الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المعلم الخامس المداراة]
المعلم الخامس: المداراة المداراة صورة من صور التعامل الدال على الحكمة، والموصل إلى المقصود مع حفظ ما للداعي والمدعو من كرامة ومروءة.
وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه فقال: المداراة مع الناس، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها أنه «استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: " ائذنوا له فبئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. تقول عائشة: فقلت يا رسول الله: قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه» .
قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلام وترك الإغلاظ، وذلك من أقوى أسباب الألفة. قال: وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط، لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان: وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضى بما هو فيه من كير إنكار عليه.
والمداراة: هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك. اهـ.
إذا تقرر هذا المعنى فهو الذي قد عناه الحسن البصري رحمه الله بقوله: كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول هي كل العقل.
ومن الطريف قول أبي يوسف رحمه الله في تعداد من تجب مداراتهم فعد منهم: القاضي المتأول والمريض والمرأة والعالم ليقتبس من علمه. وأكثر ما تجري المداراة في اتقاء الأشرار والمكاره.
وقد جاء في حكم لقمان: يا بني كذب من قال إن الشر بالشر يطفأ، فإن كان صادقا فليوقد نارين ولينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى، وإنما يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار.
وسلوك المداراة مأذون فيه لأن الإنسان خلق للاجتماع لا للعزلة، وللتعارف لا للتناكر، وللتعاون لا للانفرادية. والإنسان تعرض له عوارض نفسية وطبيعية من الحب والبغض والرضى والغضب والاستحسان والاستهجان، فلو سار على أن يكاشف الناس بكل ما يعرض له من هذه الشئون في كل وقت
وعلى أي حال لاختل الاجتماع ولم يثبت التعارف ولانقبضت الأيدي عن التعاون، فكان من حكمة الله في خلقه أن هيأ الإنسان لأدب يتحامى به عما يحدث تقاطعا أو يدعو إلى تخاذل، وهذه هي المداراة التي نعني.
إذن فالمداراة ترجع إلى حسن اللقاء ولين الكلام، وتجنب ما يشعر ببغض أو غضب أو استنكار. . إلا في أحوال يكون الإشعار به خيرا من الكتمان وأرجح وأصلح.
ومن لطيف المنقول في سير المتقدمين المقتدى بهم ما جاء في وصية سحنون لابنه محمد: (. . . وسلم على عدوك وداره فإن رأس الإيمان بالله مداراة الناس) ويقول محمد بن أبي الفضل الهاشمي. قلت لأبي: لم تجلس إلى فلان وقد عرفت عداوته؟ قال: أخبي نارا وأقدح ودا.
فالنفوس المطبوعة على المداراة نفوس أدركت أن الناس خلقوا ليكونوا في الائتلاف كجسد واحد. وشأن الأعضاء السليمة أن تكون ملتئمة متماسكة على قدر ما فيها من حياة، ولا يقطع العضو المركب في الجسد إلا أن يصاب بعلة يعجز الطب عن علاجه إلا بالبتر.
فالمداراة يقصد بها جمع الناس على الرضا والتآلف في حدود ما ينبغي أن يكون. وهي لا تمنع قضاء بالعدل ولا تحجب نصيحة بالرفق، وينبغي أن يعلم أن لذكاء الرجل وحكمته مدخلا عريضا في فقه المداراة وحسن استخدامها وطريقة الإفادة منها.
وقد يكون للتنوع في طبقات الناس تنوع في مداراتهم، فمداراة المنحرف عن الحق لسوء فهم أو خطأ في ظن، أكبر من مداراة من يحارب الحق والفضيلة إن صادفك واقتضى الحال مداراته.
ومداراة من يرجى رشده وصلاحه أكبر من مداراة
من شب متماديا في الانحراف ولؤم الطبع حتى يوشك أن ينقطع أملك في إصلاحه واستقامة أمره.
ومن كل ذلك تعرف أن المداراة مسلك كريم يتقنه الحكماء والأذكياء ولا يتعدى حدوده الفضلاء.
إذا رغبت في كلمة عن المداهنة لتميزها عن المداراة فلتعلم أن المداهنة إظهار الرضا عن الغلط من الظلم والفسق. . ومن قول باطل أو عمل ممنوع.
والمداهنة مسلك ذميم ينطوي تحت جناحيه الكذب، وخلف الوعد.
أما الكذب فلأن المداهن يصف الرجل بغير ما يعرفه عنه، ومن دخل الكذب من باب، سهل عليه أن يأتيه من أبواب متفرقة. وأما إخلاف الوعد فلأن المداهن يقصد إلى إرضاء صاحبه في الحال فلا يبالي أن يعده بشيء وهو عازم على أن لا يصدق في وعده.
المداهنون يجعلون ألسنتهم طوع بغية الوجيه، ويعجلون إلى قول ما يشتهي إن يقولوه.
قال الماوردي رحمه الله: إن الإنسان وإن كان مأمورا بتآلف الأعداء، ومندوبا إلى مقاربتهم، فإنه لا ينبغي أن يكون لهم راكنا وبهم واثقا بل يكون منهم على حذر، ومن مكرهم على تحرز، فإن العداوة إذا استحكمت في الطباع صارت طبعا لا يستحيل، وجبلة لا تزول وإنما يستكفى بالتألف إظهارها، ويستدفع به أضرارها كالنار يستدفع بالماء إحراقها، ويستفاد به إنضاجها، وإن كانت محرقة بطبع لا يزول وجوهر لا يتغير وقد قال الشاعر:
وإذا عجزت عن العدو فداره
…
وامزح له إن المزاح وفاق
فالنار بالماء الذي هو ضدها
…
تعطي النضاج وطبعها الإحراق