المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (الجزء الرابع، القسم الثاني)

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين للشيخ حمد بن ناصر

- ‌رسالة تنزيه الذات والصفات من درن الإلحاد والشبهاتلبعض علماء نجد

- ‌رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم

- ‌مسائل وفتاوى فقهية في الطهارة والجمعة والأضحية والتغليس والوقف واللقطة والتغليس والوقف واللقطة والصّلح للشيخ حسن بن حسين

- ‌الرد على المدعو عبد المحمود البخاري فيما موّه به من أقوال الإتحادية والمشركين لأحد علماء نجد

- ‌رسالة في العهد والأمان لبعض علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى في الطلاق والخلع، والشهادات والعينة، وشروط الصلاة وغيرهالأحد علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى فقهية لبعض علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوي أخرى لبعض علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى في القراءة لأحد علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى في الطلاق والعدة والإجارة والثمار والعاقلة والتيمم للشيخ سعيد بن حجي

- ‌رسالة في الرد على صاحب جريدة القبلة لأحد علماء نجد

- ‌الكلام المنتقى مما يتعلق بكلمة لا إله إلا الله للشيخ سعيد بن حجي

- ‌مسائل وفتاوى ويليه رسالة في دحض شبهات على التوحيد من سوء الفهم لثلاثة أحاديث

- ‌رسالة في حكم من يكفر غيره من المسلمين والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن

- ‌فتاوى ومسائل فقهية مختلفة "لبعض علماء نجد

الفصل: ‌رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم

‌رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم

وإليه الإشارة بقوله -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1 الآية.

لم يذكر اسم مؤلفها، والأسلوب يدل على أنه من المحققي

وفيها نقول كثيرة عن العلامة المحقق ابن القيم من كتاب الروح

رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم

الأحاديث في أخذ ذرية آدم من ظهره

بسم الله الرحمن الر حيم

الحمد لله الذي خلق الإنسان من صلصال كالفخار، ونفخ فيه من روحه لما سيودعه من الحكم والأسرار، حيث خلقه بيده وسواه، وألهمه فجوره وتقواه، لما أراده منه، وقدره عليه، ليكون مصيره ومنتهاه إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبده، وابن عبده، وابن أمته، ومن لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له بالفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبه وخليله.

أما بعد: فقد قال الله -سبحانه-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ َوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2.

"اعلم"- رحمك الله تعالى- بأنه –سبحانه وتعالى لما ذكر قصة موسى عليه السلام ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين.

واختلف العلماء في تفسيرها فقال بعضهم محتجا بما رواه مسلم بن يسار الجهني: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنهسئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: "إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق

1 سورة الأعراف آية: 172.

2 سورة الأعراف آية: 172: 174.

ص: 724

العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار"1 قال الحاكم: هذا على شرط مسلم.

وروى الحاكم أيضا من طريق هشام بن زيد بن أسلم، عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر، ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور، ثم عرضهم على آدم قال: من هؤلاء يا رب؟ فقال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه: فقال: يا رب من هذا؟ فقال: هذا ابنك داود يكون في آخر الأمم، قال: كم جعلت له من العمر؟ قال ستين سنة، قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، فقال الله -تعالى-: إذا يكتب ويختم فلا يبدل، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، فقال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تجعلها لابنك داود؟ قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، وخطيء فخطئت ذريته"وهذا على شرط مسلم، ورواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أول من جحد آدم"2 وزاد محمد بن سعد: ثم أكمل الله له ألف سنة، ولداود مائة سنة.

وفي صحيح الحاكم أيضا من حديث أبي جعفر الرازي، حدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي} 3 الآية قال: جمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن منهم إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحا، ثم صورهم، واستنطقهم فتكلموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 4.

قال الله -تعالى-: فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 5 لم نعلم، أو تقولوا:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} 6 فلا تشركوا بي شيئا، فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم

1 الترمذي: تفسير القرآن "3075"، وأبو داود: السنة "4703" ، وأحمد "1/44"، ومالك: الجامع "1661".

2 أحمد "1/251".

3 سورة الأعراف آية: 172.

4 سورة الأعراف آية: 172.

5 سورة الأعراف آية: 172.

6 سورة الأعراف آية: 172.

ص: 725

عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، فقالوا: نشهد إنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، ورفع لهم أبوهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحَسَن الصورة وغير ذلك، فقال: يا رب، لو سويت بين عبادك؟ فقال: إني أحب أن أشكر، ورأى فيهم الأنبياء مثل السُّرُج.

وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} 1 وهو قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ} 2 وذلك قوله: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} 3 وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} 4 وهو قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} 5.

كان في علمه بما أقروا به من يكذب به، ومن يصدق به، فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق في زمن آدم، فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} 6 إلى قوله:? {قْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ} 7 قال: حملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى عليه السلام، قال أبو جعفر: فحدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال:"دخل من فيها" وهذا إسناد صحيح.

الآثار في أخذ ذرية آدم من ظهره

وروى إسحاق بن راهويه بسنده عن هشام بن حكيم بن حزام أن رجلا قال: "يا رسول الله: تبتدأ الأعمال أم قضي القضاء؟ فقال: إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره، وأشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه فقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فأهل الجنة مُيَسَّرُون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار".

وروى ابن إسحاق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه"قال: لما أراد الله أن يخلق آدم فذكر خلق آدم فقال له: يا آدم أيّ يدي أحب إليك أن أريك ذريتك فيها؟ فقال: يمين ربي، -وكلتا يدي ربي يمين- فبسط يمينه، وإذا فيه ذريته كلهم ما هو خالق إلى يوم القيامة، الصحيح على هيئته، والمبتلى على هيئته، والأنبياء

1 سورة الأحزاب آية: 7.

2 سورة الروم آية: 30.

3 سورة النجم آية: 56.

4 سورة الأعراف آية: 102.

5 سورة يونس آية: 74.

6 سورة مريم آية: 16، 17.

7 سورة مريم آية:22، 23.

ص: 726

على هيئاتهم، فقال: ألا عافيتهم كلهم؟ فقال: أحب أن أشكر".

وروى محمد بن نصر بسنده عن عبد الله بن سلام قال: "خلق الله آدم، ثم قال: بيديه فقبضهما فقال: اختر يا آدم فقال: اخترت يمين ربي -وكلتا يديك يمين- فبسطها فإذا فيها ذريته؟ فقال: من هؤلاء يا رب؟ قال: من قضيت أن أخلق من ذريتك إلى يوم القيامة".

وروى أيضا ابن إسحاق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنهعن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط منه كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة"1.

وحدث ابن إسحاق، عن عمرو بن زرارة بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} 2 الآية. قال: مسح ربك ظهر آدم فخرجت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وهو ينظر بنعمان- هذا الذي بإزاء عرفة- وأخذ ميثاقهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 3.

ورواه أبو حمزة الضبعي ومجاهد، وحبيب بن أبي ثابت، وأبو صالح، وغيرهم عن ابن عباس.

وقال ابن إسحاق أخبرنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر في هذه الآية قال: أخذهم كما يأخذ المشط من الرأس.

وحدثنا حجاج عن ابن جريج، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله -تعالى- حين خلق آدم ضرب منكبه الأيمن فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة، ثم ضرب منكبه الأيسر فخرجت كل نفس مخلوقة للنار، فقال: هؤلاء أهل النار، ثم أخذ عهده على الإيمان به، والمعرفة له ولأمره، والتصديق به وبأمره من بني آدم كلهم، وشهدهم على أنفسهم، فآمنوا، وصدقوا، وعرفوا، وأقروا.

وعنه رضي الله عنهأنآدم أبصر في ذريته قوما لهم نور، فقال: يا رب من هم؟

1 الترمذي: تفسير القرآن "3076".

2 سورة الأعراف آية: 172.

3 سورة الأعراف آية: 172.

ص: 727

فقال الأنبياء: ورأى واحدا هو أشدهم نورا فقال: من هو؟ فقال: داود، قال: كم عمره؟ فقال: ستون سنة، فقال: هو قليل، وهبت له من عمري أربعين سنة، وكان عمر آدم ألف سنة، فلما تم عمر آدم تسعمائة وستين سنة أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فقال: بقي من أجلي أربعون سنة، فقال: ألست وهبته من ابنك داود؟ فقال: ما كنت لأهب لأحد من أجلي شيئا، فعند ذلك كتب لكل نفس أجلها.

تفسير وإذ أخذ ربك من بني آدم بالأحاديث الواردة

وقال مقاتل: إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فخرج منه ذرية بيض كهيئة الذر، ثم جانبه الأيسر، فخرج منه ذرية سود كهيئة الذر، فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك، ثم قال لهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1 فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي، وهم أصحاب اليمين، وقال للسود: هؤلاء للنار، ولا أبالي، وهم أصحاب الشمال، ثم قرأ {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} 2 ثم أعادهم جميعا في صلب آدم. فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء.

وقال تعالى فيمن نقض العهد الأول: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} 3 وهذا القول قد ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب، وسعيد ابن جبير، والضحاك، وعكرمة، والكلبي، وذكر محمد بن نصر من تفسير السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية: لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى، وأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا النار، ولا أبالي.

فذلك حيث يقول: وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، ثم أخذ منهم الميثاق فقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} فأعطاه طائفة طائعين، وطائفة كارهين على جهة

1 سورة الأعراف آية: 172.

2 سورة الواقعة آية:8، 9.

3 سورة الأعراف آية: 102.

ص: 728

التقية، فقال هو والملائكة:{شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 1 أو تقولوا: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 2 فليس أحد من بني آدم إلا وهو يعرف أن الله ربه، ولا مشرك إلا وهو يقول: إنا وجدنا آباءنا على أمة، فذلك قوله -تعالى-:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} 3 وقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} 4 وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 5.

يعني يوم أخذ عليهم الميثاق سبحانه وتعالى صور النسم، وقدر خلقها، وأجلها، وأعمالها، واستخرج تلك الصور من مادتها، ثم أعادها إليها، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له كما قال أبو محمد بن حزم.

نعم الرب -سبحانه- يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولا، فيجيء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق كشأنه سبحانه وتعالى في جميع مخلوقاته، قدر لها أقدارا وآجالا وصفات وهيئات، ثم أبرزها في الوجود مطابقة لذلك التقدير الذي قدره لها لا تزيد عليه ولا تنقص عنه.

وأخذ عليهم الميثاق بالتوحيد، وترك الأنداد، فلا تناقض حينئذ بين الآية والأحاديث؛ لأن ما في الآية لا ينافي المسح على ظهر آدم، ولا في الأحاديث ما ينفي خروج الذرية من ظهور بني آدم، وإنما سبقت الآية ببيان ما وقع من أخذ الميثاق، وبروز الذرية من ظهور بني آدم، وهذا لا يخالف ما في الأحاديث المذكورة من أن الله -تعالى- خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فإن الذرية المستخرجة من ظهور بني آدم هي بواسطة مسح ظهر أبيهم، فخرج من ظهره ذرية بلا واسطة، وخرج من ظهور ذريته ذرياتهم بواسطة مسح ظهر أبيهم، ويصدق عليهم جميعا أنهم استخرجوا من ظهر آدم بواسطة، وبلا واسطة، وهكذا حكم كل فرع مع أصله.

فالآية الكريمة فصلت ما أجملته الأحاديث من الإخراج، وبينت كيفيته، وبينت الأحاديث أن أخذ الذرية من ظهور بني آدم بواسطة مسح ظهر أبيهم،

1 سورة الأعراف آية: 172.

2 سورة الأعراف آية: 173.

3 سورة الأعراف آية: 172.

4 سورة آل عمران آية: 83.

5 سورة الأنعام آية: 149.

ص: 729

حتى خرج منه من علم الله بروزه إلى عالم الكون والفساد، وأخذ عليهم الميثاق بالتوحيد، وترك الأنداد، وليس فيها نفي ما تضمنته الآية من خروج الذرية من ظهور بني آدم كما أخبر الله سبحانه وتعالى.

تفسير آية وإذ أخذ ربك من بني آدم بأنها ليست بمعنى الأحاديث الواردة

ونازع هؤلاء البعض الآخر في كون هذا معنى الآية، وقالوا: معنى قوله -تعالى-: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 1 أي أخرجهم، وأنشأهم بعد أن كانوا نطفا في أصلاب الآباء إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم بما أظهر لهم من آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم، فليس من أحد إلا وفيه من صنع ربه ما شهد على أنه بارئه، ونافذ الحكم فيه، فلما عرفوا ذلك، ودعاهم كل ما يرون، ويشاهدون إلى التصديق به كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته، كما قال في غير هذا الموضع من كتابه:{شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} 2 يريد: هم بمنزلة الشاهدين، وإن لم يقولوا: نحن كفرة، وكما يقال: قد شهدت جوارحي بقولك، يريد قد عرفته، وكأن جوارحي لو أشهدت وفي وسعها أن تنطق لشهدت.

ومن هذا الباب أيضا {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} 3 يريد أعلم وبين، فأشبه إعلامه وتبيينه ذلك شهادة من شهد عند الحكام وغيرهم، كما قاله ابن الأنباري.

وزاد الجرجاني- بيانا لهذا القول- فقال حاكيا عن أصحابه: إن الله لما خلق الخلق، ونفذ علمه فيهم بما هو كائن مما لم يكن بعد صار ما هو كائن كالكائن، إذ علمه بكونه واقعا غير كونه واقعا في مجاري العربية، فساغ أن يضع ما هو منتظر مما لم يقع بعد موضع الواقع لسبق علمه بوقوعه، كما قال عز وجل في مواضع من القرآن كقوله:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} 4 {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} 5 {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} 6 قال: فيكون تأويل قوله: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} وإذ يأخذ ربك.

وكذلك قوله {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى

1 سورة الأعراف آية: 172.

2 سورة التوبة آية: 17.

3 سورة آل عمران آية: 18.

4 سورة الأعراف آية: 50.

5 سورة الأعراف آية: 44.

6 سورة الأعراف آية: 48.

ص: 730

أَنْفُسِهِمْ}

أي ويشهدون بما رُكِّبَ فيهم من العقل الذي يكون به الفهم، ويجب به الثواب والعقاب، وكل مولود بلغ الحنث، وعقل الضر والنفع، وفهم الوعد والوعيد والثواب والعقاب صار كأن الله -تعالى- أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل، وأراه من الآيات والدلائل على وجوده، وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه، وإذا لم يجز ذلك فلا بد له من خالق هو غيره:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1.

وليس من مخلوق يبلغ هذا المبلغ، ولم يقدح فيه مانع من فهم، إلا إذا حزبه أمر فزع إلى الله عز وجل حين يرفع رأسه إلى السماء، ويشير إليها بأصبعه علما منه بأن خالقه فوقه، وإذا كان العقل الذي منه الفهم والإفهام مؤديا إلى معرفة ما ذكرنا ودالا عليه، فكل من بلغ هذا المبلغ فقد أخذ عليه العهد والميثاق.

وجائز أن يقال له: قد أقر، وأذعن، واستسلم، إذ جعل فيه السبب والآلة اللذين بهما يؤخذ العهد والميثاق، كما قال عز وجل {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} 2.

عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال من المجاز

واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه"3 وقوله عز وجل {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} ثم قال: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ} 4.

والأمانة ههنا عهد وميثاق، فامتناع السماوات والأرض والجبال من حمل الأمانة خلوها من العقل الذي يكون به الفهم والإفهام، وحمل الإنسان إياها لمكان العقل فيه، قال: وللعرب في هذا المعنى ضروب نظم فمنها قوله:

ضمن القنان لفقعس سوآتها

إن القنان لفقعس لا يأتلي

والقنان: جبل فذكر أنه قد ضمن لفقعس، وضمانه لهم أنهم كانوا إذا جرى بهم أمر من هزيمة، أو خوف لجأوا إليه فجعل ذلك كالضمان منه لهم. ومنه قول النابغة:

1 سورة الشورى آية: 11.

2 سورة الرعد آية: 15.

3 أبو داود: الحدود "4403" ، وأحمد "1/116 ،1/118 ،1/140 ،1/154 ،1/158".

4 سورة الأحزاب آية: 72.

ص: 731

كاجارن الجولان من هلك ربه

وحوران منها خاشع متضائل 1

وأجارن الجولان جبالها، وحوران الأرض التي إلى جانبها.

قال إن في قوله: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين َأَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 2 دليلا على هذا التأويل؛ لأنه عز وجل علم أن هذا الأخذ للعهد عليهم، لئلا يقولوا يوم القيامة:{إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 3.

والغفلة هاهنا لا تخلو من أحد وجهين: إما أن يكون عن يوم القيامة، أو عن أخذه الميثاق، فأما يوم القيامة فلم يذكر -سبحانه- في الكتاب أنه أخذ عليهم عهدا وميثاقا بمعرفة البعث والحساب، وإنما ذكر معرفته فقط.

أخذ ميثاق النبيين كأخذ العهد على ذرية آدم

فأما أخذ الميثاق فالأطفال والإسقاط إن كان هذا العهد مأخوذا عليهم- كما قال المخالف- فهم لم يبلغوا بعد أخذ الميثاق عليهم مبلغا يكون منهم غفلة عنه، فيجحدونه، وينكرونه. فمتى تكون هذه الغفلة منهم؟ وهو عز وجل لا يؤاخذهم بما لم يكن منهم، وذكر ما لا يجوز، ولا يكون محالا.

وقوله: {تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 4 فلا يخلو هذا الشرك الذي يؤاخذون به أن يكون منهم أنفسهم، أو من آبائهم، فإن كان منهم، فلا يجوز أن يكون ذلك إلا بعد البلوغ وثبوت الحجة عليهم، إذ الطفل لا يكون منه شرك ولا غيره، وإن كان من غيرهم، فالأمة مجمعة على {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 5 كما قال الله عز وجل.

وليس هذا بمخالف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله مسح ظهر آدم، وأخرج منه ذرية، وأخذ عليهم العهد" 6؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اقتص قول الله عز وجل فجاء بمثل

1 كذا في الأصل، والبيت يرثي به النابغة أبا حجر الغساني. وهو في التاج هكذا: بكى حارث الجولان من فقد ربه

إلخ، ويروى من هلك ربه. كما هنا. والحارث قلة من قلاته والجولان: جبل بالشام.

2 سورة الأعراف آية:172، 173.

3 سورة الأعراف آية: 172.

4 سورة الأعراف آية: 173.

5 سورة النجم آية: 38.

6 الترمذي: تفسير القرآن "3075"، وأبو داود: السنة "4703" ، وأحمد "1/44"، ومالك: الجامع "1661".

ص: 732

نظمه فوضع الماضي من اللفظ موضع المستقبل، وهذا شبيه قوله:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} 1 فجعل -سبحانه- ما أنزل على الأنبياء من الكتاب والحكمة ميثاقا أخذه من أممهم بعدهم، يدل على ذلك قوله:{ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} ثم قال للأمم: " َأقْرَرْتُمْ وأخذتم إصري؟ قالوا أقررنا قال فأشدوا وأنا معكم من الشاهدين "

فجعل -سبحانه- بلوغ الأمم كتابه المنزل على أنبيائهم حجة عليهم كأخذ الميثاق عليهم، وجعل معرفتهم إقرارا منهم.

الآيات في أخذ العهد والميثاق على بني آدم

وشبيه به أيضا قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 2 فهذا ميثاقه الذي أخذه عليهم بعد إرسال رسله إليهم بالإيمان به وتصديقه، ونظيره قوله -تعالى-:{لَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} 3 وقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وََأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 4 فهذا عهده إليهم على ألسنة رسله.

ومثله قوله -تعالى- لبني إسرائيل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} 5 ومثله {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 6 وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظا} 7 فهذا ميثاق أخذه منهم بعد بعثهم كما أخذ من أممهم بعد إنذارهم.

وهذا الميثاق الذي لعن الله -سبحانه- من نقضه، وعاقبه بقوله:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} 8 فإنما عاقبهم بنقضهم الميثاق الذي أخذه عليهم على ألسنة رسله. وقد صرح به في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 9.

ولما كانت هذه الآية ونظيرها في سور مدنية خاطب بالتذكير بهذا الميثاق.

1 سورة آل عمران آية: 81.

2 سورة المائدة آية: 7.

3 سورة الرعد آية: 20.

4 سورة يس آية: 60.

5 سورة البقرة آية: 40.

6 سورة آل عمران آية: 187.

7 سورة الأحزاب آية: 7.

8 سورة المائدة آية: 13.

9 سورة البقرة آية: 63.

ص: 733

فيها أهل الكتاب، فإنه ميثاق أخذه عليهم بالإيمان به وبرسله.

ولما كانت آية الأعراف في سورة مكية ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام بجميع المكلفين بالإقرار بربوبيته ووحدانيته، وبطلان الشرك، وهو ميثاق وإشهاد تقوم به عليهم الحجة، وتنقطع به المعذرة، وتحل به العقوبة، ويستحق بمخالفته الإهلاك، فلا بد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به، وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته، وأنه ربهم وفاطرهم، وأنهم مخلوقون مربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم بما في فطرهم وعقولهم، ويعرفونهم حقه عليهم، وأمره، ونهيه، ووعده ووعيده، ونظم الآية إنما يدل على هذا من وجوه متعددة:

"أحدها" أنه قال سبحانه وتعالى: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} 1 ولم يقل: من آدم، وبنو آدم غير آدم.

"الثاني" أنه قال: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} 2 ولم يقل من ظهره، وليس لآدم إلا ظهر، وهذا بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال، وهو أحسن.

"الثالث" أنه قال: {ُرِّيَّتَهُمْ} 3 بصيغة الجمع، ولم يقل من ذريته، وهو مفرد 4.

"الرابع " أنه قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} 5 أي جعلهم شاهدين على أنفسهم، فلا بد أن يكون شاهدا ذاكرا لما يشهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار، لا يذكر شهادته قبلها.

"الخامس"{إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطر التي فطروا عليها كما قال -تعالى-: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 6.

"السادس" تذكيرهم بذلك؛ لئلا يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا

1 سورة الأعراف آية: 172.

2 سورة الأعراف آية: 172.

3 سورة الأعراف آية: 172.

4 في قراءة حفص المشهورة "ذريتهم" والمفرد المضاف إلى الجمع يفيد العموم.

5 سورة الأعراف آية: 172.

6 سورة النساء آية: 165.

ص: 734

غَافِلِينَ} 1.

ومعلوم أنهم غافلون بالإخراج لهم من صلب آدم كلهم، وإشهادهم جميعا ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.

"السابع" قوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 2 فذكر حكمتين في هذا التعريف والإشهاد:

"إحداهما" أن لا يدعوا الغفلة.

"والثانية" أن لا يدعوا التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره.

"الثامن" أنه سبحانه وتعالى أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليهم بهذا الإشهاد في غير هذا الموضع من كتابه كقوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 3 أي فكيف يعرضون عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أن الله ربهم وخالقهم؟ وهذا كثير في القرآن.

فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها، وذكرتهم بها رسله بقوله:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 4 فالله سبحانه وتعالى ذكرهم على ألسنة رسله بهذا الإقرار والمعرفة، ولم يذكرهم بإقرار سابق على إيجادهم، ولا أقام به عليهم حجة.

"التاسع" قوله -تعالى-: {فَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} 5 أي لو عذبهم لجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه وتعالى إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما يكونون عليه، وقد أخبر -سبحانه- بأنه لم يكن {لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} 6 وإنما يهلكهم بعد الأعذار والإنذار.

"العاشر" أنه جعل هذا آية وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب -تعالى- فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزم للعلم به فقال -تعالى-:{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} 7 أي مثل

1 سورة الأعراف آية: 172.

2 سورة الأعراف آية: 173.

3 سورة الزخرف آية: 87.

4 سورة إبراهيم آية: 10.

5 سورة الأعراف آية: 173.

6 سورة هود آية: 117.

7 سورة الأعراف آية: 174.

ص: 735

هذا التفصيل والتبيين، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 1 من الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان.

الجمع بين آية أخذ الميثاق وحديث "إن الله مسح ظهر آدم"

وهذه الآيات التي فصلها، وبينها في كتابه من أنواع مخلوقاته، وهي آيات أفقية ونفسية، آيات في نفوسهم وذواتهم وخلقهم، وآيات في الأقطار والنواحي مما يحدثه الرب تبارك وتعالى مما يدل على وجوده ووحدانيته، وصدق رسله والمعاد والقيامة، ومن أثبتها ما أشهد به كل أحد على نفسه من أنه ربه وخالقه ومبدعه، وأنه مربوب مصنوع مخلوق، حادث بعد أن لم يكن، ومحال أن يكون محدثا بلا محدث، أو يكون هو المحدث لنفسه، فلا بد له من موجد أوجده {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2 وهذا الإقرار والمشاهدة فطرة فطروا عليها ليست بمكتسبة.

وهذه الآية وهي قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم مطابقة لقوله صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة " 3 ولقوله -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4.

وفيما ذهبتم إليه من تأويل هذا الحديث على ظاهره تفاوت بينه وبين ما جاء به القرآن في هذا المعنى إلا أن يرد تأويله إلى ما ذكرناه؛ لأنه عز وجل قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 5 لم يذكر آدم في القصة، إنما هو ههنا مضاف إليه لتعريف ذريته أنهم منه وأولاده، وفي الحديث:"أنه مسح ظهر آدم" 6 فلا يمكن رد ما جاء في القرآن، وما جاء في الحديث إلى الاتفاق إلا بالتأويل الذي ذكرناه.

قال الجرجاني: وأنا أقول ونحن إلى ما روي في الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذهب إليه أهل العلم من السلف الصالح أميل، وإليه أقبل، وبه آنس.

قال ابن القيم: وفيما ادعيتموه من التفاوت بين الآية والخبر لاختلاف ألفاظهما نظر لأن الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم "إن الله مسح ظهر آدم" أفاد زيادة خبر كان في القصة التي ذكرها الله في كتابه، ولو أخبر النبي صلى الله عليه وسلم سوى هذه الزيادة

1 سورة الأعراف آية: 174.

2 سورة الشورى آية: 11.

3 البخاري: الجنائز "1385"، ومسلم: القدر "2658"، وأبو داود: السنة "4714" ، وأحمد "2/233 ،2/282 ،2/315 ،2/346 ،2/393 ،2/410"، ومالك: الجنائز "569".

4 سورة الروم آية: 30.

5 سورة الأعراف آية: 172.

6 الترمذي: تفسير القرآن "3075"، وأبو داود: السنة "4703" ، وأحمد "1/44"، ومالك: الجامع "1661".

ص: 736

التي أخبر بها فما عسى أن يكون قد كان في ذلك الوقت الذي أخذ فيه العهد مما لم يضمنه الله كتابه لما كان في ذلك خلاف ولا تفاوت، بل كان زيادة في الفائدة.

وكذلك الألفاظ إذا اختلفت في ذاتها، وكان مرجعها إلى شيء واحد، لم يوجب ذلك تناقضا، كما قال عز وجل في كتابه في خلق آدم، فذكره مرة أنه خلق من تراب، ومرة أنه خلق من حمأ مسنون، ومرة من طين لازب، ومرة من صلصال كالفخار.

فهذه الألفاظ مختلفة، ومعانيها أيضا في الأحوال مختلفة، فإن الصلصال غير الحمأ، والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها في الأصل إلى جوهر واحد وهو التراب، ومن التراب تدرجت في هذه الأحوال. فقوله سبحانه وتعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله مسح ظهر آدم واستخرج منه ذريته "2 فمرجعهما إلى جوهر واحد وهو آدم، ومنه تدرجت الذرية إلا أن قوله صلى الله عليه وسلم "مسح ظهر آدم" زيادة في الخبر عن الله عز وجل ومسح ظهر آدم مسح لظهور ذريته، واستخراج ذرياتهم من ظهورهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى بذلك إلى أن قال ابن القيم رحمه الله: وفيه أيضا أنه عز وجل لما أضاف الذرية إلى آدم احتمل أن يكون الخبر عن الذرية وعن آدم كما قال -تعالى-: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} .

فالخبر في الظاهر عن الأعناق، والنعت للأسماء المكنية فيها، وهو مضاف إليها كما كان آدم مضافا إليه هناك، وليسا جميعا بالمقصودين في الظاهر بالخبر، ولا يحتمل أن يكون قوله "خاضعين" للأعناق لأن وجه جمعها خاضعات. ومنه قول الشاعر:

ويشرق بالقول الذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من ادم

فالصدر مذكر. وقوله: شرقت أنث لإضافة الصدر إلى القناة 3.

1 سورة الأعراف آية: 172.

2 الترمذي: تفسير القرآن "3075"، وأبو داود: السنة "4703" ، وأحمد "1/44"، ومالك: الجامع "1661".

3 إلى هنا كلام ابن القيم رحمه الله وأوله "ونازع هؤلاء البعض الأخرون".

ص: 737

وقال أصحاب النظر وأرباب المعقولات: إنه -تعالى- أخرج الذرية، وهم الأولاد من أصلاب آبائهم، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله -تعالى- من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، وجعلها علقة، ثم مضغة، حتى جعلهم بشرا سويا، وخلقا كاملا مرضيا. ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقه، وخزائن صنعه وقت الإشهاد حتى صاروا كأنهم قالوا بلى، وإن لم يكن هناك قول باللسان.

ولذلك نظائر منها قوله -تعالى -: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 1 ومنها قوله -تعالى-: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2.

وقالت العرب: امتلأ الحوض وقال قطني، فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في كلام العرب، فوجب حمل الكلام عليه.

هذا ما اطلعت عليه من كلام السلف والخلف في الآية والحديث، ومحصل الفائدة منهما {ثبوت الحجة على كل منفوس ممن بلغ، وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم بالمعرفة له، والإيمان به، بقوله -تعالى -: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} 3

وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها لهم في أنفسهم، وفي العالم، وبإرسال الرسل إليهم مبشرين ومنذرين، وبالمواعظ والأمثال المنقولة إليهم أخبارها، ولا يطالب سبحانه وتعالى أحدا بشيء من الطاعة، إلا بقدر ما لزمه من الحجة، وركب فيه من القدرة، وبين -سبحانه- ما هو عامل في البالغين الذين أدركوا الأمر والنهي، وحجب عنا علم ما قدره في غير البالغين، إلا أننا نعلم أنه عدل لا يجور في حكمه، وحكيم لا تفاوت في صنعه، وقادر لا يسئل عما يفعل {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} " 4 5.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

"تمت"

1سورة فصلت آية: 11.

2سورة النحل آية: 40.

3سورة الأعراف آية: 172.

4سورة الأعراف آية: 54.

5 ما بين العلامتين "" من كلام ابن القيم في الروح.

ص: 738