الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادسًا: إن المسلم لا يخاف من قطع رزقه ولا من الموت عند قيامه بما أوجبه الله تعالى عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن الجهاد بالنفس؛ لأنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله أن يصيبه، وأن ما لم يقدره تعالى عليه فلن يصيبه ولو اجتمع الخلق كلهم لإيقاع ذلك عليه، وقد نسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه كان يقول عند القتال:
من أي يومَيّ من الموت أفر
…
أيومَ لم يقدر أم يوم قُدر
يوم لا قدر لا أرهبه
…
ومن المقدور لا ينجو الحذر
الأصل الثالث: باب الوعد والوعيد:
توسط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين الوعيدية وبين المرجئة.
فالوعيدية يغلبون نصوص الوعيد على نصوص الوعد، ومنهم الخوارج الذين يرون أن فاعل الكبيرة من المسلمين كالزاني وشارب الخمر كافر مخلد في النار.
ومن عقائد الخوارج كذلك: أنهم يرون أن من وقع من ولاة الأمر في معصية من كبائر الذنوب وجب الخروج عليه، ولهذا خرجوا على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، وقتلوه رضي الله عنه
(1)
، وخرجوا على الدولتين
(1)
قال أبو محمد ابن حزم في الفصل 4/ 156، 157: "فصحّ يقينًا لا محيد عنه صواب علي في تحكيم الحكمين والرجوع إلى ما أوجبه القرآن، وهو الذي لا يجوز غيره، ولكن أسلاف الخوارج كانوا أعرابًا قرأوا القرآن قبل أن يتفقّهوا في السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن فيهم أحدٌ من الفقهاء، فأعرضوا عن سائر الصحابة، ولم يقع اختيارهم إلا على عبد الله بن وهب الراسبي - أعرابي بوال على عقبيه لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه ولا شهد الله له بخير قط - فمن أضلّ ممن هذه سيرته واختياره، ولكن هذا حق من كان أحد أئمته (ذو خويصرة) الذي بلغ ضعف عقله وقلة دينه إلى تجويره النبي صلى الله عليه وسلم في حكمه والاستدراك عليه، =
الأموية والعباسية، وحصل بسب خروجهم حروب قتل فيها من قتل من المسلمين، وأشغلوا بها الخلافتين الأموية والعباسية عن حرب الكفار وعن فتح بلادهم.
ومن فرق الخوارج من يرى أن الإمام إذا وقع في كبيرة يكفر، وأن أفراد رعيته إذا لم ينكروا عليه ولم يخرجوا عليه يكفرون كذلك، ولذلك كفّروا عامة المسلمين في كثير من العصور، وقتلوا منهم من استطاعوا قتله، حتى أنهم قتلوا النساء والأطفال.
والمُرجئة غلَّبوا نصوص الرجاء على نصوص الوعيد، فقالوا: إن الإيمان هو التصديق القلبي، وأن الأعمال ليست من الإيمان، فلا يضر مع الإيمان معصية، فالعاصي كالزاني وشارب الخمر لا يستحق دخول النار
(1)
، وإيمانه
= ورأى نفسه أورع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا وهو يقر أنه رسول الله إليه وبه اهتدى وبه عرف الدين ولولاه لكان حمارًا أو أضل "انتهى كلامه رحمه الله مختصرًا مع تعديل يسير لسوء طباعة الأصل المنقول منه.
فهذه حال أصحاب الجهل المركب، وهم الجهال الذين يرون أنفسهم في كل مسائل العلم أو بعضها من العلماء المجتهدين - ولهذا تجد من سار على طريقة هؤلاء في هذه العصور في بعض مسائل الردة، كتكفير المعين يزدري العلماء ويسفّه آراءهم، ويقول للعلماء: سيروا على طريقتي وخذوا بما أقول وما أعتقد في هذه المسائل وإلا فأنتم ضالون، مع أنك تراه في جل أبواب الفقه كأبواب العبادات والبيوع والنكاح وغيرها يسأل أهل العلم، ويعدّ نفسه فيها من المقلدين، وهو بلا شك كذلك في جميع مسائل العلم، فضلًا عن الحكم على المعيَّن بالكفر، الذي يحتاج إلى اجتهاد من وجهين، كما سيأتي في خاتمة فصل الكفر الأكبر - إن شاء الله تعالى -.
(1)
وقريب من هذه العقيدة: ما يقوله كثير من العصاة المنتسبين إلى الإسلام ويعتقده، فتجد أحدهم يستكثر من المعاصي، فيترك كثيرًا من الواجبات ويفعل كثيرًا من المعاصي، ثم يتعلق ويحتج بأحاديث الوعد، كحديث حذيفة مرفوعا:"من قال: لا إله إلا الله ختم له بها دخل الجنة" رواه أحمد (23324)، وهو حديث ضعيف، لانقطاعه، والرواية المتصلة منكرة، فيجاب عن قول =
كإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
أما أهل السنة والجماعة فيرون أن المسلم إذا ارتكب معصية من الكبائر لا يخرج من الإسلام، بل هو مسلم ناقص الإيمان، ما دام لم يرتكب شيئًا من المكفرات، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وهو في الآخرة تحت مشيئة الله، إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه حتى يطهره من ذنوبه ثم يدخله الجنة، ولا يخلد في النار إلا من كفر بالله تعالى أو أشرك به.
فالإيمان عند أهل السنة: قول باللسان واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
= هؤلاء بأمرين:
الأمر الأول: أن الإيمان إذا وجد في القلب حقيقة حمل العبد على فعل الواجبات وترك المحرمات، فكون الإنسان يعرض عن دين الله ولا يعمل به ويصر على معصية الله تعالى فهذا دليل على خلو قلبه من الإيمان، كما سيأتي عند الكلام على كفر الإعراض.
الأمر الثاني: أن هذا الحديث على فرض صحته، ومثله جميع أحاديث الوعد يجب أن يجمع بينها وبين نصوص الوعيد، فمن تعلق بنصوص الوعد - وهي نصوص الرجاء - وترك نصوص الوعيد فقد ضل، كما فعل المرجئة، وكذلك من تعلق بنصوص الوعيد وترك نصوص الرجاء فقد ضل أيضًا. فنقول لهذا العاصي المتعلق بنصوص الرجاء: يلزمك أن تجمع بين نصوص الرجاء وبين نصوص الوعيد، فيلزمك أن تجمع مثلًا، بين هذا الحديث الذي احتججت به وبين قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]، وأن تجمع بينه وبن حديث "لا يدخل الجنة نمام" رواه البخاري (6056)، ومسلم (105)، فإن قلت: إن من قتل مسلمًا مع أنه يقول لا إله إلا الله وختم له بها لا يدخل الجنة، ومن وقع في النميمة وأصر عليها وهو من المسلمين لا يدخل الجنة، فقد ناقضت قولك. ولذلك ينبغي للجاهل أن لا يقول في شرع الله ما لا علم له به، فإن هذا من كبائر الذنوب، ويجب على المسلم أن يعتقد ما دل عليه مجموع النصوص في مرتكب الكبيرة، كما هو عقيدة أهل السنة والجماعة.
كما أن أهل السنة والجماعة يعتقدون أنه يجب على المسلمين السمع والطاعة في المعروف لمن تولَّى أمرهم من المسلمين، سواء تولى الحكم عن طريق الشورى، أو عن طريق القوة والغلبة، أو عن طريق تولية الحاكم الذي قبله له، أو استخلافه له.
ويعتقدون أنه يحرم الخروج عليه سواء كان تقيًا أو عاصيًا، وأنه لا يجوز الخروج عليه حتى يروا كفرًا بواحًا عندهم من الله فيه برهان، قال النووي:"أما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق".
ومن الأدلة على تحريم الخروج على الأئمة الذين لم يحكم العلماء الراسخون في العلم بكفرهم:
ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك".
وما رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال:"إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان".
وما رواه مسلم عن نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع
(1)
(1)
العدوي القرشي، قال في التقريب: "له رؤية، وكان أمير من خرج من قريش على يزيد بن =
حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة. فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدّثك حديثًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية".
وما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: "من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا، فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية".
وما رواه مسلم عن عوف بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" قالوا: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال:"لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدًا من طاعة".
وما رواه مسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع"، قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال:"لا، ما صلّوا" - أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه -.
= معاوية يوم الحرة".