المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين للشيخ حمد بن ناصر - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (الجزء الرابع، القسم الثاني)

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين للشيخ حمد بن ناصر

- ‌رسالة تنزيه الذات والصفات من درن الإلحاد والشبهاتلبعض علماء نجد

- ‌رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم

- ‌مسائل وفتاوى فقهية في الطهارة والجمعة والأضحية والتغليس والوقف واللقطة والتغليس والوقف واللقطة والصّلح للشيخ حسن بن حسين

- ‌الرد على المدعو عبد المحمود البخاري فيما موّه به من أقوال الإتحادية والمشركين لأحد علماء نجد

- ‌رسالة في العهد والأمان لبعض علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى في الطلاق والخلع، والشهادات والعينة، وشروط الصلاة وغيرهالأحد علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى فقهية لبعض علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوي أخرى لبعض علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى في القراءة لأحد علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى في الطلاق والعدة والإجارة والثمار والعاقلة والتيمم للشيخ سعيد بن حجي

- ‌رسالة في الرد على صاحب جريدة القبلة لأحد علماء نجد

- ‌الكلام المنتقى مما يتعلق بكلمة لا إله إلا الله للشيخ سعيد بن حجي

- ‌مسائل وفتاوى ويليه رسالة في دحض شبهات على التوحيد من سوء الفهم لثلاثة أحاديث

- ‌رسالة في حكم من يكفر غيره من المسلمين والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن

- ‌فتاوى ومسائل فقهية مختلفة "لبعض علماء نجد

الفصل: ‌النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين للشيخ حمد بن ناصر

‌النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين للشيخ حمد بن ناصر

النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين

من فتاوى "العلامة مفتي الديار النجدية وعالم الطائفة السلفية" الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر الحنبلي رحمه الله تعالى

إطلاق الكفر بدعاء غير الله

بسم الله الرحمن الر حيم

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 1 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا معين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الكافرين، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما، وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فإنه ما كان منتصف جمادى الثانية من شهور سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف وصلت إلينا رسالة من محمد بن أحمد الحفظي اليمني، يسأل فيها عن مسائل أوردها عليه بعض المجادلين، فطلب منا الجواب عليها.

منها زعم أن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلم لوجوه:

"الوجه الأول" عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه.

"الثاني" أنه إن نظر فيه من حيثية القول فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك وكفر، ثم أولوه بالأصغر، وإما نظر فيه من حيثية الاعتقاد فهو كالطيرة وهي من الأصغر.

"الثالث" أنه قد ورد في الحديث -أي حديث الضرير- قوله: "يا محمد إني أتوجه بك"2 الخ، وفي الجامع الكبير وعزاه للطبراني:"فمن انفلتت عليه دابته قال: يا عباد الله احبسوا" وهذا دعاء ونداء لغير الله.

"الجواب" وبالله التوفيق والتأييد، ومنه أستمد العون والتسديد. اعلم أن دعاء غير الله وسؤاله نوعان:

"أحدهما" سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه، مثل سؤاله أن يدعو له أو ينصره أو يعينه بما يقدر عليه، فهذا جائز كما كان الصحابة رضي الله عنهم يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته فيشفع لهم، ويسألونه الدعاء فيدعو لهم. فالمخلوق يطلب منه من هذه

1 سورة الفاتحة آية:2: 4.

2 الترمذي: الدعوات "3578"، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1385" ، وأحمد "4/138".

ص: 592

الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى في قصة موسى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 1 وقال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 2 وكما ورد في الصحيحين: أن الناس يوم القيامة يستشفعون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، ثم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي سنن أبي داود "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله فقال: شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه"فأقره علىقوله: نستشفع بك على الله، وأنكر قوله: نستشفع بالله عليك؛ فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يطلبون منه الدعاء، ويستشفعون به في حياته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.

"النوع الثاني" سؤال الميت والغائب وغيرهما مما لا يقدر عليه إلا الله مثل سؤال قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، فهذا من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحسنه أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه ليس من دين الإسلام.

فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزل به شدة أو عرضت له حاجة يقول: يا سيدي فلان اقض حاجتي أو اكشف شدتي، وأنا في حسبك، وأنا مستشفع بك إلى ربي. كما يقوله بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء عند قبورهم، ولا إذا أبعدوا عنهم، فإن هذا من الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين.

فإن المشركين الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دماءهم وأموالهم لم يقولوا: إن آلهتهم شاركت الله تعالى في خلق العالم، أو أنها تنزل المطر وتنبت النبات بل

1 سورة القصص آية: 15.

2 سورة الأنفال آية: 72.

ص: 593

كانوا مقرين بذلك لله وحده، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1 الآية وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَِ} 2 إلى قوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3 وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 4.

قال طائفة من السلف في تفسير هذه الآية: كانوا إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله. وهم يعبدون غيره، ففسروا الإيمان في الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية، وفسروا الإشراك بإشراكهم في توحيد الإلهية الذي هو توحيد العبادة.

تعريف العبادة والدعاء

والعبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، من ذلك الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله، فمن طلب من غيره أو استعانه فيه فقد عبده به، والدعاء من أفضل العبادة وأجل الطاعات، قال الله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 5.

وفي الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء مخ العبادة" 6 وللترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ: "{وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} إلى آخر الآية"7 قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال الشارح: معنى قوله: "الدعاء هو العبادة" 8 أي أعظمها فهو كقوله: "الحج عرفة " 9 أي: ركنه الأعظم.

ومعنى قوله: "الدعاء مخ العبادة" 10 أي: خالصها؛ لأن الداعي إنما يدعو الله عند انقطاع أمله مما سواه. وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص. انتهى.

والدعاء في القرآن يتناول معنيين "أحدهما" دعاء العبادة وهو دعاء الله لامتثال أمره في قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 11.

"الثاني" دعاء المسألة، وهو دعاؤه سبحانه في جلب المنفعة ودفع المضرة، وبقطع النظر عن الامتثال فقد فسرقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ

1 سورة لقمان آية: 25.

2 سورة المؤمنون آية: 84، 85.

3 سورة المؤمنون آية: 89.

4 سورة يوسف آية: 106.

5 سورة غافر آية: 60.

6 الترمذي: الدعوات "3371".

7 الترمذي: تفسير القرآن "2969 ،3247" والدعوات "3372"، وأبو داود: الصلاة "1479"، وابن ماجه: الدعاء "3828" ، وأحمد "4/267 ،4/271 ،4/276".

8 الترمذي: تفسير القرآن "3247"، وابن ماجه: الدعاء "3828".

9 الترمذي: الحج "889"، والنسائي: مناسك الحج "3044"، وأبو داود: المناسك "1949"، وابن ماجه: المناسك "3015" ، وأحمد "4/309 ،4/335"، والدارمي: المناسك "1887".

10 الترمذي: الدعوات "3371".

11 سورة غافر آية: 60.

ص: 594

لَكُمْ} 1

بالوجهين:

"أحدهما" ما هو معلوم من الدعاء وغيره، وهو العبادة وامتثال الأمر له سبحانه، فيكون معنى قوله:{أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 2 أثبكم كما قال في الآية الأخرى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 3 أي: يثيبهم على أحد التفسيرين.

"الثاني" ما هو خاص: معناه سلوني أعطكم، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فاستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" 4 فذكر أولا لفظ الدعاء، ثم السؤال، ثم الاستغفار، والمستغفر سائل، كما أن السائل داع، فعطف السؤال على الدعاء والاستغفار، فهو من عطف الخاص على العام، وهذا المعنى الثاني هو الإخلاص لوجهين:

"أحدهما" ما في حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} " 5 فاستدلاله صلى الله عليه وسلم بالآية على الدعاء دليل على أن المراد منها سلوني، وخطاب الرب سبحانه وتعالى عباده المكلفين بصيغة الأمر منصرف إلى الوجوب ما لم يقم دليل يصرفه إلى الاستحباب، فيفيد قصور نقله على الله، فلا يجعل لغيره؛ لأنه عبادة، ولهذا أمر الله الخلق بسؤاله فقال:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه} 6.

وفي الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل" 7 وله عن أبي هريرة مرفوعا: "من لم يسأل الله يغضب عليه" 8 وله أيضا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء".

فتبين بهذا أن الدعاء من أفضل العبادات وأجل الطاعات.

"الوجه الثاني" أنه سبحانه قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 9 والسائل راغب راهب، وكل سائل راغب راهب فهو عابد للمسئول، وكل عابد فهو أيضا راغب راهب، يرجو رحمته ويخاف عذابه،

1 سورة غافر آية: 60.

2 سورة غافر آية: 60.

3 سورة الشورى آية: 26.

4 البخاري: التوحيد "7494"، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "758"، والترمذي: الدعوات "3498"، وأبو داود: الصلاة "1315" والسنة "4733"، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1366" ، وأحمد "2/258 ،2/264 ،2/267 ،2/282 ،2/383 ،2/419 ،2/487 ،2/504"، ومالك: النداء للصلاة "496"، والدارمي: الصلاة "1479".

5 الترمذي: تفسير القرآن "3247"، وابن ماجه: الدعاء "3828".

6 سورة النساء آية: 32.

7 الترمذي: الدعوات "3571".

8 الترمذي: الدعوات "3373"، وابن ماجه: الدعاء "3827".

9 سورة البقرة آية: 186.

ص: 595

وكل عابد سائل، وكل سائل فهو عابد لله، قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} 1 ولا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب والخوف والطمع.

دعاء العبادة ودعاء المسألة

فدعاء العبادة ودعاء المسألة كلاهما عبادة لله، لا يجوز صرف شيء منهما إلى غيره؛ فلا يجوز أن يطلب من مخلوق ميت أو غائب قضاء حاجة، أو تفريج كربة، بل ما لا يقدر عليه إلا الله لا يجوز أن يطلب إلا من الله؛ فمن دعا ميتا أو غائبا فقال: يا سيدي فلان أغثني أو انصرني أو ارحمني أو اكشف عني شدتي ونحو ذلك؛ فهو كافر مشرك يستتاب فإن تاب وإلا قتل.

وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء، فإن هذا هو شرك المشركين الذين قاتلهم النبي –صلى الله عليه وسلم فإنهم لم يكونوا يقولون: إنها تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها، بلكانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنهم في غير موضع من كتابه، وإنما كانوا يفعلون عندها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم من دعائها والاستغاثة بها، والذبح لها، والنذر لها، يزعمون أنها وسائط بينهم وبين الله تعالى تقربهم إليه، وتشفع لهم لديه، كما حكاه عنهم في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3.

فقاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون الدعاء كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع العبادات لله، والله سبحانه قد بين في غير موضع من كتابه أن الدعاء عبادة، فقال تعالى حاكيا عن خليله إبراهيم عليه السلام:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 4 الآية. وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ

1 سورة الأنبياء آية: 90.

2 سورة الزمر آية: 3.

3 سورة يونس آية: 18.

4 سورة مريم آية: 48، 49.

ص: 596

كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1.

فأخبر سبحانه أنه لا أضل من هذا الداعي، وأن المدعو لا يستجيب له، وأن ذلك عبادة سيكفر بها المعبود يوم القيامة. كقوله تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} 2.

الدعاء من أفضل العبادات وأجل الطاعات

وقد سمى الله سبحانه الدعاء دينا في غير موضع، وأمرنا أن نخلصه له، وأخبر أن المشركين يخلصون له في الشدائد فقال تعالى:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3 وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4 وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 5.

فأخبر سبحانه أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له، مخلصين في تلك الحال، لا يستغيثون بغيره فيها، فلما نجاهم من تلك الشدة إذا هم يشركون في دعائهم. ولهذا قال:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} 6 أي أنه سبحانه لما نجاكم إلى البر أعرضتم أي: نسيتم ما عرفتم من توحيده، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له.

وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 7 وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 8.

فالدعاء من أفضل العبادات، وأجل الطاعات؛ ولهذا أخبر أنه الدين، فذكره معرفا بالألف واللام، وأخبر أن المشركين يخلصونه له في الشدائد، وأنهم في الرخاء يشركون معه غيره، فيدعون من لا ينفعهم ولا يضرهم، ولا يسمع دعاءهم فصاروا بذلك كافرين.

شرك المشركين كان في الدعاء والذبح

ومن تأمل الكتاب والسنة علم أن شرك المشركين الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم

1 سورة الأحقاف آية: 5، 6.

2 سورة مريم آية:81، 82.

3 سورة لقمان آية: 32.

4 سورة يونس آية: 22.

5 سورة العنكبوت آية: 65.

6 سورة الإسراء آية: 67.

7 سورة غافر آية: 14.

8 سورة غافر آية: 65.

ص: 597

إنما هو في الدعاء والذبح والنذر والتوكل والالتجاء ونحو ذلك. فإن جادل مجادل وزعم أنه ليس هذا، قيل له: فأخبرنا عما كانوا يفعلون عند آلهتهم، وما الذي يريدون وما هذا الشرك الذي حكاه الله عنهم؟.

فإن قال: شركهم عبادة غير الله. قيل له: وما معنى عبادتهم لغير الله؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق، وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن؛ لأن الله عزوجل ذ أخبر عنهم أنهم مقرون بذلك لله وحده.

فإن قال: إنهم يريدون منهم النفع والضر من دون الله، فهذا يكذبه القرآن أيضا؛ لأن الله أخبر أنهم لم يريدوا إلا التقرب بهم إلى الله، وشفاعتهم عنده كما قال تعالى حاكيا عنهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1 وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2.

وأخبر تعالى عن شركهم في غير آية من كتابه كقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 3 أي: لا يدفعونه بالكلية، ولا يحولونه من حال إلى حال. ثم قال:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 4.

قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة فبين الله لهم أن هؤلاء عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، وأخبر أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، وهذا هو الإغاثة.

والمشركون يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم بالسؤال عند الله والطلب منه فيقضي الله لهم تلك الحاجات؛ فأبطل هذه الشفاعة التي يظنها المشركون، وبين أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فقال:{وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 5 وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} 6.

1 سورة الزمر آية: 3.

2 سورة يونس آية: 18.

3 سورة الإسراء آية: 56.

4 سورة الإسراء آية: 57.

5 سورة سبأ آية: 23.

6 سورة البقرة آية: 255.

ص: 598

هذا فهو كافر مشرك.

إطلاق الكفر بدعاء غير الله

إذا تقرر هذا فنقول: قول القائل: "إن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلم لوجوه الوجه الأول: عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه". كلام باطل، بل النصوص صريحة في كفر من دعا غير الله، وجعل لله ندا من خلقه يدعوه كما يدعو الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في أموره كلها. قال الله تعالى:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1 وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 2 إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 3 فمن أحب مخلوقا كما يحب الله، أو رجاه كما يرجو الله؛ فقد جعله ندا لله، وصار من الخالدين في النار.

وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود –رضي الله عنه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار "4.

وفي الصحيحين "أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" 5 والند المثل، قال الله تعالى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 6 وقال تعالى عن أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 7 ومعلوم أنهم ما يساوونهم به في الخلق والرزق والإحياء والإماتة، وإنما يساوونهم به في الدعاء والخوف والرجاء والمحبة والتعظيم والإجلال.

وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 8 وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ

1 سورة الأنعام آية: 1.

2 سورة البقرة آية: 165.

3 سورة البقرة آية: 167.

4 البخاري: تفسير القرآن "4497" ، وأحمد "1/374 ،1/402 ،1/407 ،1/462 ،1/464".

5 البخاري: الأدب "6001"، ومسلم: الإيمان "86"، والترمذي: تفسير القرآن "3182 ،3183"، والنسائي: تحريم الدم "4013 ،4014 ،4015"، وأبو داود: الطلاق "2310" ، وأحمد "1/380 ،1/431 ،1/434 ،1/462 ،1/464".

6 سورة البقرة آية: 22.

7 سورة الشعراء آية: 97، 98.

8 سورة الزمر آية: 8.

ص: 599

رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 1.

فصرح بكفره وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} 2 إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3 فبين أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 4 وقال فيما حكاه عن المسيح: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 5 وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} 6. فدلت الآية الكريمة على أن أعظم شركهم إنما هو دعاء غير الله، فأخبر أنهم لا يملكون من قطمير، وهو القشر الذي يكون على ظهر النواة، أي ليس لهم من الأمر شيء، وإن قل.

ثم أخبر أنهم لا يسمعون دعاءهم، وأنهم لو سمعوا ما استجابوا لهم، وهذا صريح في دعاء المسألة.

ثم أخبر أن هذا شرك يكفرون به يوم القيامة فقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 7 كقوله: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} 8 وكقوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 9.

والله سبحانه قد أرسل رسله، وأنزل كتبه ليعبدوه وحده، ويكون الدين كله له، ونهى أن يشرك به أحد من خلقه، وأخبر أن الرسالة عمت كل أمة، وأن دين الرسل واحد، وهو الأمر بعبادته وحده لا شريك له، وأنه لا يشرك به أحد سواه كما قال:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا} الطَّاغُوتَ} 10 وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 11 وأخبر أنه لا يغفر أن يشرك به، وأن من أشرك فقد حبط عمله وصار من

1 سورة المؤمنون آية: 117.

2 سورة آل عمران آية: 79.

3 سورة آل عمران آية: 80.

4 سورة النساء آية: 48.

5 سورة المائدة آية: 72.

6 سورة فاطر آية: 13، 14.

7 سورة فاطر آية: 14.

8 سورة مريم آية: 82.

9 سورة الأحقاف آية: 6.

10 سورة النحل آية: 36.

11 سورة الأنبياء آية: 25.

ص: 600

الخالدين في النار، كما قال تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} 1 فيقال لمن أنكر أن يكون دعاء الموتى والاستغاثة بهم في الشدائد شركا أكبر: أَخْبِرْنَا عن هذا الشرك الذي عظَّمَه الله، وأخبر أنه لا يغفره، أتظن أن الله يحرمه هذا التحريم ولا يبينه لنا؟

بيان القرآن للشرك واستحالة تركه بغير بيان

ومعلوم أن الله سبحانه- أنزل كتابه تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وقد أخبر في كتابه أنه أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا. فكيف يجوز أن يترك بيان الشرك الذي هو أعظم ذنب عُصِيَ الله به سبحانه-؟.

فإذا أصغى الإنسان إلى كتاب الله وتدبره وجد فيه الهدى والشفاء {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَه} 2 {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3 ويقال أيضا: قد أمرنا الله بدعائه وسؤاله، وأخبر أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأمرنا أن ندعوه خوفا وطمعا، فإذا سمع الإنسان قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 4 وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} 5.

فمعلوم أن هذا عبادة، فيقال: فإن دعا في تلك الحاجة نبيا أو ملكا، أوعبدا صالحا، هل أشرك في هذه العبادة؟. فلا بد أن يقر بذلك، إلا أن يكابر ويعاند. ويقال أيضا: إذا قال الله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 6 وأطعت الله ونحرت له، هل هذا عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم. فيقال له: فإذا ذبحت لمخلوق نبي، أوملك، أوعبد أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم، إلا أن يكابر ويعاند، وكذلك السجود عبادة، فلو سجد لغير الله لكان مشركا في هذه العبادة.

دعاء الموتى

ومعلوم أن الله سبحانه- ذكر في كتابه من النهي عن دعاء غيره، وتكاثرت

1 سورة التوبة آية: 17.

2 سورة الأعراف آية: 186.

3 سورة النور آية: 40.

4 سورة غافر آية: 60.

5 سورة الأعراف آية: 55.

6 سورة الكوثر آية: 2.

ص: 601

نصوص القرآن في النهي عن ذلك أعظم مما ورد في النهي عن السجود لغير الله والذبح لغير الله، فإذا كان من سجد لقبر نبي أو ملك أو عبد صالح لا يشك أحد في كفره، وكذلك لو ذبح القُرْبَان لم يشك أحد في كفره؛ لأنه أشرك في عبادة الله غيره، فيقال: السجود عبادة، وذبح القربان عبادة، والدعاء عبادة؛ فما الفارق بين السجود والذبح وبين الدعاء، إذ الكل عبادة؟ وما الدليل على أن السجود لغير الله، والذبح لغيره شرك أكبر؟ والدعاء بما لا يقدر عليه إلا الله شرك أصغر؟.

ويقال أيضا: قد ذكر أهل العلم من أهل كل مذهب باب حكم المرتد، وذكروا فيه أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفر به الرجل، ويحل دمه وماله، ولم يرد في واحد منها، ما ورد في الدعاء؛ بل لا نعلم نوعا من أنواع الكفر والردة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله بالنهي عنه، والتحذير من فعله، والوعيد عليه، ولا يشتبه هذا إلا على مَن لم يعرف حقيقة ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من التوحيد، ولم يعرف حقيقة شرك المشركين الذين كفَّرَهم النبي صلى الله عليه وسلم وأحَلَّ دماءهم وأموالهم، وأمره الله أن يقاتلهم حتى لا تكون فتنة؛ أي: لا يكون شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 1.

فمن أصغى إلى كتاب الله عَلِمَ علمًا ضروريا أن دعاء الموتى من أعظم الشرك الذي كَفَّرَ الله به المشركين، فكيف يَسُوغُ لمن عرف التوحيد الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل ذلك من الشرك الأصغر ويقول: قد عدم النص الصريح على كفر فاعله.

فإن الأدلة القرآنية، والنصوص النبوية قد دلت على ذلك دلالة ظاهرة ليست خفية، ومن أعمى الله بصيرته فلا حيلة فيه:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 2.

وأيضا فإن كثيرا من المسائل التي ذكرها العلماء في مسائل الكفر والردة، وانعقد عليها الإجماع: لم يرد فيها نصوص صريحة بتسميتها كفرا، وإنما يستنبطها

1 سورة الأنفال آية: 39.

2 سورة الأعراف آية: 186.

ص: 602

العلماء من عمومات النصوص، كما إذا ذبح المسلم نسكا متقربا به إلى غير الله: فإن هذا كفر بالإجماع، كما نص على ذلك النووي وغيره. وكذلك لو سجد لغير الله، فإذا قيل: هذا شرك؛ لأن الذبح عبادة والسجود عبادة، فلا يجوز لغير الله كما دل على ذلك قوله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 1 وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} 2 فهذا صريح في الأمر بهما، وأنه لا يجوز صرفهما لغيره.

فيبقى أن يقال: فأين الدليل المُصَرِّح بأن هذا كفرٌ بعينه؟ ولازمُ هذه المجادلة الإنكارُ على العلماء في كل مسألة من مسائل الكفر، والردة التي لم يرد فيها نص بعينها، مع أن هذه المسألة المسئول عنها قد وجدت فيها النصوص الصريحة من كلام الله وكلام رسوله، وأوردنا من ذلك ما فيه الهدى لمن هداه الله.

نصوص الفقهاء في شرك من يدعو غير الله بالإجماع

وأما كلام العلماء فنشير إلى قليل من كثير، ونذكر كلام من حكى الإجماع على ذلك، قال في الإقناع وشرحه: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كَفَرَ إجماعا؛ لأن هذا كفعل عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3 انتهى.

وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: وقد سئل عن رجلين تناظرا فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله؛ فإنا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك. فأجاب بقوله: إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله: فهذا حق؛ فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به، وما نهى عنه إلا بالرسل الذين أرسلهم إلى عباده، وهذا مما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى؛ فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه.

قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} 4 ومن أنكر هذه الوسائط، فهو كافر بإجماع أهل الملل،

1 سورة الكوثر آية: 2.

2 سورة الأنعام آية: 162، 163.

3 سورة الزمر آية: 3.

4 سورة الحج آية: 75.

ص: 603

وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذه العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع، ودفع المضار مثل: أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك، ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كَفَّرَ الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المَضَارّ، لكن الشفاعة لمن يأذن الله له فيها.

قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 1 وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 2 وقال: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3 وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 4.

وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 5 إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُور} 6.

قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون عيسى والعزير والملائكة والأنبياء، فبيَّن الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون إليه ويرجون رحمته ويخافون عذابه. وقال تعالى:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 7 فبيَّن سبحانه وتعالى أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر. فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب، وتفريج الكُرُبَات وسد الفَاقَات فهو: كافر بإجماع المسلمين.

وقد قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ

1 سورة السجدة آية: 4.

2 سورة الأنعام آية: 51.

3 سورة الأنعام آية: 70.

4 سورة سبأ آية: 22، 23.

5 سورة الإسراء آية: 56.

6 سورة الإسراء آية: 57.

7 سورة آل عمران آية: 80.

ص: 604

ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 1

إلى قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 2 وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 3 الآية، وقال:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 4 الآية، وقال:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 5.وقال تعالي {إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} (1)

اتخاذ الوسائط في عبادة الله

فمن أثبت الوسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله -تعالى- إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الخالق، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس؛ لقربهم منهم والناس يسألونهم، أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك؛ أو لأن طلبهم من الوسائط: أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.

وهؤلاء مُشَبِّهُون، شبَّهُوا الخالقَ بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا، وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى، فإن هذا دين المشركين، عُبَّاد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله تعالى- وهو من الشرك الذي أنكره الله تعالى- على النصارى حيث قال:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه} 6 الآية، وقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} 7 أي فليستجيبوا إذا دعوتهم بالأمر والنهي، وليؤمنوا بي: أني أجيب دعاءهم لي بالمسألة والتضرع، وقال:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 8.

وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه، وحسم موادَّ الإشراك به حيث لا يخاف

1 سورة الأنبياء آية: 26: 28.

2 سورة الأنبياء آية: 26.

3 سورة النساء آية: 172.

4 سورة النجم آية 26

5 سورة البقرة آية 255.

6 سورة التوبة آية: 31.

7 سورة البقرة آية: 186.

8 سورة الشرح آية: 7، 8.

ص: 605

أحدٌ غيرَ الله ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه قال تعالى:{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 1 {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2 وقال: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} 3 وقال: {مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 4 فبين أن الطاعة لله والرسول، وأما الخشية والتقوى فللَّه وحده.

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 5 فبيَّن أن الإتيان لله والرسول؛ وأما التحسب فهو لله وحده كما قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ} 6 ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، ونظيره قوله تعالى:{زَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 7.

تحقيق النبي لمعنى التوحيد وبيان كلمته وحسم الشركة

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته، ويحسم عنهم مواد الشرك؛ إذ هذا تحقيق قولنا:"لا إله إلا الله" فإن الإله هو الذي تَأْلَهُهُ القلوبُ بالمحبة والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف، حتى قال لهم:"لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محمد" 8 وقال لرجل قال له: ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده"9.

وقال لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" 10 وقال: "لا تُطْرُونِي كما أَطْرَت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" 11 وقال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" 12 وقال -في مرضه الذي مات فيه-: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "13 يحذر ما صنعوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا. وهذا باب واسع. انتهى ما لخصته من كلام الشيخ ابن تيمية في مسألة الوسائط.

وقال رحمه الله في موضع آخر-: والله سبحانه- لم يجعل أحدا من الأنبياء والمؤمنين واسطة في شيء من الربوبية والإلهية، مثل ما ينفرد به من الخلق والرزق

1 سورة المائدة آية: 44.

2 سورة آل عمران آية: 175.

3 سورة التوبة آية: 18.

4 سورة النور آية: 52.

5 سورة التوبة آية: 59.

6 سورة التوبة آية: 59.

7 سورة آل عمران آية: 173.

8 ابن ماجه: الكفارات "2118" ، وأحمد "5/72"، والدارمي: الاستئذان "2699".

9 أحمد "1/283".

10 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع "2516" ، وأحمد "1/293 ،1/303 ،1/307".

11 البخاري: أحاديث الأنبياء "3445" ، وأحمد "1/23 ،1/24".

12 أبو داود: المناسك "2042" ، وأحمد "2/367".

13 البخاري: الصلاة "436"، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "531"، والنسائي: المساجد "703" ، وأحمد "1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/146 ،6/252 ،6/255 ،6/274"، والدارمي: الصلاة "1403".

ص: 606

وإجابة الدعاء، والنصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، بل غاية ما يكون العبد سببا مثل أن يدعو ويشفع، والله -تعالى- يقول:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1 وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 2 وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3.

أقسام الناس في الشفاعة

فبيَّن سبحانه- أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر؛ ولهذا كانوا في الشفاعة على ثلاثة أقسام:

فالمشركون أثبتوا الشفاعة التي هي شرك، كشفاعة المخلوق عند المخلوق، كما يشفع عند ملوك خواصّهم؛ لحاجة الملوك إلى ذلك، فيسألونهم بغير إذنهم، ويجيب الملوك سؤالهم؛ لحاجتهم إليهم، فالذين أثبتوا مثل هذه الشفاعة عند الله: مشركون كفار؛ لأن الله -تعالى- لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل من رحمته وإحسانه: إجابة دعاء الشافعين؛ ولهذا قال:. {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} 4 وقال: {أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 5.

وقال عن صاحب يس {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} 6.

وأما الخوارج والمعتزلة 7 فإنهم أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضُلال مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولإجماع خير القرون.

{القسم الثالث} أهل السنة والجماعة وهم سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم بإحسان، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه وسنة رسوله، ونفوا ما نفاه، فالشفاعة التي أثبتوها: هي التي جاءت بها الأحاديث.

وأما الشفاعة التي نفاها القرآن كما عليه

1 سورة البقرة آية: 255.

2 سورة النجم آية: 26.

3 سورة آل عمران آية: 80.

4 سورة السجدة آية: 4.

5 سورة الزمر آية: 43، 44.

6 سورة يس آية: 23.

7 هؤلاء هم القسم الثاني في الشفاعة.

ص: 607

المشركون والنصارى ومن ضَاهَاهُم من هذه الأمة، فينفيها أهل العلم والإيمان مثل: أنهم يطلبون من الأنبياء، والصالحين الغائبين والميتين قضاء حوائجهم ويقولون: إنهم إذا أرادوا ذلك قضوها، ويقولون: إنهم عند الله كخواصّ الملوك عند الملوك، يشفعون بغير إذن الملوك، ولهم على الملوك إِدْلالٌ يقضون به حوائجهم فيجعلونهم لله بمنزلة شركاء الملك، والله تعالى- قد نَزَّهُ نفسه عن ذلك. انتهى.

كلام ابن القيم في الشرك الأصغر والأكبر

وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وأما الشرك فنوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النار:. {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1 مع إقرارهم بأن الله هو الخالق وحده، خالق كل شيء ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم؛ بل كلهم يحبون معبوديهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله، وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده.

ويغضبون إذا انتقص أحدٌ معبودَهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحدٌ ربَّ العالمين. وإذا انتقص حرمة من حُرُمَات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضب الليث إذا حرب، وإذا انتُهكت حُرُمَات الله: لم يغضبوا لها، بل إذا قام المُنْتَهِكُ لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه، ولم تُنْكِر له قلوبهم، وقد شاهدنا هذا منهم نحن وغيرنا.

وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه، إن قام، وإن قعد، وإن عثر، وإن مرض، فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على لسانه، وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه، وهكذا كان عُبَّاد الأصنام سواء.

1 سورة الشعراء آية: 97، 98.

ص: 608

وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم يتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم؛ فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1 ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم فقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2.

فهذا حال من اتخذ دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز مَن يُخْلُصُ مِن هذا، بل ما أعز مَن لا يعادي من أنكره، والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك، وقد أنكره الله عليهم في كتابه، وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن رضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء- ثم ساق كلاما طويلا، وقرره أحسن تقرير.

فتأمل كلامه رحمه الله وهذا حيث قرر أن الذي يفعله مشركو زمانه هو عين الشرك الذي فعله المشركون الأولون، ثم قال: وما أعز من يخلص من هذا، بل ما أعز مَن لا يعادي مَن أنكره، ففي هذا شاهدٌ لصحة الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدا" 3 وقوله فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" 4 قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " خَرَّجَاه في الصحيحين.

كلام ابن تيمية في الشرك

وقال الشيخ أبو العباس ابن تيمية في الرسالة السنية، لما تكلم على الخوارج: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام مَن قد مرق من الدين مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان قد يمرق أيضا،

1 سورة الزمر آية: 3.

2 سورة الزمر آية: 3.

3 مسلم: الإيمان "145"، وابن ماجه: الفتن "3986" ، وأحمد "2/389".

4 البخاري: أحاديث الأنبياء "3456"، ومسلم: العلم "2669" ، وأحمد "3/84 ،3/89 ،3/94".

ص: 609

وذلك بأمور منها: الغلو الذي ذمه الله كالغلو في بعض المشايخ كالشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلالة يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليُعْبَدَ وحده، ولا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون معه آلهة أخرى مثل الملائكة والمسيح والعزير والصالحين أو قبورهم لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله الرسل تَنْهَى أن يُدْعَى أحدٌ من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استعانة. انتهى.

كلام ابن عقيل في الشرك

وقال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله: لما صعبت التكاليف على الجُهَّال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد السُّرُج وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها بأمور: أن افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها، وإلقاء الخِرَق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى.

والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكفر ولم يتمسح بالآجر يوم الأربعاء، ولم يقل الحَمَّالون على جنازته: الصديق أبو بكر أو محمد، وعليّ، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه، ولم يُرِقْ ماء الورد على القبر. اهـ كلامه.

فتأمل رحمك الله- ما ذكره هذا الإمام وما كشفه من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام، فضلا عن النساء والغوغاء والعوام مع كونه في سادس القرون، والناس لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء والنقدة لذلك مشاهدون، وحظهم من النهي مرتبته الثانية فهم بها قائمون، يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون ومَوَّهَ به المتعصبون والملحدون.

ص: 610

دعاء غير الله شرك لا كالحلف والطيرة

وأما قوله الثاني: {إن نظر فيه من حيثية القول فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك، وكفر، ثم أوَّلوه بالأصغر. وإن نظر فيه من حيثية الاعتقاد فهو كالطيرة، وهي من الأصغر".

فنقول: هذا كلام باطل، وليس يخفى ما بينهما من الفرق، فأيّ مشابهة بين من وَحَّدَ الله وعبده، ولم يشرك معه أحدا من خلقه، وأنزل حاجاته كلها بالله، واستغاث به في تفريج كُرُبَاته وإغاثة لهفاته، لكنه حلف بغير الله يمينا مجردة لم يقصد بها تعظيمه على ربه، ولم يسأله، ولم يستغث به، وبين من استغاث بغير الله، وسأله جلب الفوائد، وكشف الشدائد، فإن هذا صَرَفَ مُخَّ العبادة -الذي هو لبها وخالصها- لغير الله، وأشرك مع الله غيره في أجلّ العبادات وأفضل القُرُبَات التي أمر الله به في غير موضع من كتابه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو العبادة كما تقدم في حديث النعمان بن بشير:" أن الدعاء هو العبادة" 1 وفي حديث أنس: "إن الدعاء مخ العبادة" 2 وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أن الله يحب المُلِحِّين فيه"وأن "من لم يسأل الله يغضب عليه" 3 وفي الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يُسْأَل" 4 وفيه أيضا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء" وفيه أيضا: "من لم يسأل الله يغضب عليه" 5 وفي الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس شيء على الله أكرم من الدعاء"6.

وأما الحلف فلم يأمرنا الله به بل أمرنا بحفظه فقال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 7 قيل: المعنى لا تحلفوا، وقيل: لا تحنثوا، ولا يرد على هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حلف في مواضع، فإن اليمين تستحب إذا كان فيها مصلحة راجحة.

وعلى هذا حمل العلماء ما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو يحلف لمصالح مطلوبة للأمة، كزيادة إيمانهم وطمأنينة قلوبهم، كما أمره الله بذلك في ثلاثة مواضع

1 الترمذي: تفسير القرآن "2969"، وابن ماجه: الدعاء "3828".

2 الترمذي: الدعوات "3371".

3 الترمذي: الدعوات "3373"، وابن ماجه: الدعاء "3827".

4 الترمذي: الدعوات "3571".

5 الترمذي: الدعوات "3373"، وابن ماجه: الدعاء "3827".

6 الترمذي: الدعوات "3370"، وابن ماجه: الدعاء "3829".

7سورة المائدة آية: 89.

ص: 611

من كتابه، وأما الحلف لغير مصلحة فليس مشروعا، بل يباح إذا كان صادقا.

الدعاء يتضمن الرغبة والرهبة والتوكل على المدعو

وأما الدعاء: فهو مشروع محبوب لله، بل سماه الله في كتابه الدين، وأمر بإخلاصه له، وسماه رسوله صلى الله عليه وسلم العبادة، ومخ العبادة، فكيف يقال: هو كالحلف؟ فمن صرف الدعاء لغير الله فقد أشرك في الدين الذي أمر الله بإخلاصه له-، وفي العبادة التي أمر الله بها.

وأيضا فإن الداعي راغبٌ راهبٌ، فالعبد يدعو ربه رغبا ورهبا، ويتوكل عليه في حصول مطلوبه، ودفع مرهوبه، فإذا طلب فوائده، وكَشْفَ شدائده من غير الله فقد أشرك مع الله في الرغبة والرهبة والرجاء والتوكل، فإن هذا من لوازم الدعاء، وهو من العبادة التي أمر الله بها، كقوله تعالى:{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 1 وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 2 وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3.

فمن استغاث بغير الله فهو راغب إليه في حصول مطلوبه رَاجٍ له، متوكل عليه، وذلك هو حقيقة العبادة التي لا تصلح إلا لله، وهو معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة ورجاء، وخوفا وتوكلا؛ ويقال أيضا: الذي يدعو غير الله في مهماته وكشف كرباته: قد رد على الله كلامه، وَكَذَّبَ بآياته، فإن الله عز وجل أخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأن الشفاعة كلها لله، وهذا زعم أن الميت يشفع له، وأخبر الله أن الأولياء والصالحين لا يملكون كشف الضر ولا تحويله، وأنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولا يسمعون الدعاء ولا يستجيبون، وهذا زعم أنهم باب حوائجه إلى الله، وأنهم ينفعون ويشفعون، وللدعاء يسمعون، وله يستجيبون، فكذب على الله وكذَّب بآياته.

فكيف يقال: إن هذا كالحلف بغير الله الذي أَوَّلُوهُ أن يكون شركا أصغر يُعَاقَب عليه، كما يعاقب الزاني وقاتل النفس وآكل الربا؛ لأنه ارتكب محرما غير مستحل له، نظير ما يفعله الزاني وقاتل النفس؟ فأما إن فعله مستحلا أو لكون

1 سورة الشرح آية: 8.

2 سورة البقرة آية: 40.

3 سورة المائدة آية: 23.

ص: 612

المخلوق في قلبه أعظم من الخالق كان ذلك كفرا.

قول ابن القيم في الشرك الأصغر

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتَّصَنُّع للخلق، والحلف بغير الله، ونحو: ما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. انتهى.

ويقال أيضا: من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله تعالى- بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد وينهى عن الإشراك، فكان أول آية أرسله الله بها:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} 1 فأنذر عن الشرك، وهجر الأوثان، وكبرَ الله وعظمَه بالتوحيد، فاستجاب له من استجاب من المسلمين، وصبروا على الأذى من قومهم، وقاسوا الشدائد العظيمة فهاجروا وأُخْرِجُوا من ديارهم، وأُوذُوا في الله، وتَمَيَّزَ الكافر من المسلم، ومات من المسلمين مَن استوجب الجنة، ومات مِن الكفار مَن استحق النار، وهذا النهي كله قبل الحلف بغير الله.

فالاستغاثة بأهل القبور واستنجادهم واستنصارهم لم يبح في شرائع الرسل كلهم، بل بعث الله جميع رسله بالنهي عن ذلك، والأمر بعبادته وحده لا شريك له.

وأما الحلف فكان الصحابة يحلفون بآبائهم، ويحلفون بالكعبة وغير ذلك، ولم يُنْهَوْا عن ذلك إلا بعد مدة طويلة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآباءكم" 2 وقال:"من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت"3.

ومن لا يميز الفرق بين دعاء الميت والحلف به: لا يعرف الشرك الذي بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ينهى عنه ويقاتل أهله، وأيّ جامع بين الحلف والاستغاثة؟ فالمستغيث طالبٌ سائلٌ، والحالفُ لم يطلب ولم يسأل، فإن كان الجامع بينهما عند القائل باتحادهما: أن كلا منهما قولٌ باللسان؛ فيقال له: والأذكار والدعوات،

1 سورة المدثر آية: 1: 5.

2 البخاري: الأدب "6108"، ومسلم: الأيمان "1646"، والترمذي: النذور والأيمان "1533 ،1534"، والنسائي: الأيمان والنذور "3766 ،3767 ،3768"، وأبو داود: الأيمان والنذور "3249"، وابن ماجه: الكفارات "2094" ، وأحمد "2/7 ،2/8 ،2/11 ،2/17 ،2/20 ،2/69 ،2/76 ،2/86 ،2/98 ،2/142"، ومالك: النذور والأيمان "1037"، والدارمي: النذور والأيمان "2341".

3 البخاري: الشهادات "2679"، ومسلم: الأيمان "1646"، والترمذي: النذور والأيمان "1534"، وأبو داود: الأيمان والنذور "3249" ، وأحمد "2/7 ،2/11 ،2/17 ،2/20 ،2/76 ،2/142"، ومالك: النذور والأيمان "1037"، والدارمي: النذور والأيمان "2341".

ص: 613

وقول الزور، وقذف المحصنات؛ كل ذلك قولٌ باللسان، ولو قال أحدٌ: إنها ألفاظٌ متقاربةٌ لَعُدَّ من المجانين، وإن أراد هذا القائل اتحادَهما في المعنى، فهذا باطل كما تقدم بيانُهُ، وأيّ مشابهة بين من جعل لله ندا من خلقه يدعوه ويرجوه ويستنصر به، ويستغيث به، وبين مَن لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، وأخلص له في عبادته، فالأول أشرك مع الله في قوله وفعله واعتقاده، بخلاف الحالف، بل لو اعتقد الحالف تعظيم المخلوق على الخالق لصار شركا أكبر كما تقدم.

حديث ذات الأنواط

ومما يبين أيضا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لَمَّا نهاهم عن الحلف بغير الله وحلف بعض الصحابة -حديثو العهد- فقال في حلفه: واللات. قال النبي صلى الله عليه وسلم "من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله"1؛ ولما قال له بعض الصحابة حديثو العهد بالكفر-: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال: "الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} لتركبن سنن من كان قبلكم" 2.

فانظر كيف نهى الحالف وأرشده إلى الكفارة بأن يقول: لا إله إلا الله من غير التغليظ الشديد. والذين قالوا: اجعل لنا ذات أنواط غلظ عليهم التغليظ الشديد، وحلف لهم أن طِلبتهم كطِلبة بني إسرائيل، وأن قولهم: اجعل لنا ذات

كقول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 3 سواء بسواء، فهما متفقان معنًى، وإن اختلف اللفظ.

وهذا مما يُبَيِّنُ لك شيئا من معنى لا إله إلا الله، فإذا كان اتخاذ الشجرة للعُكُوف حولها، وتعليق الأسلحة بها للتبرك اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر ودعائه في إنزال الفوائد، والاستغاثة به في كشف الشدائد؟ وأخذ تربته تبركا؟ وإسراج القبر وتخليقه؟ وأيّ نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟.

قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك: فانظروا رحمكم الله- أينما وجدتم سِدرة

1 البخاري: تفسير القرآن "4860" والأدب "6107" والاستئذان "6301" والأيمان والنذور "6650"، ومسلم: الأيمان "1647"، والترمذي: النذور والأيمان "1545"، والنسائي: الأيمان والنذور "3775"، وأبو داود: الأيمان والنذور "3247"، وابن ماجه: الكفارات "2096" ، وأحمد "2/309".

2 الترمذي: الفتن "2180" ، وأحمد "5/218".

3 سورة الأعراف آية: 138.

ص: 614

أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البِرّ والشفاء من قِبَلها، ويضربون بها المسامير والخِرَق فهي ذات أنواط فاقطعوها. انتهى.

الفرق بين دعاء الأموات والاستغاثة والحلف بهم

ومما يبيِّنُ الفرق بين دعاء الأموات والاستغاثة بهم وبين الحلف بهم: أن العلماء قسموا الشرك إلى: أكبر وأصغر، جعلوا دعاء الأموات والاستغاثة بهم -فيما لا يقدر عليه إلا رب الأرض والسماوات- هو عين شرك المشركين الذين كفَّرهم الله في كتابه، وجعلوا الحلف بغير الله شركًا أصغر، فيذكرون الأول في باب حكم المرتد. وأن من أشرك بالله فقد كفر، ويستدلون بقوله تعالى:. {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 ويفسرون هذا الشرك بما ذكرنا.

ويذكرون الثاني في كتاب الأيْمَان، فيفرقون بين هذا وهذا، ولم نعلم أن أحدا من العلماء الذين لهم لسان صدق في الأمة قال: إن طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم: شرك أصغر، ولا قال: إن ذلك كالحلف بغير الله، اللهم إلا أن يكون بعض المنتسبين إلى العلم من المتأخرين الضالين الذين قرَّرُوا الشركَ وحَسَّنُوهُ للناس نَظْمًا وَنَثْرًا، وصار لهم نصيب من قوله عزوجل {لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 2.

شرك الطيرة وكونه من خرافات الجاهلية

وأما قوله: "وإن نظر فيه من جهة الاعتقاد فهو كالطِّيَرَة: فهو باطل أيضا يظهر بطلانُهُ مما تقدم".

فيقال: وأين الجامع بين شرك مَن جعل بينه وبين الله واسطة: يدعوه ويسأله قضاء حاجاته وكشف كرباته ويقول: هذا وسيلتي إلى الله، وباب حاجتي إليه، وبين مَن عبد الله وحده لا شريك له ودعاه خوفا وطمعا، وأنزل حاجاته كلها به، وكشف كرباته، وتبرأ من عبادة كل معبود سواه، ولكن وقع في قلبه شيء من الطِّيَرَة.

فالأول هو: دين أبي جهل وأصحابه، وهو دين أعداء الرسل من نوح إلى يومنا هذا.

وأما الطِّيَرة فتقع على المؤمنين الموحدين كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود:

1 سورة النساء آية: 48.

2 سورة النساء آية: 50.

ص: 615

"والطيرة شرك وما منا إلا.... ولكن الله يُذْهِبه بالتوكل" 1 رواه أبو داود ورواه الترمذي وصححه وجعل آخرَه من قول ابن مسعود. وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس عبد إلا سيدخل قلبه طيرة، فإذا أحس بذلك، فليقل: أنا عبد الله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب بالسيئات إلا الله، أشهد أن الله على كل شيء قدير. ثم يمضي لوجهه".

وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أرجعته الطِّيَرَة عن حاجته: فقد أشرك، وكفارة ذلك أن يقول أحدهم: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك"2.

وفي صحيح ابن حبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا طيرة، والطيرة على من تَطَيَّرَ".

ومعنى هذا أن مَن تَطَيَّرَ تطيُّرًا مَنْهِيًّا عنه بأن يعتمد على ما يسمعه، أو يراه من الأمور التي يتطير بها حتى يمنعه عما يريد من حاجته: فإنه قد يصيبه ما يكرهه، وأما من توكل على الله، ولم ينظر إلى الأسباب المخوفة، وقال ما أُمِرَ به من هذه الكلمات ومضى فإنه لا يضره ذلك، فإذا كان هذا حال الطيرة، فأين الجامع بينها وبين الشرك الأكبر في الاعتقاد؟.

فإن أراد السائل أن المُتَطَيِّرَ إذا زَجَرَ الطير أو تَطَيَّرَ بما يراه من علم النجوم وغيره، أو بما يسمعه من الكلام يعتقد أن ذلك من علم الغيب، وأن الطير تخبره عما هو صائر إليه في المستقبل، أو أن الأفلاك تُدَبِّر أمرَ الخلائق؛ فليس هذا من الشرك الأصغر، بل هذا من الشرك الأكبر نظير شرك عُبَّاد الكواكب.

فصل في الدعاء والنداء لغير الله

دعاء الميت والغائب لم ينقل عن صحابي ولا تابعي

وأما قول القائل: {الثالث أنه قد ورد في حديث الضرير قوله يا محمد، وفي الجامع الكبير، وعزاه للطبراني فيمن انفلتت عليه دابته قال:"يا عباد الله احبسوا" وهذا دعاء ونداء لغير الله".

1 الترمذي: السير "1614"، وأبو داود: الطب "3910"، وابن ماجه: الطب "3538" ، وأحمد "1/389 ،1/438 ،1/440 2 أحمد "2/220"

ص: 616

فنقول -وبالله التوفيق-: اعلم أن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فحَمَى حِمَى التوحيد، وسَدَّ كل طريق يوصل إلى الشرك حتى في الألفاظ، حتى إن رجلا قال له: ما شاء الله وشئت قال: "أجعلتني لله ندا. قل: ما شاء الله وحده"1 فكيف يأمر بدعاء الميت أو الغائب؟.

بل من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن دعاء الميت والغائب: لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا فعله أحد من أئمة المسلمين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا قال أحدٌ: إن الصحابة استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولو كان هذا جائزا أو مشروعا: لفعلوه، ولو كان خيرا لسبقونا إليه. وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عددٌ كثيرٌ، وهم مُتَوَافِرُون، فما منهم مَن استغاث عند قبر صحابي ولا دعاه، ولا استغاث به ولا استنصر به.

ومعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله؛ بل على نقل ما هو دونه؛ وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون دعاء الموتى والغائبين، أو الدعاء عند قبورهم، والتوسل بأصحابها أفضل، أو لا يكون، فإن كان أفضل فكيف خَفِيَ علمًا وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة علما وعملا بهذا الفضل العظيم، ويظفر به الخلوف علما وعملا.

وهذان الحديثان اللذان أوردهما السائل إما أن يكون الصحابة الذين رَوَوْهُمَا وسمعوهما من النبي صلى الله عليه وسلم جاهليْن بمعناهما، وعلمه هؤلاء المتأخرون، وإما أن يكون الصحابة علموهما علما، وزهدوا فيهما عملا مع حرصهم على الخير وطاعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم وكلاهما مُحَالٌ، بل هم أعلم الناس بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطوع الناس لأوامره، وأحرص الناس على كل خير، وهم الذين نقلوا إلينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم فهل فهموا من هذه الأحاديث جواز دعاء الموتى والغائبين فضلا عن استحبابه والأمر به؟.

1 أحمد "1/283".

ص: 617

ومعلوم أنه قد عرضتْ لهم شدائدُ واضطراراتٌ وفتنٌ وقحطٌ وسنونٌ مجدباتٌ، أفلا جاءوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم شاكين وله مخاطبين، وبكشفها عنهم وتفريج كرباتهم داعين.

والمضطرب يَتَشَبَّثُ بكل سبب يعلم أن له فيه نفعا؛ لا سيما الدعاء، فلو كان ذلك وسيلة مشروعة وعملا صالحا: لفعلوه؛ فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور حتى توفاه الله، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين، هل يمكن أحد أن يأتي عنهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أنهم كانوا إذا كانت لهم حاجة، أو عرضت لهم شدة قصدوا القبور، فدعوا عندها وتمسحوا بها، فضلا عن أن يسألوها حوائجهم، فمن كان عنده في هذا أثرٌ أو حرف واحد في ذلك فليوقفنا عليه.

نعم يمكنهم أن يأتوا عن الخُلُوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤْمَرُونَ، بكثير من المُخْتَلَقَات، والحكايات المكذوبات، حتى لقد صُنِّفَ في ذلك عدّة مصنفات، ليس فيها حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما فيها التَّمْوِيهَات والحكايات المخترعات، والأحاديث المكذوبات. كقولهم: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور، وحديث: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه.

وفيها حكايات لهم عن تلك القبور: أن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلانا دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت، وفلانا نزل به ضُرٌّ، فأتى صاحب ذلك القبر: فكشف ضره، ونحو ذلك مما هو مُضَادٌّ لما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين، ومن له معرفة بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم يعلم أنه حَمَى جانب التوحيد وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك، فكيف يستدل بكلامه على نقيض ما أمر به فيستدل بقوله في حديث الأعمى:"يا محمد" على أنه أمر بدعائه في حال غيبته فيدل على جواز الاستغاثة بالغائب. وكذلك قوله "يا عباد الله احبسوا" يدل على ذلك.

ص: 618

وأيضا هذا من أعظم المُحَال وأبطل الباطل، بل كلامه صلى الله عليه وسلم يوافق الوحيَ المُنَزَّل عليه، يصدقه ولا يكذبه فإنهما عن مشكاة واحدة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1.

ونحن نجيب عن هذين الحديثين -بعون الله وتأييده- من وجوه فنقول:

الرد على من استدل بحديث يا عباد الله احبسوا في دعاء غير الله

{حديث يا عباد الله احبسوا. وحديث توسل الأعمى"

{والرد على من استدل بهما على جواز دعاء غير الله تعالى"

من بضعة وجو هـ 2

"الوجه الأول": أن القرآن فيه: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 3 فَيُرَدُّ المتشابهُ إلى المُحْكَم، ولا يُضْرَبُ كتاب الله بعضه ببعض، وكذلك السنة فيها محكم، وفيها متشابه، فيرد متشابهها إلى المحكم، ولا يضرب بعضها ببعض فكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناقض بل يصدق بعضه بعضا ويوافق القرآن ولا يناقضه، وهذا أصل عظيم تجب مراعاته، ومن أهمله فقد وقع في أمر عظيم وهو لا يدري.

ومن المعلوم أن أدلة القرآن الدالة على النهي عن دعاء غير الله متظاهرة مع وضوحها وبيانها، كقوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 4 وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 5 وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 6 الآية. إلى غير ذلك من الآيات الواضحات البينات.

فمن أعرض عن هذا كله وَتَعَامَى عنه، وأعرض عن الأحاديث الصحيحة الدالة على تحقيق التوحيد وإبطال الشرك وسد ذرائعه، وتعلق بحديث ضعيف، بل ذكر بعض العلماء أنه حديث منكر، وهو قوله:"إذا انفلتَتْ دابة أحدكم فليناد: يا عباد الله احبسوا" ومثل حديث الأعمى الذي فيه: "يا محمد" وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يسأله

1 سورة النجم آية: 3، 4.

2 هذا العنوان ليس من الأصل، وإنما وضع للتنبيه وتوجيه النظر إلى موضوع المسألة.

3 سورة آل عمران آية: 7.

4 سورة الجن آية: 18.

5 سورة الرعد آية: 14.

6 سورة يونس آية: 106.

ص: 619

في حال غَيْبَته لم يكن هذا إلا من زَيْغٍ في قلبه قد تناوله كقوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} 1.

وقوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث عائشة: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"2.

"الوجه الثاني": أن يقال لمن استدل بالحديثين على دعاء غير الله: أتظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك، وقد نهى عنه، وجَرَّدَ التوحيد لله، ونهى عن دعوة غير الله، وقال -فيما ثبت عنه- في صحيح البخاري:"من مات وهو يدعو لله نِدًّا دخل النار" 3 وقال لابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" 4 فكيف يجتمع في قلبك أن الله بعثه بالتوحيد والتحذير من الإشراك، ثم يأمر أمته بعين ما حَذَّرَهُم عنه؟!.

فمن زعم أن قوله: " يا عباد الله احبسوا" يدل على جواز دعاء الغائب بالنص، وعلى دعاء الميت بالقياس على الغائب، وكذلك حديث الأعمى هذا فقد حَادَّ الله ورسوله؛ حيث زعم أن الرسول أمر أمته بالإشراك الذي بعثه الله ينهى عنه.

"الوجه الثالث": أن يقال: وعلى تقدير أن هذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله شرك أصغر، فهل يظن من في قلبه رائحة إيمان أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك الأصغر الذي قد حرَّمه الله ورسوله؟ بل إذا علم الإنسان أن هذا شرك أصغر، ثم زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أمته به كان كافرا.

وقد قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5 إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 6 فحاشا جنابه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أمته بالشرك ولو كان أصغر.

ومن استدل بهذين الحديثين على دعاء الموتى والغائبين: فهو بين أمرين لا محيد

1 سورة آل عمران آية: 7.

2 البخاري: تفسير القرآن "4547"، ومسلم: العلم "2665"، والترمذي: تفسير القرآن "2993 ،2994"، وأبو داود: السنة "4598"، وابن ماجه: المقدمة "47" ، وأحمد "6/48 ،6/124 ،6/132 ،6/256"، والدارمي: المقدمة "145".

3 البخاري: تفسير القرآن "4497" ، وأحمد "1/402 ،1/407 ،1/462 ،1/464".

4 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع "2516" ، وأحمد "1/293 ،1/303 ،1/307".

5 سورة آل عمران آية: 79.

6 سورة آل عمران آية: 80.

ص: 620

له عنهما: إما أن يقول: هذا يدل على أن دعاءهم مستحبٌ أو جائزٌ، ومن قال ذلك: فقد خالف إجماع المسلمين، ومرق من الدين، فإنه لم يقل أحد من المسلمين: إن دعاء الموتى جائز أو مستحب.

وإما أن يقول: إن ذلك يدل على أن دعاء الموتى شركٌ أصغر لا أكبر، ومن قال ذلك: فقد تناقض في استدلاله حيث استدل بكلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر به على ما نهى عنه، وكيف يسوغ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يستدل بأمره على نهيه.

ثم يقال لهذا المستدل بقوله: "فليناد يا عباد الله احبسوا" أَخْبِرْنَا عن هذا الأمر؟ هل هو للوجوب أو للاستحباب أو الإباحة، وهي أقل أحواله، وأما ما كان مكروها أو محرما فلا يكون فيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فما وجه الاستدلال؟.

"الوجه الرابع": أن هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن من رواته معروف بن حسان، وهو منكر الحديث قاله ابن عدي.

"الوجه الخامس": أن يقال: إن صح الحديث فلا دليل فيه على دعاء الميت والغائب، فإن الحديث ورد في أذكار السفر، ومعناه: أن الإنسان إذا انفلتت دابته، وعجز عنها فقد جعل الله عبادا من عباده الصالحين من صالحي الجن أو من الملائكة أو ممن لا يعلم من جنده سواه:{مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} 1 فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عبادا قد وكلهم بهذا الأمر، فإذا انفلتت الدابة، ونادى صاحبها بما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: حبسوا عليه دابته.

فإن هؤلاء عباد الله أحياء، وقد جعل الله لهم قدرة على ذلك كما جعل للإنس فهو ينادي من يسمع ويعين بنفسه كما ينادي أصحابه الذين معه من الإنس، فأين هذا من الاستغاثة بأهل القبور؟ بل هذا من جنس ما يجوز طلبه من الأحياء، فإن الإنسان يجوز له أن يسأل المخلوق من الأحياء ما يقدر عليه كما قال تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 2 وكما في قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إ} 3 وكما يستغيث الناس يوم القيامة بآدم ثم بنوح ثم إبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى

1 سورة المدثر آية: 31.

2 سورة القصص آية: 15.

3 سورة الأنفال آية: 72.

ص: 621

حتى يأتوا نبينا صلى الله عليه وسلم بل هذا من جنس استغاثته بِرُفْقَتِهِ من الإنس، فإذا انفلتت دابته ونادى أحد رُفْقَتَه يا فلان: رُدَّ الدابة لم يكن في هذا بأس.

فهذا الذي ورد في الحديث: من جنس هذا، بل قد يكون قربة إذا قصد به امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم فأين هذا من استغاثة العبادة بأن ينادي ميتا أو غائبا في قطر شاسع، سواء كان نبيا أو عبدا صالحا.

"الوجه السادس": أن الله -تعالى- قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} 1 فبعد أن أكمله بفضله ورحمته فلا يحل أن يخترع فيه ما ليس منه. ونقيس عليه ما لا يقاس عليه، بل الواجب اتباع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما أمر به، فإذا نادى شخصا معينا باسمه، فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى مَن لم يُؤْمَر بندائه، وليس ذلك في كل حركة وسكون وقيام وقعود، وإنما ذلك في أمر مخصوص.

الاستدلال بحديث الأعمى في دعاء غير الله

وأما حديث الأعمى، فالجواب عليه من وجوه:

{الوجه الأول" أن الحديث إذا شذ عن قواعد الشرع: لا يُعْمَل به، فإنهم قالوا: إن حَدَّ الحديث الصحيح: إذا رواه العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة، فهذا الحديث لا يجوز الاحتجاج به في هذا الباب؛ لمخالفته قواعد الشرع وأصوله، بل من احتج به على دعاء الميت والغائب فقد خالف نصوص الكتاب والسنة، مع أنه بحمد الله- يوافق ذلك ولا يخالفه، فليس فيه دليل على ما ذكره السائل كما سنبينه إن شاء الله- وكيف يستدل بما ليس فيه دلالة مطابقة ولا تضمن ولا التزام؟.

{الوجه الثاني" أن يقال: هذا الحديث قد رواه النسائي في عمل اليوم والليلة، والبيهقي وابن شاهين في دلائلهما، كلهم عن عثمان بن حنيف، ولم يذكروا فيه هذه اللفظة: أعني:"يا محمد" ولفظ الحديث عندهم عن عثمان بن حنيف: "أن رجلا أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله قد أُصِبْتُ في بصري فادعُ الله لي. فقال له النبي

1 سورة المائدة آية: 3.

ص: 622

-صلى الله عليه وسلم: "توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبي محمد، نبي الرحمة إني أتشفع به إليك في رد بصري، اللهم شَفِّع نبيي فيَّ " ففعل ذلك، فرد الله عليه بصره وقال له:" إذا كانت لك حاجة فبمثل ذلك فافعل"انتهى.

فهذا الحديث بهذا اللفظ لا حجة فيه للمبطل؛ لأن غايته أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وساقه الترمذي رحمه الله بسياق قريب من هذا. فقال: حدثنا محمد بن غيلان ثنا عثمان بن عمر ثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف: "أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله لي أن يعافيني، قال "إن شئت دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك" قال فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لِتُقْضَى اللهم فَشَفِّعْهُ فيَّ" 1 هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر، وهو غير الخَطمي. انتهى.

هذا لفظه بحروفه، وفي نسخة أخرى:"إني توجهت به إلى ربي" وليست هذه اللفظة في الحديث في سياق هؤلاء الأئمة أعني قوله: يا محمد، التي هي غاية ما يتعلق به المبطلون.

"الوجه الثالث" أن يقال: على تقدير صحة هذه اللفظة فليس فيها ما يدل على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولو كان فيها ما يدل على ذلك لفعله الصحابة رضي الله عنهم، فلما ثبت أن الصحابة لم يفعلوه، بل ولا أجازوه علمنا أنه ليس في ذلك دلالة.

فيبقى أن يقال ما معناه؟ فنقول:

ذكر العلماء في معناه قولين: "أحدهما" أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فيدل على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، إلا أن التوسل ليس فيه دعاء له ولا استغاثة به، وإنما سؤال الله بِجَاهِهِ، وهذا ذكره الفقيه أبو محمد العز بن عبد السلام في فتاويه، فإنه أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم قال: وأما التوسل به صلى الله عليه وسلم: فجائز إن صح الحديث فيه- يعني حديث الأعمى.

1 الترمذي: الدعوات "3578"، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1385".

ص: 623

التوسل بالنبي وما ورد فيه

قال الشيخ ابن تيمية رحمه الله: أما التوسل إلى الله بغير نبينا صلى الله عليه وسلم فلا نعلم أحدا من السلف فعله، ولا روى فيه أثرا، ولا نعلم فيه إلا ما أفتى ابن عبد السلام من المنع، وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه حديث في السنن، وهو حديث الأعمى الذي أصيب ببصره، فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ التوسل به، وللناس في معنى الحديث قولان:

"أحدهما" أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر لما استسقى بالعباس فذكر أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقا، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به هو استسقاؤهم به، بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله. وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته وفي مغيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعا لهم داعيا، ولهذا قال في حديث الأعمى:"اللهم فَشَفِّعْهُ فيَّ" 1 فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له فسأل الله أن يُشَفِّعَهُ فيه.

"والثاني" أن التوسل به يكون في حياته وبعد وفاته. انتهى كلام الشيخ رحمه الله. فتبين بهذا أن معنى التوسل إلى الله هو بدعائه وشفاعته في حضوره أو التوسل بذاته، بأن يسأل الله بجاهه.

والتوسل غير الاستغاثة، فإنه لم يقل أحد: إن من قال: اللهم إني أسألك بحق فلان أنه استغاث به؛ بل إنما استغاث بمن دعاه، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو نحو ذلك مما يقولونه في أدعيتهم يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالشيء طالبٌ منه سائل له، والمتوسل به لا يُدْعَى، ولا يُسْأَلُ ولا يُطْلَبُ منه، وإنما يطلب به، وكل أحد يُفَرِّقُ بين المدعو والمدعو به، والاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار: طلب النصر، والاستعانة: طلب العون، فكل أحد يفرق بين المسئول والمسئول به.

1 الترمذي: الدعوات "3578"، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1385".

ص: 624

فالحديث على هذا المعنى -الذي ذهب إليه ابن عبد السلام- لا حُجَّة فيه لمن جَوَّزَ الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فإن هذا لم يفهمه أحد من العلماء من الحديث، ولم يذكروا في معناه إلا هذين القولين اللذين ذكرناهما.

"أحدهما" ما ذهب إليه ابن عبد السلام:"والثاني" ما ذهب إليه الأكثرون أن معناه: التوسل إلى الله بدعائه وشفاعته بحضوره كما في صحيح البخاري أن عمر –رضي الله عنه استسقى بالعباس فقال: "اللهم إنا كنا إذا جدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فَيُسْقَوْنَ"1.

فبيَّن عمر أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون، وتوسلهم به: هو أنهم يسألونه أن يدعو الله لهم، فيدعو ويدعون معه، فيتوسلون بدعائه كما في الصحيحين عن أنس:"أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من بابٍ كان نَحْوًا من دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال: يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: "اللهم أغثنا" 2 الحديث بطوله، ففي هذا أنه قال: "ادع الله أن يغيثنا". فلما كثر الغيث قال: "ادع الله أن يمسكها عنا".

فهذا هو التوسل الذي كانوا يفعلونه، فلما مات صلوات الله وسلامه عليه- لم يتوسلوا به، ولم يستسقوا به، فلو كان ذلك مشروعا لم يعدلوا إلى العباس، وكيف يتركون التوسل بنبيهم صلى الله عليه وسلم ويعدلون إلى العباس؟ وكذلك معاوية استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال:"اللهم إنا نتشفع إليك بخيارنا، يا يزيد ارفع يديك إلى الله" فرفع يديه ودعا ودعوا فَسُقُوا.

وقال أبو العباس ابن تيمية -في رده على ابن البكري لما تكلم على حديث

1 البخاري: الجمعة "1010".

2 البخاري: الجمعة "1014"، ومسلم: صلاة الاستسقاء "897"، والنسائي: الاستسقاء "1518".

ص: 625

الأعمى- قال: والأعمى كان قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له كما كان الصحابة يطلبون منه في الاستسقاء.

وقوله: "أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" أي: بدعائه وشفاعته لي، ولهذا قال في تمام الحديث:"اللهم فشفعه فيَّ" فالذي في الحديث مُتَّفَقٌ على جوازه، وليس هو مما نحن فيه. انتهى.

وقال رحمه الله في موضع آخر: لفظ التوجه والتوسل يُرَادُ به: أن يتوجه بهم ويتوسل إلى الله بدعائهم وشفاعتهم، فهذا هو الذي جاء في ألفاظ السلف من الصحابة –رضي الله عنهم، كقول عمر:"اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون"1 فهذا إخبار من عمر عما كانوا يفعلونه. وتوسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك معاوية لما استسقى بأهل الشام توسل بيزيد.

ومن هذا الباب ما في البخاري عن عمر -رضياللهعنه- قال: ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فما ينزل حتى يجيش الميزاب:

وأبيضُ يُسْتَسْقَى الغَمَام بوجهه

ثِمَال اليتامى عصمة للأرامل

دعاء النبي للأعمى الذي توسل به

ومن هذا الباب: حديث الأعمى، فإنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك" قال: ادع الله، فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو هذا الدعاء "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد -نبي الرحمة-، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لِتُقْضَى اللهم فشفعه فيَّ" فأمره أن يطلب من الله أن يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يكون طلبا لتشفيعه فيه إذا شفع فيه فدعا الله له.

وكذلك في أول الحديث أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له. فدل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له ودعا له، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو الله وأن

1 البخاري: الجمعة "1010".

ص: 626

يسأله قبول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا نظير توسلهم به في الاستسقاء؛ حيث طلبوا منه أن يدعو الله لهم، وَدَعَوْا هم اللهَ تعالى- أيضا.

وقوله: "يا محمد إني توجهت بك إلى ربي": خطاب لحاضر في قلبه، كما نقول في صلاتنا:"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، وكما يستحضر الإنسان من يحبه ويبغضه أو يخاطبه، وهذا كثير.

فهذا كله يبين أن معنى التوسل والتوجه به وبالعباس وغيرهما في كلامهم: هو التوسل والتوجه بدعائه وبدعاء العباس ودعاء من توسلوا به، وهذا مشروع بالاتفاق لا ريب فيه. انتهى كلام أبي العباس ابن تيمية.

وفيما ذكرنا كفاية لمن نَوَّرَ الله قلبه، ومن أعمى الله قلبه لم تَزِدْه كثرةُ النُّقُول إلا حيرة وضلالا:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1.

فصل في التوسل المشروع هو التقرب إلى الله بالعمل والدعاء

وأما قول القائل: وأما التوسل فقد أخرج الحاكم في مستدركه وصححه أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وورد: "اللهم بحق نبيك والأنبياء قبلي" ولا أدري من خَرَّجَهُ.

فأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصةً: فقد رأيت لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نقلا في جواز ذلك عن ابن عبد السلام، فبقي الكلام في النبي، أو في غيره من الأنبياء، وفي معاني الأحاديث الأخر، وما حكمها؟ وما الحجة المقابلة لما يقولون، المُخَصِّصَة لما يفهمون؟ وأما التوسل بغير الأنبياء فَيُورِدُونَ أن عمر توسل بالعباس في الاستسقاء فسُقُوا، وطفق الناس يتمسحون به، ويقولون: هذا الوسيلة إلى الله.

فأما أول القصة فهي في البخاري، وهي لدينا بحمد الله، وقولهم: فطفق إلى آخره. لا أدري من قالها، فما تقولون في معناها؟. وقد رأيت لبعض المحققين أن التوسل بالأولياء غير التوسل إليهم، فالأول جائز، والثاني شرك. وفي عدة الحصن الحصين

1 سورة النور آية: 40.

ص: 627

للجَزَرِيّ: والتوسل إلى الله بأنبيائه ورسله.

{فالجواب" أن يقال: العبادات بناؤها على الأمر والاتباع، لا على الهوى والابتداع، والتوسل الذي جاءت به السنة وتواتر في الأحاديث هو: التوسل والتوجه إلى الله بالأسماء والصفات، وبالأعمال الصالحة، كالأدعية الواردة في السنة كقوله: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم" 1 وفي الحديث الآخر:"اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" 2 وقوله في الحديث الآخر: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقتك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"3.

وكما حكى الله سبحانه- عن عباده المؤمنين أنهم توسلوا إليه بصالح أعمالهم فقال حاكيا عنهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} 4 الآية. وكما ثبت في الصحيحين من قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم. وكالتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم في حياتهم، كما ذكرنا من توسل الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، وتوسلهم بالعباس وبيزيد بن الأسود، وتوسل الأعمى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته له.

فهذا كله مما لا نزاع فيه، بل هو من الأمور المشروعة، وهو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 5.

التوسل بذوات الصالحين غير مشروع

وأما التوسل بالذات فيقال: ما الدليل على جواز سؤال الله بذوات المخلوقين؟ ومن قال هذا من الصحابة والتابعين؟ فالذي فعله الصحابة رضي الله عنهم هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات والتوحيد، والتوسل بما أمر الله به من الإيمان بالرسل ومحبتهم وطاعتهم ونحو ذلك، وكذلك توسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته

1 النسائي: السهو "1300"، وأبو داود: الصلاة "1495".

2 الترمذي: الدعوات "3475"، وابن ماجه: الدعاء "3857".

3 أحمد "1/452".

4 سورة آل عمران آية: 193.

5 سورة المائدة آية: 35.

ص: 628

في حياته، وبدعاء العباس ويزيد.

وأما التوسل بالذات بعد الممات: فلا دليل عليه، ولا قاله أحد من السلف؛ بل المنقول عنهم يناقض ذلك؛ وقد نص غير واحد من العلماء على أن هذا لا يجوز، ونقل عن بعضهم جوازه، وهذه المسألة وغيرها من المسائل إذا وقع فيها النزاع بين العلماء فالواجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 1 وقال تعالى: {مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 2.

ومعلوم أن هذا لم يكن منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا مشهورا بين السلف، وأكثر العلماء على النهي عنه، ولا ريب أن الأنبياء والصالحين لهم الجاه عند الله، لكن الذين لهم النفع عند الله من الجاه والمنازل والدرجات أمرٌ يعود نفعه إليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا، فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبيه صلى الله عليه وسلم ومحبته وطاعته واتباع سنته كان هذا من أعظم الوسائل.

وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته: فلا يكون وسيلة؛ فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بما مر من المتوسل به من الدعاء للمتوسل، أو بمحبته، واتباعه، فبأي شيء يتوسل به؟ والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقول لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عند فلان، وهذا جائز، وإما أن يقسم عليه، ولا يجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق كما أنه لا يجوز أن يقسم على الله بالمخلوقين.

فالتوسل إلى الله بذات خلقه: بدعة مكروهة، لم يفعلها السلف من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان.

سؤال الله بأحد خلقه وظن استجابة الدعاء عند قبره

قال ابن القيم رحمه الله في كتابه "إغاثة اللهفان في مكايد الشيطان": وهذه

1 سورة النساء آية: 59.

2 سورة الشورى آية: 10.

ص: 629

الأمور المبتدعة عند المقبور أنواع: أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر وتقبيله والتمسح به.

"النوع الثاني": أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا.

"النوع الثالث": أن يظن الدعاء عنده مستجابا، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد القبر لذلك، فهذا أيضا من المنكر إجماعا، وما علمت فيه نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعله.

وبالجملة، فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص منه إلا الحُنَفَاء أتباع ملة إبراهيم، وعبادتها في الأرض من قبل نوح، وهي كلها ووقوفها وسدنتها وحجابها والكتب المُصَنَّفَة في عبادتها قد طبقت الأرض، قال إمام الحنفاء عليه الصلاة والسلام:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الاأَصْنَامَ َبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1.

وكفى في معرفة أنهم أكثر أهل الأرض: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن بَعْث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون" 2 وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُوراً} 3 وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 4.

ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة: لما أقدم عُبَّادُها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، وهم يشاهدون مصارع إخوانهم، وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها. انتهى كلامه رحمه الله.

والمقصود أنه حكى الإجماع على أن التوسل إلى الله بصاحب القبر: بدعة إجماعا.

سؤال الله بخلقه أو بحق أحد

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في الرد على ابن البكري: "وما زلتُ أبحث وأكشف ما أمكنني عن كلام السلف والأئمة والعلماء، هل جَوَّزَ أحدٌ

1 سورة إبراهيم آية: 35، 36.

2 البخاري: أحاديث الأنبياء "3348"، ومسلم: الإيمان "222" ، وأحمد "3/32".

3 سورة الإسراء آية: 89.

4 سورة الأنعام آية: 116.

ص: 630

منهم التوسل بالصالحين في الدعاء، أو فعل ذلك أحد منهم فما وجدته، ثم وقفتُ على فُتْيَا للفقيه أبي محمد بن عبد السلام، أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم وأما بالنبي صلى الله عليه وسلم فَجَوَّزَ التوسل به -إن صح الحديث في ذلك"-.

وذكر القُدُورِيُّ في شرح الكرخي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز أن يسأل الله إلا به. انتهى كلامه.

وذكر ابن القيم رحمه الله عن أبي الحسن القدوري نحو ذلك؛ فقال رحمه الله قال القدوري: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمَعَاقِد العِزّ من عرشك، أو يقول: بحق خلقك.

والجوازُ قولُ أبي يوسف- قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك هو الله، فلا أكره ذلك، وأكره بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام، قال القدوري: المسألة لا تجوز؛ لأنه لا حق لمخلوق على الخالق: فلا تجوز يعني وفاقا.

وقال البلدجي في شرح المختارة: ويكره أن يدعو الله إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك وأنبيائك ونحو ذلك؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. انتهى.

وقال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" لفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والسؤال به فيه إجمالٌ واشتراكٌ، غلط بسببه مَن لم يَفْهَم مقصود الصحابة، فإنه يُرَاد به التسبب به؛ لكونه داعيا وشافعا مثلا؛ أو لكون الداعي مجيبا له مطيعا لأمره مقتديا به، فيكون التسبب إنما هو بمحبة السائل واتباعه له، وأما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويُرَاد به الإقسام به والتوسل بذاته، فهذا هو الذي كرهوه، ونهوا عنه.

وكذلك لفظ السؤال بشيء، قد يُراد به المعنى الأول وهو التسبب به لكونه سببا في حصول المطلوب، وقد يُراد به الإقسام، ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أَوَوْا إلى غار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما؛ فإن الصخرة انطبقت عليهم فقالوا: لِيَدْعُ كل رجل منكم بأفضل

ص: 631

عمله؛ فدعوا الله بصالح أعمالهم؛ لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله؛ ويتوجه به إليه ويسأل به، وهؤلاء دعوه بعبادته، وفعل ما أمر به من العمل الصالح، وسؤاله والتضرع إليه.

ومن هذا ما يذكر عن الفضيل بن عياض أنه أصابه عسر البول فقال: بحبي إياك إلا فَرَّجْتَ عني، فَفَرَّجَ عنه. وكذلك المرأة المهاجرة التي أحيا الله ابنها لما قالت: اللهم إني آمنت بك وبرسولك وهاجرت في سبيلك، وسألت الله أن يحيي ولدها، وأمثال ذلك.

وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} 1 الآيات. من سؤال الله، والتوسل إليه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.

حديث أبي سعيد أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا

وأما قوله في حديث أبي سعيد: "أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا" فهذا الحديث رواه عطية العوفي وفيه ضعف، لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه أن يُجِيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم. فالسؤال له والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به والتوجه به والتسبب به.

ولو قُدِّرَ أنه قَسَم لكان قَسَمًا بما هو من صفاته؛ فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله في الحديث الصحيح "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"2.

والاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، فاستعاذ صلى الله عليه وسلم بعفوه ومُعَافَاتِه من عقوبته، مع أنه لا يُسْتَعَاذ بمخلوق كسؤال الله بإجابته وإثابته، وإن كان لا يسأل المخلوق، ومن قال من العلماء: لا يسأل إلا به لا ينافي السؤال بصفاته، كما أن الحلف لا يشرع إلا بالله، و "من حلف بغير الله فقد أشرك" 3 ومع هذا: فالحلف بعزة الله، ولعمر الله، ونحو ذلك مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم

1 سورة آل عمران آية: 193.

2 مسلم: الصلاة "486"، والترمذي: الدعوات "3493"، والنسائي: التطبيق "1100 ،1130" والاستعاذة "5534"، وأبو داود: الصلاة "879"، وابن ماجه: الدعاء "3841" ، وأحمد "6/58"، ومالك: النداء للصلاة "497".

3 الترمذي: النذور والأيمان "1535"، وأبو داود: الأيمان والنذور "3251" ، وأحمد "2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125".

ص: 632

الحلف به لم يدخل في الحلف بغير الله.

وأما قول بعض الناس: أسألك بالله وبالرحم، وقراءة من قرأ {تسألون به والأرحام" فهو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة، وتقتضي أن يصل الإنسان به قرابته؛ فسؤال السائل بالرحم لغيره: يتوسل إليه بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس هو من باب الإقسام، ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، وتوسل بما هو يقتضي المطلوب كالتوسل بدعاء الأنبياء وبطاعتهم.

ومن هذا الباب ما يروى عن عبد الله بن جعفر أنه قال: كنت إذا سألت عليا شيئا فلم يُعْطِينِيه، قلت له: بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه فيعطينيه، أو كما قال بعض الناس ظن، فإن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، ومن باب قولهم: أسألك بحق أنبيائك، ونحو ذلك، وليس كذلك بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث:"إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل وُدِّ أبيه، بعد أن يولي"1.

ولو كان من هذا الباب الذي ظنوه لكان سؤاله لعلي بحق النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم الخليل ونحوهما أولى من سؤاله بحق جعفر، ولكان عليّ إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وإجابة السائل أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره. انتهى ملخصا.

بطلان ما روي من توسل آدم بالنبي

وأما قول القائل: فقد أخرج الحاكم في مستدركه، وصححه: "أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال أحمد بن حنبل: ضعيف، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وضعَّفَه ابن المديني جدا، وقال أبو داود: أولاد زيد بن أسلم كلهم ضعيف، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: ذكر رجل لمالك حديثا. فقال من حَدَّثَك؟ فذكر إسنادا له منعطفا. فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدثك عن أبيه

1 مسلم: البر والصلة والآداب "2552"، والترمذي: البر والصلة "1903"، وأبو داود: الأدب "5143" ، وأحمد "2/88 ،2/91 ،2/97 ،2/111".

ص: 633

عن نوح عليه السلام.

وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث، كان في نفسه صالحا، وفي الحديث واهيا. وقال ابن حبان: كان يَقْلِب الأخبار، وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ضعيفا جدا، وقال ابن خزيمة: ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه، وقال الحاكم: وأبو نعيم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، وقال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه، فهذا الحديث الذي استدل به: تفرد به عبد الرحمن بن زيد، وهو كما تسمع.

وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله في رده على ابن البكري: وأما قول القائل: قد توسل به الأنبياء، آدم وإدريس ونوح وأيوب، كما هو مذكور في كتب التفسير وغيرها. فيقال: مثل هذه القصص لا يجوز الاحتجاج بها بإجماع المسلمين فإن الناس لهم في شرع من قبلنا قولان:

"أحدهما": أنه ليس بحجة.

"الثاني": أنه حجة ما لم يأت شرعنا بخلافه، بشرط أن يثبت ذلك بنقل معلوم، كإخبار النبي صلى الله عليه وسلم.

الخلاف في شرع من قبلنا وعدم الاحتجاج بالإسرائيليات

فأما الاعتماد على أخبار أهل الكتاب، أو نقل مَن نقل عنهم: فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين؛ لأن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم"1.

وهذه القصص التي فيها ذِكْر توسل الأنبياء بذاته: ليست في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا لها إسناد معروف عن أحد من الصحابة، وإنما تُذْكَرُ مُرْسَلَة كما تُذْكَرُ الإسرائيلياتُ التي تُرْوَى عَمَّن لا يُعْرَفُ. وقد بُسِطَ الكلام في غير هذا الموضع عما نُقِلَ في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتكلمنا عليه وبَيَّنَا بطلانَ جميعه.

ولو نقل ذلك عن كعب ووهب ومالك بن دينار ونحوهم ممن ينقل عن أهل الكتاب: لم يجز أن يحتج به؛ لأن الواحد من هؤلاء، وإن كان ثقة، فغاية

1 أبو داود: العلم "3644" ، وأحمد "4/136".

ص: 634

ما عنده: أن ينقل من كتاب من كتب أهل الكتاب، أو يسمعه من بعضهم؛ فإنه بينه وبين الأنبياء زمن طويل، والمُرْسَل عن المجهول من أهل الكتاب الذي لا يُعْرَف علمُه وصدقُه: لا يُقْبَل باتفاق المسلمين.

ومراسيل أهل زماننا عن نبينا صلى الله عليه وسلم لا تقبل عند علمائنا مع كون ديننا محفوظًا محروسًا؛ فكيف بما يُرسل عن آدم وإدريس ونوح وأيوب عليهم السلام؟ والقرآن قد أخبر بأدعية الأنبياء وتوباتهم واستغفارهم، وليس فيها شيء من هذا.

وقد نقل أبو نعيم في الحلية: أن داود عليه السلام قال: "يا رب أسألك بحق آبائي عليك: إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فقال: يا داود وأيّ حق لآبائك علي؟ ".

فإن كانت الإسرائيليات حجة، فهذا يدل على أنه لا يسأل بحق الأنبياء، وإن لم يكن حجة: لم يجز الاحتجاج بتلك الإسرائيليات انتهى كلامه. وبيَّن رحمه الله أنه لا يصح في هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن جميع ما روي في ذلك باطل لا أصل له.

الاستدلال بحديث الأعمى على التوسل بالذات

وأما قوله: وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فقد رأيت لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نقلا في جواز ذلك عن ابن عبد السلام. فنقول: قد تقدم أن التوسل المشروع، هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات والتوحيد؛ وكذلك التوسل بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به وطاعته، وكذلك التوسل بدعائه وشفاعته وهذا كله مشروع بلا ريب.

وأما التوسل بنفس الذات، فقد قدمنا أن أكثر العلماء نَهَوْا عن ذلك، وجعلوه من البدعة المكروهة المُحْدَثَة، وبعضهم رَخَّصَ في ذلك، وهو قول ضعيف مردود، والعز بن عبد السلام أنكر التوسل إلى الله بغير النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فعلق القول بجوازه على صحة حديث الأعمى،

ص: 635

لأنه فهم من الحديث أن الأعمى توسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم وأما الجمهور فحملوا حديث الأعمى على أنه توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما كان الصحابة يتوسلون به في الاستسقاء، كما في حديث أنس الذي رواه البخاري في صحيحه، وقد تقدم، 1.

وشيخنا رحمه الله نقل كلام العز بن عبد السلام؛ ليبين أن مسألة التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم بدعة مكروهة وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فأجازه بعض العلماء كالعز بن عبد السلام.

والسائل فهم من نقل الشيخ أنه اختاره، وليس الأمر كذلك؛ بل اختياره رحمه الله هو ما ذهب إليه الجمهور أن ذلك بدعة مُحْدَثَة لم يفعلها الصحابة ولا التابعون؛ فإنه لم يُنْقَل عن أحد منهم أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته كما قدمناه.

وأما قوله: وأما التوسل بغير الأنبياء فَيُورِدُونَ أن عمر توسل بالعباس في الاستسقاء، فقد تقدم بيانه بما فيه كفاية.

وبيان أن التوسل بدعاء الصالحين في الاستسقاء وغيره مشروع، كما فعله الصحابة؛ لما توسلوا بالعباس ويزيد بن الأسود وليس كلامنا في هذا، وإنما الكلام في التوسل بنفس الذات.

وأما قولهم في حديث العباس: "فطفق الناس يتمسحون به". فلم نقف لها على أصل، ولا رأيناها في شيء من الكتب، وعلى تقدير ثبوتها فليس فيها حجة على التوسل بالأموات.

1 جملة القول في حديث الأعمى أن له وجها موافقا للعقائد والقواعد، وهو طلب الدعاء والتشفع به، فيؤخذ به، ووجها مخالفا لها فلا يجوز الأخذ به لشذوذه مع مخالفته؛ فإنه لم يرد شيء في معناه عن أحد من الصحابة، ورواية الشاذ كهذا لا يُحْتَجُّ بها مطلقا، فكيف إذا كانت في مسألة تعبدية تمس العقيدة- فهذه لا تثبت إلا بنص قَطْعِي الرواية والدلالة معا.

ص: 636

فصل بلوغ الدعوة وفهمها الذي تقوم به الحجة

وأما قوله: إن سلمنا هذا القول، وظهر دليله فالجاهل معذور؛ لأنه لم يُدْرِك الشرك والكفر، ومن مات قبل البيان فليس بكافر، وحكمُهُ حكمُ المسلمين في الدنيا والآخرة؛ لأن قصة ذات أنواط وبني إسرائيل حين جاوزوا البحر تدل على ذلك إلى آخره.

"فالجواب" أن يقال: إن الله تعالى- أرسل الرسل {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1 فكل من بلغه القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة، قال الله -تعالى-:{لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 2 وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 3.

وقد أجمع العلماء على أن مَن بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن حجة الله قائمة عليه. ومعلوم بالاضطرار من الدين أن الله سبحانه- بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب لِيُعْبَدَ وحده ولا يُشْرَكُ معه غيرُهُ، فلا يُدْعَى إلا هو ولا يُذْبَحُ إلا له، ولا يُنْذَرُ إلا له، ولا يُتَوَكَّلُ إلا عليه، ولا يُخَافُ خوفَ السر إلا منه، والقرآن مملوءٌ من هذا.

قال الله -تعالى-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 4 وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} 5 الآية، وقال:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} 6 وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 7 وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 8 وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 9 وقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 10 وقال: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 11 وقال: {لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 12.

والآيات الواردة في هذا المعنى كثيرة، والله سبحانه- لا يُعَذِّبُ خلقَه إلا بعد الإعذار إليهم، فأرسل رسله وأنزل كتبه لئلا يقولوا:{لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 13 وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} 14.

1 سورة النساء آية: 165.

2 سورة الأنعام آية: 19.

3 سورة الإسراء آية: 15.

4 سورة الجن آية: 18.

5 سورة الرعد آية: 14.

6 سورة يونس آية: 106.

7 سورة الكوثر آية: 2.

8 سورة المائدة آية: 23.

9 سورة هود آية: 123.

10 سورة البقرة آية: 40.

11 سورة آل عمران آية: 175.

12 سورة التوبة آية: 18.

13 سورة القصص آية: 47.

14 سورة طه آية: 134.

ص: 637

فكل من بلغه القرآن: فليس بمعذور، فإن الأصول الكبار -التي هي أصل دين الإسلام- قد بَيَّنَهَا الله في كتابه، ووضحها وأقام بها الحجة على عباده، وليس المراد بقيام الحجة: أن يفهمها الإنسان فَهْمًا جَلِيًّا كما يفهمها مَن هداه الله، ووفَّقه وانقاد لأمره، 1.

فإن الكفار قد قامت عليهم حجة الله، مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أَكِنَّة أن يفهموا كلامه، فقال:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} 2 وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} 3 وقال تعالى: {نَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 4 وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 5 والآيات في هذا المعني كثيرة.

يخبر سبحانه- أنهم لم يفهموا القرآن، ولم يفقهوه، وأنه عاقبهم بجعل

1 هذا القيد الذي قيَّد الشيخ به الفهم هنا قد أزال اللبس الذي يتبادر إلى الذهن من بعض إطلاقاته في مواضع أخرى، واتبعه فيه بعضُ علماء نجد، فصار بعضهم يقول بأن الحجة تقوم على الناس ببلوغ القرآن، وإن لم يفهمه من بلغه مطلقا. وهذا لا يُعْقَلُ ولا يَتفق مع قوله تعالى:{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى} الآية. الذي بنى عليه المحققون قولهم: إن فهم الدعوة بدليلها شرط لقيام الحجة. وقد علمنا من هذا القيد أن الفهم الذي لا يشترطه الشيخ، هو فقه نصوص القرآن المؤثر في النفس، الحامل لها على ترك الباطل، كما يفقهها من اهتدى بها. ففهم التفقه في الحقيقة أخص من فهم المعنى اللغوي، كما يدل عليه استعمال القرآن، وحديث "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" متفق عليه، وفي رواية حسنة زيادة "ويلهمه رشده". والمشركون الذين شبههم الله بالصم البكم المختوم على قلوبهم، والمطبوع عليها، والمجعول عليها الأكنة: كلهم قد فهموا مدلول آيات القرآن في التوحيد والبعث والرسالة؛ لأنهم أهل اللغة وقد أنزلت بأفصح أساليبها؛ ولكنهم لم يهتدوا بها لثلاثة أسباب: "أحدها" العناد من الرؤساء. "ثانيها" التقليد من الدهماء. "ثالثها" الشبهات على الأصول الثلاثة، كزعمهم أن دعاء غير الله لا يضر إذا كان بقصد التقريب إليه تعالى والشفاعة عنده. وأن الرسول بشر مثلهم؛ فلا يعقل أن يكون رسولا من الله، وأنه تعالى لو أراد أن يبعث رسولا؛ لبعث ملكا، أو لأيَّدَهُ بملك يكون معه نذيراً. وأن البعث لا يُعْقَلُ.

2 سورة الأنعام آية: 25.

3 سورة فصلت آية: 44.

4 سورة الأعراف آية: 30.

5 سورة الكهف آية: 103.

ص: 638

الأكنة على قلوبهم، والوقر في آذانهم وأنه ختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم 1 فلم يعذرهم مع هذا كله، بل حكم بكفرهم، وأمر بقتالهم فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم بكفرهم.

فهذا يبين لك أن بلوغ الحجة نوعٌ، وفهمها نوعٌ آخر 2.

وقد سئل شيخنا -رحمه الله تعالى- عن هذه المسألة فأجاب السائل بقوله: هذا من العجب العجاب، كيف تشكون في هذا، وقد وضحته لكم مرارا؟ فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الحديث العهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف.

وأما أصول الدين التي وضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 3.

وقيام الحجة وبلوغها نوعٌ وفهمها نوع آخر، وكفرهم الله ببلوغها إياهم مع كونهم لم يفهموها 4.

وإن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله صلى الله عليه وسلم، في الخوارج-:"أينما لقيتموهم فاقتلوهم" مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس فإن الذي أخرجهم من الدين هو: التشديد والغلو والاجتهاد، وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها 5.

1 هذه التمثيلات بيان بليغ لاستحواذ الكفر عليهم، وعدم رجوعهم عنه، وهو سبب العقاب لا عينه.

2 أي فهمها على الوجه المؤثر في حصول الهُدَى لا فهم الخطاب والمعنى اللغوي كما تقدم.

3 سورة الفرقان آية: 44.

4 أي فهمها على الوجه المؤثر في حصول الهدى، لا فهم الخطاب والمعنى اللغوي كما تقدم.

5 مسألة الخوارج ليست في أصول الدين الاعتقادية؛ بل هي في مسائل عملية، وقد اختلف السلف في عذرهم بالاجتهاد فيها وعدمه، والإمام علي وأصحابه لم يكفروهم، بل قاتلوهم بخروجهم عليهم، وعن أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية يُرجِّحَان عدمَ التكفير.

ص: 639

وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه الإلهية، وتحريقهم بالنار مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاحهم، وهم أيضا يظنون أنهم على حق.

وكذلك إجماع السلف على تكفير أناس من غلاة القدرية وغيرهم، مع كثرة علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم؛ لأجل أنهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا. اه كلامه –رحمه الله.

التفصيل فيمن يحكم بكفره ومن لا يحكم بكفره

إذا تقرر هذا فنقول: هؤلاء الذين ماتوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية، وظاهرُ حالهم الشركُ بالله لا نتعرض لهم، ولا نحكم بكفرهم ولا بإسلامهم، بل نقول: من بلغته هذه الدعوة المحمدية، فإن انقاد لها، ووحَّد الله، وعبده وحده لا شريك له، والتزم شرائع الإسلام، وعمل بما أمره الله به، وتجنَّب ما نهاه عنه: فهذا من المسلمين الموعودين بالجنة في كل زمان، وفي كل مكان.

وأما من كانت حالُه حالَ أهل الجاهلية، لا يعرف التوحيد الذي بعث الله به رسوله يدعو إليه، ولا الشرك الذي بعث الله رسوله ينهى عنه ويقاتل عليه، فهذا لا يقال: إنه مسلم؛ لجهله بل من كان ظاهر عمله: الشرك بالله، فظاهره الكفر فلا يستغفر له، ولا يتصدق عنه، وَنَكِلُ حالَه إلى الله الذي يبلو السرائر، ويعلم ما تُخْفِي الصدور، ولا نقول: فلان مات كافرا؛ لأنا نفرق بين المُعَيَّن وغيره، فلا نحكم على مُعَيَّن بكفر؛ لأنا لا نعلم حقيقة حاله وباطن أمره، بل ذلك إلى الله، ولا نَسُبُّ الأموات؛ بل نقول: أَفْضَوْا إلى ما قَدَّمُوا.

وليس هذا من الدين الذي أمرنا الله به، بل الذي أمرنا به أن نعبد الله ولا نشرك به، ونقاتل من نَكَلَ عن ذلك بعد ما ندعوه إلى ما دعاه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصَرَّ وعَانَدَ كَفَّرْنَاه وقاتلناه.

فينبغي للطالب أن يفهم الفرق بين المُعَيَّن وغيره، فنكفر من دان بغير الإسلام جملة، ولا نحكم على معين بالنار، ونلعن الظالمين جملة، ولا نَخُصُّ معيّنًا بلعنة، كما قد ورد في الأحاديث من لعن السارق وشارب الخمر، فنلعن مَن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 640

جملة، ولا نخص شخصا بلعنة.

يبين ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر جملة، ولما جلد رجلا قد شرب الخمر، قال رجل -من القوم-: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤْتَى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله "1.

فصل في إقرار العلماء لبدع القبور والموالد

وأما قوله: {ومنها أن كثيرا من العلماء الكبار فعلوا هذا الأمر، وَفُعِلَتْ بحضرتهم ولم ينكروا. من ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور، واتخاذها أعيادا في الغالب، فلكل شيخ يوم معروف في شهر معلوم، يؤتى إليه من النواحي، وقد يحضر بعض العلماء ولا ينكر".

"فالجواب" من وجوه:

"الوجه الأول" أن يقال: قد افترض الله على العلماء طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وأخبر أن من أطاعه فقد أطاع الله، فقال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2 وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 3 وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 4 وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 5 وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 6.

فإذا اختلف الناس في شيء من أمور الدين، هل هو واجب أو محرم، أو جائز؟ وجب رد ما وقع فيه النزاع والاختلاف إلى الله والرسول، ويجب على المؤمن إذا دُعِيَ إلى ذلك أن يقول: سَمْعًا وطاعة، قال تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 7.

فنحن نحاكم مَن نازَعنا في هذه المسألة وغيرها من المسائل إلى الله والرسول، لا إلى أقوال الرجال وآرائهم.

1 البخاري: الحدود "6780".

2 سورة النساء آية: 80.

3 سورة آل عمران آية: 31.

4 سورة النور آية: 54.

5 سورة الحشر آية: 7.

6 سورة النساء آية: 59.

7 سورة النور آية: 51.

ص: 641

الأحاديث في تسوية القبور وحظر البناء وإيقاد السرج عليها

فنقول لمن أجاز بناء القباب على القبور بالجص والآجر، وأسرجها، وفرشها بالرخام، وعلق عليها القناديل الفضة، وبيض النعام، وكساها كما يُكْسَى بيت الله الحرام-: هل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا وحثَّ عليه، أم نَهَى عنه، وأمر بإزالة ما وضع من ذلك عليه؟ فما أمرنا به ائتمرنا، وما نهانا عنه انتهينا، وسنته هي الحاكمة بيننا وبين خصومنا في محل النزاع.

فنقول: قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه "ألا أبعثك على مابعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته"1.

وفي صحيحه أيضا عن ثمامة بن شفي الهمداني، قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، فَتُوُفِّيَ صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فَسُوِّيَ، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها.

وفي صحيحه أيضا عن جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه"2.

وروى أبو داود في سننه والترمذي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها" 3 قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" 4 رواه الإمام أحمد وأهل السنن.

فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء عليها، وأمر بهدمه بعد ما يُبْنَى، ونهى عن الكتابة عليها، ولعن من أسرجها، فنحن نأمر بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسويتها، وننهى عن البناء عليها، كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي افترض الله علينا طاعته واتباعه، وأما غيره فَيُؤْخَذُ من قوله ويُتْرَكُ، كما قال الإمام مالك:"كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم".

1 مسلم: الجنائز "969"، والترمذي: الجنائز "1049"، وأبو داود: الجنائز "3218" ، وأحمد "1/89 ،1/96 ،1/111 ،1/128 ،1/145".

2 مسلم: الجنائز "970"، والترمذي: الجنائز "1052"، والنسائي: الجنائز "2027 ،2028 ،2029"، وأبو داود: الجنائز "3225"، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز "1562 ،1563" ، وأحمد "3/295 ،3/332 ،3/339 ،3/399".

3 مسلم: الجنائز "970"، والترمذي: الجنائز "1052"، والنسائي: الجنائز "2028 ،2029"، وأبو داود: الجنائز "3225"، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز "1562 ،1563" ، وأحمد "3/295 ،3/332 ،3/339".

4 الترمذي: الصلاة "320"، والنسائي: الجنائز "2043"، وأبو داود: الجنائز "3236"، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز "1575" ، وأحمد "1/229 ،1/287 ،1/324 ،1/337".

ص: 642

وقال الإمام أحمد: "لا تقلد في دينك أحدا، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه فَخُذْهُ، ثم التابعين بعدُ: فالرجل فيهم مُخَيَّر"وقال أيضا: "لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا، ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا".

لا يحل لمسلم ترك حديث الرسول لقول أحد

والعجب ممن يسمع هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن تعظيم القبور وعقد القباب عليها بالجص والآجر وإسراجها، ولعن من أسرجها ثم يقول: فُعِلَتْ هذه الأمور بحضرة العلماء الكبار ولم ينكروا، كأنه لم يسمع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء"أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟.

وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله -تعالى- يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.

فإذا كان هذا كلام ابن عباس فيمن عارض السنة بقول أبي بكر وعمر، وكلام أحمد فيمن ذهب إلى رأي سفيان فكيف بمن عارض السنة بقول فلان وفلتان، وقد روى البيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناق الرجال"2.

ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليده فيها؛ إذ لولا ذلك لم يخف من زلة العالم على غيره. فإذا عرف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق العلماء، فإنه اتباعٌ للخطأ على عمد. وقال عمر بن الخطاب –رضى الله عنه-:"يُفْسِد الزمانَ ثلاثةٌ: أئمة مُضلون، وجدال منافق بالقرآن- والقرآن حق- وزلة العالم"3.

فإذا صح، وثبت أن العالم يَزِلُّ ويُخْطِئُ لم يجز لأحد أن يفتي ويدين الله بقولٍ لا يعرف وجهه، فكيف إذا عارض بقوله أو فعله قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله؟

1 سورة النور آية: 63.

2 الدارمي: المقدمة "649".

3 الدارمي: المقدمة "649".

ص: 643

إيثار أخذ العلم عن السلف وعلماء القرون الثلاثة

"الوجه الثاني" أن يقال: إذا لم تقنع نفسك، ولم يطمئن قلبك بما جاء عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم وقلت: العلماء أعلم منا بالسنة وأطوع لله –تعالى- ولرسوله –صلى الله عليه وسلم فنقول: أعلم الناس بما أمر به رسول الله –صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه أصحابه –رضي الله عنهم فهم أعلم الناس بِسُنته، وأطوعهم لأمره، وهم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ورضي عمن اتبعهم بإحسان.

وفي حديث العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"1.

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير القرون قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"2 وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "من كان منكم مُسْتَنًّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أَبَرُّ هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم".

وقال حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه-: "يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق مَن قبلكم، فوالله لقد سُبِقْتُمْ سبقا بعيدا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا: لقد ضللتم ضلالا بعيدا"3.

فإذا احتج أحدٌ علينا بما عليه المتأخرون، قلنا: الحجة بما عليه الصحابة والتابعون الذين هم خير القرون، لا بما عليه الخلف الذين يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نُقِلَ عنهم أنهم عقدوا القباب على القبور أو أسرجوها، أو خلقوها، أو كسوها الحرير، أم هذا مما حدث بعدهم من المُحْدَثات التي هي بدع وضلالات؟.

1 أبو داود: السنة "4607"، والدارمي: المقدمة "95".

2 أحمد "5/357".

3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة "7282".

ص: 644

ومعلوم أن عندهم من قبور الصحابة الذين ماتوا في حياة رسول الله –صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته مالا يُحْصَى، هل بنوا على قبورهم وعظَّموها، ودَعَوْا عندها، وتمسحوا بها، فضلا عن أن يسألوها حوائجهم، ويسألوا الله بأصحابها، فمن كان عنده في هذا أثر صحيح أو حسن، فليرشدنا إليه وليدلنا عليه، وأنَّى له بذلك؟ فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وسنة خلفائه الراشدين

العثور على جسد دانيال وكتابه في تستر

وقد روى خالد بن سنان عن أبي العالية قال: لما فتحنا تَسْتُر 1 وجد في بيت مال الهرمز أن سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف، فحملناه إلى عمر بن الخطاب، فدعا له كعبا فنسخه بالعربية.

فأنا أول رجل من العرب قرأته مثل ما أقرأ القرآن. قال خالد: فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعدُ. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وساوينا القبور كلها مع الأرض لِنُعَمِّيهِ عن الناس لا ينبشونه. فقلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فَيُمْطَرُونَ. فقلت: مَن كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال. فقلت منذ كم وجدتموه مات؟ قال منذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعرات من قفاه؛ إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع.

ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبرة؛ لئلا يَفْتَتِنَ به الناس، ولم يذروه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به هؤلاء المشركون، وعلموا حقيقته لبنوا عليه وعظَّموه وزخرفوا قبره، وأسرجوه، وجعلوه وثنًا يُعْبَد، فإنهم قد اتخذوا من القبور أوثانا مَن لا يُدَانِي هذا ولا يقاربه، بل لعله عدو لله، وأقاموا لها سدنة، وجعلوها معابد، واعتقدوا أن للصلاة عندها والدعاء حولها والتبرك بها

1 بلد بالعراق العجمي.

ص: 645

فضيلة مخصوصة ليست في المساجد.

ولو كان الأمر كما زعموا، بل لو كان مباحا لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما وَلَمَا أَخْفَوْهُ خشية الفتنة به، بل لدَعَوْا عنده، وبيَّنُوه لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من هؤلاء الخلوف الذين أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، أو صرفوا لغير الله أجلَّ العبادات.

وما أحسن ما قال الإمام مالك -رحمه الله تعالى-: "لن يُصْلِح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"ولكن كلما نقص تمسكهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهديه وسنة خلفائه الراشدين، تَعَوَّضُوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.

ومن له خبرةٌ بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور، وما يُفْعَل بها، وبما يفعل عندها، وبما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، ثم وَازن بين هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه وبين ما عليه المتأخرون اليوم، وما يفعلونه عند القبور، تبين له ما بينها من التباين والتضاد، وعلم أن بينهما من الفرق أبعد مما بين المشرق والمغرب كمل قيل:

سَارَتْ مُشَرِّقَة وَسِرْتُ مُغَرِّبًا

شَتَّانَ بين مُشَرِّق ومُغَرِّب

أقوال فقهاء المذاهب في منكرات القبور

"الوجه الثالث" أن يقال: قوله: إن كثيرا من العلماء فعلوا هذه الأمور، وفُعِلَتْ بحضرتهم فلم ينكروا من ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور.

فيقال: بل قد نهوا عن ذلك، وصرحوا بكراهته والنهي عنه، وهذه كتبهم بأيدينا مُصَرِّحَة بما ذَكَرْنَا، ونحن نَسُوقُ عباراتهم بألفاظها.

فأما كلام الحنابلة فقال في "الإقناع": ويستحب رفع القبر قدر شبر ويكره فوقه، ويكره البناء عليه؛ سواء لاصق البناء الأرض أو لا، ولو في ملكه، من قبة أو غيرها؛ للنهي عن ذلك. وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في إغاثة اللهفان: ويجب هدمُ القباب التي على القبور؛ لأنها أُسِّسَتْ على معصية الرسول. انتهى.

وهو في المسألة أشد تحريما، قال الشيخ: هو غاصب. وقال أبو حفص: تحرم الحجرة بل تُهْدَم

ص: 646

وهو الصواب. انتهى كلامه في "الإقناع". هذا والذي ذكره: ذكره غيرُ واحدٍ من أئمة الحنابلة فلا حاجة إلى الإطالة بنقل عباراتهم.

وأما كلام الشافعية فقال الأذرعي رحمه الله في قوت المحتاج إلى شرح المنهاج عند قول المؤلف-: ويكره تجصيص القبر والبناء والكتابة عليه. ثبت في صحيح مسلم النهي عن التجصيص والبناء، وفي الترمذي وغيره النهيُ عن الكتابة، وعبارة الحلوانية: ممنوعٌ منهما. وعبارة القاضي ابن كج: ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يُبْنَى عليها قِبَابٌ، ولا غير قباب، والوصية بها باطلة.

وقال أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها، فيدعو فنهاه فقال: ألا أحدثكم بحديث سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وسلموا عليَّ، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم" 1 رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته التي اختارها من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين.

وقال سعيد بن منصور في السنن: حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"2.

وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني-وهو في بيت فاطمة يتعشى- فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي –صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود

1 أبو داود: المناسك "2042" ، وأحمد "2/367".

2 أبو داود: المناسك "2042" ، وأحمد "2/367".

ص: 647

والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء".

فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما، وقد احتج به مَن أرسله، وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يكن روي مُسْنَدًا من وجوه غير هذا، فكيف وقد تقدم مُسْنَدًا؟.

نهي النبي عن اتخاذ القبور مساجد وقبره عيدا

ووجه الدلالة منه أن قبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نَهَى عن اتخاذه عيدا فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان، ثم إنه قَرَنَ ذلك بقوله:"ولا تتخذوا بيوتكم قبورا" 1 أي: لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحري العبادة عند القبور.

وهذا ضد ما عليه المشركون، ثم إنه عَقَّبَ النهي عن اتخاذها عيدا بقوله:" وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" 2 يشير بذلك إلى أن ما يَنَالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبُعْدكم، فلا حاجة إلى اتخاذه عيدا.

وقد حَرَّفَ هذه الأحاديث بعض مَن أخذ شَبَهًا من النصارى بالشرك، وشَبَهًا من اليهود بالتحريف، فقال: هذا أمر بملازمة قبره، والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه، ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون من الحول إلى الحول، بل اقصدوه كل ساعة، وكل وقت، وهذا مراغمة ومحادَّة ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلبٌ للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التدليس والتلبيس والتناقض، فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون.

ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهلُ إثما وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته، وهكذا غُيِّرَتْ أديان الرسل، ولولا أن الله أقام لدينه أنصارا وأعوانا يَذُبُّونَ عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله، ولو

1 البخاري: الصلاة "432"، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "777"، والترمذي: الصلاة "451"، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار "1598"، وأبو داود: الصلاة "1448"، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1377" ، وأحمد "2/6 ،2/16 ،2/122".

2 أبو داود: المناسك "2042" ، وأحمد "2/367".

ص: 648

أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله هؤلاء الضلال لم يَنْهَ عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ويلعن فاعل ذلك، فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يُعْبَد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها، وأن يعتاد قصدها وانتيابها، ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول، وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد؟ وكيف يقول أعلم الخلق بذلك:"ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا"وكيف يقول: "لا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم؟ ".

وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف. وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين –رضي الله عنه نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره –صلى الله عليه وسلم بالحديث، وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علي رضي الله عنه وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال.

وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجلُ القبرَ إذا لم يُرِدْ المسجدَ، ورأى أن ذلك مِن اتخاذه عيدا. فانظر إلى هذه السنة كيف مخرجها من أهل البيت، وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب نَسَبِيّ وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم وكانوا له أضبط.

والعيد إذا جعل اسما للمكان فهو المكان الذي يُقْصَد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة عنده، أو لغير العبادة، كما أن المسجد الحرام ومزدلفة وعرفة جعلها الله عيدا مثابة للناس يجتمعون فيها وينتابونها للدعاء والذكر والنسك، وكان المشركون لهم أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها، فلما جاء الإسلام مَحَا ذلك كله.

ص: 649

فصل في مفاسد اتخاذ القبور أعيادا

واعلم أن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة، التي لا يعلمها إلا الله، ما يغضب لأجله كل مَن في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، فمن ذلك الصلاة إليها والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، والاستغاثة بأصحابها وسؤالهم الرزق والنصر والعافية وقضاء الديون، وتفريج الكُرُبَات وإغاثة اللهفات.

وغير ذلك من أنواع الطلبات، التي كان عباد الأصنام يسألونها أوثانهم، وهذا هو عين الشرك الأكبر الذي بعث الله رسوله ينهى عنه ويقاتل أهله، ومن مات عليه كان من أهل النار- عياذا بالله من ذلك.

وكان مبدأ هذا الداء العظيم في قوم نوح؛ لما غلوا في الصالحين، كما أخبر الله عنهم في كتابه حيث قال:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1.

قال ابن جرير: وكان من خبر هؤلاء ما حدثناه ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم -الذين يقتدون بهم-: لو صوَّرْنَاهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوَّروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دَبَّ إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسْقَوْنَ المطر فعبدوهم.

وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكرت له أم سلمة كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال:"أولئك إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بَنَوْا على قبره مسجدا، وصوَّرُوا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" 2 وهذا كان سبب عبادة اللات، فروى

1 سورة نوح آية: 23.

2 البخاري: الصلاة "434"، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "528"، والنسائي: المساجد "704" ، وأحمد "6/51".

ص: 650

ابن جرير بإسناده عن منصور عن مجاهد {أَفَرَأَيْتُمُ الَلاتَ وَالْعُزَّى} 1 قال: "كان يَلُتُّ السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره".

وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس:" كان يَلُتُّ السويق للحاج".

فقد رأيت أن سبب عبادة يغوث ويعوق ونسرا واللات إنما كان سبب تعظيم قبورهم، اتخذوا لها تماثيل، ثم عبدوها.

أصل الشرك عبادة الصالحين بتعظيم قبورهم

قال أبو العباس ابن تيمية -قدَّس الله روحه-: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المسجد على القبور، هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك، فإن الشرك بغير الرجل الذي يُعْتَقَدُ صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر؛ ولهذا تجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها، ويخشونها، ويعبدونها بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها ما لا يرجون في المساجد؛ فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس، وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدا للذريعة، قال: وأما إن قصد الرجل بالصلاة عند القبر تبرُّكا بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد.

فمن أعظم المحدثات، وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه، بل نهى عن ذلك في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق 2 من فعل ذلك من أهل الكتاب ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك.

قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم

1 سورة النجم آية: 19.

2 أي: وهو يعالج سكرات الموت.

ص: 651

منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خَشِيَ أن يُتَّخَذَ مسجدا" 1 متفق عليه وقولها: "خشي" هو بضم الخاء المعجمة تعليلا لمنع إبراز قبره.

نهي النبي عن الجلوس والصلاة على القبور

وأبلغ من هذا أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلا يكون القبر بين المصلي وبين القبلة، فروى مسلم في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" 2 وفي هذا إبطال قول مَنْ زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو باطل من عدة أوجه:

منها: أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة، كما يقوله المعللون بالنجاسة.

ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم قطعا أن هذا ليس لأجل النجاسة؛ لأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق، فإن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طريون، ومنها أنه نهى عن الصلاة إليها.

ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر أولى من ذكر القبور.

ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد والسرج، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر، وهذا باطل قطعا.

وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه، وفهم عن الرسول مقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل الشرك، فإن هذا وأمثاله منه صلى الله عليه وسلم صيان لحمى التوحيد، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابا لنهيه، ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به وما نهى عنه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر،

1 البخاري: الصلاة "436"، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "531"، والنسائي: المساجد "703" ، وأحمد "1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/146 ،6/252 ،6/255 ،6/274"، والدارمي: الصلاة "1403".

2 مسلم: الجنائز "972"، والترمذي: الجنائز "1050"، والنسائي: القبلة "760"، وأبو داود: الجنائز "3229" ، وأحمد "4/135".

ص: 652

مناقضا له، فإنه نهى عن الصلاة إليها، وهؤلاء يصلون عندها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى أن تُتَّخَذَ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك يجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها وهؤلاء يرفعونها ويبنون عليها القباب، ونهى عن الكتابة عليها، وهؤلاء يكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، وهؤلاء يزيدون سوى التراب والآجر والأحجار والجص، فأهل الشرك مناقضون لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في أهل القبور، وفيما نهى عنه، محادون له في ذلك.

فإذا نهى الموحدون عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعظيمها، والصلاة عندها، وإسراجها، والبناء عليها، والدعاء عندها، وما هو أعظم من ذلك، مثل بناء المساجد عليها ودعائها، وسؤالها قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات، غضب المشركون، واشمأزَّت قلوبهم، وقالوا: قد تنقَّص أهل الرتب العالية، وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، وسرى ذلك في نفوس الجهال الطغام حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفَّروا الناس عن دين الإسلام، ووالوا أهل الشرك وعظَّموهم {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1.

فصل في إتيان القبور في يوم معلوم

وأما قوله: "فلكل شيخ يوم معروف، في شهر معلوم، يُؤْتَى إليه من النواحي، وقد يحضر بعض العلماء فلا ينكر" فنقول:

أما قوله: "فلكل شيخ يوم معروف، في شهر معلوم" فقد قدَّمنا الجواب عن ذلك، وبينا أن ذلك من اتخاذها أعيادا، وأنه مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العيد

1 سورة التوبة آية: 32، 33.

ص: 653

ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، فالزمان كقوله صلى الله عليه وسلم "يوم عرفة ويوم النحر وأيام مِنى عيدنا أهل الإسلام" 1 رواه أبو داود وغيره.

وأما المكان فكما روى أبو داود في سننه أن رجلا قال: "يا رسول الله: إني نذرت أن أنحر إبلا بِبُوَانَةَ 2. فقال: أَبِها وثن من أوثان المشركين، أو عيد من أعيادهم. قال: لا. قال: فأوف بنذرك"وكقوله: "لا تجعلوا قبري عيدا" فالعيد مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه، وإتيانه للعبادة أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام ومِنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدا للحنفاء، كما جعل أيام التعبد فيها عيدا.

فإتيان القبور في يوم معلوم، من شهر معلوم، والاجتماع لذلك بدعة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان، سواء ذلك في البلد أو خارجا عنه.

وأما قوله: {يُؤْتَى إليه من النواحي" فنقول: وهذا –أيضا- بدعة مذمومة لم يفعلها الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان.

زيارة القبور الشرعية والبدعية

وبيان ذلك أن زيارة القبور نوعان: زيارة شرعية، وزيارة بدعية شركية، فالزيارة الشرعية مقصودها ثلاثة أشياء:

{أحدها": تذكير الآخرة والاتعاظ والاعتبار.

{والثاني": الإحسان إلى الميت في أن لا يطول عهده به؛ فيهجره ويتناساه، فإذا زاره وأهدى إليه هدية من دعاء أو صدقة سُرَّ الميت بذلك، كما يسرُّ الحي من يزوره ويهدي له؛ ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائر أن يدعو لأهل القبور بالمغفرة والرحمة، ولا يشرع أن يدعوهم ولا يدعو بهم ولا يصلي عندهم.

"الثالث": إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فيحسن إلى نفسه، وإلى المزور.

1 الترمذي: الصوم "773"، والنسائي: مناسك الحج "3004"، وأبو داود: الصوم "2419" ، وأحمد "4/152"، والدارمي: الصوم "1764".

2 هضبة من وراء ينبع.

ص: 654

وأما الزيارة البدعية الشركية فأصلها مأخوذ من عبادة الأصنام، وهو أن يقصد قبر صالح في الصلاة عنده، أو الدعاء عنده، والدعاء به، أو طلب الحوائج منه، أو الاستغاثة به، ونحو ذلك من البدع التي لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعلها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان -كما تقدم بيانه مبسوطا-.

ثم اعلم أن الزيارة الشرعية هي التي لا تُشَدُّ لها الرحال، فإن كانت تشد رحال فهي زيارة بدعية، لم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعلها الصحابة، بل قد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال:"لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا" 1 وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به.

زيارة مسجد قباء لأهل المدينة

فلو نذر رجل أن يصلي في المسجد، أو يعتكف فيه، أو يسافر إليه لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة حتى نص بعض العلماء على أن لا يسافر إلى مسجد قباء؛ لأنه ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء تُسْتَحَبُّ زيارته لمن كان بالمدينة؛ لأن ذلك ليس بشد رحل، كما في الصحيح:"مَنْ تَطَهَّرَ في بيته، ثم أتى مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان كعمرة" 2 قالوا: ولأن السفر لزيارة الأنبياء، وقبور الصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا استحبَّها أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة، وإنما اختلف العلماء أتباع الأئمة في الجواز بعد اتفاقهم أنه ليس مشروعا ولا مستحبا.

فالمتقدمون منهم قالوا: لا يجوز السفر إليها، ولا تقصر الصلاة في هذا السفر؛ لأنه معصية، وهذا قول أبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفاء بن عقيل، وطوائف كثيرة.

وذهب طائفة من متأخري أصحاب أحمد والشافعي إلى جواز السفر إليها كأبي حامد الغزالي وابن عبدوس وأبي محمد المقدسي، وأجابوا عن حديث:"لا تشد الرحال" 3 بأنه لنفي الاستحباب والفضيلة، وردَّ عليهم الجمهور من وجهين:

1 البخاري: الجمعة "1189 ،1197" والحج "1864" والصوم "1996"، ومسلم: الحج "827"، والترمذي: الصلاة "326"، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1410" ، وأحمد "3/78".

2 النسائي: المساجد "699"، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1412" ، وأحمد "3/487".

3 البخاري: الجمعة "1189"، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1410" ، وأحمد "3/45".

ص: 655

"أحدهما": أن هذا تسليم منهم أن هذا السفر ليس بعمل صالح، ولا قربة ولا طاعة، ومن اعتقد أن السفر لزيارة القبور قربة وطاعة فقد خالف الإجماع، وإذا سافر لاعتقاده بأنه طاعة، فإن ذلك محرم بإجماع المسلمين، فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك، وأما إذا قصد بشد الرحل غرضا من الأغراض المباحة فهذا جائز.

{الوجه الثاني": أن النفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم، والأحاديث التي تذكر في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة، فليس في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح ولا حسن، ولا يروي أهل السنن المعروفة كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في ذلك شيئا، بل ولا أهل المسانيد المعروفة كمسند أحمد وأبي داود الطيالسي وعبد بن حميد وغيرهم، ولا أهل المصنفات المعروفة كموطأ مالك وغيره، بل لمَّا سُئِلَ الإمام أحمد -وهو أعلم الناس في زمانه بالسنة- عن هذه المسألة لم يكن عنده ما يقيمه عليها إلا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من رجل يُسَلِّمُ عليَّ إلا ردَّ الله علي روحي حتى أردَّ عليه السلام" 1 وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه.

وكذلك مالك في الموطأ روى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا دخل المسجد قال: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي، ثم ينصرف".

واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيرهم:"يستقبل قبره، ويسلم عليه"، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصا عنه، وقال أبو حنيفة:"يستقبل القبلة، ويسلم عليه"، هكذا في كتب أصحابه.

وقال مالك: "لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو، ولكن يسلم ويمضي".

1 أبو داود: المناسك "2041" ، وأحمد "2/527".

ص: 656

ومَنْ رخَّص منهم في الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم فإنما يرخص فيما إذا سلم عليه، ثم أراد أن يدعو استقبل القبلة إما مستدبرا القبر، وإما منحرفا عنه، وهو أن يستقبل القبلة ويدعو، ولا يدعو مستقبل القبر.

وهكذا المنقول عن سائر الأئمة ليس منهم من استحب للمرء أن يستقبل القبر، أعني: قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده، فإذا كان هذا حالهم وفعلهم عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بغيره؟!

حدوث المشاهد للقبور بعد عصر السلف

ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة والتابعين مشهد يقصد بالزيارة، لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا اليمن، ولا العراق، ولا خراسان، ولا مصر بعد ما فتح الله هذه البلاد، وصارت بلاد إسلام، وإنما حدث فيها بعد انقراض عصر السلف.

وصار يوجد في كلام بعض الناس فلان تُرْجَى الإجابة عند قبره، وفلان يُدْعَى عند قبره، وبعضهم يقول: قبر فلان الترياق المجرب، ونحو ذلك مما لم يكن معروفا في عهد الصحابة والتابعين، وقائل هذا أحسن أحواله أن يكون مجتهدا في هذه المسألة ومقلدا؛ فيعفو الله عنه، أما أن هذا الذي قاله يقتضي استحباب ذلك فلا، بل يقال: هذه زلة عالم، فلا يجوز تقليده فيها إذا عرف أنها زلة؛ لأنه اتباع للخطأ على عمد، ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر من العارف، وكلاهما مُفَرِّطٌ فيما أمره به ربه.

قال الشعبي: قال عمر رضي الله عنه " يفسد الزمان ثلاثة: أئمة مضلون، وجدال المنافق بالقرآن -والقرآن حق-، وزلة العالم"، وقال معاذ:"احذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق"، وقال:

ص: 657

"اجتنبوا من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال ما هذه، ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله يراجع، وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا".

واعلم -رحمك الله- أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صادق، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان قد يكون منه الهفوة والزلة، وهو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن يغمط مكانه وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين.

قال مجاهد والحكم ومالك وغيرهم: "ليس أحد من خلق الله إلا يُؤْخَذُ من قوله ويُتْرَكُ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال سليمان التيمي: "إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله".

وقد روى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة. قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: أخاف عليهم من زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن -والقرآن حق-، وعلى القرآن منار كأعلام الطريق".

ويكفي اللبيب في هذا ما قصَّه الله –سبحانه- في كتابه عن بني إسرائيل مع صلاحهم وعلمهم: أنهم بعد ما فلق الله لهم البحر وأنجاهم من عدوهم أتوا نبيهم قائلين: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 1 وكذلك ما رواه الترمذي وغيره: "أن ناسا من الصحابة في غزوة حنين أتوا عند النبي صلى الله عليه وسلم حين مروا بسدرة للمشركين يعلقون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال: الله أكبر، إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم".

فإذا كان هذا قد خفي عليهم مع وضوحه وبيانه، وقبلهم قوم موسى مع

1 سورة الأعراف آية: 138.

ص: 658

صلاحهم وعلمهم، وقد اختارهم الله على علماء زمانهم 1 وخفي عليهم هذا، وقالوا: يا موسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 2 فهذا يفيد أن المسلم، بل العالم قد يقع في أشياء من الشرك، وهو لا يدري، فيفيد الحرص، وبذل الجهد في البحث عما جاء عن الله ورسوله، ولا يقلد دينه الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا، وأبى الله أن يصلح إلا كتابه، وأن يعصم إلا رسوله.

وإذا اشتبه الحق في هذا الباب أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قام يصلي من الليل: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"3.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

1 إن الاعتبار في محله، وإن كان بنو إسرائيل قالوا هذا عقب خروجهم من مصر، وقبل نزول التوراة، وكانت الوثنية المصرية غالبة عليهم، ولكنهم علموا أن موسى عليه السلام دعا فرعون وقومه إلى عبادة الله وحده، وشاهدوا الآيات الدالة على صدقه، وكأنهم ظنوا أن الإله الذي يجعله لهم لا ينافي عبادته وحده كما يظن القبوريون من المسلمين اليوم بجهلهم، وقد قال لهم موسى:"إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون"، ولم يمنعهم هذا العلم من عبادة العجل بعد ذلك.

2 سورة الأعراف آية: 138.

3 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها "770"، والترمذي: الدعوات "3420"، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار "1625"، وأبو داود: الصلاة "767"، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1357" ، وأحمد "6/156".

ص: 659

..

رسالة فيما يدلي به العاصب من الورثة وما لا يدلي

بسم الله الرحمن الر حيم

من حمد بن ناصر إلى الأخ المكرم محمد بن عبد الوهاب بن صالح قاضي بلد الرياض في آخر وقت الدرعية.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد:

وصل خطك -وصلك الله إلى رضوانه-، وتسأل عن معنى بيت الجعبري حيث قال:

وبالجهة التقديم ثم بقربه

وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا

فاعلم أنه إذا اجتمع عصبة، فتارة يستوون في الدرجة والجهة والقوة أو لا، فإن استووا

فيما ذكرنا اشتركوا في المال، وفيما أبقت الفروض، وإن لم يستووا في ذلك حجب بعضهم بعضا.

والجهات سبع: البنوة، ثم بعدها الأبوة، ثم الجدودة والأخوة عند من يقول: إن الإخوة يشاركون الجد، ثم بنو الإخوة، ثم العمومة ثم الولاء، ثم بيت المال.

إذا فهمت ذلك فإذا اجتمع عاصبان، فمن كانت جهته مقدمة فهو المقدم، وإن بَعُدَ على من كانت جهته مؤخرة، فإذا اجتمع ابن ابن أخ شقيق أو لأب فهو مقدم على ابن العم، وهذا معنى قول الجعبري -رحمه الله تعالى-:"فبالجهة التقديم" فإن كانوا في الجهة سواء، فالقريب درجته هو المقدم كالابن يُقَدَّمُ على ابن الابن.

وكذلك لو اجتمع ابن أخ لأب مع ابن ابن أخ شقيق، فابن الأخ للأب يقدم على ابن ابن الأخ الشقيق النازل بالإجماع؛ لأن الأول أقرب، ومعنى قول الجعبري -رحمه الله تعالى-:"ثم بقربه" إذا اجتمع عاصبان من جهة واحدة، وكان أحدهما أقرب درجة، فلا شيء للبعيد كما مثَّلته لك، فإن استووا في الجهة والدرجة، وكان أحدهما أقوى -وهو الذي يدلي بقرابتين- فهو المقدم على المدلي بقرابة واحدة.

ص: 660

مثاله: إذا اجتمع أخ شقيق وأخ لأب فقد استويا في الجهة والدرجة، فالشقيق هو المقدم، وهذا هو يعني: أن ذا القرابتين يُقَدَّمُ على ذي القرابة الواحدة إذا استويا في الجهة والدرجة.

طريقة قسمة المواريث

وحاصل الأمر: أن الابن يُقَدَّمُ على ابن الابن، وأن ابن الابن مقدم على الأب في العصب، والأب مقدم على الجد مطلقا، والأب مقدم على الأخ الشقيق، والأخ الشقيق مقدم على الأخ للأب، والأخ للأب مقدم على ابن الأخ الشقيق، وابن الأخ الشقيق مقدم على ابن الأخ للأب، والأخ للأب مقدم على ابن الأخ الشقيق الذي هو أنزل منه، وبنو الإخوة الأشقاء أو لأب مقدمون على العمومة، فلا يرث العم مع ابن الأخ سواء كان ابن أخ شقيق أو لأب وإن نزل، والعم للأب لا يرث مع العم الشقيق، والعم للأب يقدم على ابن العم الشقيق؛ لأنه أقرب، وابن العم الشقيق يقدم على ابن العم للأب؛ لأنه أقوى.

وأما قولك: ما معنى التماثل والتناسب، فاعلم أنه إذا كان الكسر على أكثر من فريق، ونظرت بين كل فريق وسهامه، ثم نظرت بين الرءوس والرءوس، فإنه لا يخلو من أربع أحوال:

إما أن تجد بين الرءوس والرءوس مماثلة، ومعنى المماثلة هنا: المساواة في العدد كثلاثة وثلاثة، وخمسة وخمسة، وستة وستة، فهذا المماثلة، وحكمه كما قال الناظم:

فخذ من المماثلين واحداً

فإذا وجدت رؤساء متماثلة في العدد، فخذ رءوس أحدهما واكتفِ به، فإن لم تجد بين الرءوس والرءوس مماثلة، فانظر هل تجد بينهما مناسبة، والمناسبة هي المداخلة، ومعناها أن الأصغر يدخل في الأكبر، فإذا سلطته عليه أفناهُ من غير زيادة ولا نقصان، وذلك كاثنين وأربعة، واثنين وثمانية، أو خمسة وعشرة، وثلاثة وتسعة، هذا هو معنى المناسبة، وحكمه كما قال الناظم:

.............

وخذ من المناسبين الزائد

يعني: العدد الأكبر خذه واكتفِ به عن الأصغر، فإن لم تجد بينهما مماثلة

ص: 661

ولا مناسبة فانظر هل تجد بينهما موافقة؟ وهي أن يكون بينهما موافقة في جزء من الأجزاء كأربعة وستة، أو ستة وثمانية، أو ستة وتسعة، أو أربعة وعشرة، وحكم هذا النوع هو ما قال الناظم:

واضرب جميع الوفق في الموافق

فإذا كان معك أربعة وستة، فقد توافقا بالإنصاف، فخذ نصف أحدهما، واضربه في كامل الآخر، فتبلغ اثني عشر، وهكذا تفعل في الباقي تأخذ الوفق، فتضربه في كامل الآخر، فإن لم يكن مناسبة ولا موافقة، فقد حصل التباين، وحكمه كما قال الناظم.

وخذ جميع العدد المباين

واضربه في الثاني ولا تداهن

وذلك كثلاثة وخمسة وخمسة وتسعة. انتهى. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تمت.

رسالة فيما يلحق بالنقدين في الزكاة وما لا يلحق فيها مما يتعامل الناس به

بسم الله الرحمن الر حيم

من حسن بن حسين إلى الأخ سعد العجيري.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الخط وصل -وصلك الله إلى رضوانه-، وما سألت عنه من: هل الجدد ملحقة بالنقدين أو بالعروض؟ فنقول:

اعلم أن المختار المقطوع به عند علمائنا أنها ملحقة بالعروض كالفلوس، فتكون عرضا من سائر العروض، وتحسب بقيمتها في باب الزكاة كما تحسب العروض بالقيمة، كذا قالوا، وقد اعتنوا بتمييز ما فيها من الفضة، فلم يجدوا فيها إلا القليل، وأما إلحاقها بالنقدين فهو خطأ، والقائل به قد قال شططا، إذ كيف يلحق ما ليس نقدا بالنقود؟!.

وأما قول القائل: إن بعض الجدد فيه من الفضة النصف، وبعضها فضة خالصا، فهذا ممنوع غير مسلم، وتحديد صرف الريال بالسبع أو الثمان من الجدد باطل، ولو فهم هذا القائل اختيار الشيخ في مسألة مد عجوة لم يكثر فيها نجوه، والسلام، والخط على عجلة.

ص: 662