الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المسألة السادسة في إمكان الوحي والرسالة]
المسألة السادسة
في إمكان الوحي والرسالة الوحي لغة: الإعلام في خفاء بإشارة، أو كتابة، أو إلهام، أو مناجاة، أو نحو ذلك.
وشرعًا: هو إعلام الله نبيه بحكم شرعي، ونحوه، بواسطة، أو بغير واسطة.
ولا يبعد في نظر العقل، ولا يستحيل في تقدير الفكر، أن يختص واهب النعم، ومفيض الخير بعض عباده: بسعة في الفكر، ورحابة في الصدر، وكمال صبر، وحسن قيادة، وسلامة في الأخلاق، ليعدّهم بذلك لتحمّل أعباء الرسالة، ويكشف لهم عما أخفاه عن غيرهم، ويوحي إليهم بما فيه سعادة الخلق، وصلاح الكون، رحمةً للعالمين، وإعذارًا إلى الكافرين، وإقامة للحجة على الناس أجمعين، فإنه- سبحانه- بيده ملكوت كل شيء، وهو الفاعلِ المختار، لا مانع لما أعطى، ولا مُعطي لما منع، ولا رادّ لما قَضى، وهو على كل شيء قدير.
وآية ذلك أنًا نشاهد أن الله- سبحانه- خلق عباده على
طرائق شتى في أفكارهم، ومذاهب متباينة في مداركهم، فمنهم من سما عقله، واتسعت مداركه، واطلع من الكون على كثير من أسراره، حتى وصل به ثاقب فكره، وانتهت به تجاربه إلى أن اخترع للناس ما رفع أولو الألباب من أجله رءوسهم إليه، إعجابًا به، وشهادة له بالمهارة، وأنكره عليه صغار العقول حتى عدوه شعوذة، وكهانةً، أو ضربًا من ضروب السحر، ولا يزالون كذلك حتى يستبين لهم بعد طول العهد، ومرّ الأزمان ما كان قد خفي عليهم، فيذعنوا له، ويوقنوا بما كانوا به يكذّبون، ومنهم من ضعف عقله، وضاقت مداركه، فعميت عليه الحقائق، واشتبه عليه الواضح، فأنكر البدهيات، وردّ الآيات البينات، بل منهم من انتهى به انحراف مزاجه، واضطره تفكيره، إلى أن أنكر ما تدركه الحواس كطوائف السونسطائية (1) .
(1) السونسطائية ثلاث فرق الأولى: العنادية وهي التي تنكر حقائق الأشياء الحسية، والعقلية، وتكذب حواسها، وعقلها فيما تشاهد. أو تدرك وتراه وهمًا وخيالَاَ. الثانية: اللاأدرية: وهي التي تشك في حقائق الأشياء، وتتردد فيها فتقول: لا أدري، ألها وجود أم لا؟ الثالثة: العندية: وهي التي ترى أن ليس للأشياء حقيقة ثابتة في نفسها، بل تتبع إدراك، من أدركها وعقيدة من خطرت بباله، وهذه المذاهب باطلة بضرورة الحس، والعقل. والقائلون بها قد سقطوا عن رتبة البحث والمناظرة.
وكما ثبت ذلك التفاوت بين الناس في العقول بضرورة النظر، وبديهة العقل، ثبت التفاوت بينهم- أيضًا- في قوة الأبدان وضعفها، وسعة الأرزاق وضيقها، ونيل المناصب العالية، والاستيلاء على زمام الأمور، وقيادة الشعب، والحرمان من ذلك، إما للعجز أو القصور، ليتخذ بعضهم بعضًا سخريا. وإما لحكمة أخرى يعلمها مدبّر الكائنات؛ وربما كشف عن كثير منها الغطاء لمن تدبر القرآن، وعرف سيرة الأنبياء، وتاريخ الأمم، ومما جرى عليها من أحداث.
فمن شاهد ما مضت به سنة الله في عباده من التفاوت بينهم في مداركهم، وقواهم، وإرادتهم، وغير ذلك من أحوالهم، لم يسعه إلا أن يستسلم للأمر الواقع، ويستيقن بأن لله أن ينبئ من يشاء من خلقه، ويصطفي من أراد من عباده.
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ - أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 31 - 32]
إن الحوار الذي دار بين الرسل وأممهم يدل على أنهم لم يكونوا ينكرون الرسالة، ولم يكونوا يستبعدون حاجتهم إلى هداية من الله عن طريق روح طيبة يختارها الله لوحيه، أو نفس طاهرة يصطفيها لتبليغ شرعه، لكنهم استبعدوا أن يكون ذلك الرسول من البشر، وظنوا خطأ أنه إنما يكون من الملائكة، زعمًا منهم أن البشرية تنافي الرسالة، فمهما صفت روح الإنسان، وسمت نفسه، واتَسعت مداركه، فهو في نظرهم أقل من أن يكون أهلا لأن يُوحي الله إليه، وأحقر من أن يختاره اللهّ لتحمُل أعباء رسالته.
ومن نظر في الكتب المُنزلة، وتصفَح ما رواه علماء الأخبار، اتضح له ما ذكر من إمكان الوحي، وحاجة الناس إليه.
وقال- تعالى-: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ - فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ - أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر: 23 - 25]
وقال- تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91]
إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن إنكار الأمم لم يكن لأصل الرسالة ولا لحاجتهم إليها، إنما كان لبعث رسول من جنسهم.
ولو قال قائل: إن أئمة الكفر، وزعماء الضلالة كانوا يوقنون بإمكان أن يرسل الله رسولا من البشر غير أنهم جحدوا ذلك بألسنتهم حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم
الحق، وتمويهًا على الطغام من الناس، وخداعًا لضعفاء العقول، وتلبيسًا عليهم خشية أن يسارعوا إلى مقتضى الفطرة، ويستجيبوا لداعي الدين، ومتابعة المرسلين، لو قال قائل ذلك ما كان بعيدًا عن الحقيقة، ولا مجافيًا للصواب! بل بدت منهم البوادر التي تؤيد ذلك، وتصدقه وسبق إلى لسانهم ما يرشد البصير إلى ما انطوت عليه نفوسهم من الحسد والاستكبار أن يؤتَى الرسل ما أوتوا دونهم، وينالوا من الفضيلة، وقيادة الأمم إلى الإصلاح ما لم ينل هؤلاء.
قال الله- تعالى-: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]
وقال- تعالى-: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]
وليس بدعًا أن يختار الله نبيا من البشر، أو يبعث في الناس رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكّيهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة، بل ذلك هو مقتضى الحكمة، وموجب العقل، فإن الله- سبحانه- قد مضت سنَّته في خلقه بأن يكونوا أنواعًا مختلفة على طرائق شتى، وطبائع متباينة، لكل نوع غرائزه وميوله، أو خواصه ومميزاته التي تقضي بالأنس، والتآلف بين أفراده، وتساعد على التفاهم والتعاون بين الجماعات، ليقوم الوجود، وينتظم الكون، فكان اختيار الرسول من الأمة أقرب إلى أخذها عنه، وأدعى إلى فهمها منه، وتعاونها معه، لمزيد التناسب، ولمكان الإلف بين أفراد النوع الواحد.
ولو كان عُمار الأرض من الملائكة لاقتضت الحكمة أن يبعث الله إِليهم مَلَكًا رسولا، وقد أرشد الله إلى ذلك في ردّه على من استنكر أن يرسل إلى البشر رسولا منهم، قال الله- تعالى-:{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا - قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 94 - 95]
ولكن شاء الله أن يكون الخليفة في الأرض من البشر،
فاقتضت حكمته أن يكون رسوله إليهم من جنسهم، بل اقتضت حكمته ما هو أخص من ذلك، وأقرب إلى الوصول للغاية، وتحصيل المقصود من الرّسالة، فكتب على نفسه أن يُرسل كل رسول بلسان قومه.
قال- تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]
ولو قدّر أن الله أجاب الكفار على ما اقترحوا من إرسال مَلَكٍ إليهم لأرسل- سبحانه- الملك في صورة رجل، ليتمكَنوا من أخذ التشريع عنه، والاقتداء به فيما يأتي ويذر، ويخوض معهم ميادين الحجاج والجهاد، وبذلك يعود الأمر سيرته الأولى، كما لو أرسل- سبحانه- رسولا من البشر، ويقعون في لَبْس وحيرة، جزاء وِفاقًا.
قال- تعالى-: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ - وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8 - 9]
ومن نظر في آيات القرآن، وعرف تاريخ الأمم، تبين له أن سنَة الله في عباده أن يرسل إليهم رُسُلا من أنفسهم.
قال- تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ - بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 43 - 44]
وقال- تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20]