المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ شبهات وإشكالات وتساؤلات في باب التوكل والقدر: - معالم الطريق إلى الله

[أبو فيصل البدراني]

الفصل: ‌ شبهات وإشكالات وتساؤلات في باب التوكل والقدر:

يُظهرهم على عدوهم وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله وانتظار الفرج من الله عبادة.

• من يتوكل على الله فهو حسبه قدراً وشرعاً قدراً باعتبار العاقبة وشرعاً باعتبار الثبات في الأمر من ربط على القلب ونحوه والعزيمة على الرشد ، ومن توكل على الله فإن الله يُقدَر له الخير حيث كان وييسره له ويبارك له فيه في دينه ومعاشه وعاقبة أمره ثم يُرضيه به والله يعلم ما هو خير للعبد والعبد لا يعلم ما هو خيرٌ لنفسه.

•‌

‌ شبهات وإشكالات وتساؤلات في باب التوكل والقدر:

- السؤال الأول: قرأت كثيراً عن التوكل، ولكن عندي شبهات أرجو كشفها،

وهي: هل التوكل يرد المقدور؟ وهل التوكل يؤدي إلى وقوع المقدور حسب ما يريد العبد؟ وهل معنى الحسب والكفاية في قوله تعالى: ومن يتوكل على الله فهو حسبه"، وقوله: "أليس الله بكاف عبده" أن يقضي الله الخير للعبد حيث كان ثم يُرضيه به، وإن كان في قالب ضراء في نظر العبد القاصر بخفايا الأمور ومآلاتها، وأن تكون العاقبه له ولو بعد حين كما قال تعالى: "والعاقبة للمتقين"؟ وكيف نجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: "احفظ الله يحفظك"، وقوله تعالى: "والله يعصمك من الناس" وبين أنهُ سُحِرْ وقد شجًََت رباعيته يوم أحد وهناك من أهل العلم من يقول: إنه قتل بالشاة المسمومة؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالتوكل وغيره من الأسباب الشرعية كالدعاء وتقوى الله تعالى والاستغفار، مما يُستدفع به المقدور المكروه، ويُستجلب به المقدور المحبوب، بل هو من أعظم أسباب ذلك، قال الشيخ حافظ حكمي في معارج القبول: ليس في فعل الأسباب ما ينافي التوكل مع اعتماد القلب على خالق السبب، وليس التوكل بترك الأسباب، بل التوكل من الأسباب وهو أعظمها وأنفعها وأنجحها وأرجحها. اهـ.

وفي (زاد المعاد) لابن القيم: القدر يُدفع بعضه ببعض، كما يُدفع قدر المرض بالدواء، وقدر الذنوب بالتوبة، وقدر العدو بالجهاد، فكلاهما من القدر

والله يلوم على العجز ويحب الكيس ويأمر به، والكيس هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده، فهذه تفتح عمل الخير، وأما العجز فإنه يفتح عمل الشيطان. اهـ.

ص: 65

وقال في (مدارج السالكين): من صدق توكله على الله في حصول شيء ناله. اهـ. قلتُ من صدق توكله على الله في حصول شيء ناله مالم تكن المصلحة خلافه.

ومن الوقائع النبوية في دفع المكروه بصدق التوكل على الله تعالى ما رواه جابر بن عبد الله قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب بن خصفة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال: من يمنعك مني؟! قال: الله عز وجل. فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ. قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك ، فخلى سبيله فأتى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس. رواه البخاري ومسلم وأحمد واللفظ له.

وفي ذلك نزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {المائدة: 11}

قال ابن كثير: يعني: من توكل على الله كفاه الله ما أهمه، وحفظه من شر الناس وعصمه. اهـ.

ومن ذلك أيضا رد النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر حين قال له في الغار أثناء الهجرة: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا ، فقال صلوات الله وسلامه عليه: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما. متفق عليه.

وفي ذلك نزل قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {التوبة: 40} .

ويدل على عموم هذا المعنى الآيتان اللتان ذكرهما السائل، قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ {الزمر: 36}

قال البغوي يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي:(عباده) بالجمع يعني: الأنبياء عليهم السلام، قصدهم قومهم بالسوء كما قال:(وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه)"غافر: 5" فكفاهم الله شر من عاداهم. اهـ.

ص: 66

وقوله سبحانه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا {الطلاق: 3}

قال العلامة ابن عاشور في (التحرير والتنوير): وجملة {إن الله بالغ أمره} في موضع العلة لجملة {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} ، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة، فإن الله إذا وعد وعدا فقد أراده، وإذا أراد الله أمراً يسر أسبابه. ولعل قوله:{قد جعل الله لكل شيء قدرا} إشارة إلى هذا المعنى، أي علم الله أن يكفي من يتوكل عليه مهمَّه فقدر لذلك أسبابه كما قدر أسباب الأشياء كلها، فلا تشكوا في إنجاز وعده، فإنه إذا أراد أمراً يسر أسبابه من حيث لا يحتسب الناس وتصاريف الله تعالى خفية عجيبة. اهـ.

وهنا لابد من التنبيه على أن تحقيق هذا الوعد الكريم لا يعلم كيفيته وموعده إلا الله، فلا يقال: كيف ولا متى؟ ولكن يوقن بذلك وينتظر الفرج ويرضى بتدبير الله له، ولهذا خُتِمت الآية بما ختِمت به، قال السعدي:{فهو حسبه} أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي العزيز الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له؛ فلهذا قال تعالى:{إن الله بالغ أمره} أي: لا بد من نفوذ قضائه وقدره، ولكنه {قد جعل الله لكل شيء قدرا} أي: وقتا ومقداراً، لا يتعداه ولا يقصر عنه اهـ.

ووعود الله الكريمة للمؤمنين تتحقق بالطريقة التي تتفق مع الحكمة من الخلق، وهي الابتلاء والامتحان، والتمييز والتمحيص.

وأما الجمع بين قوله تعالى: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ {المائدة:67} وحديث: "احفظ الله يحفظك"، وبين ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم في بدنه من بلاء، فقال ابن عادل في (اللباب): الجواب أن قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) المراد به عصمة القلب والإيمان لا عصمة الجسد عما يرد عليه من الأمور الحادثة الدنيوية، فإنه عليه السلام قد سحر وكسرت رباعيته ورمي عليه الكرش والثرب وآذاه جماعة من قريش اهـ.

وقال أحد أهل العلم عن ذات الإشكال: نظراً لشدة عداوة الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم، وكثرتهم وقوتهم، وحرصهم على قتله صلى الله عليه وسلم والتخلص منه بكل وسيلة اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحرس في بداية الأمر كما تُمليه السنن الكونية والطبيعة البشرية .. فلما نزل عليه قول الله تبارك وتعالى: وَاللَّهُ

ص: 67

يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ {المائدة: 67} . ترك الحرس فلم يصل إليه عدوّ بقتل ولا أسر ولا قهر .. مع كثرة الأعداء وكثرة محاولاتهم، والأمثلة على ذلك كثيرة ثابتة فمنها محاولة عمير بن وهب وصفوان بن أمية، ومحاولة عامر بن الطفيل وأربد بن قيس، ومحاولة بني قينقاع، ومحاولة اليهودية التي أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم ذراع الشاة المسمومة، وهي ثابتة في كتب السنة، ولكن الله سبحانه وتعالى عصمه من تلك المحاولات ومن غيرها ، وقد استشكل بعضهم أن اليهود سحروه ووضعوا له السم وأن قريشاً شجوه وكسروا رباعيته

ولا إشكال في ذلك، فما أصابه صلى الله عليه وسلم من الآلام والأذى

في سبيل الله إنما هو لرفع درجاته وتعظيم أجره عند الله تعالى، وليتأسى به الدعاة والعلماء المصلحون .. من بعده. فالله سبحانه وتعالى ضمن له العصمة والسلامة من القتل والأسر وزوال العقل وتلف الجملة .. حتى يبلغ رسالته ويكمل دينه ، وأما عوارض الأذى فلا تمنع عصمة الجملة، ولم تكن تهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان الذي يهمَه هو الخوف من القضاء على شخصه قبل أن يبلغ رسالة ربه ، وعندما أكمل الله الدين لعباده وأتم عليهم نعمته بكمال تشريعه وأصبح رجال الإسلام الذين تعهدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتربية قادة قادرين على حمل الدين وتبليغه أجرى الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم سنته الماضية في خلقه، كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {آل عمران: 185} . وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يحس بأن مهمته في هذه الحياة قد انتهت، وأنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده

فأشار إلى ذلك في حجة الوداع عندما خطب في تلك الجموع الحاشدة، فبين لهم شرائع الإسلام وأوصاهم وصية مودع .. وقال: لعلي لا ألقاكم في موضعي هذا بعد عامي هذا!. فلم يكن موته صلى الله عليه وسلم فجأة ولا بسبب قتل أو اغتيال وإنما كانت موتة طبيعية بسبب الحمى والصداع الذي كان من أسبابه آثار تلك الأكلة المسمومة التي تناولها بخيبر، فلم تؤثر عليه في ذلك الوقت، فقاد الجيوش بعد ذلك ودخل المعارك الكبرى وانتصر فيها، وفاوض الأعداء، واستقبل الوفود، ومارس حياته العادية اليومية بصورة طبيعية حتى وافاه الأجل المحتوم بصورة طبيعية ، وتأثير السم عليه بعد ذلك عند نهاية الأجل إنما هو لرفع درجاته وعلو منزلته عند الله تعالى، ولينال بذلك مقام الشهداء، وبهذا نعلم أنه لا تعارض بين عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وبين ما لقيه صلى الله عليه وسلم من الأذى.

ص: 68

وقال الشيخ ابن باز عن نفس هذا الإشكال ما يلي: لم يترتب على ذلك شيء مما يضر الناس أو يُخل بالرسالة أو بالوحي، والله جل وعلا عصمه من الناس مما يمنع وصول الرسالة وتبليغها، أما ما يصيب الرسل من أنواع البلاء فإنه لم يعصم منه عليه الصلاة والسلام، بل أصابه شيء من ذلك، فقد جرح يوم أحد، وكسرت البيضة على رأسه، ودخلت في وجنتيه بعض حلقات المغفر، وسقط في بعض الحفر التي كانت هناك، وقد ضيقوا عليه في مكة تضييقا شديداً، فقد أصابه شيء مما أصاب من قبله من الرسل، ومما كتبه الله عليه، ورفع الله به درجاته، وأعلى به مقامه، وضاعف به حسناته، ولكن الله عصمه منهم فلم يستطيعوا قتله ولا منعه من تبليغ الرسالة، ولم يحولوا بينه وبين ما يجب عليه من البلاغ فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة صلى الله عليه وسلم. اهـ. والله أعلم.

وأما ما وقع للأنبياء والأولياء من أنواع الابتلاء فلا يُقال أنه من ضعف التوكل، ولا يدل على نقصه عندهم؛ بل التوكل عقيدة سابقة للمخوف يريدها الله من العبد، ومن منافعها أن تكون عونا له على تحمل ما يحذره ويخافه، وما يقع بعد ذلك منه إنما هو ابتلاء وامتحان، أو كفارة ورفع درجة، تزيد الإيمان والتقوى؛ قال تعالى:"ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما".

وللعلم حفظ الله للعبد ليس المراد به حفظه في بدنه وأهله وماله فحسب بل يشمل حفظ دينه وحفظه من الزيغ والضلال بعد الهداية والإسلام والله أعلم.

- السؤال الثاني: هل التوكل يُنافي الأخذ بالأسباب؟

التوكل على الله لا يُعارض فعل الأسباب؛ ولا ينافيها؛ قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ"، وقال سبحانه:"وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ"، وقد دلت السنة على ذلك. فالأخذ بالأسباب من صدق التوكل، وصحة الدين، وسلامة المعتقد، وقوة اليقين، لكن الأخذ بالأسباب يكون دون الاعتماد عليها وحدها، ونسيان المسبب وهو الله سبحانه، فاعتماد المرء على الأسباب وحدها خلل في عقيدته، وترك أخذه بالأسباب خلل في عقله، وقد يظن بعض الناس أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن وترك التدبير بالقلب وهذا ظن الجهال، فليس من شرط التوكل ترك مباشرة الأسباب الدافعة للضرر ، والرافعة للظلم، بل الواجب السعي لإزالة الضرر وجلب المصالح، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

ص: 69

الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: من الآية159].

فأمره بالأخذ بالأسباب، وهي هنا الاستشارة في الأمور وتقليب النظر فيها، فإذا اطمأن قلبه وعزمت نفسه عليه توكل على الله في فعل ذلك، فهذا سيد المتوكلين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخل بشيء من الأسباب

ظاهر بين درعين يوم أحد ولم يحضر الصف قط عرياناً، واستأجر دليلاً مشركاً يدله على طريق الهجرة، وكان يدَخر لأهله قوت سنة، وإذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد والمزاد، فالواجب على المسلمين أن يفهموا التوكل كما فهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وخلاصة القول أن سنة الله جارية في إعمال الأسباب مع التوكل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز. رواه مسلم. ومن أمثلة القرآن على ذلك قول يعقوب عليه السلام لبنيه: يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ {يوسف: 67} قال السعدي: ذلك أنه خاف عليهم العين، لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا سبب. {وَ} إلا فـ {مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} فالمُقدَر لا بد أن يكون، {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} أي: القضاء قضاؤه، والأمر أمره، فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اعتمدت على الله، لا على ما وصيتكم به من السبب، {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} فإن بالتوكل يحصل كل مطلوب، ويندفع كل مرهوب. اهـ.

وترك الأسباب واعتقاد تعارضها مع التوكل على الله هو من مكائد الشطان كما روى ابن أبي الدنيا في كتاب مكائد الشيطان): أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس فقال: أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر؟ قال: نعم. قال: ألق نفسك من الجبل وقل: قُدَر علي. قال: يالعين! الله يختبر العباد، وليس للعباد أن يختبروا الله عز وجل. اهـ.

وقد نقل ذلك ابن الجوزي في تلبيس إبليس وقال: ينبغي أن تكون أعضاء المتوكل في الكسب ، وقلبه ساكن مفوض إلى الحق منع أو أعطى؛ لأن لا يرى إلا أن الحق سبحانه وتعالى لا يتصرف إلا بحكمة ومصلحة، فمنعه عطاء في المعنى، وكم زين للعجزة عجزهم وسولت لهم أنفسهم أن التفريط توكل، فصاروا في غرورهم بمثابة من اعتقد التهور شجاعة، ومتى وُضِعت أسباب فأهملت كان ذلك جهلاً بحكمة الواضع، مثل وضع الطعام سببا للشبع والماء للري والدواء للمرض

ص: 70

، فإذا ترك الإنسان ذلك إهواناً بالسبب، ثم دعا وسأل، فربما قيل له: قد جعلنا لعافيتك سبباً فإذا لم تتناوله كان إهواناً لعطائنا، فربما لم نعافك بغير سبب

لإهوانك للسبب ، وما هذا إلا بمثابة من بين قراحه أي مزرعته وماء الساقية رفسه بمسحاة، فأخذ يصلي صلاة الاستسقاء طلبا للمطر، فإنه لا يستحسن منه ذلك شرعاً ولا عقلاً اهـ.

قال ابن مفلح في الآداب: قال الشيخ تقي الدين رحمه الله الله هو الذي خلق السبب والمسبب، والدعاء من جملة الأسباب التي يقدرها، فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب بالكلية قدح في الشرع، بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله سبحانه وتعالى، والله يقدر له من الأسباب من دعاء الخلق وغير ذلك ما يشاء. ا. هـ

وقال أيضاً: وقال أحمد للميموني: استغن عن الناس، فلم أر مثل الغني عن الناس، وقال رجل للفضيل بن عياض رحمه الله لو أن رجلاً قعد في بيته وزعم أنه يثق بالله فيأتيه برزقه، قال: إذا وثق به حتى يعلم أنه وثق به لم يمنعه شيئاً أراده، ولكن لم يفعل هذا الأنبياء ولا غيرهم، وقد الله تعالى: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ (الجمعة: من الآية10، ولا بد من طلب المعيشة. ا. هـ

وقال ابن العربي في أحكام القرآن، عند تفسير قوله تعالى: وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك. قال: فيها جواز التعلق بالأسباب، وإن كان اليقين حاصلاً، لأن الأمور بيد مسببها، ولكنه جعلها سلسلة، وركب بعضها على بعض، فتحريكها سنة، والتعويل على المنتهى يعني القدر يقين، والذي يدلك على جواز ذلك نسبة ما جرى من النسيان إلى الشيطان، كما جرى لموسى صلى الله عليه وسلم في لقاء الخضر، وهذا بين فتأملوه. ا. هـ. والمقصود أن تعلق القلب بالله تعالى لا يتعارض مع تعلق البدن بالأسباب ، وأن حقيقة التوكل هي عمل القلب وعلمه، فعمل القلب الاعتماد على الله عز وجل والثقة به، وعلمه معرفته بتوحيد الله سبحانه بالنفع والضر.

وعمل القلب لا بد أن يؤثر في عمل الجوارح والذي هو الأخذ بالأسباب، فمن ترك العمل -أي الأخذ بالأسباب-فهو العاجز المتواكل الذي يستحق من العقلاء التوبيخ والتهجين، ولم يأمر الله بالتوكل إلا بعد التحرَز والأخذ بالأسباب، قال الله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ {آل عمران:159} ، وقد قال عليه

ص: 71

الصلاة والسلام للذي سأله: يا رسول الله أعقلها -أي الناقة- وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟! قال: اعقلها وتوكل. رواه الترمذي وحسنه الألباني.

فمن كان توكله صحيحاً أخذ بالأسباب.

أما حكم الأخذ بالأسباب على التعيين فهو يختلف باختلاف المسبب المطلوب إيجاده، فقد يكون الأخذ بالأسباب واجباً، وذلك إذا كان فعله لتحصيل واجب، كتحصيل أسباب الواجبات الشرعية كالعلم بأحكام الصلاة والصيام ونحوهما من الواجبات، وقد يكون الأخذ بالأسباب حراماً، وذلك إذا كان السبب المطلوب فعله يؤدي إلى حرام، كالأسباب المفضية إلى الزنا وشرب الخمر ونحوهما، وهكذا يكون الأخذ بالأسباب مكروها ومستحباً بحسب ما يفضي إليه، وبهذا يُعلم أن الأخذ بالأسباب مُختلف المراتب من جهة الحكم، وأنه لا يتنافى مع الإيمان بالقدر ولا التوكل ولا الثقة في الله تعالى.

- السؤال الثالث: هل الإيمان بالقدر يعني التخلي عن الأسباب؟ وهل التوكل

على الله تحصيل حاصل؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فلقد غاب عن ذهن الأخ السائل أن الإيمان بالقدر لا يعني التخلي عن الأسباب، بل إن وقوع المسببات على حسب أسبابها هو من قدر الله تعالى.

فمع إيماننا بأن الله بيده كل شيء، وأنه قدرّ كل شيء، فنحن مأمورون من قبل الله بالأخذ بالأسباب، ونؤمن بأن هذه الأسباب لا تُعطي النتائج إلا بإذن الله.

ويجمع ذلك عبارة ابن تيمية حيث يقول: فالالتفات إلى الأسباب، واعتبارها مؤثرة في المسببات شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع. ا. هـ مجموع الفتاوى8/ 528.

ويقول شارح العقيدة الطحاوية: قد يظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب، وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب، وهذا فاسد، فإن الاكتساب منه فرض، ومنه مستحب، ومنه مباح، ومنه مكروه، ومنه حرام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين يلبس لأمة الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب.

وقال ابن القيم: فلا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى، وإن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، وإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد من هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً. زاد المعاد 3/ 67.

والحاصل أن تعاطي العبد للأسباب النافعة، سواء في الزواج، أو في الرزق، أو

ص: 72

في الدراسة، أو في العلاج داخل في الإيمان بالقدر، ولا ينافيه، وإنما هو مقتضى من مقتضياته، وبغير هذا الفهم للقدر تبطل الحكمة، وتتعطل السنن، وتفسد مصالح الناس.

وحاصل الأمر أن الإيمان بالقدر على الوجه الشرعي لا يتنافى مع التوكل على الله عز وجل، والأخذ بالأسباب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، للأعرابي: اعقلها وتوكل على الله ، وأمر بالتداوي كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة صحيحة.

وقال ابن القيم: لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى، والأسباب لا تعطي النتائج إلا بإذن الله تعالى، والذي خلق الأسباب هو الذي خلق النتائج.

- السؤال الرابع: هل التداوي مشروع وهل هو يُنافي التوكل على الله؟

التداوي مشروع ولا ينافي التوكل على الله تعالى، بل يُستحب كما حكاه النووي في شرحه على مسلم عن جماهير السلف والخلف.

وأما التداوي بالمُحرَم فحرام، وأما التداوي بالمكروه فالأولى تركه، وللعلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب كلام جيد في هذا الموضوع في كتابه (شرح كتاب التوحيد) عند شرحه لحديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم:"هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون". متفق عليه.

قال رحمه الله تعالى: واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يُباشرون الأسباب - أصلاً - كما يظنه الجهلة، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه، حتى الحيوان البهيم، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب، كما قال الله تعالى:(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3. أي كافيه.

إنما المُراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله، كالاسترقاء والاكتواء، فتركهم له ليس لكونه سبباً، لكن لكونه سبباً مكروهاً، لا سيما والمريض يتشبث بما يظنه سبباً لشفائه بخيط العنكبوت.

أما نفس مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهية فيه فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعاً، كما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً:"ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء".

وعن أسامة بن شريك قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: نعم، يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم

ص: 73

يضع داءاً إلا وضع له شفاء غير داء واحد. قالوا: ما هو؟ قال: الهرم" رواه أحمد. قال ابن القيم: فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح بمباشرته في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى من التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلاً للأمر والحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً. ا. هـ.

وعلى ضوء ما سبق، فتناول الأدوية المباحة لدفع الأمراض لا ينافي العقيدة ولا التوكل، بل هو أمر مطلوب والله أعلم.

- السؤال الخامس: الله عز وجل وعد عباده المؤمنين بكثير من الوعود في

الحياة الدنيا ولا نراها تتحقق فما تأويل ذلك؟

وعود الله الكريمة للمؤمنين لا بد أن تحصل وتتحقق، ولكن بطريقة تتفق مع الحكمة من الخلق، التي هي ابتلاء بمعنى الامتحان والاختبار، فقد خلق الله تعالى الإنسان ليمتحنه ويختبره، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {الملك:2} ، وقال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {العنكبوت:2 - 3} ، وقال عز وجل: مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ {آل عمران:179} ، وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بالأحكام القدرية سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد، أو ما نحب كالأموال والأولاد، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35} ، ومن ذلك ابتلاء الله لخليله إبراهيم عليه السلام بأمره بذبح ولده بعدما بلغ معه السعي، فقد عقب الله تعالى على ذلك بقوله: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ {الصافات:106} ، قال الطبري: إن أمرنا إياك يا إبراهيم بذبح ابنك لهو البلاء، يقول: لهو الاختبار الذي يبين لمن فكر فيه أنه بلاء شديد ومحنة عظيمة. انتهى.

وقد ابتلاه الله أيضاً بالإلقاء في النار وبتسليط جبار من الجبابرة على امرأته سارة، وبوضع امرأته هاجر وابنه إسماعيل في واد غير ذي زرع ولا ماء، وغير ذلك. ولكن الله نجاه وحفظه وأهل بيته، وأجزل له المثوبة في الدنيا مع ما ينتظره من ثواب الآخرة، قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ

ص: 74

مِنَ الْمُشْرِكِينَ {النحل:120

123}، فصار إبراهيم عليه السلام مثلاُ يلزم الاقتداء به، ومثالاً ينبغي القياس عليه، فالجزاء من جنس العمل، فكل من أحسن في عبادة الله كان جزاؤه عند الله الإحسان، كما قال تعالى: هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ {الرحمن:60} ، وقال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر:10} ، وقال عز وجل: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى {النجم:31} ، فمن استجاب لأمر الله وصبر على امتحانه واستقام على أمره نال في الدنيا الحياة الطيبة، وفاز في الآخرة بالنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، كما حصل للصحابة الكرام رضي الله عنهم في غزوة حمراء الأسد بعد غزوة أحد وما كان فيها من البلاء المبين والقرح الشديد، قال تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ* الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {آل عمران:172 - 173 - 174} .

فللبلاء في حق المؤمنين طعم آخر، حتى إن خواصهم ليفرحون بالبلاء كما يفرح غيرهم بالعطاء، مع ما يُدَخر لهم في الآخرة من الأجر المُضاعف، كما قال أبو سعيد الخدري: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك! قال: إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر. قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، قلت: يا رسول الله ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء. رواه ابن ماجه. وصححه الحاكم والبوصيري والألباني.

فإذا كان هذا البلاء في ذات الله تعالى ونصرة لدين الله فهو أحب إليهم وأيسر عليهم، كما قال تعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا {الأحزاب:22} ، وقال أيضاً: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {آل عمران:146} .

وأما غير المؤمن القوي الموفق فإنه إذا امتُحن فقد يخسر دينه ودنياه والعياذ بالله، كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ {الحج:11} .

وقال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ* وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ {العنكبوت:10 - 11} . ثم اعلم أخي الكريم أن الإنسان لا يستطيع الإحاطة بحكمة الله في قضائه وقدره، ولذلك قال تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ

ص: 75

شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {البقرة:216} ، فعلى المؤمن أن يصبر ويرضى بأمر الله تعالى، وأن يُبصر الرحمة من خلال البلاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه وحسنه الألباني.

واعلم أخي أن وعود الله متحققة لا محالة لمن أقام شرطها قال تعالى (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)(التوبة: من الآية111) وقال أيضاً "وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ"(الرعد: من الآية31) فعلى المسلم أن يُحسن الظن بربه وخاصة تجاه وعوده الكريمة ولماذا نسيء الظن بربنا وقد علمنا أنه لا يُخلف وعده ولِمَ نتشاءم، والله تعالى يقول:"أنا عند ظن عبدي بي" فمن أحسن الظن به أعانه وبلغه مُراده، ومن أساء بالله الظن لن يعطيه الله تعالى إلا ظنه، وقد استوجب مسيئو الظن بالله غضبه ولعنته قال الله تعالى:"الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً"(الفتح: من الآية6).

وإن من أسماء الله تعالى البر الرحيم الودود العزيز اللطيف وغيرها من الأسماء الحسنى، فربٌ هذه أسماؤه وتلك صفاته يُظن به ظن السوء؟ والله ما قدرنا الله حق قدره، وما عرفناه حق معرفته، فالمتأمل في الأسماء الحسنى للخالق تعالى لن يجد بُداً من التفاؤل وحسن الظن به والثقة بما عنده من الخير والعطاء الجزيل.

وحسن الظن بالله من العبادات الجليلة، والطاعات القلبية العظيمة التي تدل على حب العبد لربه وتصديقه بوعده وقد قال تعالى:{وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج/47]. والسبب الكبير في ضعف اليقين تجاه الوعود الربانية، هو: التعلق بالدنيا، والركون إليها، ولهذا فإنك لو تأملتَ لوجدت أن أضعف الناس يقيناً بموعود الله هم أهل الدنيا، الراكنين إليها، وأقواهم يقيناً هم العلماء الربانيون، وأهل الآخرة، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه. قال تعالى:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6، 7]

ولا يُشكل على هذا ما يمر على القارئ من آيات قد يُفهم منها أن فيها نوعاً من التردد في تصديق وعد الله، أو الشك في ذلك، كقوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وكقوله عز وجل:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]، فإن هذه الآيات إنما تحكي حالةً عارضة تمر بالإنسان ـ بسبب ضعفه حيناً، وبسبب استعجاله أحياناً ـ وليست حالةً دائمةً، وإذا كان الشك في موعود الله لا يصح أن ينسب إلى آحاد المؤمنين، فهو من الأنبياء والمرسلين أبعد وأبعد، ولكن ـ ولحكمة بالغة ـ جاءت هذه الآيات لتطمئن المؤمنين من هذه الأمة أن حالات

ص: 76

اليأس التي قد تعرض للعبد مجرد عرْض بسبب شدة وطأة أهل الباطل، أو تسلط الكفار، فإنها لا تؤثر على إيمانه، ولا تقدح في صدقه وتصديقه؛ ولهذا ـ والله تعالى أعلم ـ يأتي مثل هذا التثبيت في بعض الأحوال التي تعترض نفوس أهل الإيمان فترة نزول الوحي، كقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ

} إلى قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 42، 47].

والمؤمن ليس من شأنه أن يقترح أجلاً لإهلاك الكفار، أو موعداً لنصرة الإسلام، أو غيرِ ذلك من الوعود التي يقرأها في النصوص الشرعية، ولكن من شأنه أن يسعى في نصرة دينه بما يستطيع، وأن لا يظل ينتظر مُضي السنن، فإن الله لم يتعبدنا بهذا ولا يغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم، وعليه أن يفتش في مقدار تحققه بالشروط التي ربطت بها تلك الوعود، فإذا قرأ ـ مثلاً ـ قول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] فعليه هنا أن يفتش عن أسباب النصر التي أمر الله بها هل تحققت فيه فرداً أو في الأمة على سبيل المجموع؛ ليدرك الجواب على هذا السؤال: لماذا لا تنتصر الأمة على أعدائها؟!.

- السؤال السادس: هل تعسر بعض الأمور يدل على أن الله لا يُحب إتمامها

ولو كانت حقاً؟

تعسر بعض الأمور لا يعني بالضرورة أن الله لا يُحب إتمامها فالمؤمن مُطالب بالأخذ بالأسباب المشروعة والمباحة مع التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، والحرص على ما ينفعه، ثم إذا لم يوفق بعد ذلك في أمر من الأمور، فلا يتأسف أو يتحسر على ما فات بل يؤمن بقضاء الله وقدره ويقول: قدر الله وما شاء فعل. وهذا ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم.

ويحدث في أحيان كثيرة أن تتعلق النفس بأشياء وقد لا يكون الخير فيها، فيصرفها الله برحمته وحسن تدبيره للعبد، وبعض الناس لقصر نظرهم لا يشعرون أن النعمة في المنع أحياناً تكون أعظم مما تكون في العطاء، وقد قال سبحانه: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. {البقرة: 216} .

قال الشيخ ابن سعدي في تفسير الآية: الغالب على العبد المؤمن، أنه إذا أحب أمراً من الأمور، فقيض الله له من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له، فالأوفق له في ذلك، أن يشكر الله، ويجعل الخير في الواقع، لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه، وأقدر على مصلحة عبده منه، وأعلم بمصلحته منه كما قال تعالى:"وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" ، فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره، سواء سرتكم أو ساءتكم. انتهى. ثم المؤمن كذلك يعلم أنه مهما أخذ بالأسباب وبالغ في الجهد فهناك

ص: 77

قدر مكتوب، كما قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. {الحديد:22} .

ونحن نأخذ بالأسباب مع التوكل على الله؛ لأن ذلك هو واجبنا، فأما ما جرت به المقادير مما هو مكتوب لنا فهذا غيب لا نعلمه إلا بعد وقوعه، وعندها يجب الصبر على القضاء، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَل"َ.

وأما وجود العوائق فلا يعني بالضرورة أن هذا علامة من الله بعدم محبة إتمام الأمر، بل قد يكون للامتحان ، والمعيار في معرفة ما يُحب الله وما يكره هو معرفة شرعه وحدود ما أنزل على رسوله الكريم وعليك بالتوكل على الله والسعي وتسليم الأمر إلى الله، فإذا لم يحدث هذا الأمر لك فحينها تعلم أنه ليس مُقدراً لك حصوله.

- السؤال السابع: هل هنالك تعارض بين إحساس العبد بالتقصير وحسن ظنه

بربه حين يتوكل عليه؟

لا منافاة بين إحساس العبد بالتقصير وحسن ظنه بربه حين يتوكل عليه وليس ثم إشكال أصلا حتى يُطلب رفعه، فإن التوكل على الله والثقة به تحصل لمن كمل إيمانه وتصديقه بما أخبر الله به، وأنه يكفي من توكل عليه ويكون حسب من التجأ إليه، وبقدر كمال العلم بأسماء الرب عزوجل الحسنى وصفاته العلا تكون ثقته بربه تبارك وتعالى.

فمن علم وأيقن أن الله تعالى أرحم بعبده من الأم بولدها، وعلم أنه تعالى هو الغني الحميد الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه تعالى هو الأعلم بمصالح العبد، وأنه هو القادر على سوقها إليه أقبل بقلبه على ربه ولم يكن له تعلق بسواه، وكان حسن الظن به واثقا بما في يده تعالى، وإن كان يعلم من نفسه التقصير والتفريط والعجز، فالتوكل على الله والوثوق به ينبعث في القلب من مطالعة أسماء الرب عز وجل وصفاته، فمن كان بالله وصفاته أعلم كان توكله أتم وأكمل ، يقول ابن القيم رحمه الله: وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب ، والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم ونصره لأوليائه، وحمايته لهم، ومعيته الخاصة لهم، انبعثت من العبد قوة ليتوكل عليه، والتفويض إليه والرضا به في كل ما يُجريه على عبده، ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه، والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله، وحسن اختياره لعبده، وثقته به، ورضاه بما يفعله ويختاره له. انتهى.

وليس بين هذا وبين شعور العبد بالتقصير والتفريط تنافٍ ألبتة، فإن العبد يسير إلى الله تعالى بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل ، بل إن افتقار العبد لله وشعوره بالذل والانكسار واستحضاره أنه لا حول له ولا قوة من دون الله وأنه لا يملك لنفسه شيئا وافتقاره إلى الله تعالى في جلب مصالحه ودفع المضار عنه من أعظم الأسباب الجالبة لكفاية الرب تعالى لعبده وجبره كسره وإقالة عثرته،

ص: 78

يقول ابن القيم رحمه الله: فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت وأن لا يرى نفسه إلا مفلساً، وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقاماً ولا سبباً يتعلق به ولا وسيلة منه يمن بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف والإفلاس المحض دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع وشملته الكسرة من كل جهاته وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تُجبر إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته ، ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية ولا حجاب أغلظ من الدعوى

انتهى. والله أعلم.

- السؤال الثامن: ما حكم الثقة بالنفس وهل تتنافى الثقة بالنفس مع اتهام

السلف لأنفسهم بالتقصير ومع التواضع المشروع؟

الثقة بالنفس بعد التوكل على الله مطلوبة شرعاً، فالمسلم يتعين عليه أن يُحسن الظن بالله تعالى، وأن يتفاءل لنفسه الخير والنجاح دائماً، ويسعى باستمرار في سبيل الارتقاء لتحصيل الكمال، ويستخدم لذلك فكره وطاقته، ويبذل جهده وما تيسر له من الوسائل في تحقيق طموحاته والوصول إلى أهدافه، فقد قال الله تعالى: فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين {آل عمران: 159} .

وفي حديث الصحيحين: يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي.

وفي رواية لأحمد: أنا عند ظن عبدي بي، فإن ظن بي خيراً فله، وإن ظن بي شراً فله.

وفي حديث مسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل).

وأما عدم الثقة بالنفس: فهو نوع من العجز لا يرتضيه الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من العجز، يقول صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، قال: ففعلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي، وقضى عني ديني. رواه الترمذي وحسنه.

وإذا كان عدم الثقة بالنفس خلقا ذميما، فهو ليس مرادفا للتواضع ولا مظهرا من مظاهره، لأن التواضع خلق محمود، وهو لا ينافي الثقة بالنفس، ويكفي دلالة على ذلك ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان متواضعا مع شجاعة وإقدام وتوكل على الله في كل ما هو من أمور الخير.

ولا بأس بالنظر في عواقب الأمور، ووضع احتمال الإخفاق في أمرٍ ما، والنظر في العلاج لما يمكن حصوله، فيحذر من أسباب الفشل ويحاول إصلاح ما فسد، وأما الاتهام للنفس الذي كان يفعله السلف فهو اتهامهم أنفسهم بعدم الوصول

ص: 79