الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المسألة السابعة في حاجة البشر إلى الرسالة]
المسألة السابعة
في حاجة البشر إلى الرسالة الأفعال الاختيارية: منها ما تُحمد عقباه فيجمل بالعاقل فعله، والحرص عليه، ولو ناله في سبيل تحصيله حرج ومشقَّة، وأصابه في عاجل أمره كثير من الآلام. ومنها ما تسوء مغبته، فيجدر بالعاقل أن يتماسك دونه، وأن يتنكب طريقه، خشية شره، وطلبًا للسّلامة من ضُرّه، وإن كان فيه ما فيه من الملذات العاجلة التي تغري الإنسان بفعله، أو تخدعه عما فيه سلامة نفسه.
غير أن عقله قد يقصر في كثير من شئونه، عن التمييز بين حَسَن الأفعال وقبيحها، ونافعها وضارها، فلا بدّ من معينٍ يساعده على ما قصر عنه إِدراكه، وقد يعجز عن العلم بما يجب عليه علمه، لأنه ليس في محيط عقله، ولا دائرة فكره، مع ما في علمه به من صلاحه وسعادته، وذلك: كمعرفته بالله، واليوم الآخر، والملائكة تفصيلا، فكان في ضرورة إلى من يهديه الطريق في أصول دينه، وقد يتردد في أمر إما لعارض هوى
وشهوة، أو لتزاحم الدواعي واختلافها، فيحتاج إلى من ينقذه من الحيرة، ويكشف له حجاب الضلالة بنور الهداية، فبان بذلك حاجة الناس إلى رسول يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكمّلهم بمعرفة ما قصرت عنه أفهامهم، ويوقفهم على حقيقة ما عجزوا عنه، ويدفع عنهم الألم والحيرة، ومضرة الشكوك.
أضف إلى ذلك أن تفاوت العقول والمدارك، وتباين الأفكار، واختلاف الأغراض، والمنازع، ينشأ عنه تضارب الآراء، وتناقض المذاهب، وذلك يفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، والاعتداء على الأعراض، وانتهاك الحرمات، وبالجملة ينتهي إلى تخريب، وتدمير لا إلى تنظيم، وحسن تدبير، ولا يرتفع ذلك إلا برسول يأتي بفصل الخطاب، ويقيم الحجة، ويوضّح المحجّة، فاقتضت حكمة الله أن يُرسل رسله رحمة بعباده، وإقامة للعدل بينهم، وتبصيرًا لما يجب عليهم من حقوق خالقهم، وإعانة لهم على أنفسهم، وإعذارًا إليهم، فإنه لا أحد أحبّ إليه العذر من الله.
من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب. فقد ثبت أن " سعد بن عبادة " قال: «لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح (أي بحده لا صفحته) ؛
فبلغ ذلك رسول اللهّ، صلى الله عليه وسلم، فقال: "تعجبون من غيرة سعد لأنا أغْيَرُ منه والله أغْير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين ولا أحد أحبّ إليه المدح من الله، ومن أجل ذلك وعد الله بالجنة» . رواه البخاري.
ومما تقَدم يعلم أن إرسال الله الرسل مما يدخل في عموم قدرته- تعالى- وتقتضيه حكمتُه، فضلًا منه، ورحمة، والله عليم حكيم، وهذا هو القول الوسط، والمذهب الحق.
وقد أفرط المعتزلة فقالوا: إن بعثة الرسل واجبة على اللهّ - تعالى- إبانة للحقّ، وإقامة للعدل، ورعاية للأصلح، وهذا مبنيّ على ما ذهبوا إليه من القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وهو أصل فاسد.
وتطرّف البراهمة (1) فأحالوا أن يصطفي الله نبيًّا، ويبعث
(1) البراهمة: قيل: إنهم جماعة من حكماء الهند تبعوا فيلسوفًا يسمى برهام فنسبوا إليه، وقيل: إنهم طائفة عبدت صنمًا يسمى (برهم) فنسبت إليه، والقصد بيان مذهبهم في الرسالة. والرد عليه بما يدفع شبهتهم، مع أن بعضهم قد اعترف برسالة آدم. وآخرين منهم اعترفوا برسالة إبراهيم، عليهما السلام.
من عباده رسولا، وزعموا أن إرسالهم عبث، إما لعدم الحاجة إليهم اعتمادًا على العقل في التمييز بين المفاسد والمصالح، واكتفاءً بإدراكه ما يحتاج إليه العباد في المعاش والمعاد، وإما لاستغناء الله عن عباده، وعدم حاجته إلى أعمالهم، خيرًا كانت أم شرًّا، إذ هو- سبحانه- لا ينتفع بطاعتهم، ولا يتضررُ بمعصيتهم، وقد سبق بيان عدم كفاية العقل في إدراك المصالح والمفاسد.
وحاجة العالم إلى الرسالة مع غنى الله عن أعمال الخلق، فليس إرسالهم عبثا بل هو مقتضى الحكمة.