المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

"‌ ‌ سورة الحج " اختلف في كونها مدنية أَو مكية، والجمهور على - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٦

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: "‌ ‌ سورة الحج " اختلف في كونها مدنية أَو مكية، والجمهور على

"‌

‌ سورة الحج

"

اختلف في كونها مدنية أَو مكية، والجمهور على أَنها مختلطة، فمنها مكى ومنها مدنى، قال القرطبى: وهذا هو الأَصح لأَن الآيات تقتضى ذلك، ثم نقل عن الغزنوى قوله في هذه السورة:"وهى من أَعاجيب السور، نزلت ليلًا ونهارًا، سفرًا وحضرًا، مكيا ومدنيَّا، سلميًّا وحربيًّا، ناسخا، ومنسوخا، محكما ومتشابها".

‌مقاصدها:

بدأت هذه السورة بأَمر الناس بتقوى الله، والتحذير من أَهوال يوم القيامة حيث يحاسبون على أَعمالهم، وأَتبعته التحذير من الجدال في الله بغير علم، وبيَّنت أطوار خلق الإِنسان ودلالتها على البعث، كما بينت دلالة إِخراج النبات من الأَرض عليه.

ثم حذرت من عبادة الله على حرف - أَي على ضعف وشك - فإِنه وخيم العاقبة، وأَتبعت ذلك بيان حسن مآل المؤمنين الصادقين، وأَنه تعالى سينصر رسوله على من كفر به، وسيفصل بين المؤمنين وأَعدائهم يوم القيامة، وأَنه تعالى يخضع لسلطانه من في السموات والأَرض، وجميع الكائنات العلوية والسفلية، وأَن كثيرا من الناس يسجد له سجود طاعة عملا بشرائعه، وكثيرا منهم حق عليهم العذاب بسبب عدم سجودهم وخضوعهم لشرائعه، ثم بينت مصير المختصمين في ربهم، فذكرت أَن الكافرين تقطع لهم ثياب من نار، ويعذبون بمختلف أَلوان التعذيب فيها، وأَن المؤمنين يدخلون الجنة ويحلون فيها بالذهب واللؤْلؤ ويلبسون ثياب الحرير، ويهتدون فيها إِلى الطيب من القول مثل:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} ، ويهتدون إِلى طريق الله الحميد في سلوكهم فليس فيها لغو ولا كذب ولا شغب، فأَقوالهم دائما طيبة، وأَعمالهم حسنة، وعشرتهم مرضيه ثم بينت أنه تعالى عرَّف إِبراهيم مكان البيت ليبنيه للطائفين والعاكفين والركع السجود، وأَمره أَن يدعو الناس إِلى حجه مشاة وركبانا، يأْتون من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأَنعام، وأَن يَطَّوَّفوا بالبيت العتيق، وحذرت من الشرك بالله في أَداءِ المناسك، وأَوجبت تعظيم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب،

ص: 1169

ثم ذكرت أَن البُدْنَ المهداة من شعائر الله، وأَنها تذبح قائمة على قوائمها، وبينت أَن الله تعالى لن يصل إِليه شيء من لحومها بل تصل إِليه التقوى ممن أَهْدَوْها فينبغى لهم أَن يشكروه على تسخيرها لهم، ويكبروه على ما هداهم، وأَن هؤُلاء الحجاج الشاكرين المكبرين لهم البشرى على إِحسانهم، ثم عقبت ذلك ببيان أَنه تعالى تكفل بالدفاع عن المؤمنين، لأنه لا يحب كل مختال فخور.

وبينت أنه تعالى أَذن للمهاجرين الذين أُخْرِجوا من ديارهم بغير حق أَن يقاتلوا دفاعًا عن أَنفسهم، وأَنه تعالى قد شرع لعباده شرعة الدفاع، فلولاه:{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} .

ثم ذكرت أَن الرسول ليس وحده في تكذيب قومه إِياه، فقد كُذَّب نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى من أَقوامهم، وأَنه تعالى أَهكهم، وأَنه - سبحانه - أَمهل كثيرا من القرى وهى ظالمة، ثم أَخذها وإِليه المصير ليعاقبها في الآخرة بعد إِهلاكها في الدنيا، والمقصود مما ذكر تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أَصابه من قومه، ووعيد قومه بأَنهم إن لم يؤمنوا أَصابهم ما أَصاب الأُمم التي قبلهم وأَن عليهم أَن لا يَغْتَرُّوا بإِمهالهم.

ثم بينت أَن الشيطان كما يوسوس للمشركين من أُمته صلى الله عليه وسلم فيلقى في نفوسهم الشَّبَه والتخيلات أَثناء قراءَته ليجادلوه بالباطل، فإِنه فعل مثل ذلك مع أُمم الأَنبياءِ والمرسلين السابقين وأَنه تعالى ينسخ ما يلقى الشيطان من الشبه - أَي يبطله - بتوفيق النبي صلى الله عليه وسلم لرده، أَو بإنزال ما يرده ثم يأّى الله بآياته محكمة لا تنال منها شبهة من الشياطين وأَوليائهم.

ثم بينت أَنه لا يزال الذين كفروا في مرية منه لعماهم عن الحق حتى يأْتيهم عذاب يوم عقيم، والملك يومئذ يتفرد به الله، فيحكم بينهم ويجزى كل امرىءٍ بما قدمت يداه.

وذكرت أَن من أَدركه الموت بعد الهجرة - سواءٌ أَمات حتف أَنفه أَو قتل في سبيل الله - فإن الله يرزقه في الجنة رزقًا حسنا بسبب هجرته، وأَن من عاقب المعتدى بمثل ما بدأَه به من

ص: 1170

الاعتداءِ، ثم تمادى المعتدى فإِن الله ينصر من بُغِىَ عليه، ذلك بأَن الله هو الحق، وما يعبده المشركون من دونه هو الباطل، وأَن الله هو العلى الكبير.

ثم تحدثت عن آيات الله في إِنباته من الأَرض نباتًا بهيجًا، وفي تسخيره ما في السموات والأَرض، وإِمساكه السماءَ أَن تقع على الأرض إِلا بإِذنه، وفي الإِحياءِ والإِماتة، وذكرت أَنه تعالى جعل لكل أُمة منسكا وشريعة، فلا يصح أن ينازعك أَحد يا محمد فيما شرعه الله لأُمتك من الشريعة العامة الخاتمة، فإِن جادلوك ففوض الأمر إِلينا، فسوف نحكم بينك وبينهم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون.

وتحدثت عن أَن معبودات المشركين لا تصلح للعبادة لأَنها ضعيفة وقد بلغ من ضعفها أَنها لا تستطيع أَن تخلق ذبابا ولو اجتمعت لخلقه - وإِن سلبها الذباب شيئًا لا تستطيع استعادته منه {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} ، وأَن المشركين {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .

وأَنه تعالى: {يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} للأَنبياء {وَمِنَ النَّاسِ} ، رسلا للبشر فلا وجه لاعتراض مشركى مكة على اختيار محمد صلى الله عليه وسلم للرسالة، وطالبتِ المؤمنين في ختامها بأن يركعوا ويسجدوا ويعبدوا ربهم ويفعلوا الخير ليفلحوا، وأَن يجاهدوا في سبيل الله حق جهاده لأَنه اجتباهم، وأنه سبحانه ما جعل عليهم في الدين من حرج ملة أَبيهم إِبراهيم، وأَنه سماهم المسلمين من قبل وفي هذا القرآن ليكون الرسول شهيدا عليهم ويكونوا شهداءَ على الناس، ولهذا يجب عليهم أَن يقيموا الصلاة ويؤْتوا الزكاة ويعتصموا بالله الذي هو مولاهم {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} .

ص: 1171

بسم الله الرحمن الرحيم

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}

المفردات:

{زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} الزلزلة: التحريك الشديد المتكرر الذي يزيل الأَشياءَ عن مقَارِّهَا (1) والساعة: القيامة، وسميت بذلك لأَنها تفجأُ الناس في ساعة لا يعلمها إلا الله تعالى، والزلزلة التي تحدث عند الساعة من صنع الله تعالى ككل الزلازل، وإضافتها إِلى الساعة من إِضافة المصدر إِلى فاعله مجازا كما في نحو إِنبات الربيع للبقل، والمنبت في الحقيقة هو الله، أَو هي من إِضافة الحدث إِلى زمن حدوثه، فإِن الساعة زمن حدوث تلك الزلزلة الكبرى، كما أُضيف المكر إِلى الليل والنهار في قوله تعالى:{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (2).

{تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} الذهول: النسيان، والمرضعة: التي تباشر الإرضاع فعلا، أَما المرْضِع - بلا هاء - فهى مَنْ شأْنُها الإِرضاع وإن لم تباشر الإرضاع حال وصفها به.

(1) وأصل الكلمة من زل عن الموضع أي زال عنه وتحرك، وزلزل قدمه أي حركها - قاله القرطبى.

(2)

سورة سبأ، من الآية: 33

ص: 1172

التفسير

1 -

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} .

الخطاب في الآية يعم حكمه المكلفين من وقت نزولها إلى أَن تقوم الساعة، والأَصل في الخطاب أَن يكون لمن حضر المشافهة به، ولكن الخطاب الشرعى يعم حكمه كل من يصل إلى سِنِّ التكليف في عهد الرسول أَو بعده إلى أَن تقوم الساعة وذلك بطريق التغليب عند بعض الفقهاءِ، وبطريق الحقيقة عند غيرهم، وعموم الحكم في ذلك أَمر معلوم من الدين بالضرورة، سواءٌ أَكان بالتغليب أَم بالحقيقة، والزلزلة: التحريك الشديد المتكرر كما تقدم بيانها في المفردات، وقد تستعمل في تهويل الأَمر وتعظيم الخطب على سبيل المجاز، والمقصود بها في الآية: إما المعنى الحقيقى المصاحب لقيام الساعة بعد النفخة الثانية وفيه يقول الله سبحانه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (1).

ويقول أَيضا: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} (2).

وإِما أَن يقصد بها المعنى المجازى، وهو ما يحدث يوم القيامة من أَهوال جسام تجعل الولدان شيبا، ويكون الناس بسببها سُكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.

والزلزلة على كلا المعنيين تكون يوم القيامة، وبه أَخذ ابن عباس، فقد روى عنه أَن زلزلة الساعة: قيامها، وممن قال بهذا الرأْى الحسن.

وقيل: المراد بها زلزلة تحدث قبل قيام الساعة وقبل طلوع الشمس من مغربها، فقد وردت آثار كثيرة بحدوث زلزلة عظيمة قبل قيامها، وتكون من أَشراطها، ويقول أَصحاب هذا الرأْى: إِنها تكون قبل طلوع الشمس من مغربها.

والرأْى الأَول هو الظاهر من الآية - كما يؤذن به صدرها وختامها - فإِنه سبحانه دعاهم فيها إلى التقوى خوفا من العذاب الشديد يوم زلزلة الساعة، فهذا شاهد على أَن

(1) سورة الزلزلة.

(2)

سورة الانفطار، الآيات من 1

ص: 1173

المراد بالزلزلة: ما يحدث يوم القيامة بعد النفخة الثانية من تغييرات كونية، يشير إليها قوله تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (1) والمعنى الإِجمالى للآية: يأَيها المكلفون من الناس ذكوركم وإِناثكم، معاصرين لنزول الوحى أَو بعده إِلى يوم القيامة: اجعلوا لأَنفسكم وقاية وحماية من عذاب ربكم وذلك بطاعته فيما أَمركم به أَو نهاكم عنه، فإن زلزلة الساعة وأَهوال يوم القيامة، شىءٌ عظيم الخطر منبىءٌ عن مجىءِ الوعد الحق، حيث تحاسبون على أَعمالكم وتجزون عليها.

{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (2)، فالعاقل من أَخذ من يومه لغده، وعمل لما بعد الموت.

وبعد أَن نَبَّه الله على خطورة الساعة بتعظيم زلزلتها وتهويلها، عقب ذلك ببيان بعض آثارها على الناس فقال:

2 -

{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} :

تضمنت هذه الآية ثلاثة آثار لزلزلة الساعة، وما أَحدثته من هول ورعب "أَولها" أَن الأُم التي ترضع وليدها في حنان وإِقبال عليه، تراها حين تحدث زلزلة الساعة الرهيبة، تنسى وليدها الذي تضعه في حجرها، وتنحنى عليه وقد أَلقمته ثديها، تنساه من الرعب الذي هز كيانها، وعطل أُمومتها وأَذهل عقلها وجمد حنانها، وما كانت لتنساه لولا أن الخطب شديد "وثانيها": أَنك ترى الحوامل من شدة الهول والفزع تتعطل أَجهزة الإمساك في أَرحامهن فتنحدر الأَجنة دون إِرادة منهن، ولا يمر الأَسى بقلوبهن على أَجنتهن، فالرعب من الحاضر والخوف من المستقبل يستولى على مشاعرهن "وثالثها": أَنك ترى الناس فقدوا الوعى والرشاد، حتى تحسبهم سكارى من الفزع والاضطراب والهذيان.

والكلام على طريق التمثيل، وأَنه لو كان هناك مرضعة ورضيع لذهلت عنه حال إِرضاعها إِياه لشدة الهول، وكذا ما بعده، لأنه لا حمل ولا رضاعة ولا سكر يوم القيامة أما إذا أُريد من الزلزلة ما ورد حدوثه منها قبيل قيام الساعة وقبيل طلوع الشمس من مغربها، فيجوز حمل الكلام على حقيقته.

(1) سورة، إبراهيم الآية: 48

(2)

سورة الزلزلة، الآية:

ص: 1174

والمعنى الإِجمالى للآية: يوم ترون آثار هذه الزلزلة العظمى تنسى كل أُم ترضع ولدها أَنه في حجرها، وأَن ثديها في فمه، وتغفل عنه غفلة تامة، لشدة ما أَصابها من الرعب والفزع والذهول من أَهوالها، وتتحلل عضلات الإِمساك في أَرحام الأُمهات فلا تستطيع الحفاظ على أَجنتها، فتنحدر تلك الأَجِنَّةُ دون إرادة من أُمهاتها. وترى الناس من قُوَّة الهول والفزع كأَنهم سكارى من شدة الذهول والهذيان، وليسوا سكارى على الحقيقة، ولكن عذاب الله يومئذ شديد عنيف. نسأَل الله الأَمان واللطف بعباده.

قال الزمخشرى في كشافه: روى أَن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بنى المصطلق. فقرأَهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُرَ أَكثر باكيا من تلك الليلة، فلما أَصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدرا، وكانوا من بين حزين وباك ومفكر.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)}

المفردات:

{يُجَادِلُ} : يخاصم ويحاور، والجدل: شدة الخصومة والمدافعة (مَرِيدٍ): متجرد للفساد، من قولهم: شجرة مرداءُ لا ورق لها، وغلام أَمْرَدُ لمن لم ينبت شعر لحيته.

{تَوَلَّاهُ} : اتخذه وليًّا ومتبوعا.

التفسير

3 -

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} :

تحدثت الآيتان السابقتان عن زلزلة الساعة وأَهوالها ومظاهر الرعب التي تحدث فيها وعن وجوب تقوى الله والعمل ليوم الوعيد، تفاديا للعذاب الشديد. وجاءَت هذه الآية

ص: 1175

والتى تليها عقبهما، لتجهيل من يجادل في الله وقدرته على بعث الناس وحسابهم، وتحذير الناس من سوء عاقبة الذين يتبعونه ويقتدون به، وقد نزلت الآيتان في النضر بن الحارث فقد أَخرج ابن أَبي حاتم عن أَبي مالك رضى الله عنه (أَنه كان جَدِلًا يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أَساطير الأَولين، والله لا يقدر على إحياءِ من بَلِىَ وصار ترابًا).

والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالنص الكريم في هذه الآية والتى تليها يتناول كل من يتبع أَئمة الضلال، فيجادل في شئون الله بغير علم.

والمعنى: ومن الناس من يخاصم ويدافع في شئون الله تعالى بجهالة، فلا يرجع في مزاعمه إِلى برهان عقلى أَو دليل نقلى، كهذا الذي ينكر البعث والنشور ويستبعده على الله الذي خلقنا أَول مرة، وخلق الأَرض والسموات العلى، وكالذى ينسب إلى الله البنين والبنات في حين أَنه تعالى {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وكالذى ينكر معجزة القرآن دون حجة أَو برهان، وهو في ذلك وأَمثاله يتبع كل شيطان مريد متجرد للفساد عَرِيًّ عن الخير والحق، من شياطين الجن أَو من شياطين الإِنس وقد عقَّب الله هذه الآية ببيان مصير أُولئك المتبعين لأَئمة الضلال فقال:

4 -

{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} :

أَي قضى الله على الشيطان المريد من أَئمة الضلال أَنه من اتبعه وسلك سبيله، فشأْنه أَنه: يضله عن سواءِ السبيل في دنياه، بتحسين البدع والمنكرات، وتزيين المحرمات وفاسد المعتقدات ويسوقه باتباعه في ذلك إِلى عذاب السعير في أُخراه، فعلى العاقل أَن ينظر في العواقب، فلا يجعل نفسه تابعا لذى رأْى فاسد، ومذهب ملحد لينجو من سوء المصير.

ص: 1176

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)}

المفردات:

{فِي رَيْبٍ} : في شك. {مِنْ نُطْفَةٍ} : من مَنِىٍّ، وهى مأْخوذة من نطف الماء إِذا صَبَّه، وكذلك المنى يخرج مصبوبا. {مِنْ عَلَقَةٍ} العلقة: قطعة دم جامدة، وسميت بذلك لعلوقها بجدار الرحم وستأْتى لها عدة معان. {مِنْ مُضْغَةٍ} المضغة: قطعة لحم صغيرة قدر ما يمضغ.

{مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أَي: مُسَوَّاة سليمة من العيوب والنقصان وغير مسواة لوجود بعض النقصان فيها، فيتبع هذا التفاوتَ في تكوين المضغة، تفاوتُ الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم، وتمامهم ونقصانهم (1)، وسيأْتى بيان ما قيل في تفسير ذلك.

{إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : إِلى وقت سميناه وعيّناه للولادة. {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} : ثم لتصلوا إلى كمال قوتكم جسدا وعقلا وتمييزا، والأَشُد: واحد جاءَ على وزن الجمع، أَو جمع لا واحد له من لفظه، وقيل إِنه جمع شدة بكسر الشين، كنعمة وأَنعم.

{أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أَي: أَخَسِّه وأدناد وهو زمن الهرَم والخَرَفَ.

(1) راجع الكشاف.

ص: 1177

{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} أَي: ميتة يابسة، يقال: همدت الأَرض إِذا يبست لا عشب فيها، وهمد الثوب: إِذا بلى.

{اهْتَزَّتْ} أَي: تحرك نباتها، والإسناد إليها مجازى، أَو تخلخلت وانفصل بعض أجزائها عن بعض لخروج النبات. {وَرَبَتْ}: ازدادت بالماءِ: وجذور النبات.

{وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} : وأنبتت من كل صنف حسن يبعث البهجة والسرور في نفس من يراه.

التفسير

5 -

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ

} الآية.

هذه الآية مستأْنفة لإِقامة الدليل على إِمكان البعث، وإلزام المجادلين فيه الحجة، بعد أَن حكت الآيتان السابقتان جدالهم في شئون الله ومنها البعث، وأَنهم في جدالهم يتبعون كل شيطان مريد، يضلُّهم ويسوقهم إِلى عذاب السعير.

فالمراد من الناس في الآية: المجادلون في البعث المنكرون له، والتعبير عن اعتقادهم فيه بالريب والشك مع أَنهم جازمون بعدم إِمكانه فضلا عن عدم وقوعه، للإِيذان بأَن أَقصى ما يحتمل صدوره ممن لم يشاهد البعث هو الشك في أَمره، وهذا يزيله البرهان التالى، أَما: ما هم عليه من الإِنكار الجازم المصحوب بالمكابرة والعناد، فخارج عن دائرة الاحتمال.

وخلقهم من تراب إِما في ضمن خلق أبيهم آدم، وإِما لأَنهم مخلوقون من النطف وأَصلها التراب، فإِنها ناشئة عن الغذاءِ الذي تغذى به الوالدان، والغذاءُ أَصله التراب.

والمراد من النطفة هنا: ماءُ الرجل والمرأَة مجتمعين، ففي ماءِ الرجل الحيوانات المنوية وفي ماءِ المرأَة البويضة (1) فإِن الجنين يتولد من الماءَين، ولذا يشبه الولد أَبويه، فإِذا حصل اللقاءُ بين الرجل والمرأَة، التقى الماءان في القناة التي بين الرحم والمبيضين، فيحصل

(1) وهي تخرج منها مرة كل حيض شهرى.

ص: 1178

فيها تلقيح البويضة بأَقوى الحيوانات المنوية (1) إن أَراد الله خلق جنين من لقائهما - وبعد التلقيح تتكون الخلية الأُولى، وتنقسم بسرعة إِلى خليتين، ثم إِلى أَربع ثم إلى ثمان - وهكذا - وفي اليوم الرابع للتلقيح تكون قد وصلت في انقساماتها إلى مجموعة كثيرة من الخلايا متماسكة، فتنزلق إِلى الرحم، وبعد سبعة أَيام ونصف من التلقيح تقريبا تلتصق بجدار الرحم في قرار مكين وحولها غشاءٌ يقيها، ويكون الجنين حينئذ طبقة من الخلايا لا تمييز بينها.

وتظل الخلايا في نموها وتكاثرها وتطورها، وفي خلال الأسبوع الثالث يبدأُ التمييز لما تخلَّق منها.

فإِذا مضى أَربعون يوما من التلقيح، انتهى طور التحولات الأَولية للنطفة، وذلك هو الْمَعنِيُّ بالفقرة الأُولى من قوله: صلى الله عليه وسلم: (إِن أَحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أَربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا ويؤْمر بأَربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأَجله وشقى أَو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح

) الحديث أَخرجه البخاري بسنده عن ابن مسعود (2).

والعلقة في اللغة: واحدة العلق، وتُطلق على الدم الغليظ والجامد، وعلى دودة في المياه الراكدة تعلق بالجسد فتمتص دمه، وعلى كل ما يعْلِق بغيره أَو يُعَلَّق عليه، ويبدأُ طور العلقة بعد أَربعين يوما من بدءِ الحمل، كما جاءَ في الحديث الشريف.

واللائق بحال التطور الذي حدث للنطفة، أَن يكون إِطلاق لفظ العلقة على الجنين حينئذ، لأَنه يشبه الدودة العالقة فقد حدث له بعض التصوير الأَولى في مَبْدأ طور العلقة، وهو عالق بجدار الرحم، وليس مجرد دم جامد كما يقولون.

فإِذا مضى على هذا الطور أَربعون يوما اتضح تصويره أَكثر من ذي قبل، ووصل وزنه إلى خمسة وعشرين درهما، وامتد طوله إِلى ثمانية سنتيمترات، وبهذا ينتهى طور العلقة

(1) ليكون نسل الإنسان قويا، كما تفعل اليعسوب (ملكة النحل) فإنها تختار أقوى الذكور لتلقيحها، وحجم البويضة أكثر من ضعف حجم الحيوان المنوى، وكلاهما في غاية الصغر، فالحيوان المنوى يساوى 6/ 1000 "ستة على ألف" من الملليمتر، ولا يرى إلا بمنظار مكبر - تعاليت يا الله -.

(2)

كتاب بدء الخلق - باب ذكر الملائكة - كما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذى وابن م

ص: 1179

ويليه طور المضغة الذي يستمر أَربعين يوما أُخرى كما جاءَ في الحديث "ثم يكون مضغة مثل ذلك".

والمضغة في اللغة: ما يمضغ من لحم وغيره وهى في أَصل الإِنسان: قطعة لحم فيها بعض التصوير، وسميت بذلك لأَنها في مجمل مظهرها تشبه في أَوَّل طورها قطعة لحم قدر ما يمضغ، إِذْ أَنها حينئذ تزن خمسة وعشرين درهما تقريبا، وطولها ثمانية سنتيمترات كما تقدم، ويظل الجنين في طور المضغة ينمو وينتقل في التصوير إِلى ما هو أَكمل حتى يتم خلقه في نهايته، فيكون وزنه نحو سبعين درهما، وطوله نحو ثمانية عشر سنتيمترا، وحينئذ تبدأُ حركته في بطن أُمه حيث قد نفخت فيه الروح، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (1).

ويشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم بعد دور المضغة: "ثم ينفخ فيه الروح" وبهذه الحركة تطمئن الأُم على حياة جنينها.

والمقصود من نفخ الروح فيه حينئذٍ إِعطاؤُه دفعة قوية من الحياة تمكنه من الحركة في بطن أُمه بعد أَن تم خلقه، أَما أَصل الحياة فموجود في الحيوان المنوى والبويضة قبل التلقيح، ثم في الخلية الأُولى التي نشأَت من تلقيحه لها، ولولا الحياة فيهما لما تكونت تلك الخلية، ولولا استمرار الحياة لما تكاثرت وتطورت حتى أَصبحت شيئا آخر مخالفا لأَصلها.

ويستمر الجنين في النمو وهو محاط بثلاثة أَغشية، وفي نهاية الشهر التاسع يكون قد اكتمل نموه، وأَصبح صالحا لأَن يعيش خارج بطن أُمه، فيولد غالبا إن لم يكتب الله له البقاءَ في بطن أُمه أَكثر من تسعة أَشهر (2).

والمراد من قوله في المضغة {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} : أَنها صالحة لكمال التخليق والتصوير، لخلوها من العيوب، وغير صالحة لهذا الكمال، لوجود بعض العيوب فيها، فينشأُ عن

(1) سورة المؤمنون من الآية: 14

(2)

إذا ولد الجنين لتسعة أشهر يكون طوله من خمسة وأربعين إلى خمسين سنتيمترا، ووزنه من ثلاثة إلى ثلاثة ونصف كيلو جرام. فتبارك الله أحسن الخالقين.

ص: 1180

ذلك التفاوت في خلق الإِنسان فبعضه يكون كامل الخلق سالما من العيوب، وبعضه الآخر يكون به بعض النقصان والعيب في صورته وفي طوله وقصره وأَعضائه ووظائف تلك الأَعضاءِ (1) وغير ذلك.

وفسَّر بعضهم المخلقة بالمصورة، وغير المخلقة بغير المصورة، والمراد تفصيل حال المضغة، وبيان كونها أَولا قطعة لحم لم يظهر فيها شىءٌ من الأَعضاءِ، ثم ظهرت شيئا فشيئا، ولكن هذا المعنى يقتضي تقديم غير المخلقة على المخلقة، مراعاة للتدرج في الخلقة.

وروى عن مجاهد وغيره: أَن المخلقة التي تواردت عليها أَطوار التخليق حتى تمت مدة الحمل، وغير المخلقة التي لم يتم لها ذلك وسقطت، وأَوردوا على هذا الرأْى: أن الآية في خلق الإِنسان من نطفة فعلقة، فمضغة، فكيف يخلق الإِنسان من نطفة ساقطة في أَي طور من أَطوارها، والرأْى الأَول هو المناسب للمعنى ولتفاوت حال الخلائق كمالًا ونقصانا والمعنى الإِجمالى لهذا الجزءِ من الآية ما يلى:

يأَيها الناس المنكرون للبعث المجادلون فيه بغير علم: إن كنتم في شك في إِمكانه وحصوله، فلا مجال لإِنكاركم ولا لِشَكِّكُم، فإنا خلقناكم أَصلا من تراب في ضمن خلقنا لأَبيكم آدم، ثم قدَّرنا في خلقكم منهاجًا آخر حيث خلقناكم من نطفة الوالدين، وذلك أَنه حين تلتقى النطفتان تنشأُ عن لقائهما. بمشيئتنا الخلية الأُولى لتكوين الإِنسان ثم تتكاثر تلك الخلية بانقسامها السريع إِلى خلايا متماسكة، ثم تسْتقِرُّ مِنَ الرحم في قرار مكين بأَمرنا، ثم طورنا هذه النطفة في الرحم حتى وصلت إِلى طور العلقة، حيث يصبح الجنين فيها كالدودة العالقة بالرحم، بعد أَن أَفضنا عليه شيئا من التخليق والتكوين ثم كبَّرنا هذه العلقة حتى جعلناها في حجم المضغة، وجعلنا هذه المضغة كاملة التخليق، بحيث ينشأُ عنها إنسان كامل التكوين، أَو ناقصته لينشأَ عنها إِنسان ناقص في تكوينه، بأَن يكون دون الأَول في الحسن وجمال التصوير، أو في تمام الأَعضاءِ وقيام الأَجهزة الجسمية بأَداءِ وظائفها ونحو ذلك - خلقناكم على هذا النمط البديع المتفاوت - لكي

(1) وهذا المعنى مأخوذ من قولهم: خلق السواك والعود أي: سواه وجعله صالحا للاستعمال، فالمضغة المخلقة على هذا بمعنى المسواة السالمة من العيوب، وغير المخلقة ما فيها بعض العيوب وإلى هذا المعنى ذهب الزمخشرى وغ

ص: 1181

نبين ما لا يمكن حصره من عظمة الخالق وحكمته وكامل تدبيره وعظيم قدرته وغير ذلك من عظائم الأُمور التي من جملتها البعث والنشور فإِن من تأَمَّل ما ذكر من الخلق التدريجى جزم بأَن من قدر على خلق البشر من تراب لم يذق طعم الحياة، وأَنشأَه على وجه مصحح لتوليد مثله مرة بعد أُخرى، بتصريفه في أَطوار الخلقة وتحويله من حال إلى حال، مع ما بين تلك الأَطوار من المخالفة والتباين فهو قادر على إِعادته بعد موته، بل هو أَهون في القياس.

ثم بين الله حال الجنين بعد تلك الأَطوار فقال سبحانه:

{وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} :

فهذه الجملة مستأْنفة لبيان مستقبلهم بعد تلك الأَطوار.

والمعنى: ونثبت في الأرحام بعد تلك الأطوار ما نشاءُ بقاءَه فيها إِلى أَجل سميناه لوضع كل جنين منكم بعد تمام خلقه وكمال نموه وصلاحيته لأَن يعيش خارج بطن أُمه، وغالِبُه تسعة أَشهر، ويقول الفقهاءُ: أَدناه ستة أَشهر ولحظتان للوطءِ والوضع، وأَقصاه عند الحنفية سنتان، وعند الشافعية أربع سنين وهذا نادِرٌ جدًّا.

{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} : المراد بالطفل هنا: الأَطفال، فإِنه يطلق على الواحد والجمع، أَي: ثم نخرجكم بعد مدة الحمل التي أَردناها - نخرجكم أَطفالا بعد أَن كنتم أَجنة، ثم نُنَمِّى أَجسادكم وقواكم لتبلغوا أَشدكم وكمالكم في الجسم والعقل.

أَما الذي لا نشاءُ إِقراره في الأَرحام، فإننا نسقطه منها في أَول زمن الحمل أَو في آخره أَو فيما بينهما، تبعا لحكمتنا.

ثم بيَّن الله أَحداثا أُخرى تحدث بعد الولادة فقال على سبيل الاستئناف:

{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} أَي: ومنكم من يموت قبل بلوغ الأَشد أَو في أَثنائه ومنكم من يبقى بعد بلوغ الأَشد ويرتد إِلى أَخس العمر وأَحقره، حيث يمعن في الشيخوخة والهرم، فتضعف قواه الجسدية والعقلية، وينتهى أَمره إلى أَن ينسى ما علمه من قبل، ولا يقبل علما جديدا بعد، وذلك زمَنُ

ص: 1182

الخرفِ والخيالات التي لا أَصل لها، حيث يعود إلى ضحالة الطفولة وسذاجتها وسوءِ التصرف فيها.

وقد أَوصى الله الأَولاد بالإِمعان في الإِحسان إِلى الوالدين في هذه المرحلة الخطيرة، والتجاوز عما عسى أَن يحدث فيها منهم، وأَلا يقابلوهم بالتأَفف والانتهار، إِذ قال:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (1).

وقد أَجمل الله أَطوار حياة الإِنسان بصورة أُخرى غاية في الاختصار والبلاغة، حيث قال في سورة الروم:

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (2).

وهذه الأَطوار التي نشاهدها في خلق الإِنسان، نشاهد مثلها في الحيوان والنبات، وينتهى الكل إِلى ممات، ولا يبقى سوى الديان {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (3).

{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} :

هذا دليل آخر يسوقه الله تعالى حجة على أَن البعث حق لا شك فيه، والخطاب فِيه لكل ذى عينين ممن يجادلون في البعث وغيرهم، والمعنى: وترى أَيها الإنسان بعينيك - ترى الأَرض - يابسة لا نبات فيها فإذا اشتملت على البذور وأَنزلنا عليها الماءَ، دبت الحياة إِلى البذور، فأخرجت جذورها لتعلق بجوف الأَرض وتتثبت بها - كما علقت النطفة برحم الأُم وتشبثت منه بقرار مكين - وأَخرجت براعمها وأَشطاءَها فوق سطح

(1) سورة الإسراء، الآيتان: 23، 24

(2)

الآية: 54

(3)

سورة الرحمن، الآيتان: 26، 27

ص: 1183

الأَرض، وقد اهتزت بذلك وعلت قشرتها، وأَنبتت من كل صنف حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الريح، من مختلف أَنواع النبات والطعوم والأَشجار المورقة المثمرة، وشجيرات الزينة ذات المنظر المونق، والعبير الذي يشرح الصدور.

ولا شك أَن البعث يتجلي في النبات واقعيًا من آن لآخر، فإِنه كلما يبس ومات بعثه الله من جديد، بإِفاضة الماءِ على بذوره في جوف الأَرض، فتدب الحياة فيها، فتخرج جذورها لتستقر بها، وتنبت براعمها وأَشطاءُها محيطة بسيقانها بقدرة الله الحكيم الخبير، ونرى فيها من كل زوج بهيج مرة بعد أُخرى، فهل بعث الإِنسان بعد موته يختلف عن هذا في كثير أَو قليل؟ وصدق الله إِذ يقول:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (1).

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)}

المفردات:

{الْحَقُّ} : الثابت الذي لا شك في وجوده.

{لَا رَيْبَ فِيهَا} الريب: الشك، والمراد من نفى الشك في الساعة: أَنها لا ينبغي أَن يحدث فيها شىءٌ من الشك لوضوح أَدلتها، وإِن شك فيها الجاهلون.

(1) سورة يس، الآيتان: 78، 79

ص: 1184

التفسير

6 -

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} :

هذا كلام مستأْنف لبيان السر في تطورات خلق الإِنسان والنبات، والسبب الحقيقى فيها وما تدل عليه من تحقيق البعث.

والمعنى: ذلك الذي تقدم بيانه من خلق الإِنسان في أَطوار مختلفة، ابتداءً بخلقه من التراب وانتهاءً بجعله في أَرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا، ومن خلق النبات بمثل تلك الأَطوار - ذلك كله شاهد بأَن الله هو الحق الموجود الذي بيده الأَمر كله، وأَنه تعالى مِنْ شأْنه إِحياءُ الموتى به وإِعادة، وإِلا لما أحيا النطفة والأَرض الميتة مرة بعد أُخرى وأَنه سبحانه قادر تمام القدرة على كل شيءٍ. {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1).

7 -

{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} : معطوف على أَن الله هو الحق، داخل معه في حيز السببية والشهادة أَي: ذلك التطور في خلق الإِنسان والنبات حاصل وشاهد بأَن الله هو الحق، وأَن مِنْ شأْنه إحياءَ الموتَى كما ترون في تطويره الإنسان والنبات وأَنه على كل شيءٍ قدير، ولهذا قَدَرَ على إبداع هذا الكون، وأَن الساعة التي يُنْهى فيها الحياة الدنيا ستأْتى من غير شك في مجيئها، وأَن الله سوف يبعث من في القبور ليحاسبهم في أُخراهم على ما قدموه في دنياهم، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (2). فلهذا يريكم الآيات لعلكم تتفكرون.

والتعبير بلفظ "آتية" بدلا من لفظ "ستأْتي" للدلالة على تحقق إِتيانها ولا بد، لاقتضاءِ الحكمة مجيئها حتى يأْخذ المحسن جزاءَ إِحسانه والمسىءُ جزاء إِساءَته، وإِلا لضاع على كل ذى حق حقه، ولتساوى المحسن بالمسىءِ في مصيره، وذلك مناف لعدالة الله وحكمته.

(1) سورة يس، الآيتان: 81، 82

(2)

سورة الزلزلة، الآيتان:

ص: 1185

وإِنما قال سبحانه: {لَا رَيْبَ فِيهَا} مع أن الملحدين يرتابون فيها للإِيذان بأَنها في ظهور دلائلها ووضوح أَمرها بحيث لا يصح أن تكون مجالا للإرتياب فيها، ولا تصلح مظنة للشك على الإِطلاق.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)}

المفردات:

{يُجَادِلُ} : يخاصم ويناوىءُ. {فِي اللهِ} : في ذاته أَو صفاته. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} : بغير يقين ضرورى {وَلَا هُدًى} : ولا نظر سديد يهديه إلى الحق. {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} : ولا كتاب سماوى يضىءُ له سبيل الحق. {ثَانِيَ عِطْفِهِ} العِطْفُ: الجانب، وثَنْيُهُ لجانبه: كناية عن الإعراض تكبرا. {خِزْيٌ} : ذل وهوان.

التفسير

8 -

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} .

هذه الآية مستأْنفة لبيان حال الذين يكابرون في الحق بلا دليل، ويؤُمون غيرهم في الضلال، أَما الآية السابقة {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} الخ ففي بيان حال من يقلدونهم ويتبعونهم، ويجوز أَن تكون هذه معطوفة على تلك للغرض المذكور (1) وأَئمة الضلال في مكة أَشهرهم أبو جهل والنضر بن الحارث

(1) ويرى ابن عطية أن هذه الآية تكرار للآية السابقة لغرض التوبيخ فكأنه قيل: هذه الأَمثال في غاية الوضوح والبيان، ومن الناس من يجادل في شئون الله الخ، والواو للحال على هذا الوجه.

ص: 1186

والأَخنس بن شريق، فقد كانوا يجادلون في شئون الله بغير حق ليصرفوا الناس عن الهدى الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم.

والمعنى: وبعض الناس يجادل في شئون الله فينكر البعث والنشور، والحساب والجزاءَ، ويجعل الملائكة بنات الله، وينكر اصطفاءَه أَنبياءَ من البشر، وغير ذلك بما أَكثروا فيه الجدل، دون أَن يكون لديهم علم يقينى ضرورى بما يقولون، أَو استنباط نظرى يهديهم إلى الحق، أَو كتاب سماوى ينير لهم سبيله، وكل جدل لا يقوم على شيءٍ من تلك القواعد، فهو منهار وضلال مبين.

9 -

{ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} :

أَي: ومن الناس من يجادل في الله بجهالة، لاويا جانبه، معرضا عن الحق مستكبرا عليه، يفعل ذلك لكي يضل الناس عن سبيل الله، ويصرفهم عن اتباع الحق، له يسبب ذلك خزىٌ وذلٌّ وهوان في الدنيا حين يصرعه الحق ويرتفع لواؤُه، ويبطل باطله ويزول أَثره، ونذيقه يوم القيامة عذاب النار الشديد الإِحراق.

10 -

{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} :

ذلك الذي تقدم من خزى الذي يضل في سبيل الله وعذابه، بسبب ما حدث منه من الكفر والمعاصي، وأَنه تعالى لا يحدث منه ظلم لعبيده.

والتعبير عن نفى مطلق الظلم عنه تعالى بصيغة المبالغة {لَيْسَ بِظَلَّامٍ} لتأْكيد نزاهته عنه بتصوير التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم.

ص: 1187

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُومِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُولَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)}

المفردات:

{عَلَى حَرْفٍ} : على طَرف من الدين. {فِتْنَةٌ} : شرٌّ وبلاءٌ.

{انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} : ارتد إِلى الكفر {الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} : الخسران البين الواضح من أَبان بمعنى: اتضح وظهر. {الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} : الانحراف البعيد عن الحق.

{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} : يقول الكافر لصنمه يوم القيامة بصوت مرتفع حين اتضح له أَن ضره أَقرب إِليه من نفعه. {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} : لبئس الناصر ولبئس المصاحب أَنت أَيها الإِله الذي كنت أَعبده.

التفسير

11 -

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} :

لقد صورت الآيات السابقة صنفين من أَهل الضلال، أَولهما، من يجادل في الله بغير علم متبعا في جداله أَئمة الكفر من كل شيطان مريد. وثانيهما: من يجادل

ص: 1188

في الله بجهالة، ولكنه يغطى جهالته بِثَنْيِ عطفه وخيلائه سَتْرًا لجهالته وادعاءً للزعامة والإِمامة على من دونه من الكافرين، لكي يتبعوه في سفهه وجداله بالباطل، وجاءَت هذه الآية لتصور صنفًا ثالثًا منهم، وهم أُولئك المذبذبون في عقائدهم، الذين لا يستقرون فيها على حال، بل يتقلبون فيها وفق المنافع والمضار.

أَخرج البخاري وابن أَبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أَنه قال في هذه الآية: "كان الرجل يقدم المدينة، فإذا ولدت امرأَته غلاما ونُتِجَتْ خيله قال هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأَته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء" وأَخرج ابن مردويه عن أَبي سعيد قال: أَسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده، فتشاءَم من الإِسلام، فأَتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أَقِلْنِى. فقال: "إِن الإِسلام لا يُقَال"، فقال: لم أُصب من دينى هذا خيرًا. ذهب بصرى ومالى ومات ولدى، فقال صلى الله عليه وسلم:"يا يهودى: الإِسلام يَسْبِكُ الرجال كما تسبك النارُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة" فنزلت الآية.

وعن الحسن أَنها نزلت في المنافقين، ونحن نقول: سواءٌ كان سبب نزولها هذا أَو ذاك، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية فيمن يتَّجِرُ بالدين، ولا يؤمن عن يقين.

والمعنى الإِجمالى للآية: ومن الناس من يعبد الله على طرف من الدين لا تعمق له فيه، فإِن أَصابه خير دنيوى كالرخاءِ والصحة والولد، ثبت على هذا الطرف ثبات المستفيد لا ثبات المؤمن المتيقن، وإن أَصابته فتنة ومكروه في نفسه أَو أَهله أَو ماله، انقلب على وجهه الذي كان متجها إِليه، فارتد ورجع عن دينه، ومثله في ذلك كمثل الجندى الخائر العزيمة، جبان القلب، يكون في طرف الجيش، فإِن أَحسَّ بظفر وغنيمة بقى ليحرزها، وإِن أَحس بهزيمة لاذ بالفرار ملطخا بالعار.

وقد بين الله عاقبة كفره وارتداده فقال:

{خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} فأَما خسارته في دنياه فعدم حصوله منها على ما يريد، وتعرضه للقتل إِن عُرِفَتْ رِدَّتُه، وأَما خسارته في الآخرة فالعذاب الأَليم والسعير الدائم، وذلك هو الخسران الواضح الذي لا يخفى على ذوى الأَل

ص: 1189

12 -

{يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} :

هذه الآية مستأْنفة لبيان حاله في دنياه بعد ردته عن الإِسلام ونكوصه على عقبيه بعد الإِقدام.

والمعنى: أَن هذا الذي انقلب على وجهه وارتد عن الإِسلام، لفوات المنافع الدنيوية التي كان يرجوها منه، يعبد من دون الله أو يدعو لحاجته ما لا يضره إِن كفر به وما لا ينفعه إِن آمن به وعبده أَو دعاه، فهو مخلوق لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فكيف يملكها لسواه ذلك الانصراف عن الحق إِلى الباطل هو الضلال البعيد عن سبيل النجاة.

13 -

{يَدْعُوا لَمَنْ (1) ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} :

وهذه الآية مستأْنفة أَيضًا لبيان مآل دعائه وعبادته غير الله تعالى.

والمعنى: أَن من انقلب عن الإِسلام وعبد غير الله أَو دعاه. يقول يوم القيامة حين يعذب بسبب معبوده الذي ارتد إِليه، وكان يأْمل شفاعته أَو حمايته يقول نادما بصوت مرتفع: المولى الذي ضرره أَقرب تحققا من نفعه والله لبئس المولى الذي يتخذه الإِنسان لنفسه ناصرا، ولبئس العشير الذي يصطفيه عشيرا، فكيف بما هو ضرر محض لا نفع فيه؟.

وقد استفيد من هذه الآيات الثلاث أَن الله تعالى لا يقبل النفاق في الدين، والتجارة بالعقيدة، فليس لله من الدين إِلا الدين الخالص، والعقيدة الثابتة، وأَن الصبر على البلاءِ واجب كل مؤمن، وميزة كل تقى. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"أشد الناس بلاءً الأنبياءُ، ثم الأَمثل فالأَمثل، يُبْتَلى الرجل علي حسب دينه، فإِن كان في دينه صُلْبًا اشتد بلاؤُه، وإِن كان في دينه رقَّةٌ ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاءُ بالعبد حتى يتركه يمشى على الأَرض وما عليه خطيئة" أَخرجه البخاري وغيره.

(1) يدعو بمعنى ينادى بصوت مرتفع، واللام في قوله (لمن) موطئة للقسم، و (من) اسم موصول مبتدأ، و (ضره) مبتدأ ثان مضاف إلى الهاء، و (أقرب من نفعه) خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره صلة الموصول وهو لفظ (من) وجملة لبئس المولى ولبئس العشير جواب قسم مقدر أَي والله لبئس المولى ولبئس العشير، وجملة القسم، وجوابه خبر المبتدأ الأول وهو لفظ (من) أي: ينادى المشرك قائلا يوم القيامة للمعبود الذي ضره أكثر من نفعه: والله لبئس المولى ولبئس الع

ص: 1190

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)}

المفردات:

{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : تجرى من تحت قصورها وأَشجارها.

{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} : فليمدد بحبل. {إِلَى السَّمَاءِ} : إِلى سقف بيته، وكل ما علاك سماء.

{ثُمَّ لْيَقْطَعْ} : ثم ليختنق، من قطع بمعنى اختنق - كذا فسره ابن عباس ولعلهم أَطلقوا القطع عليه لما فيه من قطع النَّفس، وقيل المعنى: ثم ليقطع الحبل بعد الاختناق، على أَن المراد به فرض القطع وتقديره تهكما.

التفسير

14 -

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} :

بعد أَن حكت الآيات السابقة حال أَصناف ثلاثة من الكفرة، وسوءَ مآلهم، جاءَت هذه الآية للإِخبار عن حسن مآل المؤمنين الصادقين، وجميل ثوابهم في جنات النعيم.

والمعنى: إِن الله يثيب المؤْمنين الصادقين الثابتين على دينهم، الذين يعملون الصالحات وفق شريعتهم، فيدخلهم في الآخرة جنات وبساتين تجرى بينها الأَنهار، تحت القصور

ص: 1191

والأَشجار، إِن الله يفعل ما يريد، فيثيب المحسن جزاءَ إِحسانه ويعاقب المسىءَ جزاءَ إِساءَته {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} .

15 -

{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} :

تضمنت الآيات السابقة سُوءَ حال طوائف من الكفار وسوءَ عاقبتهم، وحسن حال المؤمنين بالله ورسوله وجزيل ثوابهم، ولما كان ما يصيب هؤُلاءِ وأُولئك يعتبر نَصْرًا من الله لرسوله، جاءَت هذه الآية لتؤَكده وتحققه، وتتحدى من يقف في سبيله صلى الله عليه وسلم وتعده بالنصر الحاسم في الدارين.

والمعنى: أَنه تعالى ناصر رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا بإِعلاءِ كلمته وإِظهار دينه، وفي الآخرة بإِعلاءِ درجته، وإِدخال من صدَّقه جنات تجرى من تحتها الأَنهار، والانتقام ممن كذبه بعذاب الحريق، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يمنعه مانع، فمن كان يغيظه ذلك من أَعاديه، ويظن أَنه تعالى لا يحققه، بسبب مدافعته ومكايده، فليبالغ في استفراغ الجهد فغاية أَمره خيبة مساعيه، وعقم مقدماته وفساد مؤامراته، وبقاءُ ما يغيظه من نصر الله لرسوله، وقد وضع مقام هذا الجزاء قوله تعالى:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} لغرض التحدى والتهكم، ومعناه: فليمدد بحبل إِلى سقف بيته ثم ليختنق بهذا الحبل الذي وضعه غُلاًّ في عنقه، فلينظر وليتأَمل هل يشفيه من الغيظ قتله نفسه حسرة على نصر الله لرسوله؟ وتفسير القطع بالاختناق مروى عن ابن عباس ومجاهد وعطاءٍ وغيرهم، مأْخوذ من قطع إِذا اختنق، لأَن الغُلَّ يقطع النفس إِذا ضاق على العنق.

وخلاصة معنى الآية: من ظن أَن الله لا ينصر نبيه محمدا وكتابه ودينه وأُمته المؤمنة، وكان هذا النصر يغيظه، فليذهب فليقتل نفسه فإن الله ناصره لا محالة، قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (1).

(1) سورة غافر، الآيتان: 51

ص: 1192

16 -

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} :

أَي: وكما أَنزلنا الآيات السابقة واضحة الدلالة على خذلان الباطل وأَهله، ونصر الحق وذويه، أَنزلنا القرآن كله آيات واضحات الدلالة على معانيها الصافية الجلية، ولأَن الله تعالى يهدى من يريد هدايته، ممن أَقبل عليه وشرح الحق صدره - أَنزل القرآن على هذا النحو البديع ليكون داعيهم إِلى الهدى، وقائدهم إِلى سواءِ السبيل.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}

المفردات:

{وَالَّذِينَ هَادُوا} : هم اليهود، ولعل التعبير عنهم بالذين هادوا لرجوعهم إلى الله وتوبتهم من عبادة العجل بعد عودة موسى من مناجاة ربه. {وَالصَّابِئِينَ}: أَصحاب دين أَقاموه على الروحانيات، وسنعرض لتفصيل أَمرهم في تفسير الآية، والصابئون مِنْ: صَبَأَ، وله عدة معان، منها: خرج من دين إلى دين وهو من باب منَع وكرُمَ ويستعمل بمعنى: صار، وبمعنى: طلع كما في قولهم: صَبَأَ النَّجْمُ كَأَصْبَأَ.

{وَالْمَجُوسَ} : قوم يعبدون الشمس والقمر والنار على ما روى عن قتادة.

ص: 1193

{يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} : يحكم بينهم، ويجزى كلا على حسب عقيدته وعمله.

{شَهِيدٌ} : أَي مراقب وعليم.

{أَلَمْ تَرَ} : أَلم تعلم. {يَسْجُدُ} : يخضع ويَذل.

التفسير

17 -

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} :

حكى الله في الآيات السابقة سوءَ أَحوال الكفار - تابعيهم ومتبوعيهم والمذبذبين منهم - وبين سوءَ مصيرهم ومنقلبهم، وبين حسن حال المؤمنين الصالحين وجميل مثوبتهم، وختم ذلك ببيان أَنه تعالى مؤَيِّد رسوله بالنصر والغلبة في الدنيا والآخرة، وجاءَت هذه الآية الكريمة لتؤَكد نصره في الآخرة على جميع الفرق الكافرة.

وقد ذكر الله في هذه الآية ست فرق يفصل الله بينها يوم القيامة، أُولاها: المؤْمنون، والمقصود بهم في هذا المقام: من آمن بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وثانيها: الذين هادوا وهم المعروفون باليهود، ولما ذهب موسى لميقات ربه، صنع لهم السامرى عجلا جسدا له خوار، وقال: هذا إِلهكم وإِله موسى فعبدوه، فأَخبره الله بما صنع قومه فرجع إِليهم غضبان أَسفا، ووبخهم على ما فعلوا، وطلب إِليهم التوبة، وقد حكى الله ذلك في عدد من السور، ومنها قوله تعالى في سورة البقرة:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (1).

فمعنى كونهم هادوا: أَنهم رجعوا إِلى الله وتابوا عن عبادة العجل فتاب عليهم، أَي: قبل توبتهم، فلهذا أَطلق عليهم القرآن:(الذين هادوا) مراعاة لما كان من أَجدادهم، وأَما المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم فهم مكلفون بالإِيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يؤْمن به فهو كافر؛ كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (2).

(1) الآية: 54

(2)

سورة البينة، الآية

ص: 1194

وثالثها: الصابئون، وقد جاءَ عنهم في كتاب - الملل والنحل - للشهرستانى: أَنهم كانوا على عهد إِبراهيم عليه السلام ويقال لمقابليهم: الحنفاء، وكانوا يقولون: إِنا نحتاج في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأَحكامه - جل شأْنه - إِلى متوسط روحانى لا جسمانى - ومدار مذهبهم على التعصب للروحانيات، وكانوا يعظمونها غاية التعظيم ويتقربون إليها، ولما لم يتيسر لهم التقرب إِليها والتلقى منها بذواتها، فزعت جماعة منهم إِلى هياكلها، وهى السبع السيارات وبعض الثوابت، فصابئة الروم مفزعها السيارات، وصابئة الهند مفزعها الثوابت، وربما نزلوا عن الهياكل إِلى الأَشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغنى شيئًا وهى الأَصنام.

والفرقة الأُولى هم عبدة الكواكب، والثانية هم عبدة الأَصنام. وقد أَفحم إِبراهيم كلتا الفرقتين وأَلزمهم الحجة - وذكر الشهرستانى في موضع آخر من كتابه: أَن ظهورهم كان في أَول سنة من ملك طهمورث من ملوك الفرس اهـ (1) وذكر صاحب كتاب "الصابئة" أَنه توجد في سهول الموصل جماعة منهم يؤْمنون بأَن الخالق واحد أَزليٌّ لا أول لوجوده ولا نهاية له، منزه عن عالم المادة والطبيعة، وهو الذي أَوجدها، ولكنهم مع هذا يتقربون إِليه بعبادة الأَفلاك والكواكب، زاعمين أَنها أَقرب الأَجسام المرئية إلى الله تعالى، وأَنها حية خالدة ناطقة، وأَن كل ما يحدث في العالم يكون على حسب ما تجرى به الكواكب حسب أَمر الله لها - كما زعموا - فعظموها ثم جعلوا لها تماثيل وأَصنامًا ترمز إليها فعبدوها (2).

ونحن نقول: إنهم بجميع فرقهم كفار، ولا يغنيهم اعترافهم بوجود الله على النحو الذي مرَّ بيانه، لأَنهم كالمشركين الذين أَشركوا الأَصنام مع الله في العبادة، مع اعترافهم بأَنه - تعالى - هو الخالق. وقد جاءَ الإِسلام لمحاربة الشرك في جميع صوره، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .

(1) انظر الآلوسى في الآية، فعنه نقلنا ما تقدم عن الصابئة.

(2)

ومن العلماء من أباح ذبائحهم ونكاح نسائهم ومنهم من منع ذلك، انظر القرطبى في تفسيره:"الصابئين" في آية البقرة ج 1 ص

ص: 1195

ورابعها: النصارى وعقائدهم في المسيح معروفة، وهم كافرون بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وخامسها: المجوس وهم كما قال الآلوسى نقلا عن الشهرستانى: طوائف كانت قبل اليهود والنصارى، يؤْمنون بالشرائع على خلاف الصابئة، ولهم شبهة كتاب، وهم يعظمون النار. وروى عن قتادة: أَنهم كانوا يعبدون الشمس والقمر والنيران، وقال القرطبى: هم عبدة النيران القائلون بأَن للعالم أَصلين: نورًا وظلمة.

وسادسها: الذين أَشركوا، وهو وصف شامل لكل من عبد غير الله فيدخل فيه عبدة الحيوان والأَنهار والأُمهات والآباءِ ونحوهم، ممن لا يزالون على تلك المناهج في الهند والتبت وأَفريقيا وغيرها، وكل هذه الفرق كافرة عدا الفرقة الأُولى التي آمنت بالله ورسوله.

والمعنى الإِجمالى للآية: إن الذين آمنوا بالله ورسوله وكتابه، واليهود الذين يعاصرون الإِسلام، والصابئين على اختلاف فرقهم التي مرَّ بيانها، والنصارى المعاصرين للإِسلام على اختلاف مذاهبهم، والمجوس، والذين أَشركوا بالله رب العالمين - أَشركوا به - غيره من خلقه في العبادة، إن هؤُلاء جميعًا يقضى الله بينهم يوم القيامة فيظهر المحق منهم وهم المؤْمنون، والمبطل منهم وهم سائر الفرق، ويجزى كلا على حسب حاله، فيثيب المؤْمنين ويعذب سواهم، وما ربك بظلام للعبيد، إِن الله مراقب لعباده شهيد على أَعمالهم محيط بعقائدهم وما كسبته جوارحهم فهو على كل شيءٍ شهيد وبكل خلقه عليم.

18 -

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} :

هذه الآية جاءَت لتأْكيد قدرة الله على الفصل بين هذه الفرق التي ذكرت في الآية السابقة وهى التي اختلفت إِيمانًا وكفرًا، ببيان خضوع كل شيءٍ في هذا الكون له تعالى، ومن كان كذلك فإِنه لا يصعب عليه الفصل بين من أَطاعه ومن عصاه، والرؤْية في قوله

ص: 1196

{أَلَمْ تَرَ} : رؤْية القلب والعقل، فهى بمنزلة أَلَمْ تعلم، والمراد بالسجود هنا: الخضوع، وهو عام في الإِنسان والحيوان والنبات والجماد فكل ما في الكون خاضع لتدبير الله وأحكامه، والمراد بمن في السموات والأَرض: ما فيهما بطريق القرار فيهما أَو الجزئية منهما "فَمَنْ" مستعملة هنا للعاقل وغيره، كما تستعمل (ما) في مثل ذلك أَحيانًا.

وإِفراد الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب بالذكر مع دخولها في عموم من يسجد له تعالى في السموات والأَرض؛ لأَن الناس عبدوها مع الله مع أَنها مخلوقة له وخاضعة لأَحكامه.

فذكرت هنا لتنبيه الناس إِلى خطئهم في عبادتها، فالشمس عبدتها حِمْير، والقمر عبدته كنانة، ونجم الدبران عبدته تميم، والشَّعْرَى عبدتها لخم وقريش، والثريا عبدتها طىءٌ، وعطارد عبدته أَسد، وعبد أَكثر العرب الأَصنام المنحوتة من الجبال، والعُزَّى عبدتها غطفان، وهى شجرة من السمر المعروف.

ومن الناس من عبد البقر في الهند وغيرها، وقد مرت عقيدة الصابئة في عبادة الكواكب، فلهذا نبَّه الله إِلى خطأ هؤُلاءِ العابدين وكفرهم بمن خلقها وسخَّرَهَا.

وقد انتقل الكلام في آخر الآية من سجود التسخير إِلى سجود الطاعة الاختيارية، وذلك في قوله تعالى:{وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} فهو على تقدير: ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة، وهم صنف المؤمنين من الفرق الست التي مرت في الآية السابقة {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}: وهم باقى الفرق الست لأَنهم لا يخصونه بالسجود - كما مرَّ بيان حالهم - ولا يصح أَن يقصد بسجود كثير من الناس سجود التسخير، فيعطف على من في السموات والأَرض، لأَن سجود التسخير عام في الناس جميعًا - مؤْمنهم وكافرهم - فلا يصح قصره على المؤْمنين دون سواهم، ومن العلماءِ من جعل {كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} مبتدأ وقدَّر خبره (حق له الثواب) بدليل ما بعده، وهو قوله سبحانه:

{وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} : أَي وكثير منهم وجب عليه العذاب بكفره وإِبائه السجود الذي كلفه الله بأَن يكون له خالصًا.

ص: 1197

ومن العلماءِ من جعل "كثير" مبتدأَ وقوله "من الناس" خبره على معنى: وكثير من الناس الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون المتقون المستحقون للثواب، أَما غيرهم فقد خرجوا عن حقيقة جنسهم بانحرافهم في عقائدهم.

والمعنى الإِجمالى للآية: أَلم تعلم أَيها المفكر العاقل أَن الله تعالى يخضع لتدبيره وحكمته وسلطانه كل ما في السموات والأَرض، ما استقر فيهما أَو كان جزءًا منهما، وأَنه تخضع له الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، فهى مخلوقة له وخاضعة لتدبيره وسلطانه، فكيف يتخذها الناس آلهة معه؟.

ويسجد لله تعالى سجودَ طاعة واختيار كثير من الناس وهم المؤمنون المتقون، فحق لهم الثواب.

وكثير من الناس لا يخصونه تعالى بالسجود فحق عليهم العذاب، ومن يُهِنْهُ الله تعالى بتعذيبه على معاصيه وسوءِ عقيدته، فليس له من يكرمه بإنقاذه من الإِهانة والتعذيب، فإِنه تعالى يفعل ما يشاءُ، مما تقتضيه حكمته وعدله، فلا معقب لحكمه ولا معارض، لمشيئته.

{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)}

ص: 1198

المفردات:

{هَذَانِ خَصْمَانِ} : الخَصْم المخاصم مذكرا أَو مؤنثا، مفردا أَو مثنى أَو جمعا.

{اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} : وقع الجدل بينهم في شأْن ربهم. {الْحَمِيمُ} : الماءُ الحار.

{وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} : المقامع جمع مِقْمعة كَمِكْنَسة وهي: الأَعمدة من الحديد يضرب بها.

{عَذَابَ الْحَرِيقِ} : أي عذاب الاحتراق ويكون بالغليظ من النار.

التفسير

19 -

{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ..... } الآية.

المراد بهذين الخصمين اللذين اختصموا في ربهم: فريق المؤمنين، وفريق الكافرين المنقسم إِلى الفرق الخمس التي ذكرت عطفا على المؤمنين في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} وقد أُريد بهما ذلك تعيينا لطرفى الخصام وتحريرًا لمحله، وإِزاحة لما عسى أَن يتبادر إِلى الذهن من كون الخصام بين كل واحدة من الفرق الست وبين البواقى، وروى عن مجاهد والحسن وعطاءِ بن رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي ما يؤيد ذلك من أَنهما فريقا المؤمنين والكافرين، وهذا يتفق مع ما روى عن ابن عباس من أَن الآية رجع إِلى الأَديان الستة المذكورة في الآية التي أُشير إِليها سابقًا. وبه يتبيَّن كون الفصل السابق بين المؤمنين ومجموع مَن عطف عليهم من الفرق الخمس الكافرة.

ومعنى اختصامهم في ربهم: اختصامهم في شأْنه عز وجل فيما يتعلق بذاته وصفاته، وفيما يليق به وما لا يليق، فآمن به على ما ينبغي فريق وكفر فريق، ولما كان كل خصم يجمع طائفة جاءَ (اختصموا) بصيغة الجمع، واعتقاد كل من الفريقين حقِّية ما هو عليه، وبطلان ما عليه الفريق الآخر، وبناءُ كل منهما أَقواله وأَفعاله على اعتقاده، يكفى في تحقيق خصومته للفريق المقابل له، وإِن لم يجر بينهما الجدل والخصام على سبيل المواجهة.

وحمل الآية على العموم المذكور لا ينافى ما قيل من أَنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث - رضى الله عنهم -، وعقبة وشيبة ابنا ربيعة

ص: 1199

والوليد بن عتبة، أَو أَنها نزلت في المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لأَن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ثم فَصَّلت الآية ما أجمل سابقا في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ببيان ما أُعد لكل فريق من جزاءِ فَصْلا لهذه الخصومة فقال سبحانه:

{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} : أي تُقَطَّع لهم في الآخرة من النار الهائلة قِطَع تشبه الثياب في كونها على مقادير جثثهم، وإِحاطتها بهم كما تحيط الثياب بلابسها، وذكر التقطيع بصيغة الماضى (قُطِّعَت) مع أَنه سيقع في المستقبل، لأَن ما كان من أَخبار الآخرة فالموعود به كالواقع المحقق.

"وأَخرج جماعة عن سعيد بن جبير أن هذه الثياب من نحاس مذاب، وليس شىءٌ حمِىَ في النار أَشدّ منه، فليست الثياب من نفس النار بل من شيءٍ يشبهها وتكون هذه الثياب كسوة لهم وما أَقبحها كسوة!! ولذا قال وهب: "يُكْسى أَهل النار، والعُرْى خير لهم" اهـ من تفسير الآلوسى والله أَعلم بصحة ما نقل عن سعيد بن جبير، فإِنه من الغيب الذي لا يعرف إلا بالوحى.

{يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} : أَي يصب على رءُوسهم الماءُ الحار الذي انتهت حرارته إلى غايتها.

20 -

{يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} :

أَي: يذاب بالحميم إذا صب على رءُوسهم - يذاب به - ما في بطونهم من الشحم والأَمعاءِ.

قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، وكذلك تذوب به جلودهم بمعنى: تتساقط.

وقيل التقدير: يذاب به ما في بطونهم وتحرق الجلود، كقوله تعالى:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} .

21 -

{وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} :

أي: وجعل الله لتعذيبهم أَعمدة من حديد يضربون بها ويُدفعون. وقيل المقامع: المطارق وهي المرازب أَيضا، وقيل: هي سياط من نار، وسميت بذلك لأَنها تقمع المضروب أَي: تُذِلُّه.

ص: 1200

22 -

{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا .... } الآية.

أَي: كلما أَرادوا الخروج من النار لِغَمٍّ عظيم من عذابها رغبة في الخلاص منه، وأَشرفوا على الخروج، وذلك حين تجيش بهم النار وتثور، فترفعهم إِلى أَعلى نحو أَبوابها - كلما حدث منهم ذلك - ضربوا بالمقاطع فأُعيدوا إلى معظم النار، لا أَنهم ينفصلون عنها بالكلية ثم يعادون إِليها.

قال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج، إِن الأَرجل لمُقَيَّدَةٌ وإِن الأَيدى لَمُوثَقَةٌ، ولكن يرفعهم لهبها، وتردهم مقامعها، وقال الحسن: معنى الخروج: أَن النار تضربهم بلهبها، فتلقيهم إِلى أَعلاها، فضُربوا بالمقامع فَهَوَوْا فيها سبعين خريفًا.

وكلا الرأْيين يدور على أَن إِرادة الخروج من النار ليست على حقيقتها، بل هي مجاز عن مشارفتهم الخروج منها، برفعهم إِلى أَعلاها.

وقال: بعضهم إن المعنى: كلَّما أَراد أَحدهم أَن يخرج من مكانه المعدّ له في النار إِلى مكان آخر، فخرج أُعيد فيه بضرب الزبانية إِياهم بالمقامع.

{وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أَي: وقيل لهم إِذلالا وإِهانة: ذوقوا عذاب الحريق، وهو عذاب الغليظ من النار العظيم الإِحراق، جمعا لهم بين التعذيب البدنى والنفسى.

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)}

ص: 1201

المفردات:

{مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} : الأَساور جمع أَسْوِرة كأَسْلحة، وواحد أَسْوِرة سُوار - بكسر السين وضمها - كسلاح وغراب، وهو ما يلبس في اليد {وَلُؤْلُؤًا}: وهو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف. {إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} : إلى طريق الله المحمود. وهو الدين الحق.

التفسير

24 -

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ .. } الآية.

لما أَخبر - سبحانه - عن حال الفريق الأَول فريق الكفار وما هم فيه من العذاب والنكال؛ عقَّبه بذكر حال الفريق المقابل وهو فريق المؤمنين ببيان ما هم فيه من نعيم مقيم.

والمعنى: أَن الله تعالى يكافىءُ المؤمنين على إِيمانهم مكافأَة كريمة، فيدخلهم جنات تجرى الأَنهار في أَرجائها وتنساب في جوانبها، وتحت أَشجارها، وبين قصورها. ليصفو جوها ويَرقّ هواؤُها، وتطيب الإِقامة فيها، واستكمالًا لنعيمهم {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}: أَي تلبسهم الملائكة في الجنة بأَمر ربهم أَساور متخذة ومصنوعة مِنْ ذهب، ويمنحون لؤلؤًا يحلَّون به، وقال القشيرى: المراد: ترصيع السوار باللؤْلؤ.

ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤْلؤٍ مصْمَت بمعنى أَنه لا يخالطه شىءٌ، ثم يضعون كل ذلك في أيديهم (1)، كما في صحيح مسلم من حديث أَبي هريرة قال: سمعت حبيب الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تبلغ الحلية من المسلم حيث يبلغ الوضوءُ"{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} : أَي: أَن جميع ما يلبسونه يكون من حرير سُنْدسِه وإستبرقه. كما قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} (2). وذلك في مقابلة ثياب الكافرين التي قطعت لهم من نار

(1) تطلق اليد على المعصم، كما تطلق على الكف وعلى الذراع كلها.

(2)

سورة الإنسان، من الآية: 21

ص: 1202

قال النص الكريم: {وَلِبَاسُهُمْ} ولم يقل: ويلبسون، كما قال: يُحلَّون. للإِشعار بأَن اللباس لهم أَمر محقق غنى عن البيان إِذ لا يمكن عراؤهم عنه، وإِنما يحتاج إلى بيان نَوْعِهِ. بخلاف التحلية، فإنها ليست من لوازمهم الدائمة؛ فلذا جعل بيانها بصيغة (الفعل) المضارع ليفيد التجدد من آن لآخر، وفي تصدير الآية الكريمة عن المؤمنين بالتوكيد {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ

} إظهار لمزيد العناية بهم وإِشارة إِلى تحقق ما وعدوا به، والتحلية بلبس الحرير قيل: هو حكم عام في أَهل الجنة، وقيل: هو باعتبار الأَغلب، لما أخرج النسائى وابن حبان وغيرهما عن أَبي سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أَهل الجنة ولم يلبسه هو) اهـ.

قال القرطبى في تفسيره: وذلك لاستعجال ما حرم الله عليه في الدنيا. ثم قال هذا نص صريح، وإِسناده صحيح.

24 -

{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} : أَي وهدى الله - سبحانه - المؤمنين في الدنيا، ووفَّقهم إِلى الطيب من القول، وهو كلمة التوحيد واتباع الأَوامر، واجتناب النواهى، وحكى الماوردى: هو الأَمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقيل: ما يعم ذلك وسائر الأَذكار {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} : أَي إِلى طريق الله المستحق غاية الحمد لذاته، وصراطه: هو الإِسلام فهو سبيل الله إِلى الجنة.

وقيل: إِن ذلك يكون في الآخرة، بأَن يقولوا عند دخول الجنة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} (1). {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} (2).

وما يقع في محاورتهم من طيب القول: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (3). كما هدوا فيها إلى طريق الجنة فهى المكان المحمود الذي يحمدون فيه ربهم على ما أَحسن إِليهم، وتفضل به عليهم. كما جاءَ في مسلم.

(إِنهم يُلْهَمُون التسبيح والتحميد كما يُلْهمون النَّفَس).

(1) سورة الزمر، الآية: 74

(2)

سورة فاطر، الآية: 34

(3)

سورة الواقعة، الآيتان: 25

ص: 1203

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)}

المفردات:

{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : أي ويمنعون الناس عن طريق الإِسلام، لأَن الصد: المنع. والسبيل: الطريق. {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : يراد به المسجد نفسه، وقيل: الحرم كله ومنه مكة. {الْعَاكِفُ فِيهِ} : أَي المقيم فيه الملازم له، وفعله من باب: قعد وضرب. {وَالْبَادِ} : الطارىءِ عليه من سكان البادية وغيرها. {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} : الإِلحاد في اللغة؛ الميل عن القصد، أَي: ومن يرد فيه مرَادًا مائلا عن القصد والاستقامة، بسبب ظلمه.

التفسير

25 -

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ..... } الآية.

نزلت هذه الآية - على ما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما - في أَبي سفيان بن حرب وأَصحابه حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين عام الحديبية عن المسجد الحرام، فَكره عليه الصلاة والسلام أَن يحاربهم وكان محرما بعمرة، ثم صالحوه على أَن يعود في العام القابل.

وكان نزول الآية وعيدًا لهؤُلاءِ المشركين من قريش ومن والاهم، حيث بالغوا في الظلم والطغيان بسبب كفرهم وما صاحبه من الصد عن الإسلام وعن المسجد الحرام ذاته أَو عن الحرم كله ومنه مكة، وقد صُد عنه النبي وأَصحابه وكانوا بالحديبية وعُبِّر عن الحرم بالمسجد الحرام لأَنه المهم المقصود.

ص: 1204

والتعبير في النص الكريم بقوله: {وَيَصُدُّونَ} مع أَنها بمعنى وصَدُّوا لاستحضار الصورة الماضية تهويلا وتقبيحا لأَمر الصد الذي واجهوا به النبي وأَصحابه مع علمهم بأَنهم حضروا مسالمين قصدا إِلى النُّسُك، ومن حقهم أَن يدخلوه. كما قال تعالى:

{الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} : أَي جعلنا دخوله حقا لجميع الناس لقضاءِ النُّسُك فيه، يستوى في ذلك المقيم فيه أَو في حرمه، مع الحاضر إليه من أَهل البادية وغيرهم مِمَّن يفدون عليه. فأَهل مكة ليسُوا أَحق بتقديسه وتعظيمه من النازحين إِليه.

{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} : أَي من يرد فيه مرادًا ما بِإلحاد، أَي: ميل عن الاستقامة إِلى الإِثم بسبب ظلمه الذي حَمَله على الإِقدام عليه عامدا غير متأَول.

من يفعل ذلك {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} : أَي ننزل به في الآخرة أَلوانا من أَشد العذاب وأَقساه، لأَن الله عظم فيه الذنب - صغيره وكبيره -، وضاعف عليه العقاب، مما جعل أُولى النُّهى يبالغون في المحافظة على حرمته، ويبتعدون عن كل ما يمس قدسيته، وكانوا يعدون شتم الخادم فيه إِلحادًا بظلم، واليمين اللغو كذلك، كقولهم: لا والله، وبلى والله، مع أَنها غير مؤْثمة في غير الحرم، أَخرج ابن جرير عن مجاهد قال:(كان لعبد الله بن عمر - رضى الله عنهما - فسطاطان، أَحدهما في الحل، والآخر في الحرم، فإِذا أَراد أَن يصلى صَلَّى في الذي في الحرم، وإِذا أَراد أَن يعاتب أَهله عاتبهم في الذي في الحل، فقيل له. فقال: نُحدَّث أَن من الإِلحاد فيه: لا والله، وبلى والله) ويروى عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص - رضى الله عنهما - إن من الإِلحاد في الحرم أَن نقول: كلَاّ والله، وبلى والله. وكان مجاهد يرى (أَن المعاصي تُضَاعف بمكة كما تضاعف الحسنات) فتكون المعصية معصيتين: إِحداهما: بنفس المخالفة، والثانية: بإِسقاط حرمة البلد الحرام - وقال الخفاجى: الوعيد على الإِرادة المقارنة للفعل، لا على مجرد الإرادة، وبه قال ابن مسعود وعكرمة. اهـ من تفسير روح المعانى.

ص: 1205

{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)}

المفردات:

{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} : أَي جعلنا مكانه مباءَة ومرجعا يعود إليه إبراهيم للعبادة والعمارة، ويقال: بوأْته الدار، وبوأْت له الدار بمعنى: أَسكنته إياها.

{أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} : أَي لا تشرك بى في العبادة شيئًا، بل اجعلها لى وحدى.

{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} : أَي واجعل ساحته نقيَّة طاهرة من الأَصنام والأَوثان؛ ليكون خالصًا للطائفين والمصلين لرب العالمين.

التفسير

26 -

{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ

} الآية.

أَي: واذكر - أَيها النبي - وقت جَعلنا مكان البيت مباءَة لإِبراهيم يرجع إِليه للعمارة والعبادة، وأَذنَّا له ببنائه بمعاونة ولده إِسماعيل. وقال الزجاج: المعنى: بَيَّنَّا له مكان البيت ليبنيه، ويكون مباءَة له ولعقبه، يرجعون إِليه ويحجونه.

ويقال: إِنه كان مبنيا قبل أَن يؤْمرا إِبراهيم ببنائه، ولكنه كان قد دَرَسَ وفنى من عوادى الزمن، فكشف الله لإِبراهيم عن أَساسه بما أَرسله يومئذ من ريح عاتية، أَزالت عنه ما كان يطمس معالمه، ويخفى حدوده، ويَسْتُر رسومه.

وتوجيه الأَمر للرسول صلى الله عليه وسلم أَن يذكر الوقت الذي وقعت فيه تلك الحوادث ولم يُوَجَّه إِليه ليذكر الحوادث نفسها مع أَنها هي المقصودة لِذاتها - للمبالغة في إِيجاب

ص: 1206

ذكرها؛ لأَن الوقت مشتمل عليها، فإِذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها، كأَنها مشاهدة عيانا، والسياق يشير ظاهره إِلى أَن قواعد البيت كانت مبنية قبل إِبراهيم عليه السلام وأَنه تعالى هداه إِليها. روى عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} (1) أَنه قال: هي القواعد التي كان عليها البَيْت قبل ذلك. اهـ وبعد هذا بنته قريش في الجاهلية، وحضر بناءَه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شابًا، ثم بناه عبد الله بن الزبير، ثم الحجاج بن يوسف الثقفى وهو البناءُ الموجود اليوم - كما قاله الآلوسى.

{أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} أَي: قائلين له: لا تشرك بى في العبادة شيئًا بل اجعلها خالصة لى وحدى. والخطاب - لإِبراهيم عليه السلام ونهيه عن الشرك نهى لأَبنائه، وأَتباعه وكل من تناسل منهم وإِشارة إِلى خطيئة كل من أَشرك بالله من قُطَّان البيت وسكانه.

{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أَي: وطهره من الشرك والأَرجاس والأَصنام، ليكون خالصًا للموحدين الطائفين حوله، والمصلين فيه أَو حوله، أَو متجهين إِليه إِذا صلوا بعيدا عنه. والتعبير عن الصلاة بالقيام والركوع والسجود؛ لأَنها من أَعظم أَركانها، وقد دلت الآية على أَن الطواف لا يشرع إلا حول البيت، وأَن الاتجاه في الصلاة لا يكون إِلا إليه، ما لم يمنع من ذلك مانع، وقد فصَّلَتْ كتب الفقه ذلك.

{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)}

المفردات:

{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أَي: ناد فيهم وادعهم إلى الحج.

{يَأْتُوكَ رِجَالًا} أي: مشاة. ومفرد {رِجَالًا} : راجل - أَي ماش على رجليه -، والفعل: رَجِلَ، كفرح.

(1) سورة البقرة، من الآية: 127

ص: 1207

{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} : أَي ركبانا على كل بعير مهزول من طول السفر وبعد المشقة، وفعله من بابى: قَعَد وقَرُب. {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} : الفج الطريق الواسع بين جبلين.

ويرادَ به هنا: مطلق طريق، والعميق: هو البعيد. وفعله ككرم وسَمِع أَي: من كل طريق بعيد.

التفسير

27 -

{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا .... } الآية.

لما فرغ إِبراهيم عليه السلام من بناءِ البيت أُمِر بأَن ينادى في الناس داعيًا إِياهم أَن يحجوا هذا، البيت أَي: يقصدوه للنسك، فلبى أَمر ربه، قيل: إِنه صعد أَبا قُبيس من جبال مكة، فقال: يأَيها الناس حجوا بيت ربكم، فأَسمعه الله تعالى من في أَصلاب الرجال وأَرحام النساءِ فيما بين المشرق والمغرب ممن سبق في علمه تعالى أَن يحج، قائلا: لبيك. والذى نراه: أَن المقصود من الأَمر الكريم أَن يبلغ إبراهيم عليه السلام أَن الله تعالى قد شرع لعباده حج بيته، وأَوجبه على القادرين منهم مشاة وركبانا، وقوله جل شأْنه {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}: جواب لأَمره عليه السلام بالأَذان، ووعد منه - سبحانه - بأَن يستجيب الناس إِلى ندائه وتبليغه، فيأْتوه رجالا أَي: مشاة، جمع راجل بمعنى ماش، وركبانا على كل بعير مهزول، أَضناه السفر، وأَتعبه بعد الشُّقة، فلحقه الهزال أَو جعله يزيد فيه {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}: الجملة صفة لضامر محمولة على المعنى، فكأَنه قال: وركبانا على ضوامر يأْتين من كل طريق بعيد، وفي هذا إِشارة إِلى أن من رغب في أَداءِ فريضة الحج لا يقف في طريقه ضعف الراحلة ولا بعد الشُّقة ولا زيادة المشقة ولا ضيق العيش ما دام ذلك في دائرة احتماله، وإِنما قال يأْتوك، وإِن كانوا يأْتون الكعبة - لأَن المنادِى إِبراهيم عليه السلام فمن أَتى الكعبة حاجا فكأَنما أَتى إِبراهيم لأَنه أَجاب نداءَه.

ولما قال سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا

} الآية. عقَّبه ببيان فوائد الاستجابة. فقال تعالى:

ص: 1208

{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}

المفردات:

{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} : ليحضروا منافع لهم، وفعله: شهد، كسمع.

{مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} : المراد من بهيمة الأَنعام، الإِبل والبقر والغنم، والبهيمة في الأَصل: كل ذات أَربع قوائم ولو في الماءِ، أَو كل حى لا يميز، والجمع بهائم، والأَنعام مفرده نعم بالتحريك. وقد تسكن عينه. {الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} البائس: من نزل به الضر وفِعْلهُ: بئس، كعلم، والفقير: من قَلَّ ماله، وفِعْلهُ كتَعبِ. {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}: ثم ليزيلوا بعد التحلل من الإِحرام أَوساخهم ، وفعله: تفث، كفرح، فهو تفِث إِذا ترك الاستحمام فعلاه الوسخ.

{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} : أَي وليؤَدوا ما أَوجبوه على أَنفسهم، وفعله من بابى: ضرب وقعد.

{بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} : أَي القديم؛ لأَنه أَول بيت وضع للناس في الأَرض.

التفسير

28 -

{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ .... } الآية.

والمعنى: أَن حجاج بيت الله الحرام يأْتونك يا إِبراهيم من مختلف البقاع تلبية لندائك ليحضروا منافع لهم كثيرة العدد والخطر: دينية ودنيوية، أَما الدينية ففيما ينالونه

ص: 1209

من مثوبة ومغفرة لأَدائهم المناسك على وجهها المشروع، وتعظيمهم الحرمات وتقديرها حق قدرها. وأَما الدنيوية ففيما يصيبونه من ربح في التجارة، وبما يحصلون عليه من لحوم الهدايا وما يذبحه الحجاج جزاءَ مخالفتهم لما وجب عليهم من المناسك، إِلى غير ذلك من التعارف والتآلف، وإِحكام الصِّلاتِ بين الأَفراد والجماعات والأُمم الإِسلامية، وحل مشكلاتهم السياسية والمالية والاجتماعية {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ}: عند الذبح والنحر للهدايا والضحايا ودماءِ الحج، مثل قولهم: باسم الله والله أَكبر اللهم هذا منك وإِليك. وبذلك أَوجب الله ذكر اسمه عند الذبح ليحل أَكل المذبوح كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (1). وكان الكفار يذبحون على أَسماءِ آلهتهم. فبين جل ثناؤُه أَن الواجب أَن يكون الذبح على اسم الله.

{فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} : هي أَيام النحر، وهي ثلاثة أَيام: يوم العيد ويومان بعده. وبذلك قال جماعة من العلماءِ منهم الثورى، وسعيد بن جبير، وقيل أَربعة: أَيام: يوم العيد وثلاثة بعده. وبذلك قال الحسن وعطاءُ والشافعى وقيل غير ذلك (2) ويُنبىءُ عن أَنها أَيام النحر قوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} : فإِنه يشير إِلى أَن المراد بالذكر هنا: ما يقع من ذكر الله عند الذبح في تلك الأَيام، وفي التعبير عن الذبائح بأَنها من رزق الله، إيذان بأَنها من نعمه تعالى عليهم، فلا يليق بهم أَن يبخلوا بها، فهى منه وإِليه.

{فَكُلُوا مِنْهَا} : الأَمر فيها لإِباحة الأَكل منها لصاحب الهدى والأُضحية ولأَهله عند قوم، وللاستحباب والندب عند آخرين، مواساة للفقراءِ ومساواة لهم ويتصدق بالأَكثر وذهب أَكثر العلماءِ إلى أَنها تقسم أثلاثا فيتصدقون بالثلث ويهدى الثلث ويأْكل هو وأَهله الثلث، وممن ذهب إلى أَن الأَكل مباح وليس مندوبا أَبو حنيفة وسفيان الثورى، فقد قال: كان المشركون لا يأْكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين، فمن شاءَ أَكل ومن شاءَ لم يأْكل.

(1) سورة الأنعام، الآية: 118

(2)

انظر كتب الفقه.

ص: 1210

وروى عن مجاهد وعطاءٍ مثل ذلك بناءً على أَن الأَكل كان منهيا عنه شَرعًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن أَكل لحوم الأَضاحى فكلوا منْها وادَّخروا". والأَمر بعد المنع يفيد الإِباحة لا الندب.

{وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} : الأَمر للوجوب - كما نقله الأَلوسى عن بعض الشافعية، أَي وَأَطْعِمُوا منها البائس الذي نزل به الضر، فأَصابته الشدة، وبدت عليه الحاجة، وعن مجاهد وعكرمة: تفسيره بالذى يمد يده إِلى الناس يَسأل، والفقير بمعنى المحتاج صفة للبائس مؤَكدة لمعناه (1).

وتخصيص البائس الفقير بالإِطعام لا ينافى جواز إِطعام الغَنىّ على سبيل الهدية كما تقدم بيانه.

29 -

{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} :

أَي: ثم ليزيلوا بعد التحلل من الإِحرام أَوساخهم، وذلك بالاستحمام وتقليم الأَظافر، وترجيل الشعر، وقص الشارب، وغير ذلك من أُمور تستلزمها النظافة {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}: بتأْدية ما أُمروا به من مناسك حجهم، والعرب تقول لكل من خرج عما وجب عليه وأَدَّاهُ: وفَّى نذْرَهُ.

والمعنى. وليوفوا بما ينْذرونه من أَعمال البر في حجهم، والوفاءِ بالنذر واجب مطلقا، وليس مختصا بالحج، ما دام النذر في غير معصية، ولكن الوفاءَ به في الحج أَحق وآكد.

{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} : هو طواف الإِفاضة، وهو الركن الأَهم بعد الوقوف بعرفة.

وقيل: هو طواف الوداع. ووصف البيت بالعتيق للإِشارة إلى أَنه قديم لكونه أَول بيت وضع للناس كما قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} (2) أَو للإِشارة إِلى أَن الله أَعتقه من أَن يتسلط عليه جبّار إِلى انقضاءِ الزمان، وكم من جبار سار إِليه ليهدمه فقصمه الله ورده عنه مخذولا.

(1) وقد يستعمل البائس فيمن نزلت به نازلة، وإِن لم يكن فقيرا؛ وعلى هذا تكون (الفقير) صفة مقيدة للموصوف ببيان صفة الفقر فيه.

(2)

سورة آل عمران، الآية: 96

ص: 1211

وفي الترمذي عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما سمّى البيت بالعتيق لأَنه لم يظهر عليه جبار)

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)}

المفردات:

{حُرُمَاتِ اللَّهِ} : هي كل ما لا يحل انتهاكه والتهاون في تعظيمه.

{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} : الرجس كل شيءٍ يستقذر ويراد به الأَوثان كما هنا وهي من حجر أَو خشب أَو غيرها. {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} : أَي تسقط به إِلى أَسفل. وفعله من باب: ضرب، يقال: هَوَى يهْوِى هَويَّا، وهُوِيَّا. {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}: أَي بعيد، فعله. مثل بَعُد وزنًا ومعنى.

التفسير

30 -

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ .... } الآية.

أَي: ذلك التشريع الذي سبق بيانه يجب اتباعه والالتزام به لكل حاج، أَو امتثلوا ذلك التشريع الذي تقدم بيانه. (1)

(1) كلمة (ذلك) أو (هذا) تذكر للفصل بين كلامين؛ أو بين جهتى كلام واحد، وقد جرى المفسرون على أن يقدروها ضمن جملة مقيدة ترتبط بالمقام على نحو ما بيناه.

ص: 1212

{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} : استئناف لتقرير حكم ما قبله ببيان أَن الحرمات المقصودة بالتعظيم هنا هي أَعمال الحج المشار إليها في الآيات السابقة وأَماكنها كعرفة والكعبة ومنى ونحوها؛ قاله ابن زيد وغيره. وعن ابن عباس: هي جميع المناهى في الحج، وتعظيمها أَلَّا يحوم حولها؛ أَي: لا يقربها.

وقيل: حرمات الله هي كل ما لا يحل انتهاكه، ولا يجوز الاستهانة به، وجميع التكاليف الشرعية تتصف بهذه الصفة فتشمل مناسك الحج وغيرها وعلى هذا يكون المراد من تعظيمها هو العلم بوجوب مراعاتها، والعمل بمقتضى هذا العلم، فلا خير في علم بغير عمل بمقتضاه، وبهذا التأْويل تكون هذه الآية عامة في الحج وغيره، وهو الظاهر.

والمعنى الإِجمالى للآية: ذلك التشريع يجب تعظيمه، ومن يعظم تكاليف الله وشرائعه بعلمه بقداستها، وعمله بمقتضى هذا العلم، فهذا التعظيم خير له عند ربه، حيث يثيبه عليه ثوابًا عظيما في أُخراه ولا يحرمه من فضله في دنياه.

{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} : أَي وأُحل لكم ذبح الأَنعام، والأَكل منها في الحج وغيره، إِلا ما تلى عليكم تحريمه من قبل، والأَنعام حلال بأَنواعها، وتشمل الإِبل والبقر والغنم إِلا ما حرمه الله لعارض، كالموت، وذكر اسم الأَوثان عند ذبحها، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ

} (1) الآية، وقد نزلت آية المائدة قبل آية الحج، وإِنما عبر عنها بصيغة الحاضر والمستقبل {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} بدلا من صيغة الماضى - إِلا ما تلى عليكم - للإِيذان بأَن تلاوة هذه الآيات تتردد على أَسماعكم منذ نزولها إِلى الآن وبعد الآن.

ولما حث الله على تعظيم حرماته، أَتبعه الأَمر باجتناب الأَوثان وقول الزور فقال سبحانه:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} : أَي فابتعدوا عن الرجس الذي هو الأَوثان، وكانت العرب تتخذها من الأَحجار أَو الأَخشاب أَو الذهب أَو الفضة أَو نحوها، ويعبدونها إشراكا وكفرا، وطلب اجتناب ذواتها للمبالغة في البعد عنها لأَنها نجس وقذر لا ينبغي القرب منه

(1) من الآي

ص: 1213

فضلا عن عبادتها التي لا يليق وقوعها من إِنسان عاقل. {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} : تعميم بعد تخصيص؛ فإِن عبادة الأَوثان هي رأْس الزور لما فيها من ادعائهم أَنها مستحقة للعبادة.

أَي: واجتنبوا في كل ما تنطقون به قول الزور في عبادة أَو غيرها، حيث كانوا يقولون:{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (1) والزور: هو الكذب لأَن فيه انحرافا وميلا عن الحق. وقد قرن النهي عن قول الزور بالنهي عن الشرك لما له من أَسوأ الأَثر في إِثارة العداوات، وغرس الأَحقاد وتفتيت الجماعات بل قد يتمادى الكاذب فيكذب على ربه وخالقه في غير استحياءٍ ورهبة، ومن قول الزور: الشهادة بغير الواقع، فهى زور ينكر حقًّا ويثبت باطلا.

وفي الصحيحين عن أَبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلا أُنبئكم بأَكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: أَلا وقول الزور. أَلا وشهادة الزور. فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت).

31 -

{حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ

} الآية.

أَي: فاجتنبوا في إِسلامكم ما نهيتم عنه من عبادة الأَوثان، وقول الزور في حال كونكم مائلين عن كل دين زائغ وغير مشركين به - سبحانه - شيئًا من الأَشياءِ، فكل ما سواه - سبحانه - فهو مخلوق له، فلا يصح أن يعبد معه. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} جملة مبتدأَة لإِظهار قبح الإِشراك وسوءِ عاقبته.

والمعنى: ومن يشرك بالله فهو بمنزلة من سقط من السماء، وعرّض نفسه لأَبشع صورة من صور الهلاك حيث يتمزق قطعا، ويتناثر أَشلاءً {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ}: وتتناول أَجزاءَه، فلا تبقى له أَثرا {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}: أَو تشبه حاله حالَ من عصفت به الريح في مكان بعيد، فكان فيه من الهالكين، وفي كلا التشبيهين تيئيس للكافر من النجاة؛ حيث لا يستطيع أَن يدفع عن نفسه الهلاك الذي ينزله الله به في الآخرة، حيث يصلى فيها {نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} .

(1) سورة يونس، من الآية:

ص: 1214

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)}

المفردات:

{شَعَائِرَ} : الشعائر جمع شعيرة وهي العلامة، والبدن من شعائر الحج أَي: علاماته المميزة. {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : إِلى وقت ذبحها أَو إِلى وقت إِيجابها وتسميتها هَدْيًا.

{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} : أَي مكان وجوب ذبحها أَو زمانه إلى جوار البيت العتيق حيث تذبح بمنى أَو بأَى مكان بالحرم.

التفسير

32 -

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} :

أَي: الأَمر الذي يجب الالتزام به ذلك المذكور من أَعمال الحج في الآيات السابقة، أَو اتبعوا ذلك {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} استئناف لتقرير ما قبله، أَي: ومن يعظم أَوامره وهي كل شيءٍ لله تعالى فيه أَمر أَشعر به وأَعلم.

والمقصود بشعائر الله هنا: الهدايا التي تساق إلى فقراء الحرم فإنها من معالم الحج وشعائره، كما ينبىءُ عنه قوله سبحانه:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ولدلالة الآية التالية على ذلك، وتعظيمها اعتقاد أَن التقرب بها من أجلِّ القربات وأَفضلها، ويراعى في اختيارها أَن تجمع بين السلامة من العيوب، والسِّمن كما روى عن ابن عباس: تعظيمها استسمانها واستحسانها {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ} أَي: فإِن تعظيمها أَثر من آثار تقوى القلوب التي امتلأَت بتقوى الله وخشيته. وفي تقييد التقوى بالقلوب - كما قال الآلوسى في تفسيره: إشارة إِلى أَن التقوى قسمان: تقوى القلوب، والمراد بها

ص: 1215

التقوى الحقيقية الصادقة التي يتصف بها المؤمن الصادق. أَمَّا تقوى الأَعضاءِ، فالمراد بها التقوى الصورية الكاذبة التي يتصف بها المنافق الذي كثيرًا ما تخضع أَعضاؤُه، وقلبه لاه.

33 -

{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} :

أَي: لكم في الهدايا منافع دنيوية في أَلبانها، وأَصوافها، وأَوبارها، وأَشعارها، ونسلها وركوبها إلى وقت إِيجابها وبعثها هَدْيًا، وحينئذ ليس لكم شىءٌ من منافعها، قاله ابن عباس. وقال عطاءٌ: منافع الهدايا بعد إِيجابها وتسميتها هديا أَن تُرْكب ويشرب لبنها عند الحاجة إِلى أَجل مسمى وهو وقت النحر. وقال مجاهد: فإِذا سُمَّيَتْ بدنةً أَو هدْيًا ذهب ذلك كله.

وقال آخرون: بل له أَن ينتفع بها وإِن كانت هَديا إِذا احتاج إِلى ذلك، كما ثبت في الصحيحين. (عن أَنس أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأَى رجلًا يسوق بدنة قال: اركبها. قال إِنها بدنة، قال: اركبها ويحك) ويؤْخذ من ذلك: أَن للمُهدين أَن ينتفعوا بهداياهم ما داموا في حاجة إِلى الانتفاع بها، وذلك بركوبها، وشرب لبنها - بعد ريِّ فصيلها - إِلى وقت ذبحها.

{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} :

{مَحِلُّهَا} : أَي وجوبها، فهى مصدر ميمى مأْخوذ من حَلَّ الدين إذا وجب أَداؤُه، والمراد أَن وجوب نحرها ينتهى في الحرم إلى جوار البيت العتيق، إِكراما لزواره، وتعظيما لمكانه، وقد ورد في الحديث:"كل فجاج مكة منحر، وكل فجاج منى منحر" قال القفال: وهذا في الهدايا التي تبلغ منى، وأَما الْهَدْىُ الْمُتَطَوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة، فمنحره موضعه.

وقيل: الشعائر: المناسك كلها. وتعظيمها: إتمامها. والمعنى لكم فيها منافع من الأَجر والثواب في قضاءِ المناسك إِلى انقضاءِ أَيام الحج، ثم تَحلُّلُ الناس من إِحرامهم إِلى البيت العتيق أَي: منتهٍ عنده بأَن يطوفوا طواف الإفاضة يوم النحر.

ص: 1216

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}

المفردات:

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} الأُمة: هي الجماعة على مذهب واحد. {جَعَلْنَا مَنْسَكًا} المنسك: بفتح السين وكسرها. موضع الذبح أَو الذبح وإِراقة الدم، والنسيكة: الذبيحة، وجمعها نُسُك بضمتين والفعل من باب نصر. {فَلَهُ أَسْلِمُوا}: أَي استسلِمُوا وانقادوا. {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} : وهم الذين خضعوا لله وخشعت قلوبهم، يقال: أَخبت الرجل إِخباتا فهو مخبت أَي: هو خاضع خاشع. {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} : خافت وخشيت. {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} : هم الذين يحبسون الجزع إِذا نزلت بهم نازلة، وفعله من باب: ضرب.

التفسير

34 -

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ .. } الآية.

أَي: ولكل أَهل دين من الأَديان السماوية السابقة، أَو ولكل جماعة مؤْمنة، جعلنا لهم مكانا للذبح وإِراقة الدماءِ، تيسيرًا لهم، وتمكينا لمن يريد التقرب إِليه تعالى بإِطعام عباده في مناسكهم، وفسر مجاهد المنسك: بالذبح على أَنه مصدر ميمى، يريد أَنه تعالى شرع لكل أَهل دين أَن يذبحوا تقربا إِلى الله تعالى، لا لبعضهم دون بعض، واختاره الزمخشرى.

ص: 1217

وقال الفراءُ: المنسك في كلام العرب: الموضع المعتاد في خَيْرٍ وَبِرٍّ، وفسره هنا: بالعيد، وقال ابن عرفة في قوله:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} أَي: مذهبا من طاعة الله تعالى، يقال: نَسَك نُسْكَ قومه، إذا سلك مذهبهم.

{لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} : أَي ليذكروا اسم الله وحده دون غيره عند ذبحها تعظيمًا له وشكرًا على ما أَنعم عليهم من بهائم الأَنعام: الإِبل، والبقر، والغنم. وفي ذلك إِشارة إِلى أَن القرابين لا تكون إِلا منها {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}: أَي: فإِلهكم أَيها المخاطبون إِله واحد لأَن شريعتكم وشرائع الأَنبياءِ السابقين وإِن تنوعت ونسخ بعضها بعضًا، كلّها قائمة على التوحيد والدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له {فَلَهُ أَسْلِمُوا}: أَي فإِذا كان إِلهكم واحدًا منزها عن الشريك، فاستسلموا له وانقادوا لأَمره. وأَخلصوا له القول والعمل، واجعلوهما لوجهه ولا تشوبوهما بشرك {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}: أَي وبشر أَيها النبي أُولئك المخلصين المتواضعين - بشرهم - بالجنة والثواب العظيم، قال عمرو بن أَوس:(المخبتون الذين لا يظْلمون، وَإِذَا ظُلِمُوا لَمْ يَنْتَصِرُوا) أَي، لم ينتقموا: من الانتصار بمعنى الانتقام أَي: عفوا عن ظالميهم.

35 -

{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ

} الآية.

تُعَدِّد الآية أَوصاف المخبتين المبشرين بالجنة فتذكر أَن من أَجل صفاتهم أَنهم إِذا ذكر الله اضطربت قلوبهم خشية منه ورهبة، وذلك لقوة إِيمانهم وعمق يقينهم.

{وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} : من كوارث الزمن بتحمل المتاعب وحبس الجزع بنفس راضية، وإِيمان بقضاءِ الله وقدره.

{وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} : في أَوقاتها وعلى أَكمل صورها حسبما شرعها الله.

{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} : أَي ومن بعض ما آتيناهم من طيب الرزق ينفقون في أَوجه البر والخير التي تعود على دينهم ومجتمعهم بالنفع والصلاح.

ص: 1218

{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}

المفردات:

{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ} : البدن جمع بَدَنة بالتحريك وأَصل الجمع: (بُدُن): بضمتين ثم خفف بتسكين وسطه وهي: الإِبل وكذا البقر كما قيل: وستأْتى مناقشته.

{مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} : جمع شعيرة، أي علامة، فالبدن من علامات دين الله في الحج {عَلَيْهَا صَوَافَّ}: أَي قائمات قد صففن أَيديهن وأَرجلهن استعدادًا لنحرها.

{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} : أَي سقطت على الأَرض بعد ذبحها. يقال: وجب الحائط يجب وجبة إِذا سقط.

{الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} : القانع الذي لا يسأَل الناس ويقنع بما عنده، وفعله من باب فرح يفرح، ومصدره القناعة، والمعتر: هو المتعرض للسؤَال، من اعتَّره إِذا تعرض له، وتفسيرهما بذلك مروى عن ابن عباس. {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ}: أَي ذللناها ومكناكم منها.

التفسير

36 -

{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ .... } الآية.

هذه الآية امتنان من الله جل ثناؤُه على عباده حيث خلق لهم البدن، وجعل ذبحها من أَعلام الدين ومظاهره، ويسر لهم إِهداءَها إلى البيت الحرام تقربا إِليه سبحانه، وهي

ص: 1219

حين تهدى إِلى بيته تكون من أَفضل ما يهدى إليه. والمراد منها هنا: الإِبل والبقر وَفْق ما قاله جمهور العلماءِ من أَن البدنة تُجزىءُ عن سبعة والبقرة تُجزىءُ عن سبعة كما جاءَ في حديث مسلم من رواية جابر بن عبد الله قال: أَمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أَن نشترك في الأَضاحى. البدنة عن سبعة. والبقرة عن سبعة لذلك جعلا في الشريعة جنسًا واحدًا أُريد به نوعان لتساويهما في الإجزاء عن عَدَد متَّحد فضلا عن تساويهما تقريبًا في البدانة وضخامة الجسم.

وقيل: إِن البدن خاص بالإبل بدليل الحديث الصحيح في يوم الجمعة: (من راح في الساعة الأُولى فكأَنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأَنما قرب بقرة

) الحديث.

فتفريقه عليه السلام بين البدنة والبقرد يدل على أَن البقرة لا يقال عليها بدنة، وإِن كانت تكفى مثلها عن سبعة وأَيضًا قوله تعالى {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يدل على ذلك فإِن الوصف خاص بالإبل أَما البقر فتضجع وتذبح كالغنم اهـ بتصرف من تفسير القرطبى.

{لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} : أي لكم في البدن المهداة إلى الحرم نفع في الدنيا بركوبها وشرب لبنها والانتفاع بصوفها ووبرها متى كنتم في حاجة إِلى ذلك، ولكم فيها أَجر عظيم في الآخرة لتقربكم بها إِلى رضا ربكم، والجملة مستأْنفة. مقررة لما قبلها.

{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} : أَي فابدأُوا بالتسمية عند نحرها قائلين: بسم الله والله أَكبر اللهم هذا منك وإليك. وقد أَخرج ذلك جماعة عن ابن عباس.

ويكون النحر لها قائمات قد صففن أَيديهن وأَرجلهن، وقرىءَ: صوافن، جمع صافنة أَي قائمات على ثلاث وتُعْقَل إحدى يديها. وعَقْل إحدى يديها سنة. فقد أَخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أَنه رأَى رجلا قد أَناخ بدنته وهو ينحرها فقال: ابعثها قياما مقيدة، سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}: أَي فإِذا سقطت على الأَرض بعد نحرها قائمة، وذلك كناية عن سكون حركتها وموتها، وهذا يؤيد أَن البُدْن المهداة تكون من الإِبل دون البقر، لأَنه لم تجر العادة بينهم أَن تذبح البقرة قائمة. وإِنما تذبح مضطجعة، وقلَّما شوهد بينهم نحر البدنة وهي مضطجعة، وكون البقرة

ص: 1220

عن سبعة في الأُضحية، لا يقتضي إِطلاق اسم البدنة عليها، ولا كفايتها عنها في الهدى {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}: الأَمر بالأَكل للإِباحة مخالفة للمشركين؛ لأَنهم كانوا لا يأْكلون من هديهم ويقولون بحرمته، والأَمر الثاني للندب، أَي: فيباح للمُهْدِى أَن يأْكل من هديه ولو لم يأْكل منه جاز، وأَوجب بعض الفقهاءِ أَكله منه، ويندب له أَن يُطعم منه القانع والمعتر، ولو صرفه جميعه لنفسه جاز ولم يضمن شيئًا، ولكن الأَولى أَن يقسم أَثلاثا ثلثا لصاحبه، وثلثا للقانع، وثلثا للمعتر. وروى ذلك عن ابن مسعود والآية تشير إليه، وقال بعضهم: لا تحديد فيما يؤكل أَو يطعم لإِطلاق الآية. وهو الظاهر.

ويراد بالقانع: من رضى بما عنده ولم يتعرض للسؤال، وفعله قَنِعَ من باب فرحَ يقنَع قناعة.

ويراد بالمعتر: الذي يطيف بد ويُلمُّ راغبا في عطائك ساكتا أَو سائلا، من اعترَّه إِذا تعرض له للسؤال كما تقدم بيانه في المفردات، وتخصيص الإِطعام في الآية بالقانع والمعتر، لا ينفى جواز إِطعام الموسرين قياسًا على جواز أَكل المُهْدين وإِن كانوا أَغنياء.

وما ذكر من إِباحة الأَكل، وندب الِإطعام إِنما هو في هدى التطوع أَما ذبائح الكفارات فعلى صاحبها التصدق بجميعها، فما أَكله منها أَو أَهداه لغنى ضمنه، وفي هذا الموضوع خلافات مذهبية فارجع إِليها في موسوعات التفسير أَو كتب الفقه.

{كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} : أَي مثل هذا التسخير البديع المفهوم من قوله تعالى: "صوافَّ" سخرناها لكم فلا تستعصى عليكم مع قوتها وعظم أَجرامها حتى أَنكم تأْخذونها وتحبسونها صواف ثم تطعنونها في لبَّاتها، ولولا تسخير الله لم تخضع، ولم تكن بأْعجز من بعض الوحوش التي هي أَقل منها حجما وأَضعف قوة {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: أَي لكي تشكروا آلاءَ الله المتتابعة عليكم، بالتقرب إليه بما يجب عليكم من امتثال لأمره وإِخلاص في عبادته.

37 -

{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ

} الآية.

قال ابن عباس: "كان أَهل الجاهلية يُضَرِّجُونَ البيت بدماء البُدْن فأَراد المسلمون أَن يفعلوا ذلك فنزلت الآية"{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا .. } : أَي أَنه تعالى ليس له حاجة إِلى لحومها ودمائها، حتى تضرجوا بها بيته، ولكن يناله التقوى منكم ف

ص: 1221

أعمالكم، ومنها إطعام المساكين من لحومها، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الإِخلاص في الأَعمال والقربات، كما جاءَ في حديث مسلم "إِن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إِلى أَموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأَعمالكم".

{كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} : أَي مثل هذا التسخير العجيب سخرها لكم، وجعلها منقادة خاضعة. فلا تستعصى عليكم مع ضخامتها.

وكرر - سبحانه - الامتنان على عباده بتذليلها لهم وتمكينهم منها تذكيرا لهم بتلك النعمة العظيمة التي تفضل بها عليهم.

{لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} : أَي لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه أَحد من هدايتكم إِلى طريقة تسخيرها، وإِرشادكم إِلى الانتفاع والتقرب بها فتفردوه بالعبادة؛ شكرا له على هدايتكم لذلك.

وقيل: لتكبروا الله عند الذبح، وقد أُمروا بالتسمية في قوله تعالى:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} وكان ابن عمر يجمع بينهما إِذا نحر هديه فيقول: باسم الله والله أكبر وهذا من فقهه - رضى الله عنه -.

{وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} : أَي وبشر - أيها النبي - المحسنين في أَعمالهم، بالإِخلاص فيها، والقيام بها كما شرعه الله تعالى من غير مَنٍّ ولا أَذى، وعن ابن عباس: هم الموحدون.

ص: 1222

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}

المفردات:

{خَوَّانٍ كَفُورٍ} : الخَوَّانُ؛ الكثير الخيانة، والكَفُور: الشديد الكفر.

{بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} : بسبب كونهم مظلومين. {صَوَامِعُ} : جمع صومعة، وهي متعبَّد خاص برهبان النصارى. {وَبِيَعٌ}: جمع بِيْعَة بوزن حرفة، وهي متعبَّد النصارى عامة.

{وَصَلَوَاتٌ} : جمع صلاة وهي كنيسة اليهود، وأُطلق عليها صلاة لأَنهم يصلون فيها، وذلك من إِطلاق اسم الحالِّ على المحل، أَو المظروف على الظرف.

{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} : أَي له تعالى مرجعها تدبيرًا وحُكْمًا.

التفسير

38 -

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} :

هذه من الآيات التي نزلت بعد الهجرة إِلى المدينة، قد تقدمتها آيات تتعلق بالحج

ص: 1223

وأَحكامه ومناسكه ومنافعه، وكل ذلك يؤَدَّى بمكة، وَحَرمِهاَ، وأَنَّى للمهاجرين المضطهدين أَن يصلوا إِليها حاجِّين أَو معتمرين، تلبية لنداءِ جَدِّهم إِبراهيم الذي حكاه الله من قبل بقوله:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} الآيات (37 - 39) أَنى لهم أَن يحجوا ويعتمروا وقريش لهم بالمرصاد؟ تصدهم عن حماه، وتحرمهم من أَداءِ فريضة الله، وتمنع معهم مَن انْضَمَّ إِليهم وأَسلم من أَنصار المدينة، وهم بعدُ لم يؤْذن لهم بحرب ولا قتال.

فلهذا كله أَنزل الله تلك الآية لبعث الأَمل في نفوس المؤْمنين وطمأَنة قلوبهم ببيان أَنه - تعالى - ناصرهم على أَعدائهم، وممكنهم من الوصول إِلى بيته، تحقيقًا لقوله من قبل:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1).

والمعنى الإِجمالى للآية: إِن الله يَدْفَعُ عن الذين آمنوا به وبرسوله غائلة أَعدائهم المشركين إِن أَرادوهم بسوءٍ أَوصدوهم عن المسجد الحرام - يدفع عنهم شرورهم دفعًا بليغًا - لأَنه تعالى لا يحب كل خوان لأَمانة الله، كفور بنعمة الله، وهؤُلاءِ المشركون خانوا الله ورسوله وأَولياءَه، وخانوا أَماناتهم، وكفروا بربهم، وعَصَوْا رسوله وكفروا به وآذوه ومن آمن معه من المؤمنين، وأَخرجوهم من ديارهم وبالغوا في كفرهم وخيانتهم، فلهذا استحقوا أَن ينتقم الله منهم، ويدفع أَذاهم عن عباده المؤمنين الذين يحبهم ويرضى عنهم.

39 -

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} :

وَعَدَ الله في الآية السابقة بالدفاع عن الْمُؤْمنين ومساندتهم تمهيدًا لهذه الآية التي أَذن لهم فيها بقتال المعتدين عليهم المخرجين لهم من ديارهم، وأَكد فيها وعده السابق.

(1) سورة الحج آية: 25

ص: 1224

روى الواحدى وغيره: أَن المشركين كانوا يؤْذون أَصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم بمكة، وكانوا يأْتونه ما بين مضروب ومشجوج، يتظلمون له، فيقول لهم: اصبروا فإِنى لم أُومر بالقتال، حتى هاجر فَأُنْزِلِت هذه الآية.

وهي أول آية أُنزلت في القتال بعد ما نُهيَ النبي صلى الله عليه وسلم عنه في نَيِّف وسبعين آية، على ما رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس - رضى الله عنهما -.

ومن نص الآية نعلم أَنه تعالى إِنما أَذن لهم بالقتال بسبب أَنهم ظلموا من المشركين، حيث آذوهم وأَخرجوهم من ديارهم وذويهم وأَموالهم، فهو قتال يراد به الانتقام ممن آذوهم، وإِثبات أَنهم أصبحوا قوة يحسب حسابها عندما يريدون العدوان عليهم، وكل ذلك تقره الأَعراف الدولية، فمن لم يَتَذَأبْ أَكلته الذئاب، وتعتبر هذه الآية قاعدة عامة لمشروعية القتال الدفاعى، وإن نزلت بسبب خاص.

ومعنى الآية: أَذن الله للمؤْمنين الذين يقاتلهم غيرهم، بأَن يعتدوا عليهم أَو على دورهم أَو وطنهم أَو أَموالهم أَو يؤَلبوا عليهم سواهم. أَذن الله لهم في قتالهم، بسبب ظلمهم إِياهم، وإِن الله على دفع هؤُلاءِ الظالمين عن المؤْمنين ونصرهم عليهم لعظيم القدرة، فليثقوا بوعده وليطمئنوا إِلى تأْييده، وليأْخذوا بالأَسباب.

40 -

{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} :

هذا وصف مؤَيد للإِذن بقتال المهاجرين للمشركين حقق الله به وقوع الظلم منهم عليهم، وأَن من حقهم أَن يدفعوا الظلم عن أَنفسهم.

وقد أُجْرِيَ هذا الوصف مجْرَى المدح لهم، على أَنه خبر لمبتدأ محذوف، وكأَنه قيل: هم الذين أُخرجُوا من ديارهم بغير ذنب يستحقون به هذا الإِخراج إِلا أَنهم يخالفون من أَخرجوهم في شركهم، فيقولون: ربنا الله لا نعبد سواه، فهل يعتبر قول الحق وعقيدة الصدق ذنبا يستحقون التهجير والإِخراج من الوطن الغالى بسببه؟ إِنه لظلم مبين، وعدوان أَثيم.

ص: 1225

{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} :

في هذا الجزءِ من الآية يحث الله المؤْمنين على القتال لأَعدائهم بعد أَن أَذن لهم فيه، فقد بين لهم أَنه تعالى أَجرى العادة في الأُمم السابقة أَنه لا يُدْفَع الشر إِلا بمثله والبادئ أظلم، وذلك لكي ينتظمَ أَمر الناس ويسودَ الأَمن بينهم، وتقوم الشرائع وتصان المعابد.

فكأَنه قيل: قد أَذنَّا للمؤْمنين بقتال من ظلموهم وأَخرجوهم من ديارهم بغير حق، فليقاتلوهم ليدفعوا شرهم، ويصونوا مساجدهم، فلولا القتال وتسليط المؤْمنين على المشركين في كل عصر وزمان، لهدِّمت معابدهم، واسْتبيحت حرماتهم.

والصوامع: جمع صومعة. وكانت قبل الإِسلام مختصة برهبان النصارى وعُبَّادِ الصابئة، والمراد بها: هنا مُتَعَبَّدُ الرهبان، والبيعُ: جمع بيْعَةٍ بوزن كِسْرَة، وهي مُصَلَّى النصارى جميعًا ولا تختص برهبانهم كالصومعة، والصلوات: جمع صلاة، وهي كنيسة اليهود، وأُطلق عليها ذلك على سبيل المجاز المرسل، علاقته الحالِّيةُ والمحلية. أَو المظروفية والظرفية.

وقيل: صلوات: معرَّبُ "صُلُوثا" بالثاءِ المثلثة والقصر، وهي كلمة عبرانية معناها: المصلَّى، وروى عن أَبي رجاءِ والجُحْدُريّ وأبى العالية ومجاهد أَنهم قرأُوا بذلك.

والمساجد: جمع مسجد، وأَكثر ما يطلق على مصلى المسلمين، ويقول ابن عطية: الأَسماءُ المذكورة تشترك الأُمم في مسمياتها إِلا البيعة، فإِنها مختصة بالنصارى في كل لغة، ومعظم المفسرين على ما مرَّ بيانه، من أَن الصوامع للرهبان، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين، أما قوله تعالى:{يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} فهو في موضع الصفة لمساجد، وقال بعض المفسرين: إِنه صفة للمواضع الأَربعة المذكورة، فإِن كلا منها يُذْكَر فيه اسم الله في عصره الذي كانت شريعته فيه قائمة لم تنسخ، واستظهر هذا الرأْى أَبو حيان.

ص: 1226

{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} :

في هذا الجزءِ من الآية وعد الله تعالى من يقاتل في سبيله بالنصر والتأْييد، أَما من يقاتل عدوانا وظلما فهو بمعزل عن تأْييد الله، ولئن فاز في بعض جولاته على أَهل الحق فالعاقبة للمتقين الثابتين المترابطين.

ومع أَنه - تعالى - أَذن في هذه الآية للمسلمين بقتال أَعدائهم دفاعا عن أنفسهم أَلزمهم في حربهم بآداب وردت في كتاب الله وعلى لسان رسوله، ففي كتاب الله يقول سبحانه:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وللعدوان صور، منها: قتل من لا شأْن له في القتال، كالنساءِ والصبيان والرهبان، والشيوخ المسنين والمرضى، فالمسلمون ممنوعون من كل ذلك، جاءَ في السنن أَنه صلى الله عليه وسلم "مر على امرأَة مقتولة في بعض مغازيه قد وقف عليها الناس، فقال: ما كانت هذه لتقاتل" وقال لبعض أَصحابه: أَدْركْ خالدًا فقل له: "لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا" والعسيف: الأَجير، ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم " لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلا صغيرا ولا امرأَة" وفي صحيح مسلم: عن بريدة أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اغْزُوا في سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغْلُوا ولا تَغْدِروا ولا تُمَثِّلُوا ولا تقتلوا الوليد ولا أَصحاب الصوامع" أَما الحرب عند غيرنا فلا تعرف للرحمة سبيلا.

41 -

{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} :

ما جاءَ في هذه الآية إِما وصف للمهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق وأُذن لهم في القتال دفاعًا وردًّا للعدوان. وهو الظاهر (1) - وإما لصدر الأُمة المحمدية الشاملة للمهاجرين والأَنصار وتابعيهم كما روى عن ابن عباس، وإِما للأُمة المحمدية في مختلف عصورها - كما قاله الحسن وأَبو العالية - وعلى أَي حال فالآية مرتبطة بما قبلها.

(1) وعلى هذا تكون الآية دليلا على صحة أمر الخلفاء الراشدين، فالممكنون في الأرض من المهاجرين هم الخلفاء الراشدون دون غيرهم، ولو لم يمكن المهاجرون وكانت الخلافة في غيرهم لزم الخلف فيما يشبه الوعد منه تعالى بأنه يمكنهم في الأرض، وقد وقع الشرط وهو: التمكين وثبت الجواب وهو: إقامة الصلاة وما عطف عليها، وهذا يقتضي أحقية الخلافة في المهاجرين.

ص: 1227

والمعنى: ولينصرن الله من ينصره، وهم أُولئك الذين إِن مكناهم في الأَرض وجعلنا لهم سلطانا عليها أَقاموا الصلاة في مواقيتها، وأَعطوا زكاة أَموالهم لمستحقيها، وأَمَروا بما عرف حسنه في شرع الله وأَعراف الناس، ونهوا عن المنكر في دين الله ومنهاج الحق ولله تعالى دون غيره عاقبة الأُمور ومآلها، وفقا لتدبيره وحكمته - جل وعلا -.

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}

المفردات:

{وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ} : أَي أَهلها وهم قوم شعيب. {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} : فأَمهلتهم.

{فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} : فكيف كان إِنكارى عليهم (1) وعقابى لهم، والاستفهام بكيف للتعجيب مما عاقبهم به الله. {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}: فكثير من القرى أَهلكنا أَهلها، وإِيقاع الإِهلاك على القرى على سبيل المجاز. {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}: أَي ساقطة على سقوفها؛ من خوى النجم: إِذا سقط، أَو خالية مع بقاء عروشها وسلامة بنيانها بعد ما هلكوا، من خَوَت الدار، تخْوى، خَوَاءً، إذا خلت من أَهلها، وخَوَى البطنُ من الطعام يخوى، خَوًى، وخَواءً. {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ}: أَي لا يُستَقَى منها لهلاك أَهلها.

{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} : أَي مرفوع البنيان، أَو مبني بالشِّيد، وهو الجص.

(1) مأخوذ من قولهم: نكرت عليه كذا، إذا فعلت فعلا يردعه، فهو بمعنى: الإنكار، كالنذير، بمعنى: الإنذار.

ص: 1228

التفسير

42، 43 - {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ}:

هاتان الآيتان وما بعدهما سيقت لتسلية الرسولِ صلى الله عليه وسلم عمّا يلقاه من إِعراض أَهل مكة وتكذيبهم إِياه، وحزنه وتأَلم قلبه لجفائهم وهم يعلمون أنه الصادق الأَمين، والتعبير عن تكذيبهم بصيغة المضارع الصالحة للحال والاستقبال حيث قيل:{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} مع أَنهم كذبوه من قبل، للإِيذان بأَن تكذيبهم سيتجدد، فَلْيَتَسَلَّ عنه ولا ينزعج، فمثل ذلك قد حدث للمرسلين قبله من أَقوامهم.

والمعنى: وإن يكذبْكَ قومُك - يا محمد - فلا تحزن، فإِنك لست بأَوحدى في ذلك فقد كَذَّبت قبلهم قومُ نوح وعاد وثمود وقوم إِبراهيم وقوم لوط - كذبوا رسلَهم -.

وإِلحاق التاءِ بكذَّب في قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} مع أَن القوم مذكر، لأَنه اسم جمع يصح تأْنيث الفعل المسند إِليه وتذكيره، أو لتأْويل القوم بالأُمة أَو الجماعة.

44 -

{وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} :

أَي، وكذب أَهل مدين رسولهم شعيبا، وكذب فرعون وقومه موسى، فأَمهلت كل فريق من هؤُلاءِ المكذبين لعلهم يرعَوُون ويثوبون إِلى رشدهم، ثم أَخذته وأَهلكته بعد انتهاءِ مدة إِملائه وإِمهاله، عقابا لهم وإنكارًا عليهم، فكيف كان إِنكارى عليهم؟ لقد حولت عمارهم خرابًا، وأَهلكتهم عن آخرهم {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1).

45 -

{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} :

(1) سورة العنكبوت، الآية: 40

ص: 1229

{كَأَيِّنْ} : اسم يراد به التكثير مثل (كَمْ) الخبرية و {خَاوِيَةٌ} بمعنى: ساقطة أَو خالية، وهذه الآية مفرَّعةٌ على الآية التي قبلها مبينة لما جاءَ فيها من عقاب الله العنيف للمصرِّين على الكفر، وآثاره التي ترتبت عليه.

ومعنى الآية: فكثير من القرى دمَّرناها وأَهلكناها وأَهلها ظالمون، فهي بسبب ذلك ساقطة حيطانها على سقوفها، وكم من بئر عامرة مليئة بالماءِ معطلة لا تجد من يستقى منها لهلاك أَهلها، وكم قصرٍ مرفوع البنيان، أَو مبنيٍّ بالشّيد، وهو الجص، أَهلكنا أَهله فخلا من ساكنيه.

وإِذا كانت (خاوية) بمعنى خالية، يكون معنى الآية: فكثير من القرى أَهلكنا أَهلها وهم ظالمون، فهى خالية منهم بعد إِهلاكهم مع بقاءِ عروشها وسلامتها، وكم من بئر معطلة لا تجد من يستقى منها، وقصر مشيد لا يجد من يَعْمُره.

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)}

المفردات:

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} : وكثير من القرى.

{أَمْلَيْتُ لَهَا} : أَمهلت أَهلها ولم أُعجل عقوبتهم على كفرهم.

ص: 1230

46 -

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} :

حكت الآيات السابقة: أَنه تعالى انتقم ممن كذب المرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم فأَهلكهم وخرَّب ديارهم، وجاءَت هذه الآية لحث مشركى قريش على السير في أَرض المهلَكين لكي يعتبروا بما حدث لهم، فيتوبوا من شركهم وكفرهم.

وهؤُلاءِ لا يخلو حالهم من أنه يكونوا قد مروا على القرى التي أُهْلك أَهلها حولهم كقرى قوم لوط وأَصحاب الأَيكة، ولكنهم لم يعتبروا بما حدث لهم، فالآية حينئذ تَنْعَى عليهم عدم اتعاظهم بالمرور عليها، وتطالبهم بالاتعاظ بها، والهمزة على هذا للاستفهام الإِنكارى المشوب بتوبيخهم على عدم اعتبارهم بما يرونه من آثار المهلكين قبلهم، أَو أَن يكونوا لم يمروا بها، فالآية تطالبهم بالمرور بها والاعتبار بما حدث لأَهلها وعلى هذا فالاستفهام: إِما للإِنكار والتوبيخ على عدم مرورهم واعتبارهم، أَو لتقريرهم بارتكاب هذه الخطيئة، وخلاصة معنى الآية على الوجه الأَخير كما يلى:

أقَعَدَتْ قريش في عقر دارها وقد علموا بالقرى المهلكة حولهم، فلم يسيروا في الأَرض متجهين نحوها ليتعرفوا ما حدث لها ولأَهلها، فتكون لهم عندما يرون آثارها - تكون لهم - قلوب يعقلون بها أَن الكفر بالله وخيم العاقبة، وأَن الرسل صادقون فيما يبلغون أُممهم عن الله رب العالمين، أَو تكون لهم عندما يسمعون ممن حولها أَخبارها - تكون لهم - آذان يسمعون بها، فلا يغلقونها عند الاستماع إِليها، فإِنه لا يُعْتَدُّ بعمى الأَبصار، فإِن من عمى بها قد يدرك الحق بقلبه أَو بسمعه، فكأَنه ليس بأَعمى، ولكن العمى في الحقيقة هو عمى القلوب التي في الصدور، فإن عماها يحجب الحق عنها، فتبقى في ظلام الكفر وغيبوبة الضلال المبين، فسيروا - يا أَهل مكة - في الأَرض، لتنظروا ما حدث للمكذبين قبلكم، وأَزيلوا الغِشاوة عن قلوبكم وعن أَسماعكم، واعتبروا بما حدث لمن قبلكم.

وهذه الآية قررت أَن القلوب التي في الصدور مركز للتعقل والإِدراك، وأَن بها يعرف الخير من الشر، وقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة من القرآن، ففي سورة الأَعر

ص: 1231

قال الله عز وجل {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} - 179 - .

وفي سورة محمد قال تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} - 24 - إِلى غير ذلك من الآيات.

ومن الأُمور المعروفة طبيًّا: أَن الأَجهزة العقلية كلها في الدماغ، ولا تعارض بين ذلك وبين ما جاءَ في القرآن، فإِن العقول لا غذاءَ لها إِلا من القلوب، ولا تعمل إِلا بمدد منها؛ فإِذا انقطع عنها هذا المدد شلَّتْ وفسدت، وتعرض صاحبها للموت، بل إِن القلوب هي مصدر الحياة للأَجساد، فلا غرابة في أَن يُسْندَ إِليها ما يسند إِلى رعيتها من مختلف الأَجهزة الجسمية، أَلا ترى أَنهم يقولون: فتح الملك المدينة، مع أَنه لم يفتحها سوى جنوده وقواده، وإِنما صَحَّ إسنادُ الفتح إِليه لأَنه السبب الأَول فيه، على أَن قلوبنا تحس تماما بضياءِ الحق فتستريح إِليه وتنشرح صدورنا به، ولا شك أَن هذا الانشراح والراحة القلبية يدلان على أَن في القلوب هدى وبصيرة، وأَن الأَمر ليس قاصرًا على مراكز العقول في الدماغ.

47 -

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} :

كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر قريشا من نزول العذاب بهم، كما نزل بمن قبلهم، إِن استمروا على كفرهم، فكانوا لا يحذرون، وعمدوا إِلى التحدى فطالبوه بإِنزال العذاب الذي يحذرهم منه - طالبوه استهزاءً وتعجيزًا - فأَنزل الله هذه الآية ينكر عليهم استعجالهم فإِن الأَمر ليس لهم، والزمن الطويل عندهم قصير عند ربهم، والآية في ظاهرها خبر، ولكنها تتضمن الاستفهام الإِنكارى لاستعجالهم، فكأَنه قيل: ويستعجلونك - أَيها الرسول - بالعذاب الذي أَوعدتُهم به على لسانك. فأَنكروه وكفروا به، فكيف ينكرون مجيئه؟ ولن يخلف الله وعده، والأَمر في مجيئه ليس إِليهم حتى يسارع به تلبية لرغبتهم، فلا يستبطئوا نزوله، فإِن الأَمر فيهِ لله تعالى والله لا يعجل، فإِن مقدار أَلف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده، فهو قادر على الانتقام منهم في الوقت الذي شاءَه لعذابهم، فلا يفوته ذلك وإِن أَجَّله وأَملى لهم فيه، ولكون المعنى على ذلك، عقَّب الله هذه الآية بقوله:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} وسيأْتى شر

ص: 1232

ولقد حقق الله وعيده فسلط عليهم القحط والجوع حتى أَكلوا الكلاب والْعِلْهز (1) ، كما أَنزل بهم في غزوة بدر هزيمة نكراءَ هزت كيانهم، فقتل فيها سبعون من صناديدهم، وأُسر سبعون، ومن المفسرين من حمل اليوم المذكور على يوم الآخرة، والعذاب على عذابها ولكن المقام لا يساعد على ما ذهبوا إِليه، والله الموفق.

48 -

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} :

هذه الآية الكريمة مؤكدة لما جاءَ في الآية التي قبلها من أَنه تعالى لا يخلف وعيده لمن أَصر على كفره، وأَنه إِن أَمهلهم ليتوبوا فلن يهملهم إِن أَصروا، والمراد بالقرية فيها: أَهلها، ونسبة الظلم لها مع أَنه لأَهلها على سبيل المجاز.

والمعنى: وكثير من أَهل القرى أَمهلتهم وهم ظالمون لأَنفسهم بالشرك والمعاصي، لعلهم يستجيبون لرسلهم، ويرجعون عن غيهم، فغرهم هذا الإِمهال ولم يفكروا في عاقبته، ثم أَخذتهم بالعذاب والنكال بعد طول الإِملاءِ والإِمهال، وإِلى حكمى مرجعُهم ومصيرُهم لا إِلى غيرى، فأَفعل بهم ما يستحقونه من النكال على جرائمهم، فلا يفوتنى من أَمرهم شىءٌ، لا في الدنيا ولا في الآخرة، أَخرج الإِمام البخاري في كتاب التفسير (2)، بسنده عن أَبي موسى الأَشعرى أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليُمْلِى للظالم حتى إِذا أَخذه لم يُفْلِتْهُ، ثم قرأَ:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} .

(1) بعد أن دعا الرسول عليهم بقوله: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف" والعلهز: طعام من الوبر والدم كان يؤكل في المجاعة، ويطلق أيضا على القراد الضخم: قاموس.

(2)

("باب: وكذلك أخذ ربك") والحديث أخرجه مسلم والترمذى والنسائى وابن ماجه، واللفظ هنا للبخارى.

ص: 1233

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}

المفردات:

{نَذِيرٌ مُبِينٌ} : منذر واضح، من أَبَان بمعنى وضح واستبان، أو منذر مُوَضحٌ لكم ما أَنذرتكم به، من أَبان الأَمْرَ، أَي: أَوضحه.

{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} : ورزق حسن في الجنة لوقوعه بعد المغفرة.

{سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} : أَي بذلوا جهدهم في إِبطال آياتنا محاولين تعويق المؤْمنين في تأْييدها. وتعجيزهم عن إبلاغها مداها، فالمعاجزة: مسابقة في التعجيز، يراد بها أَن يغلب أَحد المتسابقين الآخر، فيعجز عن المضى، وكذلك فعل المشركون فخسروا السباق وهُزمُوا.

التفسير

49 -

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} :

تضمنت الآيات السابقة: أَن الله تعالى طلب من أَهل مكة أَن يسيروا في الأَرض حولهم، فينظروا كيف كانت عاقبة المكذبين قبلهم، حيث أُهلكوا عَنْ آخرهم، فخربت ديارهم وعطلت آبارهم، لعلهم يعتبرون بما أصابهم، ويرجعون عن غيهم. ولكنهم استعجلوه بالعذاب، فبين لهم أَنه - تعالى - لن يخلف وعده إِن أَصروا على كفرهم، وأَنهم إِن أُمهلوا ليتوبوا فلن يهملوا إِن أَصروا.

ص: 1234

وجاءَت هذه الآية آمرة للنبي صلى الله عليه وسلم أَن يواصل إِنذارهم، وأَن لا يبالى بتكذيبهم واستعجالهم العذاب.

ومعنى الآية: قل أَيها النبي لأَهل مكة: يأَيها الناس ما أَنا إِلا منذر لكم واضح الإِنذار، فيما أَخبرتكم به من أَنباءِ الأُمم التي أَهلكها الله بتكذيبها رسلها، لكي تحذروا أَن يصيبكم مثل ما أَصابهم، فكيف تستعجلوننى بالعذاب ولن يخلف الله وِعده؟ فالأَمر بيده، إن شاءَ عَجَّلَ وإِن شاءَ أَجَّلَ.

50 -

{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} :

أَي: أَنذر - يا محمد - هؤلاءِ الكفرة المستعجلين للعذاب وبالِغْ في إِنذارهم، فالذين آمنوا بعد كفرهم، وعملوا الصالحات بعد إِيمانهم، لهم مغفرة لما كان منهم من الكفر والمعاصي، ولهم رزق حسن فائق في الجنة، فإِن الإِيمان يَجُبُّ ما قبله، كما قال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1).

51 -

{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} :

والذين سعوا في آياتنا وبذلوا الجهد في إِبطالها، فسمَّوْها تارة سحرا، وتارة شعرًا، وتارة أُخرى أَساطير الأَولين، مسابقين المؤمنين، كلٌّ يريد تعجيز الآخر، فالمؤمنون يريدون إِبطال كيد الكافرين، والوصول بآيات الله إلى قلوب الناس أَجمعين، والمشركون يريدون تعويقهم وتعجيزهم عن تحقيق غايتهم، فهؤلاءِ الساعون المعوِّقون المعاجزون هم أَصحاب الجحيم، الملازمون للنار الشديدة التأَجج والإِحراق {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (2).

هذا، وبعض المفسرين حمل (الناس) في قوله تعالي:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} على عموم الناس مؤمنهم وكافرهم، وفسر الآيات الثلاث على النحو الآتي:

قل يا أَيها الناس - مؤمنكم وكافركم - إِنى لكم منذر واضح الإِنذار، بأَنكم ستأْتيكم الساعة ثم تبعثون وتحاسبون، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في دنياهم، لهم مغفرة ورزق كريم

(1) سورة الأنفال، صدر الآية: 38

(2)

سورة يوسف، من الآية:

ص: 1235

في أُخراهم، والذين كفروا وسعوا في إبطال آياتنا وتعجيز دعاتنا، أُولئك أَصحاب النار الملازمون لها.

هذه خلاصة ما قيل في هذا المقام، ولكن فيه خروجا عن السياق، في حين أَن المؤمنين لا يُنْذَرُونَ، وإنما ينذر أَهل الكفر - فما قلناه أَولا هو اللائق بالسياق.

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)}

المفردات:

{مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الرسول: من بعثه الله بشرع جديد أَنزله عليه، وأَيده بمعجزة تحقق رسالته. والنبى: صاحب معجزة تؤيد نبوته، وقد أَمره الله أَن يدعوَ الناس إِلى شريعة من قبله، ولم ينزل الله عليه كتابا بشرع جديد، فالرسول: صاحب شرع، والنبى: حافظ شرع - وسيأْتى لذلك مزيد بيان.

{تَمَنَّى} : لها عدة معان، منها: أَراد، وقرأَ، وكلاهما تصح إِرادته هنا في تفسير الآية كما سيأْتى بيانه.

ص: 1236

{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} : يزيل من النفوس وساوسه التي يوسوس بها.

{ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} : يحفظها من التأْثر بوساوس الشيطان.

{فِتْنَةً} : اختبارًا وامتحانا. {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : قلق أَو شكٌّ ونفاق.

{وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} المراد بهم: المشركون المجاهرون.

{لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} : لفى خلاف بعيد عن الحق. {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} : فتطمئن.

التفسير

52 -

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} :

بَيَّن الله في الآيات السابقة أَن أَهل مكة كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأَنه تعالى توعدهم بأَن يصيبهم من العقاب ما أَصاب المكذبين للرسل قبلهم، ودعاهم إِلى أَن ينظروا ما أَصاب ديارهم حولهم من الخراب والدمار، فاستعجلوا الرسول بالعذاب الموعود، بدلا من الاتعاظ والاعتبار بهم، فبيَّن الله أَن أَمر تعذيبهم بيده، وأَنه لا يخلف وعده، وأَنهم إِن أُمهلوا فلن يُهْمَلوا، فازدادوا ضراوة في العدوان على كتاب الله، فسعوا في آياته معاجزين معوِّقين المؤْمنين عن الوصول بها إلى قلوب الناس، فزعموا أَنها شعر وسحر وأَساطير الأَولين، واشتدوا في إيذاءِ النبي صلى الله عليه وسلم وإِيذاءِ أَصحابه تعويقا وتعجيزا لدعوة الحق، فأَنزل الله تعالى هذه الآية وما بعدها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وأَصحابه، فقد بَيَّن فيها أَن كل الأَنبياءِ والمرسلين قبله أَصابهم من تعويق دعوتهم ومحاولة تعجيزهم في رسالتهم مثل ما أَصابه، ثم انتصر حقهم على باطل خصومهم وزالت فتنة هؤُلاءِ الشياطين الذين حاولوا إِبطال دعوتهم، وأَحكم الله آياته في نفوس أَهل الحق، فازدادوا إِيمانًا فوق إيمانهم، وإليك فيما يلى تفصيل ما أَجملناه:

يقول الله تعالى في هذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} وهذا النص يقتضي أَن النبي غير الرسول، وأَن الله أَرسلهما لهداية البشر، وأَن لكل م

ص: 1237

منهاجا في تبليغه رسالته للناس، وأَنهما بسبب ذلك يختلفان في تعريفهما، والمشهور أَن الرسول: من أُوحي إِليه بشرع وأُنزل عليه كتاب يبلغه للناس، والنبى: من لم ينزل عليه كتاب، وإِنما أُمر بتبليغ شريعة من قبله، فالرسول صاحب شرع جديد، والنبى حافظ لشرع قديم، وكلاهما أَيده الله بمعجزة تؤَيد أَنه مرسل من عند الله، ومن العلماءِ من قال: إِن النبي يعم الرسول صاحب الشرع الجديد، والنبي حافظ الشرع القديم، فكلاهما نبي، ولذلك خوطب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بلفظ النبوة في القرآن في نحو قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وهذا خير ما يقال في الفرق بينهما.

وقد جاءَ في الآية لفظ (التَّمني) وله في اللغة عدة معان، منها: القراءَة، ومنها الإِرادة والرغبة، ويدل على استعمال التمني بمعنى القراءَة قول حسان في عثمان بن عفان بعد قتله:

تَمَنَّى كتابَ الله أَوَّلَ لَيْلِهِ

تَمَنِّيَ داودَ الزَّبُورَ على رِسْلٍ (1)

وكلا المعنيين تصح إِرادته في تفسير الآية الكريمة، فإِذا فسرنا التمنى بمعنى القراءَة كان معنى صدر الآية كما يلى:

وما أَرسلنا قبلك - يا محمد - رسولا ولا نبيًّا إِلا وحاله أَنه إِذا قرأَ شيئًا من الآيات التي أَمرناه بتبليغها، أَلقى الشيطان فيما يقرؤُه الشُّبه والتخيلات على أَوليائه ليجادلوه بالباطل ويردوا ما جاءَ به، تعجيزًا لمسيرة دعوته، وفي هذا المعنى يقول سبحانه وتعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (2)؛ ويقول أَيضًا: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} (3)؛ وهذا كقولهم عند سماع قراءَة الرسول صلى الله عليه وسلم: "حُرِّمَت عَلَيْكُمُ الْمَيْتَهُ" - ما بالهُ يُحِلُّ ما يذبحه لنفسه، ويحرم ما يذبحه الله؟ فقد كانوا يحلون الميتة زاعمين أَنها ذبيحة الله لهم، وحينما قرأَ:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قالوا: إِن عيسى عُبِدَ من

(1) أي: علي مهل.

(2)

سورة الأنعام، من الآية: 112

(3)

سورة الأنعام، من الآية:

ص: 1238

دون الله، والملائكة كذلك، وهذه مغالطة مكشوفة، فإِن الآية لهم ولأَصنامهم، ولذلك قال سبحانه:{وَمَا تَعْبُدُونَ} ولم يقل: "ومن تعبدون" لأَن "ما" لما لا يعقل، أما "مَنْ" فهى لمن يعقل، وكيف يدخل عيسى في المعبودات المعذبة وقد قال الله فيه:

{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (1) وحكى عنه أنه قال لقومه وهو رضيع:

{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ

} (2).

وقال عن الملائكة: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (3).

فالواقع أَنهم يزيفون الأَباطيل ويزعمونها حججا لهم وهي أَوْهَى من بيت العنكبوت.

وإِذا فسرنا التمني بالرغبة والإِرادة، فيكون معنى الآية ما يلى:

وما أَرسلنا قبلك - يا محمد - من رسول ولا نبى إِلا إِذا تمنى وأَراد هداية قومه إِلى الحق، أَلقى الشيطان فيما تمناه الشَّبَهَ في نفوس قومه ليصدهم عن سبيله، وقد بيَّن الله مآل سعْي الشيطان في آيات الله بقوله:{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَي: فيبطل الله ما يلقيه الشيطان من الشُّبَه في نفوس الناس، بتوفيق الرسول أَو النبي لرده، أَو بإِنزال ما يرده، ثم يظهر الله حكمة آياته لمن أَشكل عليهم الأَمر بتلبيس الشياطين، أَو يمنعها ويحميها من أَباطيل الشياطين (4)، بما ينزله من الآيات الماحقة لأَباطيلهم كما جاءَ بقوله سبحانه:

{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} وختم الله الآية بقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} : أَي واسع العلم، فلا يخفى عليه ما يصدر من الشيطان وأَوليائه، بليغ الحكمة في رد شبهاتهم ونصر رسله وأَنبيائه.

وخلاصة معنى الآية: أَن الصراع بين الحق والباطل أَمر قديم، عرفه الأَنبياءُ والمرسلون قبلك يا محمد، وأَن الأَمر ينتهى بنصر الحق على الباطل بتدبير الله وحكمته، فلا تجزع

(1) سورة المائدة، من الآية: 75

(2)

سورة مريم: من الآيتين: 30، 31

(3)

سورة الأنبياء: من الآية 26، من الآية 27

(4)

ومنه قولهم: أحكم أمره، أي: جعله مستحكما منيعا لا يتطرق إليه الف

ص: 1239

يا محمد مما يأْتى به شياطين قومك من السعى بالباطل في آيات الله معاجزين بتسويل الشيطان الرجيم، أُولئك أَصحاب الجحيم، وأَباطيلهم إِلى زوال.

53 -

{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} :

هذه الآية مرتبطة بفحوى الآية التي قبلها، وكأَنه قيل: وما أَرسلنا قبلك يا محمد من نبى ولا رسول إِلا عاداه الشيطان وحاربه في أُمنيته ورسالته لقومه، فجعل يلقى الشُّبَهَ فيما يقرؤُه ويريده لقومه من الهدى فينسخه الله ويرده، ليجعل الله ما يلقيه الشيطان فتنة وامتحانا للذين أَظهروا الإِيمان برسولهم أَو نبيهم وفي قلوبهم مرض من شك ونفاق، وللقاسية قلوبهم من الكفار المجاهرين بكفرهم، فيَحْذَرَهُم الأَنبياءُ وَيَجِدُّوا في كفاحهم، وإِن الظالمين لفى شقاق بعيد، وعداءٍ للحق شديد، فلا تجزع لما يحدث من قومك يا محمد، فشأْنهم معك كشأْن سائر الأُمم مع الأَنبياءِ والمرسلين قبلك، والعاقبة للصابرين المجاهدين.

54 -

{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} :

{وَلِيَعْلَمَ} معطوفة على قوله: {لِيَجْعَلَ} في الآية السابقة، داخلة معها في حيز التعليل.

والمعنى: أَن الشيطان كان يلقى الشُّبَهَ فيما يقرؤُه الأَنبياءُ والمرسلون قبلك على أُممهم، وما يريدونه من الهدى لهم، فينسخها الله ويبطلها، ليجعل ما يلقيه الشيطان امتحانا للمنافقين والكافرين القاسية قلوبهم، فيظهر أَمرهم لأَنبيائهم فيحذروهم ويجاهدوهم، وليعلم الذين أُوتوا العلم في كل النبوات والرسالات، بما أُوتوا من الهدى ونور القلوب، وبما أَنزله الله من رَدِّ شُبَهِ الشياطين ونسخها - أَي إِبطالها - فيثبتوا على إِيمانهم، ويزدادوا إِيمانا فوق إِيمانهم، وإِن الله لهادى الذين آمنوا في كل الرسالات إِلى طريق مستقيم من

ص: 1240