوريا في تلك المدة
القصيرة. قال البلاذري في فتوح البلدان:
حدثني أبو جعفر الدمشقي قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما
جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردّوا
على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: (قد شُغلنا عن نصرتكم
والدفع عنكم، فأنتم على أمركم) فقال أهل حمص: (لولايتكم وعدلكم أحب إلينا
مما كنا فيه من الظُّلم والغَشَم، ولندفعنَّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض
اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حِمص إلا أن نغلب ونجهد؛
فأغلقوا الأبواب وحرسوها. وكذلك فعل أهل المدن التي صُولحت من النصارى
واليهود وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا على ما كنَّا عليه وإلا
فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد.
وقال في كتابه فتوح الشام يذكر إقبال الروم على المسلمين، ومسير أبي
عبيدة من حمص: (فلما أراد أن يشخص دعا حبيب بن مسلمة فقال: اردد على
القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنَّا أخذنا منهم فإنه لا ينبغي لنا إذ لا
نمنعهم (أي نحميهم) أن نأخذ منهم شيئًا، وقل لهم: نحن على ما كنَّا عليه فيما
بيننا وبينكم من الصلح، ولا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا أموالكم
لأنا كرهنا أن نأخذ أموالكم، ولا نمنع بلادكم (أي نحميها) ، فلما أصبح أمر الناس
بالمسير إلى دمشق، ودعا حبيب بن مَسْلَمَة القوم الذين كانوا أخذوا منهم المال؛
فأخذ يرده عليهم، وأخبرهم بما قال أبو عبيدة ، وأخذ أهل البلد يقولون: ردَّكم الله
إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم ، ولكن - والله - لو كانوا هنا ما
ردوا إلينا، بل غصبونا، وأخذوا مع هذا ماقدروا عليه من أموالنا) اهـ، وقد
أورد هذين الشاهدين الشيخ شبلي النعماني في رسالة الجِزْيَة والإسلام، واستدل
بهما وبغيرهما على أن الجِزْية جزاء الحماية والدفاع (راجع ص 356 من السنة
الأولى) .
التعدي على الكنائس وجعلها مساجد لم يكن مما يستحله المسلمون كما يعلم من
له أدنى اطلاع من مسألة عمرو بن العاص مع العجوز القبطية في مصر. وهؤلاء
بنو أمية أظلم العرب قد اقترفوا هذا الإثم مرة، والقصة تدل على كونها من الظلم
على عدل العرب، وبعدهم عن مثل هذا الاعتداء، قال البلاذري في فتوح البلدان
ما نصه:
قالوا: ولما ولي معاوية بن أبي سفيان أراد أن يزيد كنيسة يوحنا في المسجد
بدمشق؛ فأبى النصارى ذلك فأمسكه، ثم طلبها عبد الملك بن مروان في أيامه
للزيادة في المسجد ، وبذل لهم مالاً فأبوا أن يسلموها إليه. ثم إن الوليد بن عبد
الملك جمعهم في أيامه، وبذل لهم مالاً عظيمًا على أن يعطوه إياها فأبوا، فقال:
لئن لم تفعلوا لأهدمنها، فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين ، إن من هدم كنيسة جُنَّ،
أو أَصَابته عَاهة. فَأَحْفَظَهُ قَوْلُهُ ودعا بمعول، وجعل يهدم بعض حيطانها بيده،
وعليه قباء خز أصفر ، ثم جمع الفعلة والنقاضين فهدمها في المسجد. فلما استخلف
عمر بن عبد العزيز شكا النصارى إليه ما فعل الوليد بهم في كنيستهم، فكتب إلى
عامله يأمره برد ما زاده في المسجد عليهم ، فكره أهل دمشق ذلك ، وقالوا: نهدم
مسجدنا بعد أن أَذنا فيه وصلينا ، ويُرَدُّ بِيعَةً؟ وفيهم يومئذ سليمان بن حبيب
المحاربي وغيره من الفقهاء، وأقبلوا على النصارى فسألوهم أن يُعْطَوْا جميع
كنائس الغوطة التي أخذت عُنوة، وصارت في أيدي المسلمين على أن يصفحوا
عن كنيسة يوحنا ويمسكوا عن المطالبة بها فرضوا بذلك وأعجبهم ، فكتب به إلى
عمر فسره وأمضاه. اهـ
فهذه الحادثة على ما فيها من خروج الوليد عن نهج الشرع لفسقه المشهور،
تدل على شدة محافظة العرب على الكنائس، وحقوق الذمّة فإن ملكهم اضطر إلى
كنيسة ليوسع بها مسجدًا رأى أن يكون أثرًا من آثاره، وموضعًا لفخاره، بعدما
عجز عنه سلفه حُرْمة للذمة، فجاء بنفسه يسترضي النصارى، ويبذل لهم المال
الكثير، وهم يأبون عليه ويهددونه بالوقوع في العاهات، ويخاطبونه بكلمة (الجنون) ،
فهل يصح أن يكون هذا شأن رعية مظلومة مضطهدة مع الفاتحين
القاهرين، أم هو إدلال من عوملوا بالعدل والمساواة، والحِلم والإناة، ولم يتعودوا
أن يهضموا حقًّا، ولا أن يسلبوا رزقًا.
قال البلاذري: حدثني هشام بن عمار أنه سمع المشايخ يذكرون أن عمر بن
الخطاب عند مقدمه الجابية من أرض دمشق مر بقوم مجذومين من النصارى ، فأمر
أن يعطوا من الصدقات، وأن يُجْرَى عليهم القوت. وقال هاشم: سمعت الوليد بن
مسلم يذكر أن خالد بن الوليد شرط لأهل الدير الذي يعرف بدير خالد شرطًا في
خراجهم بالتخفيف عنهم حين أعطوه سُلَّمًا صعد عليه ، فأنفذه لهم أبو عبيدة. ولما
فرغ أبو عبيدة من أمر مدينة دمشق سار إلى حمص فمر ببعلبك ، فطلب أهلها
الأمان والصلح فصالحهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وكتب لهم:
(بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب أمان لفلان بن فلان وأهل بعلبك
رومها وفرسها وعربها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم داخل المدينة
وخارجها وعلى أرحائهم ، وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم وبين خمسة عشر ميلاً،
ولا ينزلوا قرية عامرة؛ فإذا مضى شهر ربيع وجمادى الأولى ساروا إلى حيث
شاءوا، ومن أسلم منهم؛ فله ما لنا وعليه ما علينا. ولتجارهم أن يسافروا إلى
حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها، وعلى من أقام منهم الجزية والخراج،
شهد الله وكفى بالله شهيدًا) .
أرأيت الفاتح الذي يصالح خصمه مثل هذا الصلح اللين يقال فيه: إنه قاس
يهدم الكنائس ويأخذ المنازل. وقد أسلفنا في النبذة الماضية أنهم كانوا يَدعُون لهم
أملاكهم حتى ما يأذنون للمسلمين أن يشاركوهم فيها ولو بحق! ! !
أما الدواوين التي زعم المتعصب أن نصارى سوريا كانوا محرومين منها فقد
كانت في الحقيقة في أيديهم خاصة ، فإن عمر لما دَوَّنَ الدواوين؛ كانت دواوين
بلاد الشام بالرومية لكثرة الكتاب في الروم وقلتهم في العرب ، مع عدم عناية
المسلمين باحتكار أعمال الدولة، ومن المشهور أنها ظلت على ذلك إلى عهد
عبد الملك بن مروان، وانظر ما قاله المؤرخون في سبب نقلها إلى العربية. ونختار
عبارة البلاذري لقدمه وتحريه في الرواية ، قال:
(قالوا: ولم يزل ديوان الشام بالرومية حتى وَلِي عبد الملك بن مروان،
فلما كانت سنة 18 أمر بنقله، وذلك أن رجلاً من كُتَّاب الروم احتاج أن يكتب شيئًا
فلم يجد ماءً فبال في الدواة؛ فبلغ ذلك عبد الملك فأدبه ، وأمر سليمان بن سعد بنقل
الديوان فسأله أن يعينه بخراج الأردن سنة ففعل ذلك؛ فلم تنقض السنة حتى فرغ
من نقله. وأتى به عبد الملك فدعا بسرجون كاتبه ، فعرض ذلك عليه فغمه،
وخرج من عنده كئيبًا ، فلقيه قوم من كُتَّاب الروم ، فقال: اطلبوا المعيشة من غير
هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم.
فانظر هذا؛ تجد أنه لم يكن التعصب الديني مانعًا للعرب من جعل جميع
رجال الدين من الروم يكتبون بلغتهم ما شاءوا حتى أساءوا ، ووجد عبد الملك أنه
ينبغي للدولة العربية أن تكون دواوينها عربية ففعل. ولم يمنع ذلك غير المسلمين
أن يكونوا عمّالاً لهم بعد تعلم العربية ، ولا سيما في دولة بني العباس، بل كان مثل
إبراهيم الصابي يرتقي إلى أن يكون وزير القلم، ولسان الخليفة العباسي، وكم
ارتقى مثله من سائر الطوائف (راجع مقالات الإسلام والنصرانية في المجلد
الخامس) .
وإنك لتجد الكاتب مع تعصبه قد تفلت منه القلم، فأومأ إلى الفرق بين أول
عهد العرب وآخره، ولا شك أن أول عهدهم خير؛ لأنهم كانوا أشدّ تمسكًا بالإسلام
وعملاً به، وهذا يثبت أن الإسلام نفسه علّة للعدل؛ لأنه يأمر به. قال تعالى:
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة:
8) أي لا تحملنَّكم عداوة بعض الناس لكم على عدم العدل فيهم، بل اعدلوا مع العدو
وغيره.
(للرد بقية)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
تعدد الزوجات
(س20) نجيب أفندي قناوي أحد طلبة الطب في أمريكا: يسألني كثير من
أطباء الأمريكانيين وغيرهم عن الآية الشريفة {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ
مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: 3)، ويقولوا: كيف
يجمع المسلم بين أربع نسوة؟ فأجبتهم على مقدار ما فهمت من الآية مدافَعَةً عن
ديني، وقلت: إن العدل بين اثنتين مستحيل؛ لأنه عندما يتزوج الجديدة لا بد أن
يكره القديمة؛ فكيف يعدل بينهما؟ والله أمر بالعدل ، فالأحسن واحدة. هذا ما قلته،
وربما أقنعهم، ولكن أريد منكم التفسير وتوضيح هذه الآية، وما قولكم في الذين
يتزوجون ثنتين وثلاثًا؟
(ج) إن الجماهير من الإفرنج يرون مسألة تعدد الزوجات أكبر قادح في
الإسلام متأثرين بعاداتهم، وتقليدهم الديني، وغلوهم في تعظيم النساء بما يسمعون
ويعملون عن حال كثير من المسلمين الذين يتزوجون بعدة زوجات لمجرد التمتع
الحيواني من غير تقيد بما قيد القرآن به جواز ذلك، وبما يعطيه النظر من فساد
البيوت التي تتكون من زوج واحد وزوجات لهن أولاد يتحاسدون ويتنازعون
ويتباغضون. ولا يكفي مثل هذا النظر للحكم في مسألة اجتماعية كبرى كهذه المسألة
بل لا بد قبل الحكم من النظر في طبيعة الرجل، وطبيعة المرأة والنسبة بينهما من
حيث معنى الزوجية والغرض منها، وفي عدد الرجال والنساء في الأمم أيهما أكثر،
وفي مسألة المعيشة المنزلية، وكفالة الرجال للنساء أو العكس أواستقلال كل من
الزوجين بنفسه. وفي تاريخ النشوء البشري؛ ليعلم هل كان الناس في طور البداوة
يكتفون بأن يختص كل رجل بامرأة واحدة. وبعد هذا كله ينظر هل جعل القرآن
مسألة تعدد الزوجات أمرًا دينيًّا مطلوبًا، أم رخصة تباح للضرورة بشروط مضيق
فيها؟
أنتم معشر المشتغلين بالعلوم الطبيعية أعرف الناس بالفرق بين طبيعة الرجل
والمرأة، وأهم التباين بينهما. ومما نعلم بالإجمال أن الرجل بطبيعته أكثر طلبًا
للأنثى منها له، وإنه قلما يوجد رجل عنين لا يطلب النساء بطبيعته، ولكن يوجد
كثير من النساء اللاتي لا يطلبن الرجال بطبيعتهن، ولولا أن المرأة مغرمة بأن
تكون محبوبة من الرجل، وكثيرة التفكير في الحظوة عنده؛ لوجد في النساء من
الزاهدات في التزوج أضعاف ما يوجد الآن. وهذا الغرام في المرأة هو غير الميل
المتولد من داعية التناسل في الطبيعية فيها وفي الرجل، وهو الذي يحمل العجوز
والتي لا ترجو زواجًا على التزين بمثل ما تتزين به العذراء المُعْرِضة، والسبب
عندي في هذا معظمه اجتماعي، وهو ما ثبت في طبيعة النساء واعتقادهن القرون
الطويلة من الحاجة إلى حماية الرجال وكفالتهم، وكون عناية الرجل بالمرأة على
قدر حظوتها عنده وميله إليها، أحس النساء بهذا في الأجيال الفطرية؛ فعملن له
حتى صار ملكة موروثة فيهن، حتى إن المرأة لتبغض الرجل ويؤلمها مع ذلك أن
يعرض عنها، ويمتهنها، وإنهن ليألمن أن يرين رجلاً، ولو شيخًا كبيرًا أو راهبًا
متبتلاً، ولا يميل إلى النساء، ولا يخضع لسحرهن، ويستجيب لرقيتهن؛ ونتيجة
هذا أن داعية النسل في الرجل أقوى منها في المرأة فهذه مقدمة أُولى.
ثم إن الحكمة الإلهية في ميل كل من الزوجين الذكر والأنثى إلى الآخر الميل
الذي يدعو إلى الزواج، هو التناسل الذي يحفظ به النوع ، كما أن الحكمة في شهوة
التغذي هي حفظ الشخص، والمرأة تكون مستعدة للنسل نصف العمر الطبيعي
للإنسان وهو مائة سنة، وسبب ذلك أن قوة المرأة تَضْعُف عن الحمل بعد الخمسين
في الغالب فينقطع دم حيضها ، وبيوض التناسل من رحمها، والحكمة ظاهرة في
ذلك والأطباء أعلم بتفصيلها، فإذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من امرأة واحدة كان
نصف عمر الرجال الطبيعي في الأمة معطلاً من النسل الذي مقصود الزواج؛ إذا
فُرِض أن الرجل يقترن بمن تساويه في السن، وقد يضيع على بعض الرجال أكثر
من خمسين سنة إذا تزوج بمن هي أكبر منه، وعاشا العمر الطبيعي، كما يضيع
على بعضهم أقل من ذلك إذا تزوج بمن هي أصغر منه، وعلى كل حال يضيع
عليه شيء من عمره، حتى لو تزوج، وهو في سن الخمسين بمن هي في الخامسة
عشرة يضيع عليه شيء من خمس عشرة سنة. وما عساه يطرأ على الرجال من
مرض أو هِرَم عاجل أو مَوْت قبل بلوغ السن الطبيعي يطرأ مثله على النساء قبل
سن اليأس. وقد لاحظ هذا الفرق بعض حكماء الإفرنج فقال: لو تركنا رجلاً واحدًا
مع مائة امرأة سنة واحدة كاملة، فأكثر لجاز أن يكون لنا من نسله في السنة مائة
إنسان، وأما إذا تركنا مائة رجل مع امرأة واحدة سنة كاملة فأكثر ما يمكن أن يكون
لنا من نسلهم إنسان واحد، والأرجح أن هذه المرأة لا تنتج أحدًا لأن كل واحد من
الرجال يفسد حرث الآخر. ومن لاحظ عظم شأن كثرة النسل في سنة الطبيعة وفي
حال الأمم يظهر له عظم شأن هذا الفرق. فهذه مقدمة ثانية.
ثم إن المواليد من الإناث أكثر من الذكور في أكثر بقاع الأرض. وترى
الرجال على كونهم أقل من النساء يعرض لهم من الموت والاشتغال عن التزوج
أكثر مما يعرض للنساء، ومعظم ذلك في الجندية والحروب، وفي العجز عن القيام
بأعباء الزواج ونفقاته لأن ذلك يطلب منهم في أصل نظام الفطرة، وفيما جرت
عليه سنة الشعوب، والأمم إلا ما شذ، فإذا لم يبح للرجل المستعد للزواج أن
يتزوج بأكثر من واحدة؛ اضطرت الحال إلى تعطيل عدد كثير من النساء ومنعهن
من النسل الذي تطلبه الطبيعة والأمة منهن، وإلى إلزامهن بمجاهدة داعية النسل في
طبيعتهن وذلك يُحدث أمراضًا بدنية وعقلية كثيرة يمسي بها أولئك المسكينات عالة
على الأمة وَبَلاءً فيها ، بعد أن كُنَّ نعمة لها، أو إلى إباحة أعراضهن والرضى
بالسفاح وفي ذلك من المصائب عليهن - لا سيما إذا كن فقيرات - ما لا يرضى به
ذو إحساس بشري. وإنك لتجد هذه المصائب قد انتشرت في البلاد الإفرنجية،
حتى أعيا الناس أمرها وطفق أهل البحث ينظرون في طريق علاجها فظهر لبعضهم
أن العلاج الوحيد هو إباحة تعدد الزوجات. ومن العجائب أن ارتأى هذا الرأي
غير واحدة من كاتبات الإنكليز، وقد نقلنا ذلك عنهن في مقالة نشرت في المجلد
الرابع من المنار (تراجع في ص741) وإنما كان هذا عجيبًا؛ لأن النساء ينفرون
من هذا الأمر طبعًا، وهنَّ يحكمن بمقتضى الشعور والوجدان، أكثر مما يحكمن
بمقتضى المصلحة والبرهان، بل إن مسألة تعدد الزوجات صارت مسألة
وجدانية عند الرجال الإفرنج تبعًا لنسائهم، حتى لنجد الفيلسوف منهم لا يقدر أن
يبحث في فوائدها وفي وجه الحاجة إليها بحث بريء من الغرض طالبًا كشف
الحقيقة - فهذه مقدمة ثالثة.
وأنتقل بك من هذا إلى اكتناه حال المعيشة الزوجية، وأُشْرِفُ بِكَ على حكم
العقل والفطرة فيها، وهو أن الرجل يجب أن يكون هو الكافل للمرأة، وسيد
المنزل لقوة بدنه وعقله. وكونه أقدر على الكسب والدفاع، وهذا هو معنى قوله
تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا
مِنْ أَمْوَالِهِم} (النساء: 34) وأن المرأة يجب أن تكون مُدَبِّرة المنزل ومربِّية
الأولاد لرقتها وصبرها، وكونها كما قلنا من قبل واسطة في الإحساس والتعقل بين
الرجل والطفل؛ فيحسن أن تكون واسطة لنقل الطفل الذكر بالتدريج إلى الاستعداد
للرجوليَّة، ولجعل البنت كما يجب أن تكون من اللطف والدعة والاستعداد لعملها
الطبيعي، وإن شئت فقل في بيان هذه المسألة أن البيت مملكة صغرى كما أن
مجموع البيوت هو المملكة الكبرى ، فللمرأة في هذه المملكة إدارة نظارة الداخلية
والمعارف، وللرجل مع الرياسة العامة إدارة نظارات المالية والأشغال العمومية
والحربية والخارجية، وإذا كان من نظام الفطرة أن تكون المرأة في البيت، وعملها
محصورًا فيه لضعفها عن العمل الآخر بطبيعتها، وبما يعوقها من الحَبَل والولادة،
ومداراة الأطفال، وكانت بذلك عالة على الرجل، كان من الشطط تكليفها بالمعيشة
الاستقلالية، بله السيادة والقيام على الرجل. وإذا صح أن المرأة يجب أن تكون في
كفالة الرجل ، وأن الرجال قوَّامون على النساء كما هو ظاهر فماذا نعمل والنساء
أكثر من الرجال عددًا؟ ألا ينبغي أن يكون في نظام الاجتماع البشري أن يباح
للرجل الواحد كفالة عددة نساء عند الحاجة إلى ذلك لا سيما في أعقاب الحروب التي
تجتاح الرجال، وتدع النساء لا كافل للكثير منهن ولا نصير؟ ويزيد بعضهم على
هذا أن الرجل في خارج المنزل يتيسير له أن يستعين على أعماله بكثير من الناس،
ولكن المنزل لا يشتمل على غير أهله، وقد تمس الحاجة إلى مساعد للمرأة على
أعماله الكثيرة كما تقضي قواعد علم الاقتصاد في توزيع الأعمال، ولايمكن أن
يكون من يساعدها في البيت من الرجال، لما في ذلك من المفاسد فمن المصلحة على
هذا أن يكون في البيت عدة نساء مصلحتهن عمارته - كذا قال بعضهم - فهذه
مقدمة رابعة.
وإذا رجعت معي إلى البحث في تاريخ النشوء البشري في الزواج والبيوت
(العائلات) أو في الازدواج والإنتاج، نجد أن الرجل لم يكن في أمة من الأمم يكتفي
بامرأة واحدة كما هو شأن أكثر الحيوانات، وليس هذا بمحل لبيان السبب الطبيعي
في ذلك، بل ثبت بالبحث أن القبائل المتوحشة كان فيها النساء حقًّا مشاعًا للرجال
بحسب التراضي، وكانت الأمّ هي رئيسة البيت ، إذ الأب غير متعين في الغالب،
وكان كلما ارتقى الإنسان يشعر بضرر هذا الشيوع والاختلاط ، ويميل إلى
الاختصاص؛ فكان أول اختصاص في القبيلة أن يكون نساؤها لرجالها دون رجال
قبيلة أخرى، وما زالوا يرتقون حتى وصلوا إلى اختصاص الرجل الواحد بعدة نساء
من غير تقيد بعدد مُعين، بل حسب ما يتيسر له فانتقل بهذا تاريخ البيوت
(العائلات) إلى دور جديد، صار فيه الأب عمود النسب وأساس البيت كما بَيَّنَ ذلك
بعض علماء الألمان والإنكليز المتأخرين في كتب لهم في تاريخ البيوت (العائلات) ،
ومن هنا يزعم الإفرنج أن نهاية الارتقاء هو أن يختص الرجل الواحد بامرأة
واحدة وهو مُسَلَّم، وينبغي أن يكون هذا هو الأصل في البيوت، ولكن ماذا يقولون
في العوارض الطبيعية والاجتماعية التي تُلجئ إلى أن يكفل الرجل عدة من النساء
لمصلحتهن، ومصلحة الأمة، ولاستعداده الطبيعي لذلك؟ وليخبرونا: هل رضي
الرجال بهذا الاختصاص وقنعوا بالزواج الفردي في أمة من الأمم إلى اليوم؟ أيوجد
في أوربا في كل مائة ألفٍ رجلٌ لا يزني؟ كلا، إن الرجل بمقتضى طبيعته
وملكاته الوراثية لا يكتفي بامرأة واحدة؛ إذ المرأة لا تكون في كل وقت مستعدة
لغشيان الرجل إياها، كما أنها لا تكون في كل وقت مستعدة لثمرة هذا الغشيان
وفائدته، وهو النسل، فَدَاعية الغَشَيَان في الرجل لا تنحصر في وقت دون وقت،
ولكن قبوله من المرأة محصور في أوقات، وممنوع في غيرها. فالداعية الطبيعية
في المرأة لقبول الرجل إنما تكون مع اعتدال الفطرة عُقَيْب الطُّهر من الحيض،
وأما في حال الحيض، وحال الحمل والأثقال فتأبى طبيعتها ذلك، وأظن أنه لولا
توطين المرأة نفسها على إرضاء الرجل، والحظوة عنده، ولولا ما يحدثه التذكر
والتخيل للذة وقعت في إبانها من التعمل لاستعادتها - لا سيما مع تأثير التربية
والعادات العمومية - لكان النساء يأبَيْن الرجال في أكثر أيام الطُّهر التي يكن فيها
مستعدات للعلوق الذي هو مبدأ الإنتاج. ومن هذا التقرير يُعلم أن اكتفاء الرجل
بامرأة واحدة تستلزم أن يكون في أيام طويلة مندفعًا بطبيعته إلى الإفضاء إليها،
وهي غير مستعدة لقبوله، أظهرها أيام الحيض والإثقال بالحمل والنفاس، وأقلها
ظهور أيام الرضاع لا سيما الأولى والأيام الأخيرة من أيام طُهْرها، وقد يُنَازَع في
هذه لغلبة العادة فيها على الطبيعة.
وأما اكتفاء المرأة برجل واحد، فلا مانع منه
في طبيعتها ولا لمصلحة النسل ، بل هو الموافق لذلك؛ إذ لا تكون المرأة في حال
مستعدة فيها لملامسة الرجل، وهو غير مستعد ما داما في اعتدال مزاجهما، ولا
نذكر المرض؛ لأن الزوجين يستويان فيه، ومن حقوق الزوجية وآدابها أن يكون
لأحدهما شغل بتمريض الآخر في وقت مصابه عن السعي وراء لذَّته. وقد ذكر عن
بعض محققي الأوربيين أن تعدد الأزواج الذي وُجِدَ في بعض القبائل المتوحشة كان
سببه قلة البنات لوأد الرجال إياهنَّ في ذلك العصر - فهذه مقدمة خامسة.
بعد هذا كله أَجِلْ طرفك معي في تاريخ الأمة العربية قبل الإسلام؛ تجد أنها
كانت قد ارتقت إلى أن صار فيها الزواج الشرعي هو الأصل في تكوُّن البيوت،
وأن الرجل هو عمود البيت وأصل النسب ، وأن تعدد الزوجات لم يكن محدودًا
بعدد، ولا مقيدًا بشرط، وأن اختلاف عدة رجال إلى امرأة واحدة يعدُّ من الزنا
المذموم، وأن الزنا على كثرته يكاد يكون خاصًّا بالإماء، وقلما يأتيه الحرائر إلا
أن يأذن الرجل لامرأته بأن تستبضع من رجل يعجبها ابتغاء نجابة الولد ? وأن
الزنا لم يكن مَعِيبًا ولا عارًّا صدوره من الرجل، وإنما يعاب من حرائر النساء.
وقد حظر الإسلام الزنا على الرجال والنساء جميعًا حتى الإماء ، فكان من الصعب
جدًّا على الرجال قبول الإسلام والعمل به مع هذا الحجر بدون إباحة تعدد الزوجات،
ولولا ذلك لاستُبِيح الزنا في بلاد الإسلام، كما هو مباح في بلاد الإفرنج. فهذه مقدمة
سادسة.
ولا تنس مع العلم بهذه المسائل أن غاية الترقي في نظام الاجتماع وسعادة
البيوت (العائلات) أن يكون تكون البيت من زوجَيْن فقط، يعطي كل منها الآخر
ميثاقًا غليظًا على الحب والإخلاص والثقة والاختصاص ، حتى إذا ما رزقا أولادًا
كانت عنايتهما مُتّفقة على حسن تربيتهم ليكونوا قرة عين لهما ، ويكونا قدوة صالحة
لهم في الوفاق والوئام والحب والإخلاص - فهذه مقدمة سابعة.
فإذا أنعمت النظر في هذه المقدمات كلها، وعرفت أصلها؛ تنجلي لك هذه
النتيجة أو النتائج: هي أن الأصل في السعادة الزوجية، والحياة البيتية هو أن
يكون للرجل زوجة واحدة، وأن هذا غاية الارتقاء البشري في بابه والكمال الذي
ينبغي أن يربى الناس عليه ويقتنعوا به، وأنه قد يعرض له ما يحول دون أخذ
الناس كلهم به، وتمس الحاجة إلى كفالة الرجل الواحد أكثر من امرأة واحدة، وأن
ذلك قد يكون لمصلحة الأفراد من الرجال ، كأن يتزوج الرجل بامرأة عاقر فيضطر
إلى غيرها لأجل النسل، ويكون من مصلحتها أو مصلحتهما معًا أن لا يطلقها
وترضى بأن يتزوج بغيرها لا سيما؛ إذا كان ملكًا أو أميرًا أو تدخل المرأة في سن
اليأس ، ويرى الرجل أنه مستعد للإعقاب من غيرها، وهو قادر على القيام بأود
غير واحدة وكفاية أولاد كثيرين وتربيتهم، أو يرى أن المرأة الوحدة لا تكفي
لإحصانه؛ لأن مزاجه يدفعه إلى كثرة الإفضاء ومزاجها بالعكس ، أو أن تكون فاركًا
منشاصًا (أي تكره الزوج) أو يكون زمن حيضها طويلاً ينتهي إلى خمسة عشر
يومًا في الشهر، ويرى نفسه مضطرًا لأحد الأمرين التزوج بثانية، أو الزنا الذي
يضيع الدين والمال والصحة، ويكون شرًّا على الزوجة من ضم واحدة إليها مع
العدل بينهما كما هو شرط الإباحة في الإسلام ، ولذلك استبيح الزنا في البلاد التي
منع فيها التعدد بالمرة.
وقد يكون التعدد لمصلحة الأمة كأن تكثر فيها النساء كثرة فاحشة كما هو
الواقع في كل البلاد الإنكليزية ، أو تقع حرب مجتاحة تذهب بالألوف الكثيرة من
الرجال فيزيد عدد النساء زيادة فاحشة تضطرهن إلى الكسب والسعي في حاج
الطبيعة، ولا بضاعة لأكثرهن في الكسب إلا أبضاعهن. وإذا هن بذلنها فلا يخفى
على الناظر ما وراءها من الشقاء على المرأة لا كافل لها إذا اضطرت إلى القيام
بأود نفسها، وأود وَلَدْ ليس له والد، لا سيما عقيب الولادة ومدة الرضاعة، بل
الطفولية كلها. وما قال من قال من كاتبات الإنكليز بوجوب تعدد الزوجات إلا بعد
النظر في حال البنات اللواتي يشتغلن في المعامل وغيرها من الأماكن العمومية ،
وما يعرض لهنّ من هتك الأعراض والوقوع في الشقاء والبلاء، ولكن لَمَّا كانت
الأسباب التي تبيح تعدد الزوجات هي ضرورات تتقدر بقدرها، وكان الرجال إنما
يندفعون إلى هذا الأمر في الغالب إرضاء للشهوة لا عملاً بالمصلحة، وكان الكمال
الذي هو الأصل المطلوب عدم التعدد؛ جعل التعدد في الإسلام رخصةً لا واجبًا ولا
مندوبًا لذاته، وقيد بالشرط الذي نطقت به الآية الكريمة ، وأكدته تأكيدًا مكررًا
فتأملها.
قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ
النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى
أَلَاّ تَعُولُوا} (النساء: 3)
…
إلخ؛ فأنت ترى أن الكلام كان في حقوق الأيتام،
ولَمَّا كان في الناس من يتزوج باليتيمة الغنية ليتمع بمالها، ويهضم حقوقها لضعفها،
حذَّر الله من ذلك وقال: إن النساء أمامكم كثيرات ، فإذا لم تثقوا من أنفسكم
بالقسط في اليتامى إذا تزوجتم بهنّ فعليكم بغيرهنّ، فذكر مسألة التعدد بشرطها
ضمنًا لا استقلالاً، والإفرنج يظنون أنها مسألة من مهمات الدين في الإسلام ثم قال:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: 3)، ولم يكتف بذلك حتى قال: {ذَلِكَ
أَدْنَى أَلَاّ تَعُولُوا} (النساء: 3) أي أن الاكتفاء بواحدة أدنى وأقرب لعدم
العول، وهو الجور والميل إلى أحد الجانبين دون الآخر ، من عال الميزان إذا مال،
وهو الأرجح في تفسير الكلمة، فأكد أمر العدل، وجعل مجرد توقع الإنسان عدم
العدل من نفسه كافّ في المنع من التعدد، ولا يكاد يوجد أحد يتزوج بثانية لغير
حاجة وغرض صحيح يأمن الجور؛ لذلك كان لنا أن نحكم بأن الذّواقين الذين
يتزوجون كثيرًا لمجرد التنقل في التمتع يوطنون أنفسهم على ظلم الأُولَى، ومنهم
من يتزوج لأجل أن يغيظها ويهينها، ولا شك أن هذا محرم في الإسلام لِمَا فيه من
الظلم الذي هو خراب البيوت، بل وخراب الأمم، والناس عنه غافلون باتباع
أهوائهم.
هذا ما ظهر لنا الآن في الجواب، كتبناه بقلم العجلة على أننا كنا قد أرجأنا
الجواب لنمعن في المسألة، ونراجع كتابًا أو رسالة في موضوعها لأحد علماء
ألمانيا قيل لنا: إنها ترجمت وطبعت فلم يتيسر لنا ذلك فإن بقي في نفس السائل
شيء فليراجعنا فيه والله الموفق والمعين.
* * *
الأعطار الإفرنجية والكحول
طهارتها
(س21) أحمد أفندي عزمي بمصر:
الأستاذ يعلم أن أنواع الأعطار المستحضرة بمعامل أوربا شغلت حيزًا كبيرًا
جدًّا في ميدان التجارة. وعلى تلك النسبة شاع استعمالها بين العموم خصوصًا
العائلات، ولا أزيد الأستاذ علمًا بأني ربما جاورت في بعض صفوف الصلاة
رجالاً قد عمّ المسجد روائح ما بأجسامهم وملابسهم من تلك الأعطار، على أننا نعلم
من الفن ومن المشاهدة أن تلك المستحضرات جميعًا يدخلها الكؤول (إسبرتو) ،
ويقولون: إن الكؤول نجس بإجماع المذاهب الأربعة لتخمره، وهو ينتج نجاسة
كافة أنواع هذه الأعطار؛ فإذا صحّت هذه النتيجة تبعًا لصحة المقدمة تكون مصيبة
الأمة الإسلامية من ذلك عظيمة جدًّا، ولا غرابة في ذلك؛ إذا علمنا أن الطهارة
شرط في كثير من العبادات على أن الكل - يعني كل المسلمين - واقعون في
هذه المصيبة، وهم يظنون أنهم يحسنون صُنعًا.
فهل للأستاذ - حفظه الله للإسلام - أن يخوض هذا الموضوع، ويهدينا فيه
إلى سواء السبيل فإن كنا مصيبين ثبتنا على ما نحن عليه ، وإلا أعلنتم ذلك الخطأ
العام ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. والله يحفظكم لنا.
(ج) إن هذه الأعطار طاهرة، ومعاذ الله أن يجعل دين الفطرة الطَّيْب
قذارة، وقد بَيَّنَّا ذلك بالتفصيل في المجلد الرابع من المنار، وقد انتقد ذلك جاهل،
فرددنا عليه في نبذتَيْنِ عنوانهما (طهارة الكحول. والرد على ذي فضول)
فليراجع ذلك كله (في ص 500 و821 و 866)
* * *
حضور عبادة النصارى
(س 22) أ. ف. في أسيوط يقيم المبعوثون الأمريكانيون في مدارسهم
حفلة سنوية يلقي فيها التلامذة خطبًا علمية ومناظرات أدبية ، ويدعون لحضور
هذه الحفلة من شاءوا من المسلمين وغيرهم، ومن المعلوم أنهم في أول كل عمل
لهم صلاة دينية كالتي يقيمونها عند افتتاح الحفلة. وهذه الصلاة عبارة عن
دعاء يطلبون به من المسيح بصفته ابنًا لله وفاديًا للناس (نعوذ بالله) أن يبارك
الحفلة والمحتفلين. فهل يجوز للمسلمين إجابة هذه الدعوة، وحضور هذه الحفلة ?
وعند الصلاة يقفون جميعًا بهيئة هذه الصلاة، فهل يجوز قيام المسلمين معهم مجاراة
لهم؟ ثم إذا لم يقفوا، هل عليهم في سماع هذه الألفاظ وهذا الدعاء من حرج؟
أفتونا ولكم الفضل.
(ج) مجاراة المسلم لغير المسلم وتشبهه به في عمل من أعمال دينه
الخاصة به لا يجوز بحال، والمنصوص في كتب الفقه أنه يعتبر رِدَّةً، وخروجًا من
الإسلام إذا كان بحيث يشتبه بهم، ويظن أنه منهم، وأما مجرد رؤية صلاتهم ،
وسماع دعائهم من غير مشاركتهم فيه فلا يحرم، إلا على من يخشى عليه أن يميل
إلى دينهم من الأطفال ونحوهم، ودعاء غير الله شرك في الإسلام وإن كان ما
يدعى به خير، وقال الفقهاء: إن الرضى بالشرك شرك، ولكن ما كل متفرج
على شيء يرضى به، وما زال المسلمون في السلف والخلف يطَّلعون على عبادات
أهل الملل كلهم، ولم نعلم أن أحدًا من الأئمة حرّم ذلك، أو أنه ورد في الكتاب أو
السنة حظر له، وقد بلغنا أن بعض جُهّال المسلمين الذين يحضرون احتفالاتهم في
المدارس وغيرها يتشبّهون بهم في صلاتهم، ويجارونهم فيها ، ولكنّك لا تجد من
الذين دفعتهم الأهواء إلى تحريم ما أحل الله من طعام ولباس؛ لأنه تشبه بالنصارى
على زعمهم - وما التشبه في المباح بردَّة ولا مُحَرَّم إن فرض - لا ينكرون على
الجُهَّال عملهم هذا، ولا يقولون كلمة في نصيحتهم (وأهواء النفس ضروب) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(المنار في تونس)
كُتبَ في إحدى الجرائد الفرنسية التونسية مقالة لكاتب تونسي، جاء فيها أن
بعض المشايخ يخافون على نفوذهم أن يسقط إذا رسخت تعاليم المنار في نفوس
طلاّب العلم، وأنهم رأوا لذلك أن يقاوموه بالمحل والسعاية، وقد أكدت الجرائد
العربية أن هذا الخبر غير صحيح وهو المعقول؛ إذ لو أنكر أحد المشايخ شيئًا في
المنار لكتبوا إلينا؛ فإن النهي عن المنكر فرض ، ولا عذر لهم في السكوت عنه مع
تصريحنا مرارًا بأن من أنكر علينا شيئًا فإننا ننشر إنكاره، وقد فعلنا ذلك تكرارًا،
ولا يكفي في الإنكار على مجلة سيارة في الآفاق الانتقاد عليها أمام بعض الناس أو
تنفيرهم عن قراءتها مع بقاء المنكر ثابتًا منتشرًا، بل لا بد من اطلاع جميع القرّاء
على الانتقاد ودليله، فكل من ينتقد المنار في شيء خصوصًا أمر الدين وهو لم يكتب
بذلك؛ فهو فاسق بسكوته عن نهينا وإرشادنا ، والفاسق لا يقبل قوله المؤمنون.
***
(المناظر والمنار)
نحن نُجِلُّ المناظر ونعتقد إخلاصه في خدمة بلاده وبراءته من التعصب الذميم
ونحمد منه إطلاق حرية البحث للكُتَّاب وإن خالفوا رأيه، وإنما لُمْنَاه على نشر
مقالات (سوريا والإسلام) لأنها ضارة وهادمة لما يبني المناظر وغيره من بناء
التأليف بين أهل الوطن من حيث لا تثبت حقيقة. ولم نَلُمْه لأنها طعن في الإسلام
كما لم نلمه على نشر الرد على مقالات الإسلام والنصرانية مع علمنا بما فيها من
الخطأ ، فليتأمل الرصيف العادل في الفرق، ولانعهده إلا محبًّا للحق.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه الخامس والستون)
قولكم: قد صرّح الأئمة بجواز التقليد كما قال سفيان: (إذا رأيت الرجل
يعمل العمل وأنت ترى غيره فلا تتهمه) ، وقال محمد بن الحسن: (يجوز للعالم
تقليد من هو أعلم منه ، ولا يجوز له تقليد مثله) ، وقال الشافعي في غير موضع:
(قلته تقليدًا لعمر ، وقلته تقليدًا لعثمان ، وقلته تقليدًا لعطاء) .
جوابه من وجوه
(أحدها) أنكم إن ادّعيتم أن جميع العلماء صرّحوا بجواز التقليد، فدعوى
باطلة فقد ذكرنا من كلام الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في ذمّ التقليد وأهله
والنهي عنه ما فيه كفاية، وكانوا يسمّون المقلد (الإمعة) ، و (محقب دينه) كما
قال ابن مسعود: (الذي يحقب دينه الرجال) وكانوا يسمونه الأعمى الذي لا
بصيرة له، ويسمون المقلدين: (أتباع كل ناعق، يميليون مع كل صائح، لم
يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق) ، كما قال فيهم أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه في الجنة -، وكما سماه الشافعي (حاطب ليل) ،
ونهى عن تقليده وتقليد غيره، فجزاه الله عن الإسلام خيرًا، لقد نصح لله
ورسوله والمسلمين، ودعا إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأمر باتباعهما دون قوله،
وأمر بأن تعرض أقواله عليهما فيقبل منها ما وافقهما، ويرد ما خالفهما، نحن نناشد
المقلدين، هل حفظوا في ذلك وصيته وأطاعوه أم عصوه وخالفوه؟ وإن ادعيتم أن
من العلماء من جوز التقليد فكان ما رأى الثاني أن هؤلاء الذين حكيتم عنهم أنهم
جوّزوا التقليد لمن هو أعلم منهم من أعظم الناس رغبة عن التقليد، واتباعًا للحجة،
ومخالفة لمن هو أعلم منهم، فأنتم مقرون أن أبا حنيفة أعلم من محمد بن الحسن،
ومن أبي يوسف وخلافهما له معروف، وقد صح عن أبي يوسف أنه قال: (لا
يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا) .
(الثاني) إنكم منكرون أن يكون من قلّدتموه من الأئمة مقلّدًا لغيره أشد
الإنكار ، وقمتم وتقدمتم في قول الشافعي: (قلته تقليدًا لعمر ، وقلته تقليدًا لعثمان ،
وقلته تقليدًا لعطاء) ، واضطربتم في حمل كلامه على موافقة الاجتهاد أشد
الاضطراب ، وادعيتم أنه لم يقلد زيدًا في الفرائض، وإنما اجتهد فوافق اجتهاده
اجتهاده، ووقع الخاطر على الخاطر، حتى وافق اجتهاده في مسائل المعادة، حتى
في الأكدرية، وجاء الاجتهاد (حذو القذة بالقذة) فكيف نصبتموه مقلدًا ههنا؟ ولكن
هذا التناقض جاء من بركة التقليد، ولو اتبعتم العلم من حيث هو، واقتديتم بالدليل
وجعلتم الحجة إمامًا لما تناقضم هذا التناقض، وأعطيتم كل ذي حق حقه.
(الثالث) إن هذا من أكبر الحجج عليكم فإن الشافعي قد صرّح بتقليد عمر
وعثمان مع كونه من أئمة المجتهدين، وأنتم مع إقراركم بأنكم من المقلدين لا ترون
تقليد واحد من هؤلاء، بل إذا قال الشافعي، وقال عمر وعثمان وابن مسعود فضلاً
عن سعيد بن المسيب، وعطاء والحسن تركتم تقليد هؤلاء، وقلدتم الشافعي،
وهذا عين التناقض فخالفتموه من حيث زعمتم أنكم قلدتموه، فإن قلدتم الشافعي
فقلدوا من قلده الشافعي، فإن قلتم: بل قلدناهم فيما قلدهم فيه الشافعي، قيل: لم
يكن ذلك تقليدًا منكم لهم، بل تقليدًا له، وإلا فلو جاء عنهم خلاف قوله لم تلتفتوا
إلى أحد منهم.
(الرابع) إن من ذكرتم من الأئمة لم يقلدوا تقليدكم، ولا سوغوه ألبتة، بل
غاية ما نُقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة، لم يظفروا فيها بنص عن الله
ورسوله، ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلدوه، وهذا فعل أهل العلم
وهو الواجب، فإن التقليد إنما يباح للمضطر، وأما من عدل عن الكتاب والسنة
وأقوال الصحابة ، وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد؛ فهو كمن
عَدَلَ إلى الميْتة مع قدرته على المُذَكَّى، فإن الأصل أن لا يقبل قول الغير إلا بدليل
إلا عند الضرورة ، فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم.
(الوجه السادس والستون)
قولكم: قال الشافعي: رأي الصحابة لنا خير من رأينا لأنفسنا؛ جوابه من
وجوه:
أحدها: إنكم أول مخالف لقوله ، ولا ترون رأيهم لكم خيرًا من رأي الأئمة
لأنفسهم، بل تقولون: رأي الأئمة لأنفسهم خير لنا من رأي الصحابة لنا؛ فإذا
جاءت الفُتْيا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسادات الصحابة، وجاءت الفُتْيا
عن الشافعي وأبي حنيفة ومالك تركتم ما جاء عن الصحابة، وأخذتم ما أفتى به
الأئمة، فهلا كان رأي الصحابة لكم خيرًا من رأي الأئمة لكم لو نصحتم أنفسكم.
الثاني: إن هذا لا يوجب صحة تقليد من سوى الصحابة؛ لِما خصهم الله به
من العلم والفهم والفضل والفقه عن الله ورسوله، وشاهدوا الوحي والتلقي عن
الرسول بلا واسطة، ونزول الوحي بلغتهم وهي عَضَّة محضة لم تُشب
ومراجعتهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أشكل عليهم من القرآن
والسنة، حتى يجليه لهم، فمن له هذه المزية بعدهم؟ ومن شاركهم في هذه المنزلة
حتى يقلد كما يقلدون؟ فضلاً عن وجوب تقليده، وسقوط تقليدهم أو تحريمه كما
صرح به غلاتهم ، وتالله إن بَين علم الصحابة وعلم من قلدتموه من الفضل كما بيننا
وبينهم، وفي ذلك قال الشافعي في الرسالة القديمة بعد أن ذكرهم، وذكر من
تعظيمهم وفضلهم: (وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به
علم، وآراءهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا ، قال الشافعي: وقد أثنى الله على
الصحابة في القرآن والتوراة والانجيل، وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما
ليس لأحد بعدهم.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم (خير الناس قَرْنِي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق
شهادة أحدهم يمينه، ويمنيه شهادته) وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال:
قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسبّوا أصحابي فلو أن أحدكم
أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه) .
وقال ابن مسعود: (إن الله نظر في قلوب عباده فوجد قلب محمد خير قلوب
العباد، ثم نظر في قلوب الناس بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد
فاختارهم لصحبته، وجعلهم أنصار ووزراء نبيه، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند
الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح) .
وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتباع سنة خلفائه
الراشدين، وبالاقتداء بالخليفتين، وقال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا برسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابن
مسعود بالعلم، ودعا لابن عباس بأن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، وضمه
إليه مرة وقال: (اللهم علمه الحكمة) وناول عمر في المنام القدح الذي شرب منه،
حتى رأى الري يخرج من تحت أظفاره وأوله بالعلم، وأخبر أن القوم إن أطاعوا
أبا بكر وعمر يرشدوا، وأخبر لو كان بعده نبي لكان عمر، وأخبر أن الله جعل
الحق على لسانه وقلبه وقال: (رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد) يعني
عبد الله بن مسعود وفضائلهم ومناقبهم، وما خصهم الله به من العلم والفضل أكثر
من أن يذكر فهل يستوي تقليد هؤلاء ، وتقليد من بعدهم ممن لا يُدانيهم ولا
يقاربهم؟
الثالث: إنه لم يختلف المسلمون أنه ليس قول من قلّدتموه حجّة، وأكثر
العلماء بل الذي نصّ عليه من قلدتموه أن أقوال الصحابة يجب اتباعها، ويحرم
الخروج منها كما سيأتي حكاية ألفاظ الأئمة في ذلك، وأبلغهم فيه الشافعي، ونُبَيِّن
أنه لم يختلف مذهبه (أن قول الصحابي حجة) ونذكر نصوصه في الجديد على
ذلك إن شاء الله، وأن مَنْ حكى عنه قولَيْنِ في ذلك؛ فإنما حكى ذلك بلازم قوله لا
بصريحه وإذا كان قول الصحابي حجَّة فقبول قول حجة واجب مُتعيَّن، وقبول
قول من سواه أحسن أحواله أن يكون سائغًا، فقياس أحد القائلين على الآخر من
أفسد القياس وأبطله.
(الوجه السابع والستون)
قولكم: وقد جعل الله - سبحانه - في فِطَر العباد تقليد المتعلمين للمعلمين
والأستاذين في جميع الصنائع والعلوم إلى آخره، فجوابه أن هذا حقٌّ لا ينكره
عاقل، ولكن كيف يستلزم ذلك صحة التقليد في دين الله، وقبول قول المتبوع بغير
حجة توجب قبول قوله، وتقديم قوله على قول من هو أعلم منه؟ وترك الحجة
لقوله، وترك أقوال أهل العلم جميعًا من السلف والخلف لقوله ، فهل جعل الله ذلك
في فطرة أحد من العالمين؟ ثم يقال: بل الذي فطر الله عليه عباده طلب الحجة،
والدليل المثبت لقول المدعي، فذكر الله سبحانه في فِطَر الناس أنهم لا يقبلون قول
من لَمْ يُقم الدليل على صحة قوله، ولأجل ذلك أقام الله سبحانه البراهين القاطعة،
والحجج الساطعة، والأدلَّة الظاهرة، والآيات الباهرة على صدق رسله إقامة
للحجة وقطعًا للمعذرة، هذا وهم أصدق خلقه وأعلمهم وأبرهم وأكملهم، فأُتُوا
بالآيات والحجج والبراهين مع اعتراف أممهم لهم بأنهم أصدق الناس، فكيف
يقبل قول من عداهم بغير حجة توجب قبول قوله؟ والله تعالى إنما أوجب قبول
قولهم بعد قيام الحجة، وظهور الآيات المُسْتَلْزِمة لصحَّة دعواهم لِما جعل في
فِطر عباده من الانقياد للحجة وقبول صاحبها، وهذا أمر مشترك بين جميع أهل
الأرض مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، الانقياد للحجة، وتعظيم صاحبها وإن
خالفوه عنادًا وبغيًا، فلفوات أغراضهم بالانتقاد، ولقد أحسن القائل:
أَبِن وجه قول الحق في قلب سامع
…
ودعه فنور الحق يسري ويشرق
سيؤنسه رشدا وينسى نفاره
…
كما نسي التوثيق من هو مطلق
ففطرة الله وشرعه من أكبر الحجج على فرقة التقليد.
(الوجه الثامن والستون)
قولكم: إن الله سبحانه فاوت بين ذوي الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان،
فلا يليق بحكمته وعدله أن يعرض على كل أحد معرفة الحق بدليله في كل مسألة إلى
آخره ، فنحن لا ننكر ذلك، ولا ندّعي أن الله فرض على جميع خلقه معرفة الحق
بدليله في كل مسألة من مسائل الدِّين دِقَّه وجُلَّه، وإنما أنكرنا ما أنكره الأئمة ومن
تقدمهم من الصحابة والتابعين، وما حدث في الإسلام بعد انقضاء القرون الفاضلة
في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من
نصب رجل واحد، وجعل فتاويه بمنزلة نصوص الشارع، بل يقدمها عليه، ويقدم
قوله على أقوال من بعد رسول الله - صلى الله عليه آله وسلم - من جميع أمته
والاكتفاء بتقليده عن تلقي الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله، وهذا مع تضمنه للشهادة
بما لا يعلم الشاهد، والقول بلا علم والإخبار عمَّن خالفه، وإن كان أعلم منه أنه
غير مصيب للكتاب والسنة، ومتبوعي هو المصيب، أو يقول: كلاهما مصيب
للكتاب والسنة، وقد تعارضت أقوالهما ، فيجعل أدلة الكتاب والسنة متعارضة
متناقضة ، والله ورسوله يحكم بالشيء وضده في وقت واحد، ودينه تبع لآراء
الرجال، وليس له في نفس الأمر حكم مُعيَّن، فهو إما أن يسلك هذا المسلك أو
يخطِّئ من خالف متبوعه، ولا بد له من واحد من الأمرين، وهذا من بركة التقليد
عليه.
إذا عرف هذا فنحن إنما قلنا ونقول لك: إن الله تعالى أوجب على العباد
أن يتقوه بحسب استطاعتهم، وأصل التقوى معرفة ما يتقى ، ثم العمل به فالواجب
على كل عبد أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه، ثم
يلتزم طاعه الله ورسوله، وما خفي عليه فهو فيه أُسوة أمثاله ممن عدا الرسول،
فكل أحدٍ سواه قد خفي عليه بعض ما جاء به ولم يخرجه ذلك عن كونه من أهل
العلم، ولم يكلفه الله ما لا يطيق من معرفة الحق واتباعه.
قال أبوعمرو: (ليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا وقد
خفي عليه بعض أمره؛ فإذا أوجب الله سبحانه على كل أحد ما استطاعه وبَلَغته
قواه من معرفة الحق وعذره فيما خفي عليه منه فأخطأه أو قلّد فيه غيره - كان ذلك
هو مقتضى حكمته وعدله ورحمته ، بخلاف ما لو فرض على العباد تقليد من
شاءوا من العلماء، وأن يختار كل منهم رجلاً ينصبه معيارًا على وحيه ، ويُعْرِض
عن أخذ الأحكام واقتباسها من مشكاة الوحي، فإن هذا ينافي حكمته ورحمته
وإحسانه، ويؤدي إلى ضياع دينه وهجر كتابه وسنة رسوله كما وقع فيه من وقع)
وبالله التوفيق.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والفتوى
التوارث مع اختلاف الدين
(س23) أحمد أفندي صبحي في (أشمون) : ما هو حكم شريعتنا الغرَّاء
في شخص كان مسيحيًّا فأسلم ثم توفي والده فهل يرثه أم لا؟
(ج) إنه لا توراث مع اختلاف الدين ومن المسلمين من يمتعض لمثل
حادثة السؤال ، ولكنهم إذا تنبّهوا إلى أن هذه المسألة من المعاملات التي تحكم فيها
الشريعة العادلة بالمساواة ، ولاحظوا أنه لا يرضيهم أن يرث الولد إذا تنصّر أو
تهود مثلاً من أبيه المسلم، يظهر لهم أيجب عليهم أن يرضوا بالعكس ويفتخروا
بشريعة المساواة والعدل؟
* * *
خلود الكافر في النار
(س24) محمد أفندي حلمي كاتب سجون (حلفا) : هل حقيقة أن الكافر
والنصراني يخلدون في النار أم كيف؟ اهـ بنصه
(ج) نطق القرآن العزيز بأن الكافرين والمنافقين يخلدون في النار ، وأكد
هذا في آيات ، وجاء في غيرها استثناء {إِلَاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} (هود: 107)
فأولوه بعدة وجوه كما أولوا إطلاق الخلود في جزاء القتل في قوله تعالى: {وَمَن
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} (النساء: 93) الآية ، قالوا: إن
المراد بالخلود طول المكث ، واستقر رأي المتكلمين على أن من بلغته دعوة نبيّنا
صلى الله عليه وسلم على وجه صحيح يحرك إلى النظر ، فلم يؤمن عنادًا للحق أو
جمودًا على تقليد آبائه وقومه، فهو خالد في الدار التي أعدها الله تعالى للكافرين
والمجرمين ، وأشهر أسمائها (النار) وإن لم تكن كلها نارًا ، بل فيها برد وزمهرير
كما ورد. واستثنوا من هذا الحكم من بلغته الدعوة فنظر فيها وبحث بجدٍّ وإخلاص
فلم يظهر له الحق ، ومات على ذلك غير مقصّر في النظر، فقالوا: إنه يعذر عند
الله تعالى لأنه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) .
* * *
إرم ذات العماد
(س 25) ومنه: ماهو تفسير {إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ} (الفجر: 7)
(ج) إرم في الآية عطف بيان لقوله (عاد) أو بدل منه في وجه ، والمعنى:
عاد التي هي إرم؛ أي: عاد الأُولَى وهي قبيلة عربيّة وفيها بعث الله هودًا عليه
السلام ، ولهم في وصفها بذات العماد أقوال منها: عن ابن عباس ومجاهد أن
المراد بالعماد: القدود الطوال ، وينقل أن طولهم كان يبلغ اثني عشر ذراعًا ولعله
مبالغة، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن المراد بذات العماد ذات الخيام التي
تقام على الأعمدة ، وكانوا أهل بادية وحلّ وترحال وهذا هو المتبادر. وقيل: ذات
العماد ذات الرفعة على الاستعارة وهو بعيد. وما في كتب القصص وبعض كتب
التفسير من أن إرم مدينة صفتها كيت وكيت فهو من خُرافات القَصَّاصين.
* * *
إحياء النبي للموتى
(س26) ومنه: موضح في الجزء الخامس من مجلة المنار (ص189 س
17) أن سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام أحيا ابن جابر ولم أجد ما يثبت لي ذلك ،
فأرجو تفصيل هذه العبارة.
(ج) يريد السائل الجزء الخامس من المجلد السادس ، والعبارة هناك خطأ ،
والصواب (شاة جابر) والحديث أخرجه أبو نعيم وفيه أنه صلى الله عليه وسلم
أحيا الشاة بعد ما طبخت وأكلت والحديث ضعيف ، وإنما ذكرناه هناك على سبيل
التمثيل ، وأخرج البيهقي في (الدلائل) أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم
وقال: لا أومن بك حتى تحيي لي ابنتي ، وفيه أنه جاء قبرها وسألها هل تحب
الرجوع إلى الدنيا فأجابته
…
إلخ، وهو كسابقه لا يصح له سند ، على أن نقل
هذه المعجزات هو أقوى مما ينقل أهل الكتاب وغيرهم عن أنبيائهم ، إذ لا أسانيد لهم
يعرف تاريخ رجالها، فيقال هذا سند صحيح أو ضعيف.
* * *
الحكمة في اختلاف الناس في الدين
(27)
حسين أفندي الجمل معاون البريد في (بورسعيد) : ما الحكمة في
خلق العالم مؤمنين وكفَّارًا؟ ولِمَ لَمْ يكونوا كلهم مؤمنين.
(ج) لم يخلق الله كافرًا قط ، بل كلٌّ مولود يولد على الفطرة ، فأبواه
يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كما ورد في الحديث، خلق الله تعالى هذا الإنسان
وأعطاه المشاعر والعقل، وجعله مستعدًّا لمعرفة الخير والشرّ، والحقّ والباطل
بنظره واستدلاله؛ ليجازى على كسبه وعمله، ويكون هو سبب سعادة نفسه أو
شقائها، ولو خلقه لا كسب له ولا إرادة ولا اختيار لكان إما ملكًا روحانيًّا أو حيوانًا
أعجمًا لا مؤمنًا ولا كافرًا ، فمن يريد أن يكون نوع الإنسان على غير ما هو عليه،
فهو يريد في الحقيقه عدم هذا النوع بالمرَّة.
* * *
إثبات استدارة الأرض ودورانها من القرآن
(س 28) ومنه: هل في القرآن الشريف ما يؤيد قول القائلين باستدارة
الأرض ودورانها حول الشمس؟
(ج) نعم إنهم يؤيدون هذه الدعوى بمثل قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى
النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5) فإن هذا يكون نصًّا صريحًا في
كروية الأرض؛ إذ به يتصور التفاف النور والظلام عليها ، وما أحسن هذا التعبير
وألطفه. ومثله قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف:
54) وهذا ظاهر في الدلالة على كرويّة الأرض أيضًا، ورأيت مختار باشا الغازي
- وهو من تعرف في البراعة بالعلوم الفلكية - يقول: إن هذا دليل قطعي على
الكروية وعلى دوران الأرض معًا، إذ لا يستقيم المعنى بدونهما ، على أنه ليس من
مقاصد الدين بيان حقائق المخلوقات وكيفيّاتها ، وإنما يذكر ذلك في القرآن للعبرة
والاستدلال على قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته.
أما كون حدوث الليل والنهار بسبب حركة الأرض فلا نعرف فيه نصًّا
صريحًا في القرآن ، ولكن يمكن أن يستنبط منه استنباطًا ، وفي كتاب (صفوة
الاعتبار) للشيخ محمد بيرم الخامس التونسي فصل في هذا الموضوع، تكلَّم فيه أولاً
على إثبات كروية الأرض بكلام الحكماء والفقهاء والصوفية والاستدلال عليه ببعض
الآيات القرآنية ، ثم ذكر خلاف الحكماء في سبب الليل والنهار، هل هو حركة
الأرض على محورها تحت الشمس ، أم حركة الشمس بفلكها حول الأرض؟ وأن
الثاني هو الذي كان مرجحًا عند المتقدمين ومنهم المسلمون ، ثم قال ما نصه:
(ثم أحيي المذهب الأول ، وتأكد الآن عند علماء العصر بهذا الفن ، وأنكره
المنتسبون للعلم من المسلمين، ظنًّا أن المذهب الأول من عقائد الإسلام ، وأن المذهب
الآخر مصادم للنصوص ، والحق أن ليس شيئًا من هذا ولا من ذلك هو مما يجب
اعتقاده عندنا ، وإنما المدار عندنا على الاعتبار بالآثار المشاهدة من الليل والنهار
وأشباه ذلك ، وإثبات جريان للشمس ، وأما كيفيته فلا تعلق لها بالعقائد ، وسير
الشمس على كلا المذهبين؛ لأن المتأخرين يثبتون لها حركة رحوية على نفسها ،
وحركة ثانية على منطقة لها أيضًا ، ثم حركة ثالثة لها مع جميع ما يتبعها من
الكواكب حول شيء مجهول كما أن هذه الدورة مجهولة المستقر أيضًا ، وكأنها
المشار إليها بقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} (يس: 38) وذلك أن (المستقر) أتى بلفظه مُنْكَرًا للإبهام فيفيد أنه غير معلوم للخلق ، ولهذا أُتِي به مضافًا إلى الشمس باللام فكان منكرًا ، ولم يقل: مستقرها
بالإضافة المفيدة للتعريف لأن ذلك المستقر غير معروف ، وعلماء هذا الفن الآن
من غير المسلمين مقرون بذلك ، فهو حينئذ دليل إجماعي بيننا وبينهم.
(ثم إن كون حدوث الليل والنهار هو من آثار دوران الأرض ربما كانت
آيات عزيزة تشير إليه ، فمنها الآية المتقدمة - يعنى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ
الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الرعد: 3) فإنه تعالى
بعد أن ذكر الدلائل على وجوده من السماء؛ أي: بقوله قبل هذه الآية: {اللَّهُ الَّذِي
رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (الرعد: 2) إلخ - ذكر الدلائل الأرضية ، وخرط فيها الليل والنهار، فيشير ذلك إلى
أنها آثار الأرض؛ لأن وجودهما وإن كان يستلزم الشمس والأرض معًا ، لكن
تخصيصه بالانخراط في الدلائل الأرضية يدل على تعلق خاصٍّ ، وهو كون
دورانها هو السبب على أن منطوق الآية فيه تدعيم لهذا، حيث قال: {يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَار} (الرعد: 3) فجعل الليل الذي هو ظلمة الأرض يغشى به النهار الذي
هو ضوء الشمس، ففيه تلميح إلى أن الأرض هي التي تحدث ذلك بفعل الله.
ومن الآيات المشيرة إلى ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَاّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} (الشمس: 1-4)
فجعل النهار الذي هو مقابلة وجه الأرض للشمس مجليًّا. والليل الذي هو الظلمة
الأصلية للأرض مُغشيًا لها (كان ينبغي أن يقول: غاشيًا لها) فأسند فاعلية ذلك
لغير الشمس ، بل لفاعل آخر هو الليل والنهار الذي هو من آثار الأرض. وإذا
كان هذا ثابتًا، فما يدل من الآيات على طلوع الشمس وغروبها وغير ذلك يمكن
تأويله باعتبار الأبصار والعرف الجاري في اللسان) اهـ، وهوحسن وأنت ترى
الذين يعتقدون بأن الأرض تدور على محورها فيكون الليل والنهار من ذلك يقولون:
طلعت الشمس وغربت ، ويقولون: غطست في البحر، وبينها وبين البحر مقدار
كذا.
* * *
مطالعة كتب الملل غير الإسلامية
(س 29) م. خ. في (تونس) : ما هو حكم الله فيمن يطالع الكتب
السماوية الأخرى مثل التوراة بقصد الإحاطة خبرًا بما جاء في غير شريعتنا ، وهل
كان النهي عن قراءتها عامًّا. إذا سلمنا ذلك تكون الشعوب غير الإسلامية ممتازة
على المسلمين بعدم منع أنفسهم إجالة النظر في القرآن الشريف، فيستفيدون مما جاء
فيه من الآيات البينات ، ويحتجّون به علينا به عند اللزوم ، ونحن لا نقدر أن
نقابلهم بالمثل؛ لأن كتبهم مغلقة في وجوهنا. أفيدونا بما علمكم الله من العلم ولكم
أجران أجر المفيد وأجر المصيب.
(ج) الأمور بمقاصدها ، فمن يطالع كتب الملل بقصد الاستعانة على تأييد
الحق وردّ شبهات المعترضين ونحوه وهو مستعد لذلك ، فهو عابد لله تعالى بهذه
المطالعة ، وإذا احتيج إلى ذلك؛ كان فرضًا لازمًا ، وما زال علماء الإسلام في
القديم والحديث يطلعون على كتب الملل ومقالاتهم ، ويردّون بما يستخرجونه منها
من الدلائل الإلزاميه ، وناهيك بمثل ابن حزم وابن تيمية في الغابرين وبرحمة الله
الهندي صاحب إظهار الحق في المتأخرين. أرأيت لو لم يقرأ هذا الرجل كتب
اليهود والنصارى، هل كان يقدر على ما قدر عليه من إلزامهم وقهرهم في المناظرة ،
ومن تأليف كتابه الذي أحبط دعاتَهُم في الهند وغير الهند، أرأيت لو لم يفعل ذلك
هو ولا غيره أما كان يأثم هو وجميع أهل العلم ، وهم يرون عوام المسلمين تأخذهم
الشبهات من كل ناحية ولا يدفعونها عنهم؟
نعم إنه ينبغي منع التلامذة والعوام من قراءة هذه الكتب لئلا تشوش عليهم
عقائدهم وأحكام دينهم، فيكونوا كالغراب الذي حاول أن يتعلم مشية الطاووس فنسي
مشيته ولم يتعلم مشية الحجل.
* * *
إخبار الإنسان بعمره
(س 30) ومنه: رأيت ببعض الكتب المعتمدة أن الشيخ محمد بن أبي بكر
ابن الحاج قاضي غرناطة سئل عن عمره فلم يجب قائلاً: إنه ليس من المروءة أن
يخبر الرجل بسنه كذا قال الإمام مالك اهـ، فلم أهتد لفائدة هذا الحظر الذي نسبه
لإمام دار الهجرة؛ لأنه يظهر بادئ بدء أن هذا القول مخالف لما هو مسطر بكتب
تراجم الرجال حيث نجد فيها أعمار الأعيان المترجم لهم ، ولا شك أن ذلك سرى
للمؤلفين بأحد وجهين إما بالتواتر والنقل عن أولئك الأعيان أنفسهم ، وإما بالوقوف
على تقييدات وقع العثور عليها بعد وفياتهم ، فإذا سلمنا أن ما نسب للإمام مالك
صحيح الرواية فلا يمكن تأويله إلا بأنه ليس من المروءة أن يقوم الإنسان خطيبًا
بين الناس مجاهرًا بعمره من دون أن يسأل عن ذلك؛ لأن صنيعه والحالة تلك يعد
ضربًا من الهذيان ، ولم يطالبه أحد بالتعريف بعمره. وأما إذا عكسنا النازلة
وفرضنا أن الرجل يسأله سائل عن سنه سيما إذا كان ذلك لمصلحة مثل إشهار
فضله وتعريف الناس به، فلا شبهة في أن النص المعزو لسيدنا مالك بن أنس لا
ينطبق على هاته الحال ، ولا يقال: إنه غير صاحب مروءة إذا أجاب سائله عن
سؤاله ، وأنت ترى أن تسجيل الأعمار بالبلاد الإفرنجية ضربة لازب على الذكر
والأنثى ، وأن مشاهير رجالهم معروفة أعمارهم ومرسومة تحت كل ورقة ، ولم
يضرهم ذلك شيئًا، ولم يحس أحد ثمن مروءتهم فما معنى هذا الحظر علينا حتى في
الجزئيات التي لا علقة لها بالدين مثل هاته ، أفتونا بما علمكم الله من العلم لا زلتم
محط رحال المستفيدين.
(ج) إن المسألة ليست من أمر الدين في شيء ، وإذا صحت الرواية عن
الإمام مالك فهو لا يقصد بها الحظر الشرعي بمعنى أنه يقول: إن إخبار الإنسان
بعمره محرم أو مكروه شرعًا، كلا إنها مسألة أدبية ، وكانوا لا يرون من الأدب ولا
من الذوق أن يسأل الانسان عن عمره أو عن ماله أو أن يخبر هو بذلك بغير سبب،
كما هو مذكور في كتب الأدب والمحاضرة ، ولا يزال كثير من الناس لا سيما
الشيوخ في البلاد الإسلامية على هذا الرأي أو الذوق ، ويختلف سببه باختلاف
الأشخاص ، ولعل الشيوخ يحبون أن يكونوا دائمًا على مقربة من عصر الشباب ،
وقلما يوجد شاب يحب أن يظن أن سنه أكثر مما هي في الواقع، إلا إذا توهم أن في
ذلك نقصًا من مهابته كأن يكون ذا منصب أصابه في سن الصبا ، ويرى أن الناس
لو علموا بسنه لاستكثروه عليه كما جرى للقاضي يحيى بن أكثم فقد نقل ابن خلكان
عن تاريخ بغداد للخطيب أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنه عشرون سنة
أو نحوها فاستصغره أهل البصرة ، فقالوا: كم سن القاضي؟ فعلم أنه قد استُصغِر
فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضيًا
على مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه
وسلم قاضيًا على اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قاضيًا على أهل البصرة. فجعل جوابه احتجاجًا، وجملة
القول أنهم كانوا لا يستحسنون أن يسأل المرء عن عمره أو ماله أو يخبر هو به ،
وما كانوا يقولون ذلك إلا لحاجة ، وأن الإحساس الذي كان عند الشيوخ فيما يظن
هو أن ذلك السن يستلزم تذكر الموت وقرب الرحيل ، وأما إحساس الشبان فهو ما
ذكرناه آنفًا من توهم الاستصغار، وهذا هو السبب في الاختلاف في تحديد أعمار
أكثر العلماء والعظماء ، وعدم الجزم بتاريخ مواليدهم وبناء تاريخهم على وفياتهم.
فإن قيل: إن الكاملين من الأئمة والفضلاء يجلون عن كتمان أعمارهم لمثل
هذا الإحساس. نقول: نعم ، ولكنهم يجارون من يعاشرون على ما يستحسنون
ويستقبحون ما لم يخل بالمصلحة كما قلتم؛ لأنه من آداب المعاشرة العامة ، والمروءة
تختلف باختلاف عرف الناس، ألا ترى أن أكثر أهل المشرق يرون كشف الرأس
في المحافل مخلاًّ بالمروءة ، ويرى عكس ذلك الإفرنج ومن قلّدهم في آدابهم.
* * *
علامات الاستفهام والتعجب وغيرهما في الكتابة العربية
(س31) ومنه: حصل لي توقف عند قراءة المنار الثاني من هذه السنة من
استعمال طابعه أو مصححه للعلامات الإصلاحية عند الإفرنج من نقطة الاستفهام
ونقطة التعجب وعلامة العطف إلخ، مع كون اللغة العربية غنية عن ذلك ،
وبالأخص منها القرآن المجيد الذي هو في أعلى درجات البيان كما لا يخفى ،
وتراكيبها تؤدي معنى الاستفهام والتعجب وكل ما يتخيله الفكر وينطق به اللسان ،
وأنكرت ذلك سيما وأنه لم يسبق له سابق بهذه المجلة البديعة ، فما الباعث على ذلك؟
نرجو الإفادة، وإن كانت بالجواز واعتبار تلك العلامات مثل علامات الرفع
والنصب والخفض والسكون المصطلح عليها عندنا ، فليكن الجواب بالبسط حتى
يزول ما وقع في النفس. وفي هذا المقام نقول: إني لم أفاتح أحدًا في شأن هذا
التوقف الذي حصل والذي لا ينبغي أن يفهم منه الاعتراض بل مجرد الاسترشاد.
(ج) قد عني المسلمون بكتابة القرآن عناية عظيمة فلم يكتفوا بوضع النقط
في منتهى آياته حتى زادوا على ذلك علامات الوقف والابتداء ، وجعلوا ذلك على
أقسام: الوقف التام والمطلق والجائز، والممنوع إلا لضرورة ضيق النفس. ووضع
لهذه الأقسام حروف تدل عليها كالميم والطاء والجيم ، و (لا) يكتبونها صغيرة في
موضع الوقف، وكان لقائل أن يقول: إن الله جعل القران سورًا ، وجعل السورة
آيات ، وجعل للآيات فواصل تعرف بها فهو غنيٌّ عن هذه المحسّنات ، ولكنهم لم
يقولوا ذلك ، بل أجمعوا على استحسان هذا التحسين في الكتابة الذي ينبه إلى
المعاني المفهومة بذاتها لأهل اللغة، لأنها في أعلى درج البيان. ولو وضعوا يومئذ
علامات أخرى لمقول القول يعرف بها متى يبتدئ وأين ينتهي ، وللاستفهام
والتعجب؛ لكانوا لها أشد استحسانًا فيما نظن، لأن إعانتها على الفَهْم ليست دون
إعانة علامات الوقف، فكثيرًا ما يأتي القول المحكي في القرآن من غير أن يتقدمه
قال وقالوا. وكثيرًا ما يشتبه على غير العالم النحرير انتهاء القول المحكي، كما ترى
المفسرين يختلفون في بعض الآيات هل هي من القول المحكي أم ابتداء كلام جديد.
وكذلك يجيء الاستفهام أحيانًا مع حذف أداته ، وكذلك التعجب والاستفهام أنواع
منه الحقيقي ومنه الإنكاري والتعجبي والتوبيخي ، فلو وضع لكل نوع منها علامة
لكان ذلك معينًا على الفهم بسهولة ، ولتقبله علماء السلف بأحسن قبول. ولكن
علماءنا لم يخطر ببالهم هذا أيامهم، بل يُقَدَّر كل تحسين وإصلاح قدره لعدم
الحاجة إليه كهذا الزمان.
ثم إنهم لم يستعملوا المحسنات التي وضعوها لكتابة القرآن في غيره مما لا
يدانيه في بيانه وسهولته ، وكان ينبغي تعميم هذا الإصلاح بأن توضع نقط في
أواخر الجمل التامة وعلامات وقف حيث يحسن الوقف في أثناء الكلام ، ولو فعلوا
ذلك لكان فيه ترغيب في قراءة الكتب وإعانة على الفهم ، بل أفسد المتأخرون ما
وضعه المتقدمون من الفصول في الكلام اقتداء بسور القرآن ، ومعنى هذا الفصل
أن يكون فارقًا يبن الكلامين ببياض في الطرس يبدأ بعده بالكلام الجديد ، ولعلهم
ظنوا ان لفظ الفصل هو المقصود ، فصاروا يكتبونه في وسط السطر ويبقى الكلام
به متصلاً في الكتابة بحيث لا يرى الناظر في الصحف إلا سوادًا في سواد ، وذلك
مما ينفِّر عن القراءة أو يقلل من النشاط فيها ، ولذلك لم يكتف علماؤنا بكون القرآن
مقسمًا إلى سور حتى قسّموه إلى أجزاء ، وقسموا كل جزء إلى أحزاب وأرباع ،
وجعل بعضهم لكل عشر آيات علامة ، والغرض من هذا كله التنشيط على القراءة.
فعلمنا من هذا أن كل ما يعين في الكتابة على فَهْم المعنى فهو حسن ، ومنها
علامات الاستفهام والتعجب التي سَبَقنا إليها الإفرنج فهم يضعونها وإن كان في
الكلام ما يدل على المقصود بدونها كما ترى في الإنكليزية ، فإن صيغة الخبر
عندهم مخالفة لصيغة الاستفهام ، وهم يضعون للاستفهام علامة مع هذا. وما في
المنار من هذه العلامات هو من وضع منشئه، فهو المحرر والمصحح ، وليس لغيره
في المنار عمل إلا ما كان من قول نسب إلى قائله بالتصريح أو الإشارة. وليس
هذا جديدًا فيه، وإنما تنبه إليه السائل في الجزء الذي ذكره ، ولو راجع المجلدات
الماضية؛ لوجد هذه العلامات وعلامات القول والحكاية (:: " ") وغير ذلك فيها ،
ولكنها لم تلتزم التزامًا في كل جملة. وهو يراها من المحسنات، لا سيما حيث يكون
في الكلام ما يقتضي التعجب من جهة المعنى ، وليس فيه صيغة التعجب ، وحيث
تكون الجملة أو الجمل المبدوءة بأداة الاستفهام طويلة يتوقع أن ينسى بعض القراء
في نهايتها أن القول كله موضع للاستفهام، وهو لم ير مانعًا من استعمال هذا
التحسين لا دينيًّا ولا غير ديني. وأما هذه العلامة (،) فنستعملها للسجع وما يشبهه
من الفصل يبن الجمل قبل تمام المعنى.
* * *
العمر الطبيعي
(س32) ومنه: أرجو الإفادة على صفحات المنار أيضًا عن عمر الإنسان
الطبيعي ، وهل يصح أن نعتقد مثلاً أن سلمان الفارسي عاش 350 سنة فضلاً عن
كون بعض أصحاب الطبقات يزعم أنه عاش أكثر من ذلك ، وبعضهم نقل أنه أدرك
المسيح فإن هذه المسألة هي مدار كلام أهل الأدب عندنا اليوم.
(ج) إن ما ذكرتموه عن عمر سلمان رضي الله عنه لم ينقل بسند صحيح
على سبيل الجزم ، وإنما قالوا: إنه (توفي سنة خمس وثلاثين في آخر خلافة
عثمان وقيل أول سنة ست وثلاثين ، وقيل توفي في خلافة عمر والأول أكثر. قال
العباس بن يزيد: قال أهل العلم: عاش سلمان 350 سنة فأما 250 فلا يشكون فيه.
قال أبو نعيم: (كان سلمان من المعمرين يقال: إنه أدرك عيسى ابن مريم وقرأ
الكتابين) اهـ من (أسد الغابة) فأنت ترى أن الرواية الأولى مشكوك فيها ، فما
بالك بالأخيرة المحكية ب (يقال) وهي أنه أدرك المسيح. وعباس بن يزيد
قال الدارقطني: تكملوا فيه. فقوله لا يؤخذ على غرة على أنه يجوز أن يعيش
الإنسان 250 سنة ، ولا يوجد دليل علمي يحدد العمر الذي يمكن أن يعيشه الإنسان
بحيث نقطع أنه يستحيل أكثر من ذلك. وقد نشر في المقتطف الذي صدر في صفر
سنة 1311ما نصه:
(إطالة العمر)
(بحث أحد العلماء في سبب الشيوخة فاستنج أنه إذا امتنع الانسان عن
الأطمعة التي تكثر فيها المواد الترابية ، وأكثر من أكل الفاكهة ذات العصار الكثير ،
وشرب كل يوم ثلاثة أكواب من الماء القراح في كل منها عشر نقط من الحامض
الفصفوريك المخفف لتذيب ما يرسب في عضلاته من أملاح الكلس (الجير) ؛ طال
عمره كثيرًا ، وقد يعمر حينئذ مائتي عام) اهـ.
فأنت ترى أن علماء العصر يجوزون أن يعيش الانسان مائتي سنة بالتدبير
الصحي وحسن المعيشة من غير أن تكون بنيته قد امتازت بقوة زائدة على المعتاد ،
وهم لا ينكرون أن بعض الناس يخلقون أحيانًا ممتعين بقوى خارقة للعادة ، وهؤلاء
يكونون مستعدين لعمر أطول إذا لم يفاجئهم القدر بما يقطع مدد الاستعداد. أما
العمر الطبيعي للإنسان الذي يرى الأطباء أنه خلق ليعيشه لولا ما يجنيه على نفسه
بالإفراط والتفريط فهو مائة سنة ، وذلك بالقياس على سائر الحيوانات؛ إذ ثبت لهم
بالاستقراء أن الحيوان يعيش ثلاثة أمثال الزمن الذي يتم نموه فيه. ولكن لا يكاد
يخلو قطر من الأقطار في عصر من الأعصار عن بعض الناس الذين يتجاوزون
المائة ، وقد ذكر بعض علماء أوربا في كتاب له أشخاصًا بلغوا نحو 170 سنة. أما
نوح عليه السلام، فالراجح أنه كان في عصر كانت فيه طبيعة الأرض وبنية
الإنسان، على غير ما هي عليه الآن، ثم تغيرت بالطوفان، وذهب بعض أهل
الكتاب إلى أن سنيهم لم تكن كسنينا ، بل كانوا يسمون الفصل سنة ، وحكت الكتب
السماوية خبرهم على اصطلاحهم، وهو يحتاج إلى نقل ، وتاريخ ذلك العصر
مجهول بالمرة فلا يعرف عنه شيء إلا بالوحي ، وما يفيده العلم الحديث من
اختلاف أطوار الأرض واختلاف حال الأحياء بحسب ذلك فلا نقيس طبيعتها
الحديثة وهي ما بعد الطوفان على طبيعتها قبل ذلك.
وجملة القول أن الذي قالوه عن اعتقاد في عمر سلمان رضي الله عنه هو
أنه 250 سنة ، ولكن الرواية فيه ليست بحيث يجزم بها ، ولا يوجد دليل علمي
يحمل على الجزم بكذبها فهي محتملة الصدق ، وغيرها ظاهر الكذب لا سيما القول
بكونه أدرك المسيح إذ لو كان كذلك لحدث عنه ، وتوفرت الدواعي على نقله عنه
ولم ينقل إلا ما ينافيه ، وهو أنه أخذ النصرانية قبيل الإسلام عن بعض القسوس
(راجع قصته في آخر المجلد الرابع من المنار) .
* * *
الصفا والمروة - تطهير المسعى
(س33) السيد علي الأمين الحسيني من علماء سوريا: لدى تشرفي بالحج
إلى بيت الله الحرام في سنة عشرين من المائة الرابعة بعد الألف من هجرة سيد
المرسلين صلى الله عليه وسلم، كان أكبر همي وقت السعي بين الصفا والمروة
التحفظ من القذرات الملوثة لكل ساع هناك مما ألقاه أهل الدكاكين والأسواق المكتنفة
بهذا المشعر الشريف ، ومما يعرض من دواب القوافل والمستطرقين فضلاً عن
الغبار الذي يثور في الأرض التي لم يجعل لها امتياز في التنظيف والرصف عن
سائر الأزقة كما هو حقها ، ومن المشقات التي تعرض هناك مدافعة القوافل للساعين
والاختلاط بهم الموجب لإيذائهم والخلل بأعمالهم وهيئتهم الشاغل عن توجه القلب ،
واستشعار الرقة والخشوع في هذا المشعر ، فكدت أقضي العجب من قلة الالتفات
لهذا الأمر وعدم الاهتمام فيه ، ولم أتحقق المانع من التحجير بين الفريقين بالفولاذ
أو الحديد وفرش المسعى بالرخام بل والبسط الفاخرة ، ودفع هذه المشقة عن
المتطوفين كما يصنع بالمساجد المشرفة والمشاهد المعظمة ، أَوَلَيْسَ ذلك من تعظيم
شعائر الله ، وهل هناك سر لعدم التفات أهل الثروة من مسلمي الآفاق الذين لم يخل
منهم عام لذلك وعدم تصديهم له؟ فإن لاح لكم شيء خال عن النقض ، وأفدتمونا
يكن لكم الفخر والأجر وإلا فإن نشرتم شيئًا نافعًا بذلك فهو المعهود من سجاياكم
ومساعيكم النافعة في الدين ولا زلتم مرجعًا للمسلمين آمين آمين.
(ج) حسبنا أن ننشر هذا التنبيه الذي ورد في صورة السؤال؛ لعل بعض
أهل الغيرة يسعى في تنظيف ذلك المكان وتطهيره ، وتسهيل القيام بشعيرة السعي
في ذلك الموضع الذي شرّف الله قدره بذكره من كتابه المجيد. وإننا لا نعرف سبب
إهمال العناية به ، ولم نره فنبدي رأينا فيما ينبغي عمله تفصيلاً ، فنسأل الله أن يمن
علينا ذلك.
_________
الكاتب: رفيق بك العظم
هذا أوان العبر
.. فهل نحن أحياء فنعتبر
رفيق العظم
إن كل ما يحيط بنا من أحوال الأمم، وأعمال البشر وآثار العقول، وثمار
العلم والعدل، ونتائج الجهل، وفضائح الظلم آيات للعبر، وبينات لا تحتاج في
الحكم إلى كثير نظر، يلمسها الأعمى بيده، ويراها البصير حتى في نفسه وبيته
وبلده وجواره، فالمرء في هذا العصر حيثما كان وأنَّى التفت وأينما اتجه؛ يرى
من آثار العبر ما يتعظ به العاقل، ويتنبه الغافل، أفليس من العجب أن يكون
المسلمون فاقدي الشعور بهذا المحيط غافلين عن تلك العبر يتعسفون في أخريات
الأمم، تعسف الخابط في ظلام الجهالة مع وضوح الطريق ووفور أسباب السلامة
والاهتداء.
ربما كان يقوم لهم العذر يوم؛ إذ كانت الأرض متنائية الأطراف متباعدة
الأقطار، تنشأ في قطر منها دولة وتدول أخرى، فلا يسمع أهل قطر آخر بما كان
فيه وما صار إليه إلا بما ينقله السفار بعد سنين عاريًا عن الحقيقة بعيدًا عن وجوه
العبر، فما عذرهم في هذا العصر؟ وقد تضامت أطراف الأرض بقوة البخار،
واتصلت أقطارها بعضها ببعض، بأسلاك البرق، وارتبط سكانها بروابط التعاون
والاتجار؛ فاختلطوا اختلاط الأمة الواحدة على بسيط واحد، وتعرف أهل كل قطر
أحوال القطر الآخر تعرف الجار بأمور جاره، فصار ما يحدث في أقصى الشرق في
الصباح يعلمه أهل المغرب في المساء، فَغَدَا المسلمون يلمسون آثار الأمم الأخرى
لمسًا، ويسمعون أخبارها يومًا فيومًا، وتساق إليهم العِبَر كل يوم سوقًا، ويرى كل
فرد منهم نتائج ترقي الأمم بعينه، ويشاهد آثارها حتى في مَلْبسه ومَأْكله ومَسْكنه،
ومع هذا فكأنما هم في واد والعالم في واد ، يرتقي غيرهم وينزلون، ويصعد سواهم
ويتدلون، فما علة هذا الخمود الشامل وإلى أية غاية هم صائرون.
أخذت الأمم أسباب العلم النافع، وشيدت صروح المدنية الحاضرة؛ فعظم
شأنُها، وتضاعفت قوتها، فانكفأت دولها على أرجاء الأرض تدوخ الممالك،
وتستأثر بالسيادة على الأرض إلا هذا الفريق العظيم من البشر وهم المسلمون فإنهم
أصبحوا طُعْمَة كل جائع، ومطمع كل طامع، تمزق ممالكهم الدول المسيحية،
وتستعبدهم الأمم الغربية، فلا تأخذهم نعرة الوطن ولا الدين ولا الجنس، ولا تنهض
بدولهم الغَيْرَة ولو على سيادتهم المطلقة في استعباد المسلمين، فالحاكم منهم والمحكوم
شقي مهضوم، والأمة كالفرد موجود في حكم المعدوم.
كل من أطلق عنان النظر على سكان الأرض يرى أن تنازع البقاء بين الأمم
قائمة حربه الآن بين أقسامهم الثلاثة الكبرى الذين إليهم ينتهي السلطان على أرجاء
الأرض وهم: المسلمون والمسيحيون والوثنيون - أتباع كونفوشيوس وبوذه -،
وقد كانت الدول المسيحية منذ تسلحت بسلاح العلم الجديد، وآنست من نفسها القدرة
على مكافحة دول الأرض، واندفعت للفتح والاستعمار لا ترى لها خصمًا قويًّا جبارًا
ينازعها الملك في أفريقيا وآسيا منازعة القرن للقرن، إلا المسلمين ولم تكن تحفل
بذلك القسم الآخر من الاثنين بل كانت تظنّ أن زلزال الساعة العظيم إنما يكون يوم
تخوض جيوشها عُبَاب الممالك الإسلامية، وتخطو أول خطوة لمناوأة دول الإسلام
فيصدها الإحجام تارة، ويسوقها الإقدام أخرى، حتى إذا مزقت حجاب الرهبة،
ومضت في وجهتها الاستعمارية بالخُدْعة تارة، والحرب أخرى انكشف لها من حال
المسلمين وضعف دولهم ما أزال ارتيابها من جهة ذلك الخصم الموهوم، ووطدت
عزيمتها على إتمام الرغبة، وإنجاح الطلبة، فبثت جنود العلم والقوة في أنحاء آسيا
وأفريقيا ، ورفعتا أعلام الفتح على أكثر ممالك الإسلام.
وصرفت تلك الدول عن الأذهان ذلك الوهم الذي كان سائدًا على ساستها من
جهة قوة المسلمين الذين نازعتهم الملك في كل بقعة من آسيا وأفريقيا فغلبتهم عليه ،
وإنما منعهن عن الإجهاز على البقية الباقية منهم تنازعهن على كيفية اقتسامها. ولم
يخطر لساسة تلك الدول يوم كانت ترهب جانب المسلمين أن الفريق الثالث الذي
ينتهي إليه السلطان أيضًا على قسم عظيم من الأرض، وهم أتباع كونفوشيوس وبوذه
أعظم خطرًا على الدول المسيحية من المسلمين وأشد لَدَادَة وخِصَامًا في موقف
النضال عن الحوزة والتنازع على الملك والسلطان، حتى قامت في هذه الآونة دولة
اليابان تناهض أعظم الدول المسيحية قوة وأضخمهن ملكًا وسطوة ، وتدافعها عن
حوزة الملك الموروث للجنس الأصفر منذ دحا الله الأرض، وجعل الصين على
رأي البوذيين منبت الإنسان ومهبط آدم أبي البشر، فأدهش تلك الدول ما أدهشها
من قوة العلم والمدنية التي تذرعت بها دولة اليابان لمزاحمة الدول المسيحية،
وصد غاراتها المتوالية على الممالك الشرقية على حداثة عهدها في قبول المدنية
الجديدة بجميع فنونها النافعة.
إذا تقرر هذا؛ عَلِمْنَا أن المسلمين أصبحوا في معمعان هذا التنازع العام
مغلوبين على أمرهم دون غيرهم ، وأن الأمم المسيحية والوثنية كادت تنفرد بالسيادة
على الأرض؛ لأن المدنية الحاضرة أصبحت بعلومها ومخترعاتها ملاك قوة الأمم،
ومادة حياة الدول، وليس للمسلمين حظ منها، ولا لأمرائهم نزوع إلى الأخذ بأسبابها،
ولا لدولهم رغبة ما في مجاراة أربابها. وحسبك شاهدًا لا يماري فيه العقل، ولا
يكذبه الحس ما صارت إليه الممالك الإسلامية المحكومة بدول إسلامية من التقهقر في
العمران، والتدلي في العلم والصناعة ، والضعف في القوة، والجبن في السياسة.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(رسائل أبي العلاء المعري وترجمته)
قد ولع الناس في القرون المتوسطة بحفظ الرسائل التي كانت تدور بين
الأدباء والكتاب ، ومن أحسنها رسائل أبي العلاء على قلتها، حفظوها في الكتاب
ونَسُوا مؤلفاته النافعة، حتى لا نكاد نجد منها غير دواوينه الشعرية ، وسبب ذلك
أن العلم كان قد أخذ في التدلي أو التولي فلا يُؤْثر منه إلا ما فيه لذة وفكاهة. وهذه
الرسائل على كونها أقل ما كتب الفيلسوف كما هي العادة، هي كنوز آداب ولطائف
لا يكاد يفهمها إلا من أوتي حظًّا من الاطلاع على اللغة العربية مفرداتها وأساليبها،
وسهمًا من تاريخها وأمثالها، ولعل الله تعالى أذن بفضله لهذه اللغة أن تنشط من
عقالها، وتستيقظ بعد طول سباتها، فأوحى لأنصار العلم أن يخدموها، وألهم رجال
المدنية أن يتدارسوها، فراجت بضاعتها في أسواق العلم في بلاده ، وأعني بها
المدارس الأوربية الكبرى ، وعمد القوم إخراج كنوزها، ونشرها بين الناس. ولا
أجهل أن غرض الأوربيين السياسيين الاستعانة بهذه اللغة على استعمار البلاد
العربية، ولكن العلم لا سياسة له ولا دين ، فمتى أخذ رجاله بطرف منه أخذوه بجد،
وخدموه بإصلاح ونصح، ولا يضرهم مع ذلك استفاد منه قومهم أم غير قومهم.
ومن الكتب التي عُنِي الأوربيون بترجمتها ونشرها بلسانهم ولسانها رسائل
أبي العلاء المعري، نقلها إلى الإنكليزية صاحبنا الدكتور مرجليوث الإنكليزي مدرس
اللغات الشرقية بمدرسة أوكسفورد الجامعة، وقد أهدانا نسخة منها مطبوعة باللغتين ،
وفي آخرها ترجمة أبي العلاء وفهارس تشير إلى ما في الرسائل من أسماء
الرجال والنساء والقبائل والحيوانات، وأسماء الأماكن والبلاد، والاصطلاحات
العروضية، وأسماء النجوم، لكلٍّ فهرس مرتب على حروف المعجم، وما أحسن
هذا الاصطلاح وأنفعه لو كنا نجري عليه في طبع كتبنا كما يجرون عليه فيها وفي
كتبهم بالأَوْلَى.
وأنت ترى أن نقل الكتاب من لغة إلى أخرى هو أصعب من تدريسه. وإنا
لنعلم أنه يقل في قراء العربية من أهلها من يقدر على تدريس هذه الرسائل ، فما
تقول في فضل أعجمي ينقلها إلى لغته. فنهنئ صاحبنا على عمله ، ونشكر له
هديته أجمل شكر.
أما ترجمة أبي العلاء فقد نقلها من تاريخ الذهبي ، وفيها أنه أخذ العربية عن
أهل بلده كبني كوثر وأصحاب ابن خالويه، ورحل إلى طرابلس فاستفاد من خزائن
كتبها ، وإنه كان قانعًا باليسير. له وقف يحصل له منه في العام نحو ثلاثين دينارًا
قدَّر منها لمن يخدمه النصف، وكان أكله العدس ، وحلاوته التين ، ولباسه القطن ،
وفراشه لبد ، وحصيره بورية. وكانت له نفس قوية لا يحمل منة أحد ، وإلا لو
تكسب بالشعر والمديح لكان ينال بذلك دنيا ورياسة، كذا قال الذهبي، ونحن نقول:
إنه لو لم يكن كذلك لما وجدنا في شعره من الفلسفة العالية والمدارك الدقيقة في نقد
العالم البشري ما نجد. ثم ذكر ما قيل في زندقته؛ لأنه التزم أن يذكر ما روي له
وعليه، وأورد بعض شعره الدَّال على شكِّه في الدين ، واعتراضه على الشرائع،
ثم نقل عن الحافظ السلفي في ضد ذلك ما نصه:
(ومما يدل على صحة عقيدته ما سمعت الخطيب حامد بن بختيار النميري
بالسمسمانية - مدينة بالخابور - قال: سمعت القاضي أبا المهذب عبد المنعم بن
أحمد السروجي يقول: سمعت أخي القاضي أبا الفتح يقول: دخلت على أبي العلاء
التنوخي بالمعرة ذات يوم في وقت خلوة بغير علم منه وكنت أتردد إليه، وأقرأ
عليه، فسمعته وهو ينشد من قبله:
كم غودرت غادة كعاب
…
وعمرت أمها العجوز
أحرزها الوالدان حرزًا
…
والقبر حرز لها حريز
يجوز أن تبطئ المنايا
…
والخلد في الدهر لا يجوز
ثم تأوه مرات وتلا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ
مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَاّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ
نَفْسٌ إِلَاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (هود: 103-105)
ثم صاح وبكا بكاءً شديدًا ، وطرح وجهه على الأرض زمانًا ، ثم رفع
رأسه ومسح وجهه فقال: سبحان مَنْ تكلم بهذا في القدم، سبحان مَنْ هذا كلامه،
فصبرت ساعة ثم سلمت عليه فرد ، فقال: متى أتيت؟ فقلت: الساعة. ثم قلت:
يا سيدي أرى في وجهك أثر غيظ. فقال: لا يا أبا الفتح، بل أنشدت شيئًا من كلام
المخلوق وتلوت شيئًا من كلام الخالق ، فلحقني ما ترى. فتحققت صحة دينه وقوة
يقينه) اهـ
ولعل تلك الخواطر الدالة على الإلحاد كانت في بداية أمره ثم رجع عنها على
أن أكثرها يحتمل التأويل، وإن لم يلتفت إلى ذلك المتشدقون من المرتابين في هذا
العصر.
* * *
(إلياذة هوميروس)
هوميروس كبير شعراء اليونان أشهر من نار على عَلَم ، وأشهر شعره ما
سُمي بالإلياذة ، وهو ما نظمه في وصف حرب قومه اليونان لطرواده، وقد
عنيت أمم العلم والأدب في القديم والحديث بنقل الإلياذة إلى لغاتها، إلا الذين أَحْيَوْا
جميع علوم اليونان بعد موتها ، وهم العرب، حتى قام في هذه الأيام سليمان
أفندي البستاني مؤلف دائرة المعارف العربية فعربها نظمًا. ثم إنه شرح النظم
فكان كتابًا حافلاً بالتاريخ والأدب، ووضع له مقدمة طويلة جمع فيها فصولاً في
تاريخ هوميروس مفصلاً، وفي الإلياذة ومكانتها في نفسها وعند الأمم ، وتفصيل
ما فيها من المعارف، وفي التعريب وأصوله، وفي النظم وبحوره وضروبه،
وفي الشعر وتاريخه وطبقات أهله في العرب، وفي الشعر العصري والملاحم،
وفي الشعر واللغة، وهي مقدمة مفيدة جدًّا تدل على غزارة علم المؤلف وحسن ذوقه
وسعة اطلاعه. ثم إنه وضع للكتاب معجمًا خاصًّا فَسَّر فيه غريبه، ومعجمًا آخر
للإلياذة جمع فيه ما فيها من الكلمات في الآلهة والمعاني والأعلام مشيرًا بالأرقام
إلى مواضعها من الصحائف. فالكتاب في مجموعه خزانة علم وأدب ،
وصفحاته 1258 وطبعه جميل جدًّا ، والشعر فيه مضبوط بالشكل الكامل.
* * *
(الاحتفال بمعرب الإلياذة)
نشر هذا الكتاب فتقبله أهل العلم والأدب بقبول حسن، بل أكبروا أمره
وبالغت الصحف في تقريظه، ثم تألفت لجنة من أدبائنا السوريين في القاهرة
فأولموا بالأمس وليمة في فندق شبرد احتفالاً بمُعَرِّب الإلياذة اجتمع على مائدتها نحو
مائة رجل من فضلاء القطرين المصري والسوري، وأُلقيت فيه الخطب العربية
والفرنسية واليونانية، وتُلي فيه ثلاثة كتب ممّن اعتذر عن عدم حضور الاحتفال،
أحدها من الأستاذ الإمام وكان آية الآيات ، وثانيها من الدكتور شميل ، وثالثها من
الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد.
ورأينا هؤلاء العلماء والأدباء حاضري الاحتفال متفقين على أن تعريب
الإلياذة من أجلِّ الخدم للغة العربية ، ومتعجبين من عدم سبق العرب إلى تعريبها في
أيام دولتهم العلمية؛ إذ عربوا كتب اليونان في جميع العلوم. وكان الدكتور يعقوب
أفندي صروف أول خطيب في الحفلة ، فجال في هذا المعنى جولة المؤرخ العالم،
وقال: إن السُّريان الذين كانوا يعربون الكتب اليونانية في أول الأمر للعرب قد
نقلوا الإلياذة إلى لغتهم دون اللغة العربية، ثم أطنب في وصف التعريب الجديد،
وما أضيف إليه من الفوائد، وانتقل إلى ذكر فضل المؤلف وفضل بيت البستاني
في خدمة العلم فبدأ يذكر عموده، وكبيره بطرس البستاني مؤسس دائرة المعارف
وصاحب الكتب والصحف الشهيرة فصفَّق له الحاضرون استحسانًا.
وتلاه بالخطابة كاتب هذه السطور ، فذكر معنى الاحتفال وفائدته ونسبة
الإلياذة إلى الشعر العربي وسبب إغفال العرب لها، بينت في هذا أن الروح الأدبي
يسبق في الأمم الروح العلمي والصناعي، فمتى سمت آداب الأمة ورق شعورها؛
تحس بحاجتها إلى العلم فتنبعث إليه وتبدأ بخدمة علم الأدب منه، فكان مقتضى هذه
القاعدة أن يبدأ العرب بنقل آداب اليونان قبل علومهم، ولكن العرب كانوا في غنى
عن هذه الإلياذة فما دونها من آداب اليونان؛ لأنه لا يكاد يوجد فيها شيء من
المعاني الشعرية والأدبية إلا وقد سبقوا إلى مثله أو خير منه، وفي شرح الإلياذة
العربية شواهد كثيرة على ذلك، والسبب فيه أن حال اليونان في حروبهم التي
يصفها هوميروس شبيه بحال العرب في بداوتهم وحروبهم، ولكن وثنيتهم تخالف
وثنية العرب. قلت: ويعلم السادة الحاضرون أن العرب لم يندفعوا إلى ترجمة
الكتب إلا بعد الدخول في الإسلام فقد كانوا قبله أُميين لا يعرفون الكتاب، فالإسلام
هو الذي ساقهم إلى طلب العلم والحكمة، فلما أرادوا ترجمة كتب اليونان للاستفادة
منها رأوا في آدابهم وأشعارهم العربية مثل ما عند أولئك وزيادة إلا ما كان من
الخرافات الدينية كأحوال الآلهة الكثيرين ، وهذا ما جاء الإسلام لمحوه لا لإحيائه
بعد موته، فكان إغفال العرب للإلياذة كإغفالهم لصناعة التصوير؛ لأن الصور
كانت في أيامهم خاصة بالشعائر الوثنية، فلما تغيرت الأحوال وأراد الله لهذه اللغة
أن تنهض نهضة جديدة أحس رجال الأدب بالحاجة إلى ماعند الأمم الأخرى من
الآداب ، وأقدمها وأشهرها الإلياذة ، فكان صديقنا البستاني هو السابق إلى توفية هذه
الحاجة؛ فقوبل بهذا الاستحسان العظيم.
وأما الاحتفال فقد بينت أنه شكرٌ لصاحب الأثر وتربية حسنة للأمة، فإن
أصحاب الاستعداد إذا رأوا أن خواص الأمة يقدرون الآثار العلمية والأدبية قدرها
فإن استعدادهم يظهر بالفعل، وتنتفع الأمة بمباراتهم في ذلك ، فقد قامت لجنة هذا
الاحتفال بشكر عالم خدم الأدب، فكأنها احتفلت بكل عالم وأديب، إذ يحس كل منهم
بأن له في هذا الاحتفال نصيبًا، والشكر مدعاة المزيد ومبعث الرغبة في العاملين،
وتركه سبب الإهمال ، فإن العالم الكامل وإن كان يتلذذ بالعلم ويحب الخير لذاته لا
تنبعث همته إلى إظهار الآثار النافعة إذا علم أن قومه لا يعرفون قيمتها ولا يقدرونها
قدرها؛ لأنه يرى ذلك من العبث. وما عساه يعمله تلذذًا به لا يجيء كاملاً كما إذا
كان يرجو أن يعرض عمله على أهل البصيرة والفضل فيَزِنُوه بميزانه، ويكافئوه
على قدر إحسانه، لهذا كان الشكر بطبيعته موجبًا للمزيد، بل إن الله تعالى وهو
الغني عن العالمين وذو الكمال المطلق قد جعل شكره سببًا للمزيد فقال: {لَئِن
شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُم} (إبراهيم: 7) فلا غرو أن يزيد صديقنا البستاني في خدمته
للعلم والأدب بسبب هذا الشكر الحسن الذي نقابله به.
هذا زبدة ما بيَّنه هذا العاجز في خطابه، وهو ما خطر له عند الكلام من غير
سابقة تفكر فيه. وقد أطنب بعض الخطباء في مدح الإلياذة نفسها وزعموا أنها
ستكون ترجمتها مبدأ انقلاب في الآداب العربية وفاتحة ترقٍّ عظيم فيها ، وهو
مبالغة ، والعربية أغنى من ذلك، ولو نظم الإلياذة غير البستاني فأحسن نظمها كما
أحسن؛ لما لقي من الشكر بعض ما لقي. ذلك أن صاحبنا في علمه الواسع، وأدبه
الرائع، وخدمته السابقة، وشجرته الباسقة، وما أضافه إلى النظم من الشرح
والمقدمات التي هي أكثر فائدة للمطالع، وخير مرجع للمراجع، قد هز أريحية
فضلا السوريين فكان منهم ما يجب أن يكون فيه أسوة حسنة لغيرهم ممن لا يقدرون
لعامل قدرًا، ولا يؤدُّون لمحسن شكرًا، فحيا الله البستاني وحيَّا الله السوريين؛ هذا
وإننا سنعود إلى الإلياذة فنختار منها مقاطيع نعرضها للقراء إن شاء الله تعالى.
وثمن النسخة من الإلياذة جنيه إنكليزي.
* * *
(الفلسفة اللغوية)
اتسع نطاق العلوم كلها لسانية وعقلية وعملية؛ فكثرت فروعها وتعددت
طرق تعليمها، وأهل الأزهر ومن على شاكلتهم من مقلدي الأموات على جمودهم
لا ينقصون من كتب مشايخهم، ولا يزيدون فيها حتى صرنا لا نرى شيئًا من
الإصلاح في العلوم العربية، حتى علوم اللغة إلا ممن تعلم في المدارس النظامية التي
أصبح زمامها بأيدي الإفرنج في كل قطر ، فبينما ترى جبر أفندي ضومط يؤلف
الكتب البديعة في البلاغة والنحو كالخواطر الحسان في المعاني والبيان، وفلسفة
البلاغة والخواطر العراب؛ إذا بجرجي أفندي زيدان يؤلف كتبًا في فلسفة اللغة
العربية وتاريخها وتاريخ التمدن الإسلامي. وقد كان ألف كتاب (الفلسفة اللغوية)
سنة 1886 م ونشره في بيروت ، وأعاد طبعه في هذه السنة مع زيادة فيه.
وموضوعه: (الأدلة اللغوية التحليلية على أن اللغة العربية مؤلفة في الأصل من
أصول قليلة ثنائية أحادية المقطع مأخوذ عن محاكاة الأصوات الخارجية والأصوات
الطبيعية التي ينطق بها الإنسان نطقًا غريزيًّا) فهو يبحث عن كيفية نشأة اللغة
وارتقائها. وهو بحث جليل أفرده الإفرنج بالتدوين، وأقاموه على قواعد علمية
استقرائية، وصفحات الكتاب 118 ، ولعلنا نوفق لمطالعته ونقده مساعدة لمؤلفه
على خدمة لغتنا الشريفة. وهو يطلب من مكتبة الهلال بالفجالة وثمنه عشرة قروش ،
وأجرة البريد قرش.
* * *
(الخواطر العراب)
كتاب جديد في النحو ألفه جبر أفندي ضومط أستاذ العلوم العربية في المدرسة
الكلية الأمريكانية ببيروت، وصاحب الخواطر الحسان، وفلسفة البلاغة. وضعه
بأسلوب تعليمي غاية في البسط ودقة البحث وحسن البيان، واستيفاء التقسيم وكثرة
التمثيل واختيار الأمثلة - يمثل بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والأمثال
الحكيمة والأشعار الرقيقة في الحِكَم والغزل وغيرهما ، فهكذا يكون التأليف لا سيما
في مثل هذا العصر الذي كثرت فيه العلوم والفنون، وعرف فيه الاقتصاد في
الوقت ، فصار الإنسان يبخل على فن النحو بالسنين الطويلة، ينفقها في مُدارسته ،
وهو من وسائل اللغة ، وما اللغات وفنونها إلا وسيلة للعلوم الحقيقية التي تبين
للناس كيفية الأعمال المعاشية وغيرها. وإنه ليسهل على المعلم البارع أن يدرس
هذا الكتاب في سنة واحدة وهو كاف في هذا الفن.
الكتاب تحت الطبع ، وقد تفضل صديقنا المؤلف بإرسال كراريسه إلينا تباعًا
لننتقدها، وقد تصفحنا بعض صفحاته فوجدناها تجل عن الانتقاد إلا ما لا يكاد يخلو
منه كتاب حديث كاستعمال بعض الألفاظ أو الجمل استعمالاً غير صحيح أو غير
فصيح.
* * *
(الإحاطة في أخبار غرناطة)
صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب طبعته شركة طبع الكتب العربية على
ورق جيد كالعادة، وهو كما علم القراء من تقريظ الجزء الأول تأليف الوزير محمد
لسان الدين بن الخطيب الشهير ، وأوله ترجمة محمد بن يوسف أمير المسلمين
بالأندلس لذلك العهد وآخره ترجمة محمد بن عبد الرحيم اللخمي ذي الوزارتين ،
والجزء كله في ترجمة المحمدين من حرف الميم وهو 303 صفحات، وروح لسان
الدين الشعر والأدب فهي فائضة في الكتاب، وكانت سوقه نافقة في الأندلس لعهده ،
وثمن الكتاب عشرة قروش صحيحة.
* * *
(مراثي الأمة القبطية)
صدرت النبذة الثانية من هذه النبذ التي يكتبها أحد شبان القبط في انتقاد رجال
ملته. وهذه النبذة في المدرسة الإكليركية - تاريخها ونظامها الإداري ومدرسيها
وثورتها، وهذا الانتقاد من جملة أمارات الحياة الكثيرة في هذه الطائفة المستيقظة ،
وقد أهديت لنا النسخة من بضعة أشهر ، وكنا أضللناها فنشكر لكاتبها غيرته الملية
ونرجو أن تكون نافعة لقومه.
* * *
(رسالة في أن العمل بالحقائق الدينية
عماد الارتقاء في الحياة الدينوية)
ألف هذه الرسالة السيد حسين كمال أفندي الشريف أودعها محاورة بينه وبين
أخيه السيد مصطفى فهمي أفندي الشريف في أسباب تأخر الأمة الإسلامية، وما
الذي يجب عليها في تلافي هذه الأسباب وقد قرأنا جملاً منها فإذا هي في الدعوة إلى
العمل بالكتاب والسنة الصحيحة، وترك كل ما سواهما من جهة الدين ، والبحث في
بعض المسائل الدينية كالأمر بالمعروف، ورجم الزاني ، وفيها إنكار على منصور
أفندي الشريف لأنه يكتب في مسائل دينية برأيه، وقال: إنه لم يتلق العلم عن أحد.
وفيها بحث في الفتوى الترنسفالية المشهورة - هذا ما ظهر لنا من تصفح معظم
صفحات الرسالة ولم نقرأ شيئًا من مباحثها بالتدقيق، وقد حمدنا من المؤلف هذه
المباحث.
* * *
(جرائد جديدة)
(المنعم) جريدة سياسية وطنية أسبوعية تصدر بالقاهرة محررها لطفي
عيروط المحامي بالاستئناف ومديرها سليم أفندي عيروط المحامي ، وقيمة الاشتراك
فيها ستون قرشًا مصريًّا، وقد صدر منها بضعة أعداد ، وكتب إلينا من إدارتها أنه
سيكتب في العدد الثامن مقالة مهمة في استعباد البلاد بالامتيازات، وأخرى مثلها في
خيانة المجلس البلدي في الإسكندرية فتوجه الأنظار إلى الجريدة وإلى المقالتين
بخصوصهما.
(الصواب) جريدة علمية سياسية أدبية تصدر في تونس يوم الجمعة من كل
أسبوع مديرها ومحررها (محمد الجعايبي) من كُتَّّاب التونسيين وأدبائهم، وقد
رأينا في الأعداد الأخيرة منها مقالات مفيدة في انتقاد الامتحان في جامع الزيتونة،
وما أحوج الأزهر إلى مثل هذا الانتقاد، وإننا لنشكر للحكومة التونسية إطلاق
الحرية للجرائد، وقيمة الاشتراك 8 فرنكات في البلاد التونسية و 10 في الجزائر
و13 في سائر الممالك.
(النادي) جريدة مدنية أدبية اجتماعية تصدر في القاهرة باللغتين العربية
والإيطالية صاحبها الدكتور أنريكو آنساباتو. ومما أخذه صاحبها على نفسه بيان
بعض مزايا الإسلام، ولا سيما مذهب التصوف وقد جعل قيمة الاشتراك في السنة
40 قرشًا في البلاد المصرية و 12 فرنكًا في غيرها ، فنتمنى له التوفيق والنجاح.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(لائحة المساجد)
جاء في (ع 7965) من جريدة الأهرام الصادر في 2 يونيو تحت هذا
العنوان ما نصه:
(أَبَنَّا في أعدادنا السالفة فائدة لائحة المساجد التي يعمر بها الأزهر، وتعمر
بها الجوامع، ويقام عماد الدين والعلم والأدب، وقلنا: إن معاداة هذه اللائحة والقيام
في وجهها هو عبارة عن معاداة صالح الأزهريين وتقدمهم والوقوف في وجههم.
ولقد اتفق بعض رصفائنا أمس على أن إنفاذ هذه اللائحة قد أُجِّلََ إلى العام المقبل؛
أي: حتى عودة رجال الحكومة من الإجازة ، فأخذنا نبحث عن سبب التأجيل فعرفنا
أن فضيلة القاضي الأكبر قدم عريضة إلى سمو الجناب الخديوي فيها يشكو من
بعض ما جاء في اللائحة، ويدعي أنه مخالف لشروط بعض الواقفين كأن يكون
بالمسجد مبخر وسقاء وكناس ، فاللائحة جمعت وظائف كثيرة في شخص واحد ،
فالمعية ترجمت شكوى فضيلة القاضي ، وأُرْسِلت هذه الترجمة إلى الوكالة
الإنكليزية، فأجابتها الوكالة أن الوقت قد انقضى وأن جناب اللورد لا يقدر على درس
الشكوى واللائحة، وأنه ينعم نظره فيها بعد عودته من الاصطياف فلهذا أجل الإنفاذ.
ولقد دُهِش العقلاء لهذا العمل؛ لأن المحتلين أعلنوا مرارًا وجهارًا أنهم لا
يتعرضون لأمر من أمور الدين ، فما الذي حمل المعية إذن على إرسال تلك اللائحة
إلى الوكالة الإنكليزية؟ ألا توجد في البلاد سلطة دينية عاقلة عالية تقدر على درس
اللائحة وتمحيصها؟ ولقد دار في جميع الأندية أن ذلك كله نتيجة التسابق لإرضاء
المحتلين فكما أن دولتلو رياض باشا جعل جناب اللورد كرومر صاحب المقام
الأرفع كذلك المعية أحالت على جنابه شكوى العلماء وشئون المساجد والجوامع،
فما أكبر حظ دولة تجد مثل هذا من أمة تحكمها وبلاد تحتلها، وما أعظم الفرق
الذي يجده الإنكليز بين كبار المصريين وكبار البوير فإذا كنا قد لمنا رياض باشا
على كلامه فإنا نحن نلوم المعية على فعلها ويقيننا أن الإنكليز أنفسهم يوافقوننا على
هذا اللوم.
(المنار)
حسب الناس من العبرة الكبرى بهذا الخبر الصادع أن يعرفوه ، وأننا لو أردنا
أن نبدي رأينا فيها لما استطعنا أن نقف عند الحد الذي تجيزه الرسوم المتبعة، وثم
عبرة أخرى وهي سكوت الجرائد اليومية التي تلقب بالإسلامية عن هذا، وبيان
الأهرام التي يصح أن نلقبها بجريدة الأمة له وسببه أنه جاء من قِبَل الأمير وحده،
وهو الذي يرضيها منه كل شيء ولو كان للنظار فيه رأي لقامت قيامة هذه
الجرائد وأكثرت الطعن واللعن، وحملت النظار وحدهم التبعة كما هي عادتها في
كل أمر يقوي نفوذ المحتلين مع أنه لم ينفذ شيء من ذلك إلا بأمر الأمير وهو وحده
كان القادر على معارضة الاحتلال بالحق وأوربا عضده ، وأما النظار فلا عضد
لهم إلا الأمير ، وهو الذي يقدر على عزلهم إذا خالفوا، ولا يقدرون على إلزامه إذا
وافقوا، فكل ما أخذه الإنكليز فمنه وعليه وعلى الأمة المسكينة التي أضاعها
أمراءها في كل زمان.
* * *
(قول رياض باشا - أوعبيد الكلام)
رُفِع العلم الإنكليزي بإذن الخديوي على السودان ، وخطب الأمير تحته مذعنًا
له فلم يؤثر في المصريين، وعقد الوفاق الإنكليزي الفرنسي بناء على دكريتو
خديويٍّ ، ومن لوازمه تأييد الاحتلال في مصر فلم يؤثر فيهم، ولونت خريطة
مصر في مدارس حكومتها بلون المستعمرات الإنكليزية فلم يؤثر فيهم. واستشار
الأميرُ اللورد في تعيين شيخ الأزهر فلم يؤثر فيهم، ووُكِّل إلى اللورد النظر في
لائحة المساجد وأئمة الصلاة فلم يؤثر فيهم، ويقول اللورد كرومر جهرًا: إنه هو
المسئول عن إدارة هذه البلاد فلا يؤثر فيهم، وقال رياض باشا بخطبته في احتفال
تأسيس مدرسة محمد علي الصناعية: إن اللورد هو صاحب النفوذ الشامل والمقام
الأرفع، ورغب إليه في معاهدة المدرسة حتى تبلغ أشدها فقام أحداث الوطنية
يلغطون في ذلك ، ويعدُّونه حادثًا جللاً فانظر على ما يسكتون، وبماذا يلغطون؟
_________