الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة طه
تمهيد:
هذه السورة هي العشرون في ترتيب المصحف، وسميت سورة طه باسم فاتحتها، وتسمى أَيضًا سورة الكليم؛ لأن معظم آياتها في قصة الكليم موسى عليه السلام، وهي مكية، إِلا الآيتين (131،130) من قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} إِلى قوله سبحانه: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} فإِنهما مدنيتان، وعدة آياتها خمس وثلاثون ومائة.
ومن وجوه مناسبتها لسابقتها .. أنهما مكيتان، ومبدوءتان بأسماء الحروف المتقطعة، وإن أَول هذه متصل بآخر تلك في المعنى، فقد ذكر في تلك إنزال القرآن الكريم بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم، تبشيرًا للمتقين وإنذارًا للمعاندين، وفي هذه أُكَّد ذلك المعنى. ومما تضمنته هذه السورة ما يلي:
1 -
بيان أن إِنزال القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم، ما هو إلا للتذكرة والعظة وسعادة البشر في الدنيا والآخرة.
2 -
تكليم الله لموسى عليه السلام بالوادى المقدس طوى، واختياره لرسالته التي أساسها {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وبهذه الرسالة أَرسل الله رسله جميعًا إلي أُممهم ..
3 -
أَمْر الله تعالى لموسى عليه السلام أَن يلقى عصاه {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} وأن يخرج يده من جيبه، فتخرج بيضاء من غير سوءٍ، آية أخرى ليرى موسى بعض آيات الله الكبرى.
4 -
أمره لكليمه بعد ذلك أَن يذهب إلى فرعون رسولًا مؤيّدًا بهاتين الآيتين
…
5 -
سؤَال موسى ربه عز وجل أَن يشرح له صدره، وييسِّر له أمره ويحل عقدة لسانه، ليفْقهُوا قوله، وإن يجعل له أَخاه هارون وزيرًا يشاركه في الرسالة ويعينه على أَعبائها، فقال الله مجيبًا إياه في كل ما سأَل:{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} يذكره تعالي بنصره له منذ ولادته، حيث نجاه من القتل والغرق، ورَبّاه مكرّمًا مع أمه في بيت عدوه! وقد كان يقتل من يولد في بني إسرائيل من المذكور .. ثم كيف نجاه من قوم فرعون الذين ائتمروا به ليقتُلوه، لما قتل أَحدهم خطأ، ثم ذهب إلى مدين، وصاهر الشيخ الكبير، ولبث
أكثر من عشر سنين، ثم سار بأهله إلى مصر محْفوفًا بعناية الله وحفظه، حتى أمره الله وهو في سيناء أن يذهب هو وأَخوه إِلى فرعون ليبلِّغاه معًا رسالة الله تعالى، فلما بلّغ موسى أخاه ما أمرهما الله به من تبليغ فرعون دعوته سبحانه {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ..
6 -
وفي هذه السورة بيان ما دار بين موسى وفرعون من المقاولة، ثم ما دار بين موسى والسحرة، وخيفته عليه السلام حين ألقوْا حبالهم وعصيَّهم فخيل إليه من سحرهم أَنها تسعى، فثبته الله تعالى وأوحى إليه أن يلقى عصاه، فألقاها فإذا هي حية عظيمة مخيفة تبتَلع كل ما ألقاه السحرة، وهنالك آمن السحرة جميعًا برب هرون وموسى، ولم يبالوا بوعيد الطاغية وتهديده إذ قالوا له:{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} .
7 -
وفيها انفلاق البحر ونجاة موسى وبنى إِسرائيل، وغرق فرعون لمَّا تبعهم.
8 -
وفيها فتنة السامرى، وإضلاله بني إسرائيل، باتخاذه عجلًا جسدًا له خوار، حين كان موسى عليه السلام يناجى ربه في الطور، ولما رجع أفزعه ما رأَى من إضلال السامرىّ لقومه، حتى عبدوا العجل الذي صنعه، فأخذ برأس أَخيه يجرُّه إليه، فاعتذر أَخوه عليه السلام بمخالفة بني إسرائيل تحذيره إياهم، ونصحه لهم، واستمرارهم في ضلالهم، حتى رجع موسى عليه السلام، وهنا أغلظ موسى قوله للسَّامرىّ، وتوعّده بأَن يعيش في الدنيا طريدًا، وفي الآخرة معذبًا، ثم حرَّق العجل ونسفه في اليم نسفًا، ليريهم ضلالتهم في عبادته، وجهلهم بالمعبود الحق وما ينبغي له من عظائم الصفات .. قائلًا لهم:
{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} .
9 -
وفي السورة التذكير بالذكر الحكيم الذي آتاه الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم .. وفيه الخير كل الخير لمن أقبل عليه وعمل به، وأَما من أعرض عنه {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} .
10 -
وعقَّبه بالتذكير بأَهوال يوم القيامة: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا
…
} الآيات.
11 -
وفي السورة يصف سبحانه القرآن الكريم بأنه أنزله قرآنًا عربيًا، وصرَّف فيه من الوعيد، وينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العجلة بقراءَته من قبل أن يقضى إليه وحيه، وهو يتلقاه من آمين الوحى جبريل عليه السلام.
12 -
ثم يذكر سبحانه قصة آدم عليه السلام بتفصيل غير قليل، من أمر الملائكة بالسجود له، وامتناع إبليس وإِبائه وتحذيره هو وزوجته من أَن يُخْدَعَا به، إذ قَال سبحانه في خطابه:{فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} . ولكن الشيطان وسوس لهما وخَدعهما حتى نسيا العهد والنهي عن الأَكل من الشجرة، فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما. وانتهى أَمرهما بإخراجهما من الجنة، بعد أن منَّ الله عليهما بالعفو والتوبة.
13 -
وفي السورة التذكير بأن من أَتبع هدى الله فلا يضلُّ ولا يشقى، ومن أَعرض عن ذكره فإن له معيشة ضنكًا ويحشره الله يوم القيامة أَعمى.
14 -
وفيها التذكير كذلك بإهلاكه القرون الماضية، ومشيهم في مساكنهم، وما في ذلك من عبر وعظات لأُولى البصائر والنهى.
15 -
وفيها يأْمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقوله المشركون من تكذيب واستهزاءً، فسيلقون جزاءهم، ولولا كلمة سبقت منه تعالى بتأخير العذاب إِلى أَجل مسمى لعجله لهم.
16 -
وفي خواتيم السورة يأْمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، بتسبيحه وتنزيهه، وبأن يأْمر أهله بالصلاة
…
وأن يصطبر عليها، لأَنها أساس الخير كله .. {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} .
بسم الله الرحمن الرحيم
المفردات:
{طه} : اسمان لحرفى الطاء والهاء .. ، هما فاتحة السورة، ويأْتى الكلام عليهما في التفسير، {لِتَشْقَى}: لتتعب تعبًا شديدًا فوق طاقتك. {تَذْكِرَةً} : تذكيرًا وعظة .. ، {الْعُلَى}: جمع العليا، تأنيث الأعلى، مقابل الدنيا تأْنيث الأدنى. {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}: العرش في اللغة: سرير الملك ويُكْنى به عن السلطان والعز، {اسْتَوَى} استولى .. ويأْتى في التفسير معنى استوائه تعالى على العرش .. {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} الثَّرى .. التراب النَّدِىُّ - يقال ثَرِيَتِ الأرض - كَنَدِيَتْ وزنا ومعنى - فهي ثَرِيَّةٌ. كَنَدِيَّة؛ إِذا نَديَتْ ولانت بعد الجدوبة واليُبس - والذي تحت الثرى طباق الأرض المختلفة إلى نهايتها.
التفسير
1 -
{طه} :
افتتح الله تبارك وتعالى تسعًا وعشرين سورة ببعض أسماء الحروف الهجائية، وسورة طه .. واحدة منها .. وقد قال كثير من أئمة التفسير إنها من المتشابه الذي استأْثر الله بعلمه؛ فلا يعلم المراد منها إلا هو، وقال بعضهم إنها اسم للسورة، وقيل إنها لتنبيه السامعين،
إلى ما يأْتى بعدها من الآيات والعِبَر، وقيل غير ذلك وأرجح الآراء في تأويلها أنها ترمز إلى التحدى، بأن يأتوا بمثل هذا القرآن المكون من كلمات وجمل، ذوات حروف مما ينظمون منه كلامهم، فإذا عجزوا عن الإِتيان بمثله أو بمثل سورة منه مع ما يمتازون به من الفصاحة والبلاغة، .. فمحمدٌ مثلهم .. وذلك دليل على أَن القرآن من عند الله تعالى، وليس لمحمد صلى الله عليه وسلم فيه إلا مجرد تبليغه عن ربه. لا يزيد فيه حرفًا ولا ينقص منه حرفًا. ولا يزال إعجازه قائمًا. والتحدى به باقيًا، ولا يزال حفظه بحفظ منزِّله خالدًا أَبدًا، كما تكفل به جل وعلا - إذ يقول:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1).
2 -
{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} :
سبب النزول:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى من المشركين تعبًا مرهقًا. ويأسف أسفًا شديدًا بسبب إعراضهم عن القرآن الكريم وعدم إيمانهم به، فأَنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية تسلية له .. وتخفيفًا عليه .. والمعنى - ما أَنزلنا عليك القرآن أيها الرسول - ليكون سببًا في شقائك وعنائك، وفرط أسفك على كفر هؤلاء المشركين، كقوله عز وجل:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (2). والشقاءُ شائعٌ في معنى التعب والعناء، ومنه قولهم، سيد القوم أشقاهم وقولهم: أشْقَى منْ رائِضِ مُهْرٍ.
وهذا الوجه في سبب نزول الآية هو المختار، لمناسبته للسياق. وقوله تعالى:
3 -
{إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} .
أَي ما أنزلنا القرآن عليك إِلا تذكيرًا لمن شأْنه أَن يخشى الله ويخافه، لأَن الذين يخشون ربهم هم المنتفعون بالقرآن ومواعظه، وأما غيرهم فكالعدم، ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلَّغ وذكَّر وحذَّر وأنذر، فليس مسئولًا بعد ذلك عن كفرهم، فقد قال تعالى:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (3). وقال عز من قائل: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ َ} (4).
(1) سورة الحجر، الآية: 9
(2)
سورة الكهف، الآية: 6
(3)
سورة الغاشية، الآيتان: 21، 22
(4)
سورة الكهف، من الآية:
ولما ذكر الله تعالى أنه أنزل القرآن تذكرةً لمن يخشى .. أَكد ذلك المعنى وقرره بقوله:
8 -
{تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} :
ووجه التوكيد أنه سبحانه نسب التنزيل إِلى ذاته المقدسة مرتين، مرة بضمير المتكلم في قوله:{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ومرة بضمير الغيبة في قوله:
{تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ
…
} وإنما نسب التنزيل إلى ذاته المقدسة مرتين، تعظيمًا لشأن المنزل جل جلاله وتفخيمًا لشأن القرآن الذي أنزله، وقطعًا لريبة المرتابين في كونه منزلًا من عند الله.
والاقتصار هنا على خلق السماوات والأرض؛ لأنه سيُصَرّح بخلق ما فيهما وما بينهما وما تحت الثرى في الآية السادسة. وتقديم خلق الأرض هنا؛ لأن الأرض أَقرب إلى الحسِّ، والإنعام بها على الناس أَظهر، ووصف السماوات بالعلَى - جمع للعليا - لتوكيد الفخامة، مع ما فيه من رعاية الفواصل. ثم وصف عظمته تعالى وعظمة ملكه فقال سبحانه:
5 -
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} :
وعرش الرحمن جل جلاله أعظم مخلوقاته، ولا يحيط بوصف عظمته إِلا ربه، ومن العرش تَتَنزَّل أَوامر الله في شئون الكون كله، دون أن يكون الله فيه، لاستحالة ذلك عقلا.
واستواؤه تعالى على العرش من قبيل المتشابهات التي يجب الإيمان بها وتفويض علم المراد منها إلى الله جل وعلا، وترك تأويلها مع تنزيهه تعالى عن مشابهة الحوادث وهذا مذهب جمهور أهل السنة، وفي ذلك يقول الإمام مالك: الاستواءُ معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والجحود كفر، والسؤال عنه بدعة.
ومن العلماء من فسر الاستواء على العرش بأنه كناية عن انتهاء تدبير الكون إلى الله سبحانه وتعالى، بعد إِتمام خلقه إياه، دون أَن يشركه في هذا التدبير شريك، كما لم يشركه من قبل في إِبداعه شريك.
وإنما أُضيف لله تعالى الاستواءُ على العرش وحده مع أنه سبحانه مستوٍ على الكون كله، لأن العرش أعظم مخلوقاته، فإذا استوى عليه وهو أَعظمها فقد استوى على كل ما سواه،
وأَما تفسير الاستواء على العرش بالاستقرار فيه كما تقول المشبِّهة، فهو باطل وكفر {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1). ثم بين سبحانه سعة سلطانه وشمول قدرته لجميع الكائنات فقال:
6 -
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} :
أَي له وحده عز وجل دون غيره، جميع ما في السماوات وَمَا فِي الأرضِ، سواء كان ذلك جزءا منهما أو حالاًّ فيهما، وله ما بينهما من كل كائن في الجوّ كالسحاب والهواء وما لا يعلمه سواه جل وعلا، وله ما وراء التراب من طباق الأرض ومعادنها ومياهها الجوفية، إِلى غير ذلك مما لا يحيط بعلمه إلا الله تعالى، له كل ذلك خَلْقًا وملكًا وتَصرُّفًا، وذكر ما تحت الثرى مع دخوله تحت قوله {وَمَا فِي الْأَرْضِ} لزيادة التقرير.
7 -
{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} :
والخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أُمته، أو لكل مخاطب، والمراد بالقول عمومه، فيشمل الذكر والدعاء وغيرهما، وقيل المراد به ذكر الله تعالى ودعاؤُه خاصة؛ وجواب الشرط مقدر، أَي وإن تجهر بالقول فاعلم أَن الله غنى عن جهرك؛ فإنه يعلم السر وأخفى، وفيه إِرشاد العباد إِلى أن الجهر بالنسبة إِلى الله تعالى لا داعى إِليه؛ لأنه يعلم السر وأَخفى؛ ما لم يكن للعبد فيه غرض شرعى كما سيأتى.
والسرُّ ما تُحَدِّث به غيرك في خفاءٍ، والأخفى منه ما تحدِّث به نفسك ولا تَتَفوَّه به أصلًا. والمعنى: وإِن ترفع صوتك أَيها الإنسان بذكر الله تعالى أَو بدعائه أَو بغيرهما فإنه تعالى يعلمه؛ لأنه يعلم السر الذي تسرُّه، ويعلم ما هو أخفى منه مما تضمره وما توسوس به نفسك. وعلى أن المراد بالقول ذكر الله تعالى ودعاؤُه خاصة، فالمعنى: وإِن تجهر بذكر الله تعالى، وبدعائه كقوله جل ذكره {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (2). وإِنما ينهى عن الجهر بذكره تعالى، ما لم تدع إِليه حاجة، كالتعليم والإرشاد وتثبيت الذكر في النفس، ومنع الوسوسة فيجوز في حدود الرفق والاعتدال، قال الآلوسى: فقد صح ما يزيد على عشرين حديثًا في أَنه صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كان يجهر بالذكر،
(1) سورة الشورى، من الآية: 11
(2)
سورة الأعراف، الآية: 205
وصح عن أبي الزبير أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى: لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىءٍ قدير، لا حول ولا قوة إِلا بالله، ولا نعبد إِلا إِياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناءُ الحسن لا إله إِلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) وهو محمول على اقتضاء حاجة التعليم ونحوه رفعَ الصوت، ومن الأغراض الشرعية رفع الصوت في تكبيرات العيد، فرحا به وابتهاجًا وتمجيدًا له، واعتذارًا بصدق الله لوعده ونصر عبده، وهزمه لأعدائه المشركين، انظر الآلوسى (1).
8 -
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} :
هذه الآية الكريمة مستأْنفة لبيان أنه سبحانه وإن كانت ذاته المقدسة واحدة، فاسمَاؤُه وصفاته متعددة، فقد كان المشركون يقولون: ما بال محمَّد يدعونا إلى إِله واحد وهو يدعو إلهين، الله والرحمن، فقال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (2) وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . (3) وقد جاء الاسم بمعنى الصفة ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} (4) أي صفوهم.
والمعنى: ذلك الذي سبقت نعوته العظيمة، وصفاته الجليلة، هو الله الذي لا اله إِلا هو له الصفات العليا في الحسن والكمال، وإن كانت ذاته جل وعلا واحدة.
(1) فقد توسع في الكلام علي هذه الآية.
(2)
الإسراء، من الآية: 110
(3)
الأعراف، من الآية: 180
(4)
الرعد، من الآية: 33
المفردات:
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} : الاستفهام للتقرير، ويأتى بيانه في التفسير، وحديث موسى: خَبَرُهُ وَقصَّتُه، ويطلق الحديث علي كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في اليقظة أو المنام. {آنَسْتُ نَارًا}: أي أبصرت نارًا إبصارًا بيِّنا لا شبهة فيه.
{بِقَبَسٍ} : أي بشعلة مقتبسة على رأس عُودٍ أو نحوه.
{إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} : المقدس: المطهر، أو المبارك، {طُوًى}: اسم الوادى وهو الجانب الغربيُّ من الطور.
التفسير
9، 10 - {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا
…
} الآية.
هذا استئناف مسوق لتقرير أمر التوحيد، الذي انتهى إلية مساق الحديث، والخطاب فيه للرسول صلى الله عليه وسلم، للإيذان بأن حديث موسي وقصته جديرة بأن تنتقل مع الأَجيال، ولبُّ هذه القصَّة أمر التوحيد، حيث قال الله لموسى:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} .
وبه ختم عليه السلام مقاله إذ قال: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .
والاستفهام هنا للتقرير، وفيه معنى التنبيه والتشويق، كما تقول لصاحبك: هل بلغك الخبر الفلانيّ؟ فيتنبه ويشتاق لسماع الخبر، فإذا سمعه تقرر في نفسه، لأَنه أَتاه على شوق.
ويقرب من هذا المعنى ما قيل: إِن حرف الاستفهام هنا بمعنى قد، أي قد جاءك خبر موسى وقصته، حين رأَى نارا في ابتداء الوحى إليه، وتكليم ربه إياه، وذلك بعد ما قضى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم، وسار بأهله قاصدًا مصر بعدما طالت غيبته عنها، فضلَّ الطريق المسلوك في ليلة شاتيةٍ باردة مظلمة، وجعل يقدح بزنْدٍ معه؛ ليورى نارًا فلم يُخرِج شررا.
فبينما هو كذلك، إِذ ظهرت له نارٌ من جانب الجبل عن يمينه، فاستبشر وبَشَّر أَهله بما رأى، وذلك قوله تعالى:
أَمر أَهله أَن يقيموا مكانهم، راجيًا أن يجيئهم بشعلة يقتبسها من النار التي رآها ليوقدوا منها ويستدفئوا، أَو أن يجد حول النار هاديًا يرشد إلى الطريق، وقد تاه عنه في ظلام الليل، والخطاب بصيغة الجمع للزوجة والولد (1). أَو الخطاب للزوجة وحدها، والجمع للتفخيم، كما في قول الشاعر يخاطب امرأَة واحدة.
وإِن شئتُ حرمت النساء سواكمو (2).
وكانت النار في شجرة عنَّابٍ خضراء يانعة، كما روى عن ابن عباس رضي الله عنه.
11 -
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} :
أي فلما بلغ مكان النار التي أبصرها ناداه ربه قائلًا: يا موسى.
(1) الاثنان جمع لغوى، حيث جمع أحدهما بالآخر وضم إليه، وقد نقل عنه صلى الله عليه وسلم: الاثنان فما فوقهما جمع.
(2)
أشبعت ضمة الميم فتولدت عنها واو لضرورة الشعر.
12 -
{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} :
أي إنِّى أنا الله ربك الذي أَكلمك، أي من غير واسطة الروح الأمين جبريل عليه السلام كما قلنا في تفسير قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (1).
وتكرير ضمير المتكم لتأكيد الدلالة وتحقيق المراد وإِماطة الشبهة، وفي سورة النمل:{يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2).
وفي سورة القصص: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3).
ولا تعارض بين الآيات الكريمة، فقد ناداه ربه بها كلها، إلَاّ أنه سبحانه حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداءُ الكريم، أَي أَنه سبحانه خاطب موسى بما يفيد هذه المعانى والصفات التي اشتملت عليها هذه النصوص المتفرقة، فلما تكررت القصة في سور متعددة أعطى كل سورة جانبًا منها، لمنع التكرار في العبارة والله أَعلم.
وأمر سبحانه كليمه بخلع نعليه ليباشر بقدميه الأرض المقدسة، فتصيبه بركة تكليم الله إِياه في الوادى المقدس، ولأن الحفاء أَوصل في التواضع وحسن الأدب، ولذلك كان السلف الصالح يطوفون حفاةً.
وقوله تعالى: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} : بيان لحكمة الخلع المأمور به مع الإشارة إلى شرف البقعة وقدسها، وقد نفذ الكليم أمر ربه فخلعهما.
13 -
{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} :
أي وأنا الله الذي أصطفيتك من الناس، أَو من قومك للنبوة والرسالة، فاستمع لما أوحيه إِليك، وتقبله وتأهب للعمل بما يقتضيه، وفي معنى الآية قوله تعالى:{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (4). ثم بين الله ما أوحاه إليه في هذه المكالمة القدسية فقال سبحانه:
(1) سورة النساء، من الآية: 164
(2)
سورة النمل، الآية: 9
(3)
سورة القصص، الآية: 30
(4)
سورة الأعراف، الآية: 144
14 -
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا
…
} الآية.
أَي إِننى أنا الإله الواحد المعبود بالحق لا شريك لي، والفاء في قوله تعالى:{فَاعْبُدْنِي} لترتيب المأمور به على ما قبلها، فإن اختصاص الألوهية به سبحانه من موجبات تخصيص العبادة به عز وجل، والمراد بالعبادة غاية التذلُّل والانقياد له في كل ما يكلف به وخصت الصلاة بالذكر، وأفردت بالأمر في قوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} مع اندراجها في الأمر بالعبادة، لمزيد فضلها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكر المعبود وشُغْل القلب واللسان بذكره، وقد سمَّاها الله إيمانًا في قوله سبحانه:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} . (1)
واختلف العلماءُ في كفر تاركها كسلًا، وأما تاركها جحدًا فلا خلاف في كفره.
وقوله تعالى: {لِذِكْرِي} : أَي لتذكرنى، فإن ذكرى كما ينبغي لا يتحقق إلَاّ في ضمن العبادة والصلاة، أو لتذكرنى فيها، لاشتمالها على الأذكار؛ أو لِذِكْرى خاصة، فلا تَشُبْهُ بذكر غيرى، أو المراد بالذكر هنا، التذكُّر، ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد.
عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلِّها إذا ذكرها" فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} . وفي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَامَ عَنْ صلَاةٍ أوْ نَسِيَهَا فَكَفّارَتُهَا أَنْ يُصَلَيَهَا إذا ذَكَرَها لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَاّ ذَلِكَ".
ثم بين السبب في وجوب العبادة وإقامة الصلاة فقال:
15 -
{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا
…
} الآية.
أَي إِن الساعة قادمة لا محالة، لتحاسب كل نفس بما عملت:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (2).
{أَكَادُ أُخْفِيهَا} : أُريد إِخفَاءها بعدم تحديد وقتها، ولولا ما في الإخبار بمجيئها من اللطف وقطع الأعذار، لما أخبرت بإتيانها، ومع أنه تعالى أَخفى وقتها فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أماراتها، تذكيرًا للناس بها ليحذروها.
(1) سورة البقرة، من الآية:143.
(2)
سورة الزلزلة، الآيتان:
16 -
{فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} :
أَي فلا يصرفنك يا موسى عن ذكر الساعة ومراقبتها والاستعداد لها بالعمل الصالح لا يصرفنَّك عن ذلك الكافرون الذين لا يصدقون بها، ويتبعون هواهم بتكذيبها، فتهلك معهم إن اتَّبعت هواهم، وهذا النهي وإن كان ظاهرًا لموسى فالمراد به أمته كما قال كثير من المفسرين، فانه صلى الله عليه وسلم لا يصرفه عن الساعة والعمل لها صارف بموجب عصمته.
المفردات:
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} : الاستفهام للتقرير، يأتي توضيحه في التفسير.
{أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} : أعتمد عليها.
{وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} : وأَضرب بها ورق الشجر ليسقط على غنمى فتأْكله.
والهشُّ كالهزِّ بمعنى التحريك.
{مَآرِبُ} : منافع ومصالح جمع مأربة مثلثة الراء.
{سِيرَتَهَا الْأُولَى} : هيئتها الأُولى التي كانت عليها.
التفسير
17 -
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى
…
}:
الاستفهام هنا للتقرير، كما تقدم آنفًا في قوله تعالي:{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} والحكمة فيه تنبيهه وتوقيفه على أنها عصًا عادية، حتى إِذا قلبها الله تعالى حية تسعى، علم أَنها معجزة عظيمة أَعدها الله لموسى، فازداد يقينًا وطمأنينة وثباتًا وأنسًا.
18 -
{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا
…
} الآية.
أَجاب موسى ربه فقال: هي عصاى. وبهذا تم الجواب ولكنه عليه السلام أحب المزيد من مكالمة ربه، استئناسًا به، وفرحًا بمناجاته، فاغتنم الفرصة لذلك في مقام البسط، وذكر من منافعها أنه يعتمد عليها عند الإعياء أَو الوقوف في رأس القطيع.
{وَأَهُشُّ بِهَا} : أَي أَضرب بها ورق الشجر فيسقط على غنمى فتأكله، ثم إنه عليه السلام أجمل بقية منافع عصاه فقال:
{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} : أي حاجات ومصالح أخر، وذلك مثل ما قيل: إنه عليه السلام كان إذا سار أَلقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس، والكنانة والمخلاة والثوب ونحوها، وإِذا كان في البريّة ركَزها وألقى عليها الكساء واستظل به، وإذا قصر الرشاءُ عن الاستقاء وصله بها، وإِذا تعرضت غنمه للسباع قاتل بها، هذا بعض ما قيل في تلك المآب، والله أَعلم بها.
قال ابن كثير: وقد تكلف بعضهم ليذكر شيئًا من تلك المآرب التي أَبهمت، فقيل: كانت تضىءُ له بالليل وتحرس له الغنم إِذا نام، ويغرسها فتصير شجرة تظله، وغير ذلك من الأُمور الخارقة للعادة، والظاهر أَنها لم تكن كذلك، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه السلام صيرورتها ثعبانًا، فما كان يفر منها، ولكن كل ذلك من الأَخبار الإسرائيلية، وكذا قول بعضهم: إنها كانت لآدم عليه الصلاة والسلام، وقول الآخر: إنها هي الدابة التي تخرج قبل يوم القيامة!!
19 -
{قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى
…
}:
أَمره تعالى بإلقاء العصا على الأرض ليريه من شأنها ما لم يخطر له على بال، وليكون إلقاؤها قبل لقاء السحرة تمهيدًا لما يظهره الله تعالى على يد موسى وأَخيه من المعجزات، مع الطمأنينة ورباطة الجأش.
20 -
{فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى
…
}:
فلما ألقاها موسى فوجئ بأنها حية عظيمة تمشى مسرعة على بطنها، والحية اسم علم
يطلق على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، وقد انقلبت حين ألقاها موسى عليه السلام ثعبانا عظيمًا، كما يفصح عنه قوله تعالى:{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} (1).
وجاءَ تشبيهها بالجان من حيث الجلادة وسرعة الحركة في قوله تعالى في سورة النمل: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} .
ولا منافاة بينهما، فإِن الجان ضرب قَويُّ من الحيات.
21 -
{قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ
…
} الآية.
لما انقلبت العصا، بقدرة الله تعالى ثعبانًا يمشي مسرعًا مضطربًا، خاف عليه السلام ونفر وملكه ما يملك البشر عند مشاهدة الأهوال والمخاوف، فثبته ربه وقال له:{خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} ثم زاده طمأنينة فقال له: {سَنُعِيدُهَا} : أي نرجعها إِلى حالها الأُولى، التي كانت عليها.
وفي الآية عِدَة كريمة بإظهار معجزة أخرى على يده عليه السلام هي إِعادة العصا إلى هيئتها الأُولى، وإِيذان بأنها مسخرة له، لئلا تعتريه شائبة زلزلة عند مجابهة السحرة.
(1) سورة الشعراء، الآية:32.
المفردات:
{إِلَى جَنَاحِكَ} : أي إِلى جنبك، وأصل الجناح للطائر، ثم أُطلق على اليد والعضد والجنب، وهو المراد هنا. {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}: أي من غير قبح ولا عيب، وهو هنا كناية عن البرص.
{إِنَّهُ طَغَى} : أي تجاوز الحد في عتوه وجبروته. {اشْرَحْ لِي صَدْرِي} : وسِّع لي صدرى.
{وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} : أي سهل لي ما أمرتنى به، {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي}: أَي فك حبسة من لسانى.
{وَزِيرًا} : معاونًا من الوزَرِ بمعنى الحمل الثقيل، أو ملجأ أعتصم برأيه من الوَزَرِ، وأصله الجبل يتحصن به، ثم استعمل بمعنى الملجأ مطلقا.
{أَزْرِي} : أي قُوَّتى، يقال آزره .. أي قواه وأعانه، أو ظهرى.
التفسير
22 -
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} :
بعد أَن ذكر الله العصا آية موسى الأولى وبرهانه على نبوته، قفَّى عليها بذكر الآية الثانية وهى خروج يده بيضاء من غير سوءٍ من تحت إِبطه.
والمعنى: وادخل يدك في طوق قميصك، واجعلها إِلى جنبك تحت إبطك، ثم أَخرجها تخرج بيضاءَ من غير قبح ولا عيب، نجعلها لك آية أخرى على نبوتك، وكان موسى عليه السلام أَسمر اللون، فإذا وضع يده تحت إبطه خرجت بيضاء مخالفة للونه الأسمر، وكانت في بباضها تشعُّ نورًا مضيئًا كما روى عن ابن عباس.
23 -
{لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} :
أي افعل ما أَمرناك به من إلقاء العصا، وضم اليد إِلى الجناح، لنجعلك مبصرا بعض آياتنا العظمى التي لا عهد لك ولا لغيرك بمثلها، والتى هي شاهدة على عظيم سُلْطَانِنَا، وكامل قدرتنا، وأَنك مرسل منا.
24 -
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} :
انتقل النسق القرآنى بهذه الآية الكريمة من المقدمات السابقة، إلى المقصود منها.
والمعنى: اذهب إلى ملك مصر وادعه إلى الاستقامة على طريق الحق والعدل، فإنه جاوز الحد في التجبر والطغيان، حيث ادَّعى الأُلوهية، وبغى على الرعية.
وحينما كلف الله موسي بهذا الأمر الخطير، تضرع التي الله عز وجل مستعينًا به كما حكاه الله بقوله:
25، 26 - {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}:
قال موسى متضرعًا إلى الله: رب وسع لي صدرى، فلا يضيق بكبرياء فرعون وجبروته، ومشقة دعوته ودعوة قومه الذين يعبدونه، واجعله في سعته مقبلًا على هذا الأَمر الجلل، مستريحًا لأدائه، وسهل لي أمرى الذي كلفتنى به بقوة العزيمة، والصبر والاحتمال، وتوفيقي إلى أحسن الأداء، ومعرفة شئون الحق وأحوال الخلق، لأصل بدعوتك إلى قلوبهم.
27 -
{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} :
واجعل لساني حين تبليغ الرسالة إلى فرعون طليقًا غير معقَّد ولا حبيس، حتى ينطلق في تبليغه ما تأمرنى به، وتكون عباراتي واضحة لكي يفهموا قولى، ويتأثروا بحسن أدائى.
وهذه العقدة التي في لسانه لم نجد في السنة النبوية بيانًا أو سببًا لها، وقد تكلم فيها المفسرون، فنقل ابن كثير عن ابن عباس أنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون، ليتكلم عنه بكثير مما لا يفصح عنه لسانه، ولم يرد في هذا الخبر بيان سبب هذه العقدة.
وذكر الآلوسى: أنه كان في لسانه رُتَّةُ (1) من جمرة أدخلها فمه وهو صغير، وذكر كذلك قصة طويلة مشهورة على ألسنة الناس، وقيل غير ذلك، والله أعلم بصحة ما ذكروه، ويبدو لنا من سكوت السنة النبوية عن بيان هذه العقدة وأسبابها، أنها عقدة يخشى أَن تحدث له عند لقائه فرعون لتبليغه أنه ليس بإله، وأن لَا إله إلَاّ الله رب السماوات والأرض، في
(1) الرتّة: العجمة في اللسان.
حين أَنه قتل منهم قتيلًا، وأنهم كانوا يأْتمرون به ليقتلوه، فلهذا سأل ربه أنا يشرح له صدره وييسر له أمره، ويطلق لسانه فلا يتلعثم ولا ينعقد عن تبليغ أَمر ربه، وأن يشد أزره بأخيه هارون ليصدقه ويعاونه. ولا يقتضي وصفه له بأَنه أفصح منه لسانًا، أن يكون لدى موسى رتة ولثغة في لسانه كما قيل، فربما كان مقصوده من ذلك أنه لا توجد لدى هارون أسباب يخشى أَن تحبس لسانه، كالأسباب التي لديه، على أَنه لو فرضت زيادة هارون عليه في الفصاحة، فإِن ذلك لا يقتضي وجود عيب في لسانه، فهو فصيح وأَخوه هارون أَفصح منه، والله تعالى أعلم.
29، 30 - {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي}:
أي واجعل لي موازرًا ومعينًا من أهلى أَقرب الناس إلَيِّ، وهو هارون آخى، ليحمل معى أَعباءَ الرسالة، من الوِزْر بكسر الواو وسكون الزاى، بمعنى الحمل، ويجوز أن يكون المعنى: واجعل لي هارون أَخى ملجأ أَلجأُ إليه وأَعتصم به عند الشدائد، والمكاره، من الوَزَر بفتح الواو والزاى، بمعنى الملجأ.
31، 32 - {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}:
يطلق الأزر في اللغة على القوة وعلى الظهْر، فعلى الأول يكون المعنى: احكم يا رب بأخى هارون قوتى، وأَشركه يا مولاى في تبليغ رسالتى، وعلى الثاني، يكون المعنى: أشدد به ظهرى وأَشركه فيما ذكر من أَمرى.
والمقصود من هذا الدعاءِ، أن يجعلهما الله تعالى متعاونين في تبليغ الرسالة إلى فرعون وقومه، وإِلى بني إسرائيل، أَخرج ابن أَبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أَنه قال في قوله تعالى:{وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} : - نُبِّىء هارون ساعتئِذ - حين نبِّىءَ موسى عليه السلام.
أَي أَنه نُبيءَ هارونُ بدعوة أَخيه موسى في وقت مكالمة الله الذي امتد حتى بشره ربه بإجابة دعائه كله كما سيأْتى، فلهذا قال ابن عباس - نُبيءَ هارون حين نُبِّىءَ موسى، أَي أَنه نبىء في وقت المكالمة الذي كان موسي فيه قد نبىءَ، ثم ختم موسى عليه السلام دعاءه بما حكاه الله بقوله:
33، 34، 35 - {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا}:
أَي اجعل هارون أَخى وزيرا لى، ونبيا ورسولا معى، لكي ننزهك كثيرا يا رب عما لا يليق بك من الصفات، كالشريك والنَّظير، والوالد والولد، ونرد ما يزعمه فرعون من أُلوهيته، وغير ذلك مما تتنزَّه عنه ساحة أُلوهيَّتك، يا إِله العالمين ولكى نذكرك ونثنى عليك بما أنت أَهله ذكرًا وثناءً كثيرا، إِنك كنت يا ربنا ولا تزال بصيرا بنا، في سائر أحوالنا، عليما خبيرًا بنياتنا وأُمورنا منذ خلقتنا، ومن ذلك إيماننا بك وحدك وعبادتك دون سواك بين قوم مشركين، فلعلَّ ذلك يجعلنا أَهلًا لاستجابة دعائي يا إلهى.
قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائِما وقاعدا، ومضطجعًا.
المفردات:
{سُؤْلَكَ} : أي سؤَالك، والمقصود منه مطلوبه الذي سأَل ربه.
{مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} : أَنعمنا عليك في وقت آخر بنعم غير هذه النعمة وسيأْتي بعض تفصيلها: {أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ} : ألهمناها كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} ، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}: ولتربَّى تربية حسنة بعنايتى وعلمى، تقول: صنعت الفرس وأَصنعته: أحسنت رعايته والقيام بشئونه.
{يَكْفُلُهُ} : يرعاه ويعنى بتربيته. {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} : فأنقذناك من الكرب بسبب قتلك القبطى من شيعة فرعون. {مَدْيَنَ} : بلدة شعيب صهر موسى.
{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} : جئت على موعد مقدَّرٍ لإرسالك إلى فرعون.
{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} : اخترتك لرسالتي من الاصطناع بمعنى الاستخلاص، أو خلقتك لها. من الصنعة.
التفسير
36 -
{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} :
أي قال الله لموسى بعد أن دعاه، قد حققنا لك ما سألت، وأجبناك لما التمست، فسنشرح لك صدرك، ونيسّر لك أمرك، ونطلق لك لسانك، فلا تتهيب المواقف فيحتبس عن قول الحق، وسنؤزرك بنبوة أخيك هارون ورسالته، فأقبل على ما كلفناك به في حفظنا ورعايتنا وكفالَتنا، ثم زاده الله اطمئنانا على رعايته له في مهمته فقال:
37 -
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} :
أَي وبالله فقد أنعمنا عليك من غير دعاء منك، أَنعمنا عليك مرة أخرى في وقت سابق لم تكن فيه نبيًّا ولا رسولًا، فكيف لا ننعم عليك بما طلبته منا وقد اتخذناك نبيًّا ورسولًا، ولقد بدأ الله هذا الامتنان بالقسم اعتناءٌ به، وبالمقصود منه، ثم عقَّب الله هذا الامتنان المجمل بتفصيله فقال:
38 -
{إذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى
…
}:
الإيحاءُ هنا
…
بمعنى الإلهام. كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} أي ألهمها - أما الإيحاءُ عن طريق الملك .. فخاص بالأنبياء .. ولا نبوة للنساء. فضلا عن
النحل - وهل كان هذا الإلهام في اليقظة أم كان في المنام؟ والذي يظهر لنا أنه في اليقظة، لأن الذي يكون في النوم يعبر عنه في عرف القرآن بالرؤْيا، كما في قوله تعالى -:{إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} وقد كان هذا الإلهام قويا مقنعًا، فلهذا لم تَتَرَدَّد في تنفيذه، ولهذا شبهه الله بما يوحى للأَنبياء، في قوة الاقتناع به، والطمأْنينة له.
والمعنى على هذا - ولقد ألهمنا أُمك في شأْنك تدبيرًا اقتنعت به تمامًا، لأنه كان مؤكدًا في نفسها تأْكيد ما يوحى إلى الأنبياء، فإن الأرواح قد تصل من الصفاء والشفافية إِلى ما يجعلها تتحقق من صدق إلهامها كأنها تشاهده على الحقيقة، وعن ذلك أن سارية كان قائدا في إحدى المعارك النائية، فأَحسّ عمر بن الخطاب بأَنه في مأزق حرج، فناداه وهو على منبره بالمدينة - يا سارية الجبل، فسمعه سارية فلجأَ برُمَاته إِلي الجبل، فانتصر على عدوه، ولما رجع من المعركة حدث الناس بذلك وفي مثل هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّ مِنْ أمَّتى مُحَدِّثِينَ".
39 -
{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ
…
} الآية.
هذه الآية مفسّرة لما أَوحاه الله إلى أمِّ موسى، وكان قد ولد في السنة التي كان فرعون يقتل فيها مواليد بني إسرائيل من الذكور، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة البقرة مخاطبا بني إسرائيل:{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (1).
وقيل في سبب ذلك: إن فرعون خاف أَن يذهب ملكه على يد مولود من بني إِسرائيل، يولد في هذا العام كما رآه في منامه، فأمر بقتل كل ذكر يولد منهم فيه - {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} ولهذا لم يُقْدِر فرعونَ تدبيرُه في دفع ما قدره الله عليه، إذ لا يُغنى حَذرٌ مِنْ قَدرٍ.
والمعنى: إذ أَوحينا إلى أُمك يا موسى أَن ضعيه في صندوق محكم الصنع بحيث لا يدخله ماءٌ، فاطرحيه في البحر - وهو النِّيل - يلقيه البحر بساحل فرعون.
ولما كان إلقاءُ البحر للتابوت بالساحل أمرا واجب الوقوع، لتعلق إرادة الله به، جُعل البحر في النص الكريم كأنه مأْمور بذلك (2).
(1) سورة البقرة، الآية: 49
(2)
على سبيل الاستعارة بالكن
{يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} : المراد بهذا العدو فرعون، وقد نفذت أم موسى ما أُلهمت به فاتخذت تابوتا محكما. ووضعت فيه موسى وألقته في النيل، وكان يذهب منه فرع إِلى بستان فرعون - كما قيل - فرأى آل فرعون التابوت فالتقطوه وفتحوه فوجدوا فيه صبيا أَصْبَحَ الوجه، فأَحبه عدوُّ الله حبًّا شديدًا بحيث لا يمالك أَن يصبر عنه، وذلك قوله تعالى:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} :
والمعنى:
أَي وأَنزلت عليك محبة مني، إذ أَحببتك وجعلت من يرونك يحبُّونك، فأَحبك فرعون وأنزلك منه منزلة الولد، وأَحبك أَهله وحاشيته، وفعلْتُ ذلك لكي تربَّى وتنشأَ لديه، وفي منزله في رعايتى وحفظى، تلحظك عين عنايتى، قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} أَحبه الله وحببه إِلى خلقه، وقال في تفسير قوله سبحانه {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}: يريد أَن تدبير أَمرك بعينى، أَي بعلمى ومشيئتى، حيث جُعِلْتَ في التابوت، وحيث أُلقى التابوت في البحر، وحيث التقطتك جوارى امرأَة فرعون، فذهب بالتابوت إِليها مغلقًا، فلما فتحته رأَت صبيًا لم يُر مثله قطُّ، وأَلقى عيها محبته، فدخلت به على فرعون، وقالت له:{قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} انتهى باختصار وتصرف (1).
وقال ابن عطية: جُعِلَتْ عليه مَسْحَةُ جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه، وقال النحاس في تفسير {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ولكى يفعل بك الصنيعة - أي الإِحسان - بحيث تربَّى بِالْحُنُوِّ والشفقة، وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعى الرجل الشيءَ بعينه، إِذا اعتنى به - يريد أن في الكلام استعارة بالكناية - فليس لله عين كعيوننا، فهو منزه عن مشابهة الحوادث، ولكنها عين العناية والرعاية الصمدانية.
40 -
{إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ
…
} الآية.
لما قذفت أم موسى وليدها في اليمِّ، صار فؤَادها فارغا من الصبر لفراقه، فقالت لأُخته: قُصِّيه وتعرفى خبره، وكانت امرأَة فرعون قد طلبت له المراضع، فكلما عرض على مرضع
(1) انظره مطولًا في القر
أَبي أن يرتضع منها، حيث حرم الله عليه المراضع، وكانت أخته تمشى بجوار النيل ترقب مصيره، فبصرت به عن بعد وهم لا يشعرون بأَنها ترقبه، فلما علمت مصيره ورأتهم يطلبون له المراضع، استأذنت من أَجله فأَذنوا لها: فأخذته ووضعته في حجرها، وناولته ثديها فمصه وفرح به، كما روى عن ابن عباس، فعرضوا عليها أَن تقيم عندهم، فقالت إنه ليس لي لبن، ولكن هل أَدلكم على من يكفله وهم له ناصحون، قالوا ومن هي؟ قالت: أمى، فقالوا: أَلها لبن؟ قالت: نعم. من أَخى هارون - وكان قد ولد قبل موسى - ولم يكن قد بدأ القتل في مواليد بني إِسرائيل المذكور فوافقوا على إِرضاعها إياه، فعادت فأَخبرتها، فلما جاءَته تقبل ثديها وارتضع منها، تلك خلاصة ما روى عن ابن عباس في قصة عودته إلى أُمه.
والمعنى: واذكر يا موسى حين كانت أُختك تمشى على الساحل لتعرف مصيرك، فعرفت أَنك انتهيت إِلى دار فرعون، وأَنهم بحاجة إِلى مرضع، فقالت لهم: هل أَدلكم على موضع تتكفل برضاعه؟ فوافقوا.
{فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} :
أي فرددناك إِليها لترضعك، وأَنت مكرم في بيت فرعون لكي تستقر عينها، فلا تكون زائغة أو متحركة تنظر هنا وهناك، باحثة عن مصيرك، أَو مشفقة من شدة الحيرة علي فَقْدك.
ويجوز أَن تكون قرة عينها كناية عن فرحها، يقولون: قَرَّت العين إِذا بَرَدَتْ عند السرور، وللسرور دمعة بارِدة، وللْحزن دمعة ساخنة (1).
{وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} :
لا يزال الكلام مفصلًا في بيان نعم الله على موسى قبل أَن يشرفه بالنبوة والرسالة، والنفس التي قتلها موسى نفس قبطيٍّ كان يقتتل مع رجل من بني إِسرائيل، فاستعانه الإِسرائيلى
(1) وعلى هذا يكون تقديم عبارة الفرح على معنى الحزن من باب تقديم التحلية علي التخلية كما يقول علماء البلاغة وإن كان العكس هو الغالب.
الذي هو من شيعته على القبطى الذي هو عدوه، وكان القبطى باغيًا على الإِسرائيلى متشبثًا به، فلما لم يرضخ لوساطة موسى بينهما، وكزهُ بيده، أَي ضربه أَو دفعه، فقضى عليه، ولم يكن موسى يقصد قتله، بل تأْديبه، ولعله كان به مرض قلبى لم يحتمل معه تلك الوكزة، فمات منها أَو عندها، وقد جاءَ في الصحيحين أَن قتله كان خطأ ولم يكن عمدًا.
والمعنى: وقتلت رجلا من أَقباط مصر على سبيل الخطإِ، حيث كان باغيا على رجل من بني إِسرائيل، فضربته فمات، فأَصابك الغم والحزن بسبب قتله، لما يترتب عليه من غضب فرعون عليك، أو اقتصاصه منك، وخشية أَن نغضب نحن عليك من أَجل قتله، فنجَّيناك من هذا الغم بغفران ما حدث منك بعد ما قلت:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} ونجيناك من نقمة فرعون بالهجرة إِلى مدين، وابتليناك بالشدائد ابتلاءً شديدًا وأَنت في طريقك إِلى مدين، فرارًا من نقمة عدوك لتعتاد الشدائد والصبر عليها تمهيدًا لتحصل أَعباءِ الرسالةِ.
40، 41 - {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}: أَي ثم جئت من مدين على الموعد الذي قدَّرت إِرسالك فيه، واخترتك لوحى رسالتى.
المفردت:
{وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} : ولا تفْتُرا في تبليغ رسالتي، تقول وَنَيْتُ في الأَمر أني فيه ونَّى وونْيًا، أَي تباطأت وفترت فيه، ويطلق الونْى أَيضا على الضعف، والكلال، والإعياء.
{إِنَّهُ طَغَى} : إِنه تجاوز الحد في الظلم والجبروت والغرور.
{يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} : يتعظ أو يخاف. {يَفْرُطَ عَلَيْنَا} : يعجل ويقابلنا بالقول الغليظ علينا يقال: فرط مني أمرٌ، أي بدر، منه الفارط في الماءِ، الذي يتقدم القوم إلى الماءِ، {أَسْمَعُ وَأَرَى}: لا تخفى عليَّ خافية من أَمركما.
التفسير
42 -
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا في ذِكْرِي} :
هذه الآية مستأنفة، لبيان المقصود من اصطناع الله لموسى، والمراد بالآيات هنا العصا واليد؛ لأنهما الآيتان اللتان ذهب بها موسى وهارون أولًا إلى فرعون، بدليل أن موسى لما كلمه الله في طور سيناء، أمره سبحانه أن يلقى عصاه فأَلقاها، فصارت حية، وأَن ينزع يده من جيبه فنزعها فصارت بيضاءَ - لمَّا حدث ذلك - قال الله لموسى:{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (1) والتعبير عن هاتين الآيتين بصيغة الجمع في قوله سبحانه: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} إما لأَن المراد من الجمع ما فوق الواحد، وإما لأن كل آية منهما تشتمل على آيات، فانقلاب العصا حيوانا آية، وكونها ثعبانًا عظيمًا لا يقادر قدره آية أخرى، وكونه مسخَّرًا لموسى بحيث لا يضرّه آية ثالثة، وعودته بعد ذلك عصا آية رابعة، وكذلك اليد، فإن تحولها من السُّمرة إلى البياض آية، وكون بياضها مُؤَقَّتًا آية ثانية، وعودتها إلى حالتها الأُولى برغبته آية ثالثة.
وأما القول بأن المراد بها الآيات التسع فلا يناسب المقام.
ومعنى الآية: اذهب أَنت يا موسى وليذهب معك أخوك هارون بآياتى ومعجزاتى الدالة على أَنكما مرسلان مني، ولا تتباطئا أَو تفترا في تبليغ رسالتى والدعاء إلى عبادتى، وقيل: معناه تذكَّرانى ولا تنسياني واستمدَّا العون والتأْييد مني، فإنه لا يتم أَمركما بغير تأييدى، وعقب الله هذا الأَمر المجمل ببيان من يذهبان إِليه والمقصود من إرساله وطريقة أدائهما الرسالة فقال سبحانه:
(1) سورة القصص، الآية: 32
43، 44 - {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}:
لم يكن هرون مع موسى وقت مكالمة ربه، فقد كان موسى عائدًا من (مَدْيَنَ) بعد هجرته إِليها عشر سنين عقب قتله القبطي، وكان هارون مقيمًا بمصر، حيث لم يحدث منه ما يقتضي تركه لها، كما حدث لموسى، والأَمر موجّه إِليهما مع أَن هارون غير موجود في ساحة الخطاب، على سبيل تغليب الحاضر على الغائب، ولأَن هارون سوف يصدق أَخاه حين يبلغه أمر ربه بإِشراكه معه في الرسالة إلى فرعون، فلهذا جُعل في حكم الحاضر المخاطب.
وروى أن هارون أُوحي إِليه بمصر، أَن يتلقى أخاه، وقيل: بل أُلهم ذلك، وقيل: سمع بإِقباله فتلقاه، وعلى أَي حال فقد التقى موسى بأخيه هارون، وعرف أن الله أرسله وأَشركه مع موسى في تبليغ رسالة ربه.
والمعنى: اذهب يا موسى أنت وهارون أَخوك مصحوبَيْن بآياتى، إلى فرعون ملك مصر، فِإنه جاوز الحدَّ في ظلم الخلق، وفي الغرور حيث ادعى الألوهية، فادعواه إِلى الإيمان بى وترك الطغيان على عبادى، واستعملا أسلوب اللِّين في دعوتكما إِياه إلى الهدى وترك الطغيان لعله بهذا الأسلوب اللين البعيد عن الخشونة يتذكر عظمة الله وآياته، ويمعن في التأمل فيها، أَو يخاف سوءَ المصير الذي ينتهى إليه أَهل الطغيان، فيؤمن بربه، وينتهى عن غروره وطغيانه.
ولفظ: (لَعَلَّ) يستعمل للرجاء وللتعليل، فِإن أُريد منها الرجاءُ هنا، فالرجاءُ يكون من موسى وهارون.
والمعنى على هذا: فقولا لفرعون قولًا ليِّنًا ترجوان بهذا اللين أَن يتعظ أو يخاف سوءَ المصير فيؤْمن، ولا يصح أَن يكون الرجاءُ من الله، لأنه تعالى يعلم قديمًا من غرور فرعون إصراره على الكفر والطغيان، وأنه بعيد عن التذكرة والخشية، ولكنه أرسلهما إليه ليقيما الحجة عليه، وإن أُريد من لعل التعليل. فالمعنى: لكي يتعظ أَو يخاف.
وقد استنبط من الآية أَن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينبغي أَن يكون بأُسلوب لين لا خشونة فيه، لكي يتأَثر باللين من تدعوه إلى الخير، فإن الخشونة في الدعوة تأْتى بعكس المقصود، قال تعالى لرسوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِ
وإِذا كان اللين مطلوبًا من صاحب الرسالة المؤيَّد من الله تعالى، فإنه يكون مطلوبًا من غيره بطريق الأَولى.
45 -
{قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} :
هذا استئناف مبين لما أَجابَا به ربهما بعد أن كلفهما بدعوة فرعون باللين إِلى ترك ما هو عليه، وهذا القول كان وقت مناجاة موسى لربه، فهو من موسى وحده، وإِسناده إِليهما حينئذ على سبيل التغليب، لأَن هارون سوف يخاف من طغيان فرعون إذا بلغه من أَمر الرسالة ما لا يحبُّه، فكأنه مشارك موسى في هذا المقال، فأُسند إليه مع أَخيه، ويجوز أن يكون هذا القول قد حدث منهما معا بعد أن التقى موسى بهارون في مصر وأَخبره بما كلفا به من قبل الله تعالى.
والمعنى: قال موسى وهارون: ربنا ومالِك أَمرنا إِننا نخاف إِن بلغنا رسالتك إلى فرعون أَن يبادرنا بقول غليظ، ويجابهنا قبل أَن نقيم له الحجة ونظهر له المعجزة، أَو أَن يطغى، ويجاوز الحد فيعاقبنا أَو يقتلنا.
46 -
{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} :
أَي قال الله مطمئنًا لهما، بعد أَن أَظهرا له خوفهما من فرعون - لا تخافَا منه ولا من قومه إِننى معكما بالحفظ والنصرة والحماية، أسمع وأَرى ما يدور حولكما، فلن أُمكنه منكما، ثم حضهما على التوجه برسالته سبحانه إلى فرعون فقال:
المفردات:
{فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} : المقصود بإرسالهم إطلاقهم من الأسر كما سنشرحه إن شاءَ الله تعالى. {والسَّلَامُ علَى من اتَّبَعَ الهُدَى): أي والأمان من عقاب الله لمن أتبع الهدى الذي أَرسلَنا به.
التفسير
47 -
{فأِتيَاهُ فَقُولَاَ إنا رَسُولَا رَبِّكَ فَأرْسِل مَعَنَا بَنِى إسْرَآئِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} :
نرى في هذا النص الكريم أن الله تعالى كلف موسى وهارون أَن يطلبا من فرعون في أَول لقاء بينهما أن يرسل بنى إسرائيل معهما، ولم يكلفهما بمطالبته بالإيمان بربه سبحانه، في حين أن سورة النازعات تدل على أَنهما كلفا بأن يهدياه أَولًا إلى معرفة ربه، فقد جاءَ فيها قوله تعالى:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} وجمعًا بين النصين نقول: إن الله كلفهما بالأَمرين جميعًا، وإنهما تدرجا معه، فطلبا منه إِرسال بنى إسرائيل وإطلاقهم من الأسر، ورفع التعذيب والقتل عنهم، قبل أن يطلبا منه تبديل اعتقاده، فإن الأَول أَسهل عليه من الثاني.
والمراد من إِرسال بنى إسرائيل معهما تخليص الأُسارى منهم، وإخراجهم من تحت جبروته، وليس المقصود التصريح لهم بالتوجه معهما إلى الشام، ويدل على ذلك قوله تعالى عقب هذه الجملة:"وَلَا تُعَذِّبْهُمْ" أي لا تعذبهم بإِبقائهم في السجون والتسخير، فقد كان هو وقومه يستخدمونهم في الأعمال الشاقة كالحفر والبناء ونقل الأحجار، ومن عصاهم عذبوه وسجنوه.
والمعنى: فاذهب يا موسى أَنت وأخوك هارون إِلى فرعون، فقولا له: إِننا مرسلون من الخالق الذي أَنشأَك ورباك، فأَطلق سراح بنى إسرائيل من السجن ومن السُّخرة، ولا تعذبهم بأَى نوع من أنواع التعذيب الذي تمارسه أنت والقبط في إذلالهم.
{قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} :
أَي وقد جئناك بحجة من ربك، على أننا مرسلون من قبله، ولسنا مفترين على الله، بدعوى إِرساله إِيانا إليك، والسلامة من العذاب في الدارين لمن اتبع الهدى الذي أَرسلنا الله به، وليس السلام هنا بمعنى التحية، لأنه ليس في ابتداء كلامهم كما هي العادة في التحية، بل هو بمعنى الأمان لترغيبه في حسن العاقبة.
ولو جاءَ هذا السلام أول الكلام لتحيته منهما، لما كان مناسبًا لما أَوصاهما الله به، من أن يقولا له قولًا ليِّنًا لعله يتذكر أَو يخشى، فإِن مفاجأَته بأَنه لا تحية له، لأنها لأَهل الهدى وهو ليس منهم، تعتبر مفاجأَة خشنة منفِّرة يقولانها بين يديه غير عابثين بمنصبه في قومه، وَتَمْنَعُهُ من أن يتذكر أَو يخشى، وتخالف اللين المطلوب منهما في محادثته، ولأَنه يعتبرهما من رعيته، وقد نشآ في نعمته وتحت سلطانه، وقال أَبو حيان: الظاهر أَن قوله تعالى: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} فصل للكلام، والسلام فيه بمعنى التحية، وجاءَ ذلك على ما هو العادة من التسليم عند الفراغ من القول، إِلَّا أَنهما عليهما السلام رغبا بذلك عن فرعون، وخصَّا به متبعى الهدى، ترغيبًا له بالانتظام في سلكهم: اهـ.
والصواب ما قلناه أَولًا، من أَن السلام هنا بمعنى الأَمان، وقد جاءَ في وسط كلامهما مع فرعون وليس في آخره، فقد قالا له عقب ذلك:{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فكأنما قالا له: والأَمان على من اتبع الهدى الذي جئناك به، لأن العذاب على من كفر به وتولى عنه.
فإن قيل إِن النبي صلى الله عليه وسلم بدأَ خطابه لعظيم الروم بتحيته على هذا النحو حيث قال له - كما جاءَ في الصحيحين: "من محمد رسوك الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام علي من اتبع الهدى" فلماذا لم يؤمر موسى وهارون بمثل ذلك؟ فالجواب: أَن النبي - صلى الله عليه وسلم
إنما يفعل ذلك مع هرقل في منزلة من العزة والمنعة، لم يكن فيها موسى وهارون كما تقدم بيانه، فلذا أَوصاهما الله تعالى بملاينته على النحو الذي جاءَ في النص الكريم.
48 -
{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} :
أي وقولا لفرعون أَيضًا: إنا قد أَوحى الله إلينا أن العذاب في الدنيا والآخرة على من كذبنا، وأَعرض عما جئنا به من وحى ربنا.
المفردات:
(خَلْقَهُ): ما خلقه عليه من المادة والصورة والوظائف المختلفة. (ثُمَّ هَدَى): ثم أرشد ما خلقه لما يصلحه. (فَمَا بَالُ الْقُرُون الْأُولَى): أي فما شأْن أَهل القرون السابقة وما حالهم. (عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَابٍ)(1): المراد بالكتاب هنا علم الله تعالى، وقيل اللوح المحفوظ، وقيل صحف الأَعمال. (لَا يَضِلُّ رَبِّى وَلَا يَنسَى): أَي لا يغيب سبحانه عن شيءٍ يحدث فيفوته علمه، ولا ينسى شيئًا علمه جل وعلا، والجملة مستأْنفة لتأْكيد علم الله بأَحوال القرون الماضية، أَو لتعليل علمه بها.
التفسير
49 -
{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} :
جاءَ في الآيات السابقة أَنه تعالى أمر موسى وهارون بالتوجه إلى فرعون وإِخباره أَنهما رسولان من ربه، وأَن يطلبا منه رفع العذاب عن بنى إِسرائيل، ويخبراه أَن السلام على من اتبع الهدى، والعذاب على من كذب وتولى.
(1)(عند ربي) خبر أول لقوله (علمها) و (في كتاب) خبر ثان له. وقيل هما خبر واحد مثل: الرمان حلو حامض، وقيل (في كتاب) هو الخبر، و (عند ربي) حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور.
وقد جاءَت هذه الآية وما بعدها لبيان ما حدث من فرعون بعد لقائهما إياه وتبليغه ما أُمرا بتبليغه إليه. ولم تتحدث الآيات عن أَنهما توجها إليه وأَبلغاه، اكتفاءً ببيان موقفه من رسالتهما، فإِن ذلك يؤْذن بأَنهما توجها إليه وأَبلغاه فبدأ يناقشهما فيما جاءاه به.
وأَول ما بدأَ به مناقشته أَن قال: (فَمَن رَّبُّكَما يَامُوسى) فأضاف الربوبية إليهما ولم يضفها إلى نفسه مع أَنهما أَفهماه أنهما رسولان من ربه الذي هو ربُّهما، لأنه لا يريد الاعتراف بربوبية غيره، ولعل فرعون اختص موسى بهذا السؤَال مع أن هارون كان معه، لأن موسى هو الذي قام بتبليغه، وإِلى جانبه هارون يؤيده، ويحتمل أَن يكون للتعريض بأَنه ربه، كما قال:(أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا) فكأَنه يقول له: فمن ربكما يا مَنْ كنتُ لك مُربِّيا، وجئتَ تنزع الربوبية منى.
وعلى أَي حال فالمعنى إِذًا: إذا كنتما رسوليْ ربكما الذي أَرسلكما فأخبرانى من ربكما الذي تدعونى إلى الإِيمان به يا موسى.
50 -
{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} :
أَي قال موسى جوابًا لفرعون: ربُّنا يعْرَفُ بصفاته، ولا يدرك بذاته، فهو الذي أَعطى كل شيءٍ ما خلقه عليه من المادة والصورة والوظيفة، وأعطاه ما يحقق به ما خلق له، وهداه إلى تحقيقه، فقد أَعطى العين الصورة التي تطابق الإِبصار، وأمدها بالقوة التي تبصر بها وأَعطى الأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وأَمدها بالقوة التي تستمع بها، وكذلك الأنف واليد والرجل وغيرها، أعطاها الله خلقها اللائق بها والمناسب لوظيفتها، وأمدها بالقوة التي تحقق ما خلقت لأَجله، وهداها لتحقيقها، ومثل ذلك يقال في الحيوان والنبات، بل وفي الجماد أَيضًا، فالعلم من آن لآخر يكشف لنا عن عجائب الكون وإِنك لترى في الذرَّة وتكوينها وخصائصها ما يحيِّر العقول، فكيف بغيرها من ملكوت الله.!!
51 -
{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} :
لما وضح الحق في جانب موسى، خاف فرعون أَن يتأثر الناس بما قاله موسى، فيكفوا عن القول بأُلوهيته، والاندماج في عبوديته، فلهذا وجه إِليه سؤالا يريد أن يحرجه به،
ويظهر ضعفه أَمام سامعيه، فقال له: إِن كنت رسولًا يا موسى فأَخبرْنى: ما حال أهل القرون الماضية، وماذا جرى عليهم من الحوادث مفصلة؟ ولما كان موسى عليه السلام خالى الذهن عنها حين سؤاله، أَجابه بما حكاه الله بقوله:
52 -
{قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} :
أي قال موسى: - ردًّا على فرعون -، علم أَحوال القرون الماضية يختص به ربِّى الذي أرسلنى وما أنا إلا عبد له تعالى، فلا علم لى إلا بما أَخبرنى من شئون الرسالة، وقد بلغ من علم الله أَنه تعالى لا يضل ولا يغيب عنه شيء في الوجود، فلا يفوته علم شيءٍ منه ابتداءً، ولا ينسى معلومًا دخل دائرة علمه، فقد أحصى وأحاط بكل شيءٍ علمًا أَزلا وأَبدًا.
والمراد بالكتاب على هذا الوجه، علم الله تعالى، تمثيلا لثبوت معلوماته سبحانه، وتقرّرها وتمكنه منها، بما استحفظه العالم وقيده في كتابه، تقريبًا للأَذهان، لأَن علم الله بها أَقوى وأثبت مما حوته كتب الكاتبين، ولكون المراد ما ذكر، عقبه بقوله:(لَا يَضِلُّ رَبِّى ولَا يَنسَى) وقيل: المراد به اللوح المحفوظ، والصواب ما قلناه لأنه هو المناسب للمقام - والله أعلم.
وقيل: إنما سأله عن إحصاء أعمال القرون الأولى وجزائها، فأَخبره بأنها محفوظة عند الله في كتاب، وسيجازيهم عليها في الآخرة، إِن خيرًا فخير، وإِن شرًّا فشر، ولعل المراد بالكتاب على هذا الوجه، هو السجل الذي يكتب فيه الملك أَعمال المكلف، ويحصِيها عليه، كما جاءَ في قوله تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (1). وقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (2).
(1) سورة ق، الآية: 18
(2)
سورة الإسراء، الآية: 13
المفردات:
(مَهْدًا): أي مبسوطة مذَلَّلة، وهو في الأصل مصدر مَهَد الأرض أو الفراش أَي بسطه ويسّره. وفعله من باب فتح يفتح ثم أَطلق المهد على كل ما يبسط ويمهد، وغلب على فراش الصبى. (سُبُلًا): جمع سبيل وهو الطريق. (أَزْواجًا): أي أصنافًا ونظائر متشابهة وأطلق عليها ذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض، أَو لأن بعضها ذكر والآخر أُنثى (نَبَاتٍ شَتَّى): أَي متفرق؛ جمع شتيت، من شتَّ الأمر أَي تفرق، وأَلفه للتأْنيث. (وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ): أَي سرحوها وأَطعموها من المرعى وهو مكان الكلإِ والعشب. والأَنعام الماشية التي ترعى، وهى تذكر وتؤَنث، وأكثر ما تطلق على الإِبل، ومفردها نَعَم بفتحتين وهو مذكر دائمًا، كما قال الفراءُ يقولون هذا نَعم - انظر المختار. (لِأُولِي النُّهَى): أَصحاب العقول السديدة، وقيل لهم ذلك لأَنهم يُنتهى إلى رأْيهم، أَوْ ينْهَوْنَ أَنفسهم، ومفرده نُهْيةٌ. بضم فسكون.
التفسير
53 -
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا
…
} الآية.
هذا الكلام إما أَن يكون بقية ما أَبلغه موسى لفرعون عن الله تعالى (1)، وإما أَن يكون كلام موسى قد تم، عند قوله:{لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} وابتدأَ الكلام منه سبحانه لتعداد نعمه على عباده.
(1) وعلى هذا يكون لفظ (الذي) وصفا لربى. أو خبرًا لمبتدأ محذوف، أما علي الوجه الآتى فيكون خبرأ لمبتدأ محذوف فحسب.
وعلى الأَول يكون المعنى: لا يضل رَبى عن أَحوال القرون الماضية ولا ينساها، ربي الذي الذي جعل لكم الأَرض مُمهدة كمهد الصبى، مبسوطة بحيث تستطيعون التقَلُّب فيها، والاستقرار عليها، والانتفاع بها، وفتح لكم فيما بين وِهادِها وجبالها ووديانها سبلا وطرقا، تسلكونها من بلد إِلى بلد، ومن قطر إِلى قطر، لتستكملوا منافعكم، وتحققوا مآربكم، مما يكون متيسرًا لدى غيركم، ومفقودًا أَو قليلا عندكم.
وعلى الثاني يكون المعنى: هو الله الذي أَنعم عليكم بنعمه العظيمة، حيث جعل لكم الأَرض مبسوطة كمهد الصبى، وفتح لكم فيما بينها طرقا .. الخ.
{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} :
إِما أَن يراد من السماء السحاب، وإِما أن يراد ما فوقها، فعلى الأَول يكون قد عبّر بالسماءِ عن السحاب، لأَن كل ما علاك سماءٌ، ونزول الماء من السحاب أَمر واضح لا ريب فيه، وعلى الثاني يكون إنزاله من السماء بمعنى إنزاله بسببها، فإن السحاب يتكون من بخار الماء الناشيء عن حرارة الشمس المسلطة على المحيطات والبحيرات، والأرض المرويَّة، وفيما يلى معنى الآية على الوجهين معًا:
المعنى: وهو الذي أَنزل من السحاب أَو بسبب الشمس التي هي في السماءِ، أَنزل ماءً بقدر معلوم، بحيث لا يضر مصلحة البشر، فيغرقهم، فأَخرجنا به أشباهًا ونظائر من النبات، متفرقة في خصائصها، حيث ترونها مختلفة الطعم والشكل واللون والرائحة، مختلفة النفع للإِنسان في بناءِ جسده وعلاجه من أَمراضه، وللحيوان كذلك، وهى مع اختلافها متزاوجة، ومتشابهة في عموم النفع والجمال والنضرة والبهجة، كما أَنها متزاوجة حيث توجد بين أَصنافها الذكورة والأنوثة {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (1).
قالوا: ومن نعمته تعالى، أن أَرزاق العباد تقوم على الأَنعام، وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم، ولا يستسيغون أَكله، وبعد أَن بين نعمه على خلقه بإنبات أَصناف النبات، أَباحها لهم ولأَنعامهم بقوله:
(1) سورة المؤمنون، من الآية: 14
54 -
{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} :
أَي كلوا ما يصلح منها لأَكلكم، وأَطعموا أَنعامكم في المسارح والمراعى ما لا يصلح منها لكم، إن فيما ذكر من النعم لبراهين عظيمة، لأصحاب العقول السديدة، التي ينهون بها النفس عن الغواية، ويبعدونها عن القبائح، منها يستدلون على وجود الخالق العظيم، والمدبر الحكيم، والبرّ الرحيم.
المفردات:
{وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} : أي ومن الأرض نخرجكم مرة ثانية حين البعث والحساب، والتَّارة كل فعلة متجددة. {أَبَى}: امتنع عن الإيمان وكرهه، يقال أَباه إباءً وإباءَة بكسر همزتها الأُولى كرهه. {مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ}: أَي وعدًا أَو زمانًا موعودًا نلتزم به.
{مَكَانًا سُوًى} : بضم السين وكسرها أَي مكانًا منتصفًا تستوى مسافته بيننا وبينك، أو مستويًا ليس به ارتفاع أَو انخفاض. {يَوْمُ الزِّينَةِ}: هو يوم عيد لهم يجتمعون فيه مع البهجة والزينة. {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} : الضحى يؤَنث ويذكر، ووقته حين ارتفاع الشمس بدون إِبعاد في الارتفاع.
{فَجَمَعَ كَيْدَهُ} : أَي مكره وحيل سحْرِه. {وَيْلَكُمْ} : دعاءٌ عليهم بالويل وهو الهلاك.
{فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} : أَي فيستأْصلكم به، يقال: أَسحته وسحته بفتح الحاءِ. بمعنى أهلكه.
{وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} : أَي خسر وهلك من اختلق الكذب.
التفسير
55 -
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} :
المعنى: من الأَرض بدأْنا خلقكم - فإِن خلق أَبيكم آدم عليه السلام من ترابها وخلقه أَصل لخلق كل فرد من أَفراد البشر، حيث إِن لكل منهم حظًّا من خلقه عليه السلام، انطوت عليه فطرته، وقيل المعنى: خلقنا أَبدانكم من الأَرض، فإِن النطف التي هي أَصلكم تولدت عن الأَغذية التي نبتت ونمت في تراب الأرض الممتزج بالماء. وبهذا يظهر في وضوح أَنه سبحانه خلقنا من الأَرض، {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}: أي وفي الأَرض نرجعكم إِذا متم وتفرقت أَجزاؤُكم وبليت أَجسادكم، وإِيثار التعبير بقوله:{وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} على {وإِليها نعيدكم .. } للإِشارة إِلى الاستقرار الطويل بعد العودة إليها.
{وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} : أَي ونخرجكم من الأرض ونحييكم مرة أُخرى للبعث والحساب والجزاءِ، وكون هذا الإخراج حصل مرة أخرى، باعتبار أَن خلق أَبينا آدم من الأَرض إخراج لنا منها أَولا، وإِن لم يكن إِخراج البدءِ وإخراج الإِعادة متساويين من كل وجه، وهذه الآية كقوله تعالى:{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تموُتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} (1).
56 -
{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} :
حكاية لما جرى بين موسى عليه السلام وفرعون عليه لعنة الله، وقد صدرت الآية بالقسم إِظهارًا لكمال العناية بما تضمنته من الآيات الدالة على نبوة موسى عليه السلام، وأَنها عرضت على فرعون فعاينها كلها وأَبصر إِعجازها.
والمراد بالآيات التي شاهدها فرعون، جميع المعجزات ما يتصل منها بالتوحيد، وما يتصل منها بنبوة الكليم، قصدًا إلى إِلزامه الحجة، حتى يستجيب إِلى دعوة الحق، ويتخلى عن
(1) سورة الأعراف، الآية: 25
الكفر والعناد، ولكنه عكس الآية، وجعل أسباب الهدى والطاعة، دوافع إلى الزيغ والتمادى في الضلال وهذا ما يحكيه الله تعالى بقوله:(فَكَذَّبَ وَأبَى) أي فكذب بالآيات، أو كذب موسى عليه السلام من غير تردد أو تأخر، وكره الإيمان وأعرض عنه جحودا واستكبارًا.
57 -
{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} :
الآية بيان لكيفية تكذيب فرعون وإبائه، أَي قال: نحن ننكر عليك مجيئك إِلينا، لإِنجاء بنى إسرائيل من بيننا، بل لإخراجنا من أَرض مصر بما أَظهرته من السحر، حتى تكون خالصة لك ولقَومك، فكيف تخرجنا منها بسحرك! وهى أَرضنا وأرض أَجدادنا، وإِنما قال ذلك، لحمل قومه على بغضه ومقته، وإثارتهم للانتقام منه، حيث أَوضح لهم أَن مراده ليس إِنجاءَ بنى اسرائيل وتخليصهم، بل إِخراج المصريين من أَرضهم، والاستيلاءَ على أَموالهم، واسترقاق ذراريهم، حتى يبتعدوا عنه، ويبالغوا في عداوته ومدافعته.
وتسمية المعجزة سحرًا، لأَنه لم يدرك حقيقتها بعد، ولهذا توعد موسى بأَنه سيأتيه بسحر مثلها على أَيدى سحرته فقال:
58 -
{فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ .... } الآية.
أَي ما دام الذي جئت به سحرًا فلنعارضك بسحر مثل الذي أَتيتنا به، ليتبين للناس أَنه من صنعك، وليس هو من عند ربك، ثم قال لموسى عليه السلام:
{فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ} : أَي فاجعل لاجتماعنا بك وعدًا أَو زمانًا موعودًا، لا يقع إخلافه منا ولا منك، وإِنما نلتزم جميعًا الوفاءَ به، واجعل موعدنا معك {مَكَانًا سُوًى}: أَي اجعله في مكان نَصَفٍ وعَدلٍ، تستوى مسافته بيننا وبينك، وبهذا قال كثير من أَهل التفسير. وأخرج ابن أبي حاتم عن أَبي زيد أَنه قال:{مَكَانًا سُوًى} أَي مكانًا مستويًا من الأرض، بحيث يرى فيه بعضنا بعضًا، ويرى كل المشاهدين ما يصدر منك ومن السحرة، وفيه إِظهار الجلادة وقوة الوثوق بالغلبة ما فيه.
واختار الآلوسى ذلك في تفسيره، وقال إنه حسن جدًا، وقد فوض فرعون إلى موسى عليه السلام أَمر الوعد الذي طلبه منه، مع إعلانه الوفاء به، ليثبت لنفسه أَنه متمكن من تهيئة أَسباب المعارضة، وإِعداد وسائل المغالبة طال الأَمر أَو قصر، قاصدًا إِلى إِرهاب موسى عليه السلام منه ومن سحرته، ولكنه عليه السلام فَوت عليه ما قصد إِليه، فأَسرع إلى الاستجابة إِلى طلبه بما حكاه الله عنه بقوله سبحانه:
59 -
{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} :
أَي وقت وعدكم يوم الزينة، وهو يوم عيد لهم يجتمعون فيه ويمرحون، ويفاخرون ويزدانون فيه بأَنواع الزينة، أَو هو يوم سوق لهم يزِّينونه ويتزَينون له، وقيل غير ذلك.
وأياما كان المقصود به، فهو يوم معروف عندهم بأنه يوم اجتماع لهم وزينة، وبسبب ذلك اختاره موسى عليه السلام للاجتماع الذي طلبه فرعون، حتى يشهد العدد الكثير بطلان معارضة السحر لخوارق الآيات النبوية، ليكون انتصار الحق، وخذلان الباطل في يوم مشهود، ويشيع أَمره بين القاصى والدَّانى.
ولم يكتف موسى عليه السلام بتحديد ذلك، بل جعل إِبراز المعجزة في وقت يكثر فيه اجتماع الناس في ذلك اليوم حيث قال:
{وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} : أَي موعدكم يوم الزينة وقت الزينة وقت أَن يجتمع الناس فيه وهو وقت الضحى، حين يبدأُ ارتفاع الشمس في الأُفق ليكون الوقت مُتَّسعًا لأن يأْتوا بكل ما عندهم من سحر وإفك، قطعًا لعذرهم وإظهارًا لعجزهم، وإِبرازًا لخسرانهم، وبعد أَن استمع فرعون إِلى قول موسى عليه السلام، وقع منه ما حكاه الله جل شأْنه بقوله سبحانه:
60 -
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} :
أَي فانصرف عن المجلس بدون إِبطاء، فأَخذ في جمع السحرة من أَرجاءِ مملكته، للاستعانة بما لديهم من حيل ومكر قائلًا:{ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} (1) فجمع السحرة، وأَخذ يرغبهم ويعدهم بالغلبة، وعظيم المكافأَة، وذلك ما يحكيه الله بقوله:
(1) سورة يونس الآية: 79
(2)
الشعراء، الآيتان: 4
61 -
{قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ..... } الآية.
لم تذكر هذه الآية إِتيان موسى عليه السلام الموعد للإِيذان بأَنه محقق لا شك فيه، أَي أَنه أتى، وعند لقائهم تحدث إِليهم بما حكاه الله عنه بقوله سبحانه:{قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} : أي قال لهم موسى: عذابًا لكم وقبحا لصنيعكم الذي تخيلون به للناس أَشياءَ لا حقائق لها، لا تختلقوا الكذب على الله بزعمكم أَن ما أَتيتكم به من المعجزة سحر يمكنكم أَن تَنْقَضُّوا عليه بسحركم.
{فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} : أي فيستأْصلكم الله بعذاب شديد بسبب افترائكم الكذب عليه، وقد استحق الخيبة والحرمان من رحمة الله وثوابه من اختلق عليه الكذب، ونسب إليه ما لا يصح نسبته إِليه، كدعواكم فضل السحر على المعجزة المؤيدة لرسوله، فلا تكونوا أيها السحرة من المفترين.
المفردات:
{فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} : أَي تخاصموا بينهم في أمر معارضته وكيفيتها.
{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} : النجوى: المسارَّة في الحديث، وإِسرار النجوى: المبالغة في إِخفائها.
{بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} : بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب.
{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} : أَي ائتوا بكل حيلة لكم ومكر.
{مَنِ اسْتَعْلَى} : من طلب العلا وسعى سعيه.
التفسير
62 -
{فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} :
لما سمعوا كلامه عليه السلام حين أنذرهم وحذرهم عاقبة أَمرهم، فَكَّرُوا فيما طرق أَسماعهم فتناولوا أَمرهم الذي طلب منهم أَن يفعلوه، وهو مغالبة موسى والانتصار عليه. وتشاوروا بينهم في رسم الطريقة الناجحة في معارضته والانتصار عليه، وأَسرُّوا الحديث الذي دار بينهم مبالغة في إِخفائه عن موسى وهارون عليهما السلام. وكانت نتيجة نجواهم - على ما قاله جماعة منهم الجبَّائي وأَبو مسلم - ما حكاه قوله تعالى:
63 -
{قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ
…
} الآية.
أَي صدر عنهم بعد المناقشة والمناظرة قولهم الذي اتفقوا عليه وأكدوه، وهو اتهام موسى وهارون عليهما السلام بالسحر، وأَنهما خبيران بصناعته، يريدان أَن تكون لهما الغلبة عليكم، وأَن يستتبعا الناس لهما، ويقاتلاكم فَينتَصرا عليكم ويخرجاكم من أَرضكم مصر بسحرهما الذي أَظهراه.
{وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} : أي يبطلا مذهبكم الذي هو أَمثل المذاهب وأَفضلها وهو ما كان عليه فرعون، وإنما يفعلان ذلك رغبة منهما في إظهار مذهبهما وإِعلاء دينهما، وقيل: ويذْهبا بأَهل طريقتكم المثلى، وهم أَشرافكم وذوو الرأْى فيكم، ولقد جاءَ هذا الرأْى من السحرة في حق موسى وهارون، متابعةً منهم لفرعون وموافقةً على ما قاله للملإِ حوله، وذلك ما حكاه في سورة الشعراء:{قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} (1).
64 -
{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا .... } الآية.
كأَن بعضهم قال لبعض: ما دام أَمر موسى وهارون كما ذكر من كونهما ساحرين، يبتغيان الاستيلاءَ على أَرض مصر، وإِخراجكم منها، فأجمعوا كل كيْد لكم، وكونوا صفًّا واحدًا ورأْيًا مجتمعًا، بحيث ترمون به عن قوس واحدة، فإِن ذلك أَدعى إلى هيبتكم، وإِبراز كثرتكم، ولذلك أَثره في أَن تكون لكم الغلبة عليهما.
(1) ولقد أجابه موسى بذلك في قوله: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} من الآية 57 من الس
ونقل خلاف كثير في تعيين عدد السحرة، ولكن مما لا شك فيه أَنه كان عددا كثيرًا، ليواجه به فرعون ذلك الموقف الرهيب الذي أحس برهبته حين قال:{ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} .
{وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} : هو الذي ختمت به الآية، محكِيًّا عن السحرة، يؤكدون به فوزهم بالمطلوب لهم، من المكافأة التي وعدهم بها فرعون، إن كانوا من الغالبين.
أَي .. وقد فاز بالنصر والجائزة من استعلى، أَي من علا وغلب موسى وعصاه بسحره، وقيل: إِن السين والتاءَ هنا للطلب، أَي وقد أَفلح من استحق الموعود به من طلب العلا فبذل جهده، وسعى سعيه بتقديم كل ما يستنصر به من تخييل وخدل، وحيلة وخفة يد حتى تتم لهم الغلبة يوم اللقاءِ.
المفردات:
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} : الإيجاس: الإخفاءُ والإِضمار والخوف، أَي أَضمر في نفسه الخوف مما فوجىءَ به. {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا}: لَقِفَه - من باب عَلِمَ - يلقفه لقفًا بالقاف الساكنة، ولقفا بالتحريك تناوله بسرعة، والمراد أَنها ابتلعت ما ألقوه بسرعة.
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} : أي خرُّوا خاضعين لله تعالى، وسُجدا جمع ساجد.
التفسير
65 -
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} :
لما أَتم السحرة استعدادهم، أقبلوا على موسى عليه السلام بجمعهم الحاشد قائلين: إما أَن تلقى ما عندك قبلنا، وإما أَن نكون أول من يُلْقى ما عنده، وكان تخييرهم له عليه السلام، إظهارًا لقوتهم وكمال ثقتهم بالانتصار عليه تقدم أَو تأَخر.
66 -
حينما سمع موسى عليه السلام ما خيروه به، أجابهم باختياره أن يلقوا أَولًا، ليظهر لهم عدم اكتراثه بسحرهم، وليبرزوا أَقصى ما معهم من وسائل التمويه، والخداع، ويستفرغوا جهودهم في معارضته، لثقته بأَن الله سيُظهره عليهم. فأَلقوا ما أَعدُّوه لمنافسته ومغالبته من الحبال والعصى.
{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} : أَي فأَلقى كل ساحر ما معه، ففاجأَ موسى عليه السلام في هذا الوقت .. أَن حبالهم وعصيهم بسبب سحرهم تتحرك وتسير، قال الكلبى: خيل لموسى أن الأرض حياتٌ، وأَنها تسعى على بطنها.
وما وقع من موسى عليه السلام ليس أمرًا غريبًا أن يصدر من بشر رأى قومًا اشتهروا بالسحر، وأَجادوا طرقه وأحكموا وسائل التَّمويه، وصرْف الأعين عن رؤية الواقع.
67 -
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} :
المعنى: فأضمر موسى عليه السلام في نفسه شيئًا من الخوف من مفاجأَة ما رأى بمقتضى الطبيعة البشرية عند رؤْية الأمر المخيف، إِذ هي مجبولة على النَّفْرَة من الحيَّات، وضررها الذي اشتهرت به، وقيل خاف أَن يفتتن الناس بالسحرة، ويغترُّوا بهم قبل أن يُلقى العصا، ويستمروا في اغترارهم إِلى ما بعد إِلقائها وفتكها بسحرهم، تعصُّبًا منهم لبنى قومهم.
68 -
{قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} :
أي قلنا له: لا تستمر على خوفك الذي أَضمرته في نفسك، لأَنك أنت الغالب لهم، المنتصر عليهم عند لقائك بهم - وغلبتك محققة لا شك فيها، كما يؤذن بذلك النظم الكريم المشتمل على جملة من التأْكيدات لا تخفى على فطنة الق
69 -
{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا .... } الآية.
المعنى: وأَلق يا موسى عصاك، وعبَّر عنها هنا بقوله سبحانه:{مَا فِي يَمِينِكَ} ، إِما تصغيرًا لها، فكأنه قيل له: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العود الصغير الجرم الذي في يمينك، وإِما تهويلًا لأَمرها وتفخيمًا لشأنها، وإشعارًا بأَنها ليست من جنس العصى المعهودة، لما لها من آثار عظيمة، وأَفعال غريبة، فكأَنه قيل له: لا تحفل بهذه الأَجرام الكثيرة الكبيرة، فإِن ما في يمينك أعظم منها، وهذه على كثرتها أضعف منها، فأَلقها يا موسى:{تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} : أَي إن تلقها تقلف الذي صنعوه من حبالهم وعصيهم التي تسعى، لأن الله يحولها إلى تنِّين عظيم، أي حية هائلة، تبتلع ما ألقوه بسرعة فائقة، والتعبير عما أَلقوه بقوله:{إِنَّمَا صَنَعُوا} للإشارة إلى أَن ما شوهد من سعيها، إنما هو من تمويههم وصنعهم الذي هو كيد ساحر قصد به فتنة الناس وإضلالهم، والتمكين لفرعون وحكمه، وليست له حقيقة:{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} : أَي ولا يقدر ولا ينجو حيث جاء، وأَين أَقبل وحيث احتال.
70 -
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} .
حينما عاين السحرة ما حدث بعد إِلقاء موسى عصاه، وشاهدوه مشاهدة إِمعان وتأَمل، علموا علم اليقين أن ذلك معجز وليس من قبيل السحر والتمويه، وإِنما هو حق لا شك فيه، ولا يقدر عليه إلَّا الذي يقول للشيء كن فيكون، لأنه بمعزل عن السحر الذي استفرغوا جهدهم للإحاطة بفنونه، وطرقه وكل وجوهه، وأدركوا أنه فوق قدرة البشر، حيث تأَكد لهم أَن الله سبحانه هو الذي غيَّر مادة العصا إلى ثعبان عظيم أَباد حبالهم وعصيهم أَصلا وصورة، ولو كان ما صنعه موسى سحرا لبقيت الحبال حبالا والعصى عصيا بعد أن أبطلت العصا سحرهم فيها، ولما وَقَرَ هذا في قلوبهم اتجهوا إلى موسى فوقع كل منهم على وجهه ساجدًا لله إِعلانًا لتوبته وإِيمانه بالله وبرسالة رسوله موسى عليه السلام، حيث:{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} وكفرنا بفرعون وبما يدعونا إِليه، قال ابن عباس وعبيد بن عمير:"كانوا أَول النهار سحرةً، وفي آخر النهار شهداءَ بررة ": فقد قتلهم فرعون بعد إِيمانهم بموسى كما سيجىءُ بيانه، وعن عكرمة: لما خَرُّوا سجدًا أَراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة، وقد اخلف العلماءُ في عددهم. فمنهم من أَنهم إِلى ثمانين أَلفا، كمحمد بن كعب، ومنهم من قال: إِنهم سبعون ألفًا كالقاسم
ابن أَبي بزَّة، وقال السدِّى: كانوا بضعة وثلاثين الفًا .. إِلى غير ذلك من الأَقوال - والله أَعلم بعددهم، فليس أَمامنا ما يدل على صحة هذه الأَقوال المتباينة. والتعبير في الآية بقوله سبحانه:{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} دون فسجدوا إِشارة إلى أنهم رَأوْا ما ألجأَهم فلم يتمالكوا حتى وقعوا على وجوههم ساجدين.
المفردات:
{قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} : أَي وقع إيمانكم من غير أن أُبيحه لكم، وأَصل آذن؛ أَأْذنَ مضارع أَذِنَ. قلبت الهمزة الثانية الساكنة ألفًا تخفيفًا. {وَالَّذِي فَطَرَنَا}: أوجدنا (1).
(1) وهو من باب خلق.
{لَنْ نُؤْثِرَكَ} : (1) لن نفضلك. {لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} : مفرد خطايا: خطيئة وهى الذنب المتعمد كالْخِطءِ بكسر الخاء، أَما الخَطأُ بفتح الخاءِ فهو ما لم يُتعمد، ويريدون بخطاياهم، الكفر والمعاصي. {جَنَّاتُ عَدْنٍ}: أَي جنات إِقامة يقال: عدن بالمكان عدْنًا وعُدُونًا من بابيْ ضرب وقعد: أي أَقام. {مَنْ تَزَكَّى} : صلح واهتدى.
التفسير
71 -
يخبر الله سبحانه عن فرعون أَنه تمادى في عناده ومكابرته حين رأَى ما أَذهله من المعجزة الباهرة والآية العظيمة، ومن إيمان من استنصر بهم من السحرة أَمام جموع الناس وحشودهم، حين رأَى ذلك توعد كل من آمن بأَقسى وسائل التنكيل والتعذيب، بسبب إِيمانهم الذي أَنكره عليهم أَشد الأَنكار، وعدَّه جريرة تستوجب كل ما ينزل بهم من عقاب وعلى أَي وجه كان، وقد بيَّن جرمهم وفق فهمه السقيم بقوله:{آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} : أَي أَن إِيمانكم بموسى عليه السلام وقع افتياتا منكم على سلطانى، لأَنه من غير أن آذن لكم به، قال ذلك ليُرِى قومه أن إِيمانهم غير معتد به حيث كان من غير إِذنه، ثم قال قولًا يعلم هو والسحرة والناس كلهم أنه افتراءٌ وبهتان، وهو نسبته إِيمانهم بموسى بعد أَن غلبهم إِلى أَنهم تعلموا السحر من موسى، فهو كبيرهم ومعلمهم، فلهذا تواطئوا معه على كل ما حدث، وقد حكى الله ذلك بقوله:{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} : أَي إنه رئيسكم ومعلمكم السحر. فتواطأْتم على ما فعلتم، واتفقتم عليَّ وعلى رعيَّتى لتظهروه، كما في قوله تعالى:{إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} (2). وقد أَراد فرعون بقوله هذا أَن يشيع بين قومه الشك والريبة، توجيهًا لهم إلى عدم الاكتراث بما أَظهره موسى عليه السلام من المعجزة الباهرة، وبما أَعلنه السحرة من الإيمان، حتى لا يتبعوهم، فيؤمنوا كإِيمانهم، وإِلَّا فقد علم فرعون أَن موسى لم يعلمهم السحر، فقد عَلِمُوه قبل قدومه عليهم بل قبل ولادته، ثم توعد الذين آمنوا وعيدًا قاسيًا بقوله:{فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} : أَي فأقسم: لأُقطعن أَيديكم وأَرجلكم مختلفات،
(1) مضارع آثره: أي فضله.
(2)
سورة الأعراف، من الآية: 123
اليد اليمنى والرجل اليسرى، واختار التقطيع على هذه الكيفية دون التقطيع من وفاق تنكيلًا كما أقسم: لأُصلبنكم أَيضًا في جذوع النخل، وقد نفذ وعيده فقطع وصلب حتى ماتوا رحمهم الله قال ابن عباس:(فكان أول من فعل ذلك) رواه ابن أَبي حاتم. وإيثار كلمة (فِي) في قوله: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} للدلالة على بقائهم على الجذوع زمنًا طويلًا كأنها محبس لهم، وظرف احتواهم.
{وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} : أَي وأُقسم إِنكم لتعلمن علمًا لا شك فيه مَنْ منا أَشد عذابًا للناس وأدوم، أَهو موسى، أم أَنا الذي خذلتمونى بتواطئكم معه؟ وقصده من وعيده هذا إظهار صلفه وكبريائه، واقتداره على التعذيب الشديد، واستضعاف موسى والهزءُ به، لأَن موسى عليه السلام لم ينل أحدا بشيءٍ من التعذيب. وقيل: معناه أي الإِلهين أشد عذابًا وأَدوم، أنا أَم إِله موسى.
72 -
{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ..... } الآية.
المعنى: أنهم أَجابوه على وعيده وتهديده قائلين له في غير اكتراث به وبصنيعه لن نفضلك على ما جاءَنا من الله سبحانه وتعالى من المعجزات الظاهرة على يد موسى عليه السلام، وقيل: لن نفضلك على ما عَلِمْنَاه من الحق واليقين، ولن نركن إليك بتفضيلك على الله الذي خلقنا وسائر الناس، ولم نكن شيئًا مذكورًا، وقيل: إِن لفظ {وَالَّذِي فَطَرَنَا} قسم جوابه محذوف دل عليه ما قبله، وهو قوله:{لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} : أَي وحق الذي خلقنا لن نؤثرك على الذي جاءَنا من الله على يد موسى عليه السلام من الآيات الباهرة.
{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} : أَي فافعل ما شئت واحكم بما أَنت حاكم به، لأَنك {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}: يعنون أَنه إِنما ينفذ أَمره وقت هذه الحياة. ولا يقضى فيها إلَّا بمتاع أو عقاب، وما لهم من رغبة في خيرها وزينتها، ولا رهبة من عسرها وعقابها، وهذه الجملة التي ختمت بها الآية وما بعدها تعليل لعدم المبالاة المستفاد من قوله:{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} .
73 -
أَي صدقنا بالله وحده لاشريك له، رجاءَ أن يغفر لنا ربنا ما اقترفناه من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذنا بها في الدار الأُخرى، أما الدار الفانية فليس لنا مآرب فيها حتى نتأَثر بما ينزل بنا من نكال، كما نضرع إليه أَن يغفر لنا السحر الذي أَكرهتنا على المعارضة به،
قال أبو عبيد: إِذا أَمر السطان أَحدًا بفعل شيءٍ فقد أكرهه على فعله، وإن لم يتوعده، لما في مخالفة أَمره من توقع العقوبة، ولا سيما إِذا كان السلطان طاغية جبارًا، وإِلى هذا الرأْى ذهب الحنفية في أَحكمامهم الفقهية. انتهى ملخصًا، ولا ينافى هذا قولهم في آية أُخرى:{بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} فإِنهم قالوه مرضاة لفرعون الذي أَجبرهم، وقد أَفردوا الإِكراه على السحر بطلب المغفرة إِظهارًا لشدة نفرتهم منه وقوة رغبتهم في مغفرة الله {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}: أي والله خير لنا إن أَطعناه، وأَبقى عذابًا منك إِن عصيناه، أَو والله خير في ذاته وصفاته، لأنه الخالق الرازق وله الأَمر كله، وأَبْقى جزاءً، ثوابًا كان أَو عذابا.
74 -
{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} :
قيل: هذه الآية والآيتان بعدها من قول السحرة لما آمنوا، وقيل: بل هي من كلام الله لبيان قاعدتين عامتين في الإِسلام: وهما عقاب المجرمين، وثواب الصالحين.
والمعنى أَن من يلقى الله يوم القيامة على الكفر والمعاصي، فهو مستحق لأَن يكون له جهنم دار إقامة دائمة لا يموت فيها لينهى عذابه، ولا يحيى حياة ناعمة وذلك كقوله:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (1).
75 -
{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} :
أَي ومن يوافه مؤمنًا به تعالى، وبما أيد به رسله من المعجزات العظيمة التي من جملتها ما شاهدناه، وقد عمل الطاعات اتباعًا لما أَمر به سبحانه ونهى عنه، فأُولئك ينزلهم ربهم أَعلى الدرجات وأَعظمها التي تقصر دونها الصفات.
76 -
الآية بيان للدرجات التي استحقها أولئك المؤْمنون، أَي أَن لهم الجنات دار إقامة وهى على أكمل صورة وأَجمل إِعداد، حيث تجرى من تحت غرفها وأَشجارها الأَنهار التي تملأ النفوس متعة وبهجة، ماكثين فيها أبد الآبدين وذلك جزاءُ من تطهر من الكفر والمعاصي وعبد الله وحده، لا شريك له.
(1) سورة فاطر، الآية:
وعلى ما قيل: من أن الآيات الثلاث التي بُدِئَتْ بآية: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} إلى آخر هذه الآية، من قول السحرة .. يحتمل أَنهم سمعوا ما قالوه من موسى أَو من بنى إِسرائيل الذين كانوا بمصر أو ممن آمن من آل فرعون، وكان فيهم المؤمن الذي يكتم إيمانه ويحتمل أَن يكون ذلك إلهامًا أَنطقهم الله به لما آمنوا.
المفردات:
{أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} : أَي سِرْ بهم ليلا: تقول سريت الليل وسريت به إِذا قطعته بالسير، وأَسرَى لغة حجازية. (يَبَسًا): اليَبَس بالتحريك المكان الذي كان فيه ماءٌ فذهب ماؤُه وفعله يبِس من باب علِمَ وفي لغة يَبِس يَيْبِسُ بكسر الباءِ فيهما ..
{دَرَكًا} الدَّرَكُ: اللحاقُ أَي لا تخاف أَن يلحقكَ فرعون وجنوده.
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} : أَي سار خلفهم حتى اقترب منهم، يقال أَتْبعهُ وتَبعهُ بمعنى واحد.
{فَغَشِيَهُمْ} : أَي أَصابهم. {مِنَ الْيَمِّ} : من البحر.
التفسير
77 -
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي
…
} الآية.
كان فرعون قد وعد موسى عليه السلام أَن يرسل بنى إِسرائيل معه، ويطلقهم من أَسره وقهره بعد أَن ظهر موسى بآياته عليه، ولكنه كان يماطل في الوفاء فينزل به الله وبقومه آيات العذاب، وكان كلما نزلت به آية، وعد عند انكشافها أن يفى بوعده، حتى إِذا انكشف العذاب خاس بعهده، فلما كملت الآيات البينات التي تتابعت عليه لنحو عشرين سنة، بعد ما غُلِبت السحرة (1) أَوحى الله إلى موسى أَن يرحل عن مصر ببنى إسرائيل لإِنقاذهم من
(1) أخرجه الإمام أحمد في الزهد وغيره عن نوف الشامى كا ذكره الآلوسى أثناء شرحه لقوله تعالى {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} في سورة الأعراف.
ظلم فرعون وطغيانه، وأَن يكون رحيله عنها ليلا حيث يقول سبحانه:{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} وقد أتت الجملة مصدرة بالقسم إبرازًا لكمال العناية بمضمونها.
والمعنى: والله لقد أَوحينا إِليه آمرين إِياه أَن يسير ببنى إِسرائيل في الليل حفاظًا عليهم حتى لا يتعرضوا لمنع فرعون. ويقعوا في قبضته. فيذيقهم أَشد العذاب، ولما خرج بنو إِسرائيل بصحبة موسى وتم لهم ذلك أَصبحوا وليس لهم بمصر داع ولا مجيب، فغضب فرعون أَشد الغضب ودفعته شهوة الانتقام إِلى الإِسراع في جمع جنده وقواده قائلا لهم:
{إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} (1) ولما أَعد للأَمر عدته، سار بمن معه يتبع موسى وقومه، وقد بكروا {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ}: أَي عند مطلع الشمس، ولما تراءَى الجمعان نظر بعضهم إلى بعض، فقال أَصحاب موسى عليه السلام {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (2). تثبيتًا للأَقدام، وتطمينًا للقلوب، وكان البحر أَمامهم والعدو خلفهم. عند ذلك أُمِر موسى عليه السلام أَن يفعل ما أَشار إِليه قوله تعالى:{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} (3): أَي فَاضرب لهم البحر بعصاك لتتخذ لهم من المكان الذي ضربته فيه طريقا يبسًا لا ماءَ فيه ولا طين. فهو مصدر وصف به مبالغة: بمعنى أَنه يابس جاف يتسنى السير فيه بيسر وسهولة. {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} : أَي تفعل هذا وأَنت في حال لا تخاف أَن يلحقكم فرعون وقومه من ورائكم، لأَنك ومن معك في رعايتى ولا تخشى أَن يغرقكم البحر من حولكم، إِذ لا يحدث شىءٌ في الكون إلا بإِرادتى.
78 -
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ .... } الآية.
الفاءُ في قوله {فَأَتْبَعَهُمْ} تشير إِلى مضمر طوى ذكره، ثقة بغاية ظهوره. وتنويهًا بكمال مسارعة موسى إِلى الامتثال.
والمعنى: ففعل موسى عليه السلام ما أَمرناه به في السير ليلا. فضرب لهم طريقا في البحر بعصاه، وسلكه بمن معه، فأَتبعهم فرعون بجنوده بحرًا كما أَتبعهم بهم برًا، أَي
(ا) سورة الشعراء، الآيتان: 54، 55
(2)
سورة الشعراء، من الآيتين: 61، 62
(3)
وقرىء يبْسا بإسكان الباء، وهو إما مخفف من المحرك أو صفة مشبهة كصعب أو جمع يابس كصحب جمع صاحب، ووصف به الطريق الواحد للمبالغة بجعل الطريق لفرط يبسه كأشياء يابسة أو يراد به الجنس، وكان متعددًا لتعدد الأسباط.
تبعهم وسار في أثرهم، حتى إذا استُكْمِلُوا دخولا، خرج موسى بمن معه إلى الشاطىءِ الشرقى من البحر سالمين، ولم يخرج أَحد من فرعون وجنوده، حيث حاق بهم ما كانوا به يستهزئون ويراد بالبحر: بحر القلزم وهو المعروف الآن بالبحر الأَحمر {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} : أَي فعلاهم وغمرهم ما غمرهم، من الأمر الهائل المروع الذي يعجز البيان عن وصفه، حيث انطبق عليهم الماءُ فأَغرقهم فهلكوا جميعًا، ونجى الله فرعون وأَبقاه ببدنه خاليًا من الروح في اليوم الذي نجى الله فيه موسى وبنى إسرائيل من الغرق، ليراه بنو إسرائيل بعيونهم، فيطمئنوا ويؤْمنوا بهلاكه، وكانوا من ذلك في شك مريب، ولتكون قصته آية وعلامة لمن وراءَه من أَهل عصره ومن يأْتى بعده. تبين لهم العاقبة المحتومة لكل جبار عنيد، وإِلى ذلك يشير قوله تعالى:{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (1).
79 -
{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} :
أي وأَضلهم عن الرشد، وما هداهم إلى الخير بل سلك بهم مسلكًا أَوصلهم إِلى الهلاك في الدنيا والآخرة. حيث أُغرقوا فأُدخلوا نارًا خالدين فيها، والجملة تأْكيد لإِضلاله إِياهم.
المفردات:
{الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} : الْمَنُّ مادة حلوة لزجة تشبه العسل، وكانت تنزل عليهم من الفجر
(1) سورة يونس، الآية: 92
إلى طلوع الشمس كما قيل. والسلوى: السُّمَانى أو طائر يشبهه. {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} : الطغيان مجاوزة الحَدِّ، ويراد منه في الرزق تجاوز المأمور به في أكله.
{فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} : أَي يجب ويلزم. {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي} : أَي ينزل به، وفي المصباح حلَّ العذَاب يحُل بضم الحاءِ في المضارع وكسرها، أَي نزل. انتهى بتصرف.
التفسير
80 -
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ
…
} الآية.
حكاية لِمَا خاطب الله سبحانه به بنى إِسرائيل بعد إِغراق عدوهم، لِتذكيرهم ببعض نعمه العظيمة، وَمِنَنِهِ الكبيرة التي توالت عليهم، حيث يقول جل شأْنه:{قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} أي قد خلصناكم من أَسره وتعذيبه فيسرنا لكم الهجرة إلى سيناء برا وبحرا وحفظناكم من الغرق، وأَغرقنا فرعون وقومه جميعًا وأنتم تنظرون كما يقول تعالى:{وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (1). ثم بعد نزولكم سيناءَ قربناكم {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} : أَي وعدناكم أَن تأْتوا جانب الطور الأَيمن على لسان نبيكم موسى عليه السلام للمناجاة، حيث أَمرناه أن يأمركم بالخروج معه، ليكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام. وقيل: إِن الوعد كان لموسى، وخوطبوا به لأَنه كان لأَجلهم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} (2): أَي وقد أَنعمنا عليكم نعمة عظيمة اخرى، فأَطعمناكم طعامًا طيبًا مباركًا يسرناه لكم، وجعلناه في متناول يدكم حيث كان ينزل عليكم المن والسلوى، فيأْخذ كل منكم حاجته منهما بدون عناءٍ رعاية لكم في التيه، ورحمة بكم، وإحسانًا اليكم، ثم أمرهم أمر إِنعام بها وإباحة لتناولها فقال سبحانه:
81 -
{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ .... } الآية.
المراد من الطيبات لذيذ الرزق الذي تستطيبه النفوس وتستحسنه الطباع السليمة، وقيل: طيبات الرزق ما أَحله الله منه نوعًا وكسَبا، ولقد عقب الله هذه المنة بنهيهم عن
(1) سورة البقرة، الآية: 50
(2)
تقدم بيان المن والسلوى في المفر
الطغيان بقوله {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} : أَي ولا تطغوا بسبب الرزق بأن تحملكم السعة والعافية على العصيان لأَن الطغيان تجاوزُ الحد إِلى ما لا يجوز {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} : أي فيجب ويقع عليكم مقتى. {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} : أَي ومن ينزل عليه غضبي بسبب ارتكابه ما نهيته عنه، فقد هلك، وقِيل: فقد سقط وتردى في الهاوية وهى قعر جهنم.
82 -
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} :
وإنى لكثير المغفرة لمن تاب من شركه ومعاصيه وآمن بى وعمل صالحًا، ثم استمر مهتديًا. وقيل: المراد بقوله {ثُمَّ اهْتَدَى} ثم طهر قلبه من الأَخلاق الذميمة، كالعُجْبِ والحسد والكِبر وغيرهما، بعد ما آمن وعمل صالحًا، وقال ابن عطية: الذي يَقْوَى ويظهر في تفسير {ثُمَّ اهْتَدَى} أَن يكون المعنى ثم حفظ معتقداته من أَن تخالف الحق في شيءٍ من الأَشياءِ، فإِن الاهتداءَ على هذا الوجه غير الإِيمان وغير العمل، اهـ.
والتوبة التي أَشارت الآية إلى تكفيرها الذنوب والخطايا، هي التوبة النصوح؛ التي يقلع بها التائب عما كان فيه، ويعزم على أَلا يعود إليه أَبدًا، ويندم على ما فعل، فإن كانت المعصية في حق آدمى يزاد على ذلك أَن يبرأَ منها؛ برد الحق إِلى صاحبه إِن كان مالا ونحوه وبتمكينه من نفسه أَو طلب عفوه إِن كان حيًّا.
المفردات:
{مَا أَعْجَلَكَ} : ما حملك على العجلة والسرعة.
{هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي} : هم قادمون بعدى يسيرون على أَثرى.
التفسير
ذهب موسى لمناجاة ربه مع من اختارهم من قومه لصحبته في هذه المناجاة (1)، وغلبه الشوق إِلى مناجاة ربه فأَسرع إِلى مكان المناجاة وخلف قومه وراءَه فسأَله الله تعالى - وهو العليم - عن سبب العجلة منكرًا علية تركه للنقباءِ السبعين الذين اختارهم من قومه لصحبته قائلًا:
83 -
{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} :
أَىُّ شيءٍ حملك على العجلة؟ وكان الجواب المتوقع أَنْ يذكر سبب العجلة وهو شدة الشوق إلى الله، ولكن موسى فهم أَنه تعالى ينكر عليه تركه لقومه خلفه فقال:
84 -
{قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي} : أَي هم قادمون خلفى يتبعون أَثرى وسيلحقون بى سريعًا.
{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} : وأَسرعت إِلى مناجاتك طلبًا لرضاك يا ربى وتلبية لأَمرك، ذكر القاسمى:"أَنه سبحانه إنما أراد بسؤَاله عن سبب العجلة - وهو أَعلم - أَن يعلم موسى أَدب السفر، وهو أَنه ينبغي تأَخر رئيس القوم عنهم في السفر ليكون نظره محيطًا بطائفته ونافذًا فيهم ومهيمنا عليهم". وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، أَلا ترى أَن الله عز وجل علم هذا الأَدب لوطا فقال:{وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} (2) على أن موسى غفل عن هذا الأَمر مبادرة منه إِلى رضا الله عز وجل. ومسارعة إِلى الميعاد مع الرحمن وذلك شأْن الموعود بما يسره، يود لو ركب إِليه أَجنحة الطير، ولا أَسَرَّ من مواعدة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم.
{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}
المفردات:
{فَتَنَّا} : اختبرنا وابتلينا. {السَّامِرِيُّ} : نسبة إِلى سامراءَ، وينسب بعض الباحثين السامرى إِلى طائفة معروفة من اليهود باسم السامريين، وهم الآن طائفة صغيرة من اليهود تقيم في نابلس وتخالف سائر اليهود في عاداتها وتقاليدها (3).
(1) راجع تفسير الآية 142 من سورة الأعراف من التفسير الوسيط.
(2)
الحجر، من الآية 65
(3)
راجعه في قصص الأنبياء للشيخ النجار.
85 -
{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ ....... } الآية.
أَي قال الله تعالى لموسى: فإِنا قد أَوقعنا قومك في الابتلاءِ والاختبار ليظهر في واقع الأمر مدى صدقهم في الإِيمان وضعفهم فيه {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} : أَي حملهم على الضلال وفتنهم حتى عبدوا العجل، وسيأتى بيان ذلك تفصيلا
…
المفردات:
{أَسِفًا} : شديد الحزن. {طَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} : أَي طال عليكم عهد خروجى لإِحضار الألواح بما تحمله من أَوامر ونواهٍ. {بِمَلْكِنَا} : باختيارنا وإِرادتنا - يعنون أنهم مكرهون مضطرون. {أَوْزَارًا} : أَثقالًا أَو ذنوبًا. {عِجْلًا جَسَدًا} : صورة عجل مجسم في هيئة تمثال. {لَهُ خُوَارٌ} : الخوار صوت البقرة.
التفسير
86 -
{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ..... } الآية.
فعاد موسى إلى قومه وهو في أشد الغضب والحزن لكفرهم بعد الإِيمان وضلالهم بعد الهداية {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} : أي قالَ موسى موبخا لهم: يا قوم
ألم يعدكم ربكم وعدًا حسنًا بأن يعطيكم التوراة فيها هدى ونور، فكيف تعودون إلى الشرك بعد أن أَنقذكم الله منه؟ {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ}: أي أَفطال عليكم زمان مفارقة موسى لكم؟ أَو عهد إِنجائكم من فرعون مصر وإغراقه لمن ظلمكم {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} : أَي أَنكم بفعلكم هذا كأنكم أردتم أن يحل عليكم غضب ربكم، حيث أَخلفتم وعدكم إِياى بالثبات على الإِيمان بالله وتنفيذ ما أُمرتم به.
87 -
{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا .... } الآية.
قالوا: ما فعلنا ذلك باختيارنا {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} : ولكنا كنا نحمل أَعباءً وأحمالًا من ذهب المصريين فظنناها موضعًا للمؤاخذة لأنها ليست ملكًا لنا وإِنما استعرناها من المصريين في عيدنا لنردها إِليهم بعد حين: {فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} : فأَلقينا بها في النار تخلصًا منها كما فعل السامرى وكما أَمرنا.
{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ} : وكان السامرى ماهرًا في الصياغة فصنع تمثالًا ذهبيًّا للعجل أَبيس معبود المصريين قبل هجرة بنى إسرائيل من مصر، وجعله بحيث إِذا حُرِّكَ صدر منه صوت كخوار الثيران أَو جعل فيه ثقوبًا إِذا هبت فيها الريح أَصدر هذه الأَصوات، والماهرون في صناعة الدمى الآن يجعلونها تصدر بعض الأَصوات أو تحرك بعض الأَعضاء.
وأَجاز بعضهم أَن يكون السامرى قذف الحلى في النار بدعوى أَنها محرمة عليهم لسرقتهم إِياها من المصريين، واشترى لهم عجلا جسدا حيا، وسرق الذهب لنفسه.
{فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} : أَي قال السامرى ومن افتتن به وتابعه: يا قوم ها هو ذا إِلهكم وإِله موسى قد نسيه هنا وذهب يطلبه في الطور ويناجيه هناك، أو نسى موسى أُلوهيته. وضل الطريق إِلى ربه فخرج يبحث عنه، في حين أن هذا العجل هو ربه، وهكذا أَضلهم السامرى وفتنهم حتى عبدوا العجل.
89 -
{أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} :
الاستفهام هتا للتوبيخ، أَي أعمُوا فلم يروا أَن هذا العجل لا يتحدث إليهم ولا يرد على أَسئلتهم وأنه لا يملك أن يضرهم أَو ينفعهم، فكيف يكون إِلهًا مستحقًا للعبادة والتقد
المفردات:
{فُتِنْتُمْ} : ابتليتم واختبرتم. {لَنْ نَبْرَحَ} : سنبقى.
{عَاكِفِينَ} : مقيمين على عبادته.
التفسير
90 -
زعم اليهود - كما ورد في سفر الخروج (الإِصحاح) 32 - أَن هارون عليه السلام هو الذي صنع العجل الذهبى لبني إِسرائيل ودعاهم إِلى عبادته، وذلك دأْبهم في تلويث الأَنبياء بل وقتلهم بغير حق إِذا لم يوافقوا هواهم - مع أَنه نبى مرسل معصوم من الأَخطاءِ، وبخاصة الشرك بالله أو الرضا عنه - وقد برَّأه الله في هذه الآية مما أَلصقوه به.
والمعنى: ولقد قال هارون لبنى إِسرائيل حين رآهم مقبلين على عبادة العجل - بتزيين السامرى - قال لهم قبل أن يستغرقوا في عبادته: إن هذا العجل فتنة واختبار من الله لكم، أتعبدونه وهو لا يملك من أَمركم شيئًا، أَم ترفضونه وتعبدون الله، فإِنه إِلهكهم الحق الجدير بالعبادة، لأنه المتصف بالرحمة البالغة حيث أَنجاكم من عدوكم، فاتبعونى في عبادته وتوحيده وأَطيعوا أَمرى بالكف عن عبادة العجل.
91 -
{قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} :
أَصروا على باطلهم ولجوا في عنادهم وقالوا: سنظل عاكفين على عبادة العجل حتى يرجع إلينا موسى ويخبرنا بالحقيقة.
المفردات:
{مَا مَنَعَكَ} : قال عيسى بن موسى معناه: ما حملك على عدم اتباعي، فِإن المنع عن الشيءِ مستلزم للحمل على سواه، وقيل: المنع على ظاهره، وحرف (لا) صلة للتأْكيد وليس للنفى، كما في قوله:{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} : فهي بمعنى ليعلم، وكما في قوله تعالى في حق إبليس في سورة الأَعراف:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} : فهو بمعنى ما منعك أَن تسجد، ليتفق مع قوله في سورة (ص):{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} .
التفسير
92، 93 - {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}:
كان موسى عليه السلام قد اشتد به الغضب، فجذب أَخاه هارون من لحيته وشعر رأْسه وقال له: يا هارون ما حملك حين رأيت بنى إِسرائيل ضلوا عن الهدى فعبدوا العجل، ما حملك على عدم اتباعى إلى جبل الطور لتتلقى تعليماتى، أو ما حملك على عدم اتباعى في تشديد النكير عليهم، لتحول بينهم وبين ما فعلوه {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} بقولى لك:{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (1)، فكيف تركتهم حتى وصلوا إلى ما وصلوا إِليه؟
(1) الأعراف، الآية: 142
94 -
{قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} :
قال له هارون: يا أخى وابن أمى التي طبعتنا على الحنان والشفقة لا تجذبنى بعنف من شعر رأسى وشعر لحيتى.
{إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} :
إني خفت أن أقسو على بنى إِسرائيل فينقسموا إلى فريقين: فريق معى، وفريق يتمسك بعبادة العجل، فتقع بينهم حرب، وأكون أَنا سببًا في تمزيق وحدتهم وتشتيت أَمرهم وتفريق كلمتهم، فكنت أحاول أن أَردهم إلى الصواب بالنصح والإِرشاد.
المفردات:
{مَا خَطْبُكَ} : أَي ما حالك وما شأْنك، والخطب الأَمر الشديد يكثر فيه التخاطب.
{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} : أدركت وعلمت ما لم يعلموه وأَيقنته.
{الرَّسُولِ} : قيل المقصود به جبريل عليه السلام، وقيل موسى.
{فَنَبَذْتُهَا} : طرحتها.
{سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} : زينت وحسنت.
التفسير
95 -
{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} :
في هذه الآية يتجه موسى عليه السلام إلى السامرى، ليحاسبه ويوبخه على صرفه قومه إلى عبادة العجل بعد أن فرغ من عتاب أَخيه هارون على تركهم يعبدونه، واعتذر هارون عليه السلام بأَنه نصحهم فلم ينتصحوا وأنه خشى أن يقول له موسى: فرقت بين بنى إسرائيل،
ولم ترقب قولى في المحافظة على وحدتهم، والحكمة في التصرف معهم، وكان للسامرى نفوذ في بنى إِسرائيل، وكان قوى التأْثير عليهم. قال قتادة: كان السامرى عظيمًا في بنى اسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة، ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى، فلما مرت بنو إِسرائيل بالعمالقة وهم يعكفون على أَصنام لهم، {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (1). فاغتنمها السامري وعلم أَنهم يميلون إِلى عبادة العجل فاتخذ العجل (2).
96 -
قال الفخر الرازى: عامة المفسرين على أَن المراد بالرسول: جبريل، والمراد بأَثره: التراب الذي أَخذه من موضع حافر دابته، والأَكثرون منهم على أنه رآه يوم فلق البحر، وعن على أَن ذلك كان حين نزل ليذهب بموسى إِلى الطور، ثم اختلفوا في كيفية رؤيته جبريل دون سائر الناس، وحكى الرازى عن هؤُلاءِ المختلفين حكايات لا أصل لها، وذكر القرطبى وغيره: أَن السامرى لما زينت له نفسه أَن يأْخذ قبضة من التراب الذي تحت حافر فرس جبريل، جعل يلقى منه على الجماد، فيتحول إلى حيوان له روح ولحم ودم، فلما سأَلوا موسى أَن يعيدهم إِلى عبادة العجل زجرهم، فصنع لهم السامرى في غيبته عجلا من الحلى، وأَلقى من هذا التراب عليه، فتحول إِلى جسد من لحم ودم له خوار كسائر العجول، ويقول القرطبي في موضع آخر نقلا عن مجاهد: خواره وصوته كان بالريح لأَنه أَحدث فيه خروقًا، فإِذا دخلت الريح في جوفه خار ولم تكن فيه حياة.
وبهذا نقول فإِن تحويل الجماد إلى حيوان حقيقى لا يكون معجزة إلا لنبى، كما حدث لموسى، حين حول الله عصاه الخشبية إلى حية تسعى، ولا يصح أَن يجرى الله مثل ذلك على يد من يعارض النبوة ويثير الشبه حولها، ولو أنهم قالوا إنه كان ساحرًا وإنه خيل لهم بسحره أَنه عجل حقيقى لكان ذلك خيرًا مما قالوه، وقد أَحسن الإِمام الرازى فيما نقله عن أَبي مسلم الأصفهاني، إذ قال نقلا عنه ما خلاصته: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي
(1) من الآية 138 من سورة الأعراف، وقد رد عليهم موسى قائلا:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآيات من سورة الأعراف.
(2)
القرطبي ج 11 ص
ذكره المفسرون، ونرى في الآية وجهًا آخر، وهو إن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام، وبأثره سنته وشريعته، وبيان الآية على هذا أَن موسى لما أقبل على السامري باللوم والسؤال عما دعاه إِلى صنع العجل وإِضلال قومه بعبادته، قال بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت ما لم يعرفوه في دينك يا موسى، فقد تبين لي أَنه ليس بحق، فقبضت قبضة من أَثرك أَيها الرسول أَي أخذت شيئًا من سنتك ودينك فطرحته عن قلبى، وحملت القوم على ترك دينك بصناعة العجل وتحويلهم إلى عبادته، فعندئذ أَدرك موسى كفره، فتوعده بالعقاب في الدنيا والآخرة، وإنما وصف موسى بالرسول وهو لا يؤمن به على سبيل التهكم، كما قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم:{يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} .
وقد عقب الرازى على هذا الرأْى بقوله: واعلم أَن هذا القول ليس فيه إلا مخالفة المفسرين ولكنه أَقرب إِلى التحقيق.
والمعنى على هذا: قال السامرى لموسى ردًا على لومه وتوبيخه: علمت من أَمر دينك ما لم يعلمه قومك، فكرهت البقاء فيه، فقبضت قبضة من دينك المأْثور عنك، فطرحتها عني وحملت قومى على مخالفتك فصنعت لهم عجلا جسدا له خوار بسبب دخول الريح فيه أَو بالسحر، ودعوتهم إلى عبادته، حيث قلت لهم: هذا إِلهكم وإله موسى، فاستجابوا لى وعبدوه وكذلك سولت لى نفسى.
المفردات:
{لَا مِسَاسَ} : لا يمسنى أَحد.
{مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} : أَي وعدا بالعذاب يوم القيامة لا خلف فيه.
{ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} : دمت على عبادته ملازما ومقيما، وأصله ظللت، فخفف بحذف اللام الأولى. {لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ}: أي لَنَنْذروَنَّه ونُطَيّرنه في البحر، والنسف نقض الشيءِ أَو تعريضه للريح ليبعثره أَو ينقضه مما يشوبه، والمراد منه هنا التَّذْرية والذَّرو وهو المعنى الثاني للنسف، والمِنْسف ما ينسف به الطعام.
{وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} : أَحاط علمه بكل شىءٍ.
التفسير
97 -
{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ..... } الآية.
أي قال موسى للسامرى بعد اعترافه بصناعة العجل وحمله قومه على عبادته - قال له: اذهب عنا منفيا من بيننا، بحيث لا يمسك أَحد ولا تمس أَحدا، حتى تلجئك هذه المقاطعة إِلى أَن يختل عقلك فتقول: لا مساس، ترديدا لما يقوله الناس بعضهم لبعض في النهي عن ملامسته، تأْكيدا لفصله عن المجتمع الذي أَضله، وتنفيذا لما أَوصاهم به موسى عليه السلام من مقاطعته وترك معاملته والاتصال به، وهذا هو الذي نراه مناسبا في تفسير الآية.
ومن المفسرين من قال: إِن الله عاقبه بمرض جلدى، وكان يصاب بالحمى إِن مسه الناس، فكان يسترحمهم قائلا: لا مساس، فابتعد عنه الناس لا يؤاكلونه ولا يعاملونه لذلك. وأنكر الجبائي هذا الرأْى، وقال: إِنه خاف وهرب إِلى البرية، وجعل يهيم فيها فلا يجد أَحدا من الناس يمسه، حتى صار لبعده عن الناس كالقائل: لا مساس. اهـ
وبما أَننا لا نجد دليلا على هروبه إِلى البرية ولا على إِصابته بمرض جلدى، فلهذا نرى أن ما ذكرناه أَولا في تفسير الآية هو المناسب للنص الكريم.
وتعتبر هذه الآية من الأصول التي يعمل بها مع الذين يحدثون حدثا كبيرًا في الدين، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك في الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، حيث أَوجب على المسلمين مقاطعتهم حتى عفا الله عنهم.
{وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} : وإِن لك يا سامري وعدا بالعقاب في الآخرة لن يحدث فيه خلف، فإِنه تعالى لا يغفر أَن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاءُ.
قد عرفت مما تقدم أَن العجل الذي صنعه السامرى من حيلهم فيه ثلاثة آراء (أَحدها): أنه عجل تحول من حلي إِلى حيوان، حينما وضع عليه السامرى ترابا من تحت حافر الفرس التي كان يركبها جبريل - كما قيل - (وثانيها): أنه عجل من ذهب لم تحل فيه الحياة، وأن خواره صناعى أو بسبب السحر، فعلى أَنه عجل حيوانى، يكون حرقه بعد ذبحه، حتى إِذا صار رمادا نسفه في اليم، أي ذراه في الهواء في اتجاه البحر، أَما على أنه عجل صناعى لم تحل به الحياة، وأَن خواره صناعى أو بطريق السحر، فيكون حرقه وتصييره رمادا من آيات موسى عليه السلام، لأَن الذهب إِذا صهر بالنار يصبح سائلا ولا يمكن نسفه، (وثالثها) أَنه عجل حيواني اشتراه موسى السامرى بعد أَن صهر الذهب وسرقه، وأمر حرقه بعد ذبحه واضحٌ، وأَن كنا نستبعد أن يحرقه موسى وهو لحم حيوان أحل الله أكله، وكان يكفى - لو صح أَنه حيوان حقيقى - أن يذبحه ليظهر بذبحه عدم صلاحيته للألوهية، ثم يبيح لهم أكله.
والذي لم يظهر لنا والله أَعلم أَنه عجل صناعى (1) وأَن خواره صناعى أو عن طريق السحر، وأن الحياة لم تحل فيه، فإن ذلك معجزة فلا يجريها الله على يد منافق لا يعترف بوحدانيته تعالى، بل هي من آيات الرسل كما حدث لعصا موسى عليه السلام، وأَن إِحراق موسى له يعتبر آية ومعجزة من معجزاته عليه السلام.
والمعنى: وانظر يا سامري إِلى العجل الذي صنعَته وجَعلْتَه لك إلها، وأقمت على عبادته ملازما أنت ومن استجاب لك من قومك، والله لنحرقنه حتى يصير رمادا، ثم لننسفنه ونذرينه ليلقيه الريح في البحر حتى تعلم أَنت ومن تبعك عجزه عن حماية نفسه من النار، وفساد رأْيكم في عبادته.
98 -
{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} :
هذه الآية جاءت لإحقاق الحق بعد إِبطال الباطل، والخطاب فيها لعموم بنى إسرائيل.
(1) والآية شبه صريحة في ذلك، إذ يقول الله في الآية (77) حكاية عمن عبدوه {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا .... } ال
والمعنى: ما إلهكم يا بني إِسرائيل سوى الله الذي لا إله سواه أَحاط علمه بكل شيءٍ.
فكيف تشركون به العجل الذي لا يعلم ما يراد به، ولا يستطيع حماية نفسه، وبهذا تم حديث موسى بشأْن العجل الذي عبدوه.
المفردات:
{ذِكْرًا} : المراد به القرآن الكريم، وأطلق الذكر عليه لأَنه يذكر الناس بما ينفعهم، أَو لأَنه شرف للرسول ولقومه صلى الله عليه وسلم كما في قوله:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} .
{وِزْرًا} : أَي ذنبا ثقيلا. {الْمُجْرِمِينَ} : المشركين. {زُرْقًا} : أَي زرق الأَبدان أَو العيون. {يَتَخَافَتُونَ} : يخفضون أَصواتهم من شدة ما يجدون.
{إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} : ما مكثتم في القبور أَو الدنيا إِلا عشر ليال.
{أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} : أَعدلهم رأْيا.
{إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} : ما لبثتم في القبور أَو في الدنيا إِلا يوما.
التفسير
99 -
{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} :
أَي مثل ذلك القصص الصادق من خبر موسى وقومه نقصُّ عليك يا محمد أمثاله من قصص الأَولين تسلية لك مما حل بك من قومك، وتأْييدا لنبوتك، وتبصيرا للمستبصرين من
أولى الالباب الباحثين عن الحق، وقد أعطيناك من عندنا قرآنا مذكِّرًا بما في تلك الأنباءِ والقصص من العبر وهو كتاب شريف جامع لكل الكمالات.
100، 101 - {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا}:
أي من أَعرض عن هذا الذكر العظيم الذي أَعطيناك أيها الرسول، ولم يؤْمن بما جاء فيه من العقائد والأحكام الدنيوية والأُخروية فإنه يحمل يوم القيامة إِثما عظيما لا قدرة له على احتماله مقيما في جزائه جهنم إِقامة دائمة، وبئس للمعرضين عنه - وبئس لهم - يوم القيامة هذا الحمل الذي حملوه بالإعراض عن الذكر الذي بعثك الله به إِليهم (1).
102 -
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} :
أي اذكر لهم يا محمد يوم ينفخ إسرافيل في البوق نفخة البعث من القبور، حيث يقوم الناس لرب العالمين، ونسوق المجرمين يومئذ بعد البعث زرق الأجساد أو زرق العيون من أجل ما يحملونه من الأوزار، وخوفهم من محاسبة العليم القهار، وسئل ابن عباس عن وصفهم هنا بقوله {زُرْقًا} وفي آية أخرى بقوله {عُمْيًا} فكيف يجمع بينهما؟ فقال: ليوم القيامة حالات، فحالة يكونون فيها عميا وأخرى يكونون فيها زرق العيون.
وقال الفراءُ: المراد من {زُرْقًا} عميا لأن العين إِذا ذهب نورها ازْرَقَّ ناظرها.
103 -
{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} :
أي يخفضون أصواتهم، ويتهامسون فيما بينهم قائلين، ما لبثتم في القبور إلا عشر ليال، أَو عشرة أَيام (2)، ومرادهم من قولهم ذلك استقصار مدة لبثهم في القبور وسرعة انقضائِها، بعد أَن تحقق لديهم البعث الذي أَنكروه من قبل، يقولون ذلك على سبيل التنديم، كأَنهم قالوا: قد بعثتم وما لبثتم في القبر إِلا مدة يسيرة، وقد كنتم تزعمون أنكم لن تبعثوا منه
(1) وإفراد الضمير في قوله {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ} مراعاة للفظ {مَنْ} ، والجمع في قوله {خَالِدِينَ} وقوله {وَسَاءَ لَهُمْ} مراعاة لمعناه.
(2)
قيل: إن تقديرها بعشرة أيام أولى من تقديرها بعشر ليال، ليناسب قول أمثلهم في الآية التالية {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} فإن قيل: إن تقديرها بالأيام يقتضي تأنيث العشرة، على قاعدة تأنيث العدد إذا كان المعدود مذكرًا، والعكس بالعكس، وأجابوا بأنه إذا حذف المعدود وأبق عدده فقد لا يؤتى بالتاء، حكى الكسائى: صمنا من الشهر خمسًا، ومنه ما جاء في الحديث "ثم أتبعه بست من شوال" فإن المراد ستة أيام وحسن الحذف مراعاة الفواصل.
أَبدا، وعن قتادة أَنهم قصدوا بهذه العشر مدة لبثهم في الدنيا، استقصارا لها لزوالها وتأسفهم عليها بعد أن عاينوا الشدائد التي لا غاية لها، وأَيقنوا أنهم استحقوها بسبب إضاعتهم دنياهم القصيرة في قضاء الأوطار واتباع الشهوات: انتهى بتصرف. وفي مجمع البيان عن ابن عباس وقتادة أَنهم قصدوا مدة لبثهم بين النفختين، حيث يمكثون أربعين يوما مرفوعا عنهم العذاب.
104 -
نحن أعلم بما يقوله هؤُلاء المتحسرون على ضياع رقادهم أو إقامتهم في دنياهم حين يقول أَحسنهم طريقة في القياس بين ما كانوا فيه وما هم مقبلون عليه. ما لبثتم إِلا يوما واحدا، يريد بذلك حملهم على الندم أَكثر فكأَنه يقول لهم: إن تقدير إقامتنا في القبور أو في الدنيا بعشرة أَيام يعتبر شيئا كثيرا بالنسبة إلى ما نحن مقبلون عليه من الشدائد فما لبثنا أكثر من يوم واحد، ووَصَفَ القرآن قائلَ هذا بأَنه أَمْثَلُهُمْ طريقة لكون ما قاله أَعظم في التنديم، وأقوى في التحسير، وأدل على شدة ما هم مقبلون عليه، ولكل مقام مقال يحسن فيه أكثر من غيره.
المفردات:
{يَنْسِفُهَا} : يذريها ويطيرها. {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} : فيتركها سهلا مستويا.
{لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} : لا تجد فيها انخفاضًا ولا شيئًا مرتفعا.
{يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} : يتبعون إسرافيل الذي دعاهم بالنفخ في الصور إلى الحساب.
{لَا عِوَجَ لَهُ} : أَي لا عوج للداعى على معنى لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه.
التفسير
105 -
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} :
هذه الآية مستأْنفة لبيان حال الجبال عند قيام الساعة بعد ما سأَل السائلون رسول الله عنها، وهؤُلاءِ السائلون ممن ينكر البعث من قريش، فقد أَخرج ابن المنذر عن ابن جريج أَنهم قالوا على سبيل الاستهزاءِ كيف يفعل ربك بالجبال يوم القيامة، وقيل هم أُناس من المؤْمنين سأَلوا عنها على سبيل التعلم وطلب المعرفة.
والمعنى: ويسأَلك السائلون يا محمد عن حال الجبال يوم القيامة، أَتظل باقية على ما هي عليه، فقل مجيبا لهم، يجعلها الله كالرمل أَو التراب ثم يرسل عليها الريح فتذروها وتبعثرها. ولا تستعصى على من يقول للشىءِ كن فيكون.
ولا يوجد في القرآن أَمر من الله للرسول مقرون بالفاء، يجيب به السائلين سوى ما هنا.
أَما ما عداه فبدون الفاءِ كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} وقوله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الخ.
والسبب في هذا أَن الفاءَ للترتيب والتعقيب، وقد جىءَ بها هنا للمسارعة إلى إزالة ما في ذهن السائل المشرك من بقاء الجبال تبعا لظنه عدم الحشر، أَو للمسارعة إلي تعليم السائل المؤمن حفظا لعقيدته مما يقوله المنكرون، وهذه خلاصة ما نقله الآلوسى عن الإِمام الرازى (1).
(1) ويرى القرطبي أن الفاء هنا في جواب شرط مقدر، أي فإن سألوك عن الجبال فقل، وقد علم الله أنهم سوف يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال، أما سائر ما في القرآن من أسئلتهم، فكان قد وجه إلى الرسول فعلا، فتميز جوابها بعدم ذكر الفاء.
106، 107 - {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}:
أَي أَنه تعالى بعد أَن يزيل الجبال ويبعثرها، يترك أُصولها أَرضًا مستوية، كأنها مع غيرها صف واحد على سمت مستو متماثل، بحيث لا ترى في أُصول تلك الجبال المنسوفة انخفاضًا ولا نتوءًا بارزا والعِوج بكسر العين يستعمل في غير المستقيم حسيا ومعنويا أَما مفتوح العين فقاصر على الحسي غير المستقيم (1).
108 -
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ
…
} الآية.
أَي يومئذ ينسف ربي الجبال، يتبع الناس داعى الله عز وجل إِلى المحشر، وهذا الداعى هو إسرافيل، وظاهر ما جاءَ في القرآن أن هذه الدعوة هي النفخة الثانية في الصور قال تعالى في سورة الزمر:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} وهى المعنية بقوله في سورة يس: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} والله أَعلم بحقيقة هذه الدعوة وكيفيتها.
ومن المفسرين من جعلها دعوة كلامية، حيث قال. إِن إِسرافيل يضع الصُّور في فمه ويقول: أَيتها العظام البالية، والجلود المتمزقة، واللحوم المتفرقة، هلموا إلى العرض على الرحمن فيقبلون من كل صوب إِلى صوته
…
وأَخرج ابن أَبي حاتم عن محمد بن كعب القرظى قال: يحشر الله تعالى الناس يوم القيامة في ظلمة، تطوى السماءُ وتتناثر النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادى مناد فيتبع الناس صوته يؤُمونه، فذلك قوله تعالى:{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ} .
وقال على بن عيسى: الداعى هو الرسول الذي كان يدعوهم إلى الله عز وجل: انتهى.
وأظهر الأقوال ما قلناه أَولا، من تفويض العلم بحقيقة هذه الدعوة وكيفيتها إلى العليم الخبير سبحانه وتعالى، ومعنى {لَا عِوَجَ} لا يعوَج للداعى مدْعوٌّ ولا عدول له عنه، وذلك مثل قولهم: لا عصيان له أي لا يعصى، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى: لا شك فيه.
(1) واختار المرزوقى أنه لا فرق بينهما - انظر الآل
{وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} :
أي وخفتت أَصوات الخلائق هيبة للرحمن، ورهبة من الموقف الرهيب، فلا تسمع من أحد من أهل الموقف إِلا صوتًا خفيفا خافتا يصدر من فمه.
وفي إحدى الروايات عن ابن عباس أن المراد من الهمس هنا خفق الأقدام، وبمثله قال عكرمة وابن جبير والحسن، واختاره الزجاج والفراءُ، ومنه قول الشاعر: وهنّ يمشين بنا همسا.
والمعنى على هذا: سكتت أصواتهم وانقطعت كلماتهم، فلا نسمع منهم إلا خفق أقدامهم وهم يمشون إلى المحشر، والخطاب في قوله {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} لكل من له سمع يستمع به.
109 -
{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} :
أَي يومئذ يدعوهم داعى الرحمن إِلى المحشر للحساب، فيستجيبون له خاشعين، لا تنفع الشفاعة أحدا من أفراد الأُمم، إلا من أذن الرحمن بالشفاعة لأجله من بينهم، ورضى له قول الشافع وأَذن له به.
ويصح أن يكون المعنى: ورضى للمشفوع له ما كان يقوله، والمراد منه كما قاله ابن عباس: قوله (لا إله إِلا الله) وخلاصة المعنى على هذا: لا تنفع الشفاعة أَحدا، إلا من أَذن الرحمن في أَن يُشفع له وكان مؤْمنا. والمراد على كل تقدير: أنه لا تنفع الشفاعة أحدا إِلا من ذكر، وأَما من عداه فلا تنفعه وإن فرض صدورها عن الشفعاء المتصدِّين للشفاعة عن الناس، كما قال تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} .
110 -
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} :
أي يعلم الرحمن ما يستقبله المحشورون من المقادير التي كتبها لهم أو عليهم وما تركوه خلفهم من أعمالهم وأَحوالهم الدنيوية، ولا يحيطون علما بالمذكور من مجموع الأمرين، فإنهم كما قال الجبائى: لا يعلمون جميع ما ذكر، ولا تفصيل ما علموه منه.
ويجوز أن يكون المعنى ولا يحيطون به تعالى علما، من حيث صفاته وكمالاته التي لا تتناهى ولا يعرف أحد كنهها ومداها، فنحن لا نعلم من أَمره سبحانه إِلا ما جاءت به الرسل وما تتسع له عقولنا.
المفردات:
{وَعَنَتِ} : وخضعت، وذلت خضوع العانى وهو الأَسير، وفرق بعض اللغويين بين الخضوع وبين الذل، فجعل الخضوع بمعنى الخشوع والتذلل لذى طاعة، وجعل الذل وصفا لمن كان ذليل النفس في ذاته.
{الْقَيُّومِ} : الدائم القيام بتدبير أَمر خلقه وحفظهم. {هَضْمًا} : نقصا من الحق.
التفسير
111 -
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ
…
} الآية.
المراد بالوجوه جميع الناس أَو المجرمون الذين سبق الحديث عنهم، وإِطلاق الوجوه عليهم مجاز، ويصح أن يراد بها حقيقتها، وتخصيصها بالذكر لأَنها أَشرف الأَعضاء الظاهرة، وأول ما تبدو عليه آثار الخضوع والذل.
والمعنى: وذلت الوجوه وخضعت واستسلمت في هذا اليوم العصيب الذي تقدم الحديث عن بعض أهواله - استسلمت استسلام الأسرى لجبار السموات والأَرض، الحي الذي لا يموت، القائم على أُمور عباده، بتدبيرها وحفظها، والقيام بما يصلحها.
{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} : المراد بمن حمل ظلما، كل كافر، أو ما يَعمُّهُ وغيره من سائر العصاة، وخيبة كل عاص بقدر ما حمل من الظلم.
والمعنى: وخضعت النفوس للحى المسيطر على كل شىءٍ وقد خسر كل من كسب ظلما في دنياه، حين يعرض يوم القيامة على مولاه فيأمر بعقابه على ما كسبت يداه.
وبعدما حكت هذه الآية خيبة الظالمين الآثمين، عقبها الله ببيان حسن حال المؤمنين الصالحين، فقال سبحانه:
112 -
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} :
أَي ومن يعمل شيئًا من الصَّالِحاتِ في دنياه وهو مؤْمن به ويجعل دنياه مزرعة لآخرته، فإِنه يُقْبل يوم القيامة على الملك الحق العادل في خلقه، وهو مطمئن النفس، لا يخاف {ظُلْمًا} بأَن يحمل أَوزارا لم يرتكبها {وَلَا هَضْمًا} بأَن ينقص حق من حقوقه، أَو يضيع ثوابٌ لعمل من أَعماله مهما قلَّ أَو خفى بل يُوفَّى أَجره كاملا، كما قال تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (1).
ولا يقتصر جزاؤُه على الوفاء، بل يضاعف ثوابه على قدر نيته وعمله، وفقا لمشيئة الله تعالى {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2).
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى
اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}
المفردات:
{صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيد} : كررنا وفصلنا فيه من الإنذار والتخويف.
{ذِكْرًا} : اعتبارا واتِّعاظا.
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} ؛ فتنزه الله الملك الكامل التصرف في ملكه، الثابت في ذاته وصفاته.
{يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} : يتم جبريل تبليغ القرآن الموحى به إِليك.
(1) سورة الأنبياء، الآية: 47
(2)
سورة البقرة، الآية: 261
التفسير
113 -
أي مثلما تقدم من التنزيل المشتمل على القصص النافع والوعد بالثواب على العمل الصالح، والوعيد بالعقاب على العمل السىءِ والكفر، ومثل هذا الإِنزال أَنزلنا القرآن كله، بأُسلوب عربى واضح ليفهموه، وليكون آية على نُبُوَّتِكَ، يعجزهم عن معارضته، وكررنا فيه من التخويف والإنذار على الكفر والمعاصي، لكي يتقوها، أو يحدث لهم اعتبارا واتعاظا يؤدى بهم إِلى التقوى.
وفسر قتادة التقوى هنا بالحذر والورع، وفسر بعضهم الذكر بالشرف.
114 -
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ
…
} الآية.
أَفاد هذا النص الكريم استعظام شئونه تعالى في ملكه، وما صرف في القرآن من الوعد والوعيد والأوامر والنواهى المقتضية لوجوب العمل به، كما أَفاد التعجب من عظمة القرآن ووجوب الإِقبال عليه والعمل به، وتعظيم من أنزله.
والمعنى: تقدس الله وتنزه عن النقائص فهو المتصرف بالأَمر والنهي، الحقيق بأن يعمل بكتابه، لكي يرجى ثوابه، ويخشى عقابه، وهو الدائم الذي لا يزول ولا يتغير.
{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} : ولا تعجل يا محمد بقراءَة القرآن الذي يوحى به إليك، ترديدًا لما تسمعه من قبل أَن يُتِمَّ جبريل تبليغه إِليك، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا التقى به جبريل وأَلقى عليه القرآن يتبعه عند تلفظه بكل كلمة خوفا من أَن يصعد جبريل عليه السلام ولم يحفظه، حرصا على حفظ الوحى، فطمأَنه الله على ذلك، وبشره بجمعه إياه، ونهاه عن التعجل بقراءَته عند نزوله كما قال تعالى في سورة القيامة:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (1).
ثم أَرشده الله سبحانه وتعالى إلى الدعاءِ بالاستزادة من العلم مطلقا بقوله:
{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} : وكان صلى الله عليه وسلم يسأَل الله دائِما الاستزادة من العلم،
(1) الآيات، من 16 -
أخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم انفعنى بما علمتنى، وعلمنى ما ينفعني وزدنى علما، والحمد لله على كل حال".
وهذا دليل على فضل العلم، وحث على التزود منه ما وجد الإنسان إِلى ذلك سبيلا.
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ
فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا
فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}
المفردات:
{عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ} : أَي وصيناه لا يقرب الشجرة. {عَزْمًا} : ثباتا وتصميما.
{فَتَشْقَى} : فتتعب بمتاعب الدنيا. {وَلَا تَعْرَى} : يقال عرى يَعْرَى إذا تجرد من اللباس.
{وَلَا تَضْحَى} : ولا يصيبك حر الشمس، يقال: ضَحَا، كَسَلا ضَحْوًا، وَضَحِىَ كَرَضِىَ ضحْيًا، أَصابته الشمس. {فَوَسْوَسَ}: الوسوسة؛ الخَطْرَةَ الرديئة، وتطلق على الهمس الخفى، وعلى حديث النفس. {شَجَرَةِ الْخُلْدِ}: الشجرة التي إِذا أَكل منها الإِنسان خلد ولم يمت
كما زعم الشيطان. {طَفِقَا يَخْصِفَانِ} : شَرَعَا وأخذا يلزقان على عورتيهما ورقة فوق أُخرى من ورق الجنة. {فَغَوَى} : فضلَّ عن مطلوبه. {اجْتَبَاهُ} : اصطفاه.
التفسير
115 -
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} :
تمهيد:
كرر الله سبحانه وتعالى قصة آدم في كثير من السور القرآنية بأَساليب متعددة، ليعرف أبناؤه من البشر عداوة الشيطان لهم ولأَبيهم من قبلهم، حتى يحذروا أَفانينه في تزيين الباطل، وينجوا من سوء المصير الذي يدبره لهم: وقد حكى الله سبحانه في هذه السور كيف أَغوى الشيطان آدم وأغراه بعصيان ربه، فانخدع بأَفانينه الشريرة فوقع فيما أراده من المعصية، ليخرج من الجنة كما خرج، وليتسلط على ذريته كما هدد وتوعد، ولا شك في أَن هذا التفصيل مثل لبيان ما أَجمله الله سبحانه في قوله في الآية السابقه {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} والمراد من العهد إلى آدم وصيته وأَمره، تقول: عهد الملك إِلى فلان إِذا أَوصاه وأَمره.
والمعنى: ولقد وصينا آدم وأَمرناه أَن لا يقرب الشجرة فغفل عما وصيناه به ولم يشتغل بحفظه ولم نجد له ثبات قدم في تنفيذه، حيث خدعه الشيطان بأَساليبه، فنسى تحذير الله له منه بقوله:{إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} . وفسر ابن زيد وغيره قوله: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} بمعنى لم نجدْ له عزما على مخالفة عهد الله، بل كان عن طريق نسيان تحذير الله له من عداوة الشيطان دون تعمد للإِثم والمخالفة.
916 -
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} :
هذه الآية شروع في بيان ما عهد به لآدم، وكيفية نسيانه وفقدان عزمه. والمعنى واذكر يا محمد وقت أَمرنا للملائكة بالسجود لآدم تشريفا وتكريما وبيانا لفضله، فامتثل الملائكة جميعا وسجدوا إلا إبليس فإِنه تَمنَّع عن السجود له حقدا وحسدا، لظنه أَنه أَفضل منه، حيث خلق من نار وخلق آدم من طين، والنار في زعمه أَفضل من الطين.
117 -
أَي فقلنا عقب امتناع إِبليس عن السجود لآدم - قلنا له - تحذيرا وإرشادًا: إِن هذا عدو لك وعدو لزوجك فاحترسا منه، فلا يكونن سببا لإِخراجكما من الجنة فتتعب أَنت وزوجك بمتاعب الدنيا التي لا تكاد تحصى، وتشقى بكثرة التعب والنَّصَب فيها.
118، 119 - {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}:
إِنك في الجنة في عيش رغيد هنىءٍ فلا تعب ولا مشقة، فأَنت في دار كرامة لا يصيبك فيها شىءٌ من الجوع أو العرى، فالغذاءُ فيها يأْتيك بمجرد الرغبة لا عن جوع، والكساءُ الفاخر فيها يأْتيك كذلك لا عن احتياج، لا يصيبك فيها الظمأُ أَو حر الشمس، لأن شرابها تابع للإِرادة لا عن عطش، ولأَن ظلها دائم {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} (1).
فاجتمعت لك فيها الأَسباب التي توفر الراحة للإنسان، وتجلب له السعادة، فاحرص عليها، وحافظ على البقاء فيها، وابتعد عن كل ما يؤدى بك إلى الخروج منها.
120 -
ولكن الشيطان وهو عدوه المتربص به، الواقف له بالمرصاد، لم يتركه يعيش في هذا النعيم حسدا له عليه، فأَخذ يخطر له في نفسه خطرات من الأمانى الكاذبة، ويهمس له بها همسا خفيا قائلا: إِنى سأَدلك على شجرة إن أكلت منها خلدت ولم تمت، وملكت ملكا لا يفنى.
121 -
{فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} : فتأول آدم نهى الله عن الأَكل من الشجرة، بأَنه نهى عن شجرة بعينها، وهى التي أُشير إِليها في قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} (2). ولم يحملها على الجنس، فأكل من جنسها هو وزوجه ولم يأْكل منها نفسها، فانكشفت لهما عوراتهما - وكانت مستورة عن أَعينهما - عقابا لهما على الأَكل منها، فقد كان الأَجدر به أن يفهم من النهي عمومه لجنس الشجرة لا خصوصه بها.
(1) سورة الإنسان، من الآية: 13
(2)
سورة البقرة، من الآية:
ومن المفسرين، من جعل انكشاف عورتيهما مرتبا على الأَكل من الشجرة، لمصلحة أُخرى وليس عقابًا (1).
{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} : وشرعا يلصقان على عورتيهما من ورق الجنة لسترها. حياءً وخجلا ..
{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} : وخالف آدم بذلك أَمر ربه فضلَّ عن مطلوبه وهو الخلود في الجنة، أو عن المطلوب منه وهو ترك الأكل من الشجرة، أَو عن الرشد باغتراره بوسوسة عدوه. وقد عرفت أَن أَكله من الشجرة كان بنوع من التأْويل كما تقدم بيانه، وسمى ذلك عصيانا لعلو منصبه عليه السلام الذي يقتضي مزيد الانتباه لكيد عدوه، وعدم تصديقه في مزاعمه.
ومن العلماءِ من فسر ظهور سوآتهما ومحاولة سترها بأَنهما لما ذاقا الشجرة وقد نهيا عن الأَكل منها ظهر لهما أَنهما قد زَلَّا وخلعا ثوب الطاعة. وبدت منهما سوأَة المعصية، فاستولى عليهما الخوف والحياءُ من ربهما. وأَخذا يفعلان ما يفعل الخائف الخجل عادة من الاستتار والاستخفاء حى لا يُرى، وذلك بخصف أَوراق الجنة عليهما ليستترا بها.
122 -
{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} :
ثم أَلهم الله آدم التوبة، فتاب إِلى ربه فاختاره الله وتاب عليه واصطفاه وقربه إِليه ..
123 -
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ .... } الآية.
قال الله لآدم بعد أَن أَكل من الشجرة: اهبط أَنت وزجك من الجنة إِلى الأَرض، وقد أمر بذلك تنفيذا لحكمة الله من خلق آدم وحواءَ، وهى استخلافه وذريته في الأَرض كما قال تعالى:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} سورة البقرة.
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} : هذا إِخبار من الله لآدم بعداوة إبليس له ولذريته إِلى يوم القيامة. ويجوز أَن يكون المعنى: بعض أَولادكما لبعض عدو، وأُسندت العداوة إِلى آدم وحواءَ لأنهما منشأُ أَولادهما المتعادين.
(1) راجع ما كتبناه بسعة عن ذلك في تفسير مثله في سورتى البقرة والأعراف، وهناك تعرف آراء العلماء في الجنة التي كانا فيها وغير ذلك من الأمور الهامة.
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} : وأخبره الله سبحانه وتعالى بأنه سيتعهد ذريته بإرسال الرسل وبيان الطريق المستقيم في كتب ينزلها عليهم، هادية لهم، فمن اتبع الهدى الذي أنزله وسار في الطريق الذي رسمه، وعمل مما شرعه، فلا يضل طريقه في الدنيا، ولا يشقى بالعذاب يوم القيامة، لأنه اختار لنفسه طريق السعادة فسعد في دنياه وأُخراه.
المفردات:
{عَنْ ذِكْرِي} : عن الهدى المذكر بعبادتى.
{مَعِيشَةً ضَنْكًا} : ضيقة شديدة، والضنك: الضيق.
{آيَاتُنَا} : الأدلة والبراهين الدالة علينا.
{فَنَسِيتَهَا} : فتركتها وأعرضت عنها.
{أَسْرَفَ} : جاوز الحد فانهمك في الشهوات واسترسل فيها.
التفسير
124 -
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا .... } الآية.
بعد أَن بين الله حسن مصير من اتبع هدى الله الذي أنزله على أنبيائه، جاءت هذه الآية لتبين مصير من أعرض عنه.
والمعنى: ومن انصرف عن الهدى الذي يذكره بعبادتى فإن له معيشة ضيقة في حياته مهما كان في سعة من العيش، فإِنه يكون شديد الحرص على الدنيا متهالكا على الازدياد منها، خائفا من انتقاصها، وقيل الضنك مجاز عما لا خير فيه، ووصف معيشة الكافر بذلك لأنها وبال عليه، وزيادة في عذابه يوم القيامة، كما دلت عليه الآيات، وبهذا المعنى فسره ابن عباس، فقد أخرج ابن أَبي حاتم بسنده عنه أنه قال في الآية: كل ما أَعطيته عبدا من عبادى قلَّ أَو كثر لا يتقيني فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة: اهـ. وفسره عكرمة بالكسب الحرام.
{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} : أَي ونسوقه يوم القيامة فاقدا البصر على الحقيقة، حتى يقول:{رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} وكان كذلك لأنه لم ينتفع بما أَعطاه الله من بصر ينظر به في آيات الله. وقيل: عَمَاهُ كناية عن عدم اهتدائه إِلى حجة تنفعه، أَو إِلى حيلة يدفع بها العذاب عن نفسه.
125 -
{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} :
أي قال هذا الذي حشره الله أعمى يوم القيامة - قال - في حيرة وحسرة: يا رب لأَي سبب حشرتنى أعمى وقد كنت في الدنيا بصيرًا أَرى كل شيءٍ، فيأْتيه الجواب حينئذ من قبل الله فيما يحكيه بقوله:
126 -
{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} :
أَي مثل ذلك العمى الذي جئتَ به في الآخرة كنت أَعمى في الدنيا، فقد جاءَتك آياتنا فعَمِيتَ عنها، وتركتها كالشيءِ المنسى الذي لا يخطر بالبال، فاليوم نجازيك مثل عملك، فنجعلك أَعمى عن الاهتداءِ إِلى حجة تنفعك، ونتركك في حيرتك وعماك ترك المنسى، وندفع بك إِلى النار لتَصْلى عذابها وتتلظى بنارها، ولهذا قال سبحانه عقب هذه الآية:
127 -
أَي وبمثل ذلك الجزاءِ العادل نجازى كل من أَسرف على نفسه في ارتكاب المعاصي وترك الإيمان بربه، ولم ينظر في الآيات التي نصبها في الأنفس والآفاق، ولم يعمل بشرعه
أَرسل به رسله، حيث نجعله أَعمى في الآخرة، لا يهتدى إلى سبيل النجاة من عذابها، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى من عذاب الدنيا.
المفردات:
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} : أَفَلَمْ يتبين لهم ما يدلهم على الهدى.
{لِأُولِي النُّهَى} : لأَصحاب العقول الراجحة.
{لَكَانَ لِزَامًا} : أَي لكان عقابهم لازمًا لا يتأَخر عنهم.
التفسير
128 -
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ
…
} الآية.
أَي أَغفل هؤُلاء المعرضون من أَهل مكة عن ذكر الله، فلم يتبين لهم خبر من أَهلكنا قبلهم من أهل القرون الماضية الذين ضلوا وأغرضوا عن ذكر ربهم، وهم يمشون في مساكنهِم حين أَسفارهم كعاد وثمود الذين يشاهدون آثارهم الدالة على ما كانوا عليه من عظمة وسعة في العيش فلقد أَخذهم الله بذنوبهم، ولم يُغْنِ عنهم ما كانوا فيه من القوة والمنعة - لم يغن عنهم - من عذاب الله شيئًا، وحاق بهم ما كانوا يكسبون، فلو كان هؤُلاءِ أصحاب عقول سليمة لاعتبروا بهؤُلاء السابقين، كما قال سبحانه:{إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} إن في إهلاك أهل هذه القرون الماضية على كفرهم، لعظات بالغات لأصحاب العقول الراجحة، التي تنهاهم عن الكفر والمعاصي.
129 -
{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} :
ولولا كلمة سبقت من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه لا يعذب أُمته في الدنيا بعذاب الاستئصال كما عذبت الأُمم السابقة، ولولا موعد سماه الله لعذابهم وهو يوم القيامة - لولا ذلك - لكان عذابهم العاجل المستأْصل لهم لازمًا محتمًا، لأَنهم سلكوا طريق السابقين في التكذيب والإِنكار، فاستحقوا بذلك العذاب مثلهم، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (1).
المفردات:
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} : نَزِّه الله وعظِّمْهُ حامدًا له.
{آنَاءِ اللَّيْلِ} : ساعاته جمع إِنَى كَإِلَى (2).
(1) سورة الأنفال: 33، 34 فارجع إلى تفسيرهما هناك في كتابنا (التفسير الوسيط).
(2)
وأنى كعصا وإنى كعلم.
{وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} : أَي وأَجزاءً منه، جمع طَرَف، وهو الطائفة من الشيءِ - ذكره القاموس والصحاح.
{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} : لا تطل نظرهما بطريق الرغبه والميل.
{أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} : أَصنافًا من الكفرة.
{زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : زينتها وبهجتيا.
{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} : لنختبرهم به.
{وَرِزْقُ رَبِّكَ} : ما ادخره الله من الثواب والنعيم في الآخرة.
التفسير
130 -
بعد ما أَخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأَن المكذبين له مستحقون للعذاب الذي حل بمن سبقهم، وأَنه لولا ما سبق من وعد الله له بأَنه لا يعذب أُمته وهو فيهم - بعد هذا كله - أمره الله بالصبر على أَذاهم، وتحمل كل ما يقولونه، فإن عذاب الآخرة نازل بهم لا محالة.
والمعنى: فأصبر أَيها الرسول على ما يقوله مشركو مكة الذين أَسرفوا في الكفر بآيات ربك وتكذيبك، فقد توعدناهم بأَجل مسمى ينالون فيه عذابًا أَشد وأَبقى، واشتغل بتسبيح ربك وتنزيهه عن النقائص، واحْمدْه، على ما أنعم به عليك من مختلف النعم، وأَعلاها النبوة والمعونة في تبليغ الرسالة مع معارضة هؤُلاءِ المعاندين، وليكن هذا التسبيح والحمد قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وفي أوقات مختلفة من الليل وأَطراف النهار، رجاءَ أَن يمنحك الله من مزيد التوفيق وعظيم النصر وجزيل الثواب، ما ترضى به نفسك الصابرة على أذاهم، الصامدة في تبليغ الدعوة إِليهم، وفي معنى هذا الوعد الكريم يقول سبحانه في سورة الضحى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وتأَول بعض المفسرين الآية بأَنها إشارة إلى مواقيت الصلوات الخمس، وجعل التسبيح فيها مجازًا عن الصلاة، فكأنه سبحانه يقول: وصل لربك صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، وصلاة العصر قبل غروبها، وصلاة العشاء في
بعض آناء اليل وأوقاته، وصلاتي الظهر والمغرب في أَطراف النهار، فصلاة الظهر في آخر طرف النصف الأول وأول الطرف الثاني، وذلك وقت زوال الشمس عن كبد السماءِ وصلاة المغرب في آخر طرف النصف الثاني منه، ولهذا قال سبحانه (أطراف) بصيغة الجمع، ويصح أَن يراد من الجمع ما فوق الواحد، أي وطرفى النهار، وقت الزوال ووقت الغروب ..
131 -
بعد ما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في الآية السابقة بالصبر على ما يقوله المشركون في حق آيات ربه، والاشتغال عن سفههم بتسبيح ربه وحمده، نهاه في هذه الآية عن التطلع إلى ما هم عليه من زينة الحياة الدنيا، فإنها فتنة لهم.
والمقصود من نهيه عن ذلك دوام التنزيه بما هو عليه من عدم التطلع إلى زينة الحياة الدنيا التي يتحلى بها المشركون، وتبصير المؤْمنين بأن ما عليه المشركون من غنى ويسار إِلى زوال، وما هو إلا فتنة لهم، فلا يتطلعون اليه، ولا يهتمون به، وأَن رزق الله ومثوبته على الإِيمان والإيذاء خير مما هم عليه ..
والمعنى: قد أغنيتك بطاعتى وآياتى، فاصبر على ما يقولون في شأْنها وشأنك، ودُمْ على ما أنت عليه من عدم النظر إِلى ما متعنا به أَمثالا من المشركين متزاوجين - أَي متماثلين في الغنى والجاه، حيث أَعطيناهم زهرة الحياة الدنيا وزينتها، لنفتنهم في هذا المتاع، فهو إلى زوال، وما يرزقك الله في الدنيا من النصر والفتح والغنائم، وفي الآخرة من الثواب على الصبر وقلة المبالاة بدنياهم، أَبقى مما هم عليه من الثراء والجاه الفانى، وعلى المؤْمنين أن يقتدوا برسولهم فيما هو عليه من الزهد في دنياهم وعدم التطلع إِليها، فسيرزقهم الله في دنياهم وأُخراهم ما هو أَجدى عليهم وأَبقى مما يتمتع به المشركون:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (1).
(1) سورة النحل، من الآية: 30
132 -
يرشد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية إلى أن يأمر أهله بالمداومة على أَداء الصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها المحددة لها، ليكون في ذلك إرشاد لأُمته فتعلم أنها مأْمورة بذلك بطريق الأَولى.
والمعنى: وأمر أهلك أيها الرسول بالصلاة، واصطبر أَنت على أَدائها وملازمتها، ونحن حين نكلفك بالصلاة لا نسألك أن ترزق نفسك، نحن نكفل رزقك فنحققه لك وأَنت تقوم بها، وذلك بتهيئة أَسبابه، وإعانتك على تحصيله، فأنت وسعيك ورزقك من صنع ربك، فلن تعوقك الصلاة المفروضة عن تحصيله في وقت الفراغ، والعاقبة المحمودة لأَهل التقوى الذين يصلون، وعلى ربهم يتوكلون وهم يعملون.
وقد ائتمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما أمر الله رسوله وأهله، فكانوا يصلون كما يصلى، ويفزعون إليها في ضيقهم، كما يفزع، أخرج الطبرانى في الأَوسط وأبو النعيم في الحيلة، والبيهقى في شعب الإيمان بسند صحيح عن عبد الله بن سلام قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة، وتلا: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ
…
} الآية.
وأخرج مالك والبيهقى عن أسلم قال: (كان عمر بن الخطاب يصلى من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلى حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة، ويقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} ".
ويصح أن يراد من أهل الرسول من آمن به من المؤمنين، كما في قوله تعالى للوط:
(1) سورة هود، من الآية: 81
المفردات:
{لَوْلَا يَأْتِينَا} : لولا حرف يفيد الحث على تحقيق ما بعده مثل هلَّا.
{بِآيَةٍ} : بمعجزة تدل على صحة ما يدعو إليه.
{بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} : المراد بالصحف الأولى: الكتب السماوية السابقة، وفي جملتها التوراة والإِنجيل، والمراد بما فيها ما اشتملت عليه من قصص الأَنبياءِ والأَحكام المشتركة بين الرسالات، والمراد ببينة ما في الصحف الأُولى: القرآن، فكونه مشتملا على ما جاءَ فيها يجعله آية واضحة على نبوته صلى الله عليه وسلم لأَنه أُمىّ لا علم له بما جاءَ فيها.
{نَذِلَّ} : نُهان. {وَنَخْزَى} : ونفتضح. {مُتَرَبِّصٌ} : منتظر.
{الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} : الطريق المستقيم.
التفسير
133 -
{وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ
…
} الآية.
أَي وقال الكافرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إِنكارا. لما جاءهم به من البينات: هلا يأْتينا بمعجزة تدل على صدقه في دعوى الرسالة، مثل ما جاءَ به غيره من الرسل لأَقوامهم من المعجزات الحسية التي شاهدوها، وهم بهذا القول قد بلغوا الغاية في العناد والمكابرة، حيث أَنكروا آية الآيات ومعجزة المعجزات، وهو القرآن الكريم فلهذا رد الله عليهم بقوله:
{أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} . أَي أَقالُوا ذلك ولم تأْتهم بينة ما في الكتب السماوية الأُولى، ممثلة في القرآن الكريم، فإن اشتماله على ما جاءَ فيها من قصص وعبر وعقائد وأَحكام يعتبر آية بينة على أَنه رسول من عند الله، فإِنه أُمى لا يقرأُ ولا يكتب، ولا صلة له بأَهل الكتاب، فضلا عما اشتمل عليه من أَعلى درجات الفصاحة التي لا يستطيع البشر أَن يأْتوا بمثلها، وقد تحداهم أَن يأْتوا بسورة منه فعجزوا، أَولم يقنعهم ذلك في كونه معجزة حتى يطلبوا معجزة أُخرى سواه وقد فات أَوان المعجزات المادية، وجاءَ أَوان المعجزة العلمية الباقية بقاءَ الزمان ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
"مَا مِنَ الأَنبياءَ نبيٌّ إِلا أُعطى من الآيات ما مثُله آمن عليه البشر، وإِنما كان الذي أَوتيتُه وحيًا أَوحاه الله إِلىَّ فأَرجو أَن أَكونَ أَكثرَهم تابعًا يوم القيامة"(1) وقد كانت للنبي معجزات غير القرآن كانشقاق القمر وغيره، ولكن التحدى لم يقع إِلا به، ولهذا تكفل الله بحفظه ليبقى آية للرسالة المحمدية الباقية إلى يوم القيامة، أَما المعجزات المادية فلا بقاءَ لها.
134 -
{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}:
أَي: إِنا بعثنا محمدًا إليهم، وأَيدناه ببينة ما في الصحف الأُولى وهو القرآن، ولو أَنا أَهلكناهم بشركهم ومنكراتهم من قبل محمد أَو من قبل إِتيان البينة، لقالوا محتجين: ربنا هلَّا أَرسلت إلينا رسولا يدعونا إِلى الهدى والرشاد فنتبعه من قبل أَن نذل في الدنيا بالهوان والإِهلاك، ونفتضح بظهور جرائمنا في الآخرة على رءُوس الأَشهاد في المحشر، وبالعذاب المهين في نار جهنم.
135 -
قل أَيها الرسول لهؤلاءِ المشركين المتمردين على الحق - قل لهم -: كل منا ومنكم منتظر ما يؤول إليه أَمره في الآخرة، فانتظروا فستعلمون عن قريب من هم أَصحاب الطريق السوى الذي لا عوج فيه، ومن اهتدى من الضلالة، هل هم المؤمنون بالقرآن العاملون بآياته، أَم هم الذين كفروا به وصدوا عن سبيله، وسيتبين لكم ذلك قريبًا بنصر من اهتدى إِلى طريق رحمة ربه، على من ضلَّ عنه إِلى طريق عذابه، أَو يتبين لكم ذلك عند الموت أو يوم القيامة وكل آت قريب - والله أَعلم.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه من كتاب فضائل القرآن.