الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسائل وفتاوى فقهية في الطهارة والجمعة والأضحية والتغليس والوقف واللقطة والتغليس والوقف واللقطة والصّلح للشيخ حسن بن حسين
…
مسائل وفتاوى فقهية في الطهارة والجمعة والأضحية والتغليس والوقف واللقطة والصلح
من تأليف الفاضل المحقق الشيخ حسن بن حسين من أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله
مسائل وفتاوى في فروع فقهية
تداخل الطهارة الصغرى في الكبرى
بسم الله الرحمن الر حيم
من حسن بن حسين إلى الأخ الفالح والمحب الصالح عبد الرحمن بن محمد لا زال علمه يزداد ويتجدد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والخط المصحوب بالصحيفة، المشتملة على سؤالاتكم اللطيفة، وصل -وصلكم الله عز وجل، وتلقينا الأسئلة بالترحاب، ووافيناها فورا بالجواب، طلبا لمستطاب الثواب، ورجاء لدعوات نافعة في المآب.
قال السائل -كثر الله تعالى فوائده-:
"المسألة الأولى": رجل عليه موجب للغسل فنوى بطهارته رفع الحدث الأكبر فقط، هل يرتفع الأصغر، وتتداخل الأحداث بعضها في بعض أم لا؟.
"الجواب": إذا نوى من عليه موجب أكبر رفعه بغسله، فإنه يرتفع المنوي، وما كان من جنسه ووصفه، كما إذا نوت من عليها غسل حيض وجنابة رفع أحد الحدثين فيرتفعان معا بنية رفع أحدهما بالغسل؛ لتداخلهما وتساويهما موجبا وحكما. وكما إذا نوى رفع الحدث وأطلق، أو نوى الصلاة ونحوها مما يحتاج لوضوء وغسل. ويسقط الترتيب والموالاة، لكون البدن فيه بمنزلة العضو الواحد.
وأما الحدث الأصغر فلا يرتفع بنية الأكبر فقط؛ لما بينهما من تباين الأوصاف، واختلاف الأصناف التي لا يجامعها تداخل. هذا منصوص أحمد، والمعتمد عند أكثر أصحابه، وهو من مفردات مذهبه. قال ناظمها:
والغسل للكبرى فقط لا يرفع
…
صغرى وإن نوى فعنه يرفع
قال في شرحه: أي وإن نوى بالغسل الطهارة الكبرى أي رفع الحدث الأكبر لم يرتفع حدثه الأصغر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإنما لكل امرئ ما نوى" 1 وهذا لم ينو الوضوء، هذا الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم اهـ.
وحكى في "الفروع" و"المبدع" و"الإنصاف" عن الأزجي، وأبي العباس ابن تيمية أن الأصغر يرتفع بنية الأكبر، وجزم به ابن اللحام في الاختيارات لاندراج الأصغر في الأكبر، فيدخل فيه ويضمحل معه.
ومبنى الطهارات على التداخل فماهية الأصغر انعدمت بانعدام جزئها، وسواء تقدم الأصغر الأكبر، أو تأخر عنه، وروى البيهقي عن عمر أنه كان يقول: وأي وضوء أتم من الغسل إذا أجنب الفرج؟.
وعن يحيى بن سعيد قال: سئل سعيد بن المسيب عن الرجل يغتسل من الجنابة. يكفيه ذلك من الوضوء؟ قال: نعم.
واستأنسوا- أعني القائلين بدخوله في الأكبر- بحديث جابر بن عبد الله أن أهل الطائف قالوا: "يا رسول الله: إن أرضنا باردة فما يجزئنا من غسل الجنابة؟ فقال: أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثا" 2 وبقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين"3 أو قال: "فإذا أنت قد طهرت" 4 رواهما مسلم.
لكن الدلالة من هذين الحديثين ليست بصريحة، وعلى المذهب فقد حصر مُحَشِّي "المنتهى" الشيخُ عثمان صورَ نية رفع الحدث الأكبر في ست فقال: نية رفع الحدث الأكبر. نية رفع الحدثين. نية رفع الحدث وتطلق. نية استباحة أمر يتوقف على الوضوء والغسل معا. نية ما يسن له الغسل ناسيا للغسل الواجب. ففي هذه الصور كلها يرتفع الأكبر، ويرتفع الأصغر أيضا فيما عدا الأولى والأخيرتين، ثم ذكر أنها تأتي في الأصغر أيضا وزيادة، ولا حاجة لذكرها هنا؛ لأنها ليست من غرض السائل.
1 البخاري: بدء الوحي "1"، ومسلم: الإمارة "1907"، والترمذي: فضائل الجهاد "1647"، والنسائي: الطهارة "75" والطلاق "3437" والأيمان والنذور "3794"، وأبو داود: الطلاق "2201"، وابن ماجه: الزهد "4227" ، وأحمد "1/25 ،1/43".
2 البخاري: الغسل "254"، ومسلم: الحيض "327"، والنسائي: الطهارة "250" والغسل والتيمم "425"، وأبو داود: الطهارة "239"، وابن ماجه: الطهارة وسننها "575" ، وأحمد "4/85".
3 مسلم: الحيض "330"، والترمذي: الطهارة "105"، والنسائي: الطهارة "241"، وأبو داود: الطهارة "251"، وابن ماجه: الطهارة وسننها "603".
4 الترمذي: الطهارة "105"، وأبو داود: الطهارة "251"، وابن ماجه: الطهارة وسننها "603".
غسل من عليه الحدث الأكبر يديه بنية القيام من النوم
"المسألة الثانية": إذا غسل يديه من عليه الحدث الأكبر بنية القيام من نوم الليل، هل يرتفع الحدث عنهما بتلك النية أم لا بد من التخصيص بالنية أو بالفعل أو بهما؟
"الجواب" إذا قلنا بما اعتمده المتأخرون من الروايات عن أحمد في هذه المسألة واشترطنا النية لغسلهما كما هو المقطوع به عندهم فإن غسلهما بنية القيام من نوم الليل لا يرفع الحدث عنهما، لأنهم صرحوا بأن غسلهما من نوم الليل طهارة مفردة يجوز تقديمها على الوضوء والغسل بالزمن الطويل، لكون وجوب غسلهما منه تعبديا غير معقول لنا، لاحتمال ورود النجاسة عليهما وغسلهما لمعنى فيهما لا كما يقوله بعضهم، وحكاه أبو الحسين ابن القاضي رواية عن أحمد من أن غسلهما لإدخالهما في الإناء، فقد عرفت أنه لا بد لرفع الحدث عنهما من نية وفعل، على المذهب خاصة.
"تنبيه" غمس الشمال في هذا كغمس اليمين ولا فرق لأنه مفرد مضاف فيعم كقوله عليه السلام "إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى" 1 صرح به في قوله "فإن التراب لهما طهور" وقوله في رواية مسلم " فنفض بيده" والمراد بيديه كما في المتفق عليه.
قال أبو الحسن ابن اللحام في القواعد الأصولية: المفرد المضاف يعم، هذا مذهبنا ونص عليه إمامنا تبعا لعلي وابن عباس.
وقال بدر الدين بن عبد الهادي في كتابه: غاية السول في الأصول المفرد المضاف يعم.
قال ابن القيم في البدائع: وعموم المفرد المضاف من قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} 2 وقوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} 3 والمراد جميع الكتب التي أحصيت فيها أعمالهم انتهى.
"قلت" ويستفاد أيضا من قوله -تعالى-: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} 4.
1 أبو داود: الطهارة "385".
2 سورة التحريم آية: 12.
3 سورة الجاثية آية: 29.
4 سورة الحاقة آية: 10.
قال ابن كثير: وليس رسولهم واحداً، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل "لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري" والمراد جميع عمارهن سوى الله -سبحانه-. ونظائره كثيرة في الكتاب والسنة واللغة فلا نطول باستقصائه إذ المقام مقام اختصار. والغرض التفطن لهذه القاعدة المهمة.
غمس اليدين في الماء بعد غسلهما بنية رفع الحدث
"المسألة الثالثة" إذا غسلهما بنية رفع الحدث فهل يؤثر غمسهما في الماء بعد الغسل أم لا؟
"الجواب" إذا فرعنا على القول الذي ذكرناه أولا فإن غسلهما والحالة هذه يؤثر في الماء فسادا. قال في "شرح المفردات": ولا يكفي نية الغسل عن نية غسلهما انتهى، وكذا قال غيره من متأخري الأصحاب لما تقدم من أنها طهارة مفردة.
إذا تقرر هذا فاعلم أن أحمد نص في رواية أخرى على أن غمسهما في الماء القليل لا يسلبه الطهورية، واختارها من أصحابه الخرقي والموفق وأبو البركات ابن تيمية وابن أبي عمر في شرح المقنع وجزم به في الوجيز وفاقا لأكثر الفقهاء.
قال في شرح مسلم: الجماهير من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أنه نهي تنزيه لا تحريم، فلو خالف وغمس لم يفسد الماء ولم يأثم الغامس. وأما الحديث 1 فمحمول على التنزيه. انتهى.
تقدم الطهارة للمسح على الجبيرة
"المسألة الرابعة" هل يظهر لكم دليل للأصحاب في اشتراطهم تقدم الطهارة للمسح على الجبيرة أم لا؟
"الجواب" دليلهم القياس على الخف والعمامة، بجامع الحائل. والقياس إذا صح فهو أحد الأدلة الخمسة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب
1 وهو "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا".
فكل واحد من هذه الخمسة دليل مستقل بنفسه، إلا أنه وقع من بعض الأصوليين خلاف في الاستصحاب، وقال ابن عبد الهادي: ذكره المحققون إجماعا انتهى، فالتحق بالأصول الأربعة.
وقد عرفوا القياس اصطلاحا بأنه حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما. قال ابن عبد الهادي: وأركانه أربعة الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع. انتهى، قال أبو العباس ابن تيمية: لا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة انتهى.
فينظر في قياسهم الجبيرة على الخف ونحوه، هل هو صحيح باجتماع أركان القياس الصحيح فيه فيصح دليلا أم لا؟ وإنما يتضح ذلك بنقل عبارات أهل الأصول المحررة، وتمهيد قواعدهم المقررة، ولو ذهبنا ننقلها في هذا الموضع لأدى بنا ذلك إلى التزام ما لا يلزم.
إذا علمت ذلك فما اعتمده متأخرو الأصحاب من هذا الاشتراط هو إحدى الروايتين عن أحمد {الثانية" لا يشترط لمسح الجبيرة تقدم الطهارة واختارها الخلال وابن عقيل وأبو عبد الله ابن تيمية في التلخيص والموفق، وجزم به في الوجيز للأخبار والمشقة لكون الجراح قد تقع في حال لا يعلم وقوعها فيه، ففي اشتراط تقدم الطهارة للمسح إفضاء إلى الحرج الموضوع.
الموالاة والترتيب بين الوضوء والتيمم
"المسألة الخامسة" هل يشترط الموالاة والترتيب بين الوضوء والتيمم أم لا.
"الجواب" قال في "المبدع": وإن كان حدث الجريح أصغر راعى الترتيب والموالاة ويعيد غسل الصحيح عند كل تيمم في وجه، وفي الآخر لا ترتيب ولا موالاة. فعلى هذا لا يعيد الغسل إلا إذا أحدث انتهى. والأول هو الذي اعتمده المتأخرون فأوجبوا الترتيب والموالاة بين الوضوء والتيمم لاشتراط الترتيب في
الوضوء، فلا ينقل عن عضو حتى يكمله غسلا وتيمما عملا بقضية الترتيب، فعلى هذا لا يضر نداوة التراب في يديه كما هو ظاهر كلامهم، وصرح به بعض الشافعية، وحكي في الفروع عن المجد أن قياس المذهب أن الترتيب سنة.
وحكي في الإنصاف وغيره عن أبي العباس ينبغي أن لا يرتب وقال غيره لا تلزمه مراعاة الترتيب، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره، قال والفصل بين أبعاض الوضوء بتيمم بدعة. وجزم به ابن اللحام في الاختيارات، والنفس تميل إلى ما قاله لا سيما وقد حكى هو وغيره من العلماء عن أصل أحمد وغيره من فقهاء الحديث أن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله. اللهم إلا أن يكون بين إيجاب الترتيب والموالاة وبين بعض الأدلة الشرعية رابط خفي علينا ففوق كل ذي علم عليم.
اشتراط دخول الوقت للوضوء من الحدث الدائم
"المسألة السادسة" هل يظهر لكم دليل لاشتراطهم دخول الوقت لوضوء من حدثه دائم كسلس البول ودائم الريح ومن به قروح أو جروح؟
"الجواب" دليل ما ذكروه من اشتراط دخول الوقت لمن حدثه دائم كسلس البول ودائم الريح والجروح التي لا يرقأ دمها والقروح السيالة، هو القياس على المستحاضة بجامع العذر، وقد أسلفنا لك أن القياس إذا صح دليل مستقل بنفسه، ونحن نذكر حكم المسألة من كلامهم.
قال في شرح المفردات عند قول الناظم:
وبدخول الوقت طهر يبطل
…
لمن بها استحاضة قد نقلوا
لا بالخروج منه لو تطهرت
…
للفجر لم يبطل بشمس ظهرت
يعني أن المستحاضة ومن به سلس البول ونحوه يتوضأ لوقت كل صلاة إلا لأن يخرج منه شيء، وهو قول أصحاب الرأي لحديث علي بن ثابت عن أبيه
الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر لا في شرع، ولا في لغة، بل يتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم، ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات، ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم؛ إذا كان ما يتعاقدون به دالا على مقصودهم، وإن كان قد يستحب بعض الصفات، وهذا هو الغالب على أصول مالك، وظاهر مذهب أحمد، فأما التزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر، ولا نظر.
وهذه القاعدة من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليها أصول الشريعة، وهي التي يعرفها العامة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عيّن للعقود صفة معينة من الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ، بل قد قيل: إن هذا القول يخالف الإجماع القديم، وهو أنه من البدع، وهذه قاعدة عظيمة نافعة. انتهى ملخصا. والمنصف لا يعدل عنه.
رد اللقطة لصاحبها
"الخامسة عشرة": إذا التقط رجل لقطة فطلبها صاحبها، وكتمها الملتقط؛ ليبذل عليها صاحبه مالا، هل له أخذ المال على هذا المنوال، أم لا؟ فإن قلتم: لا يحل، فهل يملك الباذل الرجوع، أم لا؟ وهل لقوله حال الإنشاد: حلال من الله، تأثير، أم لا؟
الجواب": لا يحل له أخذ المال المبذول، والحال ما ذكر؛ لوجوب تعريفها عليه، وإيصالها إلى صاحبها فورا، متى جاء، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرم عليه كتمانها، ولو تلفت في هذه الحال ضمنها بقيمتها مرتين.
قال أبو بكر في التنبيه: ثبت خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم "في الضالة المكتومة غرامتها، ومثلها معها" 1 وهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرد. اه.
وصرح الفقهاء بأن أجرة المنادي عليه، وبكتمانه لها ارتكب محرما، وترك واجبات متعددة، فيجب عليه رد ما أخذه إن لم تطب به نفس باذله بعد علمه بالحال،
1 أبو داود: اللقطة "1718".
قبل البرء، واختاره شيخنا مطلقا كإزالة شعر اه وعنى بشيخه أبا العباس، قال العكبري: فلو خلع الجبيرة على طهارة لم ينتقض وضوءه بمجرد خلعها.
وقال في الإقناع والمنتهى وشرح المفردات: وزوال جبيرة كخف اه وكذا عبر غيرهم بلفظ زالت وزوال، وكلا اللفظين أعم من أن يكون بفعل، فعلى هذا إن كان سقوطها على طهارة لم تنتقض الطهارة به وإن كان بعد حدث انتقضت وعلى الثانية هي باقية مطلقا ما لم يبرأ.
صور من جمع المسافر بين الصلاتين
"المسألة الثامنة" إذا تحقق المسافر وصول الماء قبل خروج وقت الثانية من المجموعتين هل له أن يصليهما جميعا في هذه الحال أم لا؟
"الجواب" له أن يؤخر الأولى جمعا مع الثانية لجواز الجمع للمسافر مطلقا، تحقق وجود الماء أو ظنه وقت الثانية أم لا على المشهور في مذهب أحمد، بل حكي في الفروع عن بعضهم أن الجمع في السفر في وقت الثانية أفضل وأنه مذهب الشافعي، وقال المنقح في تصحيح الفروع: جزم به في الهداية والخلاصة، وقال ابن تميم نص عليه اهـ.
وقال أبو العباس في المسألة المسماة "بتيسير العبادات" الجمع بين الصلاتين بطهارة كاملة خير من أن يفرق بين الصلاتين بتيمم، والجمع بين الصلاتين مشروع لحاجة دنيوية فلأن يكون مشروعا لتكميل الصلاة أولى، والجامع بين الصلاتين مصل في الوقت وقال في موضع: آخر الجمع بين الصلاتين يصير الوقتين وقتا لهما، وقاله في الإنصاف وغيره.
ما يستحب وما يكره للجمعة وحكم السفر قبل صلاتها
"المسألة التاسعة" ما ورد في يوم الجمعة كقراءة سورة الكهف والغسل والتفريق بين الاثنين وغيرها هل هو مختص بما قبل الزوال أو باليوم كله؟
"الجواب" أما قراءة سورة الكهف فظاهر الخبر الآتي وصريح كلام
فقهاء الحنابلة والشافعية أنها في مطلق اليوم، والأصل فيه ما رواه الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعا "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين" وفي رواية للبيهقي "ما بينه وبين البيت العتيق" قال في "شرح الجامع الصغير": وفي رواية " ليلة الجمعة" بدل "يوم الجمعة" وجمع بأن المراد اليوم بليلته والليلة بيومها اه. وقاله في "شرح المنهاج"، وفي "الفتاوى المصرية": هي مطلقة يوم الجمعة ما سمعت أنها مختصة ببعد العصر اه.
قال في "شرح المنهاج": ويستحب الإكثار من قراءتها كما نقل عن الشافعي وقراءتها نهارا آكد، وأولاها بعد الصبح مسارعة للخير اه.
فلم يقيدها بغير الأولوية وعليها يحمل ما حكاه في "المغني" وغيره عن خالد بن معدان من أنها قبل الصلاة.
لكن هل الليلة ما قبل اليوم أو ما بعده؟ قال ابن القيم في البدائع: هذا مما اختلف فيه فحكي عن طائفة أن ليلة اليوم بعده، والمعروف عند الناس أن ليلة اليوم قبله، ومنهم من فصَّل بين الليلة المضافة إلى اليوم كليلة الجمعة وغيرها فالمضافة إلى اليوم قبله، والمضافة إلى غيره بعده والذي فهمه الناس قديما وحديثا من قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، ولا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي" 1 أنها الليلة التي تسفر صبيحتها عن يوم الجمعة اه ملخصا.
وقد جاء الحديث أيضا بقراءة سورة هود وسورة آل عمران في يومها، روى الدارمي في مسنده عن عبد الله بن رباح مرفوعا "اقرءوا سورة هود يوم الجمعة" 2 ثم أخرجه كذلك بزيادة عن كعب وهو في مراسيل أبي داود. قال الحافظ مرسل صحيح الإسناد، وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعا "من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله وملائكته عليه حتى تجب الشمس"3.
ومما ورد من الخصائص مطلقا أيضا الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه
1 مسلم: الصيام "1144".
2 الدارمي: فضائل القرآن "3403".
3 أي تغيب من "وجب" بمعنى سقط كقوله -تعالى- "وجبت جنوبها" أي سقطت.
رواه أبو داود والترمذي من حديث أوس بن أوس قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ومن ذلك أوكدية السواك والتفرغ للعبادة ومزية الصدقة، ودنو أرواح المؤمنين من قبورهم وتوافيها فيه.
وأما الاغتسال والتطيب، ولبس أحسن الثياب، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، والنهي عن التخطي والتفريق والتحلق، والحبوة، فدلت الأخبار على أنه قبل الصلاة، وإن كان ظاهر الفروع في الاغتسال عدم التقييد لأنه قال في يومها الحاضر: إن صلاها، إلا لامرأة، وقيل: ولها اهـ.
ففي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا "من أتى الجمعة فليغتسل" 1 وفي السنن عن أبي هريرة مرفوعا "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح –فذكره إلى أن قال-: فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" 2 وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد مرفوعا "من اغتسل يوم الجمعة ولبس أحسن ثيابه ومس من الطيب إن كان عنده ثم أتى الجمعة فلم يتخط رقاب الناس ثم صلى ما كتب له ثم أنصت إذا خرج إمامه"الحديث.
وفي البخاري عن سلمان مرفوعا "ثم راح فلم يفرق بين اثنين فصلى ما كتب له ثم إذا خرج الإمام أنصت" 3 الحديث، وفي الطبراني عن أبي هريرة:"كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم يقلم أظفاره ويقص شاربه يوم الجمعة قبل أن يخرج إلى الصلاة" وفي مسند أحمد وسنن أبي داود عن ابن عمر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب"4.
وأما السفر لمن كان من أهل وجوبها فمنعه الأصحاب بعد الزوال إن لم يخف فوت رفقته إذا لم يأت بها في طريقه، وقبل الزوال فمكروه بشرطه، قال ابن المنذر: لا أعلم خبرا ثابتا يمنع السفر أول النهار إلى الزوال، وإنما يمنع إذا سمع النداء لوجوب السعي حينئذ، وقال المجد في "شرح الهداية" روى ابن أبي ذئب قال: "رأيت ابن شهاب يريد يسافر يوم الجمعة ضحوة، فقلت له تسافر يوم الجمعة؟ فقال إن رسول
1 البخاري: الجمعة "877 ،894 ،919"، ومسلم: الجمعة "844"، والترمذي: الجمعة "492"، والنسائي: الجمعة "1376 ،1405 ،1407"، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1088" ، وأحمد "2/3 ،2/9 ،2/35 ،2/37 ،2/41 ،2/42 ،2/48 ،2/53 ،2/55 ،2/57 ،2/64 ،2/75 ،2/77 ،2/78 ،2/101 ،2/105 ،2/115 ،2/120 ،2/141 ،2/145 ،2/149"، ومالك: النداء للصلاة "231"، والدارمي: الصلاة "1536".
2 البخاري: الجمعة "881"، ومسلم: الجمعة "850"، والترمذي: الجمعة "499"، والنسائي: الجمعة "1388"، وأبو داود: الطهارة "351" ، وأحمد "2/460"، ومالك: النداء للصلاة "227".
3 البخاري: الجمعة "910" ، وأحمد "5/438 ،5/440".
4 الترمذي: الجمعة "514"، وأبو داود: الصلاة "1110" ، وأحمد "3/439".
الله –صلى الله عليه وسلم سافر يوم الجمعة"رواه أبو بكر النجاد وهو من أقوى وجوه المُرْسل لاحتجاج من أرسله به اهـ.
وفي مسند الشافعي عن عمر أنه رأى رجلا عليه هيئة السفر فسمعه يقول: لولا أن اليوم يوم الجمعة لخرجت، فقال عمر: اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر، وفيه عن علي نحوه، وفي سنن سعيد بن منصور عن ابن كيسان أن أبا عبيدة بن الجراح سافر يوم الجمعة ولم ينتظر الصلاة.
وأما ما رواه الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر يرفعه "من سافر يوم الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره"ففيه ابن لهيعة ولا يحتج بحديثه عند الحفاظ.
وأما ساعة الإجابة فاختلف العلماء فيها وفي موضعها على أكثر من ثلاثين قولا ذكرها الحافظ ابن حجر في "الفتح" و"لوامع الأنوار" وغيرهما، ونظمها السيوطي في سبعة عشر بيتا، وأقرب الأقوال فيها قولان -وأحدهما أرجح من الآخر، كما قاله ابن القيم في الهدي وغيره-:"الأول" ما بين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة. {والثاني" أنها بعد العصر، وهو قول عبد الله بن سلام وأبي هريرة، وذكره ابن جرير عن ابن عباس. قال الترمذي هو مذهب أحمد وإسحاق وجماهير من أهل العلم.
"خاتمة" ذكر في "التوشيح" وغيره أن خصائص الجمعة تزيد على الأربعين.
الاشتراك في الأضحية وإجزاء الشاة عن الرجل وعياله
"المسالة العاشرة" ما معنى قوله عليه السلام في الأضحية "البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة" وقوله لما ذبح "أضحية محمد، وآل محمد، وأمة محمد" وهل يشترك في البدنة والبقرة أكثر من سبعة؟ وهل المراد سبعة من الغنم أو سبعة أشخاص إلخ؟
" الجواب" قوله: الجزور عن سبعة يعني تضحية الإبل والبقر عن سبعة أشخاص مجزية عن كل واحد سبع. انتهى من المفاتيح.
وقال عن حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي والنسائي: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة، وفي البعير عشرة" 1 إن هذا الحديث منسوخ بما تقدم وهو "الجزور عن سبعة" 2 انتهى.
وقال في "المغنى" عن حديث رافع: إن النبي صلى الله عليه وسلم قسَّم فعَدَل عشرةً من الغنم ببعير، هو في القسمة لا في الأضحية. انتهى.
وقد أخذ كثير من العلماء، أو أكثرهم بمفهوم الناسخ، فقالوا: لا تجزئ البدنة كالبقرة عن أكثر من سبعة أشخاص، لكن لو اشترك جماعة في بدنة، أو بقرة فذبحوها على أنهم سبعة، فبانوا ثمانية ذبحوا شاة وأجزأتهم.
قال في "الإنصاف" على الصحيح من المذهب، نقله ابن القاسم وعليه أكثر الأصحاب. ونقل منها تجزي عن سبعة، ويرضون الثامن ويضحي، وهو قول في الرعاية. انتهى ملخصا.
وقال في حاشية "التنقيح": قوله عن سبعة، ويعتبر ذبحها عنهم، قال الزركشي: وتعتبر أن تشترك الجماعة دفعة واحدة؛ فلو اشترك ثلاثة في بقرة أضحية، أو قالوا: من جاء يريد الأضحية شاركناه، فجاء قوم فشاركوهم، لم تجز إلا عن الثلاثة. انتهى.
وإذا صح الاشتراك، فالظاهر لا يمنع كون أحدهم مضح لنفسه، وبعضهم مضح لميته 3.
وأما الحديث الثاني، فقال الخطابي في معالم السنن في قوله عليه السلام:"تقبل من محمد، وآل محمد" 4 دليل على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله وإن كثروا، وروى عن أبي هريرة وابن عمر أنهما كانا يفعلان ذلك، وأجازه مالك، والشافعي، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وكره ذلك الثوري، وأبو حنيفة. انتهى.
قال ابن تيمية في الفتاوى المصرية: أجزأه ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما؛ فإن الصحابة كانوا يفعلون ذلك، وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ضحى، وقال- فذكر الحديث-، وترجم جده المجد في المنتقى "باب الاجتزاء
1 الترمذي: الأضاحي "1501"، والنسائي: الضحايا "4392"، وابن ماجه: الأضاحي "3131".
2 مسلم: الحج "1318"، والترمذي: الحج "904" والأضاحي "1502"، وأبو داود: الضحايا "2807"، وابن ماجه: الأضاحي "3132" ، وأحمد "3/293 ،3/363"، ومالك: الضحايا "1049".
3 كذا في الأصل والوجه في الإعراب أن يقال "مضحيا" في الموضعين؛ لأنه خبر لكون.
4 مسلم: الأضاحي "1967"، وأبو داود: الضحايا "2792" ، وأحمد "6/78".
بالشاة لأهل البيت الواحد" ثم ذكر حديث عطاء بن يسار عن أبي أيوب، وذكر في الإفصاح عن مالك: أنه لا يجوز الاشتراك فيها بالأثمان والأعراض، بل على سبيل الإرفاق، وكان يشرك رب البيت أهل بيته، وسواء في ذلك عنده: البدنة، والبقرة، والشاة.
وقال في الإنصاف: وتجزئ الشاة عن واحد بلا نزاع، وتجزئ عن أهل بيته وعياله على الصحيح من المذهب، نص عليه وعليه أكثر الأصحاب، وقطع به كثير منهم، وقيل: لا تجزئ، وقدمه في الرعاية الكبرى، وقال: وقيل في الثواب، لا في الإجزاء. انتهى.
والمعتمد عند الشافعية: عدم إجزاء الشاة عن أكثر من واحد، قال في المنهاج وشرحه: والشاة عن واحد، فلو اشترك اثنان في شاة لم يجز، والأحاديث المخالفة لذلك كحديث:"اللهم هذا عن محمد، وآل محمد" 1 محمولة على أن المراد التشريك في الثواب، لا في الأضحية. انتهى.
وقال الخلخالي في المفاتيح: ذكر في الروضة أن الشاة الواحدة لا يُضحَّى بها إلا عن واحد، لكن إذا ضحى بها واحد عن أهل بيته تأدى الشعار والسنة لجميعهم. وعلى هذا حمل ما روي أنه عليه السلام ضحى بكبش وقال:"اللهم تقبل عن محمد، وآل محمد" 2 وكما أن الفرض بنفسه ينقسم إلى عين وكفاية، فقد ذكروا أن التضحية كذلك، وأنها مسنونة لأهل كل بيت، وقد حمل جماعة الحديث على الاشتراك في الثواب؛ لأنه قال:"وعن أمة محمد" انتهى.
إخراج الزكاة المستحقة على المورث
"المسألة الحادية عشرة": رجل غني مات، لكن غالب ماله؛ إما في ذمة صاحب عقار معسر، لا يحصل منه وفاء إلا من غلته، أو عند مماطل، أو جاحد ونحوه، فحصل من ذلك المال كل نوع بحسبه، فهل زكاته -لما مضى- واجبة من موت المورث إلى الحصول؟ وهل وقته الذي كان في حياة المورث واجبة على الوارث؟.
1 أحمد "6/391".
2 أحمد "6/391".
فإن قلتم: نعم، وكان بعض الورثة لا يملك نصابا، فهل تكون الزكاة من رأس المال، أو على حصة من ملك نصابا؟
"الجواب": إذا اعتمدنا ما قطع به المتأخرون من وجوب الزكاة في الدَّين الذي على غير المليء كعلى المليء، لصحة الحوالة به عليه والإبراء منه، فإنه يكون في المسألة تفصيل، فإن كان قد مضى على الدَّين المذكور حَولٌ فأكثر من ملك ربه له قبل موته، فإن زكاته تخرج من تركته لما مضى، ولو لم يبلغ المقبوض نصابا.
قال في المبدع: وإذا مات من وجبت عليه الزكاة أخذت من تركته؛ نص عليه لقوله عليه الصلاة والسلام: "فدين الله أحق بالقضاء" 1 وصرحوا بأن الوارث لا يبني على حول مورثه، بل يستأنف حولا من ابتداء ملكه، وهو وقت موت المورث.
ثم إن كان قد مضى من موته في صورة السؤال حول فأكثر، وبلغ نصابا، زكاه صاحبه كذلك.
وإن لم يحل عليه الحول أو حال ولم يبلغ نصابا، فإنه لا زكاة فيه، هذا على المقطوع به عند المتأخرين من الروايات عن أحمد في المسألة.
وعنه رواية ثانية: أن الدين على غير المليء لا زكاة فيه مطلقا، صححها في التلخيص ورجحها جماعة، واختارها ابن شهاب والشيخ تقي الدين ذكره عنهم في المبدع، وقال: روي عن عمر وابن عمر؛ لأنه غير تام، وهو خارج عن يده وتصرفه، ولأن الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة، وهذا مفقود. انتهى.
وعنه رواية ثالثة: إنما يؤمل رجوعه كالدَّين على الغائب المنقطع خبره والمفلس، ففيه الزكاة، وما لا يؤمل رجوعه كالمسروق والمغصوب فلا زكاة فيه، قال أبو العباس: وهذا أقرب -إن شاء الله-، حكاه عنه في المبدع والإنصاف.
1 البخاري: الصوم "1953"، ومسلم: الصيام "1148"، وأبو داود: الأيمان والنذور "3310" ، وأحمد "1/227 ،1/258 ،1/362".
وجد البائع عين ماله عند المفلس بشروطه المعتبرة
"المسألة الثانية عشرة": إذا وجد البائع عين ماله عند المفلس بشروطه المعتبرة، وكان المبيع جمع عددا أكثر بين عشرة إلى مائة، فهل إذا وجد بعضها يأخذه بقسطه، ويضرب فيما بقي مع الغرماء، أم يكون أسوة الغرماء، ولا يملك أخذ باقي سلعته؟
الجواب": هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد: "إحداهما": أنه يرجع في العين الباقية؛ جزم به في المنتهى والإقناع، وذكر في الإنصاف: أنه الصحيح من المذهب؛ لأن السالم وجده ربه بعينه، فيدخل في عموم الخبر، قاله في شرح المنتهى، ووجه في الغاية أن مثله المكيل والموزون، فيأخذ ما وجد منه.
والرواية الثانية": أن المتعدد كغيره إذا لم يجده كله كان أسوة الغرماء؛ لتعذر كل العين. قال في الإنصاف: وهو ظاهر كلام المصنف هنا وجماعة. انتهى. وفي الأولى قوة مع كونها مختار المتأخرين.
التزام شروط الواقف ومن جوز تغييرها إلى الأصلح
"المسألة الثالثة عشرة": إذا وقَّف إنسان وقفا على جهة معينة كعلى صوام المسجد الفلاني، ثم أراد الواقف 1 أو غيره صرفه إلى جهة أخرى؛ إما في تلك البلد، أو في بلد أخرى، هل له ذلك، أم لا؟
"الجواب": يتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة على الصحيح من المذهب؛ نقله الجماعة، وقدمه في الفروع وغيره، وقطع به أكثرهم، وعليه الأصحاب.
وقال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية، واحتاج الناس إلى الجهاد صُرِف إلى الجند. انتهى من الإنصاف.
فجوز الشيخ تغييره إلى ما هو أصلح، لا إلى ما هو مثله أو دونه. ووجه الأول وقوع الوقف لازما، وانتقال الملك
1 كذا في الأصل؛ وهو من أوقف لغة تميم، وأنكرها بعضهم.
فيه بمجرد عقده إلى الله -سبحانه-، ومعنى الانتقال هو انفكاكه عن اختصاصات الآدميين.
قال العلامة ابن زياد الشافعي: والذي يظهر المنع في صورة السؤال، والموقف وغيره في هذا سواء؛ لزوال الملك عنه في الموقوف.
ما تصح به العقود من قول وفعل
"المسألة الرابعة عشر": إذا وقف إنسان وقفا، وأشهد عليه، وكتب به، والشاهد والكاتب يعرفان معنى ما نطق به من لغته وعُرفه، فكتب الكاتب خلاف ما نطق به الموقف وأراده، ظنا منه أن المعنى واحد، كما إذا قال: على أولادي وأولادهم، وهما عالمان منه إرادة التعقيب دون التشريك، إلخ.
"الجواب": يتعين العمل بما شهدا عليه من لفظ لغته، وعلماه من إرادته، وإنما يحكم على العامة في هذا ونظائره بما تقتضيه لغاتهم، ويدل عليه عرفهم، وإن عدلوا عن الصيغ الاصطلاحية عند الفقهاء؛ لكون العقود بالمقصود.
قال أبو العباس: للفقهاء في صفة العقود ثلاثة أقوال:
"أحدها" أن الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغ والعبارات التي يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول، سواء في ذلك البيع، والإجارة، والنكاح، والوقف، والعتق، وغير ذلك، وهذا ظاهر قول الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد؛ لكون الأصل عندهم هو اللفظ.
"والقول الثاني" أنها تصح بالأفعال كالوقف؛ كمن بنى مسجدا، أو أذن للناس في الصلاة فيه، وكبعض أنواع الإجارة. فهذه العقود لو لم تنعقد بالأحوال الدالة عليها لفسدت أكثر أحوال الناس، وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة، وقول في مذهب أحمد، ووجه في مذهب الشافعي، بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة، فإنه لا حاجة إليه، ولم يجر به العرف.
"والقول الثالث" أن العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، فكل ما عده الناس بيعا، أو إجارة فهو بيع، أو إجارة. وإن اختلف اصطلاح
عن جده في المستحاضة "تدع الصلاة أيام إقرائها ثم تغتسل وتصوم وتصلي وتتوضأ عند كل صلاة" 1 رواه أبو داود والترمذي.
وعن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت خبرها - ثم قالت قال "توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت" 2 رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح. فإذا توضأ أحد هؤلاء قبل الوقت ثم بعد أن دخل الوقت بطلت طهارته لأن دخوله يخرج به الوقت الذي توضأ فيه.
والحدث مبطل للطهارة، وإنما عفي عنه مع الحاجة إلى الطهارة، ولا حاجة قبل الوقت، وإن توضأ بعد الوقت صح وضوءه ولم يؤثر فيه ما يتجدد من الحدث الذي لا يمكن التحرز منه، ولا تبطل الطهارة بخروج الوقت إذا لم يدخل وقت صلاة أخرى من الخمس، فمن تطهرت لصلاة الصبح لم يبطل وضوءها بطلوع الشمس لأنه لم يدخل وقت صلاة أخرى.
قال المجد – في شرح الهداية – ظاهر كلام أحمد أن طهارة المستحاضة تبطل بدخول الوقت دون خروجه. وقال أبو يعلى: تبطل بكل واحد منهما ثم قال: والأول أولى انتهى. ومشى على الثاني في الإقناع. والمشهور عند الحنفية أنها تبطل بخروج الوقت لا بدخوله، فلو توضأت بعد طلوع الشمس لم تبطل حتى يخرج وقت الظهر. انتهى كلامه.
وقال أبو العباس: أظهر قولي العلماء أن مثل هؤلاء يتوضئون لوقت كل صلاة أو لكل صلاة.
نقض الوضوء بسقوط الجبيرة
"المسألة السابعة" إذا سقطت الجبيرة بنفسها من غير برء هل تنتقض الطهارة بذلك أم لا؟
"الجواب" قال في الفروع: وإن زالت الجبيرة فكالخف وقيل طهارتها باقية
1 الترمذي: الطهارة "126"، وأبو داود: الطهارة "297"، وابن ماجه: الطهارة وسننها "625"، والدارمي: الطهارة "793".
2 البخاري: الوضوء "228"، وأبو داود: الطهارة "298".
وقول مالكها حال الإنشاد: حلال من الله، لا تأثير له، وقد صرحوا فيمن رد ضالة قبل بلوغه بذل مالكها للجعل أنه يحرم عليه أخذه، وهو من أكل المال بالباطل، مع كونه بعد بذل صاحب الضالة له، لكنه لم يسمعه، وهو في مقابلة عمله، ولم يرتكب فيه محرما عمدا، أو يمتنع من واجب، فكيف بمن كتم وأثم.
التحكيم ونفوذ حكم الحكم بالتراضي أو مطلقا
"السادسة عشرة": إذا تحاكم اثنان إلى رجل حكماه ورضيا به، هل يلزم أحدهما الآخر بما قاله، أم لا؟ وهل يفرق بينه وبين غيره، أم لا؟ وهل هو محسن، أم لا؟
"الجواب": إذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء، وحكماه بينهما، جاز ذلك، ونفذ حكمه عليهما، وبهذا قال أبو حنيفة، وللشافعي قولان:"أحدهما": لا يلزمهما حكمه إلا بتراضيهما.
ولنا ما روى أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله هو الحكم فلِمَ تكنى أبا الحكم؟، قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي الفريقان، قال: ما أحسن هذا، فمَن أكبر ولدك؟، قال: شريح، قال: فأنت أبو شريح"1 أخرجه النسائي، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "من حكم بين اثنين تراضيا عليه، فلم يعدل بينهما فهو ملعون" ولولا أن حكمه يلزمهما لما لحقه هذا الذم، ولأن عمر وأُبَيَّا تحاكما إلى زيد، وحاكم عمر أعرابيا إلى شريح قبل أن يوليه القضاء، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم. اه من شرح المقنع.
وقال في الإنصاف: نفذ حكمه في المال، وينفذ في القصاص والحدود، والنكاح، واللعان في ظاهر كلامه، وهو المذهب، وقال القاضي: لا ينفذ إلا في الأموال خاصة، وقال في المحرر والفروع: وعنه لا ينفذ في قَود وحدّ، وقذف ولعان ونكاح، وقال في الرعاية: وليس له حبس في عقوبة، ولا ضرب دية خطأ على عاقلة من رضي بحكمه، وما قاله في الإنصاف أولا هو المعتمد، قطع به في التنقيح، وتبعه من بعده، قال في
1 النسائي: آداب القضاة "5387"، وأبو داود: الأدب "4955".
التنقيح: فهو كحاكم الإمام مطلقا، قال في حاشيته: أي سواء وجد حاكم أم لا. اهـ. فلهذا قال المحشي في إقناعه: حتى مع وجود قاض.
وقال في الاختيارات: إذا حكّم أحد الخصمين خصمه، جاز لقصة ابن مسعود، وكذا إن حكّما مفتيا في مسألة اجتهادية، وهل يفتقر ذلك إلى تعيين الخصمين أو حضورهما، أو يكفي وصف القضية له؟ الأشبه أنه لا يفتقر، بل إذا تراضيا بقوله في قضية موصوفة مطابقة لقضيتهم فقد لزم، فإن أراد أحدهما الامتناع؛ فإن كان قبل الشروع فينبغي جوازه، وإن كان بعد الشروع لم يملك الامتناع؛ لأنه إذا استشعر بالغلبة امتنع فلا يحصل المقصود. اه. فقد ظهر -مما قلناه- لزوم ما حكم به.
وأما اشتراط الأهلية فكتب الأصحاب طافحة بها لصحة حكمه ولزومه، وحكى شارح التنبيه من أئمة الشافعية عليها الاتفاق، وأما اتصافه بالإحسان، فذلك إلى الرحمن.
وليكن هذا ختام ما نقلناه، وختام ما قلناه، في هذه الألفاظ اللائحة، والأحرف الواضحة، جعله الله -تعالى- في مقام الإخلاص والتقوى السبب الأقوى، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد آله وصحبه وسلم.
"انتهت"