الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني الإيمان
للفظ الإيمان في الشرع إطلاقان:
الإطلاق الأول: أن يطلق على الإفراد، فيذكر غير مقترن بذكر الإسلام، فيراد به حينئذ: الدين كاملًا (الاعتقادات، والأقوال، والأعمال).
ومن الأدلة على ذلك: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 2 - 4]، وما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس:"آمركم بأربع: الإيمان بالله، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم"، وما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا:"الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" متفق عليه.
فذكر الله تعالى في الآية السابقة اتصاف المؤمنين بالوجل عند ذكر الله تعالى - وهو الخوف -، وذكر فيها زيادة إيمانهم القلبي عند تلاوة القرآن عليهم، والإيمان القلبي هو التصديق، فهو يشمل الاعتقاد كله، وذكر فيها: اتصاف المؤمنين بالتوكل على الله تعالى، والخوف والتوكل من أعمال القلوب.
والحديثان ذكر فيهما كثيرٌ من الأقوال، وأعمال الجوارح.
فهذه النصوص تدل بمجموعها على أن الإيمان عند ذكره غير مقرون بذكر الإسلام يشمل الدين كله، فيشمل كل طاعة، سواء كانت من أعمال القلوب أو من أعمال اللسان، أو من أعمال الجوارح، بل ويشمل ترك المحرم والمكروه إذا قصد به وجه الله تعالى، وتسمى هذه الأعمال "شعب الإيمان"، كما في حديث أبي هريرة السابق.
والإيمان بهذا الإطلاق "قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح"، فهو قول ونية وعمل، والعمل ركن في الإيمان لا يصح الإيمان إلا به، وهذا كله مجمع عليه بين أهل السنة والجماعة، فمن ترك العمل بجميع ما أوجبه الله تعالى، فقد خرج من الإيمان بالكلية، وأصبح من عداد الكافرين بالإجماع.
وعليه فإن من ذهب إلى أن العمل ليس بركن في الإيمان، وإنما هو من كماله الواجب أو المستحب قد أخطأ في ذلك خطئًا بينًا، وخالف ما دلت عليه النصوص الشرعية وما أجمع عليه أهل السنة والجماعة كما سبق، وقال بقول من أقوال "مرجئة الفقهاء"
(1)
.
(1)
مرجئة الفقهاء يقولون: إن الإيمان هو التصديق بالقلب والنطق باللسان فقط، ويرون أن الأعمال إنما هي شرائع الإيمان، فهو سبب لها، لكنها ليست لازمة له، فليست شرطًا لصحته ولا جزءًا من ماهيته، ولهذا يرون أن الإيمان لا يتفاضل، وإن كانوا يرون أن من توفاه الله جل وعلا وهو مصر على كبيرة من كبائر الذنوب أنه يعذب في الآخرة إن لم يعف الله تعالى عنه.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن أكثر المسائل التي خالف فيها مرجئة الفقهاء الخلاف فيها لفظي، وما كان منها غير لفظي، كقولهم: إن تارك جنس العمل لا يكفر، لأن العمل عندهم ليس شرط صحة للإيمان، وكقولهم: إن الكفر لا يكون بالقول ولا بالفعل حتى يصحبه كفر =
الإطلاق الثاني للإيمان: أن يطلق الإيمان مقرونًا بذكر الإسلام، فحينئذ يفسر الإيمان بالاعتقادات الباطنة، كما في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
= قلبي، فخلافهم وقولهم في هذه المسألة ليس كقول جهم، ومن تبعه من غلاة المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان يكون بالمعرفة وحدها، وأن المصر على كبائر الذنوب من الموحدين، لا يعذب في الآخرة، ولا يدخل النار أبدا. وليس كقول أبي موسى الماتريدي المتوفى سنة 323 هـ ومن تبعه من غلاة المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان يكون بالاعتقاد وحده.
قال الإمام ابن تيمية في كتاب الإيمان ص 262 - وهو في مجموع الفتاوى 7/ 297 - : "ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء، كحماد بن أبي سليمان - وهو أول من قال ذلك - ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم، متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد، وإن قالوا: إن إيمانهم كامل، كإيمان جبريل، فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقًا للذم والعقاب، كما تقوله الجماعة، ويقولون أيضًا: بأن من أهل الكبائر من يدخل النار، كما تقوله الجماعة
…
ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار، كالخوارج والمعتزلة، وقول غلاة المرجئة، الذين يقولون: ما نعلم أن أحدًا منهم يدخل النار، بل نقف في هذا كله، وحكي عن بعض غلاة المرجئة: الجزم بالنفي العام"، وقال الإمام ابن تيمية أيضا كما في المرجع نفسه ص 345 - وهو في مجموع الفتاوى 7/ 394 - : "دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين، ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدًا من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، فإن كثيرًا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب". وبعض أهل العلم كالذهبي وابن أبي العز يرون أن خلاف مرجئة الفقهاء لفظي، والأقرب أن بعضه معنوي، ولكن ليس كقول غلاة الجهمية، كما سبق. ينظر: أصول الدين عند أبي حنيفة ص 455 - 458.
ولذلك فإنه ينبغي أن لا يجعل الخلاف في هذه المسائل سببًا للفرقة والتشاحن والعداوة بين أهل السنة، وإنما يجب على أهل العلم من أهل السنة بيان الحق في هذه المسائل لمن أخطأ فيها وسلك فيها مسلك مرجئة الفقهاء، يبينون لهم ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، كما أمرهم ربهم جل وعلا. والله المستعان.