المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جرائمهم في عهد الإسلام - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٦

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌جرائمهم في عهد الإسلام

‌جرائمهم في عهد الإسلام

قلنا إن سد يأجوج ومأجوج تخرب مصداقا لوعده تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} الآية، وقد خرجوا من محبسهم في غزوات تخريبية، ومنها ما حدث في أوائل القرْن السابع الهجرى بقيادة ملكهم (جنكيزخان) حيث أغاروا على بلاد المسلمين فأطاحوا بمملكة (قطب الدين السلجوقى) ملك التركستان والفرس، وأخضعوا بلاد الهند، وهلك الطاغية (جنكيزخان) بعد رجوعه من الهند، وأَغار ابن أخيه (هولاكو) بجنوده على مقر الخلافة ببغداد في عهد الخليفة (المستعصم بالله) وذبحوا الخليفة، وعلقوا جثته بذيل حصان وأباحوا المدينة تسعة أيام سالت فيها الدماء أَنهارا، وطرحوا كتب العلم في نهر دجلة، ثم أذن الله بالنصر عليهم في عهد الملك (سيف الدين قطز) بعد أَن وصلوا في غزواتهم المدمرة إلى الشام، حيث جرد لهم جيشا عظيما من مصر والشام، وحاربهم في معركة فاصلة بعين جالوت، وهزمهم شر هزيمة، وأَجلاهم ولم تقم لهم بعدها قائمة.

وفي شأْنهم هذا روى البخاري بسندر عن زينب بنت جحش رضى الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يومًا فزعًا يقول: لا إله إلا الله. ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من سد يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بإصْبَعَيهِ الإبهام والتى تليها قالت زينب بنت جحش: أنهلك وفينا الصالحون؟ ففال نعم إِذا كثر الخبث).

وتعبيره صلى الله عليه وسلم عن الفتحة بالسد وتصويره إياها بتحليقه بإصْبَعَيْه الإبهام والتى تليها، كناية عن بداية صغيرة لشرهم، ثم اتسع هذا الشر في أوائل القرن السابع الهجرى كما ذكرنا - والله تعالى أعلم.

التفسير

99 -

{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} :

بعد أن حكى القرآن الكريم عن ذى القرنين أَن هذا السد رحمة من ربه، ذكر في هذه الآية ما فعله الله تعالى بيأجوج ومأجوج بعد إقامة السد، وظاهر النظم الكريم أن الضمير في قوله تعالى:{بَعْضَهُمْ} عائد إلى يأجوج ومأجوج، وعليه اقتصر الفخر الرازى، واختاره صاحب البحر. والتَّرْكُ هنا بمعنى الجَعْل، وهو من الأضداد.

ص: 929

والمعنى على هذا: وبعد تمام السد جعلنا يأجوج ومأجوج يموجُ بعضهم في بعض، أي يضطربون اضطراب موج البحر لما مُنِعُوا من الخروج والفساد في الأرض بسبب السد، ولا يزالون مائجين مضطربين، حتى ينجز الله وعده الحق، فَيَنْدَكُّ السد ويسوى بالأرض، وحينئذ يخرجون مزدحمين في البلاد ويهلكون الحرث والنسل.

وقيل: إن الضمير عائد إلى الخلائق من الإِنس والجن. وعلى هذا الرأى يكون معنى الآية ما يلى:

وجعلنا بعض الخلائق يضطربون اضطراب أمواج البحر، يختلط إنسهم بجنهم من شدة الفزع والهول عند قيام الساعة، روى هذا عن ابن عباس رضى الله عنهما - قال الآلوسى: ولعل ذلك لعظائم تقع قبل النفخة الأولى.

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} : الصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام بأمر الله تعالى، كما ثبت في السنة وهو بوق عظيم جدا، جاء في الآثار من وصفه ما يدهش العقول، ولكنا نؤمن به، ونكل حقيقته إلى من أَحاط بكل شىءٍ علمًا، وقد صَحَّ عن أبي سعيد الخدرى رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَقَدْ الْتَقَمَ صَاحِبُ القرْنِ الْقَرنَ وَحنَى جَبينَهُ وأصغى سمْعَهُ يَنْتَظرُ أنْ يُؤْمَرَ فيَنْفُخ"(1) وهو ينفخ فيه نفختين: الأولى نفخة الصعق والأخرى نفخة البعث والقيام من القبور، وهما المذكورتان في قوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} (2).

والمراد هنا النفخة الأُخرى بدليل ما بعدها، والضمير في قوله تعالى:{فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} للخلائق كلها ومنهم يأجوج ومأْجوج - أي عقب النفخة الأُخرى في الصور، والقيام من القبور، نجمع الخلائق كلها حميعًا عظيمًا هائلا: أولهم وآخرهم، إنسهم وجنهم، مؤمنهم وكافرهم بعدما تفرقت أَوصالهم، وتمزقت أَجسادهم - نجمعهم في صعيد

(1) وذهب أبو عبيدة إلى أن الصور جمع صورة، وأيده بقراءة الحسن (الصور) بفتح الواو، وعلى هذا يكون النفخ في الصور كناية عن إحياء الخلائق، لجمعهم وحسابهم وجزائهم.

(2)

الزمر - الآية:

ص: 930

واحد للحساب والجزاء، كما قال تعالى {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (1)، وقال سبحانه {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (2).

{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)}

المفردات:

{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ} : أَظهرناها. {أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ} : أَعينهم عليها غشاءٌ يمنعها من البصر.

{عَنْ ذِكْرِي} : عن الآيات التي تذكرهم بي.

التفسير

100 -

{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} :

هذا إخبار منه تبارك وتعالى، عما يفعله بالكفار يوم يجمع الخلائق للحساب والجزاء.

والمعنى: وأبرزنا جهنم وأظهرناها للكافرين إِظهارًا جليًا حيث يرونها، ويسمعون لها تغيُّظًا وزفيرًا، ويبصرون ما أعد لهم فيها من العذاب والنكاك قبل دخولهما، ليكون ذلك أَبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم، وليعلموا أَنهم مواقعوها لا يجدون عنها مصرفًا.

101 -

{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي ..... } الآية.

وهذا بيان منه سبحانه لبعض أوصاف الكافرين الذين استحقوا بسببها هذا العذاب والنكال، أي هؤُلاء الكافرون بي كانت أعينهم - وهم في الدنيا - في غشاوة محيطة بها، فتغافلوا وتعاموا عن النظر في آياتى المُنْبَثَّةِ في الأنفس والآفاق، المؤدية إلى توحيدى وتمجيدى وذكرى وطاعتى، ويجوز أَن يراد ذكره تعالى الذي أَنزله علي رسله ودعا إليه عباده .. وقوله

(1) الواقعة، الآيتين: 49، 50

(2)

الكهف، من الآية: 47

ص: 931

تعالى: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} . نفى لسمعهم آياته على أتم وجه وأبلغه، والمراد أنهم مع تغافلهم وتعاميهم عن التدبر في آياته تعالى، كفاقدى السمع أصالة، فهو تصوير لإعراضهم عن سماع ما يرشدهم إِلى ما ينفعهم. بعد تعاميهم عن آياته المؤَدية إلي ذكره وما ينبغي لجلال وجهه - والتعبير عن إِعراضهم عن الذكر بأنهم كانوا لا يستطيعون سمعًا، يؤْذن بأن ذلك كان دأبهم الذي اعتادوه واستمروا عليه وقد أَفادت الآية أنهم سدوا على أَنفسهم منافذ العلم من السمع والبصر.

{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)}

المفردات:

{أَفَحَسِبَ} : الاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ، والحسبان بمعنى الظن. والفاءُ عاطفة على مقدر مناسب سيأتى في التفسير. {أَوْلِيَاءَ}: أي معبودين أو أنصارًا.

{أَعْتَدْنَا} : أَي أَعددنا وهيأْنا. {نُزُلًا} : أي شيئًا يقدم لهم، كالذى يقدم للنزيل أَو الضيف. وقيل النزل: موضع النزول، ولذلك فسره ابن عباس رضى الله عنهما بالمثْوَى.

{ضَلَّ سَعْيُهُمْ} : أي ضاع عملهم وبطل عند الله عز وجل.

ص: 932

التفسير

102 -

{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ

} الآية.

لما بين الله سبحانه وتعالى الآية السابقة ضلال الكافرين وتغافلهم عن التدبر في آياته الهادية إلى ذكره وطاعته - أنكر عليهم في هذه الآية اتخاذهم بعض عباده آلهة يعبدونهم من دونه، أو أنصارًا ينصروكم ويخلصونهم من عذابه.

والمعنى: أجهل هؤُلاء الذين كفروا بي فظنوا أن اتخاذهم بعض عبادى آلهة أو أنصارًا ينجيهم من عذابي! كلا، إنهم بظنهم هذا لفى ضلال مبين، ولو كان أَولياؤُهم من الملائكة أو العباد المقرببن، ثم أكد سبحانه هذا الإنكار على الكافرين به فقال:

{إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} : أي إِنا هيأْنا لهؤُلاه جهنم جزاء على عبادتهم لغيرنا واتخاذهم أولياء. وفي هذا ما فيه من التهكم بهم والتخطئة في حسبانهم ذلك، مع الإيماء إلي أَن لهم من وراه جهنم ألوانًا أخرى من العذاب (1)، وليست جهنم إلا مقدمة له. وأما إِذا كان النُّزل بمعني المنزل أو المثوى، فالمراد بيان انعكاس مقصودهم من النجاة إلى الهلاك.

103 -

{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} :

قيل إن المراد بهؤُلاء الأخسرين: أهل الكتابين: اليهود والنصارى، ولكن ظاهر الآية الكريمة أنها عامة في كل من عبد الله علي غير شريعته التي شرعها لعباده، يحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول، ولكنه مخطىء وعمله مردود عليه.

أي قل أيها الرسول للمشركين خاصة، وللكافرين عامة: هل أُخْبركم بأشد الناس خسرانا لأعمالهم وحرمانًا من ثوابها؟! ثم فسرهم بقوله:

104 -

{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} :

أيْ أن الاخسرين أعمالًا من سائر الملل والنحل هم الذين أتعبوا أنفسهم في أعمال يبغون بها ثوابًا وفضلًا، فنالوا بها هلاكًا وخسرا، كالذى اشترى سلعة يرجو بها ربحًا عظيمًا، فخاب

(1) فإن لفظ "النزل" يعبر به عما يقدم للضيف أول ما ينزل من غير كلفة، ويكون عادة مقدمة لما يقدم له بعد بعناية، وقد عبر به هنا عما يقدم للكافرين أول نزولهم للعقاب وهو جهنم، فما ظنك بما يكون بع

ص: 933

رجاؤه وخسر بها خسرانًا مبينًا. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} (1) وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (2). ثم بين سبحانه ما ترتب على كفر أولئك الأخسرين أعمالا من الجزاء السيء على ما صنعوا فقال:

105 -

{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا .. } الآية.

أي أُولئك الضالون الخاسرون، وهم يحسبون أَنهم يحسنون، هم الذين جحدوا آيات ربهم ودلائله الداعية إِلى توحيده وتمجيده، وضموا إِلى جحودهم آيات ربهم إنكارهم البعث في اليوم الآخر وما يتبعه من الجزاء على الأعمال، فمن ثَمّ حبطت أَعمالهم وبطلت وإذًا:{فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} : بل نزدرى بهم ونحتقرهم، ولا نجعل لهم مقدارًا، لأنه لا مقدار لأحد إلا بالعمل الصالح، وأولئك مجردون من صالح الأعمال، وقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنَّهُ لَيَأْتِىَ الرَّجُل الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القيَامَةِ لَا يَزِن عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَة، وَقَال: اقْرَءُوا إنْ شئْتُمْ: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} أو المعنى لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانًا لأنها قد حبطت وصارت هباءً منثورًا. وقوله تعالى:

106 -

{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} :

بيان لمآل كفرهم وسائر معاصيهم، إثْرَ بيان أعمالهم المُحْبَطَةِ بذلك الكفر، أي ذلك جزاؤُهم الذي جزيناهم به بسبب كفرهم بي، واتخاذهم رسلى وآياتى التي أيَّدتُهُمْ بها - هزؤًا وسخرية! فلم يكتفوا بمجرد الكفر بالآيات والرسل، بل ارتكبوا عظيمة أُخرى مثلها، وهى الاستهزاءُ بالمعجزات الباهرة التي أيدت بها رسلى عليهم السلام وبالصحف المنزلة عليهم.

(1) سورة النور، من الآية: 39

(2)

سورة الفرقان، الآية:

ص: 934

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)}

المفردات:

{الْفِرْدَوْسِ} : أعلى درجات الجنة وأَوسطها وأفضلها. وأصله في اللغة: البستان الجامع لكل ما في البساتين. {حِوَلًا} : أَي تحولا وانتقالا.

التفسير

107 -

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} :

بعد أن ذكر الله سبحانه ما أعده من العذاب للذين كفروا بآيات ربهم واستهزءُوا برسله - ذكر جزاء الذين آمنوا به وبلقائه وعملوا الصالحات، قال الآلوسي تبعًا لأبي السعود: هذا بيان - بطريق الوعد - لمآل الذين اتصفوا بأضداد ما اتصف به الكفرة، إثر بيان مآل الكفرة بطريق الوعيد، أَي: إن الذين آمنوا بآيات ربهم ولقائه سبحانه، وعملوا الأعمال الصالحات، كانت لهم فيما سبق من حُكْمِهِ تعالى ووعده جنات الفردوس أعلى الجنات منزلة وأرفعها درجة، أخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سَألتُمُ الله تعَالى فاسْألُوهُ الفِردَوسَ: فإنَّهُ وَسَطُ الجَنَّةِ وَأعلَى الجَنَّةِ وَفوْقهُ عَرْشُ الرحمَن، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ). وفي التعبير بقوله "كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِردَوْسِ نُزُلًا". إِيماءٌ إِلى أَن أثر الرحمة، يصل إِليهم بمقتضى الرأفة الأزلية، بخلاف ما مر من جَعْل جهنم للكافرين نُزُلًا، فإنه بموجب ما حدث من سوء اختيارهم.

انظر تفسير أبي السعود.

ص: 935

108 -

{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} :

أي مقيمين ساكنين فيها لا يظعنون عنها أبدًا. قال ابن كثير: وفي قوله: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} تنببه علي رغبتهم فيها وحبِّهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائمًا أنه كد يسأمه أو يمَلُّهُ فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدى، لا يختارون عن مقامهم ذلك تحولا ولا ظعنًا ولا رحلة ولا بدلا. أهـ.

{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُولِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} .

المفردات:

{مَدَدًا} : المداد في الأصل: اسم لكل ما يُمَدُّ به الشيءُ، واختص في العرف بما تُمَد به الدواة من الحبر. {يَرْجُو}: يأمل أو يخاف.

{لِكَلِمَاتِ رَبِّي} : أي لكلماته الإبداعية والتشريعية والخبرية، في اللوح المحفوظ وفي القرآن الكريم، وفي شئون الكون حاضره ومستقبله ودنياه وأخراه.

التفسير

109 -

{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي}

الآية.

ص: 936

سبب النزول:

روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن حُيَيَّ بن أخطب قال: في كتابكم: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} ثم تقرءُون: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ومراده الاعتراض بوقوع التناقض في القرآن الكريم، بناء على أن الحكمة هي العلم فكيف يكون العلم في القرآن شيئًا قليلًا في آية، وخيرًا كثيرًا في آية أخرى، وقد غفل هؤُلاء اليهود، عن أن الشيء الواحد قد يكون قليلًا في حالة، وكثيرًا في حالة أخرى فالآية جواب عن اعتراضهم بالإشارة إلى أَن القلة والكثرة من الأمور الإضافية، فيجوز أن يكون الشيءُ كثيرًا في نفسه، وهو قليل بالنسبة إلى شيءٍ آخر، ولا شك أن التوراة ليست كل كلام الله تعالى، بل هي بعض قليل منه، ويكفى في كتابتها مداد قليل، أما كلامه تعالى الشامل للتوراة وغيرها من شئون الكون فكثير لا يكفي في كتابته مداد البحر.

ومعنى الآية: قل لهم أيها الرسول: أو كان ماءُ البحر مدادًا للقلم الذي تكتب به كلمات ربي في التشريع والتكوين وغيرهما، لنَفِدَ هذا المداد وفَنِىَ قبل أن تنفد كلمات ربي وتفنى، ولو جئنا بمثل هذا الماء العظيم مددًا وعونًا، لأن جميع ما في الوجود علي التعاقب والاجتماع - مُتَنَاهٍ، وعلم الله وكلماته لا تتناهى، والمتناهي لا يفي ألبتة بغير المتناهى.

والمراد أن كلمات الله تعالى لا يعتريها فناءٌ ولا نقص، وعلمه لا غاية له ولا نهاية، فما علم العباد جميعًا بجانب علمه تبارك وتعالى إلَاّ كقطرة من ماء البحور كلها. وفي معنى الآية الكريمة قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ً} (1). ثم ختم سبحانه السورة الكريمة بنحو ما بدأها به من البشارة والنذارة فقال:

110 -

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ .... } الآية.

أي قل أيها الرسول للمشركين وللناس جميعًا: إنما أنا بشر مثلكم من بني آدم، لا أدعى الإحاطة بكلماته جل وعلا، ولا أعلم إلَّا ما علمنى ربي، وقد أوحى إلى أنما إلهكم الذي يجب أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا هو إله واحد لا شريك له.

{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} : أي فمن كان يأمل تكريم ربه إياه بالثواب وحسن الجزاء عند لقائه، فليعمل عملًا صالحًا موافقًا

(1) سورة لقمان، الآية: 27

ص: 937

لشريعة الله، ولا يُرِدْ بعبادة ربه إِلَّا وجه ربه وحده لا شريك له، وهذان هما الركنان اللذان لا بد منهما لكل عمل متقبل، أَن يكون خالصًا لله سبحانه، وأن يكون صوابًا وفق شريعة رسوله صلى الله عليه وسلم أو المعنى: فمن كان يخاف سوءَ لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا خالصًا لوجه ربه ولا يخلط به غيره.

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالي: (أَنَا أغْنَى الشُّرَكَاء عَنِ الشِّرْك. مَنْ عَملَ عَمَلًا أشْرَك فيه مَعى غَيْرِى. تَرَكْتُهُ وَشركَة)(1)، روى الشيخان عن جندب بن عبد الله رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمَّعَ، سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِى يُرَائِى اللهُ به"(2).

وروى مسلم عن أبي هريرة أيضًا (3) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوم الْقِيَامَةِ عليْهِ، رجل استُشهد فَأُتِىَ به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استُشهِدْتُ، قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جرىء، فقد قِيلَ، ثم أمَرَ بِه فسُحِبَ على وجهه حتى ألقى في النار، ورجل تعلم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلَّمت وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ فقد قيل، ثم أَمَرَ بِهِ فسُحِبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وَسَّعَ الله عليه وأَعطاه من أصناف المال كلِّه، فأُتِيَ به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أَن ينفق فيها إلا أَنفقت فيها لله، قال: كذبت ولكنك فعدت ليقال: هُوَ جوادٌ فقد قيل، ثم أَمَرَ بِهِ فسُحِبَ علي وجهه ثم أُلقى في النار".

والله المستعان على الإِخلاص في النيات والأقوال والأعمال ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(1) هذا كناية عن إحباط ثوابه وحرمانه من أجره، لما اقترفه من ترك الإخلاص فيه والحديث يعم الشرك الجلي وكذا الشرك الخفي المعبر عنه بالرياء.

(2)

أي من مع الناس بعمله، أو راءاهم به ليحمدوه ويثنوا عليه، أظهر الله سريرته لهم وملأ أسماعهم من سوء الحديث عنه في الدنيا والآخرة، فلم يظفر بما أظهره إلا بإبداء ما انطوى عليه من خبث السريرة.

(3)

في كتاب الإمارة: باب من قاتل للرياء والسمعة استحق ال

ص: 938