المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رسالة في حكم من يكفر غيره من المسلمين والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (الجزء الرابع، القسم الثاني)

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين للشيخ حمد بن ناصر

- ‌رسالة تنزيه الذات والصفات من درن الإلحاد والشبهاتلبعض علماء نجد

- ‌رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم

- ‌مسائل وفتاوى فقهية في الطهارة والجمعة والأضحية والتغليس والوقف واللقطة والتغليس والوقف واللقطة والصّلح للشيخ حسن بن حسين

- ‌الرد على المدعو عبد المحمود البخاري فيما موّه به من أقوال الإتحادية والمشركين لأحد علماء نجد

- ‌رسالة في العهد والأمان لبعض علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى في الطلاق والخلع، والشهادات والعينة، وشروط الصلاة وغيرهالأحد علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى فقهية لبعض علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوي أخرى لبعض علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى في القراءة لأحد علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى في الطلاق والعدة والإجارة والثمار والعاقلة والتيمم للشيخ سعيد بن حجي

- ‌رسالة في الرد على صاحب جريدة القبلة لأحد علماء نجد

- ‌الكلام المنتقى مما يتعلق بكلمة لا إله إلا الله للشيخ سعيد بن حجي

- ‌مسائل وفتاوى ويليه رسالة في دحض شبهات على التوحيد من سوء الفهم لثلاثة أحاديث

- ‌رسالة في حكم من يكفر غيره من المسلمين والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن

- ‌فتاوى ومسائل فقهية مختلفة "لبعض علماء نجد

الفصل: ‌رسالة في حكم من يكفر غيره من المسلمين والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن

‌رسالة في حكم من يكفر غيره من المسلمين والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن

رسالة في حكم من يكفِّر غيره من المسلمين، والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل "فلا يحكم عليه به إلا بعد أن تقوم عليه الحجة" والذي لا يعذر.

من فتاوي العلامة مفتي الديار النجدية، وعالم الطائفة السلفية الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن المشتهر بأبا بطين -رحمه الله تعالى-

علَّق عليه بعض الحواشي الضرورية في هذه المسألة المهمة السيد محمد رشيد رضا

رسالة في حكم من يكفِّر غيره من المسلمين

حكم من يكفِّر غيره من المسلمين

بسم الله الرحمن الر حيم

استفتاء

"مسألة": قال الشيخ تقي الدين -رحمه الله تعالى- في رده على ابن البكري: فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، وتزني بأهله، لأن الزنى والكذب حرام لحق الله –تعالى-، وكذلك التكفير حق لله –تعالى- فلا نكفر إلا من كفره الله ورسوله.

وأيضا فإن تكفير الشخص المعين، وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر

إلى أن قال: ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين ينفون أن يكون –تعالى- فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنت كافرا، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال

إلخ

أفتونا ما معنى قيام الحجة -أثابكم الله بمنه وكرمه-؟

"الجواب": الحمد لله رب العالمين. تضمَّن كلام الشيخ رحمه الله مسألتين: "إحداهما": عدم تكفيرنا لمن كفرنا، وظاهر كلامه أنه سواء كان متأولا أم لا، وقد صرَّح طائفة من العلماء أنه إذا قال ذلك متأولا لا يكفر. ونقل ابن حجر الهيتمي عن طائفة من الشافعية أنهم صرَّحوا بكفره إذا لم يتأوَّل، فنقل عن المتولي أنه قال: إذا قال لمسلم: يا كافر، بلا تأويل، كفر.

قال وتبعه على ذلك جماعة، واحتجُّوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما" 1، والذي رماه به مسلم، فيكون هو كافرا، قالوا: لأنه سمى الإسلام كفرا. وتعقب بعضهم هذا التعليل وهو قوله: لأنه

1 البخاري: الأدب "6103".

ص: 510

سمى الإسلام كفرا فقال: هذا المعنى لا يفهم من لفظه: ولا هو مراده، إنما مراده ومعنى لفظه أنك لست على دين الإسلام الذي هو حق، وإنما أنت كافر دينك غير الإسلام، وأنا على دين الإسلام. وهذا مراده بلا شك لأنه إنما وصف بالكفر الشخص لا دين الإسلام، فنفى عنه كونه على دين الإسلام، فلا يكفر بهذا القول، إنما يعزر بهذا السب الفاحش بما يليق به.

ويلزم على ما قالوه أن من قال لعبد: يا فاسق، كفر لأنه سمى العبادة فسقا، ولا أحسب أحدا يقوله، وإنما يريد أنك تفسق، وتفعل مع عبادتك ما هو فسق، لا أن عبادتك فسق. انتهى.

وظاهر كلام النووي في شرح مسلم يوافق ذلك، فإنه لما ذكر الحديث قال: وهذا مما عده العلماء من المشكلات، فإن مذهب أهل الحق أن المسلم لا يكفر بالمعاصي كالقتل والزنى، وكذا قوله لأخيه: يا كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام.

ثم حكى في تأويل الأحاديث وجوها:

"أحدها": أنه محمول على المستحل ومعنى "باء بها" بكلمة الكفر، وكذا "حار- عليه" في رواية أي: رجعت عليه كلمة الكفر، فباء وحار ورجع بمعنى.

"الثاني": رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره.

"الثالث": أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا نقله القاضي عياض عن مالك، وهو ضعيف لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع.

"الرابع": معناه أنه يؤول إلى الكفر، فإن المعاصي كما قالوا بريد الكفر، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر. ويؤيده رواية أبي عوانة في مستخرجه على مسلم: فإن كان كما قال، وإلا فقد باء بالكفر 1.

"الخامس": فقد رجع بكفره، وليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير، كونه جعل أخاه المؤمن كافرا، فكأنه كفر نفسه، إما لأنه كفر من هو مثله، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان الإسلام انتهى..

وقال ابن دقيق العيد في قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن دعا رجلا بالكفر وليس

1 أبو داود: السنة "4687" ، وأحمد "2/23".

ص: 511

كذلك إلا حار عليه" 1 أي: رجع عليه. وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحدا من المسلمين، وليس هو كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق من العلماء اختلفوا في العقائد، وحكموا بكفر بعضهم بعضا. ثم نقل عن الاستاذ أبي إسحاق الإسفراييني أنه قال: لا أكفر إلا من كفرني، قال: وربما خفي هذا القول على بعض الناس، وحمله على غير محمله الصحيح.

والذي ينبغي أن يحمل عليه أنه لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعا رجلا بالكفر، وليس كذلك رجع عليه الكفر، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما ""2".

وكان هذا المتكلم أي أبو إسحاق يقول: الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين، إما المكفِّر؛ وإما المكفَّر، فإذا كفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا، وأنا قاطع أني لست بكافر، فالكفر راجع إليه. انتهى.

وظاهر كلام أبي إسحاق أنه لا فرق بين المتأول وغيره، والله أعلم.

وما نقله القاضي عن مالك من حمله الحديث على الخوارج موافق لإحدى الروايتين عن أحمد في تكفير الخوارج، اختارها طائفة من الأصحاب وغيرهم، لأنهم كفروا كثيرا من الصحابة، واستحلوا دماءهم وأموالهم متقربين بذلك إلى الله تعالى، فلم يعذروهم بالتأويل الباطل، لكن أكثر الفقهاء على عدم كفرهم لتأويلهم. وقالوا: من استحل قتل المعصومين، وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل كفر. وإن كان استحلاله ذلك بتأويل كالخوارج لم يكفر، والله أعلم وأحكم.

تكفير الشخص المعين وقتله مشروط بقيام الحجة عليه

"المسألة الثانية": إن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها إلخ.

يشمل كلامه من لم تبلغه الدعوة، وقد صرح بذلك في موضع آخر، ونقل ابن عقيل عن الأصحاب أنه لا يعاقب، وقال: إن عفو الله عن الذي كان يعامل، ويتجاوز

1 مسلم: الإيمان "61" ، وأحمد "5/166".

2 البخاري: الأدب "6104"، ومسلم: الإيمان "60"، والترمذي: الإيمان "2637"، وأبو داود: السنة "4687" ، وأحمد "2/18 ،2/23 ،2/44 ،2/47 ،2/60 ،2/105 ،2/112 ،2/113 ،2/142"، ومالك: الجامع "1844".

ص: 512

لأنه لم تبلغه الدعوة، وعمل بخصلة من الخير، واستدل لذلك بما في صحيح مسلم مرفوعا: والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار 1.

قال في شرح مسلم: خص اليهود والنصارى لأن لهم كتابا، قال: وفي مفهومه أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور. قال: وهذا جار على ما تقرر في الأصول "لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح". اهـ.

وقال القاضي أبو يعلى في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 2 في هذا دليل على أن معرفة الله تعالى- لا تجب عقلا، وإنما تجب بالشرع وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك لم يقطع عليه بالنار. اهـ.

وفيمن لم تبلغه الدعوة قول آخر أنه يعاقب3. اختاره ابن حامد، واحتج بقوله تعالى-: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 4. والله أعلم.

فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة 5، فلا يعذر في عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل، وقد أخبر الله سبحانه- بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم 6.

ووصف النصارى بالجهل مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم، ونقطع إن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، ونعتقد كفرهم وكفر من شك في كفرهم. وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر، والشك هو التردد بين

1 مسلم: الإيمان "153" ، وأحمد "2/317 ،2/350".

2 سورة الإسراء آية: 15.

3 أجاب القائلون بهذا عن الآية بأن المراد بها عذاب الاستئصال لمعاندي الرسل لا عذاب الآخرة، وهو الذي يدل عليه السياق الذي وردت فيه.

4 سورة القيامة آية: 36.

5 لأن القرآن مشتمل على الحجج العقلية على ما يجب الإيمان به.

6 الكفر كله جهل، والجهل عذر للكافر الذي لم تبلغه الدعوة بالعلم، وحجة الإسلام تزيل هذا الجهل فيزول بها هذا العذر.

ص: 513

شيئين كالذي لا يجزم بصدق الرسول ولا كذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه، ونحو ذلك كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة، ولا عدم وجوبها، أو لا يعتقد تحريم الزنى، ولا عدم تحريمه، وهذا كفر بإجماع العلماء.

ولا عذر لمن كان حاله هكذا بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته، لأنه لا عذر له بعد بلوغها له وإن لم يفهمها 1. وقد أخبر الله عن الكفار أنهم لم يفهموا فقال:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} 2، وقال:{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 3.

فبين سبحانه- أنهم لم يفقهوا فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا، بل صرح القرآن بكفر هذا الجنس من الكفار كما في قوله تعالى-:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 4 الآية.

من قال إن من عجز عن معرفة الحق بعد النظر فهو معذور بكفره

قال الشيخ أبو محمد موفق الدين بن قدامة -رحمه الله تعالى- لما أنجز كلامه في مسألة: هل كل مجتهد مصيب أم لا؟، ورجح أنه ليس كل مجتهد مصيبا، بل الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين.

قال: وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم 5

إلى أن قال: وأما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا، وكفر بالله تعالى- ورد عليه وعلى رسوله، فإنا نعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه، وذمهم على إصرارهم، وقاتل جميعهم 6 يقتل البالغ منهم.

ونعلم أن المعاند العارف ممن يقل، وإنما الأكثر مقلدة

1 من لم يفهم الدعوة لم تقم عليه الحجة، وما ذكره من إجماع العلماء محله جحود المسلم الذي نشأ بين المسلمين لما ذكر ونحوه مما هو معلوم من الدين بالضرورة فلا يقبل منه دعوى الجهل.

2 سورة الأنعام آية: 25.

3 سورة الأعراف آية: 30.

4 سورة الكهف آية: 103، 104.

5 وصرح بهذا بعض الأشعرية أيضا، وسيأتي تفصيل الكلام فيه.

6 كذا في الأصل.

ص: 514

اعتقدوا دين آبائهم تقليدا، ولم يعرفوا معجزة لرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه، والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة كقوله تعالى-:{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 3، وقوله:{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاًأُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 6. وفي الجملة ذم المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينحصر في الكتاب والسنة اهـ.

فبين رحمه الله تعالى- أنا لو لم نكفر إلا المعاند العارف لزمنا الحكم بإسلام أكثر اليهود والنصارى، وهذا من أظهر الباطل 7.

التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة وفهمها

فقول الشيخ تقي الدين -رحمه الله تعالى-: إن التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة، يدل كلامه على أن هذين الأمرين -وهما التكفير والقتل- ليسا موقوفين على فهم الحجة مطلقا، بل على بلوغها، ففهمها شيء، وبلوغها شيء آخر، فلو كان هذا الحكم موقوفا على فهم الحجة لم نكفر ونقتل إلا من علمنا أنه معاند خاصة، وهذا بين البطلان8.

بل آخر كلامه رحمه الله يدل على أنه يعتبر فهم الحجة في الأمور

1 سورة ص آية: 27.

2 سورة فصلت آية: 23.

3 سورة الجاثية آية: 24.

4 سورة المجادلة آية: 18.

5 سورة الأعراف آية: 30.

6 سورة الكهف آية: 103، 104.

7 من يقول إن الكافر الذي لم تبلغه الدعوة على وجه يفهمه، وتقوم به عليه الحجة معذور، لا يعني أنه يحكم بإسلامه ولا أنه غير كافر، وإنما يعني أن الله –تعالى- لا يعذبه عذاب من قامت عليه الحجة، وجحدها، ولا عذاب من تولى، وأعرض عن آياتها.

8 في هذه المسألة نظر، وقد اختلف فيها كبار علماء نجد المعاصرون في مجلس الإمام عبد العزيز بن فيصل آل سعود الملك بمكة المكرمة فكانت الحجة للشيخ عبد الله بن بليهد بأن العبرة بفهم الحجة لا بمجرد بلوغها من غير فهم، وأورد لهم نصا صريحا في هذا من كلام المحقق ابن القيم -رحمه الله تعالى- فقنعوا به. وسيأتي تحقيق المسألة في مواضع أخرى.

ص: 515

التي تخفى على كثير من الناس، وليس فيها مناقضة للتوحيد والرسالة كالجهل ببعض الصفات.

مسائل من الكفر يجهلها كثير من العوام

وأما الأمور التي هي مناقضة للتوحيد والإيمان بالرسالة فقد صرح -رحمه الله تعالى- في مواضع كثيرة بكفر أصحابها وقتلهم بعد الاستتابة، ولم يعذرهم بالجهل مع أنا نتحقق أن سبب وقوعهم في تلك الأمور إنما هو الجهل بحقيقتها، فلو علموا أنها كفر تخرج عن الإسلام لم يفعلوها1.

وهذا في كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- كثير كقوله في بعض كتبه: فكل من غلا بنبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، نحو أن يقول: يا فلان أغثني، أو اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، او أجبرني، أو توكلت عليك، وأنا في حسبك وأنت حسبي، ونحو هذه الأقوال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل.

وقال أيضا: فمن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم، كفر إجماعا.

وقال: من اعتقد أن زيارة أهل الذمة في كنائسهم قربة إلى الله، فهو مرتد. وإن جهل أن ذلك محرم، عُرف ذلك، فإن أصر صار مرتدا.

وقال: من سب الصحابة أو واحدا منهم، أو اقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي، أو أن جبريل غلط، فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره.

وقال أيضا: من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب في كفر قائل ذلك، بل من شك في كفره فهو كافر. انتهى.

1 فيه أن الاستتابة تتضمن إزالة الجهل لأنها تكون بإعلام فاعل ما ينافي الإيمان بأن فعله كفر يجب عليه تركه والتوبة منه، ويجب التفريق في هذا المقام بين الكافر الأصلي الذي لم يفهم حجة الإسلام وبين المسلم الذي يفعل ما ذكر من مناقضة التوحيد والإيمان بالرسل لجهله بأنه من الإسلام. وفيه تفصيل سيأتي قريبا.

ص: 516

ما يعذر به الجاهل بجهله من أمور الدين واستحلال المحرمات وما لا يعذر

فانظر كيف كفر الشاك، والشاك جاهل، فلم ير الجهل عذرا في مثل هذه الأمور1.

وقال رحمه الله في أثناء كلام له: ولهذا قالوا من عصى مستكبرا كإبليس، كفر بالاتفاق. ومن عصى مشتهيا لم يكفر عند أهل السنة. ومن فعل المحارم مستحلا فهو كافر بالاتفاق.

قال: والاستحلال اعتقاد أنها حلال2، وذلك يكون تارة باعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون الخلل في الإيمان بالربوبية، أو الرسالة، ويكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة، وتارة يعلم أن الله حرمها، ثم يمتنع من التزام هذا التحريم، ويعاند فهذا أشد كفرا ممن قبله. انتهى.

1 علماء الأمة متفقون على أن الجهل بأمور الدين القطعية المجمع عليها التي هي معلومة منه بالضرورة كالتوحيد، والبعث وأركان الإسلام وحرمة الزنى والخمر ليس بعذر للمقصر في تعلمها مع توفر الدواعي. وأما غير المقصر كحديث العهد بالإسلام، والذي نشأ في شاهق جبل مثلا أي حيث لا يجد من يتعلم منه، فهو معذور. وهم متفقون أيضا على عذر العوام بجهل المسائل الاجتماعية غير المعلومة بالضرورة، ويمثلون بها في الكتب المختلفة بكون بنت الابن إذا وجدت مع بنت الصلب فإنها ترث الثلث تكملة للثلثين في قوله –تعالى- "فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك"، وهذا التفصيل هو الذي يظهر به كلام شيخ الإسلام في المواضع المختلفة، وفي معناه ما يذكره المؤلف قريبا من نص السلف والأئمة وما ذكرناه أوضح.

2 هذا التفسير للاستحلال هو الذي تلقيناه عن المشايخ فيكون داخلا في عموم عدة المذكورة آنفا فيما يعذر بجهله، وما لا يعذر وهو قسمان فقط: عدم اعتقاد الحكم أو اعتقاد خلافه. وأما القسم الثالث وهو عدم التزام التحريم مع العلم به فلا يدخل في التفسير المذكور للاستحلال، ولكنه هو المعنى المتبادر منه فيما يعد كفرا مطلقا. فالمستحل للحرام الذي أطلقوا القول بكفره هو من يعلم أنه حرام، ولا يذعن لما جاء به الشرع من تحريمه. وشرط صحة الإيمان الذي هو الاعتقاد: الإذعان النفسي الذي هو مفهوم الإسلام وهو الذي يقتضي العمل عند عدم المانع. وأما الاستحلال بالمعنى الأول فلا يعد كفرا مطلقا، بل هو جهل يزول بالعلم. والمتأول به لما يحتمل التأويل معذور باتفاق العلماء، ومنه ما يأتي قريبا من استحلال بعض الصحابة الخمر للمؤمن الصالح التقي.

ص: 517

وكلامه رحمه الله في مثل هذا كثير، فلم يخص التكفير بالمعاند مع القطع بأن أكثر هؤلاء جهال لم يعلموا أن ما قالوه، أو فعلوه كفر، فلم يعذروا بالجهل في مثل هذه الأشياء، لأن منها ما هو مناقض للتوحيد الذي هو أعظم الواجبات، ومنها ما هو متضمن معارضة الرسالة ورد نصوص الكتاب والسنة الظاهرة المجمع عليها بين علماء السلف.

وقد نص السلف والأئمة على تكفير أناس بأقوال صدرت منهم مع العلم أنهم غير معاندين، ولهذا قال الفقهاء -رحمهم الله تعالى-: من جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس، أو جحد حل الخبز ونحوه، أو جحد تحريم الخمر ونحوه، أو شك في ذلك ومثله لا يجهله كفر، وإن كان مثله يجهله عُرف ذلك، فإن أصر بعد التعريف كفر وقتل، ولم يخصوا الحكم بالمعاند.

وذكروا في باب حكم المرتد أشياء كثيرة -أقوالا وأفعالا- يكون صاحبها بها مرتدا، ولم يقيدوا الحكم بالمعاند.

وقال الشيخ أيضا: لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين الخمر كقدامة وأصحابه، وظنوا أنها تباح لمن آمن وعمل صالحا على ما فهموه من آية المائدة1، اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا، فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة حتى يبين لهم الحق، فإن أصروا كفروا.

وقال أيضا: ونحن نعلم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا2 من الأحياء والأموات- لا الأنبياء ولا غيرهم-، لا بلفظ الاستغاثة ولا بلفظ الاستعانة ولا بغيرهما، كما أنه لم يشرع لهم السجود لميت ولا إلى ميت

1 يعني آية "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات" إلخ.

2 يعني دعاء العبادة وهو طلب ما لا يقدر عليه الناس بكسبهم المراد بقوله -تعالى "فلا تدعوا مع الله أحدا".

ص: 518

ونحو ذلك.

بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول. انتهى.

فانظر إلى قوله: لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول، ولم يقل حتى يتبين لهم،1 ونتحقق منهم المعاندة بعد المعرفة.

وقال أيضا لما أنجز كلامه في ذكر ما عليه كثير من الناس من الكفر والخروج عن الإسلام قال: وهذا كثير غالب لا سيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق، فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقال.

وإذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه فيها مخطيء ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنه من دين الإسلام، بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة الله -وحده لا شريك له-، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين أو غيرهم، فإن

1 في هذا أن الله -تعالى- قال: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم" والدعوة الصحيحة إنما تكون بالآيات والبينات، والغرض من بيان الآيات أن تتبين لمن توجه إليهم كما قال –تعالى-:"سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق". وهذه المسائل التي قال فيها شيخ الإسلام أن الجاهل لها لا يمكن الحكم بكفره فيها "حتى يبين له ما جاء به الرسول" لا يحتاج المسلم الجاهل في تبينها إلا إلى بيانها. أعنى أنه لما كان مؤمنا برسالة الرسول كان مقتضى هذا الإيمان أن يقبل كل ما علم أنه من الدين الذي جاء به، ولا يتحقق بيانه إلا بما يفهمه بحسب لغته ودرجة فهمه، فذكر النص العربي للجاهل العجمي لا يعد بيانا له، وكذلك ذكره للعربي العامي بألفاظ غريبة، أو اصطلاحية لا يفهمها.

ص: 519

هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك، ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك أو يعودون

إلى أن قال: وبلغ من ذلك أن منهم من يصنفون في دين المشركين والردة عن الإسلام كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته، ورغب فيه،1 وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون تاب عنه وعاد إلى الإسلام. انتهى.

فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية والأمور الظاهرة، فقال في المقالات الخفية التي هي كفر قد يقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة.

فكلامه ظاهر في الفرق بين الأمور الظاهرة والخفية، فيكفر بالأمور الظاهر حكمها مطلقا، وبما يصدر منها من مسلم جهلا، كاستحلال محرم، أو فعل، أو قول شركي بعد التعريف، ولا يكفر بالأمور الخفية جهلا كالجهل ببعض الصفات فلا يكفر الجاهل بها مطلقا2 وإن كان داعية، كقوله للجهمية: أنتم عندي لا تكفرون

1 في طبقات السبكي إنكار نسبة هذا الكتاب إليه.

2 الأقسام التي ذكرها ثلاثة "الأول": ما يكفر به مطلقا ولا يعذر بجهله، وهو ما عبر بالأمور الظاهر حكمها، وعبر عنه المحققون بالأمور المعلومة من الدين بالضرورة المجمع عليها، واستثنوا من عموم الإطلاق قريب العهد بالإسلام، ومن نشأ بعيدا عن المسلمين الذين يمكنه التعلم منهم، ومنه أن تقنع رجلا كافرا في بلاد الكفر بتوحيد الله ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من البعث والجزاء. ويموت قبل أن تتمكن من تعليمه شرائع الإسلام، أو تعلمه بعضها كالصلاة والصيام دون بعض، وتتركه، وتسافر من بلاده، فهو يعذر بجهل ما لم يعلمه من الضروريات الأخرى إلى أن تتمكن من تعلمها إن علم أن هنالك أمورا أخرى لا بد له من العلم والإيمان بها. "الثاني"هـ: ما لا يكفر بجهله مطلقا، وهو الأمور الخفية من الدين، ويقال باصطلاح جمهور العلماء هي ما ليس مجمعا عليه ولا معلوما من الدين بالضرورة كالمسائل التي اختلف فيها أئمة المسلمين من تفويض وتأويل. "الثالث": ما لا يكفر به إذا فعله جاهلا إلا بعد إعلامه بحكم الله فيه، وهو المجمع عليه مما يجب عليه وجوبا عينيا بنص قطعي، وتعرض فيه الشبهة وسوء الفهم كمسألة استحلال الخمر المتقدمة، ومسألة الأعرابي الذي فهم من الخيط الأبيض والخيط الأسود في آية الصيام ظاهر اللفظ، فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بهما الليل والنهار، وهنالك قسم رابع وهو المسائل الاجتهادية التي ليس فيها نص قطعي الرواية والدلالة. فهذه يعذر فيها كل مجتهد باجتهاده.

ص: 520

لأنكم جهال، وقوله "عندي" يبين أن عدم تكفيرهم ليس أمرا مجمعا عليه لكنه اختياره. وقوله في هذه المسألة خلاف المشهور في المذهب، فإن الصحيح من المذهب تكفير المجتهد الداعي إلى القول بخلق القرآن، أو نفي الرؤية، أو الرفض، ونحو ذلك، وتفسيق المقلد.

وجوب الاحتياط في التكفير وقصره على ما اتفق عليه

قال المجد ابن تيمية رحمه الله: الصحيح أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية، فإنا نفسق المقلد فيها، كمن يقول بخلق القرآن، أو أن علم الله مخلوق، أو أن أسماءه مخلوقة، أو أنه لا يرى في الآخرة، أو يسب الصحابة تدينا، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد، وما أشبه ذلك، فمن كان عالما في شيء من هذه البدع يدعو إليه ويناظر، عليه فهو محكوم بكفره. نص أحمد على ذلك في مواضع. انتهى.

فانظر كيف حكموا بكفرهم مع جهلهم، والشيخ1 رحمه الله يختار عدم كفرهم، ويفسقون عنده.

ونحوه قول ابن القيم -رحمه الله تعالى- فإنه قال: وفسق الاعتقاد كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويحرمون ما حرم الله، ويوجبون

1 يعني شيخ تقي الدين ابن تيمية. وقاعدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عدم التكفير بما اختلف فيه العلماء فهو على رأي الشيخ تقي الدين في هذه المسألة.

ص: 521

ما أوجب الله، ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ، ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك، وهؤلاء كالخوارج المارقة وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم.

وأما غلاة الجهمية فكغلاة الرافضة1 ليس للطائفتين في الإسلام نصيب، ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا: هم مباينون للملة. انتهى.

وبالجملة فيجب على من نصح نفسه أن لا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه، واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام، أو إدخاله فيه أعظم أمور الدين، وقد كفينا بيان هذه المسألة كغيرها بل حكمها في الجملة أظهر أحكام الدين.

فالواجب علينا الاتباع وترك الابتداع، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، وأيضا فما تنازع العلماء في كونه كفرا، فالاحتياط للدين التوقف وعدم الإقدام ما لم يكن في المسألة نص صريح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.

وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة فقصر بطائفة، فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره، وتعدى بآخرين، فكفروا من حكم الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم.

ومن العجب أن أحد هؤلاء لو سئل عن مسألة في الطهارة أو البيع، لم يفت بمجرد فهمه واستحسان عقله، بل يبحث عن كلام العلماء ويفتي بما قالوه، فكيف

1 غلاة الجهمية ينكرون جميع صفات الله –تعالى- الوجودية المنصوصة في القرآن بتأويلات تتبرأ منها اللغة، وغلاة الرافضة هم الباطنية الذين ذهبوا إلى أن باطن الإسلام المقصود بالذات هو غير ظاهره الذي تناقله المسلمون بالعلم والعمل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن الباطن الذي هو الحق يجب تلقيه عن أئمتهم المعصومين.

ص: 522

يعتمد في هذا الأمر العظيم الذي هو أعظم أمور الدين وأشدها خطرا على مجرد فهمه واستحسانه؟

فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين، ومحنته من تينك البليتين، ونسألك اللهم أن تهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

جواز تكفير الشخص بما هو قطعي

فائدة عظيمة

من كلام مفتي الديار النجدية عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -قدس الله سره-.

"في موضوع التكفير المتقدم عنه"

قال -رحمه الله تعالى-: وأما ما سئلت عنه من أنه هل يجوز تعيين إنسان بعينه بالكفر إذا ارتكب شيئا من المكفرات؟ فالأمر الذي دل الكتاب والسنة وإجماع العلماء عليه أنه كفر مثل الشرك بعبادة غير الله سبحانه-. فمن ارتكب شيئا من هذا النوع أو حسنه، فهذا لا شك في كفره، ولا بأس بمن تحققت منه شيئا من ذلك أن تقول كفر فلان بهذا الفعل.

يبين هذا أن الفقهاء يذكرون في باب حكم المرتد أشياء كثيرة يصير بها المسلم مرتدا كافرا، ويستفتحون هذا الباب بقولهم: من أشرك بالله كفر، وحكمه أن يستتاب فإن تاب، وإلا قتل. والاستتابة إنما تكون مع معين، ولما قال بعض أهل البدع عند الشافعي: إن القرآن مخلوق، قال: كفرت بالله العظيم. وكلام العلماء في تكفير المعين كثير.

وأعظم أنواع الكفر الشرك بعبادة غير الله، وهو كفر بإجماع المسلمين، ولا مانع من تكفير من اتصف بذلك كما أن من زنى قيل: فلان زان، ومن رابى قيل: فلان مراب، والله أعلم "منقولة حرفا بحرف وصلى الله على محمد وصحبه وسلم".

ص: 523

رسالة أخرى في سكوت أكثر الناس عن المنكرات

رسالة أخرى في سكوت أكثر الناس عن المنكرات

"وكونه لا يعد إجماعا يحتج به على مشروعيتها؟ "

بسم الله الرحمن الر حيم

وبه نستعين. من علي بن عبد الله إلى الوالد المكرم عبد الله بن عبد الرحمن، سلمه الله تعالى، وأسبغ عليه نعمه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

"وبعد":

إن قال قائل: تقرون أن إجماع الأمة حجة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، وأنتم قد خالفتم جميع العلماء من أهل الأمصار قاطبة، وادعيتم ما لم يدعيه غيركم، وأنكرتم ما لم ينكر في جميع الأرض، والإشارة هنا إلى التوحيد، وإلى ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله تعالى-، وتكفير من أشرك بالله في ألوهيته عند المشاهد وغيرها، فما الجواب لذلك؟ أفدنا جزاك الله خيرا جوابا سديدا.

"فأجاب": سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

"وبعد":

دعوى هذا المبطل إجماع العلماء على جواز دعاء أهل القبور، والاستغاثة بهم، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، فهذا كذب، وشبهته أن هذه الأمور ظاهرة في جميع الأمصار، ولم يسمعوا أن عالما أنكرها.

فيقال: قد أنكرها كثير من علماء هذا الزمان، ووافق عليه خواص من علماء الحرمين واليمن، وسمعنا منهم مشافهة، ولكن الشوكة لغيرهم. وصنف فيه جماعة كالنعيمي من أهل اليمن، له مصنف في ذلك حسن، وكذلك الشوكاني ومحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني وغيرهم، ورأيت مصنفا لعالم من أهل جبل سليمان في

ص: 524

إنكار ذلك.

وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين" 1، وليس المراد بالظهور بالسيف بل بالحجة دائما، وبالسيف أحيانا. ولو قال هذا المجادل: إن أكثر الناس على ما يرى، لكان صادقا، وهذا مصداق الحديث "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ"2.

وأيضا فالبناء على القبور، وإسراجها، وتجصيصها، ظاهر غالب في الأمصار التي تعرف، مع أن النهي عن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنصوص عليه في جميع المذاهب، فهل يمكن هذا المبطل أن يقول: إن الأمة مجمعة على جواز ذلك لكونه ظاهرا في الأمصار.

والله سبحانه- إنما افترض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يردوا إلى كتابه وسنة رسوله ما تنازعوا فيه، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد والرسالة.

فإذا عرف أن الشرك عبادة غير الله، وعرف معنى العبادة، وأنها كل قول وعمل يحبه الله ويرضاه، 3، ومن أعظم ذلك الدعاء لأنه مخ العبادة، وعلم ما يفعل عند القبور من دعاء أصحابها وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح.

علم أن هذا هو الشرك الأكبر الذي هو

1 مسلم: الإمارة "1920"، والترمذي: الفتن "2229"، وأبو داود: الفتن والملاحم "4252"، وابن ماجه: المقدمة "10" والفتن "3952" ، وأحمد "5/279".

2 مسلم: الإيمان "145"، وابن ماجه: الفتن "3986" ، وأحمد "2/389".

3 يعني أن عبادة الله –تعالى- تشمل جميع الأقوال والأفعال المذكورة، وليس هذا تعريفا للعبادة بمعناها الأعم الذي يشمل عبادات الكفار كطواف المشركين بالبيت عراة، وأكثر العلماء يعرفونها بما يسمى تعريف الرسم. وأدق تعريف لها أن يقال: هي كل قول وعمل بدني، أو نفسي يوجه، ويتقرب به إلى من يعتقد فاعله أن له قدرة على النفع ودفع الضرر فوق الأسباب التي يقدر عليها البشر، إما بذاته كالرب الخالق –تعالى-، وإما بالوساطة والتأثير عنده –تعالى-. ومن الأخير قوله –تعالى- في المشركين "ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله" يعنون أن الله تعالى ينفعهم، ويدفع عنهم الضر بشفاعتهم عنده التي يدعونهم لأجلها لا لذواتهم.

ص: 525

عبادة غير الله، فإذا تحقق الإنسان ذلك عرف الحق، ولم يبال بمخالفة أكثر الناس، ويعتقد أن الأمة لا تجتمع على ضلالة.

فإن قال هذا المجادل: إن هذه الأمور التي تفعل عند القبور جائزة شرعا، فهو محاد لله ورسوله، فإن قال: هذه الأمور ما تجوز لكنها ليست بشرك، مع دعواه أن علماء الزمان أجمعوا على ذلك، فيلزمه أن الأمة أجمعت على ضلالة، والإنسان إذا تبين له الحق لم يستوحش من قلة الموافقين وكثرة المخالفين لا سيما في هذا الزمان.

وقول الجاهل: لو كان هذا حقا ما خفي على فلان وفلان، هذه دعوى الكفار في قولهم {وْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} 2.وقد قال علي رضي الله عنه "اعرف الحق تعرف أهله".

وأما الذي في حيرة ولبس، فكل شبهة تروج عليه، فلو أن أكثر الناس اليوم على الحق لم يكن الإسلام غريبا، وهو والله اليوم في غاية الغربة. ولما ذكر ابن القيم –رحمه الله تعالى- الشرك وظهوره قال: فما أعز من يخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره، يعني ما أقل من لا يعادي من أنكره، وهذا قوله في زمانه، ولا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد نقلنا في الأوراق التي كتبنا وهي عندكم طرفا من كلام العلماء في أنواع الشرك، ومن ذلك قول الشيخ تقي الدين –رحمه الله تعالى-: من جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، فهو كافر بإجماع المسلمين. انتهى.

وهذا الذي يفعل عند هذه المشاهد، وهذا أظهر أمور الدين، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3. نسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين، وصلى الله على محمد.

1 سورة الأحقاف آية: 11.

2 سورة الأنعام آية: 53.

3 سورة النور آية: 40.

ص: 526

رسالة في الرد على من احتج على جواز الشرك والضلال بعمل الناس

رسالة له أخرى (في الرد على من احتج على جواز الشرك والضلال بعمل الناس وكثرة السواد

بسم الله الرحمن الر حيم

"رب يسر وأعن يا كريم"

من عبد الله بن عبد الرحمن إلى الولدين المكرمين محمد آل عبد الله ومحمد آل عمر آل سليم زادهما الله علما وفهما، ووهب لنا ولهما حلما وحكما. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد موجب الخط إبلاغ السلام، والخط وصل -أوصلكما الله إلى كل الخير-، وكذلك الأبيات التي نقلتم كتبنا عليها ما اتسع له المحل، وبطلان ما تضمنته ظاهر، ولله الحمد ما يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته، ولكن إذا تحققتم بقول الصادق المصدوق أن هذه الأمة تتبع اليهود والنصارى فيما أحدثوا حذو القذة بالقذة مع قوله صلى الله عليه وسلم:"بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" 1 2، فإذا صدق الإنسان بذلك لم يستنكر 3 ما حدث من الشرك والبدع وظهور المنكرات، وتضييع شرائع الإسلام، وتعطيل حدود الله.

فإذا عرف ذلك، وعلم أنه لم يضل اليهود والنصارى إلا علماؤهم، علم أن سبب ضلال هذه الأمة علماؤها كما في الحديث المشهور "علماؤهم شر من تحت أديم السماء، منهم خرجت الفتنة وفيهم تعود".

وقول القائل: لو أن هذا ما يجوز، ما خفي على فلان وفلتان، فهذه شبهة باطلة. وقد روى ابن وضاح عن عمر رضي الله عنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحيتي وأنا أعرف الحزن في وجهه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقلت: أجل

1 مسلم: الإيمان "145"، وابن ماجه: الفتن "3986" ، وأحمد "2/389".

2 سقط من الأصل جواب: إذا تحققتم إلخ، ويحتمل أن يكون استغنى عنه بجواب الشرط في الجملة التالية لهذه.

3 يعني لم يستغرب ذلك، ولا يعني أنه لا يعده منكرا.

ص: 527

إنا لله وإنا إليه راجعون، فما ذاك يا رسول الله؟ قال: أتاني جبريل فقال: إن أمتك مفتتنة بعد قليل من الدهر غير كثير، قلت: فتنة كفر، أم فتنة ضلالة؟ قال: كل سيكون، قلت: وأين يأتيهم ذلك وأنت تارك فيهم كتاب الله؟ قال: بكتاب الله يضلون، وذلك من قبل قرائهم وأمرائهم".

قال محمد بن وضاح: الخير من بعد الأنبياء ينقص، والشر يزداد. وقال: إنما هلكت بنو إسرائيل على يدي قرائهم وفقهائهم وستهلك هذه الأمة على يدي قرائهم وفقهائهم، قال ابن المبارك:

وأحبار سوء ورهبانها

وهل أفسد الدين إلا الملوك

وقد أخبر الله -سبحانه- عن اليهود أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، أي: يتأولون كتاب الله على غير ما أراد الله، وقال:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1، وأخبر عنهم أنهم {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 2، ولا بد أن يوجد في هذه الأمة من يتابعهم على ما ذمهم الله به.

والإنسان إذا عرف الحق وضده، لم يبال بمخالفة من خالف كائنا من كان، ولا يكبر في صدره مخالفة عالم ولا عابد، لأن هذا أمر لا بد منه، وما أخوفني على من عاش أن يرى أمورا عظيمة لا منكر لها، والله المستعان.

الاستغاثة بغير الله تعالى شرك

"قلت": والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم صدرت من كثير من المتأخرين ممن يشار إليه بالعلم، وقد صنف رجل يقال له ابن البكري كتابا في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجلد، بين فيه بطلان ما ذهب إليه، وبين أنه من الشرك.

قال الشيخ: وقد طاف- يعني ابن البكري- على علماء مصر فلم يوافقه أحد منهم، وطاف عليهم بجوابي الذي كتبته، وطلب منهم معارضته فلم يعارضه أحد

1 سورة البقرة آية: 75.

2 سورة النساء آية: 51.

ص: 528

منهم مع أن عند بعضهم من التعصب ما لا يخفى، ومع أن قوما كان لهم غرض وجهل بالشرع قاموا في ذلك قياما عظيما، واستعانوا بمن له غرض من ذوي سلطان مع فرط عصبيتهم، وكثرة جمعهم، وقوة سلطانهم، ومكايدة شيطانهم.

قال شيخ الإسلام تقي الدين -رحمه الله تعالى-: والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته موجودة في كلام بعض الناس، مثل يحيى الصرصري ومحمد بن النعمان، وهؤلاء لهم صلاح، لكن ليسوا من أهل العلم، بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه عند الشدائد ويدعوه. اهـ.

والمقصود أن نوع الشرك من الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره جرى في زمان الشيخ، والشر يزيد، لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه، فالله المستعان. وفي هذه الأزمنة يقال: العجب ممن نجا كيف نجا ليس العجب ممن هلك كيف هلك.

وقول من يقول: استعملها من هو أعلم منا وأعرف بكلام العرب، فبئس الحجة الواهية، والله لم يأمرنا باتباع من رأيناه أعلم منا، وإنما أوجب علينا عند التنازع الرد إلى كتابه وسنة نبيه، قال -تعالى-:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 1 خاصة في أصول الدين، فإنه لا يجوز التقليد فيها بإجماع العلماء، ولأن أدلته ولله الحمد ظاهرة، ولم يقل -سبحانه- فإن تنازعتم في شيء فاتبعوا ما عليه أكثر الناس ولا ما عليه بلد من البلدان.

وأكثر الناس اليوم- خصوصا طلبة العلم- خفي عليهم الشرك، والشيخ ابن عجلان المذكور يجوز الاستغاثة بالأموات فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وكلامه صريح ما يحتمل تأويلا كقوله:

ومنقذي من عذاب الله والألم

نسأل الله السلامة، وابن عجلان أقل الأحوال هجره، وأما النصيحة فلا تفيد في مثله. وأمره هذا إن وصل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، أو فيصل، أو ابن

1 سورة النساء آية: 59.

ص: 529

سعود الادني فأخاف على نفسه، ولو له عقل ما أظهر هذا الأمر الذي يجر عليه شرا، ولكن قد أحسن القائل رحمه الله ورضي عنه-:

يا من له عقل ونور قد غدا

يمشي به في الناس كل أوان

لكننا قلنا مقالة صارخ

في كل وقت بينكم بأذان

الرب رب والرسول فعبده

حقا وليس لنا إله ثان

فلذاك لم نعبده مثل عبادة الر

حمن فعل المشرك النصراني

كلا ولم نغل الغلو، كما نهى

عنه الرسول مخافة الكفران

لله حق لا يكون لغيره

ولعبده حق، هما حقان

لا تجعلوا الحقين حقا واحدا

من غير تمييز ولا فرقان

فالحج للرحمن دون رسوله

وكذا الصلاة وذبح ذي القربان

وكذا السجود ونذرنا ويميننا

وكذا متاب العبد من عصيان

وكذا التوكل والإنابة والتقى

وكذا الرجاء وخشية الرحمن

وكذا العبادة واستعانتنا به

إياك نعبد، ذاك توحيدان

وعليهما قام الوجود بأسره

دنيا وأخرى حبذا الركنان

وكذا التسبيح والتكبير والته

ليل حق إلهنا الديان

لكنما التعزير والتوقير حـ

ق للرسول بمقتضى القرآن

والحب والإيمان والتصديق لا

يختص بل حقان مشتركان

هذي تفاصيل الحقوق ثلاثة

لا تجملوها يا أولي العدوان

حق الإله عبادة بالأمر لا

بهوى النفوس فذاك لليطان

من غير إشراك ولا شك هما

سببا النجاة فحبذا السببان

ورسوله فهو المطاع وقوله

مقبول إذ هو صاحب البرها

إلى آخر كلامه رحمه الله ورضي عنه-، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والله أعلم.

ص: 530

أسئلة عن أحاديث غير صحيحة وأجوبتها

حديث " لو أن أحدكم أدلى بحبل "

بسم الله الرحمن الر حيم

"الحمد لله وحده"

سئل الشيخ علامة العصر، ونادرة الدهر، عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمة الله علينا وعليه آمين- عن حديث:"لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله"1.

فأجاب: حديث: "لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله" 2 رواه الترمذي من رواية الحسن عن أبي هريرة.

وللشيخ تقي الدين رحمه الله على هذا الحديث كلام طويل، قال: فإن كان ثابتا3 فقوله: "لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله" 4 إنما هو تقدير مفروض أي: لو وقع الإدلاء لوقع عليه، لكنه لا يمكن أن يدلي أحد على الله سبحانه وتعالى شيئا لأنه عال بالذات.

وإذا هبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز من الجزء

إلى أن قال: فكما أن ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية لأنها عالية، فترد الهابط بعلوها، كما أن الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل، فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط، فكذلك ما يهبط من أعلى الأرض إلى أسفلها وهو المركز، لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط إلى المركز.

فإن قدر أن الرافع أقوى كان صاعدا به إلى الفلك من تلك الناحية، وصعد به إلى الله، وإنما يسمى هبوطا باعتبار ما في أذهان المخاطبين من أن ما يحاذي أرجلهم يكون هابطا، ويسمى هبوطا مع تسمية إهباطه إدلاء.

وهو إنما يكون إدلاء حقيقيا إلى المركز، ومن هناك إنما يكون مدا للحبل والدلو، لا إدلاء له، ولكن الجزء والشرط مقدران لا محققان، فإنه قال: لو أدلى لهبط، أي: لو

1 الترمذي: تفسير القرآن "3298" ، وأحمد "2/370".

2 الترمذي: تفسير القرآن "3298" ، وأحمد "2/370".

3 يعني أن الحديث ليس بثابت في نفسه؛ لأن سنده غير صحيح، ومتنه غير معقول، وإنما هو مفروض كما يفرض المحال، وكلام شيخ الإسلام فيه تراه في كتابه في العرش.

4 الترمذي: تفسير القرآن "3298" ، وأحمد "2/370".

ص: 531

فرض أن هناك إدلاء لفرض أن هناك هبوطا، وهو يكون إدلاء وهبوطا إذا قدر أن السموات تحت الأرض، وهذا منتف.

ولكن فائدته بيان الإحاطة والعلو من كل جانب، وهذا المفروض ممتنع في حقنا، لا نقدر عليه فلا يتصور أن ندلي، فلا يتصور أن يهبط على الله شيء، لكن الله قادر على أن يخرق من هناك بحبل لكن لا يكون في حقه إدلاء، فلا يكون في حقه هبوط عليه، كما لو خرق بحبل من القطب إلى القطب، أو من مشرق الشمس إلى مغربها، وقدرنا أن الحبل مر في وسط الأرض فإن الله قادر على ذلك كله

إلى أن قال: فعلى كل تقدير قد خرق بالحبل من جانب المحيط إلى جانبه الآخر مع خرق المركز، وبتقدير إحاطة قبضته بالسموات والأرض، فالحبل الذي قدر أنه خرق به العالم وصل إليه، ولا يسمى شيئا بالنسبة إليه لا إدلاء ولا هبوطا، وأما بالنسبة إلينا فإن ما تحت أرجلنا تحت لنا، وما فوق رؤوسنا فوق لنا.

وما ندليه من ناحية رؤوسنا إلى ناحية أرجلنا نتخيل أنه هابط، فإذا قدر أن أحدنا أدلى بحبل كان هابطا على ما هنالك، لكن هذا التقدير ممتنع في حقنا، والمقصود به بيان إحاطة الخالق -تعالى-، كما بين أنه يقبض السموات، ويطوي الأرض ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته بالمخلوقات، ولهذا قرأ في تمام هذا الحديث {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1.

وهذا كله كلام على تقدير صحته فإن الترمذي لما رواه قال: وفسر بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله.

ثم قال الشيخ: وتأويله بالعلم تأويل ظاهر الفساد، قال: وبتقدير ثبوته يكون دالا على الإحاطة، والإحاطة قد علم أن الله قادر عليها، وعلم أنها تكون يوم القيامة بالكتاب والسنة. فليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقل ولا الشرع، لكن لا نتكلم إلا بما نعلم، وما لم نعلم أمسكنا عنه.

1 سورة الحديد آية: 3.

ص: 532

أحاديث ليس لها أصل

وأما من روى أن الزيدية مجوس هذه الأمة، فلا شك أن هذا كذب وإنما المروي: القدرية مجوس هذه الأمة.

وحديث: "القرآن كلام الله"

إلخ، ليس له أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث: تارك الصلاة

إلخ، ما له أصل. وحديث ابن عطاء الله ما ذكر ما أظن له أصلا، ولا ينبغي التحديث بهذا وأشباهه. وحديث: الحديث في المسجد

إلخ ما علمت له أصلا. والله -سبحانه أعلم-.

عدد ركعات صلاة التراويح

(مسألة": في قول بعض الناس ما تصح الجمعة خلف إمام لم يتزوج، وكذلك قول بعضهم في التراويح يجب إتمام عشرين ركعة، ما الصحيح؟ أفتونا مأجورين.

(الجواب": الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

(وبعد"، فصلاتكم التراويح أقل من العشرين فلا بأس، والصحابة رضي الله عنهم منهم من يقل، ومنهم من يكثر، والحد المحدود لا نص عليه من الشارع صحيح.

إمامة الأعزب في الجمعة

وأما صلاتكم الجمعة خلف الإمام الذي ما تزوج فليس الزواج بشرط، وإنما الشرط البلوغ والاستيطان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.

الكلام على إعادة الروح إلى الميت في قبره وقت السؤال

إعادة الروح إلى الميت في قبره وقت السؤال

بسم الله الرحمن الر حيم

قال ابن القيم في كتاب الروح:

(فصل": وأما المسألة السادسة وهي أن الروح هل تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال أم لا تعاد؟ فقد كفانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر هذه المسألة فأغنانا عن أقوال الناس، حيث صرح بإعادة الروح إليه.

فقد قال البراء بن عازب رضي الله عنه: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله

إلى أن

ص: 533

قال في آخر الحديث: "حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء التي يسمع فيها الخطاب 1. فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض "إلخ الحديث. ووجدت في كلام القرطبي تعليقا على هذا الحديث.

قال القرطبي في تذكرته: قوله صلى الله عليه وسلم "حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله -تعالى-" 2 المعنى أمر الله وحكمه، وهي السماء السابعة التي عندها سدرة المنتهى التي إليها يصعد ما يعرج به من الأرض، ومنها يهبط ما ينْزل به منها، كذا في صحيح مسلم من حديث الإسراء 3.

وفي حديث البراء: "أنه ينتهي بها إلى السماء السابعة"4. وقد كنت تكلمت مع بعض أصحابنا القضاة ممن له علم وبصر، ومعنا جماعة من أهل النظر والاجتهاد فيما ذكر أبو عمر بن عبد البر في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5، فذكرت له هذا الحديث فما كان إلا أن بادر إلى عدم صحته، ولعن رواته، وبين أيدينا رطب نأكله.

فقلت له: الحديث صحيح خرجه ابن ماجه في السنن، ولا ترد الأخبار بمثل هذا القول، بل تتأول، وتحمل على ما يليق من التأويل، والذين رووها هم الذين رووا لنا الصلوات الخمس وأحكامها، فإن صدقوا هنا صدقوا هناك، وإن كذبوا هنا كذبوا هناك، ولا تحصل الثقة بأحد منهم فيما يرويه. إلى هنا من التذكرة للقرطبي.

ووجدت بخط شيخنا معلقا على هذا الحديث: والهامش المنسوب للتذكرة: يا عجبا لمحرف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغير ألفاظه، كيف يصف رسول الله

1 بهامش الأصل: لفظ الحديث "حتى ينتهي إلى السماء التي فيها الله".

2 ابن ماجه: الزهد "4262" ، وأحمد "2/364".

3 قول القرطبي هذا إنما هو على رأي المؤولين من المتأخرين، لا على مذهب السلف.

4 أحمد "4/287".

5 سورة طه آية: 5.

ص: 534

صلى الله عليه وسلم

ربه بأنه في السماء كما في حديث البراء المذكور.

وكذلك حديث أبي هريرة الموافق لحديث البراء في إثبات وصف الله -سبحانه- بأنه في السماء، وكذلك حديث الرقية المرفوع في سنن أبي داود:" ربنا الله الذي في السماء" 1 وكذلك قوله للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء، فهذا أعلم الأمة بربه وأخشاهم له يصف ربه بأنه في السماء، ويشهد لمن وصفه بذلك بالإيمان.

ونقل الصحابة ألفاظه للتابعين، ونقلها التابعون، وبلغوها لمن بعدهم، وتداولها أهل الحديث وأئمة الإسلام، وأثبتوها في كتبهم، وأقروها على ظاهرها، وقالوا أمروها كما جاءت، وقالوا: تفسيرها قراءتها، فلما لم يتسع عطن هذا المعطل، لذلك حمله تعطيله وجهله على أن غير لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرفه، ولم يكفه تغيير معناه مع إقرار لفظه كما يفعله كثير، كقول القرطبي في تأويل هذا الحديث.

فلهذا المحرف أوفر نصيب من مشابهة اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ففيه تصديق قوله صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من كان قبلكم"2.

رد تأويل من أوّل " أن الله في السماء" وحقيقة معناها

وأما تأويل من تأول كونه في السماء بأن أمره وحكمه ونحو ذلك، فهذا تأويل باطل قطعا، فإن أمره وحكمه لا يختص بسماء دون سماء، ولا بالسماء دون الأرض، وأيضا فيكفي في بطلانه أن القرون المفضلة أقروا هذه الأحاديث على ظاهرها، وكذلك سائر آيات الصفات وأحاديثها.

وأنكروا على من تأولها بنحو هذه التأويلات وبدعوهم، فإجماعهم على الإضراب عن تأويلها، وتبديعهم من تأولها، دليل قاطع على بطلان هذه التأويلات. ومن توهم من قوله: إنه -سبحانه- في السماء، أنه سبحانه في داخل السموات فهو جاهل ضال، وليس هذا بمراد من اللفظ، ولا ظاهر فيه.

إذ السماء يراد بها العلو، فكل ما علا فهو سماء، سواء كان فوق الأفلاك، أو تحتها كما قال -تعالى-:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلي السَّمَاءِ} 3.

1 أبو داود: الطب "3892".

2 البخاري: أحاديث الأنبياء "3456"، ومسلم: العلم "2669" ، وأحمد "3/84 ،3/89 ،3/94".

3 سورة الحج آية: 15.

ص: 535

فلما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، كان المفهوم من قوله: إنه في السماء، أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء.

وإذا قيل العلو فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به، إذ ليس فوق العالم موجود إلا الله، وإن قدر أن السماء المراد بها الأفلاك، كان المراد أنه عليها كما قال:{لأصلبنكم في جذوع النخل} 1 وكما قال: {فسيروا في الأرض} 2، وكما قال:{فسيحوا في الأرض} 3، ويقال: فلان في الجبل وفي السطح، وإن كان على أعلى شيء فيه.

ليس معنى قوله: "إن الله في السماء" أن السماء تحويه

ومن فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم أن الله في السماء أن هناك ظرفا يحيط به، فهذا فهم فاسد.

فإذا كانت السموات السبع بالنسبة إلى الكرسي كسبعة دراهم في ترس، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة، والعرش مخلوق، فكيف يتوهم هذا في الخالق -جل وعز- الذي يطوي السموات بيمينه، والأرض بيده الأخرى؟ والله -سبحانه- أعظم وأكبر وأجل من كل شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4.

قال ابن عباس: ما السموات السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم. فلما كان هذا مستقرا في نفوس المخاطبين، كان المفهوم عندهم من كونه -سبحانه- في السماء أن المراد بذلك العلو الذي هو ضد السفل، وأنه فوق كل شيء عال على كل شيء. ومن توهم من وصف الله -سبحانه- بأنه في السماء أن السماء تحيط به، وتحويه، فهو ضال إن اعتقده في ربه، وكاذب إن نقله عن غيره.

ولو سئل سائر المسلمين هل تفهمون من قول النبي صلى الله عليه وسلم أن الله في السماء أن السماء تحويه، لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا، وإذا كان الأمر هكذا، فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئا لا يفهمه الناس منه، بل هو محال عندهم، ثم يريد أن يتأوله؛ بل عند المسلمين أن الله في السماء وهو على

1 سورة طه آية: 71.

2 سورة آل عمران آية: 137.

3 سورة التوبة آية: 2.

4 سورة الشورى آية: 11.

ص: 536

العرش واحد، إذ السماء إنما يراد بها العلو، فالمعنى أن الله في العلو لا في السفل.

ومن ظن أن ظاهر قوله أن الله في السماء أن السماء تحيط به، وتحويه فقد ظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق به من كونه يخاطب أمته بما ظاهره كفر وضلال، ويشهد لمن قال ذلك بالإيمان، ولم يقل مرة واحدة: لا تعتقدوا ظواهر ما أحدثكم به في صفات ربكم، بل تأولوها، واعتقدوا فيها كذا وكذا، وإن ظاهرها غير مراد. فإنهم كانوا لا يفهمون من ظاهرها إلا ما هو حق، وهو أنه -سبحانه- فوق كل شيء عال على كل شيء، مستو على عرشه، بائن من خلقه، لا يشبهه شيء لا في ذاته ولا في صفاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. والله أعلم، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم.

ما يعمله الناس من الحيل للوصول إلى الربا

بيان الربا وما يعمله الناس اليوم من الحيل ليصلوا به إلى الربا 2

"مسألة": في تحريم الربا، وما يفعل من المعاملات بين الناس اليوم؛ ليتوصلوا به إلى الربا. وإذا حل الدين يكون المديون معسرا فيقلب الدين في معاملة أخرى بزيادة مال، وما يلزم ولاة الأمور في هذا،؟ وهل يرد على صاحب المال رأس ماله دون ما زاد في معاملة الربا؟

"الجواب": المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع "وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه والمحلل والمحلل له"3 قال الترمذي: حسن صحيح، فالاثنان ملعونان.

وكان أصل الربا في الجاهلية أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، فإذا حل الأجل، قال له: أتقضي، أم تربي؟ فإن وفاه، وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد

1 سورة الشورى آية: 11.

2 هذه المسائل غير منسوبة لأحد، والظاهر أنها للشيخ عبد الله رحمه الله. انتهى من الأصل.

3 أحمد "1/158".

ص: 537

هذا في المال، فيتضاعف المال، والأصل واحد، وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين.

وأما إذا كان هذا هو المقصود، ولكن توصلوا بمعاملة أخرى، فهذا تنازع فيه المتأخرون من المسلمين.

وأما الصحابة فلم يكن منهم نزاع أن هذا محرم؛ فإن الأعمال بالنيات، والآثار عنهم بذلك كثيرة مشهورة. والله -تعالى- حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاجين، وأكل المال بالباطل، وهذا موجود في المعاملات الربوية. وإذا حل الدين، وكان الغريم معسرا لم يجز بإجماع المسلمين أن يلزم لقلب لا بمعاملة ولا غيرها، بل يجب إنظاره، وإن كان موسرا كان عليه الوفاء فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره ولا مع إعساره.

والواجب على ولاة الأمور بعد تعزير المتعاملين بالمعاملة الربوية بأن يأمروا المدين أن يؤدي رأس المال، ويسقط الزيادة الربوية، فإن كان معسرا وله مغلات يوفي منها، وفى دينه منها بحسب الإمكان، والله أعلم.

إبطال مسألة التورق لإفضائها إلى الربا

"مسألة": في رجل عليه دين يحتاج إلى بضاعة، أو حيوان ينتفع به أو يتاجر، فيطلبه من إنسان دينا فلم يكن عنده، هل للمطلوب أن يشتريه، ثم يدينه له بثمن إلى أجل؟ وهل له أن يوكله في شرائه، ثم يبيعه له بعد ذلك بربح اتفقا عليه قبل الشراء؟

"الجواب": من كان له عليه دين فإن كان موسرا وجب عليه أن يوفيه، وإن كان معسرا وجب إنظاره، ولا يجوز قلبه عليه بمعاملة ولا غيرها.

وأما البيع إلى أجل ابتداء، فإن كان مقصود المشتري الانتفاع بالسلعة أو التجارة فيها جاز إذا كان على الوجه المباح، وأما إذا كان مقصوده الدراهم فيشتريها بمائة مؤجلة، ويبيعها في السوق بسبعين

ص: 538

حالة، فهذا مذموم منهي عنه في أظهر قولي العلماء، وهذا يسمى التورق، قال عمر ابن عبد العزيز: التورق أخية الربا، والله أعلم.

بيع الرهن

"مسألة": فيمن له على شخص دين، ورهن عليه رهنا، والدين حال، ورب الدين محتاج إلى دراهمه فهل يجوز له بيع الرهن أم لا؟

"الجواب": إذا كان أذن له في البيع جاز، وإلا باع الحاكم إن أمكن، ووفاه حقه منه. ومن العلماء من يقول: إذا تعذر ذلك، دفعه إلى ثقة يبيعه، ويحتاط بالإشهاد على ذلك، واستوفى حقه منه، والله أعلم.

إطالة المدة في البينة

"مسألة": في رجل ادعى على رجل دعاوى، ولم يعترف الغريم بشيء، وخرج المدعي على أن يقيم بينة، واعتقل المدعى عليه، ولم يقم بينة بعد أربعة أيام أو خمسة، فهل يجوز تطاول المدة في البينة، أم تكون هذه البينة إلى مدة؟.

"الجواب": لا يجوز مثل هذا الحبس كما ذكر، بل قد نص أئمة المذاهب الأربعة أنه لا يجوز مثل هذا الحبس، وإنما تنازعوا هل يطلب من المدعى عليه كفيلا إلى ثلاثة أيام ونحوها، إذا قال المدعي: لي بينة حاضرة، وتنازعوا فيما إذا أقام حجة شرعية، ولها شرط مثل أن يقيم بينة ولم يذكرها، فيطلب حبس الخصم حتى يأتي بشرطها، على قولين في مذهب أحمد والشافعي وغيرهما. فأما هذا الحبس فلا يجوز باتفاق العلماء فيما أعلم، والله -سبحانه- أعلم.

إبراء الزوجة زوجها من الصداق

"مسألة": في امرأة لها زوج، ولها عليه صداق، فلما حضرتها الوفاة أحضرت شاهد عدل، وجماعة نسوة، وأشهدت على نفسها أنها أبرأت زوجها من صداقها، فهل يصح هذا الإبراء أم لا؟

ص: 539

"الجواب": إن كان الصداق ثابتا عليه إلى أن مرضت مرض الموت، لم يصح ذلك إلا بإجازة بقية الورثة. وأما إن كانت أبرأته في الصحة جاز ذلك، وثبت بشاهد ويمين عند مالك والشافعي وأحمد؛ ويثبت أيضا بشهادة امرأتين ويمين عند مالك، وقول في مذهب أحمد. وإن أقرت في مرضها أنها أبرأته في الصحة، لم يقبل هذا الإقرار عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما، ويقبل عند الشافعي.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" 1، وليس للمريض أن يخص الوارث بأكثر مما أعطاه الله، والله أعلم.

تكليم الله لموسى بغير واسطة

"مسألة": في رجلين تنازعا فقال أحدهما: إن الله كلم موسى تكليما سمعته أذناه ووعاه قلبه، وإن الله كتب التوراة بيده، وناولها من يده إلى يده إلى موسى. وقال الآخر: إن الله كلم موسى بواسطة، وإن الله لم يكتب التوراة بيده، ولم يناولها من يده إلى يده.

"الجواب": القائل الذي قال: إن الله كلم موسى تكليما كما أخبر في كتابه فمصيب، وأما الذي قال: كلم الله موسى بواسطة، فهذا ضال مخطيء؛ بل نص الأئمة على أن من قال ذلك فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل، فإن هذا إنكار لما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، ولما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.

قال -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} 2 الآية، ففرق بين تكليمه من وراء حجاب كما كلم موسى، وبين تكليمه بواسطة رسول كما أوحى إلى غير موسى.

قال -تعالى-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} 3 إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 4. والأحاديث بذلك كثيرة في الصحيحين والسنن.

وفي الحديث المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "التقى آدم وموسى. قال آدم: أنت

1 الترمذي: الوصايا "2121"، والنسائي: الوصايا "3641"، وابن ماجه: الوصايا "2712" ، وأحمد "4/187 ،4/238 ،4/239"، والدارمي: الوصايا "3260".

2 سورة الشورى آية: 51.

3 سورة النساء آية: 163.

4 سورة النساء آية: 164.

ص: 540

موسى الذي كلمك الله تكليما، لم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه" 1. وسلف الأمة وأئمتها كفروا الجهمية الذين قالوا: إن الله خلق كلاما في بعض الآجام 2 سمعه موسى، وفسر التكليم بذلك.

وأما قوله: إن الله كتب التوراة بيده فهذا قد روي في الصحيحين، فمن أنكر ذلك فهو مخطيء ضال، وإذا أنكره بعد معرفته بالحديث الصحيح، فإنه يستحق العقوبة.

وأما قوله: ناولها بيده إلى يده، فهذا مأثور عن طائفة من التابعين، وهو كذلك عند أهل الكتاب، لكن لا أعلم هذا اللفظ مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالمتكلم به إن أراد ما يخالف ذلك، فقد أخطأ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تمت بقلم الفقير إلى الله -تعالى- عبد الرحمن بن عبد العزيز بن صعب،

غفر الله له ولوالديه ومشايخه وإخوانه وجميع المسلمين،

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله

وصحبه وسلم.

1 أبو داود: السنة "4702".

2 جمع أجمة وهي الشجر الكثير الملتف.

ص: 541

المسائل الحفظية

نصيحة في تعلم التوحيد والطريق إليه

وبيان ما يجب على أهل القرى من حق الضيف، وحق الإمام في زكاة النقدين، والعمل بظاهر الأحاديث.

بسم الله الرحمن الر حيم

من حسين وعبد الله ابني الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى جناب الأخ في الله محمد بن أحمد الحفظي -سلمه الله تعالى- من الآفات، واستعمله بالباقيات الصالحات.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

"أما بعد":

فإنا نحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على نبيه وحبيبه محمد البشير النذير، وعلى آله وأصحابه أولي الفضل الشهير، والعلم المستطير.

وقد وصل إلينا كتابك، وفهمنا ما حواه من حسن خطابك، وتذكر أنك على هذا الدين الذي نحن عليه من إخلاص الدين لله -تعالى-، وترك عبادة ما سواه، وأنك لا ترضى بالإشراك والتخلف عن التوحيد، ولو قدر فواق 1، فالحمد لله الذي من علينا وعليك. وهذا هو أفرض الفرائض على جميع الخلق، ومن انتفع بهذا الدين، واستقام عليه فله البشرى في الحياة الدنيا والآخرة، وله العزة والرفعة والجاه والملابس الفاخرة.

وفي الحديث عن الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- قال: "إن الله ليرفع بهذا الدين أقواما ويضع به آخرين"2.

1 فواق- كغراب- ما بين الحلبتين من الوقت، أو ما بين يديك وقبضهما على الضرع.

2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها "817"، وابن ماجه: المقدمة "218" ، وأحمد "1/35"، والدارمي: فضائل القرآن "3365".

ص: 542

والذي نوصيك به، ونحضك عليه: التفقه في التوحيد، ومطالعة مؤلفات شيخنا -رحمه الله تعالى-، فإنها تبين لك حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وحقيقة الشرك الذي حرمه الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه لا ينفع صاحبه، وأن الجنة على فاعله حرام، وأن من فعله حبط عمله.

والشأن كل الشأن في معرفة حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبه يكون الرجل مسلما مفارقا للشرك وأهله، وذلك لأن كثيرا من المصنفين إذا ذكر التوحيد لم يبينه، وقد يفسره بتوحيد الربوبية الذي أقر به المشركون، ومنهم من يفسره بتوحيد الذات والصفات، وذلك -وإن كان حقا- فليس هو المراد من توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله.

وكثير من المصنفين يفسر الشرك بالإشراك في توحيد الربوبية الذي أقر به كفار العرب وغيرهم من طوائف المشركين، كما قال -تعالى-:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1، وقال:{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} 2 الآية.

وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن المشركين يقرون بتوحيد الربوبية، وإنما الخلاف الذي بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم هو توحيد الإلهية الذي هو توحيد العبادة، ولهذا لم يصيروا موحدين بمجرد الإقرار بتوحيد الربوبية.

فإياك أن تغتر بما أحدثه المتأخرون وابتدعوه كابن حجر الهيتمي وأشباهه، واعتمد في هذا الأصل على كتاب الله الذي أنزله تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، وعلى ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا تغتر بما حدث بعدهم من البدع المضلة في أصول الدين وفروعه، كما قال -تعالى-:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 3.

وبهذا تعرف حقيقة أصل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا

1 سورة العنكبوت آية: 61.

2 سورة المؤمنون آية: 88، 89.

3 سورة الأنعام آية: 153.

ص: 543

رسول الله، فإن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، أن لا تعبد إلا الله وحده لا شريك له. وتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، هو أن يطاع فيما أمر، وينتهى عما عنه نهى وزجر، ويكون هو الإمام المتبع، ومن سواه فيؤخذ من كلامه، ويترك فعلى أقواله وأفعاله تعرض الأقوال والأفعال، فما وافق قوله فهو المقبول، وما خالفه فهو المردود.

حكم الضيافة

وأما المسائل الثلاث التي سألتم عنها:

"فالأولى": مسألة الضيافة هي واجبة أم لا؟

فالذي عليه العمل أنها واجبة على أهل القرى، وعلى أهل البوادي دون الأمصار الكبار التي توجد الأطعمة تباع فيها بلا كلفة.

طلب الزكاة من الأموال الباطنة كالنقدين

"وأما الثانية": وهي قولكم: هل للإمام وعماله طلب الزكاة من الأموال الباطنة كالنقدين، أم يختص ذلك بالأموال الظاهرة؟

فهذه مسألة اختلف العلماء فيها، فمنهم من يقول: إن للإمام أخذ الزكاة من الأموال الباطنة كالظاهرة، ويجب دفعها إليه، وهو قول مالك، وقول في مذهب أحمد. وأما الأموال الظاهرة فيجب دفعها إلى الإمام العادل إذا طلبها، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي، ورواية عن الإمام أحمد.

واتفق على أن للإمام طلب الزكاة من الأموال الظاهرة والباطنة، وإنما الخلاف في وجوب الدفع إليه، وهل يجزئ عن صاحبها إذا لم يدفعها إليه أم لا؟

العمل بصريح الحديث وظاهره

"وأما المسألة الثالثة": في العمل بصريح الحديث وظاهره، إذا وجده المرء في الأمهات الست، أو ما التزم مخرجه فيه الصحة والحسن، هل للإنسان العمل به والاعتماد عليه وإن لم يبحث عنه هل هو منسوخ أم لا؟ وهل عارضه أقوى منه أم لا؟

فنقول: الذي ينبغي لطالب العلم إذا رأى مثل ذلك أن يبحث عن كلام أهل العلم في المسألة التي دل عليها الحديث، هل هو معمول به عندهم، أم هو منسوخ، أم

ص: 544

قد عارضه ما هو أقوى منه.

فإذا فعل ذلك، وعرف مذاهب العلماء في المسألة تبين له حينئذ، هل الحديث محكم صحيح، أو منسوخ، أم قد عارضه ما هو أقوى منه عند أهل العلم؟ هذا إذا كان الإنسان من أهل المعرفة بهذا الحديث وكلام العلماء. فإذا وجد حديثا مشهورا عند أهل العلم، محكوما بصحته أو حسنه، ولم يعلم له ناسخا، ولا معارضا أقوى منه، وقد أخذ بعض العلماء من أهل المذاهب المشهورة به تعين عليه العمل بالحديث إذا كان قد سبقه من أهل العلم من يقتدى به، ولو خالف مذهبه الذي ينسب إليه.

وأما إذا كان الرجل ليس له معرفة بالحديث، وكلام العلماء، وترجيح الأقوال، فإنما وظيفته تقليد أهل العلم.

قال الله -تعالى-: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1 والله سبحانه وتعالى أعلم.

والذي نشير به عليك أنك تسافر إلينا، ونتواجه نحن وإياك، وتواجه أمير المؤمنين، ونعرف حالك، وتصبر على تحمل المشقة في ذلك، فإنه خير لك وأحسن عاقبة إن شاء الله. وسلم لنا على الوالد وإخوانك من أهل الدين، وكاتبه أحمد بن ناصر بن معمر يبلغك السلام، ثم أنت في حفظ الله وأمانه.

وجوب جهاد أهل الفساد ودفع فسادهم في الدين

بسم الله الرحمن الر حيم

من عبد الرحمن بن حسن إلى كافة الإخوان، سلمهم الله من شرور الدنيا والآخرة، ووفقنا الله وإياهم للتجارة الفاخرة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

"وبعد":

فاعلموا، وفقنا الله وإياكم لشكر ما أنعم به عليكم من نعمة الإسلام، والاجتماع على ذلك، وجهاد من خرج عنه من أهل الجهل والفساد، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وقد أوجب الله جهادهم

1 سورة النحل آية: 43.

ص: 545

دفعا لعنادهم وخروجهم عن جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لمن ولاه الله أمرهم، كما قال -تعالى-:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1.

ومن فضله عليكم اجتماعكم وجهادكم لأهل الفساد، ولولا الجهاد لأفسدوا عليكم دينكم ودنياكم، وأنتم ولله الحمد على ملة الإسلام، تعبدون ربكم، وتوحدونه، وتعملون بفرائضه، وتأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر.

ومن أعظم الشكر: الجهاد الذي أوجبه الله في كتابه العزيز، قال -تعالى-:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} 2 الآية، وقال -تعالى-:{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} 3 الآية، وقال -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 4 الآية.

والإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله بالمال والنفس هو التجارة المنجية من شرور الدنيا والآخرة الموجبة لخير الدنيا والآخرة، كما قال -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 5 الآيات.

فبشركم ربكم، فاقبلوا هذه البشارة، وامتثلوا أمره، وجاهدوا أهل الفساد، وارغبوا في ثواب الجهاد في سبيل الله.

وفي الحديث: "غدوة في سبيل الله، أو روحة خير من الدنيا وما فيها"6. ولا تفرطوا في الغدوات والروحات فتضيع عليكم، وفي الحديث: "الجهاد باب من أبواب الخير ينجي الله به من الهم والغم، وخير المال ما أنفق فيه، وخير الأيام أيام المجاهدين" لأن المجاهد في حسنات تكتب له في يقظته ونومه، وفي سيره ومقامه.

فارغبوا في هذا الخير الذي رغب فيه ربكم، وابذلوا فيه المال والنفس. وأفضل المجاهدين من جاهد بنفسه وماله، وما عذر ربنا عن الجهاد إلا الأعمى والأعرج والمريض، كذلك الذين لا يجدون ما ينفقون إذا نصحوا لله ورسوله، والنصيحة لله ولدينه واجبة على المعذور وغيره. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

1 سورة البقرة آية: 251.

2 سورة البقرة آية: 216.

3 سورة النساء آية: 84.

4 سورة الحج آية: 40.

5 سورة الصف آية: 13.

6 البخاري: الجهاد والسير "2792"، ومسلم: الإمارة "1880"، والترمذي: فضائل الجهاد "1651"، وابن ماجه: الجهاد "2757 ،2824" ، وأحمد "3/132 ،3/141 ،3/153 ،3/157 ،3/207 ،3/263".

ص: 546

الآيات في التوحيد الذي دعت إليه كل الأنبياء

توحيد العبادة

بسم الله الرحمن الر حيم

من عبد الرحمن حسن إلى الإخوان من أهل القصيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

"وبعد":

اعلموا -وفقنا الله وإياكم لمعرفة العلم النافع والعمل به-، تفهمون أن الله -سبحانه- منَّ على أهل نجد بتوحيده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، وهذه نعمة عظيمة خص الله أهل نجد بالقيام فيها من الخاصة على العامة، لكن ما عرف قدرها. والغفلة ذمها الله في كتابه، وذكر أنها صفة أهل النار، نعوذ بالله من النار بقوله:{أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1.

وذم أهل الإعراض بقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} 2 وذكره هو القرآن، ولا تعرفون العبادة التي خلقكم الله لها إلا من القرآن. والقرآن من أوله إلى آخره يبين لكم كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله. ولا يصح لأحد إسلام إلا بمعرفة ما دلت عليه هذه الكلمة من نفي الشرك في العبادة، والبراءة منه وممن فعله، ومعاداته، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والموالاة في ذلك.

فمن الآيات التي بين الله -تعالى- فيها هذه الكلمة قوله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} 3 وهي: لا إله إلا الله.

وقد افتتح قوله بالبراءة مما كان يعبده المشركون عموما، ولم يستثن إلا الذي فطره، وهو الله -تعالى- الذي لا يصلح شيء من العبادة إلا له.

ونوع تعالى البيان لمعنى هذه الكلمة في آيات كثيرة يتعذر حصرها، كقوله -تعالى-:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} 4، والكلمة هي: لا إله إلا الله بالإجماع، ففسرها بقوله:{سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} 5 أي: نكون

1 سورة الأعراف آية: 179.

2 سورة طه آية: 124.

3 سورة الزخرف آية:26: 28.

4 سورة آل عمران آية: 64.

5 سورة آل عمران آية: 64.

ص: 547

فيها سواء، علما وعملا وقبولا وانقيادا.

فقال: {أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} 1: فنفى ما نفته لا إله إلا الله بقوله: {أَلا نَعْبُدَ} 2، وأثبت ما أثبتته لا إله إلا الله بقوله:{إِلا اللَّهَ} 3، وقال:{أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 4.

فهذا أمر عظيم أمر الله -تعالى- به عباده وخلفهم له، ففي قوله:{أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 5: نفى الشرك الذي نفته لا إله إلا الله، وقوله:{إِلا إِيَّاهُ} 6: هو الإخلاص الذي أثبتته لا إله إلا الله.

وقال -تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 7 قضى أي: أمر، {أَلا تَعْبُدُوا} 8: فيه من النفي ما في معنى لا إله، وقوله:{إِلا إِيَّاهُ} 9: هذا هو الإثبات الذي أثبتته إلا الله.

وقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} 10 فهذا هو الذي أمر به صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إليه، وهو إخلاص العبادة، وتخليصها من الشرك قولا وفعلا واعتقادا.

وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك، ودعا الناس إليه، وجاهدهم عليه حق الجهاد، وهذا هو حقيقة دين الإسلام، كما قال -تعالى-:{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 11. بين -تعالى- أن توحيد الإلهية هو الإسلام، والأعمال كلها لا يصلح منها شيء إلا بهذا التوحيد، وهو أساس الملة ودعوة المرسلين.

والدين كله من لوازم هذا الأصل وحقوقه، وقد قال -تعالى-:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 12. فمن تدبر القرآن، وتذكر به عرف حقيقة دين الإسلام الذي أكمله الله لهذه الأمة، كما قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 13.

هذا ما ننصحكم به، وندعوكم إليه، وبالله التوفيق. وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.

1 سورة آل عمران آية: 64.

2 سورة آل عمران آية: 64.

3 سورة آل عمران آية: 64.

4 سورة يوسف آية: 40.

5 سورة يوسف آية: 40.

6 سورة يوسف آية: 40.

7 سورة الإسراء آية: 23.

8 سورة الإسراء آية: 23.

9 سورة الإسراء آية: 23.

10 سورة الرعد آية: 36.

11 سورة الأنبياء آية: 108.

12 سورة ص آية: 29.

13 سورة المائدة آية: 3.

ص: 548

أقوال العلماء في الاشتغال بفن المنطق

بسم الله الرحمن الر حيم

من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ القادم من بلاد الأوغان عبد الله بن محمد -وفقه الله لحقيقة الإسلام والإيمان-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

وبعد:

فالذي يجب علينا محبة الخير لمن أراده وقصده، فلعل الله -تعالى- أن يجعله مؤثرا للحق على غيره، لكن نبحث مع مثلك في شيئين:

{الأول: إن علم المنطق قد حرمه كثير من المحققين، وأجازه بعض العلماء 1.

1 الذي تلقيناه عن مشايخنا أن المنطق الذي اختلفوا فيه هو منطق اليونان الذي نقل في عهد المأمون، إذ كان في كتبه من المسائل والأمثلة ما يخالف الإسلام، وربما يكون شبهة عليه، وفيه قال الشيخ الأخضري صاحب السلم:

فابن الصلاح والنواوي حرما

وقال قوم ينبغي أن يعلما

والقولة المشهورة الصحيحة

جوازه لكامل القريحة

ممارس السنة والكتاب

ليهتدي به إلى الصواب

أي الصواب في طرق الاستدلال العقلي، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يعرف المنطق وجميع علوم الفلسفة التي ألف المنطق لتحريرها وفهمها بأدلتها. وقد بين خطأ كثير من مسائله، وله مصنف في ذلك يوجد في الهند بخطه، وقد درس هذا العلم الشيخ عبد اللطيف ابن صاحب الفتوى -رحمهما الله-. والأمور الثلاثة التي ذكرها لا تدل على تحريم علم المنطق المعروف اليوم في كتب المسلمين، وإن كانت في نفسها صحيحة، فالمنطق ليس علما شرعيا فيؤخذ عن أئمة الدين، ولكنه كعلوم اللغة والصناعة والزراعة

إلخ. وأما قوله "فصار ضرره أكثر من نفعه" فهو يصح في علم اليونان الذي ذكره، ولكن جل الضرر كان في الفلسفة النظرية التي استعمل فيها لا فيه هو. والمنطق الموجود اليوم ليس فيه ضرر مطلقا، ولكن فائدته قليلة؛ لأنه آلة للعلوم النظرية، وهو قلما يستعمل فيها، ويمكن الاستغناء عنه بعلم الأصول كما أشار إليه، وغرضي من هذه الحاشية أن لا يتجرأ من يقرؤون هذه الفتوى على تحريم علم المنطق المعروف، فإن التحريم الديني أمر عظيم جدا، وقد قال شيخ الإسلام: إن السلف لم يكونوا يحرمون شيئا إلا بنص قطعي. ولما نزل قوله -تعالى- في الخمر والميسر "وإثمهما أكبر من نفعهما" لم يحرمهما النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة به لأن دلالته على التحريم غير قطعية إلى أن نزلت آيات سورة المائدة القطعية الدلالة.

ص: 549

لكن الصواب تحريمه لأمور: "منها": أنه ليس من علوم الشريعة المحمدية، بل هو من علوم اليونان، وأول من أحدثه المأمون بن الرشيد، وأما في خلافة من قبله من أسلافه من بني العباس، وقبلهم خلفاء بني أمية فلا يعرف في عصرهم.

"الأمر الثاني ": أن أئمة التابعين من الفقهاء والمفسرين والمحدثين لا يعرفون هذا العلم، وهم نقلة العلم، والإسلام في وقتهم أظهر، والعلوم النافعة عندهم أكثر، وقد توافرت دواعيهم على نقل العلم، وكذلك من أخذ عنهم من الأئمة الأربعة، ومن في طبقتهم من المحدثين، ومن الفقهاء والمفسرين، فلا تجد في كتبهم، ولا من أخذ عنهم شيئا من هذا العلم.

"الأمر الثالث": أن هذا العلم إنما أحدثه الجهمية لما ألحدوا في أسماء الله وصفاته، واستمالوا المأمون إلى تعريب كتب اليونان، فعظمت فتنة الجهمية، وظهرت بدعتهم من أجل ذلك، فصار ضرره أكثر من نفعه. وذكر العلماء أن ما فيه من صحيح فهو موجود في كتب أصول الفقه، فيتعين تركه وعدم الالتفات إليه، والمعول إنما هو على الكتاب والسنة، وما عليه السلف والأئمة.

وهذه كتبهم موجودة بحمد الله ليس فيها من شبهات أهل المنطق شيء أصلا. فهذا الذي ندين الله به.

التوحيد وأنواعه وحقيقة كل نوع منه

"البحث الثاني": السؤال عن التوحيد وأنواعه وحقيقة كل نوع منه، فإن كان عند القادم من ذلك تحقيق، وإلا فيجب إرشاده إلى ذلك وتعليمه، لأن العلم أقسام ثلاثة لا رابع لها.

فيجب عليك أيها الرجل القادم أن تسعى لنفسك بمعرفة الحق بدليله واللي يبي 1 يقبل علمنا هذا الذي منَّ الله به علينا من تمييز الحق من الباطل، فهو أخونا، والحمد لله على هداية من اهتدى، واللي يرى غير ذلك فلا نحن بإخوان له. والسلام وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

1 والذي يحب.

ص: 550

رسالة فيها الإشارة إلى ما حدث للمسلمين من العقاب بذنوبهم

رسالة فيها الإشارة إلى ما حدث للمسلمين من العقاب بذنوبهم {وما يجب عليهم في هذا المشهد من التوبة عن السيئات، وما فوقه من مشهد الأسماء والصفات".

بسم الله الرحمن الر حيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الابن المكرم المحب المفهم: محمد بن عمر بن سليم، سلك الله بنا وبه الصراط المستقيم، ومنَّ علينا وعليه بمخالفة أصحاب الجحيم، ورفع درجتنا ودرجته في جنات النعيم.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما تعاقبت غدوات الدهر وروحاته، سلام ألذ من نسيم الصبا، وأبهى من رونق الصبا. وموجب الخط إبلاغ السلام والتحية، وتفقد تلك الشمائل المرضية، لا زالت محروسة بعين الرعاية الربانية. والخط وصل لا زلت موصولا بنفحات القرب والمحبوبية، محفوظا بألطاف الله الخفية والجلية، وسرنا ما أفاده من الأخبار السارة عن تلك الذات أدام الله سرورها، ورد أيام أنسها وحبورها-، وصار له عند المحب موقع كريم، بما تضمن من الدعوات والنصائح، جعلك الله ممن يدرأ القبائح والفضائح، ويعمل بالحق ويوصي باتباعه، ويبثه في إخوانه وأشياعه.

وما أشرت إليه من أسباب ما حدث بالإسلام وأهله، وأنه من عقوبات الذنوب، فنعم هو ذاك، كما أخبر به سبحانه وتعالى في كتابه المبين، على لسان نبيه الأمين. وهذا المشهد يوجب للعبد من التوبة والإنابة، وتدارك ما فرط من الشر وأسبابه ما يطهره من دنس الذنوب والعيوب، ويستقيل به عثراته وهفواته بين يدي علام الغيوب

ص: 551

وفوقه مشهد أكبر منه وأجلُّ، وهو مشهد الأسماء الحسنى، والصفات العلى، فيشهد عزته ولطفه ورحمته وعفوه وقيوميته وجبروته وانتقامه، وما يبدئ ويعيد، وما يقدر ويريد؛ وهذا المشهد من أجلِّ مشاهد التوحيد، ومنه يطلع العبد على أسرار القدر والقضاء، ويدرك به من حقائق الإيمان ونفحات الرضاء، ما يتبوأ به منازل الصديقين، ويرى الحوادث الكونية قبل وقوعها من وراء ستر رقيق. فنسأل الله أن يجعل لنا ولكم نصيبا وافرا، وحظا كاملا من العلم به، وحسن عبادته ومعاملته، وأن لا يجعلنا ممن اتبع هواه وكان أمره فرطا.

وما ذكرته من الوصايا النافعة باجتماع المسلمين ولم شعثهم، فنسأل الله التوفيق لذلك، والإعانة على ما هنالك. والأمور بيد فاطر السموات والأرض، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، وقد وصل الأمر إلى غاية لا يصل إليها الوعظ والقرآن، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

والعذر عن المكاتبة مقبول، والقلوب شواهد عدول، والدعاء للإخوان بظهر الغيب مبذول، فلا تنس أُخَيّك في أوقات المناجاة وفي ساعات التوجهات، وعليك بالإلحاح في الدعاء بظهور الإسلام ونصره، وإعلاء كلمة الله، ودحض الباطل وأهله. والله أسأل أن يمن بالاجتماع على حال يرضاها، متمسكين من التقوى بأقوى حبالها وعراها، وأن يعيد أوقاتا سلفت بمذاكرة العلم الشريف ألفت.

وبلغ سلامنا الوالد والأبناء والإخوان: سهل وعبد العزيز الصقعبي وابن جربوع وناصر السيف، ومن لدينا العيال وإسماعيل وإخوانه والإخوان ينهون السلام، وأنت سالم والسلام سنة 1291.

ص: 552

وجوب صلاة الجمعة على أهل القرى والعدد الذي تنعقد به جماعتها

بسم الله الرحمن الر حيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ عبد العزيز بن حسن -سلمه الله تعالى-.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد:

فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وخطك وصل، وتأخر جوابه لكثرة الاشتغال، وتشتت البال، والله المستعان. وتسأل فيه عن وجوب صلاة الجمعة على أهل القرى الذين لم يبلغ العدد فيهم أربعين من أهل الوجوب، فاعلم أنهم اتفقوا على أن من شرط وجوبها وصحتها الجماعة، واختلفوا في مقدار الجماعة، فمنهم من قال: واحد والإمام، وهذا مذكور عن ابن جرير الطبري. ومنهم من قال: اثنان سوى الإمام لأن أقل الجمع عنده اثنان. ومنهم من قال: ثلاثة دون الإمام، وقائل هذا يرى أن أقل الجمع ثلاثة لا اثنان. والكلام مبسوط على أقل الجمع في شرح التحرير وغيره. والقول الأخير هو قول أبي حنيفة.

ومنهم من اشترط أربعين، وهو قول الشافعي وأحمد. وقال قوم: ثلاثين. ومنهم من قال: يجوز فيما دون الأربعين إلا الثلاثة والأربعة، ولم يشترط عددا، وإنما ذكر حدا أورده، وهو أنه لا تجب إلا على عدد تتقرى بهم قرية.

وأصحاب القولين الأولين أخرجوا الإمام من مسمى الجمع للاختلاف في دخوله في الجماعة، وأصحاب القول الأخير يقولون: الجمع في غالب الأحوال له حكم غير ما يطلق عليه اسم الجمع في جميعها، بل هم الذين يمكنهم أن يسكنوا على حدة من الناس، وهذا يروى عن

ص: 553

مالك؛ ويروى عنه أيضا: اشتراط اثنا 1 عشر من أهل الوجوب، وكلا القولين معروف. ومن شرط الأربعين كالشافعي وأحمد وجماعة من السلف، فإنما صاروا إلى ما صح من أن هذا العدد كان في أول جمعة صليت بالناس، فهذا هو حد شرطها، أعني شرط الوجوب وشرط الصحة؛ فإن من الشروط ما هو شرط للوجوب فقط، ومنها ما يجمع الأمرين.

واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا الشرط للوجوب فقط، لا للصحة. وهذا من أحسن الأقوال، وبه يتفق غالب كلام المختلفين. إذا عرف هذا، فإنهم اختلفوا أيضا في الأحوال الراتبة التي اقترنت بهذه الصلاة عند فعله إياها صلى الله عليه وسلم. هل هي شرط في الصحة والوجوب أم ليست بشرط؟ وتلك كالجماعة والمصر والاستيطان. فمن رآه دليلا اشترطها، ومنهم من رجح بعضها دون بعض، واشترطه في المرجح لا غير. وبعضهم لم يرها دليلا، ورجع في الاشتراط والوجوب إلى أدلة أخرى لعموم الجماعة في سائر الصلوات.

ولقائل أن يقول: لو كانت هذه الأحوال شروطا في صحة الصلاة لما جاز أن يسكت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يترك بيانها لقوله تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2. هذا ما يحضرني، فإن رأيت خللا، فلا جناح عليك في إصلاحه.

وصدقة المحمل 3 تصل إليك إن شاء الله، فعليك بتحري العدل في القسمة، وبلغ سلامنا حمد والعيال والشيخ الوالد، والعيال بخير وينهون السلام.

1 هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم.

2 سورة النحل آية: 44.

3 قسم من بلاد نجد إلى جنب العارض.

ص: 554

وصية بالتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

بسم الله الرحمن الر حيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد الرحمن بن جربوع، وفقه الله للعمل بدينه المشروع.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته

"وبعد"

فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمه، وجزيل عطائه وكرمه، وعلى ما ألبسنا من ملابس فضله، وما اختصنا به من عظيم العطاء الذي صرفه عمن شاء بعدله. والخط وصل وصلك الله إلى ما يرضيه، ونظمك في سلك من يخشاه ويتقيه.

وأوصيك بتقوى الله، والحرص على معرفة تفاصيلها على القلوب والجوارح، فإنك في وقت كثر قراؤه، وقل فقهاؤه. وما ذكرت من طلب الفائدة بما ورد من النصوص الشرعية الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا مما لا يخفى على آحاد العامة من المسلمين، فضلا عن الطلبة والمتعلمين.

وهذا الأصل من آكد الأصول الإسلامية وأوجبها وألزمها. وقد ألحقه بعضهم بالأركان التي لا يقوم بناء الإسلام إلا عليها، وهو من فروض الكفاية، لا يسقط عن المكلفين إلا إن قام به طائفة يحصل بها المقصود الشرعي. وفرض الكفاية من فروض العين من جهة متعلقه، لأن الخطاب به لجميع الأمة، وإنما أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب للأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله التوحيد، والنهي عن المنكر الذي رأسه وأصله الشرك والعمل لغير الله.

وشرع الجهاد لذلك، وهو قدر زائد عن مجرد الأمر والنهي، ولولا ذلك ما قام الإسلام، ولا ظهر دين الله، ولا علت كلمته. ولا يرى تركه والمداهنة فيه إلا من أضاع حظه ونصيبه من العلم والإيمان. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ

ص: 555

تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1.

وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2.

فهذه الآيات تدل على وجوبه، وأن القائم به خير الناس وأفضلهم، وأن الخيرية لا تحصل إلا بذلك. وفيها أن الفلاح محصور في أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الفوز بالسعادة الأبدية.

وأما الوعيد على تركه، فمثلقوله تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} 3 الآية. ففي هذه الآية لعنهم على ألسن أنبيائهم بترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف. واللعن هو الطرد والإبعاد عن الله وعن رحمته.

وذكر بعض المفسرين هنا حديث: "إن من كان قبلكم كانوا إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة جاءه الناهي تعذيرا، فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه كأن لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} . والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا 4، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم".

وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمرو الصنعاني قال: "أوحى الله عز وجل إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم، وستين ألفا من شرارهم، قال: يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم".

وذكر أيضا من حديث ابن عمر: "لينقضن الإسلام عروة عروة حتى لا يقال

1 سورة آل عمران آية: 110.

2 سورة آل عمران آية: 104.

3 سورة المائدة آية:78، 79.

4 أي تعطفونه وتثنونه.

ص: 556

الله الله. لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم"1 "ولتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم".

وفي المسند مرفوعا: "يا أيها الناس، إن الله يقول: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم"2.

وفي حديث ابن عباس: "وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يُسمع دعاؤهم"رواه الطبراني.

وذكر الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يوشك القرى أن تخرب وهي عامرة" قالوا: كيف تخرب وهي عامرة؟ قال: "إذا علا فجارها أبرارها، وساد القبيلة منافقوها".

والأحاديث في هذا كثيرة تطلب من مظانها.

فصل في مفاسد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وترك ذلك على سبيل المداهنة، والمعاشرة، وحسن السلوك، ونحو ذلك مما يفعله بعض الجاهلين أعظم ضررا، وأكبر إثما من تركه لمجرد الجهالة. فإن هذا الصنف رأوا أن السلوك، وحسن الخلق، ونيل المعيشة لا يحصل إلا بذلك؛ فخالفوا الرسل وأتباعهم، وخرجوا عن سبيلهم ومنهاجهم لأنهم يرون العقل إرضاء الناس على طبائعهم، ويسالمونهم، ويستجلبون مودتهم ومحبتهم، وهذا مع أنه لا سبيل إليه فهو إيثار للحظوظ النفسية، والدعة، ومسالمة الناس، وترك المعاداة في الله، وتحمل الأذى في ذاته.

وهذا في الحقيقة هو الهلكة في الآجلة. فما ذاق طعم الإيمان من لم يوال في الله ويعادِ فيه، فالعقل كل العقل ما أوصل إلى رضى الله ورسوله. وهذا إنما يحصل بمراغمة أعداء الله، وإيثار مرضاته، والغضب له إذا انتهكت محارمه، والغضب

1 أحمد "5/389".

2 أحمد "6/158".

ص: 557

ينشأ من حياة القلب وغيرته وتعظيمه، وإذا عدم الحياة والغيرة والتعظيم عدم الغضب والاشمئزاز، وسوى بين الخبيث والطيب في معاملته وموالاته ومعاداته، وأي خير يبقى في قلب هذا؟

وفي بعض الآثار: "إن الله أوحى إلى جبريل أن اخسف بقرية كذا وكذا. قال: يا رب، إن فيهم فلانا العابد. قال: به فابدأ، إنه لم يتمعر 1 وجهه فيَّ قط".

وذكر ابن عبد البر: "إن الله بعث ملكين إلى قرية ليدمراها بمن فيها، فوجدا فيها رجلا قائما يصلي في مسجد، فقالا: يا رب، إن فيها عبدك فلانا يصلي، فقال الله عز وجل دمراها ودمراه معهم، فإنه ما تمعر وجهه فيَّ قط". انتهى.

ومن له علم بأحوال القلوب، وما يوجبه الإيمان ويقتضيه من الغضب لله، والغيرة لحرماته، وتعظيم أمره ونهيه، يعرف من تفاصيل ذلك فوق ما ذكرنا، ولو لم يكن إلا مشابهة المغضوب عليهم والضالين في الإنس بأهل المعاصي ومواكلتهم ومشاربتهم لكفى بذلك عيبا. والله الموفق والهادي لا إله غيره.

وبلغ سلامنا الإخوان والخواص إجازة مطلقة، والشيخ الوالد والعيال بخير وينهون السلام، ولا تنسنا من صالح دعائك والسلام.

رسالة في بيان فضل من يحيي السنة ويهدم الشرك والبدعة

بسم الله الرحمن الر حيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى ذي الجناب المكرم، والفضل الباذخ المقدم السيد عبد الرحمن الألوسي، سلك الله به سبل الاستقامة، وزينه بحلل التوفيق والكرامة، ورفعه إلى رتب السيادة والإمامة.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

1 تمعر الوجه: تغير للغضب والغيظ. وأصله قلة النضارة وعدم إشراق اللون.

ص: 558

أما بعد:

فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو كثير الخير دائم المعروف، على ما أولاه من سوابغ نعمه الباطنة والظاهرة، وما ألبسه من ملابس كرامته السنية الفاخرة، التي أعظمها وأجلها على الإطلاق هدايته لدينه الذي ارتضاه لنفسه، واختص به أولياءه، وخاصة أهل كرامته وقدسه.

مع أنه قد اطرد القياس بفساد أكثر الناس، وتركهم من الإسلام أصله الأعظم والأساس، وكثرة الاشتباه في أبواب الدين والالتباس، وجمهورهم عكَس القضية في مسمى الملة الإسلامية، ولم يميزوا بينها وبين الملة القرشية، والسنة الجاهلية، فهم كما وصفهم الله تعالى بقوله:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 1.

وكتابك الكريم وصل إلينا، وحسن موقعه لدينا، لما بلغنا عنك من إظهار الإسلام والسنة، وعيب أهل الشرك والبدعة، وطعنك على الدعاة إلى الضلالة، وعيبهم بما يبدونه من سوء العمل وشنيع المقالة، وأن الله قمعهم بك وقواك عليهم، فأذلهم وأهانهم، فأبشر بثواب ذلك، واعتده من أفضل أعمالك وحسناتك.

وفي الحديث: "من أحيا شيئا من سنتي، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وضم بين إصبعيه".

وفي الأثر: "إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا لله يذب عنها، وينطق بعلاماتها". فاغتنم ذلك، وكن من صالح أهله، واحرص أن يكون لك في ذلك جماعة وتلامذة يقومون مقامك إن حدث بك حدث، فيكونون أئمة بعدك، ويجري لك مثل أجورهم إلى يوم القيامة كما صح به الخبر.

فاعمل على بصيرة، وسر إلى الله بصلاح القصد والسريرة، وإياك أن يكون لك من أهل الشرك الذين يعبدون الأولياء والصالحين جليس أو صديق، فقد جاء في الأثر: "من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى

1 سورة الفرقان آية: 44.

ص: 559

صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام". وهذا في بدع لا تخرج عن الملة، فكيف بالشرك الذي يتضمن العدل والتسوية برب العالمين؟ بل يتضمن مسبته تعالى وتقدس.

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1.

هذا وشيخنا الوالد المكرم، والإمام الفاضل المقدم يبلغانك السلام، والسلام على من لديك من الإخوان في الله، المحبين لجلاله، ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الإشارة إلى إيواء أهل عنيزة لبعض الخارجين وأخذ العهود عليهم في الامتناع منه

بسم الله الرحمن الر حيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم محمد بن عمر آل سليم -سلمه الله تعالى، وتولاه في الدنيا والآخرة، وألبسه ملابس ولايته السنية الفاخرة-.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد:

الخط وصل -وصلك الله إلى ما يرضيه-، وسرنا سلامتك وعافيتك، كذلك سرنا ما ذكرت من القراءات وملازمة الدروس، فالحمد لله على ذلك.

والله أسأل أن يجعلك هاديا مهديا إماما للمتقين.

وما ذكرت وصل، فالليمون وما معه كله موجود عندنا بكثرة، والمقصود الأترنج لما فيه من الخواص والمنافع، وحيث تعذر وجوده فصلتك مقبولة، وهبتك مرضية محمولة، ولا وصلنا جوابكم إلا بعد ما انكفنا 2 وحرر هذا على ثرمدا 3 وجاءنا عبد الله بن جربوع بالنصيحة بعد ما قرأها على أهل عنيزة، وخضعت لها رقابهم، ورغمت بها أنوفهم في يوم مشهود ظهر فيه الحق، وعلت كلمة الله، وقامت حجته، وجاءتنا

1 سورة الصافات آية: 180: 182.

2 أنكفنا. أي: انكفأنا ورجعنا. ويقصدون بها الرجوع من الجهة التي كانوا فيها، وهكذا ينطق بها أهل نجد.

3 ثرمدا من بلاد القصيم في نجد.

ص: 560

المكاتبة من مَلإها وأكابرها يعتذرون ويتنصلون ويحلفون، والله يعلم علانيتهم وسرائرهم، ويحاسب عباده بعلمه فيهم.

وقد وعدونا أنه لا يعود إلى بلدتهم ولا يدخلها، وحلف أميرهم عندي في المجلس على ذلك، وأغلظ على نفسه بعد ما جرت المعاتبة، وأغلظت له القول على حمله وتمكينه من دخول البلدة، والرسالة المشار إليها تصلكم مع هذا الجواب -إن شاء الله-. اقرءوها، وتدبروا ما فيها، فإنها مفيدة مع اختصارها.

ونسأل الله أن يجعل أعمالنا وأعمالكم خالصة لوجهه الكريم. وبلغ الوالد والعيال والإخوان منا السلام إجازة عامة. ومن لدينا عبد العزيز بن عبد الرحمن وإسماعيل والابن عبد الله وعيال محمد بن علي يبلغون السلام، والسلام. وصلى الله على محمد.

عموم المصاب بقسوة القلوب وانصراف الخلق عن العبادة وغربة الإسلام

بسم الله الرحمن الر حيم

وبه نستعين

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم محمد بن عمر آل سليم -سلك الله بنا وبه صراطه المستقيم، ووفقنا بمَنِّه لمخالفة أصحاب الجحيم-.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

"وبعد":

فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على ما أولاه من إنعامه، وما ألبسه من ملابس إكرامه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف نعمة الله عليه، واستعملها فيما يقرب إليه، والخط وصل -وصلك الله بالرضا-، وقد سرنا ما أفاده من سلامة الحال، واعتدال الأوقات، لا زالت أحوالا محروسة، وأوقاتا بذكر الله معمورة مأنوسة.

وما أشرت إليه من قسوة القلوب، وكثرة الذنوب، وانصراف الخلق عما خلقوا

ص: 561

له، فنعم، قد عم بذلك المصاب، واستحكم الداء، وعز الدواء، إلا أن يمن الله على من يشاء من عباده بالهداية والشفاء. واشتداد الغربة، واستحكام الشدة والكربة قد وجد منذ أزمان، والشأن في هذا الزمان في نفس الوجود. فإن غالب الأماكن والقرى والبلدان لا يعرفون فيها للدين حقيقة ولا اسما، ولا يهتدون سبيلا إلى ما جاءت به الرسل ولاسيما والإسلام عندهم هو ما نشئوا عليه، وتلقوه عن أسلافهم في باب معرفة الله ومعرفة حقه، وباب معرفة حكمه وشرعه.

فالأول حقيقته عندهم هو التعطيل المحض.

"والثاني" خلاصته ولبه فيما بينهم هو التعلق على عباده، وجعلهم شركاء له..

"والثالث" جردوا فيه متابعة الأشياخ والآباء عما جاءت به الرسل والأنبياء. وهذا هو عين العكس وقلب الحقائق.

فاجتهد في الخلاص من شبكات تلك المهالك والمضايق بلزوم السنة والكتاب، والسلوك على أثر الآل والأصحاب، ومن تبعهم من ذوي الألباب، واجتهد في التضرع إلى الله في الإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته، ولا تنسنا من صالح دعائك، وبلغ سلامنا الوالد والعيال والإخوان: محمد آل عبد الله وآل شومر وابن جاسر ومطلق وكافة الإخوان، ومن لدينا الشيخ المكرم وأولاده وأولادنا وعبد الرازق بخير وينهون السلام، والسلام.

حكم العمل بالخط المعروف في الوصية وغيرها

بسم الله الرحمن الر حيم

الحمد لله وحده. وجدت على ظهر وثيقة أوصى بها عبد الرحمن بن محمد القاضي ما نصه:

بسم الله الرحمن الر حيم

الحمد لله وحده. إن كانت هذه الوثيقة بيد ورثة الموصي، وسبق عمل بها من وارثه أو وارث وارثه، ولم ينازع أحد من الورثة في صدورها عن مورثهم؛ فهذا

ص: 562

منهم إقرار بالوصية، وتسليم بمقتضاها؛ فيثبت الحكم الشرعي بهذا العمل والتقرير لمضمون الوصية، وهو حجة شرعية، وإذا كان بخط من يوثق به من طلبة العلم المعروفين بالدين والأمانة؛ فهو مما يقوي ثبوت هذه الوصية والعمل بها.

قاله ممليه الفقير إلى الله عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، وكتبه عن أمره أحمد بن محمد بن عبيد، وصدر في 27 محرم سنة 1291.

ونقله من خط أحمد بن محمد بن عبيد بعد معرفته يقينا، وعليه ختم ممليه سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان. وصلى الله على محمد وسلم.

ونقله من خط من سمى نفسه عبد الله بن إبراهيم الربيعي.

فتوى في حق الضيف على أهل القرى والبادية

بسم الله الرحمن الر حيم

الحمد لله. من قام بما يجب عليه للضيف الذي يختص به سقط عنه ما يوضع على البلد من جهة الضيف إذا كان الخارج منه للضيف قدر ما يستحق؛ لوجوب العدل الذي أمر الله به. قاله ممليه عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وكتبه عن أمره حسن بن علي. وصلى الله على محمد وسلم.

بسم الله الرحمن الر حيم

ما ذكره الوالد -رحمه الله تعالى- يلزم العمل بمقتضاه، ولا يجوز لأحد العدول عنه حتى لا يخفى. قاله ممليه محمد بن عبد اللطيف -عفا الله عنه-، ونقله من أصله وعليه ختم كل منهما: سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان. وصلى الله على محمد وسلم.

بسم الله الرحمن الر حيم

ما ورد على أهل البلد من الكلف، كالضيف وشبهه يكون على كل أحد بحسبه، والذي يدفع أكثر من غيره فله الرجوع على غيره، كالرجل المعروف المنصر.

قال ذلك ممليه عبد الرحمن بن عدوان، ونقله من أصله الذي عليه ختم ممليه سليمان بن حمدان. ونقله من خط ناقله من سمى نفسه عبد الله بن إبراهيم الربيعي.

ص: 563

المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية

الشرك الأكبر الذي يحل الدم والمال

جواب مسألة سئل فيها الشيخ عبد العزيز "قاضي الدرعية" ومن حوله من العلماء المسماة "المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية".

فوصل الجواب، واختصر ألفاظ السؤال في كل باب، بل حُذف كثير من ذلك الخطاب، لكن بيت القصيد قد ضمن في الجواب السديد. وصلى الله على محمد النبي الأمي، وآله وصحبه وسلم.

نص الجواب

بسم الله الرحمن الر حيم

الحمد لله رب العالمين، وبه التوفيق، وبيده أزِمَّة الهداية والتحقيق.

"أما المسألة الأولى" وهي السؤال الأول عن الشرك بالله، ما هو الأكبر الذي ذم فاعله؟ وماله حلال لأهل الإسلام، ولا يغفر لمن مات عليه؟ وما هو الأصغر؟

فنقول: قد ذكر العلماء –رحمهم الله تعالى- أن الشرك نوعان: أكبر وأصغر فالأكبر أن يجعل لله ندا من خلقه يدعوه كما يدعو الله، ويخافه كما يخاف الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في الأمور كما يتوكل على الله.

والحاصل أن من سوى بين الله وبين خلقه في عبادته ومعاملته، فقد أشرك بالله، وهو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، كما دل على ذلك قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 1 إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 2.وقال تعالى عن أهل النار: {تاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 قال بعض المفسرين: والله ما سووهم بالله في الخلق والرزق والتدبير،

1 سورة البقرة آية: 165.

2 سورة البقرة آية: 167.

3 سورة الشعراء آية:97، 98.

ص: 564

ولكن سووهم به في المحبة والإجلال والتعظيم. وقال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1 أي يعدلون به في العبادة.

ولهذا اتفق العلماء كلهم على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم فقد كفر؛ لأن هذا كفر عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 2 ثم شهد الله عليهم بالكذب والكفر فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 3 فهذا حال من اتخذ من دون الله أولياء يزعم أنهم يقربونه إلى الله. وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 4.

وقد أنكره الله في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن له أن يشفع فيه، ورضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، فإنه –سبحانه وتعالى يأذن في الشفاعة لهم حيث لم يتخذوا من دونه شفعاء، فيكون أسعد الناس بشفاعة الشفعاء صاحب التوحيد الذي حقق قول: لا إله إلا الله.

والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله هي الشفاعة الصادرة عمن أذن له لمن وحَّده، والشفاعة التي نفاها القرآن هي الشفاعة الشركية التي يظنها المشركون، فيعاملون بنقيض قصدهم، ويفوز بها الموحدون.

فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة- وقد سأله: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: " من قال: "لا إله إلا الله" خالصا من قلبه"5 فجعل أعظم الأسباب التي تنال بها الشفاعة تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين: أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء، وعبادتهم وموالاتهم من دون الله. فأكذب النبي –صلى الله عليه وسلم زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع فيه.

ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذ من دون الله شفيعا أنه يشفع له، وينفعه

1 سورة الأنعام آية: 1.

2 سورة الزمر آية: 3.

3 سورة الزمر آية: 3.

4 سورة يونس آية: 18.

5 البخاري: العلم "99" ، وأحمد "2/373".

ص: 565

كما يكون عند خواص الملوك والولاة، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى في الفصل الثاني:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} 1 وبقي فصل ثالث وهو: أنه ما يرضى من القول والعمل إلا التوحيد، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وعن هاتين الكلمتين يسئل الأولون والآخرون، كما قال أبو العالية: كلمتان يسئل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟

فهذه ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها:

"فالأول" أنه لا شفاعة إلا بإذنه.

"والثاني" أنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله.

"والثالث" أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده، واتباع رسوله.

وقد قطع سبحانه وتعالى الأسباب التي يتعلق بها المشركون قطعا، يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليا أو شفيعا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، فقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 2 فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا فيمن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده.

فنفى سبحانه وتعالى المراتب الأربع نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك والشرك والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه، فكفى بهذه الآية برهانا ونورا وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، {ولكن أكثر الناس لا

1 سورة الأنبياء آية: 28.

2 سورة سبأ آية: 22، 23.

ص: 566

يشعرون}

بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن.

ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية". والشرك وما عابه الله وذمه فإنه يقع فيه ويقره، ويدعو إليه ويصوبه ويحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره، أو شر منه أو دونه.

فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويُبَدَّع الرجل لتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة أهل الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى عيانا. والله المستعان.

والكلام في هذه المسألة يحتاج إلى بسط طويل ليس هذا محله، وإنما نبهناك على ذلك تنبيها يعرف به- كل من نور الله قلبه- حقيقة الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وحرم الجنة على فاعله، ولكن من أعظم أنواعه، وأكثرها وقوعا في هذه الأزمان طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والرحيل إليهم.

وهذا أصل شرك العالم كما ذكره المفسرون عند قوله -تعالى- حكاية عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1 إن هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، كما ذكر البخاري في صحيحه في تفسير سورة نوح عليه السلام، وكما ذكر غيره من أهل العلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

الشرك الأصغر

وأما الشرك الأصغر فَكَيَسِير الرياء والحلف بغير الله كما ذكر عن النبي –صلى الله عليه وسلم

1 سورة نوح آية: 23.

ص: 567

أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 1 ومن ذلك قول الرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده" 2 وهذه اللفظة أحق من غيرها من الألفاظ، وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. وهذا الذي ذكرنا متفق عليه عند العلماء أنه من الشرك الأصغر، كما أن الذي قبله متفق عليه أنه من الشرك الأكبر.

وجوب التوبة من كبير الشرك وصغيره

واعلم أن التوبة مقبولة منهما، ومن سائر الذنوب قطعا، إذا صحت التوبة واستكملت شروطها، لكن ابن عباس رضي الله عنه ومن تبعه قال: لا تقبل توبة القاتل. وقد ناظر ابن عباس رضي الله عنهما أصحابه، وخالفه جمهور العلماء في ذلك، وقالوا: التوبة تأتي على كل ذنب. فكل ذنب يمكن التوبة منه وتقبل. واحتجوا بقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 3 وبقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} 4 فإذا تاب هذا القاتل وآمن وعمل صالحا، فإن الله عزوجل غفار له.

فصل في مراتب الدين

وأما قول السائل: هل للتوحيد والإيمان مرتبتان وحقيقتان ومجازان، يقابل كل واحد واحدة من مراتب الشرك والكفران، ويتعلق بأحدهما دون الآخر النقص والبطلان، ويخرج بفعل بعض قواعد الشرك، أو ترك بعض قواعد التوحيد عن دائرة الإسلام لا دائرة الإيمان، أو بالعكس؟

فاعلم- رحمك الله تعالى- أن العلماء ذكروا أن الدين على ثلاث مراتب:

1 الترمذي: النذور والأيمان "1535"، وأبو داود: الأيمان والنذور "3251" ، وأحمد "2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125".

2 أحمد "1/283".

3 سورة الزمر آية: 53.

4 سورة طه آية: 82.

ص: 568

"المرتبة الأولى" مرتبة الإسلام، وهي المرتبة الأولى التي يدخل فيها الكافر أول ما يتكلم بالإسلام ويذعن وينقاد له.

"المرتبة الثانية" مرتبة الإيمان، وهي أعلى من المرتبة الأولى؛ لأن الله تعالى نفى عمن ادعوها الإيمان أول وهلة، وأثبت لهم الإسلام، فقال تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 1 فأنكر –سبحانه- عليهم ادعاءهم الإيمان، وأخبر أنهم لم يبلغوا هذه المرتبة إذ ذاك.

وفي الحديث الصحيح- حديث سعد- لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا 2 فقال: "أو مسلما"3.

"المرتبة الثالثة" الإحسان، وهي أعلى المراتب كلها، وقد تضمن حديث جبريل عليه السلام هذه المراتب كلها لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فأخبره صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم قال:"هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم"4.

فقد ينفى عن الرجل الإحسان ويثبت له الإيمان، وينفى عنه الإيمان ويثبت له الإسلام، كما في قوله عليه السلام:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" 5 ولا يخرجه عن مرتبة الإسلام إلا الكفر بالله، والشرك المخرج من الملة.

وأما المعاصي والكبائر كالزنى والسرقة وشرب الخمر وأشباه ذلك فلا تخرجه عن دائرة الإسلام عند أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالذنوب، ويحكمون بتخليد فاعلها في النار.

1 سورة الحجرات آية: 14، 15.

2 أي مالك تعرض أو تعدل عن فلان فلا تعطيه؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: "أو مسلما" إضراب يتضمن النهي عن وصفه بالإيمان، وأن يصفه بالإسلام الذي يصدق مهما يكن باطن الرجل. والحديث في الصحيحين.

3 البخاري: الإيمان "27"، ومسلم: الإيمان "150"، والنسائي: الإيمان وشرائعه "4993"، وأبو داود: السنة "4683 ،4685" ، وأحمد "1/176 ،1/182".

4 مسلم: الإيمان "8"، والترمذي: الإيمان "2610"، والنسائي: الإيمان وشرائعه "4990"، وأبو داود: السنة "4695"، وابن ماجه: المقدمة "63" ، وأحمد "1/27 ،1/28 ،1/51".

5 البخاري: المظالم والغصب "2475"، ومسلم: الإيمان "57"، والترمذي: الإيمان "2625"، والنسائي: قطع السارق "4870 ،4871 ،4872" والأشربة "5659 ،5660"، وأبو داود: السنة "4689"، وابن ماجه: الفتن "3936" ، وأحمد "2/243 ،2/317 ،2/386"، والدارمي: الأشربة "2106".

ص: 569

واحتج أهل السنة والجماعة على ذلك بحجج كثيرة من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، فمن ذلك ما رواه محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور: حدثنا إسحاق بن إبراهيم: حدثنا وهب بن جرير بن حازم: حدثنا أبي عن الفضل عن أبي جعفر محمد بن علي أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"1.

فقال أبو جعفر: هذا الإسلام ودونه دائرة واسعة، وهذا الإيمان ودونه دائرة صغيرة في وسط الكبيرة، فإذا زنى أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام إلى الكفر بالله. انتهى.

قال: وإن الله تعالى جعل اسم الإيمان اسم ثناء وتزكية، ومدحه، وأوجب عليه الجنة فقال:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 2 وقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 3 وقال: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} 4 وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} 5 وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 6 الآية. قالوا: وقد توعد الله بالنار أهل الكبائر، فدل ذلك على أن اسم الإيمان زال عمن أتى بكبيرة، قالوا: ولم نجده تعالى أوجب الجنة باسم الإسلام، فثبت أن اسم الإسلام باق على حاله، واسم الإيمان زائل عنه.

الكفر ضد أصول الإيمان

فإن قيل: أليس ضد الإيمان الكفر؟.

"فالجواب" أن الكفر ضد أصل الإيمان؛ لأن الإيمان له أصول وفروع، فلا يثبت الكفر حتى يزول أصل الإيمان الذي هو ضد الكفر، فإن قيل: الذي زعمتم أن النبي –صلى الله عليه وسلم أزال عنهم اسم الإيمان، هل بقي معهم من الإيمان شيء؟

قيل: نعم أصله ثابت، ولولا ذلك لكفَّرهم.

1 البخاري: المظالم والغصب "2475"، ومسلم: الإيمان "57"، والترمذي: الإيمان "2625"، والنسائي: قطع السارق "4870 ،4871 ،4872" والأشربة "5659 ،5660"، وأبو داود: السنة "4689"، وابن ماجه: الفتن "3936" ، وأحمد "2/243 ،2/317 ،2/386"، والدارمي: الأشربة "2106".

2 سورة الأحزاب آية: 43، 44.

3 سورة يونس آية: 2.

4 سورة الحديد آية: 12.

5 سورة البقرة آية: 257.

6 سورة التوبة آية: 72.

ص: 570

فإن قيل: كيف أمسكتم عن اسم الإيمان أن تسموا به الفاسق، وأنتم تزعمون أن أصل الإيمان معه، وهو التصديق بالله ورسوله؟.

"قلنا": لأن الله ورسوله وجماهير المسلمين يسمون الأشياء بما علمت عليها من الأسماء، فيسمون الزاني فاسقا، والقاذف فاسقا، وشارب الخمر فاسقا، ولم يسموا واحدا من هؤلاء تقيا ولا ورعا، وقد أجمع المسلمون أن فيه أصل التقوى والورع، وذلك أنه يتقي أن يكفر أو يشرك بالله، وكذلك يتقي أن يترك الغسل من الجنابة والصلاة، ويتقي أن يأتي أمه فهو في جميع ذلك يتقي 1.

وقد أجمع المسلمون من الموافقين والمخالفين أنه لا يسمى تقيا ولا ورعا إذا كان يأتي بالفجور، مع أن أصل التقوى والورع نفاه الله يزيد فيه 2.

من دعاء بعد الأصل كتورعه عن إتيان المحارم، ثم لا يسمونه تقيا ولا ورعا مع إتيانه ببعض الكبائر، بليسمونه فاسقا وفاجرا مع علمهم أنه قد نفى بعض التقوى والورع، فمنعهم من ذلك أن اسم التقي اسم ثناء وتزكية، وأن الله قد أوجب عليهم المغفرة والجنة. قالوا: فلذلك لا نسميه مؤمنا، ونسميه فاسقا وزانيا، وإن كان في قلبه أصل الإيمان؛ لأن اسم الإيمان أصل أثنى الله به على المؤمنين، وزكاهم به، وأوجب لهم الجنة.

ثم قال: مسلم ولم يقل ومن قالوا: ولو كان أحد من المسلمين الموحدين يستحق أن لا يكون في قلبه إيمان وإسلام لكان أحق الناس به أهل النار الذين يخرجون منها؛ لأنه صح عن النبي –صلى الله عليه وسلم أن الله يقول: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"3 فثبت أن شر المسلمين في قلبه إيمان.

ولما وجدنا الأمة تحكم بالأحكام التي ألزمها الله المسلمين، ولا يكفرونهم، ولا يشهدون لهم بالجنة؛ ثبت أنهم مسلمون يجري عليهم أحكام المسلمين، وأنهم لا يستحقون أن يسموا مؤمنين

1 الكلام هنا غير منسق. فلعله سقط منه شيء.

2 بياض في الأصل.

3 البخاري: الإيمان "22"، ومسلم: الإيمان "184" ، وأحمد "3/56".

ص: 571

إذا كان الإسلام مثبتا للملة التي يخرج بها المسلم من جميع الملل، ويزول عنه اسم الكفر، ويثبت له أحكام المسلم.

الفرق بين المسلم والمؤمن

والمقصود معرفة ما قدمناه من أن للدين ثلاث مراتب: أولها الإسلام، وأوسطها الإيمان، وأعلاها الإحسان، ومن وصل إلى العليا، فقد وصل إلى التي قبلها، فالمحسن مؤمن مسلم، والمؤمن مسلم، وأما المسلم فلا يلزم أن يكون مؤمنا.

وهذا التفصيل الذي أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل جاء به القرآن، فجعل الأمة على هذه الأصناف الثلاثة، فقال تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1 الآية.

فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه، والمقتصد هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك المحرم، والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه. وقد ذكر الله سبحانه تقسيم الناس في المعاد إلى هذه الأقسام الثلاثة في سورة الواقعة والمطففين وهل أتى.

وقال أبو سليمان الخطابي -رحمه الله تعالى-: فأكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة. فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل. واحتج بالآية. وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، واحتج بقوله:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2 قال: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق.

وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال، ولا يكون مؤمنا في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات، واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها.

قال الشيخ تقي الدين: والذي اختاره الخطابي هو قول من فرق بينهما، كأبي جعفر وحماد بن زيد وعبد الرحمن بن مهدي، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره،

1 سورة فاطر آية: 32.

2 سورة الذاريات آية: 35.

ص: 572

وما علمت أحدا من المتقدمين خالف هؤلاء، وجعل نفس الإسلام نفس الإيمان. وكان عامة أهل السنة على هذا الذي قاله هؤلاء كما ذكره الخطابي.

وكذلك ذكر أبو القاسم التيمي الأصبهاني، وابنه محمد شارح مسلم وغيرهما: أنه المختار عند أهل السنة، وأنه لا يطلق على السارق والزاني اسم مؤمن كما دل عليه النص 1.

فصل في تفاضل الناس في التوحيد ولوازمه

إذا تمهدت هذه القاعدة تبين لك أن الناس يتفاضلون في التوحيد تفاضلا عظيما، ويكونون فيه على درجات بعضها أعلى من بعض؛ فمنهم من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما دلت عليه النصوص الصريحة الصحيحة، ومنهم من

1 وقال بعض العلماء: إن نفي الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر معناه أنه في حال تلبسه بما ذكر لا يكون متلبسا بالإيمان بتحريم الله له، كما يدل عليه تقييده بقوله صلى الله عليه وسلم: حين يزني وحين يشرب وحين يسرق. أي: بل يكون غافلا عنه، وقال بعضهم: المراد به نفي الإيمان الكامل، وهو الذي بينه في آخر سورة الحجرات، وأول سورة الأنفال، وفي سور أخرى، فهذا هو الذي ينافي الفسق وارتكاب الكبائر، وقد قال الله تعالى في سورة الحجرات:"وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي".. الآية. فأطلق لقب المؤمنين على المتقاتلين حتى الباغية منهما.

وأما الإسلام فهو العمل بالشريعة، فإن كان اعتقادا قطعيا -وهو الإيمان- كان إسلاما صحيحا، وإلا كان نفاقا ولم يكن إسلاما إلا في الظاهر؛ لأن الإيمان بالاعتقاد الجازم أمر باطني لا يعلمه حق العلم إلا الله –تعالى-، وله آيات ودلائل ذكرت في مواضع من القرآن كما تقدم، والمعصية لا تبطله، وإن كانت كبيرة إلا بالاستحلال، بشرطه الذي تقدم بيانه في رسائل العلامة أبا بطين وحواشيها، وإنما تنافي كماله. وفي الإصرار خطر لا محل لبيانه هنا.

ص: 573

يدخل النار وهم العصاة، ويمكثون فيها على قدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها؛ لأجل ما في قلوبهم من التوحيد والإيمان، وهم في ذلك متفاوتون كما في الحديث الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم "أخرجوا من النار من قال:"لا إله إلا الله" وفي قلبه من الخير ما يزن برة" -وفي لفظ: "شعيرة"، وفي لفظ: "ذرة"، وفي لفظ: حبة خردل - من إيمان" 1

ومن تأمل النصوص تبين له أن الناس يتفاضلون في التوحيد والإيمان تفاضلا عظيما، وذلك بحسب ما في قلوبهم من الإيمان بالله، والمعرفة الصادقة والإخلاص واليقين. والله سبحانه وتعالى أعلم.

فصل في دار الكفر ودار الإيمان

وأما السؤال الثاني وهو قولكم: من لم تشمله دائرة إمامتكم، ويتسم بسمة دولتكم، هل داره دار كفر وحرب على العموم.. الخ؟

فنقول وبالله التوفيق: الذي نعتقده وندين الله به أن من دان بالإسلام، وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما عنه نهى وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم نكفر أحدا دان بالإسلام؛ لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفر الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده، فقد كذب وافترى.

وأما من بلغته دعوتنا إلى توحيد الله، والعمل بفرائض الله، وأبى أن يدخل في ذلك، وأقام على الشرك بالله، وترك فرائض الإسلام، فهذا نكفره، ونقاتله، ونشن عليه الغارة.

وكل من قاتلناه فقد بلغته دعوتنا، بل الذي نتحققه ونعتقده أن أهل اليمن وتهامة والحرمين والشام والعراق قد بلغتهم دعوتنا، وتحققوا أنا نأمر بإخلاص الدين والعبادة لله، وننكر ما عليه أكثر الناس من الإشراك بالله من دعاء غير الله،

1 البخاري: الإيمان "44"، ومسلم: الإيمان "193"، والترمذي: صفة جهنم "2593"، وابن ماجه: الزهد "4312" ، وأحمد "3/116 ،3/173 ،3/247 ،3/276".

ص: 574

والاستغاثة به عند الشدائد، وسؤالهم قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات. وأنا نأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر أمور الإسلام، وننهى عن الفحشاء والمنكرات، وسائر الأمور المبتدعات.

ومثل هؤلاء لا يجب دعوتهم قبل القتال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وغزا أهل مكة بلا إنذار ولا دعوة.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه يوم خيبر- لما أعطاه الراية- وقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام"1 فهو عند أهل العلم على الاستحباب. وأما إذا قدرنا أن أناساً لم تبلغهم دعوتنا، ولم يعلموا حقيقة أمرنا، أن الواجب دعوتهم أولا قبل القتال، فيدعون إلى الإسلام، وتكشف شبهتهم إن كان لهم شبهة، فإن أجابوا فإنه يقبل منهم، ثم يكف عنهم، فإن أبوا حلت دماؤهم وأموالهم.

فصل في الهجرة من دار الكفر

وأما قولكم: من أجاب الدعوة، وحقق التوحيد، وتبرأ من الشرك. هل تلزمه الهجرة، وإن لم يكن له قدرة؟

"فنقول": الهجرة تجب على كل مسلم لا يقدر على إظهار دينه ببلده إن كان قادرا على الهجرة، كما دل على ذلك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 2.

وأما من لم يقدر على الهجرة فقد استثناهم الله تعالى بقوله: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} 3 الآية.

فصل في الإيمان بالمعنى اللغوي والمعنى الشرعي

وأما السؤال الثالث، وهو قولكم: قد ورد: "الإسلام يهدم ما قبله" 4 وفي رواية: "يجب ما قبله"، وفي حديث حجة الوداع:"ألا إن دم الجاهلية كله موضوع"5 الخ..

1 البخاري: الجهاد والسير "2942"، ومسلم: فضائل الصحابة "2406" ، وأحمد "5/333".

2 سورة النساء آية: 97.

3 سورة النساء آية: 98.

4 مسلم: الإيمان "121" ، وأحمد "4/204".

5 الترمذي: تفسير القرآن "3087"، وأبو داود: البيوع "3334"، وابن ماجه: المناسك "3055".

ص: 575

وظهر لنا من جوابكم أن المؤمن بالله ورسوله إذا قال أو فعل ما يكون كفرا جهلا منه بذلك، فلا تكفرونه حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله قبل ظهور هذه الدعوة موضوع أم لا؟.

فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك لجهله وعدم من ينبهه لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة، ولكن نحكم بأنه مسلم، بل نقول: عمله هذا كفر يبيح المال والدم، وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص لعدم قيام الحجة عليه، لا يقال: إن لم يكن كافرا فهو مسلم. بل نقول: عمله عمل الكفار. وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه متوقف على بلوغ الحجة الرسالية إليه..

وقد ذكر أهل العلم أن أصحاب الفترات يمتحنون يوم القيامة في العرصات ولم يجعلوا حكمهم حكم الكفار ولا حكم الأبرار. وأما حكم هذا الشخص إذا قتل، ثم أسلم قاتله، فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول: الإسلام يجب ما قبله؛ لأن القاتل قتله في حال كفره والله أعلم.

وأما كلام أسعد على قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1 إنه الإيمان اللغوي الشرعي، فهو مصيب في ذلك، وقد ذكر المفسرون أن معنى قوله:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2 أن إيمانهم إقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، ثم إنهم مع هذا الإيمان بتوحيد الربوبية مشركون بالله في العبادة. ومعلوم أن مشركي العرب وغيرهم يؤمنون بالله رب كل شيء ومليكه، وأن بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، ولم تنفعهم هذه الاعتقادات حيث عبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه، بل نجد الرجل يؤمن بالله ورسوله وملائكته وكتبه ورسله وما بعد الموت، فإذا فعل نوعا من المكفرات حكم أهل العلم بكفره وقتله، ولم ينفعه ما معه من الإيمان.

وقد ذكر الفقهاء من أهل كل مذهب "باب حكم المرتد" وهو الذي يكفر

1 سورة يوسف آية: 106.

2 سورة يوسف آية: 106.

ص: 576

بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعا كثيرة من فعل واحدا منها كفر

وإذا تأملت ما ذكرناه تبين لك أن الإيمان الشرعي لا يجامع الكفر بخلاف الإيمان اللغوي. والله أعلم.

وأما قولكم: وهل ينفع هذا المؤمن المذكور ما يصدر منه من أعمال البر وأفعال الخير قبل تحقيق التوحيد.

فيقال: لا يطلق على الرجل المذكور اسم الإسلام فضلا عن الإيمان، بل يقال: الرجل الذي يفعل الكفر أو يعتقده في حال جهله وعدم من ينبهه إذا فعل شيئا من أفعال البر وأفعال الخير؛ أثابه الله على ذلك إذا صحح إسلامه وحقق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم ابن حزام:"أسلمت على ما أسلفت من خير"1.

وأما الحج الذي فعله في تلك الحالة فلا نحكم ببراءة ذمته به، بل نأمره بإعادة الحج؛ لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة، والحج من شرط صحته الإسلام، فكيف يحكم بصحة حجه وهو يفعل الكفر أو يعتقده؟ ولكنا لا نكفره لعدم قيام الحجة عليه، فإذا قامت عليه الحجة، وسلك غير سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج؛ ليسقط الفرض عنه بيقين.

وأما ما ذكرته عن السيوطي أن الردة لا تنقض الأعمال إن لم تتصل فهي مسألة اختلف العلماء فيها، وليست من هذا الباب؛ لأن كلام السيوطي فيمن فعل شيئا من الأعمال في حال إسلامه، ثم ارتد، ثم أسلم، هل يعيد ما فعله قبل ردته؛ لأنه قد حبط بالردة أم لا؟ لأن الردة لا تحبط العمل إلا بالموت عليها؟

فصل في المصافحة بالأيدي والمعانقة وتقبيل اليد

وأما السؤال الرابع عن المصافحة بالأيدي والمعانقة وتقبيل اليد. فالمصافحة حسنة مرغب فيها، والمعانقة لا بأس بها.

وأما تقبيل اليد فورد فيها أحاديث تدل على ذلك، واعتقاده في حق البعض،

1 البخاري: الزكاة "1436"، ومسلم: الإيمان "123" ، وأحمد "3/402 ،3/434".

ص: 577

وبعض الأحيان دون بعض، وأما المداومة على ذلك واعتقاده سنة؛ فليس في الأحاديث ما يدل على ذلك، ونحن لم ننه الناس عن تقبيل اليد على الوجه الوارد في الأحاديث، بل ننهاهم عن الواقع منهم على خلاف ذلك؛ فإنهم يقبلون أيدي السادة الذين يعتقدون فيهم السر، ويرجون منهم البركة، ويجعلون التقبيل من باب الذل والانحناء المنهي عنه، وصار ذريعة إلى الشرك بالله. والشرع قد ورد بسد الذرائع.

فصل في حلق شعر الرأس

وأما السؤال الخامس عن حلق شعر الرأس:

فالذي تدل عليه الأحاديث النهي عن حلق بعضه وترك بعضه، فأما تركه كله فلا بأس به إذا أكرمه الإنسان كما دلت عليه السنة الصحيحة.

وأما حديث كليب، فهو يدل على الأمر بالحلق عند دخوله في الإسلام إن صح الحديث، ولا يدل على أن استمرار الحلق سنة.

وأما تعزير من لم يحلق وأخذ ماله فلا يجوز، وينهى فاعله عن ذلك؛ لأن ترك الحلق ليس منهيا عنه، وإنما نهى عنه ولي الأمر؛ لأن الحلق هو العادة عندنا، ولا يتركه إلا السفهاء عندنا 1 فنهى عن ذلك نهي تنزيه، لا نهي تحريم سدا للذريعة؛ ولأن كفار زماننا لا يحلقون؛ فصار في عدم الحلق تشبها بهم 2.

1 قوله: السفهاء: مراده رحمه الله أن الذي يتركه ويعزره ما مقصوده السنة، بل مقصوده الجمال ليعشقه المردان وربات الحجال ويتبعه الفسقة والأرذال اهـ من حاشية الأصل.

2 فيه أن الكفار إذا فعلوا فعلا مشروعا في الإسلام لا يصح لنا أن نتركه؛ لئلا يكون تشبها، لأننا إنما نفعله لأنه مشروع عندنا وهم المتشبهون بنا، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل شعره ويفرقه، وأنه لم يحلقه إلا في النسك، فلا ينبغي أن يتركه أهل العلم والدين ليصير شعارا للسفهاء أو الكافرين.

ص: 578

فصل في فضائل أهل بيت النبي

وأما السؤال السادس فيما ورد في فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

فنقول: قد صح في فضائل أهل البيت أحاديث كثيرة.

وكثير من الأحاديث التي يرويها من صنف في فضائل أهل البيت أكثرها لا يصححها الحفاظ، وفيما صح من ذلك كفاية.

وأماقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 1 وقول من قال: إن الإرادة صفة أزلية لا تتبدل، وأن "إنما" للحصر وغير ذلك.

فنقول: قد ذكر أهل العلم أن الآية لا تدل على عصمتهم من الذنوب، يدل على ذلك أن أكابر أهل البيت كالحسن والحسين وابن عباس لم يدعوا لأنفسهم العصمة، ولا استدل أحد منهم بهذه الآية على عصمتهم 2.

وقد ذكر العلماء أن الإرادة في كتاب الله تعالى على نوعين: إرادة قدرية وإرادة شرعية، فالإرادة القدرية لا تبدل ولا تغير، والإرادة الشرعية قد تغير وتبدل.

فمن الأول قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا} 3 وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً

1 سورة الأحزاب آية: 33.

2 بل كان بعضهم يخالف بعضا في الأحكام الشرعية كمخالفة الحسن في ترك الإمامة لمعاوية، وكذا مخالفة الحسين في الخروج على يزيد. فهؤلاء خيارهم بالإجماع، وأما من بعدهم فقد كان منهم غلاة الباطنية المارقون من الإسلام، الذين يكيدون له ويدعون إلى تركه وعداوة أهله، والذين يذكرون الحصر في الآية لا يفهمون معناه، وهو ما بيناه في الحاشية في صفحة 582، ولو كانت الآية تدل على العصمة لوجب أن تقول الشيعة بعصمة أزواجه صلى الله عليه وسلم بالأولى، وأفضلهن عائشة التي يبغضونها، ويخطئونها كما نخطئها في حرب الجمل.

3 سورة الإسراء آية: 16.

ص: 579

فَلا مَرَدَّ لَهُ} 1

وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} 2 الآيتين.

ومن الثاني قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 3 وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 4 كقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} 5 وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 6 وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 7 فإن إرادة الله في هذه الآية متضمنة لمحبة الله، فذلك المراد رضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به ليس في ذلك خلف هذا المراد، ولا أنه قضاؤه وقدره.

والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا "8 فطلب من الله تعالى إذهاب الرجس والتطهير عنهم 9.

فلو كانت الآية تقتضي إخبار الله بأنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم لم يحتج إلى الطلب والدعاء، وهذا على قول القدرية أظهر، فإن إرادة الله تعالى عندهم لا تتضمن وجوب المراد، بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد، فليس في قوله تعالى:{يُرِيدُ} 10 ما يدل على وقوعه.

ومن العجب أن الشيعة يحتجون بهذه الآية على عصمة أهل البيت، ومذهبهم في القدر من جنس مذهب القدرية الذين يقولون: إن الله قد أراد إيمان كل من على وجه الأرض، فلم يقع مراده.

الإرادة في كتاب الله

وأما على قول أهل السنة والتحقيق فما تقدم، وهو أن يقال: الإرادة في كتاب الله تعالى نوعان: إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه، وإرادة كونية

1 سورة الرعد آية: 11.

2 سورة القصص آية: 5.

3 سورة النساء آية: 26، 27.

4 سورة الأحزاب آية: 33.

5 سورة المائدة آية: 6.

6 سورة البقرة آية: 185.

7 سورة النساء آية: 26.

8 الترمذي: تفسير القرآن "3205".

9 كذا في الأصل ولعل أصله الصحيح: إذهاب الرجس عنهم والتطهير لهم.

10 سورة النساء آية: 26.

ص: 580

تتضمن خلقه وتقديره "فالأولى" كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 1 "والثانية" كقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} 2 الآية. وقوله تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3 ومثل ذلك كثير في القرآن.

فالله تعالى قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين ويطهرهم وفيه 4 من تاب، وفيه من لم يتب، وفيه من تطهر، وفيه من لم يتطهر، فإذا كانت الآية ليس فيها دلالة على وقوع ما أراده من التطهير وإذهاب الرجس؛ لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه هؤلاء.

ومما يبين ذلك أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مذكورات في الآية، فقد قال تعالى:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} 5 إلىقوله: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} 6 فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه الأمر والنهي والوعد والوعيد.

لكن لما كان ما ذكره سبحانه يعمّهن، ويعمّ غيرهن من أهل البيت جاء بلفظ التزكية فقال:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 7 والذي يريد الله من حصول 8 الرجس وحصول التطهير.

فهذا الخطاب وغيره ليس مختصا بأزواجه، بل هو يتناول أهل البيت كلهم، وعلي

1 سورة النساء آية: 26.

2 سورة الأنعام آية: 125.

3 سورة هود آية: 34.

4 قوله: وفيه. لعل أصله وفيهم، وكذا ما بعده.

5 سورة الأحزاب آية: 30، 31.

6 سورة الأحزاب آية: 33، 34.

7 سورة الأحزاب آية: 33.

8 كذا في الأصل والظاهر أنه سبق قلم أو سهو من الناسخ والأصل: إذهاب الرجس.

ص: 581

وفاطمة والحسن والحسين أخص من غيرهم بذلك، خصصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم 1.

وهذا كما أن قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} 2 نزل بسبب مسجد قباء، ولكن الحكم يتناوله، ويتناول ما هو أحق منه بذلك، وهو مسجد المدينة.

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: "هو مسجدي هذا" 3 وفي الصحيح أنه كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكبا وماشيا، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي قباء يوم السبت، وكلاهما مؤسس

1 التحقيق أن هذه الآيات كلها في نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وإنما ذكر الضمير في "عنكم"، "ويطهركم" تغليبا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أعاد الخطاب لهن بعد هذه الآية، وهي تعليل لما في الآيات من الأوامر والنواهي، والوعد بمضاعفة الثواب، والوعيد بمضاعفة العقاب. والمعنى: إنما يريد الله بما ذكر من أمر ونهي ووعد ووعيد وترغيب وترهيب؛ أن يطهر هذا البيت المنسوب إلى رسوله من كل رجس، ودنس، وعار يمكن أن يمسه عاره بارتكاب أحد منكن لما نهاكن عنه، وترك ما أمركن به. فهذه الإرادة في الطهارة المعنوية كقوله تعالى في الطهارة الحسية بعد الأمر بالوضوء والغسل:{ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} وما ورد في الدعاء لعلي وفاطمة وولديهما، أو الخبر بكونهم من أهل بيته؛ فمعناه أنهم يدخلون في عموم لفظ أهل البيت الوارد في نسائه صلى الله عليه وسلم فيجب عليهم مما جعله الله سببا للتطهير في الآيات التي خاطب بها نساءه، على القاعدة الأصولية المعروفة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وفي حديث أم سلمة إشكال؛ لأنه يخالف ظاهر الآيات التي هي نص في الأزواج الطاهرات، وأم سلمة منهم، فهي داخلة في منطوقها أوليا، وظاهر الحديث أن إرادة التطهير قدرية تكوينية لا أنها أثر لامتثال تلك الأوامر والنواهي المعللة بها، فليراجع سنده، فلعل فيه بعض الشيعة المحرفين للآية.

2 سورة التوبة آية: 108.

3 مسلم: الحج "1398"، والترمذي: الصلاة "323"، والنسائي: المساجد "697" ، وأحمد "3/8 ،3/23 ،3/24 ،3/91".

ص: 582

على التقوى، وهكذا أزواجه وعلي وفاطمة والحسن والحسين كلهم من أهل البيت. لكن علي وفاطمة والحسن والحسين أخص بذلك من أزواجه، فلهذا خصصهم بالدعاء 1.

فصل في آل النبي أهل بيته بالقرابة وأزواجه

وأما قولكم: ومن يطلق عليه اسم الآل؟

فنقول: قد تنازع العلماء في آل محمد من هم؟ فقيل: هم أمته. وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم، وقيل: المتقون من أمته. ورووا حديثا: "آل محمد كل تقي" رواه الخلال، وتمام في فوائده، وهو حديث لا أصل له. والصحيح: أن آل محمد هم أهل بيته. وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد، لكن هل أزواجه من آله؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد. والصحيح أن أزواجه من آله، فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي –صلى الله عليه وسلم أنه علمهم الصلاة عليه:"اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته" 2 ولأن امرأة إبراهيم عليه السلام من آله وأهل بيته، وامرأة لوط من آله وأهل بيته. والآية المذكورة تدل على أنهن من أهل بيته.

وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه، كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، إن وليي الله وصالح المؤمنين" 3 فأولياؤه

1 هذا خلاف المتبادر كما علم مما تقدم، ومن الضروري المعلوم بالفطرة والخبرة أن ما يلحق الرجل من العار بعدم طهارة أزواجه أقوى مما يلحقه بعدم طهارة صهره وأسباطه وأحفاده، فلهذا أورد نص الآيات في الأزواج الطاهرات وافتتحت بقوله تعالى:{يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن} فهذا تفضيل صريح لهن، وهذا لا ينافي كون السيدة فاطمة عليها السلام أفضل منهن بكونها بضعة منه صلى الله عليه وسلم، وبشخصها أيضا، وكذا ولداها وبعلها عليهم السلام والرضوان-.

2 البخاري: أحاديث الأنبياء "3369"، ومسلم: الصلاة "407"، والنسائي: السهو "1294"، وأبو داود: الصلاة "979"، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "905" ، وأحمد "5/424"، ومالك: النداء للصلاة "397".

3 مسلم: الإيمان "215" ، وأحمد "4/203".

ص: 583

المتقون بينه وبينهم قرابة الدين والإيمان والتقوى، والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان، وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر.

ومن كان فاضلا منهم كعلي رضي الله عنه وجعفر والحسن والحسين وابن عباس، فتفضيلهم بما فيهم من الإيمان والتقوى، وهم أولياؤه بهذا الاعتبار لا مجرد النسب. فأولياؤه قد يكونون أعظم درجة من آله، وأنه وإن أمر بالصلاة على آله تبعا لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه، وهم أفضل من أهل بيته، وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعا، فالمفضول قد يختص بأمر، ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل. وأزواجه ممن يصلى عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين.

وقد ثبت باتفاق العلماء كلهم أن الأنبياء أفضل منهم، والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.

"تمت الأجوبة السنية عن الأسئلة الحفظية"

ص: 584