المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(تساؤلات وإشكالات في باب العقيدة) - معالم الطريق إلى الله

[أبو فيصل البدراني]

الفصل: ‌(تساؤلات وإشكالات في باب العقيدة)

خلقه وهو غنيٌ عنهم ، وخلقه لا يُمكن أن ينفكوا عنه فلولاه ما كانوا شيئاً مذكوراً والخلق كلهم بلا استثناء لا يخرجون عن مُراد الله ومشيئته وإذنه الكوني القدري ولو قيد أنملة.

• حقيقة مراقبة الله هي مراقبة العبد لقلبه فهو موضع نظر الرب وماسوى ذلك

فلا أراه إلا تكلف مذموم.

• الهوى المذموم هو ما خالف الشرع.

• قلَ أن يؤتى الإنسان في دينه إلا من قبل الهوى فالجهل سهل علاجه ولكن

الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها.

وهما أمران لا ثالث لهما: اتباع السنة واتباع الهوى ، فمن أراد اتباع السنة فإنه سيأخذ بجادة الطريق وهي النصوص المحكمة وعمل السلف الصالح وسبيلهم ومن أراد اتباع هواه فسيسلك لذلك بنيات الطريق وسيجد هنالك عمومات أو قياسات أو قول صحابي أو تابعي أو رأياً لبعض أهل العلم وجميع هذه في ظاهرها أدلة وما هي عند التحقيق بأدلة، وكل صاحب مذهب لا يُعجزه أن يستدل لمذهبه بدليل شرعي صح أو لم يصح والحق يا مبتغيه إنما يُبتغى في اتباع الدليل الناصع واقتفاء السبيل الواضح لا في موافقة جمهور الناس ومجاراتهم والتوسعة عليهم.

• إصدار أي حكم لا يخلو من واحد من مأخذين لا ثالث لهما الشريعة أو الهوى.

• أسباب فتن الشبهات: لفتن الشبهات أسباب منها:

1 -

اتباع الهوى وفساد القصد. 2 - الإفراط والتفريط.

2 -

اتباع المتشابه وترك المحكم. 3 - الجهل بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

(تساؤلات وإشكالات في باب العقيدة)

السؤال الأول: ما هو الدليل على علو الله؟

الواجب على المسلم أن يعتقد أن الله تعالى مستو على عرشه، وعرشه فوق سماواته، وأنه بائن من خلقه جل وعلا ليس حاّلاً فيهم، فهو العلي الأعلى، فوق جميع مخلوقاته سبحانه وتعالى وتقدس وكيفية العلو لا يعلمها إلا الله تعالى ، وذلك أن الله تعالى لا يُقارن بمخلوقاته، فهو فوقها جميعاً، وفوقيته ليست كفوقية الأشياء فيما بينها، وقد أثبتها لنفسه وإذا كان ذهن الإنسان أضعف من أن يدرك هذه الفوقية، ولا يمكن أن يتصورها في المخلوقات التي بين يديه، فليعلم أن الله على

ص: 94

كل شيء قدير، وليُسلِّم بما أخبر الله به، ويترك الخوض فيما لا يستطيع أحد الوصول إلى كنهه عالمين أنه لا سبيل إلى معرفة كيفية صفاته تعالى بل نعتقد أن كل ما دار بخلد إنسان في كيفية صفة الرب تعالى فالله تعالى منزه عنه، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله تعالى، وكذا لا يعلم كيف صفاته إلا هو سبحانه، فمن خاض في كيفية صفات الرب فقد تعاطى ما لا علم له به وما لا سبيل إلى العلم به وقال على الله بغير علم، وهذا من أكبر الكبائر ، قال تعالى (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) ، فعلى هذا يجب على المسلم أن يؤمن بعلو الله على خلقه ذاتاً وقدراً وقهراً وعليه كذلك التوقف في الإيمان بلوازم هذا العلو الذي لم ينص عليها كتاب أو سنة بنفيها أو إثباتها ، ناهيك لو كانت هذه اللوازم باطلة كما هو الحال في كثير من الشبهات ، ولنقف حيث وقف السلف رحمهم الله الذين هم أعلم بالله تعالى منا مثبتين لله ما أثبته لنفسه من غير تكييف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل ، نافين عنه ما نفاه عن نفسه ، وهذا الذي قررناه هو ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة.

قال الله تعالى (سبح اسم ربك الأعلى).

وقال الله تعالى (يخافون ربهم من فوقهم).

وأما الأرض فهي حبة في فلاة بالنسبة لملكوت الله تعالى وهو سبحانه فوق ذلك كله، وله الفوقية المطلقة.

وقال الله تعالى (ثم استوى على العرش) في سبعة مواضع من القرآن وقد فسر السلف الاستواء بالعلو والارتفاع والصعود ، مع نفي علمنا بالكيفية، كما قال الإمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة

انتهى. ولنعلم أنه لا يجوز إبطال دلالة النصوص المثبتة لصفة الاستواء بمجرد أوهام يظن صاحبها أنها دلالات عقلية، إذ أن العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح.

وقال الله تعالى (إليه يصعد الكلم الطيب).

وقال الله تعالى (بل رفعه الله إليه).

وقال الله تعالى (أأمنتم من في السماء).

والسماء بمعنى العلو، أو هي السماوات المعروفة و (في) بمعني (على) أي: على السماء، إذ ليس الله تعالى محصوراً ولا داخلاً في شيء من خلقه، وهذا نحو قوله تعالى (قل سيروا في الأرض) أي على الأرض. وكقوله تعالى (ولأ صلبنكم في جذوع النخل) أي على جذوع النحل.

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على علوه تعالى على خلقه.

ص: 95

كما دلت عليه نصوص السنة ومنها:

1 -

ما رواه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي في قصة ضربه لجاريته وفيه .. فقلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟

قال: "ادعها، فدعوتها، فقال لها أين الله؟ قالت: في السماء.

قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة ".

2 -

ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم عرفة: " ألا هل بلغت؟ فقالوا: نعم _ يرفع أصبعه إلى السماء وينكتها إليهم _ ويقول: اللهم اشهد ".

3 -

ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الملائكة يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون ".

4 -

ما رواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ".

5 -

ما رواه البخاري عن أنس أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول:" زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات ".

6 -

ما في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء".

7 -

ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها زوجها ".

8 -

ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان ملك الموت يأتي الناس عياناً، فأتى موسى عليه السلام فلطمه فذهب بعينه، فعرج إلى ربه عز وجل فقال: يارب بعثتني إلى موسى فلطمني" الحديث.

9 -

ما رواه النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن معاذ: " لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات ".

10 -

وما جاء في قصة معراجه صلى الله عليه وسلم وارتفاعه إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، وكلامه مع ربه جل وعلا، ثم مروره على موسى، ثم رجوعه إلى ربه جل وعلا سائلاً التخفيف في أمر الصلاة.

ص: 96

إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة الدالة على إثبات هذا الأمر العظيم.

وهذا الأمر مستفيض عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وحسبنا من ذلك ما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:

شهدت بأن وعد الله حق

وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة كرام

ملائكة الإله مقربينا

وأما الإجماع فقد حكاه غير واحد من أئمة المسلمين.

1_

قال الإمام الأوزاعي (المتوفى سنة 157هـ): (كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته).

2 -

وقال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي (المتوفى سنة 280 هـ) في رده على بشر المريسي:

(اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله تعالى فوق عرشه، فوق سماواته).

3ــ وقال الإمام قتيبة بن سعيد (المتوفى سنه 240هـ): (هذا قول الأئمة في الإسلام وأهل السنة والجماعة: نعرف ربنا عز وجل في السماء السابعة على عرشه، كما قال (الرحمن على العرش استوى)

4ــ وقال الإمام أبو زرعة الرازي (المتوفى سنة 264هـ) والإمام أبو حاتم: (أدركنا العلماء في جميع الأمصار، فكان مذهبهم أن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه، بلا كيف، أحاط بكل شيء علما).

5ــ وقال الإمام بن عبد البر حافظ المغرب (المتوفى سنة 463هـ) في كتابه التمهيد (6/ 124) في شرح حديث النزول (

وهو حديث منقول من طرق متواترة، ووجوه كثيرة من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم

وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله عز وجل في كل مكان وليس على العرش. والدليل على صحه ما قاله أهل الحق في ذلك: قول الله عز وجل (الرحمن على العرش استوى

) انتهى.

6 -

وقال الإمام الحافظ أبو نعيم صاحب الحلية في كتابه محجة الواثقين: (وأجمعوا أن الله فوق سمواته، عال على عرشه، مستو عليه، لا مستولٍ عليه كما تقول الجهمية إنه بكل مكان

).

وبهذا يُعلم أن القول بأن الله في كل مكان ليس من أقوال أهل السنة، بل هو قول الجهمية والمعتزلة، ولهذا قال ابن المبارك رحمه الله (المتوفى سنه 181هـ) وقد سئل: كيف ينبغي أن نعرف ربنا؟ قال: على السماء السابعة على عرشه، ولا نقول: كما تقول الجهمية: إنه هاهنا في الأرض).

ص: 97

قال الإمام الذهبي في نهاية كتابه: العلو: (والله فوق عرشه كما أجمع عليه الصدر الأول، ونقله عنهم الأئمة. وقالوا ذلك رادين على الجهمية القائلين بأنه في كل مكان محتجين بقوله (وهو معكم) فهذان القولان هما اللذان كانا في زمن التابعين وتابعيهم، وهما قولان معقولان في الجملة. فأما القول الثالث المتولد أخيراً من أنه تعالى ليس في الأمكنة ولا خارجا عنها ولا فوق العرش ولا هو متصل بالخلق، ولا بمنفصل عنهم، ولا ذاته المقدسة متحيزة، ولا بائنة عن مخلوقاته، ولا في الجهات، ولا خارجا عن الجهات، ولا، ولا، فهذا شيء لا يعقل ولا يفهم، مع ما فيه من مخالفة الآيات والأخبار، ففر بدينك وإياك وآراء المتكلمين). انتهى

فمن قال: إن الله في كل مكان، يريد نفي علوه على عرشه، وأنه بذاته في الأمكنة فقوله باطل بل هو كفر بالله تعالى، لما فيه من إثبات الحلول والامتزاج بالمخلوقات.

ولهذا قال الإمام ابن خزيمة (من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى به أهل القبلة ولا أهل الذمة).

ومن قال إن الله في كل مكان يريد بذلك علمه تعالى وأنه لا يعزب مكان عن علمه، فهذا حق، وينبغي له أن يصرح مع ذلك بأن الله بائن عن خلقه مستو على عرشه لئلا يوهم كلامه حلول الله في خلقه، تعالى الله عن ذلك.

وهذا هو معنى قوله تعالى (وهو معهم أينما كانوا) وقوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم

) الآية. وقد صح عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله أنه قال: (الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء) وقد نقل الإمام أبو عمرو الطلمنكي الإجماع على أن المراد بهذه الآية: العلم. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه الإبانة:

(فإن قال: فهل تقولون إنه في كل مكان؟

قيل له: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال الرحمن على العرش استوى) وقال الله (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) وقال (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور). ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه، والحشوش، والمواضع التي يرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يُرْغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله) انتهى.

ص: 98

وذكر ابن القيم أن من جحد فوقيته فقد جحد لوازم اسمه " الظاهر " ولا يصح أن يكون الظاهر من له فوقية القَدْر فقط كما يقال الذهب فوق الفضة؛ لأن هذه الفوقية تتعلق بالظهور بل قد يكون المفوق أظهر من الفائق فيها، ولا يصح أن يكون القهر والغلبة فقط وإن كان سبحانه ظاهرا بالقهر والغلبة، فله سبحانه العلو المطلق من كل وجه وهو علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر.

وهذه المسألة قد اهتم أهل السنة ببيانها والتصنيف فيها، فمن أراد الاطلاع على كلام السلف واستدلالاتهم فليرجع إلى هذه المصادر، ومنها:

1 -

كتاب الإيمان والتوحيد لابن منده.

2 -

الإبانة لابن بطة العكبري.

3 -

التوحيد لابن خزيمة.

4 -

كتاب أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للطبري اللالكائي.

5 -

كتاب الإبانة للإمام أبي الحسن الأشعري.

6 -

كتاب العلو للحافظ الذهبي.

7 -

كتاب الفتوى الحموية لابن تيمية.

8 -

كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم.

والله أعلم.

السؤال الثاني: ما هو الدليل على إثبات العينين والقدم والرجل والساق لله عز وجل على ما يليق بجلاله؟

مذهب أهل السنة والجماعة أن ما أثبته الله تعالى لنفسه وأثبته له نبيه عليه الصلاة والسلام، فهو ثابت له على حقيقته بلا تمثيل ولا تعطيل، والصفات كلها من باب واحد قال تعالى:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى: 11.

أما بخصوص الأدلة على صفة القدم والرجل والساق والعينين فهي كثيرة، نقتصر منها على ما يلي:

فمن أدلة إثبات القدم والرجل لله عز وجل على مايليق بجلاله ما يلي:

1 -

ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تزال جهنم يُلقى فيها وتقول هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى يُنشئ الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة. هذا لفظ مسلم.

وقد ورد لفظ الرجل في رواية البخاري وهي: فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله تقول: قط قط.

ص: 99

2 -

قال ابن عباس رضي الله عنهما: الكرسي موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره. أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم. .

3 -

قال الإمام ابن خزيمة في كتاب التوحيد 2/ 202: باب ذكر إثبات الرجل لله عز وجل وإن رغمت أنوف المعطلة الجهمية، الذين يكفرون بصفات خالقنا عز وجل التي أثبتها لنفسه في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.

4 -

قال الشيخ ابن عثيمين في شرح العقيدة الواسطية:

والحاصل أنه يجب علينا أن نؤمن بأن لله تعالى قدماً، وإن شئنا قلنا رجلاً على سبيل الحقيقة مع عدم المماثلة، ولا تكيف الرجل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأن لله تعالى رجلا أو قدما، ولم يخبرنا كيف هذه الرجل أو القدم. انتهى.

5 -

ومن ذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عبد الله بن مسعود الطويل في الحشر، وفيه: فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه، قيل: وما هي؟ قالوا: يكشف عن ساق، قال: فيكشف عند ذلك عن ساق .... الحديث قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ. ووافقه الذهبي قائلا: على شرط البخاري ومسلم.

وفي البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساق فيسجد كل مؤمن. أخرجه البخاري في التوحيد، وكذلك مسلم في الإيمان، وورد ذكر هذا في عدة أحاديث مخرجة في الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم والجوامع وغيرها.

قال الحافظ ابن حجر قوله: هل بينكم وبينه علامة تعرفونها فيقولون الساق: فهذا يحتمل أن الله عرفهم على ألسنة الرسل من الملائكة أو الأنبياء أن الله جعل لهم علامة تجليه الساق وذلك أنه يمتحنهم.

وذكر نحو هذا القرطبي ونقله عن الحافظ في الفتح.

وأما أدلة إثبات الساق للرب على ما يليق بجلاله فهي ما يلي:

1 -

فقد ورد في تفسير قوله تعالى: يوم يكشف عن ساق أقوال متعددة: فمنها تفسير هذا بالساق الحقيقية استنادً على الحديث المعروف في البخاري، وعند الضمير ساقه، وتفسير القرآن بالحديث مقدم على غيره من أقوال المفسرين، وروايات

ص: 100

الحديث وسياقاته متطابقة في الجملة مع ما في القرآن: يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون.

وقال ابن عباس وجماعة إن الساق: الشدة واستدل باللغة، وهو مروي عنه بسندين حسنين كما قال ذلك الحافظ، وعلة ذلك عدم الضمير في الآية، وتفسير هذا الوجه في اللغة، وما جاء في الحديث لا ينافي اللغة وهو مقدم على غيره. وخاصة لفظ البخاري بالضمير يكشف ربنا عن ساق.

والخطابي وجماعة فسروه بالنور في الآية، وبعضهم بالنفس كما في الفتح، والذي عليه المعول الحديث لأنه حجة بخلاف غيره.

وحاصل الحديث الوارد في البخاري هو أن الله جعل علامة للمؤمنين يوم القيامة وهي الكشف عن ساقه سبحانه كما هو منصوص في صحيح البخاري وهو تفسير الآية الكريمة على الأرجح.

وأما من أدلة إثبات العينين لله عز وجل فهي ما يلي:

1 -

قال تعالى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) هود: 37 ..

ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: (واصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا)، قال: بعين الله تبارك وتعالى، رواه عنه البيهقي في "الأسماء والصفات"(2/ 116).

قال ابن جرير الطبري رحمه الله: " وقوله: (بأعيننا)، أي: بعين الله ووحيه كما يأمرك " انتهى.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " مذهب أهل السنة والجماعة: أن لله عينين اثنتين، ينظر بهما حقيقة على الوجه اللائق به، وهما من الصفات الذاتية " انتهى من "مجموع فتاوى ابن عثيمين"(4/ 58).

2.

قال تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) طه: 39

3.

قال تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) الطور: 48

وأما الأدلة من السنة؛ فمنها ما رواه البخاري (6858) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور - وأشار بيده إلى عينه - وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية).

ص: 101

قال ابن خزيمة رحمه الله – بعد ذكره للنصوص السابقة -: " فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما ثبَّت الخالق البارئ لنفسه من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد ثبَّته الله في محكم تَنْزيله ببيان النبي صلى الله عليه الذي جعله الله مبيِّناً عنه عز وجل في قوله: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عينين، فكان بيانه موافقاً لبيان محكم التَنْزيل، الذي هو مسطور بين الدفتين، مقروء في المحاريب والكتاتيب " انتهى.

"كتاب التوحيد"(1/ 64).

السؤال الثالث: هل إثبات الوجه والعين واليدين لله تعالى يستلزم التركيب كما يزعم البعض؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

قال ابن تيمية في (العقيدة الواسطية): ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له ولا كفء له ولا ند له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى فإنه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا من خلقه. ثم رسله صادقون مصدقون بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون، ولهذا قال:(سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين) فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب. وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .. اهـ.

وكذلك قال تلميذه ابن القيم (مدارج السالكين): العصمة النافعة في هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل تثبت له الأسماء والصفات، وتنفي عنه مشابهة المخلوقات، فيكون إثباتك منزها عن التشبيه، ونفيك منزها عن التعطيل اهـ.

ص: 102

فإن أهل السنة يثبتون ما أثبته الله تعالى لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، ويفوضون العلم بكيفيتها إلى الله عز وجل، فهم لا يثبتون له صفات كصفات البشر حتى ينقض قولهم بتوابع الصفات البشرية ولوازمها، وبيان ذلك في أن نقول: الوجه واليد والعين في البشر أبعاض وأجزاء، لأنها قد تفارق الجسم، وأما صفة الوجه والعين واليد لله تعالى فليست أبعاضاً ولا أجزاء، لأن الأبعاض هي ما جاز مفارقتها وانفصالها، وذلك في حق الرب تعالى محال، فليست هي في حق الله سبحانه جوارح مركبة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً، قال الإمام الدارمي في نقضه على المريسي: أما ما ادعيت أن قوما يزعمون أن لله عينا فإنا نقوله، لأن الله قاله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأما جارح كجارح العين من الإنسان على التركيب، فهذا كذب ادعيته عمداً، لما أنك تعلم أن أحدا لا يقوله، غير أنك لا تألو ما شنعت، ليكون أنجع لضلالتك في قلوب الجهال، والكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، فمن أي الناس سمعت أنه قال: جارح مركب؟ فأشر إليه، فإن قائله كافر، فكم تكرر قولك: جسم مركب، وأعضاء وجوارح وأجزاء، كأنك تهول بهذا التشنيع علينا أن نكف عن وصف الله بما وصف نفسه في كتابه، وما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن وإن لم نصف الله بجسم كأجسام المخلوقين، ولا بعضو ولا بجارحة، لكنا نصفه بما يغيظك من هذه الصفات التي أنت ودعاتك لها منكرون، فنقول: إنه الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ذو الوجه الكريم، والسمع السميع، والبصرالبصير، نورالسموات والأرض. اهـ.

وذكر الدكتور عبد الرحمن المحمود في أطروحته للدكتوراة: موقف ابن تيمية من الأشاعرة ـ مناقشة شيخ الإسلام لأدلة نفاة الصفات الخبرية ـ ومنها دليل التركيب والتجسيم ـ فقال: أما دليل التركيب والتجسيم، فهو من أشهر أدلتهم وأكثرها دورانا في كتبهم، وقد بين شيخ الإسلام بطلان حجتهم من خلال الوجوه التالية ـ فذكر خمسة أوجه فكان الخامس منها: والذين يدعون أن في إثبات العلو أو الوجه واليدين تركيبا، يرد عليهم بأنه يلزمهم التركيب فيما أثبتوه من الصفات كالحياة والعلم، يقول شيخ الإسلام: فإن قال من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة، ولم يثبت ما هو فينا أبعاض كاليد والقدم: هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم، قيل له: وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي، كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي، فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضا، أو تسميتها أعراضا لا يمنع ثبوتها، قيل له: وأثبت هذه

ص: 103

على وجه لا تكون تركيبا وأبعاضا، أو تسميتها تركيبا وأبعاضا لا يمنع ثبوتها، فإن قيل: هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء، قيل له: وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض، فإن قال: العرض ما لا يبقى وصفات الرب باقية، قيل: والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة، وذلك في حق الله محال، فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقا، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه فإن قال: ذلك تجسيم، والتجسيم منتف، قيل: وهذا تجسيم، والتجسيم منتف، وهذا منهج في الإلزام قوي، كثيرا ما يستخدمه شيخ الإسلام مع نفاة بعض الصفات خاصة. اهـ.

ويحسن الرجوع للكتاب للوقوف على بقية الوجوه لفائدتها.

وقال ابن الموصلي في مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم: قالت طائفة أخرى: ما لم يكن ظاهره جوارح وأبعاضا كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام لا يتأول، وما كان ظاهره جوارح وأبعاضا كالوجه واليدين والقدم فإنه يتعين تأويله لاستلزام إثباته التركيب والتجسيم، قال المثبتون ـ يعني أهل السنة المثبتين للصفات: جوابنا لكم هو عين الذي تجيبون به خصومكم من الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات، فهم قالوا لكم: لو قام به سبحانه صفة وجودية كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة لكان محلا للأعراض ولزم التركيب والتجسيم والانقسام، كما قلتم: لو كان له وجه ويد وإصبع لزم التركيب والانقسام وحينئذ فما هو جوابكم لهؤلاء نجيبكم به؟ فإن قلتم: نحن نثبت هذه الصفات على وجه لا تكون أعراضا ولا نسميها أعراضا فلا يستلزم تركيبا ولا تجسيما، قيل لكم: ونحن نثبت الصفات التي أثبتها الله لنفسه ونفيتموها أنتم عنه على وجه لا يستلزم الأبعاض والجوارح ولا يسمى المتصف بها مركبا ولا جسما ولا منقسما، فإن قلتم: هذا لا يعقل منها إلا الأجزاء والأبعاض، قلنا لكم: وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض، فإن قلتم: العرض لا يبقى زمانين، وصفات الرب تعالى باقية دائما أبدية فليست أعراضا، قلنا: وكذلك الأبعاض هي ما جاز مفارقتها وانفصالها وذلك في حق الرب تعالى محال، فليست أبعاضا ولا جوارح، فمفارقة الصفات الإلهية للموصوف بها مستحيل مطلقا في نوعين، والمخلوق يجوز أن تفارقه أبعاضه وأعراضه فإن قلتم: إن كان الوجه عين اليد وعين الساق والإصبع فهو محال، وإن كان غيره يلزم التميز ويلزم التركيب، قلنا لكم: وإن كان السمع هو عين البصر وهما نفس العلم وهي نفس الحياة والقدرة فهو محال، وإن تميز لزم التركيب، فما هو جوابكم؟ فالجواب مشترك، فإن قلتم: نحن نعقل صفات ليست أعراضا تقوم بغير جسم وإن لم يكن له في الشاهد نظير، ونحن لا ننكر الفرق بين

ص: 104

النوعين في الجملة، ولكن فرق غير نافع لكم في التفريق بين النوعين، وإن أحدهما يستلزم التجسيم والتركيب والآخر لا يستلزمه. اهـ.

وقال الدكتور/ خالد كبير علال، في أطروحته للدكتوراة (الأزمة العقيدية بين الأشاعرة وأهل الحديث): للأشاعرة في تبنيهم للتأويل ودفاعهم عنه مبررات يتذرّعون بها، فيقولون: إن في الشرع نصوصا تُوهم النقص في صفات الله تعالى، كالاستواء والنزول والمجيء والوجه واليدين والعينين، فإثباتها على ظاهرها يُؤدي إلى التشبيه في اعتقادهم، ونظرتهم هذه ناقصة وخطأ، لا تعتمد على أساس شرعي ولا عقلي؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء ولم يكن له كفؤا أحد، وهو موصوف بصفات الجلال والعظمة والإكرام، والصفات التي اعترض عليها الأشاعرة، الله هو الذي وصف بها نفسه، فهي إذن صفات كمال، وليست صفات نقص، ويجب علينا أن ننظر إليها بما يليق به تعالى ويجب له من كمال وعظمة وجلال، وفي إطار نصوص التنزيه .. فنحن إذا نظرنا لتلك الصفات في إطارها الشرعي الكامل وأرجعنا المتشابه – إن وُجد - إلى المحكم زال الإشكال المُتوّهم نهائيا بلا تأويل ولا تعطيل. اهـ.

وهكذا ترد النصوص الشرعية بدعوى مناقضتها للأدلة العقلية، وكأن أهل العلم في عصر النبوة وصدر هذه الأمة لم يكن عندهم من الفهم للنصوص الشرعية ما يفطنون به إلى مناقضة العقل وهكذا يدخل العبد في سلسلة من الانحرافات بسبب هذا الخلط وسوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومثال ذلك ما قاله الإيجي في (المواقف) حيث أصل لضرورة تقديم العقل على النقل وقال: لو وجد ذلك المعارض (العقلي) لقدم على الدليل النقلي قطعا بأن يؤول الدليل النقلي عن معناه إلى معنى آخر. مثاله قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. {طه:5} فإنه يدل على الجلوس، وقد عارضه الدليل العقلي الدال على استحالة الجلوس في حقه تعالى، فيؤول الاستواء بالاستيلاء أو يجعل الجلوس على العرش كناية عن الملك. اهـ.

ومن ذلك قول الرازي في (تأسيس التقديس) والذي نقله شيخ الإسلام للرد عليه في (بيان تلبيس الجهمية): أن القائلين بكونه جسما مؤلفا من الأجزاء والأبعاض لا يمنعون من جواز الحركة عليه، فإنهم يصفونه بالذهاب والمجيء، فتارة يقولون: إنه جالس على العرش وقدماه على الكرسي!! وهذا هو السكون، وتارة يقولون إنه ينزل إلى السماء الدنيا، وهذا هو الحركة. اهـ.

ص: 105

وهكذا يتيسر نسف كل دليل شرعي، ولو كان قرآنا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إما بتحريفه وتزييفه، أو بتأويله وتعطيله، وإما بتحميله ما لا يحتمل ولزومه ما لا يلزم من اللوازم الباطلة.

قال الدكتور محمد أمان في كتاب (الصفات الإلهية): خلاصة شبهتهم أنهم تصوروا - خطأ - أن النصوص التي نطقت بأن الله في السماء تدل بظاهرها على أنه تعالى مظروف في جوف السماء فشبهوه بمخلوق داخل مخلوق آخر، كما فهموا - خطأ - أيضاً من قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . وما في معناه من النصوص أنه تعالى جالس على العرش، وأنه محتاج إليه، فشبهوه بإنسان جالس على سريره، محتاجاً إليه، فأرادوا أن يفروا من هذا التشبيه الذي وقعوا فيه لسوء فهمهم، فوقعوا في التعطيل. اهـ.

وعلى أية حال فالتشبيه الممنوع هو نحو قول القائل: يد كيد، أو: يد كأيدينا. كما سبق عن الإمام أحمد، وأما قول: يد ليست كأيدنا. فليس فيها شيء محظور، بل هي الموافقة للتنزيل، حيث يجمع بين الإثبات والتنزيه، كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. {الشورى: 11} .

قال الإمام الترمذي في سننه: قال إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع أو مثل سمع، فهذا التشبيه. وأما إذا قال كما قال الله تعالى: يد وسمع وبصر، ولا يقول كيف، ولا يقول مثل سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيها، وهو كما قال الله تعالى في كتابه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. {الشورى: 11}. اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: التشبيه الممتنع إنما هو مشابهة الخالق للمخلوق في شيء من خصائص المخلوق، أو أن يماثله في شيء من صفات الخالق. فإن الرب تعالى منزه عن أن يوصف بشيء من خصائص المخلوق، أو أن يكون له مماثل في شيء من صفات كماله، وكذلك يمتنع أن يشاركه غيره في شيء من أموره بوجه من الوجوه. اهـ.

وقال الهروي في منازل السائرين في بيان درجة معرفة الصفات والنعوت: هي على ثلاثة أركان، أحدها: إثبات الصفة باسمها من غير تشبيه، ونفي التشبيه عنها من غير تعطيل، والإياس من إدراك كنهها وابتغاء تأويلها. اهـ.

ص: 106

ومما قال ابن القيم في شرح ذلك: الله سبحانه ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فالعارفون به المصدقون لرسله المقرون بكماله: يثبتون له الأسماء والصفات، وينفون عنه مشابهة المخلوقات فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه، وبين التنزيه وعدم التعطيل، فمذهبهم حسنة بين سيئتين، وهدى بين ضلالتين، فصراطهم صراط المنعم عليهم، وصراط غيرهم صراط المغضوب عليهم والضالين. قال الإمام أحمد: لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين. وقال: التشبيه: أن تقول يد كيدي تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. اهـ.

السؤال الرابع: هل الأرض الكروية؟ وهل إثبات دوران الأرض حول نفسها، ثم حول المجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية بأكملها حول المجرة يُخالف صريح الكتاب والسنة؟

بسم الله والحمد لله:

قبل الجواب نذكر بقاعدة عظيمة لأهل العلم مُجمع عليها وهي:

أن قطعي الوحي وقطعي العقل لا يتعارضان أبداً، فقطعي العقل يؤيد قطعي الوحي، ولذا ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) في (11) مجلداً فإن حدث تعارض بين العقل والنقل فالقطعي منهما يقضي على الظني، وإن حدث تعارض بين ظني الوحي وظني العقل فظني الوحي مقدم، حتى يثبت العقلي أو ينهار وهذا على قول وأما القول الآخر فالمقدم منهما هو الراجح مطلقاً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في درء التعارض 1/ 80: كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي، ومثل هذا الغلط يقع فيه كثير من الناس. انتهى

وقال شيخ الإسلام رحمه الله في 1/ 88 من نفس المرجع: فما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم هو ثابت في نفس الأمر، سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه.

وقال: لا يجوز أن يتعارض دليلان قطعيان لا عقليان ولا سمعيان ولا سمعي ولا عقلي، ولكن قد ظن من لم يفهم حقيقة القولين تعارضهما لعدم فهمه لفساد أحدهما.

ولذا .. فلا يمكن أن يحدث تعارض بين حقيقة علمية وخبر شرعي قطعي، وإنما عبرنا بالحقيقة العلمية لتخرج النظرية العلمية والفرضية العلمية، فالنظرية العلمية قابلة للصواب وللخطأ وكذا الفرضية، أما الحقيقة العلمية فلا تقبل التشكيك، وكثير

ص: 107

من الناس يأتي إلى بعض النظريات التي مازالت تحت الدراسة ولم يمط عنها اللثام ويجعل بينها وبين نصوص الوحي إشكالات ومعارضات.

وكروية الأرض أمر متفق عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: اعلم أن الأرض قد اتفقوا على أنها كروية الشكل، ثم قال: والأفلاك مستديرة بالكتاب والسنة والإجماع، ثم قال: وأهل الهيئة والحساب متفقون على ذلك. انتهى

وأما دوران الأرض حول نفسها، ثم حول المجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية بأكملها حول المجرة، كل ذلك أضحى حقيقة علمية، فدوران الأرض حول نفسها ينتج منه الليل والنهار، ودوران القمر حولها ينتج منه الشهر القمري، ودوران الأرض حول الشمس ينتج عنه الفصول الأربعة، فهل هذه الحقيقة العلمية تعارض نصوص القرآن أم تؤيدها؟

إذا نظرنا إلى قوله تعالى (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم)[يس:38] وقوله تعالى (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون)[الأنبياء:33] وقوله تعالى (وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى)[لقمان:29] فهذه الآيات تدل على جريان الشمس والقمر وبقية الأفلاك، أما ما يدعيه بعض الناس من أن القول بدوران الأرض لا يتفق مع القرآن فليس مع أصحاب هذه الدعوى حجة ولا دليل، أما قوله تعالى:(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[غافر:64]

(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)[النمل:61](وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)[الأنبياء:31]

فهذه الآية تدل على أن الأرض قرار بالنسبة لنا وهذا ما نشعر به، ولكنها في ذاتها تدور وتسبح، ولا تعارض بين هذا وذاك.

وكون الأرض تدور لا يفيد أنها تضطرب، فاضطراب الأرض منفي بكتاب الله حيث وصفها بالقرار وثبتها بالجبال الرواسي حتى لا تميد وتضطرب بمن عليها، وخذ على ذلك مثلاً مشاهداً: فالسفينة التي تسير في البحر إن كانت خفيفة لعب بها الموج واضطربت يمنة ويسرة، فإذا وضعت فيها الأثقال امتنعت عن الميلان والاضطراب فثبتت ورسخت مع أنها متحركة.

وعلى كل حال الثابت -فعلاً- أن الكون يسبح ويتحرك، هذا ما أثبته العلم، وليس في القرآن ما ينفيه أبداً.

فليس في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ما ينفي حركة الأرض ودورانها

ص: 108

أو يثبت سكونها واستقرارها، وهناك آيات ذكر بعض المفسرين أنها تدل إجمالاً على حركة الأرض ودورانها

وقد تواترت الأخبار من علماء الفلك المسلمين وغير المسلمين أن الأرض تدور وتتحرك كغيرها من الكواكب المبثوثة في هذا الكون، ومن المعلوم -كما هو مقرر في علم الأصول- أن من الأخبار المقطوع بها خبر التواتر، ولا يشترط فيه أن يكون من المسلمين بل يجوز أن يكون من المسلمين ومن غيرهم، قال الشيخ سيدي عبد الله في المراقي (ألفية الأصول):

واقطع بصدق خبر التواتر**** وسو بين مسلم وكافر

واللفظ والمعنى، وذاك خبر**** من عادة كذبهم منحظر.

فلا تكاد اليوم تطالع كتاباً يتحدث عن هذا الموضوع إلا وجدته يقرر هذه الحقيقة .... وهكذا الأمر بالنسبة لوسائل الإعلام وأحاديث أهل الاختصاص، يقول الدكتور حماد العبيدي في كتابه: الكون من الذرة إلى المجرة (الأرض هي الكوكب السيار الثالث من كواكب المجموعة الشمسية .... وتتميز عن كواكب المجموعة كلها بصلاحيتها للحياة

) ثم يقول: تسبح الأرض بنا في الفضاء كأنها سفينة، وسقفها هو غلافها الجوي، وهي مكيفة بالطاقة الشمسية .... وعند سيرها في دورانها حول الشمس تسير مهتزة متمايلة وتبدو وكأنها تتدرج إلى الوراء ذلك أنها تدور ضد عقارب الساعة وبسرعة تزيد عن (23) كم في الثانية فكأنها صاروخ عابر للقارات، ورغم هذه السرعة المدهشة فإننا لا نشعر بشيء منها، لأن قوة جاذبية الأرض وثقل ضغطها الجوي على رؤوسنا يثبتنا على سطحها تثبيتا يجعلنا كأننا جزء من أديمها، وذلك من عجيب صنع الله تعالى.

هذه الدورة للأرض حول الشمس هي التي تنتج عنها الفصول الأربعة، وتتم في سنة هي السنة الشمسية التي يجري الحساب بها في سائر الأنشطة والأعمال التي يقوم بها الناس، وهناك دورة ثانية للأرض تتم في نفس الوقت مع دورانها حول الشمس، هذه الدورة هي دورتها حول نفسها من الغرب إلى الشرق في اتجاه عقارب الساعة بسرعة (1609) كم في الساعة وتكملها في أربع وعشرين ساعة وينشأ عنها الليل والنهار.

وهذا ما درج عليه علماء التفسير في هذا العصر، حيث يقول الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه التفسير المنير: وكل من الشمس والقمر والأرض يسبح ويدور في فلكه في السماء كما يسبح السمك في الماء، فالشمس تسير في مدار نصف قطره (93) مليون ميل، وتتم دورتها في سنة، والقمر يدور حول الأرض كل

ص: 109

شهر في مدار نصف قطره (24) ألف ميل، والأرض تدور حول الشمس في سنة، وحول نفسها في يوم وليلة.

وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل من الشمس والقمر والأرض مدارا مستقلا يدور فيه، فلا يحجب أحدهما ضوء الآخر إلا نادرا حينما يحدث خسوف الشمس أو كسوف القمر، كما قال الله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. كأنه أخبر أن كل كوكب سيار يدور

ويقول سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن: ..... إن كون الأرض تدور دورتها هذه حول نفسها أمام الشمس، وكون القمر بهذا الحجم وبهذا البعد من الأرض، وكون الشمس كذلك بهذا الحجم وهذا البعد وهذه الدرجة من الحرارة

هي تقديرات من (العزيز) ذي السلطان القادر (العليم) ذي العلم الشامل ..... ولولا هذه التقديرات ما انبثقت الحياة من الأرض على هذا النحو، ولما انبثق النبت والشجر من الحب والنوى .... إنه كون مقدر بحساب دقيق .. لا مجال فيه للمصادفة العابرة ....

وفي موضع آخر يقول رحمه الله: وهذه الأرض تدور دورتها، وتخرج زرعها وتقوت أبناءها وتواري موتاها، وتفجر ينابيعها .... وفق سنة الله تعالى بلا إرادة منها.

ويقول في موضع آخر: .... فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس، فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهاراً، ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور، وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار.

وهذا السطح مكور، فالنهار كان عليه مكورا، والليل يتبعه مكورا كذلك، وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل، وهكذا في حركة دائبة: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ. واللفظ يرسم الشكل ويحدد الوضع ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها، وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير أدق من أي تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية .... انتهى.

وحركة الأرض ودورانها ليست من الواجب عقلاً أو المستحيل عقلاً بل هي من الجائز، فإذا أثبت أهل الاختصاص من المسلمين وغيرهم هذه الحقيقة ولم يكن في شرعنا ما يخالفها، فإن علينا أن نسلم بذلك ونحن على يقين جازم بأن ثابت الوحي لن يتعارض مع حقيقية علمية ثابتة، فمرد هذه الأمور التي لم يرد نص فيها قطعي

ص: 110

من الوحي إلى أهل الاختصاص من علماء الفلك، فالله سبحانه وتعالى يقول: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا {الفرقان:59} ، ويقول تعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {النحل:43} ، ومما يجدر وضعه في الاعتبار أن هذه المسألة لا يترتب عليها حكم شرعي ولا ينبني عليها عمل تكليفي، فينبغي أن يكون البحث فيها لأهل الاختصاص من علماء الفلك هذا والله تعالى أعلم.

السؤال الخامس: ما تأويل قوله تعالى (خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)؟

اعلم رحمك الله أن المفسرون اتفقوا على أن السماوات سبع، بعضها فوق بعض، واختلفوا في تفسير الأرضين السبع، فذهب الجمهور إلى أنها كرات كالكرة الأرضية، بعضها فوق بعض، بين كل أرض منها مسافة كما بين السماء والأرض، وأن في كل أرض منها خلق، لا يعلم حقيقتهم إلا الله تعالى. وقيل: إنها سبع أرضين، إلا أنه لم يفتق بعضها من بعض. وقيل: إن الأرض كرة واحدة منقسمة إلى سبعة أقاليم وهذا القول ضعيف جداً. قال القرطبي في تفسيره: ذكر تعالى أن السماوات سبع، ولا خلاف في أنها كذلك، بعضها فوق بعض، كما دلَّ على ذلك حديث الإسراء وغيره، ولم يأتِ للأرض في التنزيل عدد صريح لا يحتمل التأويل إلا قوله تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12]، وقد اختلف في المثلية؛ هل تكون في العدد واللفظ؟ لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار، والجمهور على أنها سبع أرضين طباقًا، بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والسماء، وفي كل أرض سكان من خلق الله. وعن الضحاك: أنها سبع أرضين، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. قال القرطبي: والأول أصح؛ لأن الأخبار دالّة عليه. ومن هذه الأخبار ما رواه النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أن السماوات السبع وعامرهنَّ، والأرضين السبع جعلن في كفةٍ، ولا إله إلا الله في كفة، لمالت بهنَّ لا إله إلاالله. وقال ابن كثير في تفسيره: ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وخالف القرآن والحديث بلا مستند. أما ما رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" (رقم:832) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12] قال:

ص: 111

سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى. فقد تكلم فيه أهل العلم. قال البيهقي بعده: هو شاذ بمرة. وقال السيوطي في الحاوي: هذا الكلام من البيهقي في غاية الحسن، فإنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن، لاحتمال صحة الإسناد مع أن في المتن شذوذًا أو علة تمنع صحته. وقال ابن كثير في البداية والنهاية: هو محمول - إن صح عن ابن عباس - على أنه أخذه من الإسرائيليات .. وذلك وأمثاله إذا لم يصح سنده إلى معصومٍ فهو مردود على قائله. وقال صديق حسن خان في "أبجد العلوم": وقد وقعت الزلازل والقلاقل لأجل ذلك الأثر لهذا العهد بين أبناء الزمان بما لا يأتي بفائدة، ولا يعود بعائدة .. ثم من استدل بهذا الأثر على إمكان وجود مثله صلى الله عليه وسلم، وكونه داخلاً تحت القدرة الإلهية فقد أطال المسافة، وأبعد النجعة، وأتى بما هو أجنبي عن المقام، وخارج عن النزاع. والله أعلم.

السؤال السادس: أين الجنة والنار؟

لا شك أن النار موجودة الآن كما أن الجنة موجودة، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم.

قال الله تعالى عن فرعون وقومه: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[غافر:46].

ومن الأحاديث في ذلك:

- حديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عمرو بن لحي في النار" رواه الشيخان.

- حديث: "أن الله لما خلق النار قال لجبريل: اذهب فانظر إليها

الخ الحديث، وقد رواه أبو داود والترمذي وغيرهما.

- حديث: "اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء" رواه البخاري ومسلم.

والأدلة على ذلك كثيرة، لكن لينبغي أن يُعلم أن نصوص الكتاب والسنة لم تعين تحديد مكان لهما بصريح العبارة، ولهذا قال زروق المالكي في شرح الرسالة عند قوله: وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به .. ثم قال: لم يرد نص صريح في مكان الجنة والنار، والأكثر على أن الجنة فوق السماوات السبع وتحت العرش؛ لقول الله تعالى: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى*عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. والنار تحت الأرضين السبع. وقال العدوي في حاشيته عند النص المذكور: إن الجنة فوق السماوات السبع وتحت العرش وإنه سقفها، ولم يصح شيء في مكان النار، وقيل إنها تحت الأرضين السبع، وقيل إنها محيطة بالدنيا وإن الجنة بعدها

انتهى.

ص: 112

وقد قال البغوي في تفسيره: وسئل أنس بن مالك رضي الله عنه عن الجنة: أفي السماء أم في الأرض؟ فقال: وأي أرض وسماء تسع الجنة؟ قيل: فأين هي؟ قال: فوق السماوات السبع تحت العرش.

وقال قتادة: كانوا يرون أن الجنة فوق السماوات السبع، وأن جهنم تحت الأرضين السبع.

وقال ابن كثير في التفسير: وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟ ..... وقال الأعمش وسفيان الثوري وشعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب: إن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل؟ وإذا جاء الليل أين النهار؟ فقالوا: لقد نزعت مثلها من التوراة. رواه ابن جرير من ثلاث طرق ..... وهذا يحتمل معنيين (أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل، وهذا أظهر.

الثاني: أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش وعرضها كما قال الله عز وجل كعرض السماوات والأرض، والنار في أسفل سافلين فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض وبين وجود النار. وقد استأنس بعض أهل العلم إلى أن النار تحت الأرضين السبع بقول الله تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ {المطففين:7} . وبما في صحيح البخاري وغيره مرفوعا: وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم. قال زروق في شرحه المذكور: والحق تفويض ذلك إلى علم العليم الخبير.

والله أعلم.

السؤال السابع: ما حقيقة القول بأن الشمس في السماء الرابعة؟

القول بأن الشمس في السماء الرابعة هو قول أهل الهيئة القائلين بأن الشمس في السماء الرابعة، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: والحق أن الشمس في الفلك الرابع، والسموات السبع عند أهل الشرع غير الأفلاك خلافاً لأهل الهيئة. ا. هـ

ص: 113

وقد يستدل على أن الشمس بل وغيرها من النجوم إنما هي في السماء الدنيا بقوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (الصافات:6)، وبقوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (الملك:5)، وبقوله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (فصلت:12).

وقد ذكر هذا الاستدلال ابن كثير في البداية والنهاية فقال: وقال آخرون بل الكواكب كلها في السماء الدنيا، ولا مانع من كون بعضها فوق بعض، وقد يستدل على هذا بقوله تعالى .. وذكر الآيات السابقة.

والله أعلم.

السؤال الثامن: ما تأويل قوله تعالى (وَسَعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ)؟

للعلماء ثلاثة أقوال في معنى الكرسي المذكور في قوله تعالى: وَسَعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ [البقرة:255]:

- الأول أنه بمعنى علم الله، وهو عن ابن مسعودٍ وابن عباس وسعيد بن جبير وقال به: ابن جرير الطبري، وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن.

- الثاني: أنه هو العرش، وهو مروي عن الحسن.

- الثالث: أنه موضع القدمين بالنسبة للعرش وهو الراجح، وهو مروي عن أبي موسى والسدي ومسلم البطين وابن عباس.

وقد روى ابن جرير بسنده إلى عبد الله بن خليفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن كرسيه وسع السماوات والأرض، وإنه ليقعد عليه فما يفضل مقدار أربع أصابع، وإن له أطيطًا كأطيط الرحل وقد رواه أيضًا الخطيب والضياء المقدسي وغيرهما، وضعفه طائفة من أهل العلم منهم: ابن الجوزي والإسماعيلي والألباني وغيرهم.

السؤال التاسع: ما أول المخلوقات؟

العرش هو أول المخلوقات وهو سابق في الخلق للقلم، وأما حديث عبادة رضي الله عنه:(أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب)، فإن المراد به: إنه عند أول خلقه أُمر بالكتابة وليس المقصود أن القلم هو أول المخلوقات، كقولك: أول ما دخل زيد قيل له: اجلس. أي: أنه عند أول دخوله أُمر بالجلوس. وإن كان بعض المعاصرين من أهل العلم يرجحون أن القلم هو أول المخلوقات على الإطلاق، وهو قول طائفة من أصحاب الأئمة من أهل السنة المتأخرين؛ لكن جماهير السلف وعامتهم

ص: 114

على أن العرش متقدم عليه، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: والناس مختلفون في القلم الذي سبق القضاء به من الديَّان هل كان قبل العرش أو هو بعده قولان عند أبي العلا الهمداني والحق أن العرش قبل لأنه قبل الكتابة كان ذا أركان ثم أراد أن يبين معنى حديث عبادة فقال: وكتابة القلم الشريف تعاقب إيجاده من غير فصل زمان أي: أنه عند أول خلقه أمر بالكتابة.

السؤال العاشر: في كم يوم خلق الله عز وجل السماوات والأرض ، وأين كان الله عز وجل قبل خلقه للخلق؟

بدايةً لتعلم أخي أن الأصل في المسلم أن يسأل عما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، وقد كره السلف رحمهم الله أن يُسألوا عن أشياء لا تعود عليهم بالنفع. ومن ذلك مثلاً لما سُئل الإمام ابن حجر رحمه الله عن سؤال الملكين في القبر بأي اللغات سيكون؟ أجاب بما حاصله: إن هذا أمر لا يهمك في قليل ولا كثير، ولكن اسأل عمَّا ينجيك من أهوال القبر

وفيما يتعلق بالسؤال فإن الله تعالى قد أخبرنا أنه خلق الأرض في يومين، وأنه جعل من فوقها الجبال، وقدر فيها الأقوات في يومين آخرين، وأنه خلق السماوات في يومين. قال تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {فصلت:9 - 12} .

وورد شيء من التفصيل لوقت خلق هذه المخلوقات في السنة النبوية. فقد أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل.

ص: 115

وهذه الأزمنة وهذا الخلق لا يقاس بالمقياس الذي يدبر به الإنسان أموره. فملايين الكواكب وملايين المجرات المحتواة في السماء، لا تحتاج من الله إلى عناء أو وقت. فالله تعالى قادر على أن يخلق كل المخلوقات في أقل من لحظة. قال جل وعلا: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {يس:82} . ولكنه أراد ما أراده لحكم بالغة، قد لا يدركها سائر الناس، وعلى المسلم أن يسلم بكل ما أخبر الله به، ويعتقد قدرة الله على كل شيء.

وأما عن السؤال الثاني فالله عز وجل قبل أن يخلق مخلوقاته كان في عماء، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله! أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء.

السؤال الحادي عشر: ما هو العرش وما هو الكرسي؟

قد دل الكتاب والسنة وإجماع السلف على أن العرش حق، وأن الله تعالى مستو عليه، وأنه أعلى المخلوقات وسقفها، وأنه مقبب وله قوائم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والكرسي فوق الأفلاك كلها، والعرش فوق الكرسي، ونسبة الأفلاك وما فيها بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فلاة، والحملة بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة، وأما العرش فإنه مقبب لما روي في السنن لأبي داود عن جبير بن مطعم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال يا رسول الله: جهدت الأنفس وجاع العيال .. وذكر الحديث، إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله على عرشه، وإن عرشه على سماواته، وأرضه هكذا، وقال بأصبعه مثل القبة. اهـ.

وقال في شرح الطحاوية: والعرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. وليس هو فلكا ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما أنزل بلغة العرب، فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات. اهـ.

واعلم رحمك الله أن عرش الرحمن وهو أعظم مخلوق خلقه الله، فقد روى ابن حبان وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا ذر: ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وله شاهد عن مجاهد أخرجه سعيد بن منصور في التفسير بسند صحيح عنه. وهناك من أوَّل العرش

ص: 116

بأنه الملك، وهذا الحديث يرد هذا التأويل ويبطله، وكذلك يبطله قوله تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ {الحاقة:17} .

قال صلى الله عليه وسلم {إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلاها وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة} .

وأما الكرسي في قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ {البقرة:255} ، فقيل: هو العرش ذاته، وقيل: هو علم الله، وقيل: هو موضع القدمين من العرش ، وأنه بين يدي العرش كالمرقاة إليه، فهو غير العرش، وهذا القول هو الأقرب والراجح ، والله تعالى أعلم.

السؤال الثاني عشر: هل العرش كالقبة على العالم أم كالفلك المستدير؟

لا شك أن العرش هو أعلى المخلوقات وسقفها ولكن اختُلف في صفة العرش فقيل: أن العرش فلك مستدير محيط بالعالم من كل جهة، وربما سموه: الفلك الأطلس، والفلك التاسع ، وهذا مذهب طائفة من أهل الكلام، وقيل هذا ليس براجح؛ لأنه على حد تعبير ابن تيمية رحمه الله قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم:{فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور} .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والكرسي فوق الأفلاك كلها، والعرش فوق الكرسي، ونسبة الأفلاك وما فيها بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فلاة، والحملة بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة، وأما العرش فإنه مقبب لما روي في السنن لأبي داود عن جبير بن مطعم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال يا رسول الله: جهدت الأنفس وجاع العيال .. وذكر الحديث، إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله على عرشه، وإن عرشه على سماواته، وأرضه هكذا، وقال بأصبعه مثل القبة. اهـ.

وقال شارح الطحاوية ابن أبي العز: والعرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. وليس هو فلكا ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما أنزل بلغة العرب، فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات. اهـ.

ومن شعر أمية بن أبي الصلت:

ص: 117

مجدوا الله فهو للمجد أهل

ربنا في السماء أمسى كبيرا

بالبناء العالي الذي بهر النَّاس

وسوَّى فوق السماءِ سريرا

شرجعاً لا يناله بصر العين

ترى حوله الملائك صورا

الصور هنا جمع أصور ، وهو المائل العنق لنظره إلى العلو. والشرجع هو العالي المنيف ، والسرير: هو العرش في اللغة.

ومن شعر عبدالله بن رواحة رضي الله عنه ، الذي عرَض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته:

شهدت بأن وعد الله حق

وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء

طاف وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة شداد

ملائكة الإله مسوَّمينا

ذكره ابن عبدالبر وغيره من الأئمة.

قال ابن كثير: العرش على الصحيح الذي تقوم عليه الأدلة قبة مما يلي العالم من هذا الوجه، وليس بمحيط كسائر الأفلاك؛ لأنه له قوائم وحملة يحملونه. ولا يتصور هذا في الفلك المستدير، وهذا واضح لمن تدبر ما وردت به الآيات والأحاديث الصحيحة، ولله الحمد والمنة اهـ.

وذكر العيني في شرح أبي داود نحو ذلك ثم قال: وبهذا بطل كلام من يقول: إنه فلك مستدير في جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة، وهو الفلك التاسع، والفلك الأطلس، والأثير اهـ.

وقال القاسمي في (محاسن التأويل): هذا ـ يعني الوصف بالمقبب ـ لا يدل على أنه فلك من الأفلاك، ولا مستدير مثل ذلك، لكن لفظ (القبة) يستلزم استدارة من العلوّ، لا من جميع الجوانب، إلا بدليل منفصل. ولفظ (الفلك) يستدل به على الاستدارة مطلقا، كما قال ابن عباس في كُلٌّ فِي فَلَكٍ [الأنبياء: 33]: في فلكة مثل فلكة المغزل وأما لفظ (القبة) فإنه لا يتعرض لهذا المعنى، لا ينفي ولا إثبات، لكن يدل على الاستدارة من العلوّ اهـ.

ص: 118

وعلى كل تقدير فالعرش فوق سواء كان محيطاً بالأفلاك أو غير ذلك ; فيجب أن يُعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق سبحانه وتعالى في غاية الصغر ; لقوله تعالى {وما قدروا الله حق قدره} الآية.

وليعلم المسلم بأن السكوت عن الكلام في العرش وأنه كالقبة أو فلك مستدير محيط بالكائنات خير من الخوض في ذلك، والجدل وكثرة الحديث فيه، فإن الخوض في ذلك والتعمق فيه من شره الفكر، واستشراف العقل إلى إدراك أمر غيبي لا يُعلم إلا بالتوقف، فينبغي الوقوف عند النقل وخاصة أن الحديث الذي في السنن والذي أورده ابن تيمية إسناده ضعيف وعلى فرض صحته فهو لا يدل على أن العرش كالقبة فوق السماوات من جانب واحد، فإن السماوات محيطة بالأرض، ومع ذلك فهي كالقبة بالنسبة لكل جماعة على سطح الأرض من الجهة التي تليهم إلا أن هذه المذهب هو ظاهر كلام أهل السنة المتأخرين وهو الأرجح لأن العرش ثبت أن له قوائم بالأدلة الصحيحة وأن الملائكة تطوف من حوله - علماً بأن متقدموا أهل السنة لم يُفصحوا بتفصيل في ذلك في أن العرش هو كالقبة فوق العالم، أو أنه ليس مستديراً من كل جهة فلذلك فليسعنا ما وسعهم.

وهنا تنبيه مهم: يجب أن يعلم المسلم أن استواء الله على العرش ليس لحاجته إليه، ولا لكون العرش حاملاً له، فإن السماء فوق الأرض ومحيطة بها، ولم يلزم أن تكون السماء في قيامها وتماسكها محتاجة إلى الأرض، ولا أن تكون الأرض حاملة لها، فالله مستو على عرشه، وهو مستغن عنه وعما فيه من الكائنات، وهو فوق عباده حقيقة، محيط بهم إحاطة تليق بجلاله لا كإحاطة الفلك بما فيه من الكائنات، والجميع قائم بحوله وقوته ابتداء ودواما، محفوظ بعنايته ورعايته، جلت قدرته، وتعالت عظمته علوا كبيرا، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وقال: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).

وقال: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) وقال: (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) وقال: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ).

السؤال الثالث عشر: هل إثبات كروية الأرض يستلزم القول بنفي علو وفوقية الله عز وجل على خلقه؟

ص: 119

الإجابة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

هذه الشبهة التي يوردها الجهمية على مسألة الاستواء وحاصلها أنه كيف يكون الرب تعالى فوقنا والأرض كروية كما هو معلوم، فإن هذه الشبهة الداحضة قد فندها شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع، ونحن ننقل من كلامه ما يناسب المقام، قال رحمه الله: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْكُرَةِ وَهَذَا قَبْضُهُ لَهَا وَرَمْيُهُ بِهَا وَإِنَّمَا بَيَّنَ لَنَا مِنْ عَظَمَتِهِ وَصْفَ الْمَخْلُوقَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ مَا يُعْقَلُ نَظِيرُهُ مِنَّا، ثُمَّ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ إنْ شَاءَ قَبَضَهَا وَفَعَلَ بِهَا مَا ذَكَرَ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَقْبِضَهَا وَيَدْحُوَهَا كَالْكُرَةِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْإِحَاطَةِ بِهَا مَا لَا يَخْفَى، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَهُوَ مُبَايِنٌ لَهَا لَيْسَ بمحايث لَهَا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا ـ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ـ إذَا كَانَ عِنْدَهُ خَرْدَلَةٌ إنْ شَاءَ قَبَضَهَا فَأَحَاطَتْ بِهَا قَبْضَتُهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبِضْهَا بَلْ جَعَلَهَا تَحْتَهُ فَهُوَ فِي الْحَالَتَيْنِ مُبَايِنٌ لَهَا وَسَوَاءٌ قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ هُوَ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَإِحَاطَةِ الْكُرَةِ بِمَا فِيهَا أَوْ قِيلَ إنَّهُ فَوْقَهَا وَلَيْسَ مُحِيطًا بِهَا، كَوَجْهِ الْأَرْضِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوْفِهَا وَكَالْقُبَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا تَحْتَهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ الْعَرْشُ فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْخَالِقُ سبحانه وتعالى فَوْقَهُ وَالْعَبْدُ فِي تَوَجُّهِهِ إلَى اللَّهِ يَقْصِدُ الْعُلُوَّ دُونَ التَّحْتِ وَتَمَامُ هَذَا بأَنْ نَقُولَ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ كُرَوِيًّا كَالْأَفْلَاكِ وَيَكُونُ مُحِيطًا بِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَوْقَهَا وَلَيْسَ هُوَ كُرَوِيًّا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ وَأَنَّ الْجِهَةَ الْعُلْيَا هِيَ جِهَةُ الْمُحِيطِ وَهِيَ الْمُحَدَّبُ وَأَنَّ الْجِهَةَ السُّفْلَى هُوَ الْمَرْكَزُ وَلَيْسَ لِلْأَفْلَاكِ إلَّا جِهَتَانِ الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ فَقَطْ، وَأَمَّا الْجِهَاتُ السِّتُّ فَهِيَ لِلْحَيَوَانِ فَإِنَّ لَهُ سِتَّ جَوَانِبَ يَؤُمُّ جِهَةً فَتَكُونُ أَمَامَهُ وَيُخْلِفُ أُخْرَى فَتَكُونُ خَلْفَهُ وَجِهَةٌ تُحَاذِي يَمِينَهُ وَجِهَةٌ تُحَاذِي شِمَالَهُ وَجِهَةٌ تُحَاذِي رَأْسَهُ، وَجِهَةٌ تُحَاذِي رِجْلَيْهِ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْجِهَاتِ السِّتِّ فِي نَفْسِهَا صِفَةٌ لَازِمَةٌ، بَلْ هِيَ بِحَسَبِ النِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ فَيَكُونُ يَمِينُ هَذَا مَا يَكُونُ شِمَالُ هَذَا وَيَكُونُ أَمَامَ هَذَا مَا يَكُونُ خَلْفَ هَذَا وَيَكُونُ فَوْقَ هَذَا مَا يَكُونُ تَحْتَ هَذَا، لَكِنَّ جِهَةَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ لِلْأَفْلَاكِ لَا تَتَغَيَّرُ فَالْمُحِيطُ هُوَ الْعُلُوُّ وَالْمَرْكَزُ هُوَ السفل

وكل أحد فهو على ظهر الأرض وليس مَنْ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ وَلَا مَنْ فِي هَذِهِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ كَمَا أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُحِيطَةٌ بِالْمَرْكَزِ وَلَيْسَ أَحَدُ جَانِبَيْ الْفَلَكِ تَحْتَ الْآخَرِ وَلَا الْقُطْبُ الشمالي تحت الجنوبي ولا بالعكس .. مَنْ يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَثْقَالِ لَا يُقَالُ إنَّهُ تَحْتَ أُولَئِكَ وَإِنَّمَا هَذَا خَيَالٌ يَتَخَيَّلُهُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ تَحْتَ إضَافِيٍّ، كَمَا لَوْ كَانَتْ

ص: 120

نَمْلَةٌ تَمْشِي تَحْتَ سَقْفٍ فَالسَّقْفُ فَوْقَهَا وَإِنْ كَانَتْ رِجْلَاهَا تُحَاذِيه، وَكَذَلِكَ مَنْ عُلِّقَ مَنْكُوسًا فَإِنَّهُ تَحْتَ السَّمَاءِ وَإِنْ كَانَتْ رِجْلَاهُ تَلِي السَّمَاءَ وَكَذَلِكَ يَتَوَهَّمُ الْإِنْسَانُ إذَا كَانَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الْأَرْضِ أَوْ الْفَلَكِ أَنَّ الْجَانِبَ الْآخَرَ تَحْتَهُ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَتَنَازَعُ فِيهِ اثْنَانِ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ، وَكُلُّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُحِيطَ هُوَ الْعَالِي عَلَى الْمَرْكَزِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي الْفَلَكِ مِنْ نَاحِيَةٍ يَكُونُ تَحْتَهُ مَنْ فِي الْفَلَكِ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ مُتَوَهِّمٌ عِنْدَهُمْ

وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ مُسْتَدِيرٌ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَانَ هُوَ أَعْلَاهَا وَسَقْفَهَا ـ وَهُوَ فَوْقَهَا ـ مُطْلَقًا فَلَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ وَإِلَى مَا فَوْقَهُ الْإِنْسَانُ إلَّا مِنْ الْعُلُوِّ لَا مِنْ جِهَاتِهِ الْبَاقِيَةِ أَصْلًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا إحَاطَةً تَلِيقُ بِجَلَالِهِ، فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ فِي يَدِهِ أَصْغَرُ مِنْ الْحِمَّصَةِ فِي يَدِ أَحَدِنَا، وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إذَا كَانَ كُرَوِيًّا وَاَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِ مُحِيطٌ بِهِ بَائِنٌ عَنْهُ فَمَا فَائِدَةُ: أَنَّ الْعَبْدَ يَتَوَجَّهُ إلَى اللَّهِ حِينَ دُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ؟ فَيَقْصِدُ الْعُلُوَّ دُونَ التَّحْتِ فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ وَقْتَ الدُّعَاءِ بَيْنَ قَصْدِ جِهَةِ الْعُلُوِّ وَغَيْرِهَا مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي تُحِيطُ بِالدَّاعِي وَمَعَ هَذَا نَجِدُ فِي قُلُوبِنَا قَصْدًا يَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً فَأَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا فِي قُلُوبِنَا وَقَدْ فُطِرْنَا عَلَيْهَا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا السُّؤَالُ إنَّمَا وَرَدَ لِتَوَهُّمِ الْمُتَوَهِّمِ أَنَّ نِصْفَ الْفَلَكِ يَكُونُ تَحْتَ الْأَرْضِ وَتَحْتَ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ، فَلَوْ كَانَ الْفَلَكُ تَحْتَ الْأَرْضِ مِنْ جِهَةٍ لَكَانَ تَحْتَهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْفَلَكُ تَحْتَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا وَهَذَا قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ، إذْ الْفَلَكُ هُوَ فَوْقَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا .. انتهى محل الغرض من كلام الشيخ بتصرف.

وإن شئت البحث بتمامه فا نظره في مجموع الفتاوى.

وشيخ الإسلام رحمه الله يرجح أن العرش ليس مستديراً مطلقاً، بل يرجح أنه مقبب، قال رحمه الله ما عبارته: وَأَمَّا الْعَرْشُ: فَإِنَّهُ مُقَبَّبٌ، لِمَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهَدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ وَإِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ كَهَكَذَا ـ وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ فَلَكٌ مُسْتَدِيرٌ مُطْلَقًا، بَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ وَأَنَّ لَهُ قَوَائِمَ: كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِك لَطَمَ وَجْهِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اُدْعُوهُ فَدَعَوْهُ فَقَالَ: لِمَ لَطَمْت وَجْهَهُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي مَرَرْت بِالسُّوقِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاَلَّذِي

ص: 121

اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، فَقُلْت: يَا خَبِيثُ وَعَلَى مُحَمَّدٍ فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْته، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ ـ وَفِي: عُلُوِّهِ ـ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ـ فَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَسَقْفُهَا وَأَنَّهُ مُقَبَّبٌ وَأَنَّ لَهُ قَوَائِمَ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ فَوْقُ سَوَاءٌ كَانَ مُحِيطًا بِالْأَفْلَاكِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ سبحانه وتعالى فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ـ الْآيَةَ. انتهى.

وقد فصل الكلام على ذلك ـ أيضا ـ في درء التعارض ـ خلال رده على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية وكذلك في بيان تلبيس الجهمية.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: أن الله سبحانه منح عباده فطرة فطرهم عليها لا تقبل سوى الحق ولا تؤثر عليه غيره، ومن أبين ما شهدت به الفطر والعقول والشرائع: علوه سبحانه فوق جميع العالم، ثم قال: وأما تقرير ذلك بالأدلة العقلية الصريحة فمن طرق كثيرة جدا، منها: أنه إذا ثبت بضرورة العقل أنه سبحانه مباين للمخلوقات، وثبت أن العالم كري ـ كما اعترف به النفاة المعطلة وجعلوه عمدتهم في جحد علوه سبحانه ـ لزم أن يكون الرب تعالى في العلو ضرورة، وذلك لأن العالم إذا كان مستديرا فله جهتان حقيقيتان: العلو والسفل فقط. هـ.

ومراده رحمه الله إثبات فوقية الله تعالى وعلوه على خلقه وليس مراده أن إحاطة الله تعالى بخلقة تستلزم نسبته لجميع الجهات فلينتُبه لذلك، فإنه لا يصح أن يُنسب الله تعالى إلا إلى جهة العلو المطلق، بل لا يصح أصلا أن في خارج العالم جهات إلا جهتان فقط: العلو والسفل، كما ذكر ابن القيم نفسه في آخر كلامه الذي نقلناه قبل قليل.

وقد قال شيخ الإسلام في أول الرسالة العرشية وهي من أفضل ما كتب في بيان هذا الموضوع: الله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله، فإن السموات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا. هـ.

وقال في آخرها: فقد ظهر أنه ـ على كل تقدير ـ لا يجوز أن يكون التوجه إلى الله إلا إلى العلو مع كونه على عرشه مباينا لخلقه ـ وسواء قدر مع ذلك أنه محيط بالمخلوقات كما يحيط بها إذا كانت في قبضته، أو قدر مع ذلك أنه فوقها من غير أن يقبضها ويحيط بها ـ فهو على التقديرين يكون فوقها مباينا لها، فقد

ص: 122

تبين أنه على هذا التقدير في الخالق وعلى هذا التقدير في العرش لا يلزم شيء من المحذور والتناقض، وهذا يزيل كل شبهة، وإنما تنشأ الشبهة في اعتقادين فاسدين:

أحدهما: أن يظن أن العرش إذا كان كريا والله فوقه وجب أن يكون الله كريا، ثم يعتقد أنه إذا كان كريا فيصح التوجه إلى ما هو كري ـ كالفلك التاسع ـ من جميع الجهات، وكل من هذين الاعتقادين خطأ وضلال، فإن الله مع كونه فوق العرش ومع القول بأن العرش كري ـ سواء كان هو التاسع أو غيره ـ لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها، كما لا يجوز أن يظن أنه مشابه لها في أقدارها ولا في صفاتها ـ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ـ بل قد تبين أنه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك في الفلك، وإنها عنده أصغر من الحمصة والفلفلة ونحو ذلك في يد أحدنا، فإذا كانت الحمصة أو الفلفلة، بل الدرهم والدينار أو الكرة التي يلعب بها الصبيان ونحو ذلك في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك، هل يتصور عاقل إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته به أن يكون الإنسان كالفلك؟ والله ـ ولله المثل الأعلى ـ أعظم من أن يظن ذلك به، وإنما يظنه الذين: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون}.

وكذلك اعتقادهم الثاني: وهو أن ما كان فلكا فإنه يصح التوجه إليه من الجهات الست خطأ باتفاق أهل العقل الذين يعلمون الهيئة، وأهل العقل الذين يعلمون أن القصد الجازم يوجب فعل المقصود بحسب الإمكان، فقد تبين أن كل واحد من المقدمتين خطأ في العقل والشرع، وأنه لا يجوز أن تتوجه القلوب إليه إلا إلى العلو لا إلى غيره من الجهات على كل تقدير يفرض من التقديرات ـ سواء كان العرش هو الفلك التاسع أو غيره، سواء كان محيطا بالفلك كري الشكل أو كان فوقه من غير أن يكون كريا سواء كان الخالق - سبحانه - محيطا بالمخلوقات كما يحيط بها في قبضته، أو كان فوقها من جهة العلو منا التي تلي رءوسنا دون الجهة الأخرى، فعلى أي تقدير فرض كان كل من مقدمتي السؤال باطلة وكان الله تعالى إذا دعوناه إنما ندعوه بقصد العلو دون غيره، كما فطرنا على ذلك. هـ.

وقال ابن القيم في الصواعق المرسلة: إنه إذا كان سبحانه مباينا للعالم فإما أن يكون محيطا به أو لا يكون محيطا به، فإن كان محيطا به لزم علوه عليه ـ قطعاً ـ ضرورة علو المحيط على المحاط به، ولهذا لما كانت السماء محيطة بالأرض كانت عالية عليها، ولما كان الكرسي محيطا بالسماوات كان عاليا عليها، ولما كان العرش محيطا بالكرسي كان عاليا، فما كان محيطا بجميع ذلك كان عاليا عليه

ص: 123

ضرورة ولا يستلزم ذلك محايثته لشيء مما هو محيط به ولا مماثلته ومشابهته له، فإذا كانت السماء محيطة بالأرض وليست مماثلة لها، فالتفاوت الذي بين العالم ورب العالم أعظم من التفاوت الذي بين الأرض والسماء، وإن لم يكن محيطا بالعالم بأن لا يكون العالم كريا، بل تكون السماوات كالسقف المستوي، فهذا وإن كان خلاف الإجماع وخلاف ما دل عليه العقل والحس فلو قال به قائل لزم ـ أيضا ـ أن يكون الرب تعالى عاليا على العالم، لأنه إذا كان مباينا وقدر أنه غير محيط، فالمباينة تقتضي ضرورة أن يكون في العلو أو في جهة غيره، ومن المعلوم بالضرورة أن العلو أشرف بالذات من سائر الجهات، فوجب ضرورة اختصاص الرب بأشرف الأمرين

انتهى.

فهذا عن تحرير القول في دفع هذه الشبهة، فإن علو الله على جميع خلقه واستواءه على عرشه ثابت كتاباً وسنة وإجماعاً من السلف رحمهم الله ولكن من الثابت أيضاً بالكتاب والسنة والإجماع أنه لا يعلم كيفية هذه الصفة وغيرها من الصفات إلا الله تعالى، فمن تعرض للخوض في كيفية الصفة فقد أتى بدعة في الدين كما قال الإمام مالك رحمه الله في السؤال عن الاستواء: والسؤال عنه بدعة.

فالواجب علينا أن نؤمن بما وصف الله به نفسه من غير تكييف ولا تمثيل، بل نعتقد أن كل ما دار بخلد إنسان في كيفية صفة الرب تعالى فالله تعالى منزه عنه، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله تعالى، وكذا لا يعلم كيف صفاته إلا هو سبحانه، فمن خاض في كيفية صفات الرب فقد تعاطى ما لا علم له به وما لا سبيل إلى العلم به وقال على الله بغير علم، وهذا من أكبر الكبائر، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ {الأعراف:33} .

فلنقف حيث وقف السلف رحمهم الله الذين هم أعلم بالله تعالى منا مثبتين لله ما أثبته لنفسه نافين عنه ما نفاه عن نفسه منزهين له عن مماثلة المخلوقين عالمين أنه لا سبيل إلى معرفة كيفية صفاته تعالى، قال العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله: فَلَوْ قَالَ مُتَنَطِّعٌ: بَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةَ الِاتِّصَافِ بِصِفَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ لِنَعْقِلَهَا، قُلْنَا: أَعَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: لَا، فَنَقُولُ: مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الذَّاتِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ أَنْ يُحْصِيَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ هُوَ، كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا {20 110} لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ

ص: 124

{112 1 - 4} فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [16 74] فَتَحَصَّلَ مِنْ جَمِيعِ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ، وَالثَّانِي: الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم إِثْبَاتًا، أَوْ نَفْيًا، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ رضي الله عنهم مَا كَانُوا يَشُكُّونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا كَانَ يَشْكُلُ عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ وَهُوَ شَاعِرٌ فَقَطْ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ، فَهُوَ عَامِّيٌّ: وَكَيْفَ أَخَافُ النَّاسَ وَاللَّهُ قَابِضٌ

عَلَى النَّاسِ وَالسَّبْعَيْنِ فِي رَاحَةِ الْيَدِ ـ وَمُرَادُهُ بِالسَّبْعَيْنِ: سَبْعُ سَمَاوَاتٍ وَسَبْعُ أَرْضِينَ، فَمَنْ عَلِمَ مِثْلَ هَذَا مِنْ كَوْنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ فِي يَدِهِ جَلَّ وَعَلَا أَصْغَرَ مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ لَا يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِهِ مُشَابَهَةُ صِفَاتِهِ لِصِفَاتِ الْخَلْقِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ زَالَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْإِيمَانِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رحمه الله: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ ـ وَيُرْوَى نَحْوُ قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها. انتهى.

فالزم هذه الجادة تنج وتفلح، فليتبصر اللبيب أين يضع قدمه في هذه المسائل العظيمة ولينته حيث انتهى السلف الكرام رحمهم الله ورضي عنهم.

السؤال الرابع عشر: عندي بعض الشبهات في باب العقيدة أرجو أن تكشفوها مأجورين، وهي أن الله عز وجل فوق خلقه وهو عال عليهم، ومن المعلوم بأن الأرض كروية، فإذا كان الله عز وجل فوقنا فهل الله عز وجل في ذات الوقت يكون تحتنا وهو منزه عن النقص ولكن تحتنا باعتبار أنه أيضاً فوق من يقابلنا من الجهة الأخرى من العالم؟ وهل الله عز وجل محيط بخلقة كالسماوات للأرض بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام:(وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء). فإذا كان تفسير الظاهر بمعنى الفوقية فهل يكون معنى الباطن أنه تحتنا أيضاً باعتبار المقابلة في المعنى وهو محيط بنا بذاته كإحاطة السماوات لنا؟ أفتونا مأجورين.

الإجابة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

ص: 125

فالواجب على المسلم أن يعتقد أن الله تعالى فوق خلقه مستو على عرشه، وعرشه فوق سماواته، وأنه بائن من خلقه جل وعلا، فهو العلي الأعلى، فوق جميع مخلوقاته سبحانه وتعالى وتقدس. وهذا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة.

قال الله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى {الأعلى:1} ، وقال الله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {النحل:50} .

وأما الأرض فهي حبة في فلاة بالنسبة لملكوت الله تعالى وهو سبحانه فوق ذلك كله، وله الفوقية المطلقة. فلا وجه لذلك الإشكال ولا يقبل بحال.

والله تعالى لا يُقارن بمخلوقاته، فهو فوقها جميعاً، وفوقيته ليست كفوقية الأشياء فيما بينها، وقد أثبتها لنفسه وإذا كان ذهن الإنسان أضعف من أن يدرك هذه الفوقية، ولا يمكن أن يتصورها في المخلوقات التي بين يديه، فليعلم أن الله على كل شيء قدير، وليُسلِّم بما أخبر الله به، ويترك الخوض فيما لا يستطيع الوصول إلى كُنهه.

وأما عن مسألة الإحاطة فالله تعالى بكل شيء محيط كما هو منصوص في القرآن، وقد أحاط بخلقه علماً وقدرة، وليس معنى ذلك أنه تحتهم وفوقهم.

ففي تفسير القرطبي: قال الخطابي: هو الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وهو الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا

اهـ

وفي تفسير ابن جزي: بكل شيء محيط أي بعلمه وقدرته وسلطانه. اهـ.

وأما عن معنى الظاهر والباطن فقد فسر معنى الاسمين حديث أبو هريرة رضي الله عنه وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) رواه مسلم.

فالظاهر فسره بالظهور بمعنى العلو، والله تعالى عال على كل شيء، وفسره بعضهم بالظهور، بمعنى البروز: فهو الذي ظهر للعقول بحججه وبراهين وجوده وأدلة وحدانيته فهو الظاهر بالدلائل الدالة عليه، وأفعاله المؤدية إلى العلم به ومعرفته فهو ظاهر مدرك بالعقول والدلائل، وأما الباطن فمعناه القريب؛ كما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم: اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك

ص: 126

شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر. فمعنى الباطن هنا أي القريب من خلقه المحيط بهم علما، فهو يعلم السر وأخفى. قال سبحانه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ. [الواقعة:85]. وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. [قّ:16].

وقيل في معنى الباطن: هو المحتجب عن خلقه عن أبصارهم وأوهامهم، وقيل: هو العالم بما يبطن، يقال: بطنت الأمر إذا عرفت باطنه. وانظر تفسير ابن عطية وشرح السندي على ابن ماجه.

ولا يسوغ وصف الله بأنه تحتنا مقابلة للباطن بالظاهر، لأن السفول نقص هو منزه عنه، والله تعالى وصف بالعلو دون السفول، فإنه سبحانه العلي الأعلى لا يكون قط إلا عاليا.

فقد قال ابن القيم في الصواعق المرسلة: قد ثبت بصريح العقل أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص فإن الله سبحانه يوصف بالكمال منهما دون النقص، ولهذا لما تقابل الموت والحياة وصف بالحياة دون الموت، ولما تقابل العلم والجهل وصف بالعلم دون الجهل، وكذلك العجز والقدرة والكلام والخرس والبصر والعمى والسمع والصمم، والغنى والفقر. ولما تقابلت المباينة للعالم والمداخلة له وصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كانت المباينة تستلزم علوه على العالم أو سفوله عنه وتقابل العلو والسفول وصف بالعلو دون السفول، وإذا كان مباينا للعالم كان من لوازم مباينته أن يكون فوق العالم، ولما كان العلو صفة كمال كان ذلك من لوازم ذاته فلا يكون مع وجود العالم إلا عاليا عليه ضرورة، ولا يكون سبحانه إلا فوق المخلوقات كلها. 000اهـ

وقال في طريق الهجرتين في كلامه على الباطن: وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السموات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد. قال تعالى: وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس. وقال: والله من ورآئهم محيط. ولهذا يقرن سبحانه بين هذين الاسمين الدالين على هذين المعنيين اسم العلو الدال على أنه الظاهر وأنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإحاطة وأنه لا شيء دونه كما قال تعالى: وهو العلي العظيم. وقال تعالى: وهو العلي الكبير. وقال: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم. وهو تبارك وتعالى كما أنه العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء بل ظهر على كل

ص: 127

شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته وليس شيء في قبضة نفسه

اهـ

السؤال الخامس عشر: هل يأثم المُنكر لأحاديث الصفات أو المتأول لها تأولاً غير شرعي؟

من كان مجتهداً في إصابة الحق باذلاً وسعه فهو مأجور على نيته في طلب الحق وأما خطأه فنرجو أن يسامحه الله إن لم يكن حقق في آيات وأحاديث الصفات، وأما إن كان على علم بها وأنكرها تعصبا وعنادا فهو على خطر عظيم، فقد قال الذهبي في الرد على ابن خزيمة في تكفيره المطلق لمن لم يثبت الصفات: من أقر بذلك تصديقا لكتاب الله ولأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به مفوضا معناه إلى الله ورسوله ولم يخض في التأويل ولا عمق فهو المسلم المتبع، ومن أنكر ذلك فلم يدر بثبوت ذلك في الكتاب والسنة فهو مقصر، والله يعفو عنه إذ لم يوجب الله على كل مسلم حفظ ما ورد في ذلك، ومن أنكر ذلك بعد العلم وقفا غير سبيل السلف الصالح وتمعقل على النص فأمره إلى الله نعوذ بالله من الضلال والهوى. اهـ

الموقف من الأخبار الثابتة في صفات الله والتي تُخالف في ظاهرها تنزيه الله عز وجل والمعلوم من الدين بالضرورة:

في هذا الباب هنالك طرفان ووسط هناك طائفة ردت هذه الأحاديث وهنالك طائفة قبلت هذه الأحاديث لكن دون فهمها على الوجه الصحيح ، والتحقيق: أن كلام رسوله حق وليس أحد أعلم بالله من رسوله ولا أنصح للأمة منه ولا أفصح ولا أحسن بياناً منه فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس ; وأجهلهم وأسوئهم أدبا بل يجب تأديبه وتعزيره ويجب أن يصان كلام رسول صلى الله عليه وسلم عن الظنون الباطلة ; والاعتقادات الفاسدة وللتنبيه ينبغي أن يعلم المسلم أنه لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، فالعقل والشرع لا يقول: إن الخالق كالمخلوق، حتى يكون ما جعله حسنًا لهذا أو قبيحًا له جعله حسنًا للآخر أو قبيحًا له، كما يفعل مثل ذلك القدرية؛ لما بين الرب والعبد من الفروق الكثيرة.

ص: 128

وختاماً نسأل الله عز وجل أن ينفع بهذه الرسالة قارئها ومؤلفها وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تنبيه: أعتذر لكل الأخوة القراء لعدم الدقة في عزو المعلومات المسطرة في هذه الرسالة إلى مصادرها والسبب في ذلك أن أصل هذه الرسالة كان ملخصاً شخصياً ولم أكن أنوي وقتها نشرها بين الناس وبالتالي لم أهتم بمصادر المعلومات ولكن لمَا كثرت المادة لدي ارتأيت نشرها لتعم الفائدة للجميع ، فجزى الله كل من ساهم في هذه الرسالة مساهمة مباشرة أو غير مباشرة كالذين نقلت عنهم ولم أذكر أسماءهم للسبب المذكور أعلاه وجعلها في موازين حسناتهم.

لإبداء الملاحظات والاقتراحات فيرجى التواصل على البريد الإليكتروني:

[email protected]

أخوكم أبو فيصل البدراني.

قائمة ببعض مراجع هذه الرسالة

- تطريز رياض الصالحين للمؤلف: فيصل بن عبد العزيز آل مبارك رحمه الله.

- دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين لابن علان الصديقى.

- غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني.

- الآداب الشرعية للمؤلف: عبد الله بن محمد بن مفلح المقدسي رحمه الله.

- أصول الفقه للمؤلف: عياض بن نامي السلمي وسعد بن ناصر الشثري حفظهم الله.

- الأصول من علم الأصول للمؤلف: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله.

- الواضح في أصول الفقه للمؤلف: محمد الأشقر حفظه الله.

- رسالة في القواعد الفقهية للمؤلف: عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله.

- عالم الجن والشياطين للمؤلف: عمر بن سليمان الأشقر حفظه الله.

- عالم الملائكة الأبرار للمؤلف: عمر بن سليمان الأشقر حفظه الله.

- الأسباب التي يعتصم بها العبد من الشيطان للمؤلف: عبد الله جار الله بن إبراهيم الجار الله رحمه الله.

- فتاوى سليمان الماجد حفظه الله.

ص: 129

- فتاوى ابن باز رحمه الله.

- مجموع فتاوى ابن تيمية رحمه الله.

- فتاوى ابن عثيمين رحمه الله.

- فتاوى اللجنة الدائمة.

- مركز الفتوى من موقع إسلام ويب.

- سلسلة أعمال ومفسدات القلوب القلوب للمؤلف: محمد بن صالح المنجد حفظه الله.

- متن الطحاوية.

- الغلو في الدين وأثره في الأمة للمؤلف: خالد بن محمد الخريف حفظه الله.

- حقيقة الغلو في الدين للمؤلف: علي بن عبد العزيز بن علي الشبل حفظه الله.

- الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للمؤلف: صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله.

- مقاصد المكلفين فيما يُتعبد به لرب العالمين للمؤلف: عمر بن سليمان الأشقر حفظه الله.

- قاعدة جامعة في توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له عبادة واستعانة للمؤلف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله.

- إحياء علوم الدين للمؤلف أبي حامد الغزالي رحمه الله.

- القدر للمؤلف: أبي عبد الله مصطفى العدوي حفظه الله.

- القضاء والقدر للمؤلف: عمر بن سليمان الأشقر حفظه الله.

- ما هو القضاء والقدر؟ للمؤلف: محمد بن محمود عجاج حفظه الله.

- القضاء والقدر حقٌ وعدل للمؤلف: هشام بن عبدالرزاق الحمصي حفظه الله.

- فتاوى تتعلق بالقضاء والقدر لأصحاب الفضيلة العلماء (محمد بن إبراهيم آل الشيخ _ عبد العزيز بن عبد الله بن باز_ محمد بن صالح العثيمين _ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين_ صالح بن فوزان الفوزان _ اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) جمع وترتيب: دخيل الله بن بخيت المطرفي.

- الإيمان بالقضاء والقدر للمؤلف: محمد بن إبراهيم الحمد حفظه الله.

- مكفرات الذنوب للمؤلف ابن تيمية رحمه الله.

- التوبة إلى الله للمؤلف: صالح بن غانم السدلان حفظه الله.

- التوبة للمؤلف: ابن تيمية رحمه الله.

- أريد أن أتوب ولكن للمؤلف: محمد بن صالح المنجد حفظه الله.

- العلاج من الوساوس في ضوء الكتاب والسنة للمؤلف: ابن عثيمين رحمه الله.

ص: 130

- الوسوسة الداء والدواء للمؤلف: عبد الله بن سليمان العتيق حفظه الله.

- التوكل على الله تأليف: أسماء بن راشد الرويشد حفظها الله.

- التوكل على الله وأثره في حياة المسلم للمؤلف: عبد الله بن جار الله آل جار الله رحمه الله.

- فقه العبادات للمؤلف: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله.

- الانترنت وبعض المصادر الأخرى التي لم يتيسر لي استحضارها.

الفهرس

العنوان الصفحة

مقدمة 1

المعلم الأول: عوارض الأهلية وشروط التكليف وموانعه 2

المعلم الثاني: مصير الناس بعد الموت ومنازلهم عند ربهم

ومراتب أعمالهم وأحوالهم 5

المعلم الثالث: الشيطان وموقفنا منه 8

المعلم الرابع: التوبة 15

المعلم الخامس: الغلو 24

المعلم السادس: المشقة والحرج 27

المعلم السابع: التقليد والافتاء 30

المعلم الثامن: مالا يسع جهله من بعض أصول الفقه وقواعده 33

المعلم التاسع: فقه القلوب 37

المعلم العاشر: الإلهام والرؤيا والكرامات 41

ص: 131

المعلم الحادي عشر: الاخلاص 43

المعلم الثاني عشر: الخوف 44

المعلم الثالث عشر: المحبة 46

المعلم الرابع عشر: القضاء والقدر 49

المعلم الخامس عشر: التوكل 60

شبهات وإشكالات وتساؤلات في باب التوكل والقدر 65

المعلم السادس عشر: مالا يسع العابد والناسك جهله 80

تساؤلات وإشكالات في باب العقيدة 94

الفهرس 131

ص: 132