الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهدى الله أهل السنة والجماعة للقول الوسط في هذا الباب، والذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بجميع أسماء الله وصفاته الثابتة في النصوص الشرعية، فيصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به أعرف الخلق به رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل ولا تأويل ومن غير تمثيل ولا تكييف، ويؤمنون بأنها صفات حقيقية، تليق بجلال الله تعالى، ولا تماثل صفات المخلوقين، عملًا بقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
الأصل الثاني: باب القضاء والقدر:
توسط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين القدرية والجبرية.
فالقدرية نفوا القدر، فقالوا: إن أفعال العباد وطاعاتهم ومعاصيهم لم تدخل تحت قضاء الله وقدره، فالله تعالى على زعمهم لم يخلق أفعال العباد ولا شاءها منهم، بل العباد مستقلون بأفعالهم، فالعبد على زعمهم هو الخالق لفعله، وهو المريد له إرادة مستقلة، فأثبتوا خالقًا مع الله سبحانه، وهذا إشراك في الربوبية، ففيهم شبه من المجوس الذين قالوا بأن للكون خالقين، فهم (مجوس هذه الأمة).
والجبرية غلوا في إثبات القدر، فقالوا: إن العبد مجبور على فعله، فهو كالريشة في الهواء لا فعل له ولا قدرة ولا مشيئة.
فهدى اللهُ أهلَ السنة والجماعة للقول الحق والوسط في هذا الباب، فأثبتوا أن العباد فاعلون حقيقة، وأن أفعالهم تُنسب إليهم على جهة الحقيقة، وأن فعل العبد واقع بتقدير الله ومشيئته وخلقه، فالله تعالى خالق العباد وخالق
أفعالهم، كما قال سبحانه:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]. كما أن للعباد مشيئة تحت مشيئة الله، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 29].
ومع ذلك فقد أمر الله العباد بطاعته، وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المتقين، ولا يرضى عن الفاسقين، وقد أقام الله الحجة على العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فمن أطاع، أطاع عن بينة واختيار، فيستحق الثواب الحسن، ومن عصى، عصى عن بينة واختيار، فيستحق العقاب {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46].
فأهل السنة يؤمنون بمراتب القضاء والقدر الأربع الثابتة في الكتاب والسنة، وهي:
1 -
علم الله المحيط بكل شيء، وأنه تعالى عالم بما كان وما سيكون، وبما سيعمله الخلق قبل أن يخلقهم.
2 -
كتابة الله تعالى لكل ما هو كائن في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
3 -
مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وكل ما يقع في هذا الوجود قد أراده الله قبل وقوعه.
4 -
إن الله خالق كل شيء، فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته، وكل ساكن وسكونه.
وقد نظم بعضهم هذه المراتب بقوله:
علم كتابة مولانا مشيئته
…
كذاك خلقٌ وإيجادٌ وتكوين
ومن أهم مسائل القضاء والقدر التي يجب على المسلم أن يؤمن بها: أن يؤمن بأن جميع ما قدره الله تعالى حكمة وعدل، وقد ثبت عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا"، قال: فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: "بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها"، فهو تعالى يقدر الخير والشر لحكم عظيمة يعلمها، والشر بالنسبة إلى تقديره تعالى حكمة وعدل، فالشر المحض ليس إليه تعالى
(1)
.
ويدخل في ذلك المعاصي والطاعات، فإن الله تعالى بفضله يوفق المطيع لفعل الطاعة، وبعدله يكل من يشاء من خلقه إلى نفسه، فيقع في المعصية، فيعاقبه
(1)
قال الحافظ ابن القيم في شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل 2/ 64 في الباب 21: "فتبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه بل كل ما نسب إليه فهو خير، والشر إنما صار شرا لانقطاع نسبته وإضافته إليه، فلو أضيف إليه لم يكن شرا كما سيأتي بيانه، وهو سبحانه خالق الخير والشر، فالشر في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، وخلقه وفعله وقضاؤه وقدره خير كله ولهذا تنزه سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه كما تقدم، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها وذلك خير كله، والشر وضع الشيء في غير محله فإذا وضع في محله لم يكن شرا، فعلم أن الشر ليس إليه وأسماؤه الحسنى تشهد يذلك".
تعالى على ذلك بأن يقع في معصية أخرى، وهكذا
(1)
.
فالمؤمن يرضى بقضاء الله وقدره لأنه يؤمن أنه عدل وحكمه - كما سبق بيانه - ويعلم أنما أصابه من مصائب وأمراض وغيرها مما يكره أنه بسبب ما اكتسبه من ذنوب، قال سبحانه:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]، وقال تعالى:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، وقال جل وعلا:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46]، وإذا رضي بقضاء الله وقدره فإنه بإذن الله سيجد السعادة ولذة الإيمان، وقد روى مسلم عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا".
هذا وللإيمان بالقضاء والقدر ثمرات وفوائد، أهمها:
أولًا: تكميل الإيمان بالله تعالى، فالقدر قدر الله، فالإيمان به من تمام الإيمان بالله تعالى.
(1)
قال ابن القيم في شفاء العليل الباب 27، ج 2 ص 275، 276: "فإن قيل فالقضاء بالجزاء عدل إذ هو عقوبة على الذنب فيكون القضاء بالذنب عدلا على أصول أهل السنة
…
قيل نعم كل قضائه عدل في عبده، فإنه وضع له في موضعه الذي لا يحسن في غيره، فإنه وضع العقوبة ووضع القضاء بسببها وموجبها في موضعه، فإنه سبحانه كما يجازي بالعقوبة فإنه يعاقب بنفس قضاء الذنب، فيكون حكمه بالذنب عقوبة على ذنب سابق، فإن الذنوب تكسب بعضها بعضا، وذلك الذنب السابق عقوبة على غفلته عن ربه وإعراضه عنه، وتلك الغفلة والإعراض هي في أصل الجبلة والنشأة، فمن أراد أن يكمله أقبل بقلبه إليه وجذبه إليه وألهمه رشده وألقى فيه أسباب الخير، ومن لم يرد أن يكمله تركه وطبعه وخلى بينه وبين نفسه، لأنه لا يصلح للتكميل وليس محله أهلا ولا قابلا لما وضع فيه من الخير، وها هنا انتهى علم العباد".
ثانيًا: استكمال أركان الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره ضمن أركان الإيمان في حديث جبريل المشهور.
ثالثًا: إن الإنسان يعيش حياة سعيدة، فلا يتكدر عيشه ولا يأكل نفسه بالحسرات إذا أصابه مكروه، ولا يحزن إذا فاته أمر يحبه، لأنه إذا علم أنه من الله رضي واطمأن وعرف أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 22، 23].
وروى مسلم في صحيحه عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له".
وثبت عن أبى حفصة قال: قال عبادة بن الصامت لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة". يا بني إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس منى".
رابعًا: إن المؤمن الذي يجعل الإيمان بالقضاء والقدر أمام عينيه ويتذكره عند كل عمل يريد أن يقوم به، يحمله ذلك على أن يقتصر عند فعله للأسباب للحصول
على ما يريده من جلب مرغوب أو للتخلص من مكروه على الأسباب التي أباحها الله تعالى، فمثلًا عندما يريد الحصول على مال يسلك طرق الكسب المباحة ويجتنب طرق الكسب المحرمة، لأنه يعلم أن ما كتب الله له من المال قبل أن يولد سيأتيه لا محالة وأن ما لم يكتب له من المال لن يأتيه ولو بذل كل الأسباب المحرمة للحصول عليه، وكذلك عندما يريد الإنسان العلاج من مرض أو الحصول على وظيفة فإنه يسلك الطرق المباحة، ويجتنب الطرق والوسائل المحرمة، لأنه يعلم أنه لن يحصل له شيء من شفاء أو وظيفة أو غيرهما إلا ما كتب الله له.
وقد ثبت عن عبد الله بن عباس أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا غلام، إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف".
وثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إذا طلب أحدكم الحاجة فليطلبها طلبا يسيرا، فإنما له ما قدر له، ولا يأتي أحدكم صاحبه فيمدحه فيقطع ظهره".
خامسًا: إن المسلم لا يعجب بنفسه عند حصول مراده، فلا يقول: حصل هذا الشيء بسبب مهارتي وذكائي، لأنه يعلم أن حصوله نعمة وتفضل من الله تعالى، وأن الله سبحانه قد قدر وشاء أن يحصل له هذا الشيء في هذا الوقت وكتبه تعالى له وهو في بطن أمه، وقدر له تعالى أسبابًا لحصوله.