الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النظر الصحيح الموصل إِلى الحق المبين، وكذلك أَمر المؤْمنين من قومك، فلهم من هداية الله إِلى صراطه المستقيم أَوفر نصيب، ومن الثبات على الحق شأْن عجيب.
وفي معنى تلك الآيات يقول الله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (1).
(قصة الغرانيق وهذه الآيات)
يذكر المفسرون أَثناءَ تفسيرهم قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ .... } الآيات - يذكرون - قصة تسمى قصة الغرانيق، وقد أَتعبوا أَنفسهم في نقل رواياتها وتأْويلها أَو تفنيدها، أَثناءَ تفسيرهم تلك الآيات.
ولكنا رأَينا أَن نفسرها على النحو الذي مر بيانه، بمعزل عن تلك القصة المفتراة، مراعين في تفسيرها نصوصها ومناسبة ما قبلها وما بعدها، وربطها بالجو الذي سيقت فيه، فإِن القرآن مترابط المبانى، ومتناسب المعانى، وما أَكثر الضعف في أَسباب النزول، وما أَفظع الوضع في بعضها، ومنه قصة الغرانيق التي قيل: إِنها سبب لنزول هذه الآيات.
وقد رأَينا أَن نذكر خلاصتها بمعزل عن تلك الآيات وشرحها، وأَن نفندها ونبين زيفها وفسادها، وإِليك البيان فيما يلى:
زعموا أَنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأُ سورة النجم بمحضر من قريش، فلما بلغ:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} أَلقى الشيطان عندها كلمات فقال: (وإِنَّهُنَّ الغرانيق العلا، وإِن شفاعتهن لترتجى) وكان ذلك من سجْع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الجملتان موقع الرضا والاستحسان من المشركين، وتناقلتها أَلسنتهم، وتباشروا بها وقالوا: إن محمدا راجع إِلى دين قومه، فلما وصل الرسول إِلى قوله تعالى في آخر سورة النجم:{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} سجد وسجد كل من حضر من مسلم أَو مشرك، وفشت هذه الدسيسة في الناس حتى بلغت مهاجرى الحبشة فعادوا، وأَظهرها الشيطان،
(1) صدر سورة العنك
فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، فأَنزل الله تعالى لتسليته: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
…
} الآيات.
ويُؤَولون إِلقاءَ الشيطان في أُمنيته، بأَنه حَاكَى صوت النبي صلى الله عليه وسلم ونغمته في أَثناء سكوته بين الآيات حين تلاوتها، فدسَّ جملتى الغرانيق السابقتين، وقالوا: إِن الشيطان كان يظهر للناس في العهد النبوى في صورة أَحدهم، وكان يكلمهم، ومن ذلك أَنه نادى بعد هزيمة المسلمين في غزوة (أُحُد): أَلا إن محمدا قد قتل، وقال يوم بدر:{لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} .
ويفسر آخرون الشيطان بواحد من كفار قريش، حَاكَى صوت النبي، وحشدها بين قراءَته كأَنه يقرؤُها، وقال غيرهم: إِن الشيطان أَجراها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أَثناءَ قراءَته.
وقد عجبنا كيف أَتعب المفسرون أَنفسهم في نقل رواياتها المتناقضة المفتراة وأَطالوا في تأْويلها أَو تفنيدها، وهي ظاهرة البطلان.
وأَول ما نلاحظه على فرية الغرانيق، أَنهم زعموها مدسوسة من الشيطان في سورة النجم، في حين أَن تسلية الرسول عما فعله الشيطان فيها جاءَت في سورة الحج، مع أَنه يفصل بينهما ثلاثون سورة، فلو كان لها ظل من الواقع لكانت التسلية عما فعله الشيطان في نفس السورة التي دُسَّتْ فيها أُكذوبة الغرانيق، لا في سورة سواها تبعد عنها هذا البعد السحيق، في حين أَن سورة النجم مكية، وسورة الحج مدنية على ما قاله الضحاك، فكيف يعقل أَن يسكت القرآن على هذه الفرية تذيع في مكة وتنتشر حتى تبلغ المهاجرين في الحبشة، فيحضروا بسببها كما زعم المفترون، ولا يَرُدَّها إِلا بعد الهجرة إِلى المدينة؟.
وقد أَنكر المحققون هذه الفرية، فقال البيهقى: هذه القصة لم تثبت من جهة النقل وقال القاضى عياض في الشفاءِ: يكفيك في تَوْهِينِ حديث الغرانيق أَنه لم يُخَرِّجهُ أَحد من أَهل الصِّحة، ولا رواه ثقة بسند صحيح سليم، وإِنما أُولِعَ به وبمثله المفسرون والمؤَرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وس
وفي البحر لأَبي حيان: أَن هذه القصة سئل عنها الإِمام محمد بن إِسحاق جامع السيرة النبوية فقال: إِنها من وضْع الزنادقة، وصنف في ذلك كتابا.
أَما القول بأَن الشيطان أَجراها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أَفحش ما يقوله زنديق، وأَوهن من بيت العنكبوت، فلا يصح أَن يجبره الشيطان عليها، لأَنه ليس له سلطان على عباد الله الصالحين، فكيف يكون له سلطان على رسوله، ولا يصح أَن يكون أَجراها على لسانه سهوا وغفلة، لأَنه لا تجوز على الرسول الغفلة والسهو في تبليغ الوحى، ولو جاز عليه مثل ذلك لبطل الاعتماد على قوله، وكل ذلك مستحيل عقلا، كما أَنه مستحيل شرعًا، لقوله تعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ولقوله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .
وبعد أَن عرفت أَن قصة الغرانيق مفتراة، اخترعها الزنادقة لمحاربة الإِسلام،
فعليك أَن تتمسك بتفسيرنا السابق للآيات الثلاث، والله تعالى ولى التوفيق.
المفردات:
{فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} : في شك من القرآن، أَو من الصراط المستقيم. {بَغْتَةً}: فجأَة.
{عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} : عذاب يوم لا مثيل له، فلا راحة فيه ولا رحمة.
{مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} : المراد به؛ الجنة.
التفسير
55 -
بينت الآيات السابقة أَن أَهل مكة سَعْوا في آيات الله معاجزين. وأَن الله تعالى سلَّى نبيه صلى الله عليه وسلم، عن عدائهم للقرآن بأَنه ليس أَوْحَدِيًّا في عداءِ الكفار لما جاءَ به، فما أَرسل الله قبله رسولا ولا نبيًّا، إِلا إِذا تمنى إِيمان قومه، سعى شياطينهم في إِفساد أُمنيته، بإلقاءِ الشُّبه فيما جاءَهَم به، وأَنه تعالى كان يبطل ما يلقيه أُولئك الشياطين من الشبه، بما ينزله محكما في رد شبهاتهم، وأَن وقوف الشياطين في سبيل الحق ابتلاءٌ من الله لأُمم الأَنبياءِ، فبه يظهر المنافقون وصرحاءُ الكافرين على حقيقتهم لأَنبيائهم ورسلهم فيحذرونهم ويكافحونهم، وبه يعرف المؤْمنون المطمئنون للحق - بينت الآيات السابقة ذلك - وجاءَت هذه الآية لتسجل على شياطين الكافرين من أَهل مكة عنادهم في كفرهم، وأَنهم لا يزالون في غمرة من الشك بسبب القرآن، لا يخرجهم منها إلا مجىءُ الساعة فجأَة. أَو عذاب يوم لا مَثِيلَ له في شدته فَيَفِيقون من شكِّهم.
والمعنى: ولا يزال شياطين قريش في شك من القرآن أَو من الرسول، يجعلهم يقفون في سبيله ويُحَرِّضون أَتباعهم على الكفر به، حتى تأْتيهم ساعة الفناءِ فجأة، أَو يأْتيهم عذاب يوم عقيم لا يستعقب خيرا، أَو لا مثيل له في شدته، فهو في ذلك يشبه المرأَة العقيم التي لا تلد ولا تترك عقبا خلفها، أَو كالريح العقيم:{مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} (1) ولا تترك خلفها زرعا ولا ضرعا.
(1) سورة الذاريات، الآية: 42
والمراد باليوم العقيم: يوم بدر، فقد كان كارثة حلَّتْ بصناديد قريش وشياطينهم، في أَول لقاءٍ لهم مع من أَخرجوهم من ديارهم، فقد قتل منهم سبعون، وأُسر سبعون، ونَاحَتْ نساءُ قريش على قتلاهم شهرا.
وفسره بعض العلماءِ بيوم القيامة، حيث يُجْزَى الكافرون بما كانوا يقترفون، وفسره آخرون بيوم موت كل واحد منهم، ولعل أَنسب الآراءِ بالآية التالية هو يوم القيامة، ففيه يتفرد الله بالملك مَظْهرا، كما هو متفرد به حقيقة.
56 -
الملك يوم تأْتيهم الساعة أَو عذابها، لله وحده بلا شريك فيه حقيقة أَو صورة، فليس لأَحد فيه تصرف في أَمر من الأُمور، لا حقيقة ولا مجازًا، ولا صورة ولا واقعا، فكل شيءٍ فيه إِلى الله، حتى الشفاعة لا تكون لأَحد:{إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (1) فالله تعالى هو الذي يحكم فيه بين عباده، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في دنياهم، مقرهم في جنات النعيم.
57 -
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} :
والذين كفروا في دنياهم وكذبوا بآيات الله الكونية أَو التنزيلية، فأُولئك لهم عذاب دائم الإِهانة والإذلال {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ثم خص الله بعض الفريق الأَول بمزية، وهم المجاهدون في سبيل الله فقال:
58 -
أَي: والذين هجروا أَوطانهم في سبيل الله تعالى، ثم قتلوا أَثناءَ جهادهم، أَو ماتوا حتف أُنوفهم (2) في هجرتهم بنحو مرض أَو سكتة قلبية، ليرزقنهم الله الذي هجروا أَوطانهم
(1) سورة طه، من الآية: 109
(2)
الذي مات حتف أنفه هو الذي مات بغير أن يقتل في المعركة، كموته علي فراشه أو نحوه، والحتف: الموت، ويضيفه العرب للأنف إذا كان بنحو مرض، لاعتقادهم أن روحه تخرج في مثل هذه الحالة من أنفه، أما الذي يموت جريحا، فيقولون فيه: مات حتف جراحته، لظنهم أن روحه تخرج من جرا
في سبيله - ليرزقنهم - في الجنة رزقًا فائق الحسن على ما يعطيه سواهم من المؤمنين غير المهاجرين في سبيله، وإِن الله الذي اتجهوا بهجرتهم إِليه لهو خير الرازقين، حيث يعطيهم ما يفوق الخيال، ولا يخطر لهم على بال، ويمنحهم بغير حساب، فهو الذي لا تفنى خزائنه، ولا تنصب موارد نعمه، ولا غاية لفضله وكرمه.
وهذه الآية نزلت في عثمان بن مظعون وأَبي سلمة بن عبد الأَسد، ماتا بالمدينة مهاجِرَيْن، ولم يُقتلا في سبيل الله، فقال بعض المؤمنين: من قتل في سبيل الله أَفضل ممن مات حتف أَنفه، فنزلت هذه الآية مسوِّية بينهما، لأَن كليهما عاهد الله على الموت في سبيله بهجرته لنصرة دينه.
وقد استدل بالآية فُضَالَةُ بن عُبَيْد - وكان أَميرًا بجزيرة رودس - استدل بها على المساواة بينهما في الأَجر، فقد أَخرج ابن أَبي حاتم بسنده، عن أَبي قبيل وربيعة ابن سيف المَعَافِرِيِّ قالا: (كنا بِرُودسَ ومعنا فضالة بن عبيد الأَنْصارى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بجنازتين إِحداهما قتيل والأُخرى متوفَّى، فمال الناس على القتيل، فقال فضالة: ما لي أَرى الناس مالُوا مع هذا وتركوا هذا؟ فقالوا: هذا قتيل في سبيل الله تعالى، فقال: والله ما أُبالى من أَي حضرتيهما بُعِثْتُ، اسمعوا كتاب الله {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا .. } الآية، وكان هذا القتيل قد أُصيب بقذيفة منجنيق كما جاءَ في رواية أُخرى له.
والذى نراه أَن الآية وإِن سوت بينهما في عموم الرزق الحسن والأَجر الجزيل، لكن ذلك لا يمنع من التفاضل بينهما، ويؤَيد هذا التفاضل أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الجهاد أفضل؟ فقال: "مَنْ أُهْرِيقَ دمه وعُقِرَ جَوَادُهُ" ومنه يعلم أَن من كَان من المهاجرين ولم يجاهد، أو كان من المجاهدين ولكنه لم يكن بهذه الصفة فهو دون من اتصف بها، والله تعالى أَعلم، ثم بيَّن الله الرزق الحسن الذي أَعده لهم فقال:
59 -
{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} :
أَي: أَنه تعالى وعد هؤُلاءِ المهاجرين بصنفيهم وعدًا مؤَكدًا لا خلف فيه، أَنه يدخلهم في الجنة منزلا فخما ومقامًا كريما يدخلونه وهم يرضونه ويسعدون به، حيث ي
فيه ما تشتهيه الأَنفس وتلذ الأَعين على أَعلى مستوى، وإن اللهَ سبحانه لعليم بأَحوال من قضى نحبه، وسال دمه في سبيله، ومن مات معاهدًا ربه على الاستشهاد في نصر دينه، ولكنه في هجرته وجهاده مات حتف أَنفه، دون أَن يحقق أُمنيته في الاستشهاد في سبيل ربه، وكما أَنه تعالى عليم بأَحوالهما، فهو حليم بإِمهال من قاتلهما حتى يأْخذه أَخْذَ عزيز مقتدر، ويذيقه في الآخرة عذاب السعير، أَو يتوب فيتوب الله عليه.
المفردات:
{بُغِيَ عَلَيْهِ} : اعتدى عليه.
{عَفُوٌّ} : كثير العفو والمسامحة.
{غَفُورٌ} : واسع المغفرة.
{يُولِجُ} : يدخل.
التفسير
60 -
{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ .... } الآية.
بين الله تعالى في الآيتين السابقتين أَن من هاجر في سبيل الله ثم قتل أَو مات فإِن الله سيحسن جزاءَه بإِدخاله مدخلا يرضاه في الجنة، وأَن يرزقه فيها رزقا حسنا، وجاءَت هذه الآية لتقرير هذا الوعد، ولإِباحة رَدِّ الاعتداء على المعتدى.
والمعنى: الأَمر ذلك الذي تقدم بيانه من حسن جزاءِ المهاجرين الذين قتلوا في سبيل الله أَو ماتوا، ثم استأْنف الله فبين حق المسلمين في الأَخذ بثأْر الذين قتلوا في سبيل الله فقال ما معناه: ومَن انتَقَم من المعتدين عليه بمثل ما فعلوا به، ثم بُغِى عليه بالاعتداءِ مرة ثانية، لينصرنه الله على من بغى عليه.
وسبب نزول هذه الآية كما قال مقاتل: أَن قوما من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، فقال بعضهم لبعض: إِن أَصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون أَن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر، فأَبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم، فوقع في أَنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام ما وقع، فأَنزل الله هذه الآية.
وقد عرفنا منها أَن من حق الإِنسان أَن يقابل المعتدى بمثل عدوانه؛ فالدفاع عن النفس أَمر مقرر في شريعة الله تعالى، كما أَنه أَمر معترف به في جميع الشرائع الوضعية، وسمى الدفاع عقابا على سبيل المشاكلة والمزاوجة، مثل قوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (1).
ومثل قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (2) وقد أَمرنا الله تعالى أَن يكون عقابنا للمعتدى مماثلا لعدوانه، فلا يحل لأَحد أَن يتجاوز المماثلة في رد العدوان، فإِذا شَتَم إِنسانٌ آخر فلا يكون رد المشتوم قتل الشاتم، فإِن عاد الخصم إِلى العدوان، فبالغ في بغيه وعدوانه فإِن الله سينصر المظلوم على من بغى عليه لا محالة إِذا انتقم منه لنفسه، وعلَّل الله نصرته بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} : لمن أَخذ بحقه، ولم يأْخذ بقوله تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أَي: أَنه تعالى مع حبه للعفو والغفران واتصافه بهما، ينصر المظلوم الذي ينتقم من ظالمه، إِن فعل خلاف الأَولى، وهو الانتقام بدل العفو، لأَنه أَخذ بحقه وليس معتديا أَولا وآخرا، وإِن كان العفو أَقرب إِلى التقوى.
(1) سورة البقرة، من الآية: 194
(2)
سورة آل عمران، الآية:
قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (1).
ومن رحمته تعالى أنه يمهل العاصى والظالم لعله يثوب إِلى رشده ويتوب إِلى الله ويصلح ما أَفسده فإِنه سبحانه - كما وصف نفسه - كثير العفو واسع الغُفْران.
61 -
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أَي: ذلك النصر الذي وعده الله لمن بُغِى عليه واقع بسبب أَن الله يدخل الليل في النهار ويدخل النهار في الليل فيزيد أَحدهما بنقص الآخر، طبقا للنظام الذي وضعه الله لدوران الأَرض حول الشمس مائلة على محورها بزاوية معينة مما ينشأُ عنه تعاقب الفصول، ومع كونه سبحانه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل فهو عظيم السمع لأَنه يسمع كل صوت وإِن كان خفيا، عظيم البصر لأَنه يبصر كل مشهد وإِن كان نائيا. فإِذا وقع ظلم على واحد من عباده فإِنه ينصر المظلوم ويردع الظالم ويحق الحق ويبطل الباطل و {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} (2).
62 -
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أَي: ذلك الاتصاف بما ذكر من كمال القدرة والعلم، ثابت لله تعالى بسبب أَنه - سبحانه - هو الإِله الحق الذي لا شك فيه، وهو وحده الجدير بالعبادة والتقديس.
{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} : وأَن ما يعبدون من آلهة أُخرى هو الباطل لأَنهم {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (3).
{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} : وأَن الله سبحانه هو العلي على جميع الموجودات، الكبير عن أَن يكون له شريك أَو مثيل لأَنه الخالق المهيمن المدبَّرُ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (4).
(1) سورة الشورى، الآية: 40
(2)
سورة آل عمران، من الآية: 5
(3)
سورة الفرقان، من الآية: 3
(4)
سورة الأعراف، من الآية:
المفردات:
{مُخْضَرَّةً} : مكسوة بالنبات الأَخضر. {لَطِيفٌ} : بر بعباده محسن إِليهم رفيق بهم يشملهم برحمته وفضله. {خَبِيرٌ} : عليم مطلع على ما يحتاجون إِليه وما يصلحون له وما يصلح لهم. {الْغَنِيُّ} : المستغنى بقدرته عن غيره فلا يحتاج إِلى أَحد ويحتاج إِليه جميع الخلائق {الْحَمِيدُ} : المستحق للحمد والثناء على فضله العظيم.
التفسير
63 -
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} :
بعد أَن بين الله لعباده قدرته على إِيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وأَنه الحق وما يعبدون من دونه هو الباطل، جاءَت هذه الآية شاهدة على تمام قدرته تعالى وبليغ رحمته بعباده.
والمعنى: أَلم تر أَيها الإِنسان أَن الله أَنزل من السحاب ماءً بقدر وحساب دقيق، أَنزله فوق أَديم الأَرض فتتحول من أَرض يابسة جرداءَ، إِلى أَرض مكسوة بالنبات الأَخضر الذي تتوقف حياتك عليه، فبه ترزق، وعليه يَعيش الحيوان الذي تنتفع به.
{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} : إن الله رحيم بعباده عالم بما يحتاجون إِليه وبما يقيم حياتهم ويكفل معيشتهم في أَمن وسلام.
64 -
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} :
أَي: لله - سبحانه - ما في السموات وما في الأَرض ومَنْ فيهما خلقا وملكا وتصرفا، لا يخرج شىءٌ عن سلطانه ولا يعجزه شىءٌ من الأَشياءِ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} (1).
{وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} : وإِن الله لهو المستغنى عن مخلوقاته جميعا لا يحتاج إِلى أَحد منهم، وهم جميعا يحتاجون إِليه.
وهو وحده المستحق للحمد والثناءِ من خلقه، لأَنه هو الذي خلقهم ورزقهم وشملهم بلطفه ورحمته.
المفردات:
{سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} : يَسَّر لكم الانتفاع بما في الأَرض من حيوان أَو نبات أَو معادن. {الْفُلْكَ} : السفن. {رَءُوفٌ} : مشفق.
{لَكَفُورٌ} : لجاحد للنعمة منكر لها.
التفسير
65 -
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} : من نعمه العديدة حيث يَسَّر لكم الانتفاع بما فيها من حيوان ونبات ومعادن.
(1) سورة فاطر، من الآية: 44
{وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} : وسخر لكم السفن بعد أَن علمكم كيف تصنعونها وكيف تستخدمونها في حملكم وحمل السلع التجارية من بلد إِلى بلد، ومن إِقليم إِلى إِقليم، طبقا لسنته في الأَجسام الطافية حيث أَجراها بالرياح الجارية، أَو بالمحركات الدائرة التي أَلهمكم صنعها.
{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} : ومن رحمته سبحانه بخلقه أَنه خلق الأَجرام والكواكب، ودفع كلا منها في مداره المرسوم وربطها برباط الجاذبيَّة طبقا لسنته الكونية.
وهذه الجاذبية من شأْنها أَن تجعل الأَرض تجذب إِليها بعض كواكب السماءِ القريبة منها لتسقط عليها ولكنه - سبحانه - جعل في مقابل الجاذبية ما يسميه علماءُ الفلك بقوة الطرْدِ المركزية، وهي مساوية لقوة الجاذبية، فيقع الجرم الفلكى بين قوتين متعادلتين مما يتيح له البقاءَ متوازيا في فلكه المرسوم، ولكن حينما يأْذن الله بنهاية الخلق تضعف إِحدى القوتين عن نظيرتها فيصطدم بعض الكواكب ببعضها الآخر، وذلك ما يشير إِليه قوله تعالى:{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} (1).
{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} : إِن الله تعالى رحيم بعباده، مشفق عليهم، إِذ هيَّأَ لهم العيش المناسب فوق سطح الأَرض وتحت كواكب السماءِ، وهم آمنون مطمئنون.
66 -
{وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} :
أَي: أَنه - تعالى - هو الذي وهب عباده الحياة، وهو الذي يسلبهم إِياها عند الموت، ثم يبعثهم بعد الحساب والجزاءِ، فمن حقه عليهم أَن يعبدوه ولا يكفروه، ولكنهم أَشركوا به وكفروه، ولذا ختم الله الآية بقوله:
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} : أَي؛ شديد الجحود للنعم العديدة التي يراها في نفسه وفيما يحيط به في البر والبحر والأَرض والسماءِ، إِلا من عصم الله من عباده الصالحين.
(1) سورة الانفطار، الآيتان: 1، 2
المفردات:
{مَنْسَكًا} أَي: شريعة.
{فَلَا يُنَازِعُنَّكَ} أَي: فلا يخاصمُنَّك ولا يجادلنك في أَمر الإِسلام وتكليفهم به.
{جَادَلُوكَ} : ناقشوك وخاصموك.
التفسير
67 -
{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} :
لكل قوم جعلنا شريعة يلتزمون بها ويؤَدونها في الوقت الذي أَراده الله لها.
وشريعة الإِسلام هي شريعة هذه الأُمة التي بعث بها محمد، في مشارق الأَرض ومغاربها إِلى يوم القيامة، فهى ناسخة لما قبلها فلا ينازعَنَّك أَهلُ الكتاب في شأْنها، فهم مكلفون بها.
{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} :
وادع أَهل الكتاب وغيرهم إِلى عبادة ربك على الشريعة التي جئتهم بها، فإِنك من دين ربك على طريق مستقيم، ولا عليك إِن استجابوا لك أَو أَعرضوا عنك.
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (1).
(1) سورة البقرة، من الآية: 272
68 -
{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} :
إِذا بلغت رسالتك - أَيها النبي - فلا يضيرنك جدال المجادلين ولا نزاع المخاصمين، فإِن جادلوك فقل لهم: الأَمر بينى وبينكم مفوض إِلى العليم الحكيم؛ فإِنه يعلم سركم وجهركم، ويعرف ما تبدون وما تكتمون.
وقد توعدهم الله على جدالهم بقوله:
69 -
{اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} :
أَي: أَمركم جميعا إِلى الله يقضى بينكم بحكمه وحكمته يوم يقوم الناس لرب العالمين {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (1).
وفي هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب فيها عام للمؤْمنين والكافرين، وليس محكيا بالقول كالذى قبله.
(1) سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8
المفردات:
{يَسِيرٌ} : سهل. {سُلْطَانًا} : دليلا له سلطان. {يَسْطُونَ} : يبطشون.
التفسير
70 -
أَلم تعرف أَن الله يعلم جميع ما في السموات والأَرض من أَجزائهما وما استقرَّ فيهما، وما يُجْهَرُ فيهما أَو يُسَرُّ من القول أَو العمل؟ وما تكنه القلوب وما تضمره النفوس وكل هذا مسجل عنده في كتاب قديم كما قال تعالى:{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (1).
والمراد به: علم الله - تعالى - فهو يحكم بين الناس عن علم ويقين روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عَمْرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله قدر مقادِير الْخلائق قَبل خَلْق السَّموَاتِ والأَرْض
…
" الحديث.
وقد دَوَّنَ سبحانه هذه الأَحداث في اللوح المحفوظ طبقا لعلمه، وأَنزلها بحسب مشيئته في الوقت الذي قدَّره سبحانه.
وإِن هذه المعرفة يسيرة على خالق الكائنات ومالكها والمدبر لها بما يملكه من قوة وسلطان وتدبير وإِحكام.
71 -
أَي: أَن هؤُلاءِ المشركين يتجهون بالعبادة والتقديس إِلى غير الله الذي خلق السماءَ والأَرض، وعلم كل شيءٍ فيهما، يفعلون ذلك دون اعتماد على برهان عقلى أَو كتاب سماوى.
(1) سورة النمل، الآية: 75
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} : وما لهؤُلاءِ الذين ظلموا أَنفسهم من معين يؤَيدهم في هذا الانحراف ويعاونهم فيما لجُّوا فيهِ من ضلال وكفر، أَو ينقذهم مما ينتظرهم من عقاب.
72 -
وإِذا تلا عليهم قارىءٌ آياتِ الله البينات الواضحات ضاقوا بها ذَرْعًا وظهر الضيق والضجر على وجوههم؛ لأَنهم بطبيعتهم المنحرفة، وتفكيرهم السقيم، يؤْثرون الضلال على الهدى {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}: يهمون أَن يبطشوا بمن يقرأُ عليهم آيات الله البينات ضيقا به وغيظا منه.
{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} : قل لهم: أَأَعظكم وأُخبركم بما هو أَسوأُ من ضيقكم بالدعوة إِلى الله وتفكيركم في البطش بالداعين إِليه، أَسوأُ من ذلكم نار جهنم التي أَعدها الله وتوعد بها من انصرفوا عن الهدى إِلى الضلال وعن الإِيمان إِلى الكفران، وساءَ المرجع والمصير الذي اخترتموه لأَنفسكم بما فطرتم عليه من جهلٍ وعناد.
المفردات:
{ضُرِبَ مَثَلٌ} : بُيِّنَتْ لكم حالٌ مستغربة.
{تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : تعبدونهم غير الله.
{اجْتَمَعُوا لَهُ} : احتشدوا وتعاونوا.
{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} : الطالب؛ الآلهة، والمطلوب؛ الذباب، وقيل العكس، وقيل الطالب العابد والمطلوب المعبود.
التفسير
73 -
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} :
يا أَيها الناس إِن الله - سبحانه - يبصركم بحقائق الأُمور عن طريق ضرب الأَمثلة الحسية الواقعية فَأَصْغُوا إِليها واستمعوا لها.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} : إِن الذين تعبدونهم من دون الله عاجزون عن خلق الذباب، وهو حشرة ضعيفة مهينة، فكيف تعبدونهم دون من خلق الأَرض والسماوات ومن فيهن وتكفل برزقهم وتدبير أُمورهم؟ وهذه الآلهة المدعاة لا تستطيع خلق الذباب ولا عضوا واحدا من أَعضاءِ الذباب، ولو تساندوا جميعا وتعاونوا وحشدوا كل طاقاتهم. ووصل أَمرها من الضعف إِلى ما صوره الله بقوله:
{وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} : أَي؛ وهذا الذباب إِن يأْخذ من هذه الأَوثان شيئا من نحو الطعام الذي يوضع أَمامها قربانا لا تستطيع استرداده منه، وقد ختم الله الآية بما يفيد سوءَ حال الأَصنام وعابديها فقال:
{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} : أَي؛ ضعف الإله والذباب، أَو الذباب والآلِهَة، فكيف استساغت عقولهم أَن يعبدوا تلك الأَوثان، ويقدسوها، ويسندوا إِليها النصر والرزق والمطر والصحة والمرض، وهي بهذا الضعف الذي صوره الله بما يقتضي الرثاءَ لعابديها؟
المفردات:
{قَدَرُوا اللَّهَ} : تبينوا عظمته وقدرته وسلطانه.
{قَوِيٌّ} : قاهر لا يغلب. {عَزِيزٌ} : منيع لا يضام.
{يَصْطَفِي} : يختار. {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} : ما يستقبلونه.
{وَمَا خَلْفَهُمْ} : وما يستدبرونه.
التفسير
74 -
{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} :
أَي: ما عرفوا عظمة الله وجلاله وقدرته وسلطانه حَقَّ المعرفة، فانصرفوا عن عبادته وتقديسه إِلى عبادة الآلهة الضعيفة المهينة العاجزة.
{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} : إِن الله سبحانه قوى عظيم القوة والسلطان، وكل ما سواه ضعيف عاجز، والله سبحانه عزيز لا يُنال وغالب على أَمره، وسواه مهين ضعيف ذليل مغلوب.
75 -
{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} :
أَي: أَن الله سبحانه يحيط علمه بكل شَىْءٍ، فلهذا يعلم مَنْ هو أَهلٌ للرسالة من الملائكة ومن البشر، فينزل شرائعه عن طريق الروح الأَمين، على مَنْ يختاره مِنَ البشر لتبليغ شرائعه إِلى الناس. وفي ذلك يقول سبحانه:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (1) ويقول أَيضا: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (2) يقال: إِن الوليد بن المغيرة استكثر الرسالة على محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} (3) فنزل قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} : ردًّا عليه وتحقيقا للحق {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} : إِن الله سبحانه عظيم السمع يسمع كل صوت وإِن كان خفيًّا، شامل البصر يرى كل مشهد وإِن كان دقيقًا أَو قَصِيًّا؛ فهو سبحانه محيط بكل شيءٍ علما.
(1) سورة الأنعام، من الآية: 124
(2)
سورة الدخان، الآية: 32
(3)
سورة ص، من الآية: 8
76 -
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} :
أَي: أَنه - تعالى - يعلم ما يستقبلونه من أَحداث ويعلم ما يخلفونه من آثار، قال تعالى:
وإِليه وحده المرجع والمآب؛ فالكل منه وإِليه وجميع الكائنات مردها إِلى الله، وهو بها جميعا بصير عليم.
المفردات:
{اجْتَبَاكُمْ} : اختاركم واصطفاكم.
{حَرَجٍ} : ضيق أَو شدة.
{مِلَّةَ} : شريعة.
{مَوْلَاكُمْ} : ربكم ومالك أَمركم ومدبر شئونكم.
{النَّصِيرُ} : المعين.
(1) سورة يس، الآية: 12
التفسير
77 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} :
بعد أَن فرغت الآيات الكريمة من مجادلة المشركين وتسفيه آرائهم، اتجهت إِلى مخاطبة المؤمنين بندائهم بما امتازوا به من تكريم، وتنبيههم إِلى أَن العمل الصالح هو ثمرة الإِيمان ونتيجته، وفي مقدمة الأَعمال الصالحة الصلاة لأَنها علامة الإِيمان وعماد الدين وقد عبر عنها بالركوع والسجود لأَنهما سمة الخشوع والخضوع اللذين هما قِوام الصلاة، فالمقصود بالأَمر بهما: الأَمرُ بإِقامة الصلاة بكل ما تشتمل عليه منهما ومن غيرهما ثم أَمرهم باستكمال موجبات الإِيمان فقال:
{وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : أَي؛ اعبدوا خالقكم ومالككم ومربيكم باتباع أَوامره واجتناب نواهيه والاتجاه إِليه وحده بالعبادة والتقديس، فهو الرب المنعم المتفضل، وافعلوا ما قدرتم عليه من الخير، لتنالوا الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
وبما أَن الإِسلام له أَعداءٌ يتربصون به، فلذا أَمرهم الله بالجهاد في سبيله فقال:
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} : والجهاد في الإِسلام؛ يشمل مقاومة أَعدائه الواقفين في سبيل نشره المعادين ليه، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (1). كما يشمل مقاومة نزغات النفس وشهواتها وأَهوائها، روى البيهقى والخطيب عن جابر: أَن النبي صلى الله عليه وسلم قفل من إِحدى الغزوات فقال لأَصحابه: "قَدِمتُم خير مقدم، وقدِمْتُم من الجهاد الأَصغر إلى الجهاد الأَكبر".
وفسر الجهاد: الأَكبر بأَنه مجاهدة العبد هواه؛ وأَفضل الجهاد: مقاومة الظلم، قال صلى الله عليه وسلم:(أَفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) أَخرجه ابن ماجه، والخطيب، وأَحمد والطبرانى، والبيهقى.
(1) سورة التحريم، الآية: 9
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} : هو اصطفاكم لحمل خاتم الأَديان ونشر رسالته، فأَرسل إِليكم أَفضل الأَنبياءِ، وأَنزل إِليكم أَكرم الكتب السماوية؛ وأَتم عليكم نعمته بالتأْييد والنصر.
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} : ولم يكلفكم ما يشق عليكم ويسبب لكم الضيق والحرج، فإِنه سبحانه لا يكلف نفسا إِلا وسعها، وهو تبارك وتعالى ييسر الأُمور:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1).
ومن لطفه وتيسيره: أَنه أَباح لنا قصر الصلاة والإِفطار في السفر الطويل، وأَباح لنا التيمم عند فقد الماءِ أَو تعذر استعماله، والقعود في الصلاة عند تعذر القيام فيها.
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} : فالزموا الإِسلام الذي هو ملة أَبيكم إِبراهيم، فهو الذي بنى لكم البيت ودعاكم إِلى حجه والصلاة إِليه. بتكليف من الله سبحانه وتعالى ودعا الله أَن يمكنه وذريته من إِقامة الصلاة بقوله:{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (2).
{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} :
هو الله - سبحانه - الذي سماكم بهذا الاسم وارتضى لكم الإِسلام دينا من قديم، وأَمركم به في هذا القرآن الكريم حيث قال فيه:{فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (3){لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} :
ولما كان القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية، وقد أَبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله إِلى أُمته بما يحويه من أَوامر ونواه، وبما فيه من قصص الرسل والأَنبياءِ السابقين فلهذا يشهد الرسول بأَنه بلغ رسالة الإِسلام إِلى أُمته، ويشهد المسلمون منهم على الأُمم السابقة بما قصه عليهم القرآن من تبليغ رسلهم شرائع الله إِلى أُممهم.
{فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} : أَي؛ وإِذا كان الله تعالى منحكم هذا الشرف العظيم، حيث جعلكم شهداءَ على الناس، فتقربوا إِليه - سبحانه - بأَنواع الطاعات، وأَخصها إِقامة الصلاة وإِيتاءُ الزكاة.
(1) سورة البقرة، من الآية: 185
(2)
سورة إبراهيم، من الآية: 40
(3)
سورة الحج، من الآية: