المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مسائل وفتاوى ويليه رسالة في دحض شبهات على التوحيد من سوء الفهم لثلاثة أحاديث - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (الجزء الرابع، القسم الثاني)

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين للشيخ حمد بن ناصر

- ‌رسالة تنزيه الذات والصفات من درن الإلحاد والشبهاتلبعض علماء نجد

- ‌رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم

- ‌مسائل وفتاوى فقهية في الطهارة والجمعة والأضحية والتغليس والوقف واللقطة والتغليس والوقف واللقطة والصّلح للشيخ حسن بن حسين

- ‌الرد على المدعو عبد المحمود البخاري فيما موّه به من أقوال الإتحادية والمشركين لأحد علماء نجد

- ‌رسالة في العهد والأمان لبعض علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى في الطلاق والخلع، والشهادات والعينة، وشروط الصلاة وغيرهالأحد علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى فقهية لبعض علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوي أخرى لبعض علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى في القراءة لأحد علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى في الطلاق والعدة والإجارة والثمار والعاقلة والتيمم للشيخ سعيد بن حجي

- ‌رسالة في الرد على صاحب جريدة القبلة لأحد علماء نجد

- ‌الكلام المنتقى مما يتعلق بكلمة لا إله إلا الله للشيخ سعيد بن حجي

- ‌مسائل وفتاوى ويليه رسالة في دحض شبهات على التوحيد من سوء الفهم لثلاثة أحاديث

- ‌رسالة في حكم من يكفر غيره من المسلمين والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن

- ‌فتاوى ومسائل فقهية مختلفة "لبعض علماء نجد

الفصل: ‌مسائل وفتاوى ويليه رسالة في دحض شبهات على التوحيد من سوء الفهم لثلاثة أحاديث

‌مسائل وفتاوى ويليه رسالة في دحض شبهات على التوحيد من سوء الفهم لثلاثة أحاديث

1 مسائل وفتاوى تأليف عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب.

تشديد الشيخ ابن تيمية وتلميذه في أمر الشرك إنما هو اتباع لما جاء عن الله ورسوله في ذلك"

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين-، إلى جناب الأخ إبراهيم بن عجلان، وفقه الله لطاعته، وهداه بهدايته. آمين.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل، وصلك الله إلى الخير، وصرف عنا وعنكم كل ضير، وذكرت في خطك أشياء ينبغي تنبيهك عليها.

"منها": قولكم: "إن الشيخ تقي الدين ابن تيمية شدد في أمر الشرك تشديدا لا مزيد عليه" فالله -سبحانه- هو الذي شدد في ذلك، لقوله -سبحانه-:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 في موضعين من كتابه، وقال على لسان المسيح لبني إسرائيل:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} 2 الآية، وقال الله -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 3 الآية، وقال:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4، وقال سبحانه-:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 5

وفي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من التحذير عن الشرك والتشديد فيه ما لا يحصى. وغالب الأحاديث التي يذكر فيها صلى الله عليه وسلم الكبائر يبدأها بالشرك. ولما سئل صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندا، وهو خلقك"6.

1 سورة النساء آية: 48.

2 سورة المائدة آية: 72.

3 سورة الزمر آية: 65.

4 سورة الأنعام آية: 88.

5 سورة التوبة آية: 5.

6 البخاري: تفسير القرآن "4477"، ومسلم: الإيمان "86"، والترمذي: تفسير القرآن "3182 ،3183"، والنسائي: تحريم الدم "4013 ،4014 ،4015"، وأبو داود: الطلاق "2310" ، وأحمد "1/380 ،1/431 ،1/434 ،1/462 ،1/464".

ص: 466

إذا عرف ذلك، تعين على كل مكلف معرفة حد الشرك وحقيقته، لا سيما في هذه الأزمنة التي غلب فيها الجهل بهذا الأمر العظيم.

والشيخ تقي الدين وتلميذه إنما بالغا في بيان الشرك، وإيضاحه لما شاهدا من ظهوره في زمنهما، وكثرته في بلاد الإسلام؛ وبينا بطلانه بالأدلة والبراهين القاطعة الواضحة، كما قال أبو حيان في حق الشيخ:

قام ابن تيمية في نصر شرعتنا

مقام سيد تيم إذ عصت مضر

وأظهر الحق إذ آثاره اندرست

وأخمد الكفر إذ طارت له شرر

الفرق بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر

وقولك: إن هذه الأمور المحدثة منها ما هو شرك أكبر، ومنها وما هو أصغر، فالأمر كذلك، لكن يتعين معرفة الأكبر المُخرج من الملة، الذي يحصل به الفرق بين المسلم والكافر، وهو عبادة غير الله؛ فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله، فهو المشرك الشرك الأكبر.

من ذلك الدعاء الذي هو مخ العبادة، كالتوجه إلى الموتى، والغائبين بسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، كذلك الذبح، والنذر لغير الله.

كذلك يتعين البحث عن الشرك الأصغر؛ فمنه الحلف بغير الله، ونحو تعليق الخرز والتمائم من العين، وكيسير الرياء في أنواع كثيرة لا تحصى.

ومن كلام الشيخ تقي الدين، وقد سئل عن الوسائط، فقال بعد كلام: وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكونوا واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم، يسألونهم ذلك، ويرجعون إليهم فيه؛ فهذا من أعظم الشرك الذي كفّر الله به المشركين؛ حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء، يجلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المضار، إلى أن قال: قال -تعالى-: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 1 إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 2.

1 سورة الإسراء آية: 56.

2 سورة الإسراء آية: 57.

ص: 467

قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون عيسى، وعزيرا، والملائكة، والأنبياء، فبيّن الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون إليه، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه – إلى أن قال رحمه الله:

"فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات، وسد الفاقات، فهو كافر مشرك بإجماع المسلمين" إلى أن قال:

"فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالحُجّاب الذين يكونون بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وإن الله إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبا منهم لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وهؤلاء مشبهون شبهوا الخالق بالمخلوقين، وجعلوا لله أندادا.

وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى، فإن هذا دين المشركين، عباد الأوثان الذين كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله. وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى"، إلى أن قال:

وأما الشفاعة التي نفاها القرآن -كما عليه المشركون والنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة- فينفيها أهل العلم والإيمان، مثل أنهم يطلبون من الأنبياء والصالحين والغائبين والميتين قضاء حوائجهم، ويقولون: إنهم إن أرادوا ذلك قضوها، ويقولون: إنهم عند الله كخواص الملوك عند الملوك، ولهم على الملوك إدلال يقضون به حوائجهم، فيجعلونهم لله بمنْزلة شركاء الملك، والله -سبحانه- قد نزه نفسه عن ذلك. انتهى ملخصا.

ص: 468

فهذا الذي ذكر الشيخ رحمه الله إجماع المسلمين على أن مرتكبه مشرك كافر يقتل، هو الذي زعم داود البغدادي أنه جائز، بل زعم أن الله أمر به؛ وأنه معنى الوسيلة التي أمر الله بها في قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 1.

وزعم أن الوسيلة التي أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب بطلب الحاجات، وتفريج الكربات من الأموات والغائبين.

وزعم أن الشرك هو السجود لغير الله فقط، وأن دعاء الأموات والغائبين والتقرب إليهم بالنذور والذبائح ليس بشرك، بل هو مباح. ثم زاد على ذلك بالكذب على الله، وعلى رسوله، وزعم أن الله أمر بذلك وأحبه. لم يقتصر على دعوى إباحة ذلك، بل زعم أن الله أمر عباده المؤمنين أن يقصدوا قبور الأموات، ويسألونهم قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، فسبحان الله! ما أجرأ هذا على الافتراء، والكذب على الله!

فلو أن إنسانا ادعى إباحة بعض صغائر الذنوب، كأن يزعم أنه يباح للرجل تقبيل المرأة الأجنبية لكان كافرا بإجماع المسلمين، وإن زاد على ذلك بأن قال: إن الله يحب ذلك ويرضاه، فقد ازداد كفرا على كفره، فكيف بمن زعم أن الله أباح الشرك الأكبر؟ ثم زاد على ذلك بأن قال: إن الله أمر به، وأحب من عباده المؤمنين أن يسارعوا إليه؟ ما أعظم هذه الجراءة!!.

وكلام شيخ الإسلام في هذه المسألة كثير، لا يخلو غالب مصنفاته من الكلام عليها. وذكر رحمه الله عن بعض علماء عصره أنه قال: هذا من أعظم ما بينته لنا.

وذكر رحمه الله في الرسالة السنية، لما ذكر حديث الخوارج قال: وإذا كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قد مرق من الدين مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان قد يمرق أيضا، وذلك بأمور: منها الغلو الذي

1 سورة المائدة آية: 35.

ص: 469

ذمه الله؛ كالغلو في بعض المشايخ، مثل الشيخ عدي، 1 بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح؛ فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله بأن يقول: يا سيدي فلان، أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل؛ فإن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر.

والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل: الملائكة، والمسيح، وعزير، والصالحين، أو قبورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها ترزق وتدبر أمر من دعاها، وإنما كانوا يدعونهم يقولون:"هؤلاء شفعاؤنا عند الله"، فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة، ولا دعاء استعانة، وكلامه رحمه الله في هذا الباب كثير.

وكذلك ابن القيم بالغ في إيضاح هذا الأمر، وبيّن بطلانه، كقوله في شرح المنازل: ومنه- أي الشرك- طلب الحوائج من الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم، فإن هذا أصل شرك العالم؛ فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا، ولا نفعا، فضلا عمن استغاث به، وسأله أن يشفع له. انتهى.

وهذا الذي قال: إنه أصل شرك العالم هو الذي يزعم داود البغدادي أن الله أمر به، تعالى الله -عما يقول المفترون- علوا كبيرا.

وجوب هدم مواضع الشرك والطاغوت

وقال ابن القيم في الهدي- في فوائد غزوة الطائف- ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها، يوما واحدا، فإنها شعائر الكفر والشرك، ولا يجوز الإقرار عليها البتة.

قال: وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا، وطواغيت تعبد من دون الله، وكذا الأحجار

1 لعله الشيخ عدي بن مسافر الذي تؤلهه فرقة اليزيدية بالعراق، والذين يقال عنهم: إنهم يعبدون الشيطان.

ص: 470

التي تقصد بالتعظيم، والتبرك، والنذر، والتقبيل، فلا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالتها. وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها. والله المستعان.

ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق، وترزق، وتحيي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، اتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر، وذراعا بذراع. وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة.

ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. انتهى.

عبادة القبور واتخاذها أوثانا

فانظر قوله في المشاهد التي بنيت على القبور، كونها اتخذت أوثانا وطواغيت، وربما ينفر قلب الجاهل من تسمية قبر نبي، أو رجل صالح وثنا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "1.

فهذا الحديث يبين أنه لو قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة له، كان قاصده بذلك قد اتخذه وثنا، فكيف بغيره من القبور؟

وقوله رحمه الله: كثير منها بمنْزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها. صدق رحمه الله لما شاهدنا في هذه الأزمنة من الغلو والشرك العظيم، من كون كثير من الغلاة عند الشدائد في البر والبحر يخلصون الدعاء لمعبوديهم، وكثير منهم ينسون الله عند الشدائد كما هو مستفيض عند الخاصة

1 أحمد "2/246".

ص: 471

والعامة، وقد أخبر الله عن المشركين الأولين أنهم يخلصون عند الشدائد الدعاء له سبحانه وتعالى وينسون آلهتهم. ونصوص القرآن في ذلك كثيرة كما قال -سبحانه-:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} 2، وقال:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً} 4.

فهذا إخباره -سبحانه- عن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن الشرك، ويأمرهم بالتوحيد. وغالب مشركي أهل هذا الزمان بعكس ذلك.

لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه

وقول ابن القيم رحمه الله: غلب الشرك على أكثر النفوس، وسبب ذلك كله: ظهور الجهل وقلة العلم. فهذا قوله فيما شاهده في زمانه ببلاد الإسلام، فكيف لو رأى هذا الزمان؟ وفي الحديث:"لا يأتي زمان، إلا والذي بعده شر منه" 5 قال ابن مسعود: "لا أقول زمان أخصب من زمان، ولا أمير خير من أمير، ولكن بذهاب خياركم وعلمائكم"، فكيف لو شاهد من يقول: إن الله أمر بطلب الحاجات من الأموات، ويقول: إنما الشرك هو السجود لغير الله لا غير، كما قال ذلك داود البغدادي مشافهة لي، فيلزمه إن قصد المشركين الأولين لآلهتهم كاللات والعزى ومناة، وكذلك هبل إذ طلب الحاجات منها، وكشف الكربات، والتقرب إليها بالنذور والذبائح، إن هذا ليس بشرك إذا لم يسجدوا لها. فيا سبحان الله!! كيف يبلغ الجهل بمن ينسب إلى علم إلى هذه الفضيحة!

البدع التي يعذر فاعلها بالجهل والتأول ما لم تكن شركا بينا

وقال ابن القيم رحمه الله: رأيت لأبي الوفاء ابن عقيل فصلا حسنا، فذكرته بلفظه قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم.

1 سورة العنكبوت آية: 65.

2 سورة الإسراء آية: 67.

3 سورة الأنعام آية: 40، 41.

4 سورة الزمر آية: 8.

5 البخاري: الفتن "7068" ، وأحمد "3/132 ،3/177 ،3/179".

ص: 472

قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد السرج عليها، وتقبيلها، وتخليقها 1 وخطاب أهلها بالحوائج، وكتابة الرقاع فيها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى.

وقولك: إن الشيخ تقي الدين وابن القيم يقولان: إن من فعل هذه الأشياء لا يطلق عليه أنه كافر مشرك، حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية من إمام، أو نائبه، فيصر، وأنه يقال: هذا الفعل كفر، وربما عذر فاعله لاجتهاد، أو تقليد، أو غير ذلك: فهذه الجملة التي حكيت عنهما لا أصل لها في كلامهما.

وأظن اعتمادك في هذا على ورقة كتبها داود، نقل فيها نحو هذه العبارة من اقتضاء الصراط المستقيم للشيخ تقي الدين، لما قدم عنيزة المرة الثانية معه هذه الورقة، يعرضها على ناس في عنيزة، يشبه بها، ويقول: لو سلمنا أن هذه الأمور التي تفعل عند القبور شرك -كما تزعم هذه الطائفة- فهذا كلام إمامهم ابن تيمية، الذي يقتدون به يقول: إن المجتهد المتأول، والمقلد، والجاهل، معذورون، مغفور لهم فيما ارتكبوه.

فلما بلغني هذا عنه أرسلت إليه، وحضر عندي، وبينت له خطأه، وأنه وضع كلام الشيخ في غير موضعه، وبينت له أن الشيخ إنما قال ذلك في أمور بدعية ليست بشرك، مثل تحري دعاء الله عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض العبادات المبتدعة، فقال في الكلام على هذه البدع: وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا، ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه لعدم علمه، وهذا باب واسع.

وعامة العبادات المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس، ويحصل له نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة. ثم العامل قد يكون متأولا، أو مجتهدا مخطئا، أو مقلدا، فيغفر له خطأه، ويثاب على ما فعله من المشروع المقرون بغير المشروع، فهذا كلامه في الأمور التي ليست شركا.

1 تخليقها: تطييبها بالحلوق، ومثله كل عطر وطيب.

ص: 473

وأما الشرك فقد قال رحمه الله: إن الشرك لا يغفر، وإن كان أصغر؛ نقل عنه ذلك تلميذه صاحب الفروع فيه، وذلك -والله أعلم- لعموم قوله -تعالى-:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 مع أن الشيخ رحمه الله لم يجزم أنه يغفر لمن ذكرهم، وإنما قال: قد يكون.

وقد قال رحمه الله في شرح العمدة، لما تكلم في كفر تارك الصلاة فقال: وفي الحقيقة فكل رد لخبر الله، أو أمره فهو كفر، دق أو جل، لكن قد يعفى عما خفيت فيه طرق العلم، وكان أمرا يسيرا في الفروع، بخلاف ما ظهر أمره، وكان من دعائم الدين من الأخبار والأوامر، يعني فإنه لا يقال: قد يعفى عنه.

وقال رحمه الله في أثناء كلام له في ذم أصحاب الكلام، قال: والرازي من أعظم الناس في باب الحيرة، له نهمة في التشكيك والشك، والباطل خير من الثبات على اعتقاده، لكن قل أن يثبت أحد على باطل محض، بل لا بد فيه من نوع من الحق، وتوجد الردة فيهم كثيرا كالنفاق.

وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن يقع ذلك في طوائف منهم في أمور يعلمها العامة والخاصة، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدا بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة غيره، فإن هذا أظهر شرائع الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس، ومثل معاداة المشركين وأهل الكتاب، ومثل تحريم الفواحش، والربا، والميسر، ونحو ذلك.

وقولك: إن الشيخ يقول: إن من فعل شيئا من هذه الأمور الشركية لا يطلق عليه أنه كافر مشرك، حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية. فهو لم يقل ذلك في الشرك الأكبر، وعبادة غير الله، ونحوه من الكفر، وإنما قال هذا في المقالات الخفية، كما قدمنا من قوله: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، فلم يجزم بعدم كفره وإنما قد يقال.

1 سورة النساء آية: 48.

ص: 474

وقوله: قد يقع ذلك في طوائف منهم يعلم العامة والخاصة، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدا بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة غيره، فإن أظهر شرائع الإسلام، يعني فهذا لا يمكن أن يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها. والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة غيره هو ما نحن فيه، قال -تعالى-:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1.

وقوله رحمه الله: بل اليهود والنصارى يعلمون ذلك، حكى لنا عن غير واحد من اليهود في البصرة أنهم عابوا على المسلمين ما يفعلون عند القبور، قالوا: إن كان نبيكم أمركم بهذا فليس بنبي، وإن لم يأمركم فقد عصيتموه.

من جعل شيئا من العبادة لغير الله فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله

وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الأصول الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، قال -تعالى-:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} 2: أي يعبدوني وحدي، وهو الذي أرسل به جميع الرسل، قال -تعالى-:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3 والطاغوت اسم لكل ما عبد من دون الله، وقال -تعالى-:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4. وكل رسول أرسله الله، فأول ما يدعوهم إليه هذا التوحيد، قال -تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 5، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 6، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 7، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 8.

فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله، فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، قال الله -تعالى-:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 9؛ فمن زعم أن الله -سبحانه- يغفره فقد رد خبر الله -سبحانه-.

1 سورة النساء آية: 165.

2 سورة الذاريات آية: 56.

3 سورة النحل آية: 36.

4 سورة الأنبياء آية: 25.

5 سورة الأعراف آية: 59.

6 سورة الأعراف آية: 65.

7 سورة الأعراف آية: 73.

8 سورة الأعراف آية: 85.

9 سورة النساء آية: 48.

ص: 475

وحد العبادة وحقيقتها: طاعة الله؛ فكل قول، وعمل ظاهر وباطن يحبه الله فهو عبادة. فكل ما أمر به شرعا أمر إيجاب أو استحباب فهو عبادة. فهذا حقيقة العبادة عند جميع العلماء التي من جعل منها لغير الله شيئا فهو كافر مشرك.

الجهل بحقيقة التوحيد وأصول الدين ليس عذرا لأحد

ومما يبين أن الجهل ليس بعذر في الجملة قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج ما قال، مع عبادتهم العظيمة؛ ومن المعلوم أنه لم يوقعهم فيما وقعوا إلا الجهل، وهل صار الجهل عذرا لهم؟

يوضح ما ذكرنا أن العلماء من كل مذهب يذكرون في كتب الفقه "باب حكم المرتد"؛ وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، وأول شيء يبدؤون به من أنواع الكفر: الشرك، يقولون: من أشرك بالله كفر، لأن الشرك عندهم أعظم أنواع الكفر، ولم يقولوا: إن كان مثله لا يجهله، كما قالوا فيما دونه.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الذنب أعظم إثما عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك 1، ولو كان الجاهل أو المقلد غير محكوم بردته إذا فعل الشرك لم يغفلوه، وهذا ظاهر.

وقد وصف الله -سبحانه- أهل النار بالجهل كقوله: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 2، وقال:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 3، وقال:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 4، وقال -تعالى-:{فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُون} 5، قال ابن جرير، عند تفسير هذه الآية: وهذا يدل على أن الجاهل غير معذور.

ومن المعلوم أن أهل البدع، الذين كفرهم السلف والعلماء بعدهم، أهل علم وعبادة،

1 البخاري: تفسير القرآن "4477"، ومسلم: الإيمان "86"، والترمذي: تفسير القرآن "3182 ،3183"، والنسائي: تحريم الدم "4013 ،4014 ،4015"، وأبو داود: الطلاق "2310" ، وأحمد "1/380 ،1/431 ،1/434 ،1/462 ،1/464".

2 سورة الملك آية: 10.

3 سورة الأعراف آية: 179.

4 سورة الكهف آية: 103، 104.

5 سورة الأعراف آية: 30.

ص: 476

وفيهم زهد ولم يوقعهم فيما ارتكبوه إلا الجهل، والذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار هل آفتهم إلا الجهل؟

من كفر جاهلا أو مقلدا غير معذور

ولو قال إنسان: أنا أشك في البعث بعد الموت، لم يتوقف من له أدنى معرفة في كفره، والشاك جاهل. قال -تعالى-:{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} 1، وقد قال الله -سبحانه- عن النصارى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} 2 الآية. قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم ما عبدناهم. قال: "أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى قال: فتلك عبادتهم" فذمهم الله -سبحانه-، وسماهم مشركين مع كونهم لم يعلموا أن فعلهم معهم هذا عبادة لهم، فلم يعذروا بالجهل.

ولو قال إنسان عن الرافضة في هذه الأزمان: إنهم معذورون في سبهم الشيخين وعائشة لأنهم جهال مقلدون، لأنكر عليه الخاص والعام.

وما تقدم من حكاية شيخ الإسلام رحمه الله إجماع المسلمين على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار أنه كافر مشرك، يتناول الجاهل وغيره، لأنه من المعلوم أنه إذا كان إنسان يقر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بالقرآن، ويسمع ما ذكر الله -سبحانه- في كتابه من تعظيم أمر الشرك بأنه لا يغفره، وأن صاحبه مخلد في النار، ثم يقدم عليه، وهو يعرف أنه شرك، هذا ما لا يفعله عاقل، وإنما يقع فيه مَن جهل أنه شرك.

وقد قدمنا كلام ابن عقيل في جزمه بكفر الذين وصفهم بالجهل فيما ارتكبوه من الغلو في القبور. نقله عنه ابن القيم مستحسنا له.

والقرآن يرد على من قال: إن المقلد في الشرك معذور، وقد افترى وكذب على الله، وقد قال الله عن المقلدين من أهل النار:

{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا

1 سورة الجاثية آية: 32.

2 سورة التوبة آية: 31.

ص: 477

فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} 1، وقال -سبحانه- حاكيا عن الكفار قولهم:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 2، وفي الآية الأخرى:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 3.

الواجب على كل مسلم قبول الحق من كل مَن بينه بالحجة

واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد والرسالة وأصول الدين، وإن فرضا على كل مكلف أن يعرف التوحيد بدليله، وكذلك الرسالة وسائر أصول الدين لأن أدلة هذه الأصول ظاهرة، ولله الحمد، لا يختص بمعرفتها العلماء.

وقولك: حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية من إمام أو نائبه، معناه: أن الحجة الإسلامية لا تقبل إلا من إمام أو نائبه، وهذا خطأ فاحش، لم يقله أحد من العلماء، بل الواجب على كل أحد قبول الحق ممن قاله كائنا من كان. ومقتضى هذا: أن من ارتكب أمرا محرما شركا فما دونه بجهل، وبيّن له من عنده علم بأدلة الشرع أن ما ارتكبه حرام، وبيّن له دليله من الكتاب والسنة أنه لا يلزمه قبوله، إلا أن يكون ذلك من إمام أو نائبه، وأن حجة الله لا تقوم عليه، إلا أن يكون ذلك من الإمام أو نائبه.

وأظنك سمعت هذا الكلام من بعض المبطلين، وقلدته فيه، وما فطنت لعيبه، وإنما وظيفة الإمام أو نائبه: إقامة الحدود، واستتابة من حكم الشرع بقتله كالمرتد في بلاد الإسلام.

وأظن هذه العبارة مأخوذة من قول بعض الفقهاء في تارك الصلاة: إنه لا يقتل حتى يدعوه إمام أو نائبه إلى فعلها، والدعاء إلى فعل شيء غير بيان الحجة على خطئه، أو صوابه، أو كونه حقا أو باطلا بأدلة الشرع. فالعالم مثلا يقيم الأدلة الشرعية على وجوب قتل تارك الصلاة، ثم الإمام، أو نائبه يدعوه إلى فعلها، ويستتيبه.

وقولك: إنك رأيت كثيرا من هذه الأمور التي نقول إنها شرك ظاهرة في الشام والعراق والحجاز، ولم تسمع منكرا. فمن رزقه الله بصيرة بدينه ما راج عليه

1 سورة الأحزاب آية: 67.

2 سورة الزخرف آية: 22.

3 سورة الزخرف آية: 23.

ص: 478

ذلك، والمتعين على الإنسان معرفة الحق بدليله، فإذا عرف الحق بالأدلة الشرعية عرض أعمال الناس عليه، فما وافق الحق عرفه وقبله، وما خالفه رده، ولا يغتر بكثرة المخالف.

قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أترى أننا نظن إنك على الحق، وفلانا على باطل؟ فقال علي: ويحك يا فلان، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله. وقد سبق كلام ابن القيم في وصفه أهل زمانه.

من له بصيرة بالحق لم يغتر بكثرة المخالف

وقوله: غلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء؛ هذا وصفه لزمانه، فما ظنك بأهل زمان بعده بخمسمائة عام؟ لأنه لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه بخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم مع قوله:"لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة" 1، مع أننا قد سمعنا وبلغنا عن كثير من علماء الزمان إنكار هذه الأمور المبتدعة الشركية.

سمعنا من ناس في الحرمين واليمن، وبلغنا عن أناس في مصر والشام إنكار هذه المحدثات، لكن همتهم تقصر عن إظهار ذلك؛ لأن عمارة هذه المشاهد الشركية أكثرها من تحت أيدي ولاة الأمور، وأهل الدنيا، ووافقهم على ذلك وزينه لهم علماء السوء، بسبب ذلك استحكم الشر وتزايد، والشر في زيادة والخير في نقصان.

وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلكت بنو إسرائيل على يدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على يدي قرائها وفقها ئها" فما أصدق قول عبد الله بن المبارك رحمه الله:

وهل أفسد الدين إلا الملوك

وأحبارسوء ورهبانها

1 البخاري: أحاديث الأنبياء "3456"، ومسلم: العلم "2669" ، وأحمد "3/84 ،3/89 ،3/94".

ص: 479

ومما يبين لك عدم الاغترار بالكثرة: أن أكثر أهل هذه الأمصار التي ذكرت مخالفون للصحابة والتابعين وأئمة الإسلام، خصوصا الإمام أحمد، ومن وافقه في صفات الرب تبارك وتعالى، يتأولون أكثر الصفات بتحريف الكلم عن مواضعه، من ذلك قولهم: إن الله لا يتكلم بحرف وصوت، وأن حروف القرآن مخلوقة، ويقولون: الإيمان مجرد التصديق.

وكلام السلف والأئمة في ذم أهل هذه المقالات كثير، وكثير منهم صرح بكفرهم، وأكثر الأئمة ذما لهم وتضليلا الإمام أحمد رحمه الله وأفاضل أصحابه بعده.

وأكثر هذه الأمصار اليوم على خلاف ما عليه السلف والأئمة، ومن له بصيرة بالحق لم يغتر بكثرة المخالف، فإن أهل الحق هم أقل الناس فيما مضى، فكيف بهذه الأزمان التي غلب فيها الجهل، وصار -بسبب ذلك- المعروف منكرا، والمنكر معروفا؟

نسأل الله أن يهدينا وإخواننا صراطه المستقيم؛ صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

"انتهت الرسالة"

طبعت عن نسخة كتب في آخرها ما نصه:

بقلم الفقير إلى الله عبد الله الرشيد الفرج، من خط المصنف رحمه الله سنة 1345.

ص: 480

رسالة في دحض شبهات على التوحيد من سوء الفهم لثلاثة أحاديث

"حديث: يئس الشيطان من عبادته في جزيرة العرب، وحديث: يا عباد الله احبسوا،

وحديث: عصمة كلمة التوحيد لدم قائلها وماله"

تأليف "العلامة مفتي الديار النجدية، وعالم الطائفة السلفية".

العلامة الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن -أبا بطين- -رحمه الله تعالى-.

بسم الله الرحمن الر حيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا وآله وصحبه أجمعين.

قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن، مفتي الديار النجدية المعروف "بأبا بطين"، عليه الرحمة والغفران:

أما بعد: فقد طلب مني بعض الإخوان أن أكتب له جوابا عما يورده بعض الناس من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب" 1 ويستدل به على استحالة وقوع شيء من الشرك في جزيرة العرب. والحديث المروي: "يا عباد الله، احبسوا، احبسوا" وعما يورده بعضهم من قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة: "أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله" 2، وقوله:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" 3 ويستدل بذلك على أن من قال: لا إله إلا الله لا يجوز قتاله، ولا قتله.

(فالجواب": أما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة" العرب 4 فيقال:

(أولا": من المعلوم بالضرورة أن الله -سبحانه- بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد وهو توحيد الألوهية، وينهى عن الشرك وهو عبادة غير الله.

وأما الشرك بالربوبية، فمن المعلوم بنصوص الكتاب أن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله وقاتلهم، يقرون بتوحيد الربوبية، وأن شركهم هو في توحيد العبادة، وهو توحيد الألوهية الذي هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله. فعبدوا من عبدوه من دون الله ليشفعوا لهم عنده في نصرهم ورزقهم وغير ذلك، كما قال -تعالى- إخبارا عنهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 6. فبعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن هذا الشرك، ويدعوهم إلى توحيد

1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812"، والترمذي: البر والصلة "1937" ، وأحمد "3/313 ،3/354 ،3/366 ،3/384".

2 البخاري: المغازي "4269"، ومسلم: الإيمان "96"، وأبو داود: الجهاد "2643" ، وأحمد "5/200 ،5/207".

3 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3966 ،3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/199 ،3/224".

4 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812"، والترمذي: البر والصلة "1937" ، وأحمد "3/313 ،3/354 ،3/366 ،3/384".

5 سورة الزمر آية: 3.

6 سورة يونس آية: 18.

ص: 482

العبادة وهذه دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم،

قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2.

وهذا الأصل هو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله. قال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3.

فإذا تبين أن هذا هو أصل الأصول، علمنا يقينا أن الله -سبحانه- لا يترك هذا الأمر ملتبسا، بل لا بد أن يكون بيّنا واضحا، لا لبس فيه ولا اشتباه، لأنه أصل الدين، ومعرفته فرض على كل مسلم مكلف، ولا يجوز فيه التقليد.

وحقيقة ذلك أن الشرك هو عبادة غير الله -تعالى-؛ والعبادة هي الطاعة بفعل ما أمر الله به ورسوله من واجب ومندوب؛ فمن أخلص ذلك لله فهو الموحد، ومن جعل شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك. قال -تعالى-:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} 4 أي: في العبادة، وقال -تعالى-:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} 5 الآية.

فإذا علم الإنسان حقيقة الشرك عرف يقينا أن الشرك وقع في الجزيرة كثيرا عند مشاهد وقبور يمنا وحجازا، من دعاء الأموات والغائبين، والاستغاثة بهم وسؤال الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، وكذلك الذبح للجن والاستغاثة بهم؛ وهذا أمر معلوم بالتواتر عند من شاهد ذلك.

فإذا تحقق الإنسان ذلك علم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب" 6 ليس فيه معارضة لهذا الأصل العظيم، الذي هو أصل الأصول، وليس فيه دلالة على استحالة وجود الشرك في أرض العرب.

فمن استدل بهذا الحديث على استحالة وجود الشرك في أرض العرب يقال له: بيّن لنا الشرك الذي حرمه الله، وأخبر أنه لا يغفره، فإن فسره بالشرك في توحيد

1 سورة النحل آية: 36.

2 سورة الأنبياء آية: 25.

3 سورة الذاريات آية: 56.

4 سورة النساء آية: 36.

5 سورة الكهف آية: 110.

6 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812"، والترمذي: البر والصلة "1937" ، وأحمد "3/313 ،3/354 ،3/366 ،3/384".

ص: 483

الربوبية، فنصوص القرآن تبطل قوله لأنه -سبحانه- أخبر عن المشركين أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، كما في قوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 1؛ والآيات في ذلك كثيرة.

وإن فسر الشرك ببعض أنواع العبادة دون بعض، فهو مكابر، ويخاف على مثله أن يكون من الذين في قلوبهم زيغ، يتركون المحكم، ويتبعون المتشابه؛ مع أنه ليس في الحديث حجة لهم ولا شبهة، وإنما معنى الحديث: أنه يئس أن يجتمعوا كلهم على الكفر.

معنى يئس الشيطان من عبادة الناس له

قال ابن رجب على الحديث: المراد أنه يئس أن تجتمع الأمة كلها على الشرك الأكبر. وأشار ابن كثير إلى هذا المعنى عند تفسير قوله -تعالى-: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} 2 قال ابن عباس رضي الله عنه: يعني: يئسوا أن تراجعوا دينهم.

وكذا قال عطاء والسدي ومقاتل، قال: وعلى هذا يرد الحديث الصحيح: إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العر ب 3.

فأشار إلى أن معنى الحديث موافق لمعنى الآية، وأن معنى الحديث أنه يئس أن يرجع المسلمون عن دينهم إلى الكفر. قال غير واحد من المفسرين: إن المشركين كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم، فلما قوي الإسلام وانتشر يئسوا من رجوعهم عن الإسلام إلى الكفر، وكذا معنى إياس الشيطان لما رأى من ظهور الإسلام وانتشاره، وتمكنه من القلوب ورسوخه فيها. وعلى هذا فلا يدل الحديث أن الشيطان يئس من وجود شرك في جزيرة العرب أبد الآبدين.

ويدل لما ذكرناه ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة رن إبليس رنة اجتمع إليه جنوده فقال: ايئسوا أن تردوا أمة محمد إلى الشرك بعد يومكم هذا، ولكن افتنوهم؛ فافشوا فيهم النوح.

وأيضا ففي الحديث نسبة اليأس إلى الشيطان مبنيا للفاعل لم يقل أيس بالبناء

1 سورة الزخرف آية: 9.

2 سورة المائدة آية: 3.

3 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812"، والترمذي: البر والصلة "1937" ، وأحمد "3/313 ،3/354 ،3/366 ،3/384".

ص: 484

للمفعول، ولو قدر أنه يئس من عبادته في أرض العرب إياسا مستمرا، فإنما ذلك ظن منه وتخمين، لا عن علم لأنه لا يعلم الغيب، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} 1 فإنه يطلعه على ما يشاء من الغيب، وقد قال -تعالى-:{مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدا} 2 أي من خير وشر، وهذا من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله" 3 الحديث.

وكانت الشياطين في زمن سليمان بن داود عليهما السلام يدعون علم الغيب، فلما مات سليمان لم يعلموا بموته إلا بعد سنة، وهم في تلك السنة دائبون في التسخير والأعمال الشاقة، فلما علموا بموته تبين لهم أنهم لا يعلمون الغيب، قال -تعالى-:{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} 4 إلى قوله: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} 5.

ونبينا صلى الله عليه وسلم أخبر: "أنه يجاء برجال من أمته يوم القيامة، فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار فيقول: أصحابي أصحابي، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"6. فكيف يقال: إن الشيطان يعلم ما تستمر عليه الأمة من خير وشر، وكفر وإسلام، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله، ومن يطلعه عليه من رسله؟

لا دلالة في حديث يئس الشيطان على عدم وقوع الشرك

فتبين بما ذكرنا أنه لا دلالة في الحديث على استحالة وقوع الشرك في جزيرة العرب؛ ويوضح ذلك أن أكثر العرب ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. فكثير منهم رجعوا إلى الكفر وعبادة الأوثان، وكثير صدقوا من ادعى النبوة كمسيلمة وغيره، ومن أطاع الشيطان في نوع من أنواع الكفر فقد عبده.

لا تختص عبادة الشيطان بنوع من الشرك لقوله -تعالى-: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 7 أي: لا تطيعوه، فعبادته طاعته.

يوضح ذلك تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله -تعالى-:

{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ

1 سورة الجن آية: 26.

2 سورة لقمان آية: 34.

3 البخاري: التوحيد "7379" ، وأحمد "2/24 ،2/52 ،2/58 ،2/85 ،2/122".

4 سورة سبأ آية: 14.

5 سورة سبأ آية: 14.

6 البخاري: الرقاق "6576" والفتن "7049"، ومسلم: الفضائل "2297"، وابن ماجه: المناسك "3057" ، وأحمد "1/384 ،1/402 ،1/406 ،1/407 ،1/425 ،1/439 ،1/453 ،1/455 ،5/387 ،5/393 ،5/400".

7 سورة يس آية: 60.

ص: 485

دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} 1 الآية، أن طاعتهم في التحريم والتحليل. فسمى الله ذلك شركا، وعبادة منهم للأحبار والرهبان.

وأيضا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى" 2 3، وقال:"لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة" 4 5، وهو صنم كان لهم في الجاهلية بعث النبي صلى الله عليه وسلم لهدمه جرير بن عبد الله.

وقوع عبادة الشيطان في هذه الأمة

فتبين أن عبادة الشيطان وجدت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب، وتوجد آخر الزمان، بهذه النصوص الثابتة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة؛ حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 6، وقال:"لتأخذن هذه الأمة مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر، وذراعا بذراع، قالوا: يا رسول الله، فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك".

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تفعل كما فعلت الأمم قبلها: اليهود والنصارى وفارس والروم، وأن هذه الأمة لا تقصر عما فعلته الأمم قبلها، وقال: لا تزال طائفة

1 سورة التوبة آية: 31.

2 مسلم: الفتن وأشراط الساعة "2907".

3 هو في صحيح مسلم من حديث عائشة مرفوعا بلفظ "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، قالت: فقلت يا رسول الله: إن كنت لأظن حين أنزل الله "هو الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" إن ذلك تام. قال "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله"" إلخ.

4 البخاري: الفتن "7116"، ومسلم: الفتن وأشراط الساعة "2906" ، وأحمد "2/271".

5 رواه مسلم. وذو الخلصة: بيت كان فيه صنم لدوس، وخثعم، وبحيلة، وغيرهم، وقيل: ذو الخلصة: الكعبة اليمانية التي كانت باليمن، فأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله فخربها، وقيل: ذو الخلصة: الصنم نفسه. والمعنى أنهم يرتدون ويعودون إلى جاهليتهم في عبادة الأوثان، فتسعى نساء بني دوس طائفات حول ذي الخلصة فترتج أعجازهن. اه من النهاية لابن الأثير.

6 البخاري: أحاديث الأنبياء "3456"، ومسلم: العلم "2669" ، وأحمد "3/84 ،3/89 ،3/94".

ص: 486

من أمتي على الحق منصورة؛ لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله 1.

نسأل الله أن يجعلنا منهم بفضله، ورحمته، وكرمه.

"يا عباد الله احبسوا" ليس بحديث ومعناه على فرضه

وأما الجواب عن الحديث المروي فيمن انفلتت دابته في السفر أن يقول: يا عباد الله: احبسوا فأجيب بأنه غير صحيح؛ لأنه من رواية معروف بن حسان، وهو منكر الحديث، قاله: ابن عدي.

ومن المعلوم- إن كان صحيحا- أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر من انفلتت دابته أن يطلب ردها، وينادي من لا يسمعه ولا يقدر على ردها، بل نقطع أنه إنما أمره أن ينادي من يسمعه، وله قدرة على ذلك، كما ينادي الإنسان أصحابه الذين معه في سفره ليردوا دابته. وهذا يدل- إن صح- على أن لله جنودا يسمعون ويقدرون:{مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} 2 وروي زيادة لفظه في الحديث "فإن الله حاضر"، فهذا صريح في أنه إنما ينادي حاضرا يسمع، فكيف يستدل بذلك على جواز الاستغاثة بأهل القبور والغائبين؟

فمَن استدل بهذا الحديث على دعاء الأموات لزمه أن يقول: إن دعاء الأموات ونحوهم، إما مستحب أو مباح لأن لفظ الحديث "فليناد" وهذا أمر أقل أحواله الاستحباب أو الإباحة. ومن ادعى أن الاستغاثة بالأموات والغائبين مستحب أو مباح فقد مرق من الإسلام.

فإذا تحققت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر من انفلتت دابته أن ينادي من لا يسمعه، ولا قدرة له على ذلك، وكما دل عليه قوله "فإن الله حاضر" تبين لك ضلال من استدل به على دعاء الغائبين والأموات، الذين لا يسمعون ولا ينفعون، وهل هذا إلا مضادة لقول الله -تعالى-:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 3، وقوله:

{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ

1 مسلم: الإمارة "1920"، والترمذي: الفتن "2229"، وأبو داود: الفتن والملاحم "4252"، وابن ماجه: المقدمة "10" والفتن "3952" ، وأحمد "5/279".

2 سورة المدثر آية: 31.

3 سورة يونس آية: 106.

ص: 487

مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 1 الآية، وقوله:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3، وقال:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} 4 الآية.

فهذه الآيات وأضعافها نص في تضليل من دعا من لا يسمع دعاءه، ولا قدر له على نفعه ولا ضره، ولو قدر سماعه فإنه عاجز.

فكيف تترك نصوص القرآن الواضحة، وترد بقوله:"يا عباد الله: احبسوا"، مع أنه ليس في ذلك معارضة لما دل عليه القرآن، ولا شبهة معارضة؟ ولله الحمد.

قول: لا إله إلا الله وحده غير كاف في العصمة

وأما من ادعى أن من قال: لا إله إلا الله، فإنه لا يجوز قتله، ولا قتال الطائفة الممتنعة، إذا قالوا هذه الكلمة وإن فعلوا أي ذنب، فهذا قول مخالف للكتاب والسنة والإجماع، ولو طرد هذا القائل أصله لكان كافرا بلا شك.

أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 5 إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا} 6 أي: عن الشرك {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 7، فجعل قتالهم ممدودا إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، بعد الإتيان بالتوحيد. وقال -تعالى-:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 8 أي: شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 9.

وأما السنة: فكثير جدا: "منها": ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها"10.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف

1 سورة فاطر آية: 13، 14.

2 سورة الأحقاف آية: 5.

3 سورة الجن آية: 18.

4 سورة الرعد آية: 14.

5 سورة التوبة آية: 5.

6 سورة التوبة آية: 5.

7 سورة التوبة آية: 5.

8 سورة الأنفال آية: 39.

9 سورة الأنفال آية: 39.

10 البخاري: الإيمان "25"، ومسلم: الإيمان "22".

ص: 488

أبو بكر، وكفر من كفر من العرب. قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " 1؟ فقال أبو بكر: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، فوالله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه"، فقال عمر:"فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق". فقد جعل الصديق رضي الله عنه المبيح للقتال: مجرد المنع، لا جحد الوجوب.

وقال النووي في شرح مسلم: "باب الأمر بقتال الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من أتى بذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى الله، وقتال من منع الزكاة وغيرها من حقوق الإسلام، واهتمام الإمام بشرائع الإسلام"، ثم ساق الحديث، ثم قال: قال الخطابي في شرح هذا الكتاب كلاما حسنا، لا بد من ذكره لما فيه من الفوائد:

قتال الصحابة لمن فرق بين الصلاة والزكاة

قال رحمه الله: مما يجب تقديمه أن يعلم أن أهل الردة كانوا صنفين ارتدوا عن الدين، ونابذوا الملة وعادوا لكفرهم، وهم الذين عنى أبو هريرة بقوله:"وكفر من كفر من العرب".

"والصنف الثاني": فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة، وأنكروا فرض الزكاة، ووجوب أدائها إلى الإمام.

وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين من يكاد يسمح بالزكاة ولا يمنعها، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم في ذلك، كبني يربوع، فإنهم جمعوا صدقاتهم، وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر، فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم، وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف، ووقعت الشبهة عند عمر -رضي الله

1 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3966 ،3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/199 ،3/224".

ص: 489

عنه -،

فراجع أبا بكر، وناظره، واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم نفسه وماله"1.

وكان هذا من عمر تعلقا بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره، ويتأمل شرائطه، فقال له أبو بكر "الزكاة حق المال"، يريد أن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإيفاء شرائطها. والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والآخر معدوم، ثم قايسه بالصلاة، ورد الزكاة إليها.

وكان في ذلك من قوله دليل على قتال الممتنع من الصلاة، وإن كان إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه.

فلما استقر عندهم رأي أبي بكر رضي الله عنه وبان لعمر صوابه، تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله:"فلما رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال، عرفت أنه الحق"، يريد انشراح صدره بالحجة التي أدلى، والبرهان الذي أقامه نصا ودلالة. انتهى.

قول النووي والخطابي في حديث: "أمرت أن أقاتل الناس"

وقال النووي أيضا: وقال الخطابي -ويبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر-: إن عبد الله بن عمر وأنسا روياه بزيادة لم يذكرها أبو هريرة.

ففي حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"2.

وفي رواية أنس: أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم إلا بحقها، ولهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين3 انتهى.

"قلت": وقد ثبت في الطريق الثالث المذكور في الكتاب من رواية أبي

1 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3966 ،3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/199 ،3/224".

2 البخاري: الإيمان "25"، ومسلم: الإيمان "22".

3 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/224".

ص: 490

هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها"1.

وفي استدلال أبي بكر واعتراض عمر رضي الله عنهما دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حفظه ابن عمر وأنس وأبو هريرة، وكان هؤلاء الثلاثة سمعوا هذه الزيادة في روايتهم في مجلس آخر، فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف، ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة حجة عليه، ولو سمع أبو بكر هذه الزيادة لاحتج بها، ولمَا كان احتج بالقياس والعموم. والله أعلم. انتهى كلام النووي رحمه الله.

وقال النووي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله"2.

معنى قوله عليه السلام: وحسابه على الله"

قال الخطابي: معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف. قال: ومعنى "وحسابه على الله"، أي فيما يسرونه ويخفونه، ففيه: أن من أظهر الإسلام، وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر، وهذا قول أكثر العلماء. وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك عن أحمد بن حنبل. هذا كلام الخطابي.

وذكر القاضي عياض معنى هذا، وزاد عليه، ووضحه، فقال: اختصاص عصمة المال والنفس لمن قال: لا إله إلا الله؛ تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد مشركو العرب وأهل الأوثان، ومن لا يوحد، وهم أول من دعي إلى الإسلام وقوتل. فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقول: لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر: أني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة 3 وهذا كلام القاضي.

1 مسلم: الإيمان "21".

2 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3966 ،3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/199 ،3/224".

3 البخاري: الإيمان "25"، ومسلم: الإيمان "22".

ص: 491

قول فقهاء المذاهب فيمن قال لا إله إلا الله وعمل بضدها

"قلت": ولا بد من الإيمان بما جاء به الرسول، كما جاء في الرواية الأخرى عن أبي هريرة: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به1 انتهى كلام النووي.

ولازم قول من قال: أنه لا يجوز قتال من قال: لا إله إلا الله، تخطئة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتالهم مانعي الزكاة، وإجماعهم على قتال من لا يصلي، إذا كانوا طائفة ممتنعين؛ بل يلزم من ذلك تخطئة جميع الصحابة في قتالهم بني حنيفة، وتخطئة علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتال الخوارج؛ بل لازم ذلك رد النصوص، بل رد نصوص القرآن -كما قدمنا-، ورد نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا تحصى.

ويلزم صاحب هذه المقالة الفاسدة أنه لا يجوز قتال اليهود؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله.

فتبين بما قررناه أن صاحب هذا القول مخالف للكتاب، والسنة، والإجماع.

ونذكر بعض ما اطلعنا عليه من كلام فقهاء المذاهب:

قال الشيخ علي الأجهوري المالكي: من ترك فرضا أخره لبقاء ركعة بسجدتيها من غير الضرورة، قتل بالسيف حدا على المشهور. وقال ابن حبيب وجماعة: ظاهر المذهب كفر، واختاره ابن عبد السلام. وقال: في فضل الأذان معنيان:

"أحدهما": إظهار الشعائر، والتعريف بأن الدار دار إسلام، وهو فرض كفاية، يقاتل أهل القرية حتى يفعلوه، إن عجز عن قهرهم على إقامته إلا بقتال.

"والثاني": الدعاء إلى الصلاة، والإعلام بوقتها.

وقال الأبي في شرح مسلم: والمشهور أن الأذان فرض كفاية على أهل المصر لأنه شعار الإسلام، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يسمع أذانا أغار، وإلا أمسك. وقول المصنف: يقاتلون عليه، ليس القتال عليه من خصائص القول بالوجوب، لأنه نص عن عياض في قول المصنف: والوتر غير واجب؛ لأنهم اختلفوا في التمالؤ

1 مسلم: الإيمان "21"، وابن ماجه: المقدمة "71".

ص: 492

على ترك السنن، هل يقاتلون عليها؟ والصحيح قتالهم وإكراههم لأن في التمالؤ على تركها إماتتها. اه.

وقال في فضل صلاة الجماعة: صلاة الجماعة مستحبة للرجل في نفسه، فرض كفاية في الجملة، يعني أهل المصر، قال: ولو تركوها قوتلوا، كما تقدم. اه.

وقال الشيخ أحمد بن حمدان الأدرعي الشافعي في كتاب "قوت المحتاج في شرح المنهاج": من ترك الصلاة جاحدا وجوبها كفر بالإجماع، وذلك جار في جحود مجمع عليه، معلوم من الدين بالضرورة. فإن تركها كسلا قتل حدّا على الصحيح والمشهور. أما قتله، فلأن الله قال:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 1. ثم قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 2 فدل على أن القتل لا يرفع إلا بالإيمان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولما في الصحيحين: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها" 3 إلى أن قال في الروضة: تارك الصلاة يقتل على الصحيح، جزم به الشيخ أبو حامد.

وفي البيان: لو صلى عريانا مع القدرة على السترة، أو صلى الفريضة قاعدا بلا عذر، قُتل، إلى أن قال: والصحيح قتله بصلاة واحدة، بشرط إخراجها عن وقت الضرورة.

وقال ابن حجر الهيتمي في التحفة "في باب حكم تارك الصلاة": إن ترك الصلاة جاحدا وجوبها كفر بالإجماع، أو تركها كسلا مع اعتقاد وجوبها قتل، للآية {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 4، وحديث:"أمرت أن أقاتل الناس" 5 الحديث، فإنهما شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة: الإسلام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.

لكن الزكاة يمكن الإمام أخذها، ولو بالمقاتلة ممن امتنعوا وقاتلوا، فكانت فيها على حقيقتها، بخلافها في الصلاة، فإنه لا يمكن فعلها بالمقاتلة، فكانت فيها بمعنى القتل. اهـ.

1 سورة التوبة آية: 5.

2 سورة التوبة آية: 5.

3 البخاري: الإيمان "25"، ومسلم: الإيمان "22".

4 سورة التوبة آية: 5.

5 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3966 ،3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/199 ،3/224

ص: 493

مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط القتال

وأما كلام الحنابلة، فصرحوا بأن أهل البلد إذا تركوا الأذان والإقامة قوتلوا؛ أي: قاتلهم الإمام، أو نائبه حتى يفعلوهما. وكذا قالوا في صلاة الجماعة يقاتل تاركها، وكذا قالوا في صلاة العيد يقاتل أهل بلد تركوها، وكذا قالوا في قتال مانعي الزكاة، وأن الواجد إذا امتنع من أداء الزكاة، ولم يمكن أخذها منه قهرا، قتل بعد الاستتابة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما، فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام، عملا بالكتاب والسنة.

وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله:"تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم" 1، فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط القتال. فالقتل واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب. فأيما طائفة ممتنعة امتنعت من بعض الصلوات المفروضة، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال، والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها. وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة إذا أصروا على ترك بعض السنن كركعتي الفجر، والأذان، والإقامة عند

1 البخاري: فضائل القرآن "5058"، ومسلم: الزكاة "1064" ، وأحمد "3/33 ،3/56 ،3/60 ،3/65".

ص: 494

من لا يقول بوجوبهما، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة، ونحوها فلا خلاف في القتال عليها، انتهى.

وأيضا فالمقصود من لا إله إلا الله البراءة من الشرك، وعبادة غير الله -تعالى-. ومشركو العرب يعرفون المراد منها لأنهم أهل اللسان، فإذا قال أحدهم: لا إله إلا الله، فقد تبرأ من الشرك، وعبادة غير الله -تعالى-. فلو قال: لا إله إلا الله، وهو مصر على عبادة غير الله لم تعصمه هذه الكلمة؛ لقوله سبحانه وتعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 1 أي: شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 2، وقوله:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 3.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يُعبد الله وحده، لا شريك له" 4، وهذا معنى قوله -تعالى-:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ} 5أي: الطاعة وهذا معنى لا إله إلا الله.

نسأل الله أن يجعلها آخر كلامنا، ويتوفانا مسلمين برحمته، فهو أرحم الراحمين. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمدوعلى آله وصحبه والتابعين لهمبإحسان إلى يوم الدين

تمت هذه النسخة الشريفة، المحتوية على الألفاظ المنيفة اللطيفة.

أسكن الله -تعالى- مؤلفها الغرف العالية الرفيعة. آمين.

وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله

وصحبه وسلم تسليما كثيرا

1 سورة الأنفال آية: 39.

2 سورة الأنفال آية: 39.

3 سورة التوبة آية: 5.

4 أحمد "2/50".

5 سورة البقرة آية: 193.

ص: 495

رسالة في معنى قوله صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة"ومحاجة آدم لموسى عليهما السلام

معنى إحصاء أسماء الله

بسم الله الرحمن الر حيم

من عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين- إلى الإخوان محمد آل عمر، وصالح آل عثمان، ومحمد آل إبراهيم، ثبتهم الله على الإسلام، ووفقهم للتمسك بسنة سيد الأنام، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

"وبعد" فموجب الخط: إبلاغ السلام، والوصية بالتمسك بما من الله به عليكم من معرفة التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، فاعرفوا حق هذه النعمة، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن إذا أنعم الله عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.

وما سألتم عنه من معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما، فمن أحصاها دخل الجنة" 1 فقد ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- ما معناه: إن الإحصاء يتناول ثلاثة أمور: "الأول": حفظها، "الثاني": معرفة معانيها، "الثالث": اعتقاد ما دلت عليه، والعمل بمقتضاه.

محاجة آدم لموسى

وأما معنى محاجة آدم موسى عليهما السلام ولوم موسى لآدم، فذكر شيخ الإسلام وغيره: أن لوم موسى لآدم إنما هو على المصيبة التي لحقت الذرية بسبب الذنب، وآدم إنما احتج بالقدر على المصيبة، لا على الذنب.

يوضح ذلك: أنه لو جاز الاحتجاج بالقدر على الذنب، وأنه حجة صحيحة، لكان حجة لإبليس وجميع العصاة، وهذا باطل بدلائل الكتاب والسنة، وإجماع أهل الحق من الأمة، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

1 البخاري: الشروط "2736"، ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار "2677"، والترمذي: الدعوات "3508"، وابن ماجه: الدعاء "3860" ، وأحمد "2/258 ،2/267 ،2/427 ،2/499 ،2/503 ،2/516".

ص: 496

الطلاق على عوض

بسم الله الرحمن الر حيم

من عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين- إلى الأخ المكرم إبراهيم آل علي -سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

"وبعد" موجب الخط: إبلاغك السلام، والخط وصل -أوصلك الله إلى ما تحب-، وما ذكرت من حال طلاق الذي يذكر أنه طلق زوجته طلقة على عوض منها، ثم بعد ذلك طلقها ثلاثا، فإذا صدقته الزوجة على قوله: إنه طلقها الأولى على عوض منها، فلا يلحقها الطلاق الذي بعد ذلك، وتجوز له بعقد جديد.

وما ذكرت من حال الذي يبغي يعطي الأمير، فالذي تراه مبارك؛ إن أعطى سعر مثله فهو المطلوب، فإن قصر عن السعر، ولا سمحت نفسه بالتمام، فهذا شيء زهيد ما يسوى يكتب من طرفه، ومتى ما شفت له مبيعه تبيعه -إن شاء الله-. وسلم لنا على العيال، والأمير، وولدنا عبد العزيز، وإخوانه، وآل محمد، والطلبة يسلمون عليكم، وأنت في حفظ الله وأمانه. والسلام.

نصيحة في التمسك بالتوحيد والأمر بإنكار المنكر

بسم الله الرحمن الر حيم

"وبه نستعين"

من عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين- إلى الإخوان عبد الله آل علي، وحمود، وعلى آل عبد الله التويجر، وفقهم الله لطاعته، وحفظهم بكلاءته.

سلام عليكم ورحمته وبركاته.

ص: 497

وبعد موجب الخط: إبلاغكم السلام، والسؤال عن حالكم -أصلح الله لنا ولكم الدين والدنيا والآخرة-، وخطكم وصل -أوصلكم الله إلى الخير-، نسأل الله أن يحيينا، وإياكم حياة طيبة، وهي الحياة في الطاعة، وأوصيكم بتقوى الله، والاستكثار من أعمال الخير، والتمسك بما تعرفون من التوحيد الذي دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.

فأكثر الناس اليوم صار المعروف عندهم منكرا، والمنكر معروفا، وهذا زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، وكل زمان شر مما قبله، وتصدّر للفتوى جهال؛ أضلوا الناس، اجتمع فيهم الجهل والفجور.

وبعض من عنده معرفة، صار يناظر وجوه أهل الدنيا1، والمنصف اليوم أعز من الكبريت الأحمر، والحق -ولله الحمد- عليه نور.

قال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها" 2 والحق مع ظهوره في غاية الغربة، ويرى المؤمن ما يذوب من قلبه.

ونرجو أن المتمسك بدين الله اليوم يحصل له أجر خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأجل ظهور الشرك في الأمصار، وظهور المنكرات، وإضاعة الصلوات.

فلم يبق -والله- من الإسلام إلا اسمه، وهذا مصداق ما أخبر به الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين-.

نسأل الله أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، ويتوفانا مسلمين، ويجعلنا وإياكم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

هذا، وأنتم في أمان الله، وحفظه. والسلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

1 أي يجتهد أن يكون نظيرهم في الجاه والمال.

2 ابن ماجه: المقدمة "44" ، وأحمد "4/126"

ص: 498

فتاوى في الاستشفاع والاستغاثة وغيرها

معنى الاستشفاع والاستغاثة

سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين-، عن المسائل الآتية، فأجاب عنها بما نصه:-

وما سألت عنه من إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من قال: نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله: نستشفع بك على الله؛ لأن معنى قوله: نستشفع بك على الله، أي نطلب منك أن تدعو الله أن يغيثنا؛ لأن الداعي شافع، ومعنى نستشفع بالله عليك: نطلب من الله أن يطلب منك أن تدعو لنا، وتستسقي لنا، والله سبحانه وتعالى يُشفع إليه، ولا يشفع هو إلى أحد.

وأما آخر الحديث الذي أشار إليه بعد قوله: لا يستشفع به على أحد، شأن الله أعظم من ذلك. إن الله على عرشه، وإن عرشه على سمواته وأرضه هكذا 1 وقال بأصابعه مثل القبة، وفي لفظ: وإن عرشه فوق سماواته، وسماواته فوق أرضه هكذا 2 - وقال بأصابعه مثل القبة 3.

وأما قوله في الحديث الآخر: إنه لا يستغاث بي الحديث، فإن كان 4

1 أبو داود: السنة "4726".

2 أبو داود: السنة "4726".

3 يراجع ما قاله شيخ الإسلام في هذا الحديث في رسالة العرش.

4 هكذا في الأصل وليس بعد هذا الشرط جزاء له. ومن المعلوم أن الاستغاثة كالاستعانة والدعاء، منها ما هو عادي، وما هو عبادة. فالعادي ما يطلب من الناس من الأمور العادية التي تدخل في كسبهم وقدرتهم، وأما العبادة فهو طلب ما لا يدخل في كسب العباد، ولا في نظام الأسباب والمسببات، وهذا لا يطلب إلا من الله القادر على كل شيء، فإذا وجه إلى مخلوق كان عبادة له، وشركا بالله -تعالى-، ومن ذلك دعاء الموتى والاستغاثة بهم، وقد انقطع كسبهم، وصاروا في عالم الغيب، الذي لا يعلم شأنهم فيه إلا الله -تعالى-.

ص: 499

النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا الحماية لجانب التوحيد، وإن كانت الاستغاثة بالمخلوق -فيما يقدر عليه- جائزة كقوله -تعالى-:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 1، وإذا أقبل عليك عدو ونخيت على ربعك2 يعاونونك، فهذا استغاثة بهم، والاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة.

ضعف الإيمان في القلوب حتى أصبحت لا تحس بما يقع من الشرك

والحديث المروي: "يأتي على الناس زمان يذوب فيه قلب المؤمن" الحديث؛ فهذه الأزمنة، والله كذلك، ولكن لضعف الإيمان ما نحس بذلك على حقيقته، وقد اشتدت -والله- غربة الإسلام. وأي غربة أعظم من غربة من وفقه الله لمعرفة التوحيد، الذي اتفقت عليه جميع الرسل الذي هو حق الله على عباده، مع جهل أكثر الناس اليوم به، وإنكارهم له، والأمر كما قال الله -تعالى-:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 3. نسأل الله لنا ولكم الوفاة على التوحيد؛ الذي هو إخلاص العبادة لله وحده.

وقول الحسن رحمه الله، فما أحسن ذلك وأجله، وتوجعه وتأوهه، فما رأى في زمانه المثنى على أهله، ولا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، كما قال الصادق المصدوق، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم، وإلف العادة، ضعف استنكار المنكر وعُدِم..

فالله المستعان، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

1 سورة القصص آية: 15.

2 الربع: جماعة الرجل وقبيلته. ونخيت، أصله: أنخت بعيرك، والمعنى: نزلت عليهم، واستنصرت على العدو.

3 سورة يونس آية: 58.

ص: 500

معنى كلمة التوحيد

معنى كلمة التوحيد نفيا وإثباتا ومعنى المعبود والعبادة

معنى كلمة التوحيد وحكم من قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله. بسم الله الرحمن الر حيم

سئل الشيخ أبا بطين1 رحمه الله عن معنى لا إله إلا الله، وعمن قالها، ولم يكفر بما يعبد من دون الله. وهل من قالها، ودعا نبيا، أو وليا هل تنفعه؟ أو هو مباح الدم والمال ولو قالها؟

أجاب رحمه الله وعفا عنه-: معنى لا إله إلا الله عند جميع أهل اللغة وعلماء التفسير والفقهاء، كلهم يفسرون الإله بالمعبود، والتأله: التعبد.

وأما العبادة فعرفها بعضهم بأنها ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي.

والمأثور عن السلف تفسير العبادة بالطاعة، فيدخل في ذلك فعل المأمور وترك المحظور من واجب ومندوب، وترك المنهي عنه من محرم ومكروه. فمن جعل نوعا من أنواع العبادة لغير الله كالدعاء، والسجود، والذبح، والنذر، وغير ذلك لغير الله فهو مشرك.

ولا إله إلا الله متضمنة للكفر بما يعبد من دونه، لأن معنى لا إله إلا الله إثبات العبادة لله وحده، والبراءة من كل معبود سواه، وهذا معنى الكفر بما يعبد من دونه، لأن معنى الكفر بما يعبد من دونه البراءة منه واعتقاد بطلانه، وهذا معنى الكفر بالطاغوت في قول الله –تعالى-:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 2.

والطاغوت: اسم لكل معبود سوى الله،

1 هذا اللفظ علم محكي كما كانوا ينطقون به في أحوال الإعراب الثلاثة فهو هنا محله الرفع كما هو ظاهر.

2 سورة البقرة آية: 256.

ص: 501

كما في قوله –تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله"2.

فقوله: "وكفر بما يعبد من دون الله" 3 الظاهر أن هذا زيادة إيضاح؛ لأن لا إله إلا الله متضمنة للكفر بما يعبد من دون الله، ومن قال: لا إله إلا الله، ومع ذلك يفعل الشرك الأكبر، كدعاء الموتى والغائبين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، فهذا مشرك شاء أم أبى، والله لا يغفر أن يشرك به {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 4.

ومع هذا فهو مشرك، ومن فعله كان كافرا، ولكن على ما قال الشيخ: لا يقال فلان كافر حتى يبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أصرَّ بعد البيان حكم بكفره وحل دمه وماله، وقال –تعالى-:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 5 أي: شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 6. فإذا كان في بلد وثن يعبد من دون الله، قوتلوا لأجل هذا الوثن، أي: لإزالته وهدمه وترك الشرك، حتى يكون الدين كله لله.

والدعاء دين، سماه الله دينا كما في قوله –تعالى-:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 7 أي: الدعاء، وقال صلى الله عليه وسلم:"بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له"8. فمتى كان شيء من العبادة مصروفا لغير الله، فالسيف مسلول عليه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

1 سورة النحل آية: 36.

2 مسلم: الإيمان "23" ، وأحمد "3/472 ،6/394".

3 صحيح مسلم: كتاب الإيمان "23" ، ومسند أحمد "3/472 ،6/394".

4 سورة المائدة آية: 72.

5 سورة الأنفال آية: 39.

6 سورة الأنفال آية: 39.

7 سورة العنكبوت آية: 65.

8 أحمد "2/50".

ص: 502

معنى كلمة التوحيد نفيا وإثباتا ومعنى الإله والعبادة

بسم الله الرحمن الر حيم

سأل بعض الإخوان الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن -رحمة الله تعالى علينا وعليه- عن معنى لا إله إلا الله وما تنفي، وما تثبت.

فأجاب -رحمه الله تعالى-: وما سألت عن معنى لا إله إلا الله، وما تثبت وما تنفي، "فأول" واجب على الإنسان معرفة معنى هذه الكلمة، قال الله –تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} 1، وقال:{وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} 2 أي: بلا إله إلا الله {هُمْ يَعْلَمُونَ} 3 بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم.

فأفرض الفرائض معرفة معنى هذه الكلمة، ثم التلفظ بمقتضاها، فالإله هو المعبود والتأله التعبد. لا معبود إلا الله: نفت الإلهية عمن سوى الله، وأثبتتها لله تعالى وحده. فإذا عرفت أن الإله هو المعبود، والإلهية هي العبادة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال، فالإله هو المعبود المطاع، فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك، وذلك كالسجود، والدعاء، والذبح، والنذر، وكذلك التوكل والخوف والرجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة الظاهرة والباطنة. وإفراد الله –سبحانه- بالعبادة، ونفيها عمن سواه هو حقيقة التوحيد، وهو معنى لا إله إلا الله.

فمن قال: لا إله إلا الله بصدق ويقين، أخرجت من قلبه كل ما سوى الله محبة وتعظيما وإجلالا ومهابة وخشية وتوكلا، فلا يصير في قلبه محبة لما يكرهه الله ولا كراهة لما يحبه، وهذا حقيقة الإخلاص الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:"من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل الجنة، أو حرم الله عليه النار"4.

قيل للحسن البصري: إن ناسا يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال لا إله إلا الله فأدَّى حقها وفرضها. وغالب من يقول لا إله إلا الله إنما يقولها تقليدا، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه

1 سورة محمد آية: 19.

2 سورة الزخرف آية: 86.

3 سورة الزخرف آية: 86.

4 أحمد "5/236".

ص: 503

فلا يعرف ما 1 ومن لا يعرف ذلك يخفى عليه أن يصرف عنها عند الموت، وفي القبور أمثال هؤلاء يقولون كما في الحديث: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته 2. نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والله أعلم. اهـ.

"نقل من خط من يزعم أنه نقله من خط الشيخ العلامة والعالم الفاضل البحر الفهامة، وحيد زمانه، وفائق أقرانه، وفارس المعاني والألفاظ، وأوحد الأجلة الحفاظ، ذي الهمم السنية، والمفاخر العلية، مفتي الديار النجدية، نادرة العصر، وزينة الدهر، عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين –رحمه الله تعالى-".

فتاوى فقهية ومسائل

وصي الصغير وتصرفاته في مال الصغير

"في تصرف وصي الصبي في ماله وفي الطلاق وليهما يقدم من مال الميت سداد الدين أو الحج عنه".

بسم الله الرحمن الر حيم

أفتنا -عفا الله عنك-: إذا كان هنا وكيل لعيال صغار قاصرين، والوكيل كأخ، أو عم، أو أجنبي، هل تمضي وكالته بكل حال كقسم عقار، أو تصرف بمال أو غيره، أو تمضي بشيء دون شيء؟

"مسألة": إذا طلَّق رجل امرأته في حال صحته بائنا بعوض، أو ثلاث، فمات وهي في عدته، هل يجب عليها حداد؟ ويستحب، أم لا؟

"مسألة": إذا مات إنسان وفي ذمته دين آدميين وحجة الإسلام، وتركته ما توفي الجميع، هل يقدم الدين، أو الحجة أو يتحاصَّان؟ أفتنا مأجورا. انتهى.

1 بياض بالأصل ولعله "تنفيه وتثبته".

2 البخاري: العلم "86"، ومسلم: الكسوف "905" ، وأحمد "6/345 ،6/354"، ومالك: النداء للصلاة "447".

ص: 504

أجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله تعالى-:

"الجواب": من طرف المسألة الأولى فالوصي على الصغار إنما يملك التصرف فيما وصي عليه به، فإذا أوصاه أبو الصغار عليهم في النظر في مالهم، وما يصلح لهم، ملك التصرف فيما فيه مصلحة لهم، وكذلك إذا كان لهم شريك في شيء، وطلب القسمة فالوصي عليهم يقسم لهم، وتمضي قسمته. ولا يملك الوصي تزويج صغير إلا إن نص له الأب على التزويج بأن يقول: وصيت إليك بتزويج بناتي ونحو هذا.

البائن في الصحة

وأما البائن في الصحة فلا يلزمها إحداد إذا مات زوجها وهي في عدته، ولا تنتقل عن عدة الطلاق، بل تتم عدة طلاق فقط، ولا يستحب لها الإحداد أيضا؛ لأنها غير وارثة منه.

مات وكان قد وجب عليه الحج في حياته لاستكمال شروطه وعليه دين

وأما من مات وعليه حجة الإسلام بأن يكون قد وجب عليه الحج في حياته لاستكمال شروطه حج عنه من ماله، فإن كان عليه دين، وماله لا يفي، فالدين ونفقة الحج سواء يقسم بالحصص. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

"رسالة في هبة ثواب الأعمال إلى الميت هل يجوز أم لا؟ "

بسم الله الرحمن الر حيم

هذا جواب مسائل وردت على شيخنا فقال:

أما ما ذكرت من إيراد عثمان بعض عبارات الأصحاب على جواز التشريك في نفس العمل، فهو إيراد غير صحيح، ولا ينبغي للطالب العدول عن صريح كلامهم ومعارضته بما يحتمل من موافقة الصريح من كلامهم، ويحتمل ضده ثم يحمله على ما يخالف الصريح، بل الذي ينبغي رد المحتمل من كلامهم على صريحه ومنصوصه كما يجب رد المتشابه إلى المحكم.

وأما ما رواه الكحَّال عن أحمد قال: قيل لأبي عبد الله: الرجل يعمل الشيء

ص: 505

من الخير، من صلاة وصدقة أو غير ذلك، فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه. قال: أرجو، فهذا يحتمل أن المراد جعل نصف نفس العمل، ويحتمل نصف ثوابه، ويتعين حمله على الاحتمال الثاني لوجهين:

"أحدهما": أن الأصحاب لما ذكروا جواز إهداء ثواب العمل، احتجوا لقولهم برواية الكحال عن الإمام، فدلَّ على أن هذا معنى الرواية عندهم.

"الوجه الثاني": أنهم لما نصوا على أنه إذا حرم عن اثنين وقع عن نفسه قاسوا ذلك على الصلاة، فدلَّ على أن كون الصلاة لا تقع عن اثنين لا خلاف فيه عندهم لأنهم جعلوه أصلا، وقاسوا عليه الحج، فدلَّ على أنهم لم يفهموا من رواية الكحال إلا التشريك في نفس العمل، وإنما معناها التشريك في الثواب.

ولما ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- وصول ثواب القربات إلى الأموات، وذكر ما في المسألة من الخلاف، وصحَّح القول بوصولها، وذكر حجج المخالفين، وذكر من حججهم قولهم: لو ساغ ذلك لساغ إهداء نصف الثواب وربعه إلى الميت.

فأجاب بوجهين:

"أحدهما": منع الملازمة.

"الثاني": التزام ذلك والقول به، نصَّ عليه الإمام أحمد من رواية محمد بن يحيى الكحال، قال: ووجه هذا أن الثواب ملك له، فله أن يهديه جميعا، وله أن يهدي بعضه، يوضحه أنه لو أهداه إلى أربعة مثلا- تحصل لكل منهم ربعه، فإذا أهدى الربع، وأبقى لنفسه الباقي جاز كما لو أهداه إلى غيره. اهـ

الوصي بالأضحية هل يأكل منها أم لا؟

وأما الوصي في الأضحية فقاسوه على من أوصى إليه بتفرقة شيء –مثلا- على الفقراء وهو فقير. المشهور في المذاهب أنه لا يأخذ شيئا، وأجاز جماعة له الأخذ، وفيه قول يجوز له الأخذ إن دلت قرينة على الإذن وإلا فلا، وتعليلهم على أنه يجوز مع الإذن، فكذلك إذا أذن الموصي للوصي في الأكل من الأضحية جاز، وصرح ابن عبد الهادي بجواز الأكل له كغيره.

ص: 506

وأما ما أفهمه كلام أحمد بن محمد من أنه لا يجوز له الأكل حتى مع الإذن، فالظاهر أنه ليس بصواب، لأن كلام الأصحاب قد دلَّ على جواز الأخذ لمن أوصى إليه بتفرقة شيء، أو وكل إليه فيه إذا أذن له في الأخذ، فكذلك إذا أذن الموصي للوصي في الأخذمن لحم الأضحية، وأي فرق؟

وأما إذا قال الموصي لوصيه في الأضحية: لك جلدها ونحوه على سبيل الوصية له بذلك، أو على طريق العوض، فالظاهر عدم جواز ذلك، وأما إذا قال: أذنت لك في الأكل من لحمها فلا مانع منه، والله أعلم.

العمل بالخط في إثبات الوقف

"وأما المسألة الثالثة": وهي العمل بالخط في إثبات الوقف، وهل ينْزع العقار ونحوه ممن هو في يده؟ بخط قاض معروف ويحكم به بمجرد الخط؟ فالذي يظهر أن هذا مبني على جواز العمل بمجرد الخط في الحكم والشهادة.

ومن المعلوم أن الذي عليه أكثر متقدمي الأصحاب أنه لا يجوز العمل بمجرد الخط، وقد علمتم ما شرطوه في كتاب القاضي إلى القاضي وغير ذلك. والذي عليه عمل المتأخرين جواز العمل بالخط، والكلام الذي نقلتموه مضمونه عدم جواز العمل بالخط. لأنه أخرجه عن كونه بينة، ولا شك أن هذا هو مقتضى قول أكثر المتقدمين.

وأما ما اعتمده كثير من المتأخرين من العمل بالخطف مقتضى قولهم جواز العمل بذلك، والاعتماد عليه

بشرط تحقق الحاكم أنه خط القاضيالمعروف خطه وثقته، فلا يجوزالاعتماد على خط لا يتيقنه ولا يعرف ثقة كاتبه

والله سبحانه وتعالى أعلم

ص: 507