الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للعباد ورحمة لهم، إلى غير ذلك مما لا يحصيه إلا الله.
[قصة يوسف عليه السلام]
وإليك أمثلة من قصص الأنبياء في القرآن ترشدك إلى كثير مما ذكرت، وتبين لك سنة الله - تعالى- الماضيةَ في إعداده الأنبياء لتحمل أعباء الرسالة، وحكمته البالغة في تأييده إياهم بالمعجزات الباهرات، لتقوم بها الحجة على أممهم، إعذارًا إليهم، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان عزيزا حكيمًا.
فمن ذلك:
قصة يوسف عليه الصلاة والسلام: إن هذه القصة فيها كثير من العجائب، والعبر، والعظات، والأحكام، والأخلاق، وألوان الامتحان، والابتلاء، والفضل، والإحسان، والذي أقصد إليه من مباحثها هنا أمرين لمزيد اتصالهما بالموضوع:
الأول: كيف كانت هذه القصة معجزة لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
الثاني: كيف كانت دليلا على أن الله يعدّ رسله في حياتهم الأولى قبل الرسالة لتحمّل أعبائها حين إرسالهم إلى أممهم.
أما الأول: فإنه- تعالى- ذكر قصة يوسف، عليه الصلاة
والسلام، في القرآن مفصّلة لتكون بجملتها آية بل آيات على نبوة رسوله محمد، عليه الصلاة والسلام.
وبيان ذلك أنهَّ كان أميًّا لم يقرأ شيئًا من كتب الأولين، ولا درس شيئًا من تاريخهم، ولا خطّ من ذلك شيئًا بيمينه حتى يُرتاب في أمره، ويُتَهم بأنه تكلم بما قرأ أو درس. قال- تعالى-:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]
بل كان من الغافلين عن قصة يوسف وأمثالها، لم تخطر له ببال، ولم تقرع له سمعًا قبل أن يُوحي الله بها إليه، ويذكرها له في محكم كتابه.
قال- تعالى- في مطلع سورة يوسف: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ - إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 1 - 3]
وقال بعد ذكر يوسف لرؤياه، وعرضها على أبيه، ووصية أبيه له:
{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7]
ولم تكن قصة يوسف بالأمر الذي اشتهر في العرب، وتناولوه بالحديث فيما بينهم، بل كانت غيبًا بالنسبة إليهم، ولا كان محمد مع يوسف وإخوته، ولا شهد مكرهم به، ولا كيدهم له، فيتهم بأنه تكلم بأمر شهده، أو انتشر بين قومه.
قال- تعالى- لنبيه محمد في ختام قصة يوسف، عليهما الصلاة والسلام:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102]
ولا يسع أحد أن يقول: إنه عرف تفاصيل القصة من اليهود، فإن السورة مكية، واليهود كانوا يعيشون بالشام والمدينة وما حولها، ولم يعرف عنه أنَه اتَصل بهم قبل الهجرة، ولا دارسهم شيئا من العلوم، ولو كان تم شيء من ذلك لانكشف أمره لطول العهد، وكثرة الخصوم، وحرج قومه من دعوته، وسعيهم جهدهم في الكيد له، والصدّ عنه، وحرصهم على تشويه سمعته، والقضاء عليه وعلى دعوته، حتى رموه بالسحر، والكهانة، والجنون، واتهموه زورًا بالكذب، وهو في قرارة أنفسهم الصادق الأمين، وتبادلوا الرأي فيما يوقعونه به من حبسه، أو طرده من بينهم، وتشريده، وانتهى أمرهم بالاتفاق
على قتله، فأنجاه الله من كيدهم، وكتب له الهجرة إلى المدينة حيث عزَ الإسلام، وقامت دولته.
قال- تعالى-: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]
فقوم هذا شأنهم معه لا يخفى عليهم أمرِه، وهو يعيش بين أظهرهم، وهم له بالمرصاد، فلو وجدوا سبيلا إلى الطعن عليه باتصاله باليهود، والأخذ عنهم لسارعوا إلى فضيحته، والتشنيع عليه بذلك، ولم يضطروا إلى الافتراء عليه، ولا إلى التفكير في قتله أو تشريده، ولا إلى نشوب الحرب بينه وبينهم سنين طويلة، ولم يلجأوا إلى اتهامه تهمة تحمل ردها في طيها، فقد اتهموه برجل أعجمي بمكة، وادعوا أنه يعلّمه، فسفَه الله أحلامهم وألقمَهُم الحجر.
قال- تعالى-: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]
وليست قصة يوسف خبرًا مقتضبًا عبًر عنه بالجملة أو الجملتين، فيقال: إن صدقه في الحديث عنها وليد الصدفة
والاتفاق، بل هي قصة كثيرة العجائب، متشعبة الموضوعات، وقعت بين أطراف مختلفة في أزمان متباعدة، فمن رؤيا صادقة، إلى مؤامرة، ثم نجاة، يتبعها بيع، ثم إيواء، إلى مراودة، يتبعها هم، ثم عصمة من الفحشاء، إلى سجن فيه دعوة إلى التوحيد، مع رفق وحُسْن سياسة، وتأويل للرؤيا أصدق تأويل، يتبع ذلك خروجه عليه السلام، من السجن بريئًا من التهمة، وتولًيه شئون الدولة، واجتماع إخوته به، مع معرفته لهم، وإنكارهم إياه، وما أكثر ما دار بينه وبينهم من الأحاديث وما جرى من الأحداث، إلى أن انتهى ذلك بتعريفه لهم بنفسه، وعفوه عنهم، وحضور أبيه إليه على خير حال، إلى غير ذلك من التفاصيل التي يعرفها البصير بكتاب اللهّ.
وقد سيقت القصة مفصلة في جميع نواحيها، مستوفاة في جميع فصولها، في أدق عبارة، وأحكم أسلوب، أفيعقل بعد ذلك أن يًقال: إن صدقه، عليه الصلاة والسلام، فيما سرده من قضاياها، ووقائعها، وعجائبها على هذا النهج الواضح، والطريق السوي وليدُ الصدفة والاتفاق؟!
ختم- سبحانه- سورة يوسف بمثل ما بدأها به من الإرشاد إِجمالًا إلى القصد الذي من أجله سيقت القصة، وهو أن تكون
آية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدقه فيما جاء به من التشريع، وأن قصة يوسف، ونحوها مما نزل به الوحي مستقى من المشكاة التي أخذ منها الأنبياء، فليس حديثًا مفترى، ولكنه تصديق لما بين يديه من كتب المرسلين، وتفصيل لما يحتاج إليه المكلفون من التشريع في معاشهم ومعادهم، وجماع الهداية والرحمة لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
أفيمكن أن تكون هذه القيادة الرشيدة بهذا التشريع المستقيم من إنسان أميّ عاش في أمة أمية من عند نفسه دون وحي من الله!؟ كلا إنَها العناية الربانيَّة، والرسالة الحقّة، والوحي الصادق المبين، نزل به الروح الأمين، على قلب محمد، صلى الله عليه وسلم، ليكون رحمة للعالمين.
أما الثاني: فإن في تفاصيل قصة يوسف، عليه الصلاة والسلام، كثيرًا من الأسرار، والعجائب التي يعد بها الله رسله، ويهيئ بها أنبياءه لقيادة الأمم، من أخلاق سامية، وآداب عالية،
وحكمة بالغة، وقرة عزيمة، وعقائد صحيحة، ويتبَينّ ذلك بوجوه كثيرة: الأول: صفاء روح يوسف، ونقاء سريرته، وهذا واضح من الرؤيا الصادقة التي رآها في صغر سنة، وأول نشأته، فتحقق تأويلها بسجود أبويه وإخوته له في كبر سنه، وختام. حياته.
قال- تعالى-: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]
وقال: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100]
الثاني: ما خصَّهُ الله به من المميزات التي زادت تعلق والده به، وحملت إخوته على التآمر عليه، والكيد له، فأشار بعضهم بقتله ليخلو لهم وجه أبيهم، وتطيب لهم الحياة، ورأى آخرون أن في إبعاده عن والده الكفاية، فلما أجمعوا أمرهم على ذلك، ورموه في غيابة الجبّ أوحى الله إليه:{لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15] إيناسًا له، وإزاحة للغمة عن نفسه، وهيأ له من أخرجه من البئر لكنهم باعوه بثمن
بخس دراهم معدودة، فرعاه الله، وجعله عند من يكرم مثواه، ومكَن له في الأرض، وعلمه من تأويل الأحاديث، والله غالب على أمره، ولكنَ أكثر الناس لا يعلمون.
وبعد أن مكَّن الله له، واجتمع بإخوته لم ينتقم لنفسه، بل صَفَحَ عن الزَلَّة، وعفا عند القدرة، ونبأهم بما سبق من سوء صنيعهم معه في الصًغر.
الثالث: عفَة فرجه، ونزاهة نفسه، مع توافر دواعي الشهوة، وتهيئ أسباب الجريمة، من دوام الخلوة، ومزيد الخلطة، والدعوة إلى الفاحشة، وحياته معها في بيتها، وأخذها الحيطة في إغلاق الأبواب. لقد كان يوسف من المخلصين لله، فاستعاذ به، واستقبح أن يقابل جميل من أحسن مثواه بخيانته في عرضه. وذكر ما يصيب الظالمين في العواقب من الخسار أو الدمار،
وبذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء، وأظهر براءته.
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29]
ثم اشتدّ بامرأة العزيز الأمر، فأنذرت يوسف بالسجن والعذاب، أو يفعل ما تأمره به.
فقال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]
الرابع: أنه لم يشغله ما أصيب به من تتابع البلاء عن ربه ودينه، والدعوة إلى ما ورثه من التوحيد الخالص عن آبائه: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، عليهم السلام، فانتهز حاجة من معه في السجن إليه في تأويل ما رأياه في التعريف بنفسه، فبدأ ببيان مكانته، والحديث عن نفسه، ليُقْبَل منه قوله، ونصح لهما في التوحيد وزيَّنه، وحذرهما من الشرك وقبحه، وأقام على ذلك الحجة، كل ذلك قبل تأويل الرؤيا، ليكون أدعى إلى الإصغاء والقبول، وأبعد عن الإعراض عنه، وقد أطال في ذلك، ثم ختم بتأويل الرؤيا لهما في آية قصيرة.
الخامس: أن يوسف أراد أن يأخذ بأسباب الخلاص من
السجن، فقال للذي ظَنَ أنًه ناج من صاحبيه في السجن: اذكرني عند ربّك. فأدَّبه الله ببقائه في السجن بضع سنين، ليعلق قلبه بربِّه دون غيره، ويتم له صدق التوكّل عليه وحده - سبحانه- دون سواه.
السادس: أنه- سبحانه- شاء أن تكون نجاته بما آتاه الله من العلم، وبما علَمه من تأويل الأحاديث، لا بشفاعة أحد، ولحاجة الأمة راعيها ورعيتها إليه، دون حاجته إليهم، ليكون ذلك أكرم له، وأعزَ لنفسه، ولئلا يكون لأحد عليه سوى الله منَة، فأرى الله ملك مصر رؤيا هاله أمرها، وعجز أشراف قومه ووجهاؤهم عن تعبيرها، وقالوا: أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين!!
ولما انتهى أمر الرؤيا إلى يوسف أوَّلها أصدق تأويل، وبين أنها كشفت للأمة عنِ مستقبلها في رخائها وشدتها أربعٍ عشرة سنة.
فأخذ تفسير يوسف من قلب الملك مأخذه، ولم يسعه إلا أن
يرسل بإحضاره، فأبى يوسف حتى ينظر في قضيته مع النسوة، فإنه قد زُجً به في السجن من أجلهن، ففعل الملك، وظهرت براءته، عليه السلام، وحضر إلى الملك فقال له:{إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ - قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 54 - 55] فاستجابَ له الملكَ، وأتم الله ليوسف ما شاء منِ نعمته.
وبذلك يتبين أن الله محّصه ورعاه، بتتابع البلاء والإنجاء، ابتلاه بكيد إخوته له، ورميه في الجب، ثم أنجاه. وابتلاه ببيع السيارة له، ثم هيأ له من أحسن مثواه. وابتلاه بتسليط امرأة العزيز عليه، وبالنسوة اللاتي قطًعن أيديهن، ثم عصمه وحماه. وابتلاه بالسجن، ثم أخرجه منه بريئًا من التُهمة عليمًا بربه، وبشئون الأمة، في وقت اشتدت فيه حاجة البلاد إلى حفيظ عليم يدبر أمرها، ويقودها في حياتها خير قيادة، فتولّى أمرها، واستسلم له أهلها.
وفي قصة يوسف، عليه السلام، سوى ما ذكر شيء كثير
يدل على أن الله تعهد يوسف برعايته، وتولاه في أطوار حياته، ليتخذه رسولا، ويجعل من سيرته الحميدة آيات بيّنات على صدقه، وأمانته فيما يدعيه من الرسالة.