الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وضعت حملها وفطمت صبيها، لهذا نرى أَن المسأَلة جديرة بالنظر من رجال الفقه المعاصرين والله - تعالى - يهدى إلى سواه السبيل.
حاشية: الرقيق والأَمة اللذان سبق لهما الزواج، لا يرجمان إذا زنيا، بل يجلد كلاهما خمسين جلدة ، لأنهما على النصف من الحُرِّ في الحدَّ، والرجمُ لا يقبل التجزئة، فعدل به إلى الجلد فيهما.
المعنى الإجمالي للآية وأحكامها
أما وقد فرغنا من البحوث الهامة في الآية، فإلى القارىء فيما يلى معناها الإجمالى: الزانية التي وطئها باختيارها رجل لا يحل له وطؤها ولم يسبق له الزواج، والزانى الذي وطىءَ امرأة باختياره يحرم عليه وطؤها ولم يسبق له الزواج، يجلد كل منهما مائة جلدة إذا كان حرًّا بالغًا عاقلا، أَما من فيه رق فإنه يجلد خمسين جلدة، لقوله تعالى:{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} والعبيد كالإماء في ذلك، ولا يقام هذا الحد إلا على من ثبت زناه بإقراره، أو بشهادة أربعة شهود عدول رأوه بأَعينهم، أَو بحَمْل المرأَة وهي غير متزوجة، ولفظاعة الزنى وقبح آثاره أَوجب الله أَن لا تأْخذنا بالزانيين رأَفة قى تنفيذ دينه وشريعته، فلا يحل جلدهما أَقل مما أوجبه فيهما، ولا ضربها من غير إيلام، ولا العفو عنهما بشفاعة أو رأَفة وشفقة بعد ثبوت الزنى عليهما، رَدْعًا لهما ولغيرهما، وحماية لأَعراض المسلمين وأنسابهم من مثل جرمهما.
وقد أَثار الله ما فينا من إيمان بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، إلهابًا لِحَميَّتنا الدينية في تنفيذ حكمه عليهما، أي: إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فلا تأْخذكم بالزانيين رأفة في تنفيذ دينه وشرعه فيهما وقد أمر الله أَن يحضر عذابهما حين إقامة الحد عليهما طائفة - أي جماعة - من المؤمنين، زيادة في التنكيل والتشهير، وللعبرة والاتعاظ والأمر بحضورهم للندب وليس للوجوب على ما قاله الفقهاء، والمراد بهم: جماعة يحصل بهم التشهير والزجر، وأَقلهم ثلاثة، وقيل: أربعة بعدد شهود الزنى.
أَما الزاني المحصن أَي الذي سبق له الدخول في نكاح صحيح فحده الرجم حتى يموت، كما سبق بيانه في البحوث التي سبقت هذا المعنى الإجمالي للآية، فارجع إِليها لتكون على علم
ففي هاتين الآيتين يبين الله سبحانه، أن للزوجة أَن تدفع عن نفسها العذاب المترتب على لعان الزوج وشهاداته ضدها، فتكذبه فيما قذفها به.
وطريقة تكذيبها إياه كما يفهم من نص هاتين الآيتين: أن تقول أَربع مرات بتلقين القاضى وأمْرِه: أَشهد بالله إِن فلانًا لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى، وتميزه بالاسم والنسب إن كان غائبًا، وتشير إِليه إن كان حاضرًا، وتقول في الخامسة بأَمر القاضى وتلقينه: وعليَّ غضب الله إن كان من الصادقين، فإذا قالت ذلك فلا حَدَّ عليها، ولكنها لا تعود إلى زوجها أَبدًا كما تَبْقَى الآثار الأُخرى التي ترتبت على لعانه - كما قال الشافعية (1).
والغضب أَعظم من اللعنة ، لأَنه يتضمنها وزيادة، ولذلك خصت به المرأَة، لأَن جريمة الزنى منها أَقبح من جريمة القذف منه، ولهذا تفاوت الحدان.
وقبل أَن يلاعن الزوج يذكره القاضى بأَن عذاب الآخرة أَشد من عذاب الدنيا إِذا لاعن كاذَبًا فإِنى أصر على اتهامه وملاعنته لزوجته، قال له القاضى قبل الخامسة: اتق الله، فإِن عذاب الدنيا أَهون من عذاب الآخرة، وإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العذاب فإِن أَبي شهد الشهادة الخامسة، وكذلك يفعل مع المرأَة، ويقرأ عليهما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
…
} الآية (2).
10 -
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} :
في هذه الآية انتقال إلى أسلوب الخطاب للرامين والمرميات، بعد الحديث عن أحكامهما بأُسلوب الغيبة، وذلك منه تعالى لتوفية مقام الامتنان عليهم، وجواب لولا مقدر، ولم يذكر
(1) جاء في القرطبي في المسألة السادسة والعشرين في تفسير هذه الآية: قال مالك وأصحابه: وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان، ولا يحل له مراجعتها أبدًا لا قبل زوج ولا بعده - ثم قال القرطبى قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما - ثم قال: وقال الشافعى: إذا أكمل الزوج الشهادة وإلالتعان فقد زال فراش امرأته - التعنت أو لم تلتعن - قال الشافعى: وأما التعان المرأة فهو لدرء الحد عنها لا غير، وليس لالتعانها في زوال الفراش معنى، ثم ذكر في المسألة التاسعة والعشرين أنهما لا يتوارثان بعد تمام لعان الزوج عند الشافعية، أما عند الحنفية ومن يرى رأيهم فيتوارثان قبل أن يفرق القاضى بينهما وإن تلاعنا.
(2)
سورة آل عمران، الآية: 77
تهويلًا لأَمره، فإنه يشير إِلى أَن مثله تضيق العبارة عن بيانه، فكأنه قيل: لولا تفضل الله ورحمته عليكم، وأَنه تعالى من شأْنه قبول توبة التائبين، ولولا الحكمة في أَقواله وأَفعاله وأَحكامه - لولا ذلك كله - لكان ما يقصر عنه البيان، ومن ذلك أَنه لو لم يشرع اللعان للقاذف والمقذوف من الزوجين، لوجب على الزوج حد القذف مع أَن الظاهر صدقه، لأنه أَعرف بحال زوجته، وأَنه لا يفترى عليها لاشتراكهما في الافتضاح ولوجب عليها حد الزنى بلعانه لو لم يُشْرع لها اللعان كما يقوله الشافعية ومن يرى رأيهم، فجعل لعان كل منهما سببًا لدرء العذاب عنه - مع الجزم بأَن أحدهما كاذب، ولأَن في قذف الزوج لزوجته الزانية وشهادته عليها في فجتمع التقاضى شفاءٌ لما في نفسه من جرح عميق بسبب جريمة زوجته وخيانتها، ولأن لعان الزوجة ضده فيه ستر في الدنيا، ولولاه لكان لأَهلها وأَولادها سمعة شنيعة بين الناس، فهو يشبه ردَّ الشرف الذي سلبه لعانه منها، وأَمر كليهما مفوض لخالقه، فهو أَعلم بالصادق والكاذب منهما ومُجَازٍ له على صدقه. أو كذبه، ولقد شرع الله ما هو أَستر للزوجين وذريتهما وأهليهما، وهو أَن يطلق الزوج زوجته إِذا عرف زناها، دون أَن يعلم الناس بما حصل منها، ففي ذلك درءٌ للشناعة والفضيحة التي تحدث من تلاعنهما في المسجد على المنبر أَمام الناس، كما يقول به الفقهاءُ - تغليظًا عليهما - والله تعالى أَعلم.
المفردات:
{جَاءُوا بِالْإِفْكِ} : الإفك أَشد الكذب، وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك - وقد يستعمل في الكذب مطلقًا. {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} : جماعة من بينكم، وتطلق العُصْبة لغة على الجماعة من عشرة إِلى أربعين - كما قال صاحب المختار - وقد تطلق على أقل منهم.
{تَوَلَّى كِبْرَهُ} : أَي تولى معظمه وقام به، قرئ بكسر الكاف وضمها، ومعناهما واحد.
{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} : لولا مِثلُ هَلَّا للتحضيض على فعل أَمر وترك ضده، وسيأْتى شرحه.
{شُهَدَاءَ} : الشهداءُ جمع شهيد ، أَي: شاهد.
التفسير
11 -
{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
…
}.
الآية.
المراد بالإِفك هنا: ما افتراه المنافقون على أم المؤمنين عائشة - رضى الله عنها - وقد نزلت في شأْنه عشر آيات هذه أولاها، وقد برأَ الله فيها عرضها وعرض أَهلها، وصان كرامة صلى الله عليه وسلم وقد قام بمعظم الإِفك رأْس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول - عليه
لعنة الله -، فهو الذي اختلقه ونشره، حتى دخل في أذهان بعض المسلمين فتكلموا به، وجوزه آخرون منهم، وبقى الأَمر كذلك قريبا من شهر حتى نزل القرآن مبرئا لها على أَكمل وجه، وروته الأحاديث الصحيحة مبرئة ساحتها، ونشأت هذه الفرية النكراءُ عن أمر برىءٍ حدث في غزوة بنى المصطلق (1)، فاستغله المنافقون أَعداء الإسلام أَسوأَ استغلال.
وخلاصة القصة مستنبطة من صحاح الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلما خرج في غزوة أقرع بين نسائه، وحينما خرج في غزوة بنى المصطلق سنة ستٍّ أَقرع بينهن فخرج سهم عائشة - رضى الله عنها - فخرجت معه، وكان ذلك بعد ما فُرِض الحجاب، ولهذا كانت تُحْملُ في هودج وتنزل فيه، ولما انتهت الغزوة وعاد الرسول، نزلوا قريبًا من المدينة، وأَثناءَ الليل، أَمر الرسول بالرحيل فنزلت لتقضى حاجتها بعيدًا عن مكان نزول الجيش، ثم عادت إِلى رَحْلِها وفوجئت بأَن عقدها قد انقطع - وكان من جَزْع ظَفَار (2) فعادت لتبحث عنه فتأخرت بعض الوقت، وجاءَ الذين يحملون هودجها فرفعوه على بعيرها ظانين أَنها فيه، لأَن النساء كُنَّ خفاف الجسم لقلة الغذاءِ في صدر الإسلام، كما أَنها كانت حديثة السن، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، ولما عادت بعقدها وجدت الجيش قد رحل فبقيت حيث كانت تنزل ونامت، لعلهم يتفقدونها فلا يجدونها فيرجعون إِليها لترحيلها، وكان صفوان بن المعطل السلمى وراء الجيش، ليجمع ما نسيه المجاهدون، فرأَى سواد إِنسان نائم فلما رآها عرفها لأَنه كان يراها قبل الحجاب، فاسترجع (3) فغطت وجههما عنه، وقالت: والله ما سمعت منه كلمة غير استرجاعه، فأَناخ راحلته، وداس على يدى الناقة حتى رَكِبَتْهَا، وانطلق يقود الراحلة حتى أَدرك الجيش، فكان ذلك مثارًا لإفْك عنهما افتراه وتولى إِذاعته عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين.
(1) ويقال لها أيضا غزوة المريسيع: قاله القرطبى.
(2)
ظفار كقطام: بلد باليمن قرب صنعاء، ينسب إليه الجزع بفتح الجيم وكسرها، وهو خرز فيه سواد وبياض تشبه الأعين.
(3)
أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد أَدرك المرض السيدة عائشة، فلزمت الفراش شهرا، وهي لا تدرى بما يتردد بين الناس من أَصداء ما افتراه عبد الله بن أبي بن سلول، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يسأَل عن حالها سؤالا مجملا بقوله:(كيف تيكم؟) وينصرف دون أَن ترى منه اللطف الذي كانت تعتاده في مرضها، وحين خرجت من مرضها إِلى طور النقاهة منه. عادتها أُم مسطح بنت خالة أَبي بكر، ثم قالت: تَعِسَ مِسْطح، فقالت لها السيدة عائشة: بئس ما قُلتِ، أَتسبين رجلا شهد بدرًا؟ قالت: أَو لم تسمعى ما قال: فقالت عائشة: وما قال؟ فأَخبرتها بما أَذاعه أهل الإِفك عنها، فازدادت مرضا، فلما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم استأْذنته في أَن تذهب إلى بيت أَبيها - وكانت تريد أَن تعرف القصة من والديها - فأَذن لها الرسول، فلما ذهبت إليه سألت أَمها عما حدثتها به أُم مسطح، فقالت: يا بنَيَّةُ هوّنى عليك، فوالله لَقلَّما كانت امرأَة قطُّ وضيئة عند رجل ولها ضرائر إلَاّ أَكثرن عليها، قالت عائشة: سبحان الله؛ أَوَقَدْ تحدث الناس بهذا، فبكت ليلتها وفارقها النوم حتى أَصبحت وهي لا يَرْقأَ لها دمْعٌ، وقد استدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وعليا - رضى الله عنهما - ليستشيرهما، وبريرة جاريتها ليسمع شهادتها بشأنها، وخرج من حديثهم معه بما أَراح نفسه وطمأَنه على أَهله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد على المنبر وقال: يا معشر المسلمين من يَعْذِرنى (1) من رجل قد بلغنى أَذاه في أَهل بيتى؟ فوالله ما علمت على أَهلى إِلا خيرًا، وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إِلا خيرًا، وما كان يدخل على أَهلى إِلا معى فقام سعد بن معاذ الأَنصارى سيد الأَوس فقال: أَنا أَعذك منه يا رسول الله، إِن كان من الأَوس ضربنا عنقه، وإِن كان من الخزرج أَمَرْتنا ففعلنا أَمرك، فثار نقاش بين الخزرج والأَوس، بسبب تدخل سعد بن معاذ في أَمرهم، وحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت السيدة عائشة قد عادت إلى بيتها بأَمر أَبيها، فظلت يومها هذا تبكى وكان معها أَبواها، وكانا يظنان أَن البكاءَ سيغلق كبدها - كما روت عنهما - ثم دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس معهم، ولم يسبق له أَن جلس عندها منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأْنها بشيءٍ، فسأَلها عما يذيعه المفترون عليها، ثم أَجابت
(1) أي.: من يقوم بعذرى إذا أردت مكافأته على سوء فريته.
بعد أَن بَحَثَتْ عن آية من القرآن تجيبه بها، وكانت يومئذ لا تحفظ منه كثيرًا - أَجابت بقولها: والله ما أَجد لى ولكم مثلا إِلا كما قال أَبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ، ثم اضطجعت على فراشها، وهي تعلم أَنها بريئة وأَن الله سيظهر براءَتها ولكنها - كما قالت - ما كانت تظن أَن يُنْزِل في شأْنها وحيًا يتلى وأَن يصل أَمر تبرئتها عند الله إلى مثل ذلك، وكل ما كانت تأْمله أَن يُرِىَ اللهُ رسوله في منامه رؤيا يبرئها الله فيها، وبينما كانوا جميعا في مجلسهم هذا إِذ أَوحى الله إلى نبيه، فأَخذه ما كان يأْخذه من الشدة عند نزول الوحى حتى كان ينزل العرق منه مثل الجُمان - أَي - اللؤلؤ - في اليوم الشاتى من ثقل القول الذي أنزل عليه، فلما سرِّى عن رسول الله وهو يضحك، قال لعائشة: أَبشرى يا عائشة، أَما اللهُ فقد برأَك، فقالت لى أَمى: قومى إِليه، فقلت: والله لا أَقوم إِليه ولا أَحمد إِلا الله عز وجل هو الذي أَنزل براءَتي، وأَنزل سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ ..... } عشر آيات في براءَتها.
وهذا الافتراءُ الذي حدث في حق عائشة - رضوان الله عليها - حدث مثله للسيدة مريم، وكان من أَقرب الناس إِليها وهم أَهلها، وكما برأَ الله مريم على لسان عيسى، برأَ السيدة عائشة بوحى يقرؤه الناس نزل به الروح الأَمين على خاتم المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
والعُصبة: الجماعة من الناس من العشرة إلى الأَربعين، وقد تطلق على ما دون ذلك كما تقدم في المفردات، وقد ذكرت السيدة عائشة منهم: عبد الله بن أَبي بن سلول، وحمنة بنت جحش، ومسطح بن إِثاثة، وحسان بن ثابت، وكان عبد الله بن أُبيٍّ رأْس الحية ومثير الفتنة ومخترعها - عليه لعنة الله - وقد اعتذر حسان عما نسب إِليه في شأْنها بقصيدة جاءَ فيها:
حَصَانٌ رَزَان ما تُزَنُّ بريبة
…
وتصبح غَرْثَى من لحوم الغوافل (1)
حليلة خبر الناس دينًا ومنصبًا
…
نبيَّ الهدى ذى المكرمات الفواضل
عقيلةُ حيٍّ من لؤى بن غالب
…
كرامِ المساعى مَجْدُهم غيرُ زائل
مهذبة قد طَيَّب الله خَيْمَها
…
وطهرها من كل سوءٍ وباطل
(1) الحصان: العفيفة، والرزان: الوقورة، ومعنى ما تزن بريبة: أنها لا يصح أن تظن بها ريبة أو توصف بها، ومعنى الشطر الثاني: أنها تصبح نحيلة الجسم من غيبة من يأكلون لحوم المحصنات الغاف
والمعنى الإجمالى: إن الذين اختلقوا البهتان في حق عائشة أم المؤمنين وأذاعوه هم جماعة وشرذمة ينتسبون إِليكم بأُخوَّة الإِسلام فكيف رضوا بإذاعته؟ لا تظنوا هذا الافتراءَ شرًّا لكم بل هو خير عظيم لكم، لنيلكم الثواب الجزيل بالصبر عليه، وظهور كرامتكم وكرامة زوجكم المصون على ربكم، بإِنزال ما فيه تعظيم شأْنكم، وتشديد الوعيد لمن تكلم بما أَحْزَنكم، كما قال سبحانه:
أَي: لكل امرىءِ من الذين جاءُوا بالإِفك جزاءَ ما اكتسب من الإِثم بقدر ما خاض فيه سواءٌ أَكان ذلك اختلاقًا ورضًا أَم تَرْديدًا وإِذاعة، والذى تحمل معظمه فقام بأَكبر حظ من إِعلانه، له عذاب عظيم في الدنيا والآخرة.
وكان أَول من اختلقه وأَذاعه عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، فكان يجمع الناس ويذكر لهم ما يذكر من الإِفك، لإِمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كافأَه الله في الدنيا بتكذيبه وإِعلان نفاقه وإِقامة حد القذف عليه كما أَخرجه الطبرانى وابن مردويه عن ابن عمر، وأَخرجه الطبرانى أَيضًا عن ابن عباس، كما أَقام حد القذف على مسطح وحسان وحمنة، أَخرجه البزار وابن مردويه بسند حسن عن أَبي هريرة.
ولما بلغ صفوانَ اشتراكُ حسان في الإِفك عنه وعن أُم المؤمنين، جاءَ فضربه بالسيف ضربة على رأْسه وقال:
تَلَقَّ ذبابَ السيف عنى فإِننى
…
غلامٌ إِذا هوجيت ليس بشاعر
ولكننى أَحمى حماى وأَتَّقى
…
من الباهت الرأْى البرىءِ الظواهر
وقد حال دون قتل صفوان لحسان ثابت بن قيس بن شماس، فقيد وثب على صفوان ومنعه من الإِجهاز عليه، وكان صفوان بن المعطل المذكور، صاحب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة، وروى عنه أَنه قال: والله ما كشفت كَنَفَ أَنثى قط، يريد: ما كشفها بزنى، وقُتِل شهيدًا - رضى الله عنه - في غزوة
أَرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر، وقيل: ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية (1)
12 -
والمعنى: هلَّا حين سمعتم أيها المؤْمنون والمؤْمنات هذا الإفك ممن أَذاعوه، ظننتم بأَهل ملتكم: عائشة وصفوان خيرًا وطهرا، وقلتم بلا تردد: هذا افتراءٌ واضح مكشوف لا نرضاه لمن هم كأَنفسنا، ولا نوافق على نسبته إليهم، وقلتم أيضًا في شأْن المفترين الخائضين على سبيل التوبيخ:
13 -
أَي: هلَّا جاءَ أصحاب الإِفك بأَربعة شهداءَ عدول يشهدون على ما زعموه في شأْن عائشة، فحيث لم يأْتوا بالشهداءِ، فهم عند الله وفي حكمه كاذبون، فكيف تصدقونهم وهم مخالفون لشريعة الله ومنافقون.
ويجوز أن تكون الآية ابتداءَ كلام من الله تقريرًا لكون ذلك إفكًا، وليس حكاية لما ينبغي أَن يقوله السامعون.
(1) انظره في المسألة الثالثة في تفسير القرطبى لهذه الآية.
المفردات:
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} : تفضله بالمصابرة والعفو عن التائبين. {لَمَسَّكُمْ} : لأَصابكم.
{فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} : بسبب ما خضتم فيه. {تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} : أَي تطلبون بأَلسنتكم مِمَّن يحكى هذا الإِفك أَن يلقيه إليكم ويعرفكم ما قيل فيه، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا}: وتظنونه أَمرًا خفيفًا لا عقوبة عليه. {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} : كبير الإثم.
{مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} : ما يصح وما يليق بنا ونحن مؤمنون أَن نتكلم بهذا.
{سُبْحَانَكَ} : هذا تنزيه مشوب بالتعجب، وسيأتى بيانه. {بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}: افتراءٌ عظيم يُحيِّر سامعه. {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} : ينصحكم لئلا ترجعوا إِلى مثله مدة الحياة.
التفسير
14 -
أَي: ولولا تفضل الله عليكم أَيها الخائضون، ورحمته بكم، لأَصابكم عذاب عظيم فيما خضتم فيه من الإِفك في شأْن عائشة، أَما رحمته في الدنيا فقد تمثلت في إمهالكم حتى تثوبوا إِلى رشدكم، وتتوبوا إِلى ربكم من ذنبكم، وتعرفوا حرمة بيت نبيكم، وأما رحمته في الآخرة فبالعفو عمن تاب منكم، وغفران ما اقترفته أَلسنتهم، وكل ذلك من فضل الله عليكم.
ولا ينال هذا الفضل والرحمة من الخائضين سوى التائبين من المؤمنين كمسطح بن إِثاثة وحمنة بنت جحش، وحسان بن ثابت، أَما من بَقِىَ مغمورًا في نفاقه كعبد الله بن أبي ابن سلول وأَضرابه، فلا نصيب لهم منهما، ولا قيمة لتوبتهم الظاهرية إن تابوا.
15 -
أَي: ولولا فضل الله ورحمته لمسكم عذاب عظيم حين تتلقون هذا الإفك من ناقليه، بعد طلبم بأَلسنتكم سماعه وتروون بأفواهكم ما ليس لكم به علم، وإنما جاءَكم عن طريق السماع عن الآفكين، وتحسبون ترويج الكذب على عرض ابنة الصديق وزوج الرسول أَمرًا خفيفًا سهل العاقبة، والحال أَنه عند الله أمر عظيم في إثمه وسوء عاقبته، فالقدح في الأَعراض شين عظيم، وإثم كبير، فكيف به في عرض أم المؤمنين، وزوج خاتم المرسلين.
جاءَ في الصحيحين أَنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يدرى ما تبلغ، يَهْوِى بها في النار أَبعد ما بين السماء والأرض" وفي رواية: "لَا يُلْقى لها بالًا".
ويصح أَن يكون المعنى: إِذ يتلقاه بعضكم بأَلسنة بعض آخر منكم، وتروون بأَفواهكم عنهم ما ليس لكم بصحته علم، وكلا المعنيين جيد، وفسره مجاهد وابن جرير - كما نقله ابن كثير - بأَن يرويه بعضهم عن بعض، يقول هذا: سمعت كذا من فلان، ويقول آخر: قال فلان كذا، ويقول ثالث: ذكر بعضهم كذا - انتهى بتصرف، والمعانى متقاربة وإن كان ما قلناه أَولًا وثانيًا أَقرب إِلى النص الكريم مما نقله ابن كثير عن ابن جبير ومجاهد.
16 -
بعد أَن أدب الله الخائضين قبل هذه الآية بأن يظنوا خيرًا بمن تجمعهم بهم أُخوة الإِيمان حين يسمعون عنهم قالة السوءِ، جاءَت هذه الآية بلون آخر من التأْديب.
والمعنى: هلَّا حين سمعتم ما لا يليق في شأْن الخِيرَة قلتم - مع الظن بهم خيرًا -: لا ينبغي لنا ولا يصح أن نتكلم بهذا عن الأَطهار البررة، بدلًا من ترديدكم له بالرواية عن مخترعيه، هلَّا قلتم متعجبين ومستكبرين لما يقولون:{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} وكذب محُيِّرٌ خطيرٌ لا يصح أن يقال في عرض كرام المؤمنين.
وقد كان على هذا الخلق العالى الذي دعا إليه القرآن - كان عليه - أَصحاب القلوب الصافية، والعقول الوضيئة، والحس المرهف، فعن سعيد بن جبير أَن سعد بن معاذ لما سمع ما قيل في أَمر عائشة - رضى الله عنها - قال:{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} وعن سعيد بن المسيب أَنه قال: كان رجلان من أَصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعا شيئًا من ذلك قالا ما ذكر، وهما أُسامة بن زيد بن حارثة، وأبو أَيوب الأَنصارى - رضى الله عنهما -، وأَخرج ابن مردويه عن عائشة - رضى الله عنها - قالت: إن امرأَة أبي أَيوب الأَنصارى قالت له: يا أَبا أَيوب أَلا تسمع ما تَحَدَّثَ به الناس؟ فقال: ما يكون لنا أَن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، ومثل ذلك قال غيرهم وحق لهم أنْ يقولوا ذلك، فإِنه لا يجوز عقلًا أَن يختار الله لرسوله امرأَة فاجرة، فإن ذلك ينفر عن اتباعه، ويخل بحكمة البعثة - هكذا قال الإمام الرازى عليه رحمة الله.
17 -
{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} :
يذكركم الله ويحذركم من أَن تعودوا طول حياتكم لمثل هذا الإِفك في عائشة، أَو سائر أَزواجه - صلى الله علي وسلم - لسوءِ عاقبته، وعظيم عقوبته، إن كنتم مؤمنين بالله فامتثلوا تحذيره واعملوا بنصيحته، لتأْمنوا عذابه وسوءَ حسابه، ويفهم من الآية الكريمة أن مَنْ سبَّ عائشة بعد هذا التحذير لا يكون من المؤمنين، وهذا ما ذهب إليه الإِمام مالك، فقد نقل القرطبى عنه أَنه يقول بكفره ووجوب قتله، ويعلل ابن العربى ذلك بأَنَّ الله برأَها فكل من سبها بما بَرَّاها لله منه فهو مكذب لله، ومن كذَّبَ اللهَ فهو كافر يُقْتَلُ لِرِدتَه، تلك هي خلاصة ما ذكره القرطبى في ذلك.
18 -
{وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} :
وينزل الله لكم آياته مبَيَّنةً واضحة الدلالة على الأحكام الشرعية، والأخلاق الكريمة والآداب الجديرة بخير أمة أخرجت للناس، والله مُحيطٌ علمه بأحوال مخلوقاته وما ينبغي لهم من شرائع، حكيم في جميع أفعاله وأحكامه، فالتزموا ما بينه لكم من شرائعه وآدابه.
المفردات:
{أَنْ تَشِيعَ (1) الْفَاحِشَةُ} : أن تنتشر المقالة المفرطة في القبح.
{رَءُوفٌ} الرأْفة: شدة الرحمة.
التفسير
19 -
في هذه الآية تأْديب من الله تعالى لمن يحبون القدح في أَعراض الأعفاءِ من المؤمنين والمؤمنات.
ومعنى الآية: إن الذين يريدون ويختارون أن تنشر تهمة الزنى في عرض المحصنين والمحصنات (2) من الذين آمنوا ويقومون بنشرها لهم عذاب أليم على إذاعتها في الدنيا والآخرة، لشدة قبح هذه الفرية في حق من افتريت عليه، أما عذابهم في الدنيا فبحد القذف، وأَما عذابهم في الآخرة فبنار جهنم - إن لم يقم الحد عليهم في الدنيا، أو أُقيم عليهم وكانوا
(1) يقال: شاع الشيء شيوعًا وشيعًا وشيوعة، أي: ظهر وانتشر.
(2)
المراد بالإحصان هنا: العفة عن الزنى، فقذف صاحبه هو الذي يوجب الحد سواء كان المقذوف رجلًا أو امرأة.
منافقين أو كافرين - فإن الحدود لا تكون جوابر ولا تحمى من النار إلا عصاة المؤمنين، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} .
وهذه الآية قاعدة عامة يراد بها صيانة الأَعراض عمومًا، وإن نزلت بشأْن قصة عائشة وصفوان التي افتراها رأْس المنافقين ابن سلول.
وقد جاءَ في حُرْمة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تؤذوا عباد الله ولا تُعَيِّروهم ولا تطلبوا عوراتهم، فإِنه من طلب عورة أَخيه المسلم، طلب الله عورته حتى يفضحه" أَخرجه الإِمام احمد بسنده عن ثوبان، وجاءَ في حديث لأَبى الدرداء أَنه صلى الله عليه وسلم قال: "أَيما رجلٍ شد عضد امرىءٍ من الناس في خصومة لا علم له بها، فهو في سخط الله حتى ينزع عنها، وأَيُّما رجلٍ قال بشَفَاعَته دونَ حَدٍّ من حدود الله أن يُقَام، فقد عاند الله حقًّا وأَقدم على سُخْطِه، وعليه لعنة الله إِلى يوم القيامة، وأَيُّما رجل أشاع على مسلم كلمة وهو منها برئ يَرَى أَن يَشِينَه في الدنيا كان حقًّا على الله تعالى أن يرميه بها في النار، ثم تلا مصداقًا لذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا
…
} الآية وقد عرفت من تفسيرنا للآية أَن المراد من حُبِّ إشاعة الفاحشة، أَن يكون هذا الحب مقرونًا بإِذاعتها فعلا، حتى يكون بذلك قاذفًا فيستوجب حد القذف الذي جعله الله عذابه في الدنيا، أَما إِن أَحب إذاعتها ولم يشترك في نشرها فلا حد عليه، ولكن الله يعاقبه في الدنيا بمقتضى وعيده، كأَن يصيبه بنوعٍ من البلاءِ، أَو يبتليه بما تمناه لغيره - انتقامًا منه لفساد قلبه ورغبته في الفتنة، وكما يحرم التشنيع على المؤمنين والمؤمنات، يحرم قذف غيرهم وإِشاعة الفاحشة عنهم فإن لهم ما لنا وعليهم ما علينا (1).
20 -
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} :
أَي: ولولا تفضل الله ورحمته عليكم أَيها الآفكون وأَنه تعالى دائم الرأْفة والرحمة لعباده، لمسكم فيما أَذعتموه من الإِفك على زوج رسول الله المحصنة البريئة - لمسكم في ذلك عذاب عظيم لا يقادر قدره، ولكنه تعالى أمهلكم بموجب رأْفته ورحمته ليميز الخبيث من الطيب، ثم أنزل براءتها مما نسب إِليها، فتاب من استيقظ ضميره، وعرف حق الله ورسوله، فتاب الله عليه، وأقام الحد على من ثبت عليه التشهير بذلك فَطَهر منهم من كان من المؤمنين، وبَقِىَ في رجسه وسوءِ عاقبته من كان من المنافقين.
(1) ولكن لا حد على قاذفه من المسلمين كما قاله الجمهور بل يعزر، انظر تفسير الآية الرابعة من هذه السورة في القرطبى - ص 174 - المسألة السادسة.
المفردات:
{خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} : أَي وساوسه، وهي في الأصل جمع خُطْوه - بضم الخاءِ - وهي ما بين القدمين للماشى، واستعملت هنا في وساوس الشيطان على سبيل المجاز، والخَطْوة - بالفتح - اسم للمرة من الخَطْو، وجمعها خطَوات - فتح الخاء والطاء، تقول: خطا، يخطو، خَطْوة وَخَطوات. {يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}: الفحشاءُ؛ ما أفرط قبحه كالفاحشة، والمنكر: ما ينكره الشرع، والشيطان يأْمر بهما، أَي: يحث عليهما. (مَا زَكَا): ما طهر.
{وَلَا يَأْتَلِ} : أَي ولا يحلف، من الألِيَّة، وهي: اليمين، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} : أي يحلفون. {أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} : أَصحاب الزيادة في الدين والسعة في المال.
التفسير
21 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
…
}:
يأيها الذين تجملوا بحلية الإيمان، لا تسلكوا مسالك الشيطان فيما يسعى إليه من الشرِّ فيما بينكم، ولا تعملوا بوساوسه، فإنه لا يسعى إلى خير، ولا يوسوس إلا بفتنة، ومن يتبع خطوات الشيطان، فيسلك سبيله ويعمل بوسوسته، ارتكب الفحشاء والمنكر، فإن الشيطان لا يأمر إِلا بهما، ولا يحض إلا عليهما، ومن كان كذلك لا يجوز اتباعه وطاعته في وسوسته، فكيف اتبعتموه في نشر الإفك، وما هو إِلا كاذب أثيم؟
ولولا تفضل الله عليكم ورحمته بكم، إِذْ أمهلكم حتى تثوبوا في رشدكم وتتوبوا من ذنبكم بعد ما أنزله إليكم من الآيات البينات الناطقة بطهر ابنة الصديق الكريم زَوْجِ النبي الأمين، وأم المؤمنين - لولا هذا الفضل والرحمة - ما طهر أَحد منكم أَبدًا من ذنب هذا الإفك المبين، ولكن الله يزكى ويطهر من يشاءُ ممن حسنت توبته، وصفت سريرته، والله عظيم السمع لما يقال من الذنوب والتوبة منها، محيط العلم بالمذنبين والتائبين - مخلصين أو غير مخلصين - فيجازى كلا على حسب حاله {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (1).
وهذه الآية وإن نزلت بسبب خاص، فهى قاعدة عامة تقتضى وجوب الابتعاد عن المنكرات، فإنها ترضى الشيطان وتغضب الرحمن الذي يعلم السر وأخفى، وتقتضى العقاب لمن لم يتدارك ذنبه ويستغفر ربه.
(1) سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8
22 -
قال الألوسى في سبب نزول الآية: صح عن عائشة وغيرها "أن أبا بكر - رضى الله عنه - حلف - لما رأى براءَة ابنته - ألا ينفق على مِسْطَحٍ شيئًا أبدًا، وكان من فقراء المهاجرين الأولين الذين شهدوا بدرا، وكان ابن خالته - وقيل: ابن أخته - فنزلت الآية.
وقال القرطبى: رُوِىَ في الصحيح: (أن الله تبارك وتعالى لما أَنزل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الآيات العشر، قال أبو بكر - وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره -: والله لا أُنفق علِيه شيئًا أَبدًا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُوالْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقال أبوبكر: والله إنِّى لأُحبُّ أن يغفر الله لى، فأرجع إلى مِسطح النفقةَ التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدًا).
ويروى عن ابن عباس والضحاك: أن جماعة من المؤمنين منهم أبو بكر - رضى الله عنه - قطعوا منافعهم عمن قال في الإفك، وقالوا: والله ما نَصِل مَن تكلم فيه، فنزلت الآية.
ومعنى الآية: ولا يحلف أصحاب الفضل في الدين والسعة في المال، كراهة أن يعطوا أصحاب القرابة والمساكينَ والمهاجرينَ في سبيل الله الذين اشتركوا في نشر الإفك، وليعفوا وليصفحوا عما فرط منهم، أَلا تحبون أيها الحالفون الكرام أَن يغفر الله لكم بسبب عفوكم وإحسانكم إِلى من أساء إليكم (1)، والله واسع المغفرة والرحمة، مع كمال قدرته على المؤاخذة، وكثرة ذنوب العباد الداعية إِليها.
وإذا كان سبب النزول حلف أَبي بكر بالنسبة لمسطح فالجمع في قوله: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُوالْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} وقوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} لقصد تعميم الحكم في كل من يعفو عمن أساءَ إليه ويعطيه بعد أن حلف على حرمانه، أما إن كان سبب النزول عامًا كما سبق عن
(1) ويصح أن يكون قوله تعالى: "ألا تحبون أن يغفر الله لكم" لتمثيل وإقامة الحجة، أي: كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم، فكذلك اغفروا لمن دونكم: ذكره القر
ابن عباس فالجمع ظاهر، والآية تدل على فضل الصديق سواءٌ نزلت فيه وحده أو مع غيره، كما تدل على أَن القذف وإِن كان من الكبائر، فإنه لا يحبط العمل، لأن الله وصف مسطحا بعد أن قال في عائشة ما قال - وصفه بأَنه من المهاجرين - أَي: من الذين حصلوا على شرف الهجرة وعظيم ثوابها، إِذ لا يحْبِط العملَ إِلا الكفرُ، كما قال تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} .
كما يستنبط منها أَن من حلف على عدم فعل شيءٍ، ثم رأى أَن فعله أَولى فليفعل الذي هو خير، ولكن عليه أَن يكفر عن يمينه؛ لقوله تعالى في سورة المائدة:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ .. } الآية (89).
المفردات:
{الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ} : العفيفات الغافلات عما يقال في شأن أَعراضهن زورًا ولا علم لهن به. {دِينَهُمُ الْحَقَّ} : من معانى الدين في اللغة الجزاء: أي: جزاءهم الثابت الموافق لذنبهم. {هُوَ الْحَقُّ} : هو الثابت الذي لا يعتريه شك: {الْمُبِينُ} : البيِّن الظاهر بآياته - من أَبان: بمعنى ظهر واتضح - أَو المظهر للناس تمام قدرته على ثوابهم وعقابهم في هذا اليوم، من أَبان الشيء، أَي: أَظهره وأَوضحه.
التفسير
23 -
تضمنت هذه الآية وعيد القاذفين للمحصنات الغافلات المؤمنات باللعن في الدنيا والآخرة، وبالعذاب العظيم.
واختلف في المراد: بهذا الوعيد، فقيل: هم القاذفون لعائشة رضى الله عنها -، مراعاة للسياق وبهذا أخذ ابن عباس وابن جبير، والجمع في قوله:{الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} باعتبار أَن رميها رميٌّ لسائر أمهات المؤمنين، لاشتراكهن في الطهر والنقاء والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظيره جمع المرسلين في قوله تعالى:{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} . مع أنهم كذبوا هودًا وحده.
وقال المحققون: هم الذين يقذفون أمهات المؤمنين، فلا يختص بهذا الحكم من رمى عائشة وحدها، بل يعمه ومن رمى غيرها من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم حفاظًا على كرامة البيت النبوى الشريف. وبهذا الرأى قال ابن عباس في رواية أُخرى، فقد أخرج ابن جرير والطبرانى بسندهما عنه أَنه قرأَ سورة النور ففسرها، فلما أتى على هذه الآية قال: هذه عائشة وأمهات المؤمنين، وهذا هو الراجح وبه نقول: ولم يَجْعَلْ ابن عباس لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى غيرهن من المحصنات التوبة، وقرأ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} إِلى قوله:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} الآية. والذى يظهر - والله أَعلم - أَن الله تعالى يقبل توبة من تاب منهم لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ولأنه قد تاب مسطح وحمنة وحسان واعتذروا وقبل الرسول اعتذارهم ولم يعاملهم معاملة المرتدين، بل أَقام عليهم حد القذف، تطبيقًا لحكم الله في القاذفين، ودعا القرآن الصّديق أن يعيد النفقة لمسطح وأَطلق عليه لقب المهاجر، وهو تشريف لا يناله إلا مؤمن قبل الله توبته.
فإن قيل: إِن وعيد القاذفين بأَنهم ملعونون في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يؤذن بكفر القاذفين، فإن مثل هذا الوعيد لا يكون إلا للكافرين: فالجواب عليه من وج
(أَحدها) أن هذا الوعيد محمول على من يقذفهن بعد نزول آيات البراءة لأزواجه صلى الله عليه وسلم لأنه حينئذ يكون مكذّبًا لله، ومن كذب الله فهو كافر ملعون وله عذاب عظيم.
(ثانيها) أَنه مقصود به من ظل مستبيحا للطعن كابن أُبيٍّ وشركائه من المنافقين الذين تظاهروا بالتوبة، وقد روى عن ابن عباس تخصيص وعيد الآية بابن أُبي رأس النفاق ومبْتدع الإفك.
(ثالثها) أَن هذا الوعيد مشروط بعدم التوبة، ولم يذكر هذا الشرط، لأنه معلوم بالضرورة أَن من تاب، تاب الله عليه، وهو الراجح لما تقدم بيانه.
وقيل: إِن الآية نزلت في مشركى مكة، فقد كانت المرأَة المسلمة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها، وقالوا عنها: خرجَتْ لتفجر - حكاه صاحب البحر عن أَبي حمزة اليمانى وأُيِّد بقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فإن شهادة الأعضاء تكون على الكفار لقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ
…
} (1) الآيات الثلاثة.
وإذا كان القاذفون من المسلمين، فالمقصود من لعنهم في الدنيا - كما قال القرطبى -: إبعادهم وضربهم الحد، واستيحاش المؤمنين منهم، وهجرهم وإنزالهم عن رتبة العدالة، والإِمساك عن حسن الثناء عليهم.
وأَما على قول من قال: إن الآية نزلت في مشركى مكة، فالمراد من لعنهم: طردهم عن رحمة الله ولهم في الآخرة عذاب عظيم، ما لم يُسْلِموا فإن الإِسلام يَجُبُّ ما قبله، قال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} .
والمعنى الإجمالى للآية على الوجه الراجح، إِن الذين يرمون بالفاحشة أَزواج النبي المؤمنات العفيفات عما يفترى عليهن، الغافلات عما ينشره الآفكون حولهن منْ قَالة السوء، ولا علم لهن بما يفترون - إِن هؤُلاءِ القاذفين - يلعنون في الدنيا حيث يقاطعهم المجتمع ويبعدهم عن حظيرته، ويقيم القاضى عليهم حد القذف، وترد شهادتهم ويوصمون بوصمة الفسق،
(1) سورة فصلت، الآيات: 19 - 21
كما يطردون في الآخرة من رحمة الله، ولهم فيها عذاب عظيم لا يقادر قدره، إلا من تاب وعمل صالحًا فإنه يرد إليه اعتباره فتقبل شهادته بعد إقامة الحد عليه، ويغفر الله له عثرات لسانه، أما على أن الآية نزلت في مشركى مكة فمعناها واضح.
24 -
{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :
المقصود من شهادة هذه الجوارح عليهم: أن الله تعالى ينْطِقُ كل جارحة بما صدر عنها، لكبح إنكارهم وقطع أَعذارهم، وهذه الآية مرتبطة بالآية التي قبلها.
والمعنى: والذين يرمون المحصنات لهم عذاب عظيم، في يوم تشهد عيهم ألسنتهم بما افترته من الأكاذيب، ورددته من الفحش، وتشهد عليهم أيديهم بما جنته من التشهير بالإشارات وتشهد عليهم أَرجلهم بما سعت إِليه من نقل المفتريات، فينطقها الله الذي أنطق كل شيء، وتغْلَق دونهم منافذ الإنكار، ومقتريات الأعذار في يوم تشخص فيه الأبصار:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (1).
والآية وإِن نزلت بخصوص واقعة القذف، فالحكم فيها عام يتناول جميع ما يكتسب بهذه الجوارح من المعاصي.
25 -
أي: يومئِذ تشهد عليهم جوارحهم، يوفيهم الله جزاءهم الحق المناسب لما كسبوه من السيئات، ويعلمون مما يشاهدونه من عدالة الله وقدرته وعظمته التي تتجلى في أحوال القيامة وأَهوالها - يعلمون أن الله هو الإله الحق الذي لا ريب فيه، الظاهر الذي لا خفاء في أُلوهيته وعدالته وقدرته، أو المظهر لأهل الحق حقوقهم، ولأهل الباطل أَباطيلهم، المجازى لكليهما بما كسبه في دنياه.
(1) سورة غافر الآية: 52
(2)
اسم فاعل من أبان، ويكون لازمًا بمعنى ظهر، ومتعديا بمعنى أظهر، كما يتضح من تفسيرنا للآية.
المفردات:
{الْخَبِيثَاتُ} : ضد الطيبات، {الْخَبِيثُونَ}: ضد الطيبين. والْخبْثُ: الرداءة.
{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} : وثواب سَخِىُّ، وهو الجنة. كما قاله أكثر المفسرين.
التفسير
26 -
هذا كلام مستأنف مبنى على سنة الله الجارية بين الخلق، من أَن شبيه الشيء منجذب إِليه، وفي هذا المعنى يقول القائل: إن الطيور على أشباهها تقع. . . والآية مرتبطة بما قاله الآفكون في شأن عائشة - رضى الله عنها -.
والمعنى: ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لأنها طيبة فإِنه أطيب من كل طيب من البشر؛ فلا يليق به سوى الطيبات ، ولوكانت خبيثة لما صلحت له لا شرعا ولا قدرًا، ولا حسب سنة الله في خلقه، فإِنه جعل الطيبات للطيبين، والطيبين للطيبات، والخبيثات للخبيثين والخبيثين للخبيثات.
وقال ابن عباس في تفسيرها ما معناه: الخبيثات من الأَقاويل للخبيثين من الرجال، فلا توجه إلى غيرهم، والخبيثون من الرجال للخبيثات من الأقاويل. فهم جديرون بها، والطيبات من الأحاديث للطيبيين من الرجال، فهى حق لهم ، والطيبون من الرجال للطيبات
من الأحاديث فلا يعدل بها عنهم - واختاره ابن جرير، ووجهه بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أَولى بالطيبين منهم ، فما نسبه أَهل النفاق إلى عائشة هم أولى به، وهي أولى بالبراءِة والنزاهة منهم، ولهذا قال:{أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} (1) ولهذا ختم الله الآية بما هونتيجة لهذه المقدمة فقال:
{أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} : أي أَن أهل هذا البيت الكريم بعَدَاءُ عما يقوله أَهل الإفك والعدوان لهم، بسبب ما قيل فيهم من الإفك مغفرة عظيمة لما لا يخلوعنه البشر من الهفوات أَولما يعد بالنسبة إليهم هفوات، وإن كان بالنسبة لغيرهم مكرمات، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولهم بسبب ذلك رزق عظيم في جنة الرحمن الرحيم.
وبعد، فإن نزول هذه الآيات العظيمة في تبرئة أُم المؤمنين عائشة، فيه مزيد اعتناءٍ بشرف الرسول وكرامته على الله، وجبر لقب صاحبه أبي بكر الصديق - رضى الله عنه - وكذا قلب زوجته أُم رومان، فقد اعتراها من حديث الإفك هَمٌّ جسيم، كما أن فيه تكريما لعائشة - رضى الله عنها - لمزيد انقطاعها إلى الله عز وجل ولجوئها إليه في محنتها.
(1) انظر ابن كثير.
المفردات:
{تَسْتَأْنِسُوا} : تطلبوا أُنس أَهل البيت باستئذانِكم إياهم في دخوله، حتى لا تحدث لهم وحشة ورعب بدخولكم عليهم دون استئذان.
{هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} : هوأطهر لكم - من الزكاة ، بمعنى: الطهارة - أوأنفع لدينكم ودنياكم - من الزكاة بمعنى النمو - {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} : ليس عليكم حرج.
{فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} : أَي فيها حق استمتاع بها لكم، وسيأْتى شرحه.
{تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} : ما تظهرون وما تخفون.
التفسير
27 -
لا يزال الحديث ممتدًا في تأديب الله لعباده نحوحرمانهم، فقد أَنزل هذه الآية وما بعدها ليعلمهم أَن للبيوت حرمات لا يحل انتهاكها بدخولها دون استئذان، وسبب نزولها: ما رواه
الطبرانى وغيره عن عدى بن ثابت: أَن امرأَة من الأَنصار قالت: يا رسول الله، إني أَكون في بيتى على حال لا أُحب أن يرانى عليها أَحد، لا والد ولا ولد، فيأْتى الأب فيدخل علىّ وإِنه لا يزال يدخل علىّ رجل من أَهلى وأَنا على تلك الحال، فكيف أَصنع؟ فنزلت الآية، فقال أَبو بكر: يا رسول الله، أَفرأيت الخاناتِ والمساكنَ في طرق الشام ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ
…
} (1) الآية.
وقال مقاتل بن حَيَّان: كان الرجل في الجاهلية إذا لقى صاحبه لا يسلم عليه، ويقول: حيّيت صباحا، وحييت مساءً، وكان ذلك تحية القوم بينهم، وكان أَحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأْذن حتى يقتحم ويقول: قد دخلت، فيشق ذلك على الرجل، ولعله يكون مع أهله، فغير الله ذلك كله في سَتْرٍ وعفة، وجعله نقيا نَزهًا من الدنس والقذر والدرن، فأنزل الله هذه الآية (2): اهـ.
فأَنت ترى أَنه تعالى نهىَ فيها عباده عن دخول بيوت غيرهم حتى يستأْنسوا ويسلموا على أَهلها، والمراد من الاستئناس هنا: الاستئذان، وبه قرأَ عبد الله بن عباس وسعيد ابن جبير، وقد فسره به الجمهور، وأَصل الاستئناس: طلب الأنس الذي هوضد الوحشة ولما كان المستأْذن يريد باستئذانه أَن يأْنس به أَهل البيت ولا يستوحشوا منه فيأْذنوا له، عبر عن استئذانه بالاستئناس على سبيل المجاز.
وفسره بعضهم بالاستعلام، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} أَي: فإن علمتم، والواقع أَن التفسيرين متقاربان، فإن الاستئذان مع ما فيه من طلب الإِذن فيه طلب العلم بوجود أَهل البيت وبرضاهم عن دخوله.
وقد تضمنت الآية أَن يقرن المستأْذن السلام باستئذانه، وظاهر النص تقديم الاستئذان على السلام، ولكن الأَولى العكس حسبما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم والواولمطلق الجمع، فلا تقتضى الترتيب، وصورتهما: أَن يقول المستأذن: السلام عليكم،
(1) انظره في تفسير القرطبي لهذه الآية.
(2)
انظر ابن كثير ج 6 ص 42 ط الشعب.
أأدخل؟ فقد أخرج أَبو داود عن رِبْعِى قال: (حدثنا رجل من بنى عامر استأذَنَ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال: ألِج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: "أخرج فعلمه الاستئذان فقل له: قل: السلام عليكم أأَدخل؟ " فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم، أَأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل).
ومن العلماء من قال بتقديم الاستئذان، فإذا أُذن له فدخل سلم، وهذا الرأى، يوافق ظاهر الآية ويخالف ما رواه أَبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم قبل هذا، وهوأحق بالاتباع.
ويسن الاستئذان إلى ثلاث مرات إن لم يؤذن له بعد الأولى والثاني، فإن لم يؤذن له بعد الثالثة انصرف، فقد جاءَ في الصحيح أن أَبا موسى الأشعرى حين استأْذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له انصرف، ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ - يعنى أبا موسى - ائذنوا له، فطلبوه ، فوجدوه قد ذهب، فلما جاءَ بعد ذلك قال: ما رَجَعَكَ؟ قال: إِنى استأْذنت ثلاثًا فلم يؤذن لى، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فلينصرف
…
" الحديث.
وقد كانت البيوت من غير أبواب ولم يتخذ لها الستور، فكانت السنة أن يقف المستأذن بجانب المدخل يمينًا أويسارًا ولا يستقبله، روى أَبو داود عن عبد الله بن بسْر قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أَتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاءِ وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أَو الأَيسر فيقول: "السلام عليكم" وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور)(1).
فإن قيل: ما الحكم بعد أَن استحدث الناس الأبواب، وسكنوا في الطوابق، واستحدثوا أَجراسًا على أبوابهم؟ فالجواب: أَن الاستئذان يكون في هذه الحالة إما بدق الباب أوبقرع الأجراس، فقد صح عن أَبي موسى الأشعرى (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حائط بالمدينة على قفِّ بئر، فمد رجليه في البئر فدق البابَ أَبو بكر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائذن له وبشره بالجنة") والحائط: البستان، وقفُّ البئر: الدكة المرتفعة التي تجعل حولها.
(1) القرطبى ج 12 ص 216 - المسألة السا
وينبغى أن يكون الدق خفيفًا غير مزعج، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال:(كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تقْرَع بالأظافر) رواه الخطيب في جامعه (1).
وكما يشرع الاستئذان للرجال يشرع للنساءِ، فقد يكون أَهل البيت على حال لا يحسن أَن يطلع هؤلاءِ النساءُ عليها، فالخطاب في الآية للذكور على وجه التغليب لا التخصيص، فإِن النساء شقائق الرجال في الأحكام إِلا ما خص كلا منهم كأحكام الحيض والنفاس للنساء، ومضاعفة الميراث للرجال، ويؤيد العموم ما أخرجه الطبرانى عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من كان يشهد أنى رسول الله فلا يدخل على أهل بيت حتى يستأْذن ويسلم، فإِذا نظر في قعر البيت فقد دخل"(2) أَي: فإذا نظر في داخل البيت قبل أَن يؤذن له، فكأنما دخل قبل الاستئذان، وذلك لا يحل له، فأنت ترى أن الحديث جاءَ بصيغة العموم التي تعم الرجال والنساء.
فإذا استأذنت فقيل لك: من الطارق مثلا؟ فيكره أن تجيبه بقولك: أنا، فقد روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:(استأْذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من هذا؟ فقلت: أنا، فقال: "أنا، أنا" كأنه كره ذلك) وربما ترجع كراهة النبي لذلك، إلى أَن في ذكر الاسم إسقاط كلفة السؤال والجواب، فإن لفظ (أَنا) لا تحصل به المعرفة، وربما أوهم غرورَ المجيب بنفسه، فكأنه يرى أَنه الشخص الذي لا يجهله أَحد، فيكفى أن يقول عن نفسه:(أَنا) ليعرف.
وثبت أَن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم أَيدخل عمر؟، وفي صحيح مسلم، أَن أَبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب فقال:(السلام عليكم، هذا أَبوموسى، السلام عليكم هذا الأشعرى. . .) الحديث.
وهذه الأحكام إنما هي في بيت ليس لك، فأما بيتك فلا تستأْذن فيه على أهلك، ولكن تسلم عليها إذا دخلت فإن كان معها أُمك أَوأُختك فاستأذن؟ فقد تكونان - على حالة
(1) انظر المسألة التاسعة من القرطبى.
(2)
الآلوسى ج 18 ص 122 طبعة منير.
لا تحب أَن تراهما فيها، روى عطاءُ بن يسار أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أَستاذن على أمى؟ قال: "نعم" قال: إني أخدمها، قال:"استأْذن عليها" فعاوَدَها ثلاثًا، فقال:"أتحب أن تراها عريانة؟ " قال: لا. قال: "فاستأْذن عليها" ذكره الطبرى (1).
والمعنى الإجمالى للآية: يا أَيها الذين آمنوا ذكورًا وإناثا - لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم، حتى تستأْذنوا منْ له حق الإذن من أهلها في الدخول عليهم وتسلموا عليهم تحية لهم، ذلكم الاستئذان والسلام خير لكم من الدخول بغتة، لما فيه من الاطلاع على عورات إخوانكم وإزعاجهم، وخير لكم من تحية الجاهلية إذ كانوا يقولون: حييتم صباحا وحييتم مساء، وقد أُرشِدتم إِلى ذلك لعلكم تتذكرون وتتعظون فتعملوا بما شرع لكم.
28 -
أثبتت الآية السابقة حكم البيوت المسكونة، فنهت عن دخولها من غير إذن أهلها، وجاءت هذه الآية لتبَيِّنَ حكم دخول البيوت الخالية التي يملكها سواكم.
والمعنى: فإن لم تجدوا في البيوت التي يملكها سواكم أحدًا من أهلها فلا تدخلوها، سواءٌ أكان الباب مغلقًا أم مفتوحًا، لأن الله أغلقه بالتحريم (2)، حتى يأتى من أهلها من له حق الإذن، فتستأْذنوه فيأْذن لكم، ولا عبرة بإذن خادم ولا صبى كما يقول به بعض الأئمة، لأن مثلهما لا إِذن له (3)، وإن قيل لكم من جهة أهل البيت: ارجعوا ولوبعد الإذن لكم بالدخول (4)، فارجعوا ولا تدخلوا ولا تلحوا سواءٌ أكان الآمر بالرجوع يملك الإذن بالدخول أَم لا (5) ومثله في حكم وجوب الرجوع الإمساك عن الإجابة، أوالاعتذار بعدم
(1) انظره في القرطبى - المسألة السادسة عشرة: فقد نقله عن الطبرى.
(2)
انظر القرطبى في المسألة الثانية في تفسير هذه الآية.
(3)
ذكره الآلوسى، وذكر القرطبى أن الإذن يصح من الصغير والكبير من أهل البيت، انظره في المسألة الثالثة الآية السابقة ، ونحن نرجح ما نقله الآلوسى، وبخاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد وسوء النية فلا يصلح للإذن فيه سوى الرجال من أهل البيت.
(4)
انظره في ابن كثير.
(5)
انظره في الآل
وجود من يلقاه أويجالسه من الرجال أَونحوذلك، والرجوع عن الدخول في هذه الأحوال وأمثالها واجب، سواءٌ أكان في البيت أَهله أَم لا، كما أدعى إلى الطهر والنزاهة ولهذا قال سبحانه:{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} : أَي أطهر لكم لما فيه من السلامة من القيل والقال والتصرف في ملك غيركم إن دخلتموه دون رضاه، والدناءة والخسة إن بقيتم بالباب تَلِجُّون وتلحون، وإنما يتوقف الدخول على الإِذن ما لم يكن هناك داع شرعى كِإزالة منكر توقفت إزالته على الدخول بغير إذن، وإطفاء حريق فيجوز رعاية لشريعة الله (1)، ثم ختم الله الآية بقوله:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} : لِوعْدِ من امتثل أمره ووعيد من عصاه، أي: أَنه تعالى يعلم ما تفعلون وما تتركون مما كلفكم به، ويعلم ما انطوت عليه قلوبكم من الأَغراض الشريفة أَو الخسيسة حين استئذانكم، فيحاسبكم ويجزيكم على أَعمالكم ونِياتِكم، إِن خيرًا فخيرٌ وإن شرًا فشر.
29 -
يبيح الله في هذه الآية دخول بيوتٍ غير مسكونة بغير استئذان، إذا كانت لها صفة العموم، وتعتبر هذه الآية مخصصة لعموم ما قبلها.
والمراد من هذه البيوت: ما لم يجعل لسكنى طائفة خاصة، بل جعل ليتمتع بها من كان بحاجة إليه كالحانات والحمامات العامة، ومنازل المسافرين العامة، وحوانيت التجار ونحوها، والمراد بالمتاع: المنفعة. فَعَنْ محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد: هي الفنادق التي في طرق السابلة، قال مجاهد: لا يسكنها أحد، بل هي موقوفة ليأوى إليها كل ابن سبيل وفيها متاع لهم، أي: استمتاع بمنفعتها، وقال ابن زيد والشعبى: هي حوانيت القيساريات، قال الشعبى: لأنهم جاءوا ببيوعهم فجعلوها فيها وقالوا للناس: هَلموا، وقال جابر بن زيد: ليس يعنى بالمتاع الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة، أَما منزل ينزله قوم من ليل أونهار، أوخَرِبَة يدخلها لقضاء الحاجة، فهذا متاع وكل منافع الدنيا ضاع، واستحسنه أبوجعفر
(1) انظره في الآلوسى في شرحه لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُ
النحاس، وقال: المتاع في كلام العرب: المنفعة ، ومنه: أمتع الله بك ، ومنه:{فَمَتِّعُوهُنَّ} (1).
ويدل على صحة هذه الآراء ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل أَنه لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
…
} الآية.
قال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون من مكة والمدينة والشام وبيت المقدس، ولهم بيوت معلومة على الطريق، فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها سكان؟ فرخص سبحانه في ذلك، فأنزل قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} الآية (2).
فالمراد بتلك البيوت غير المسكونة: ما فيها انتفاع عام، ويدخل فيها دور العلم المباحة، أَما إذا كانت لها قيود أَوبأجر، فلابد من الاستئذان عليها والتزام شروطها، وكذلك الفنادق التي يسكنها المسافرون بأَجر فلا يدخلها أَحد بغير استئذان والتزام بحدودها، ومثلها الحمامات الخاصة ونحوها.
وخلاصة معنى الآية: ليس عليكم - أَيها المؤمنون - حرج ولا إثم، في أَن تدخلوا بغير استئذان بيوتًا غير مسكونة فيها متاع - أَي منفعة - لكم بدخولكم فيها، كالدور الموقوفة على أبناء السبيل، ومنازل المسافرين العامة المقامة على الطريق ليستريح فيها المسافرون، ودور العلم العامة التي لم يجعل لها شروط تمنع أحدًا من حضورها، والبيت المعد لنزول أي ضيف، وحوانيت التجار، والمراحيض العامة والْخَربات لقضاء الحاجة - ليس عليكم جناح - أن تدخلوا هذه وأَمثالها دون استئذان، لأن لكم حق التمتع - أي الانتفاع - بها، والله يعلم ما تظهرون وما تخفون من أعمال ونيات، فيحاسب كل من دخل هذه البيوت المأذون بدخولها بلا استئذان - يحاسبه ويجازيه - على عمله ونيته، فإذا كان دخوله إياها لراحة نفسه أوقضاءِ مصلحة شرعية له أولغيره فله ثوابه وإن كان للفساد والإفساد، فعليه عقابه.
(1) انظر القرطبى في المسألة الثانية في تفسير الآية.
(2)
انظر الحديث في تفسير الآلوسى للآية.
المفردات:
{يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} : يخْفضوها كَفًّا لها عن النظر إِلى منْ يحرم النظر إِليهن، وكل شيءٍ غضضته فقد كففته، وفعله من باب رد يردُّ. {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}: يمنعوها عن الزنى واللواط. {أَزْكَى لَهُمْ} : أطهر لهم.
{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} : ولا يظهر من الزينة إلا ما ظهر منها عادة كالخاتم، وللكلام بقية في التفسير.
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} : الخُمُرُ؛ جمع خمار وهو ما تلقيه المرأَة على رأسها من الثياب لسترها، وهو من الخمر، بمعنى الستر، والجيوب، جمع الجيب، وهوفتحة في أعلى القميص يبدومنها بعض الجسم، وأَصله: من الجيب أوالجوب، بمعنى القطع، وفي الصحاح تقول:
جبت القميص أَجيبه وأَجوبه إذا قَوَّرت جيبه، وضربهن بالخمر على الجيوب إلقاؤهن إياها على الصدور لسترها مع الأعناق. {بُعُولَتِهِنَّ}: أزواجهن.
{نِسَائِهِنَّ} : أي النساءِ الحرائر المؤمنات المختصات بهن كصاحبة وخادمة.
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} : من الإماء دون العبيد. {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} : أَي الذين يتبعون البيوت ليصيبوا من فضل الطعام، ممن ليس لهم حاجة إلى النساء من الشيوخ الطاعنين في السن. {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}: أَو الأطفال الذين لم يميزوا بين عورات النساء وغيرها، ولا يدرون ما هي العورة، وللكلام بقية في التفسير.
{وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} : ولا يضرب المؤمنات الأرض بأَرجلهن لإعلام الرجال ما يخفين من زينتهن حين يسمعون صوت الخلاخيل بسبب ضربهن الأرض.
التفسير
30 -
شرع الله في الآيات السابقة وجوب الاستئذان على البيوت توفيرًا لحرمات أهلها، وسترًا لعوراتهم عمن يدخلونها فجأة، وجاء بهذه الآية والتى بعدها تتميما لما قبلها من الآداب التي تحمى الأعراض، وتحفظ في المؤمنين والمؤمنات مكارم الأخلاق، فقد أَمر الله فيهما بغض البصر عن المحرمات، وعدم إِبداء الزينة لغير من يحل إبداؤها له، إلى غير ذلك من الآداب والأحكام التي سنبينها.
والبصر: هوالباب الموصل إلى القلب، وأشد الحواس تنبيها له، وعن طريقه غالبًا يكثر السقوط والانغماس في أَوحال الفتنة، فهوبريد الزنى ورائد الفجور، قال الشاعر:
كل الحوادث مَبداهَا من النظر
…
ومعظَم النار من مستصغر الشرر
كم نظرةٍ فعلت في قلب صاحبها
…
فِعلَ السهام بلا قوس ولا وَتَر
(1) يغضوا: مجزوم في جواب الأمر: وهولفظ (قل) لتضمنه معنى الشرط، كأنه قيل: إن تقل لهم غضوا يغضوا.
فلهذا عُنِىَ الشرع بإيجاب غض البصر وكفِّه عن المحرمات، والتحذير من الفتنة عن طريقه، كما جاء في هاتين الآيتين، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم:"إِياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بدٌّ إِنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إِلا المجالس فأَعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غضُّ البصر وكفُّ الأَذى وردُّ السلام ، وأَمرٌ بالمعروف ونهىٌ عن المنكر" أَخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدرى، واللفظ للبخارى (1).
والأمر فيها موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لإِيذانه بمتابعته لهم في هذا الشأن وهيمنته عليهم فيه حتى يكفوا عما اعتادوه في الجاهلية من نظر الرجال إلى النساءِ والنساءِ إِلى الرجال.
هذا، وقد قيل: إن سبب نزول الآية: ما أَخرجه ابن مردويه بسنده عن على بن أبي طالب قال: مر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأَة، ونظرت إِليه، فوسوس لهما الشيطان أَنه لم ينظر أَحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به، فبينما الرجل يمشى إلى جنب حائط وهوينظر إِليها، إذ استقبله الحائط فشق أنفه، فقال: والله لا أَغسل الدمَ حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأخبرَه أَمرى، فأَتاه فقص عليه قصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هذا عقوبة ذنبك" وأنزل الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} انظر الآلوسى.
وغض البصر: خفضه كَفًّا له عن النظر، ولفظ (مِنْ) في قوله تعالى:{مِنْ أَبْصَارِهِمْ} إِما لابتداءِ الغاية - كما قال ابن عطية - وإما أن تكون للتبعيض، فلمراد: غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل (2) كالنظر إلى الزوجة والمحرم، ويجب أن يتجرد نظره إِلى المحرم عن الشهوة ، بل لقد كره الشعبى أَن يديم الرجل النظر إِلى ابنته أَوأمه أوأخته ،
(1) كتاب المظالم، باب: أفنية الدور والجلوس على الصعدات.
(2)
فجعل الغض عن بعض المبصرات غضا لبعض البصر، على سبيل الكناية، وهي كناية حسنة كما في الكشف.
وزمانه خير من زماننا (1)، فإذا نظر إليها بشهوة فإثمه شديد وعقابه عنيف، نسأل الله العصمة لعباده المؤمنين.
ونقل كثير عن السلف أَنهم كانوا ينهون أَن يحد الرجل النظر إِلى الأمرد، وشدد كثير من أَئمة الصوفية في ذلك، وحرمه طائفة من أَهل العلم، لما فيه من الافتتان.
أما نظرة الفجاءَة إِلى الأجنبية فلا إِثم فيها، فقد أخرج أَبو داود وغيره عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأُولى وليست لك الآخرة".
والمراد بحفظ الفروج أَمران، أَحدهما: حمايتها من الزنى واللواط، وثانيهما: سترها عمن لا يحل له النظر إليها من الأجانب والأقارب، إِلا في حالات جراحتها أَوعلاجها أَو الكشف عن مرضها، فأنه يجوز كشفها للطبيب الأمين (2) عند الضرورة.
أَما الزوجة والأمة فلا يدخلان في الأمر بحفظ فرج الرجل عنهما، روى بَهْز بن حكيم ابن معاوية القشيرى عن أَبيه عن جده قال:(قلت يا رسول الله: عوراتنا؛ ما نأْتى منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك وما ملكت يمينك" ثم سأله عن الرجل يكون خاليًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أحق أَن يستحيا منه من الناس") نقله القرطبى ثم قال في المسألة الخامسة ما خلاصته: أَن العلماءَ حرموا دخول الحمام على الرجال بغير مئزر، أَخْذًا من نص الآية، فإن دخلوها بمئزر جاز، وقد دخل ابن عباس الحمام بإزاره وهومُحْرِمٌ بالجحفة، أَما دخول النساءِ فأجازه بعض العلماءِ لضرورة العلاج ونحوه، مع الاستتار بنحومئزر، أما لغير ذلك فلا، فقد أَخرج ابن منيع بسنده عن سهل بن معاذ عن أَبيه عن أم الدرداء أَنه سمعها تقول: (لقينى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرجت من الحمام، فقال:"من أين يا أُم الدرداء؟ " فقالت: من الحمام، فقال: "والذى نفسى بيده ما من امرأَة تضع ثيابها في غير بيت أَحد من أمهاتها، إلا وهي هاتكة كل
(1) انظر القرطبى.
(2)
ويشترط حضور من يمنع حضوره الخلوة إذا كان المريض امرأة، كالزوج والأب.
ستر بينها وبين الرحمن عز وجل" وأخرج البزار عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احذروا بيتًا يقال له الحمام" قالوا يا رسول الله يَنْفِى الوسخ، قال: "فاستتروا" وهذا أصح حديث في الباب، فإن دخله مستترا فعليه أَن يحقق عشرة شروط، منها: أن يكون بنية التداوى أوالنظافة، وأَن يستتر بإِزار صَفِيق، وأن يغير ما يراه من منكر برفق - إِلى آخر ما ذكره القرطبى فارجع إليه إِن شئت.
والمعنى الإِجمالى للآية: قل - أيها الرسول - للمؤمنين: يخفضوا من أبصارهم كفا لها عن رؤْية ما لا تحل رؤيته من النساءِ والرجال، ويحفظوا فروجهم بمنعها عن الزنى، وسترها عن غير زوجاتهم وإمائهم، ذلك الغض للبصر وحفظ الفرج أطهر لهم في الدين، وأَبعد عن دنس الإِثم، إن الله عليم بما يصنعون من امتثال أمره أَوعصيانه، فيجازى كلا على ما كسب، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
31 -
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا
…
.... } الآية.
أَمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أَن يبلغ النساء المؤمنات، أَنهن مكلفات بغَضِّ أَبصارهن وحفظ فروجهن، مع أَنهن داخلات في حكم الآية السابقة للتأْكيد، فإن قوله:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} يعم حكمه الذكور والإِناث حسب كل خطاب في القرآن، فإِن النساء شقائق الرجال في الأَحكام إلا ما خص كلا منهم بدليل أَوقرينة.
وقد فهم من الآيتين أَنه كما يحرم نظر الرجال إلى النساءِ غير المحارم، يحرم نظرهن إليهم كذلك، أخرج أَبو داود والترمذى بسندهما عن أم سلمة (أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة؛ قالت: فبينما نحن عنده أَقبل ابن أَم مكتوم فدخل عليه، وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"احتجبا منه" فقلت: يا رسول الله، أَليس هوأعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أوَ عمياوان أنتما؟ أَلستما تبصرانه؟ " ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (1) ومنه عرف
(1) انظره في ابن كثير
أن نظر المرأة ولولرجل أعمى حرام، وكما يحرم على الرجل أن ينظر من المرأَة الأجنبية سوى وجهها وكفيها (1)، يحرم على المرأة أن ترى منه سوى وجهه وكفيه، وكما يجب على الولى منع الفتى المراهق من نظر المراة الأجنبية سوى وجهها وكفيها، يجب على ولى الفتاة المراهقة أن يمنعها من نظر ما عداهما من الرجل الأجنبى ولومراهقًا (2).
وفهم من الآية أَيضًا أَنه يجب على المرأَة حفظ فرجها من الزنى والسحاق، وستره عن غير زوجها وسيدها إن كانت أَمة، ما لم تكن محرمة عليه لنحوزواج، فلا يحل لها أَن تبديه لسيدها، وكما يحرم عليها إظهاره للعين مباشرة يحرم إِظفاره بالثوب الشفاف أوالضيق، أَوبالحديث عنه، فكل ذلك حرام، لما يترتب عليه من إثارة الشهوة والفتنة.
وفهم من الآية أَيضًا أنه يحرم على المرأَة أَن تبدى من زينتها إلا ما ظهر منها (3)، والمراد منه: الوجه والكفان، ودليل ذلك ما أخرجه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها (أَن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأَعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: "يا أَسماءُ إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أَن يرى منها إلا هذا" وأشار إلى وجهه وكفيه) وبهذا النص أخذ محققوالشافعية (4) قال القرطبى: وهذا أقوى في جانب الاحتياط، ولمراعاة فساد الناس، فلا تبدى المرأَة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها، ونقل عن ابن خوَيْزِ مَنْدَاد من علماءِ المالكية: أن المرأَة إِذا كانت جميلة وخيف من رؤية وجهها وكفيها الفتنة، فعليها سترهما، وإن كانت عجوزًا أومقبحة جاز أَن تكشف وجهها وكفيها.
وقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هوالثياب، وقال سعيد بن جبير وعطاء والأوزاعى: الوجه والكفان والثياب (5).
(1) وهورأى المحققين من الشافعية، وسياق تفصيل آراء المذاهب فيما يحل إظهاره من المرأة، والله الموفق.
(2)
المراهق: من قارب بلوغ الحلم من الذكور والإناث.
(3)
وذلك على الأجانب كما سيأتى بيانه.
(4)
وهو الذي نقل في الروضة عن الأكثرين، وصوبه في المهمات، ومن الشافعية من قال: يحرم النظر إلى الوجه والكفين أيضا، ذكره صاحب المنهاج، ولكن الرأى الأول أحق وأيسر كما أنه متفق مع ما جاء في حديث بعائشة المذكور.
(5)
فالزينة قسمان: خلقية ومكتسبة، فالوجه والكفان ما ظهر من زينتها الخلقية، والثياب ما ظهر من زينتها المكت
وروى عن ابن عباس وقتادة والمِسْور بن مخرمة: ظاهر الزينة: هوالكحل والسوار والخضاب إِلى نصف الذراع والقِرَطَة والفَتَخ (1) فمباح أَن تبديه المرأَة على الناس. هكذا نقل القرطبى عنهم، ولكنه على هذا التفصيل - لوصح - يوقع في الفتنة. ولهذا فنحن نرجح الرأْى القائل بقصره على الوجه والكفين، لحديث عائشة السابق (2). مضموما إِليهما ما ظهر من الثياب على أن يكون فضفاضا غير شفاف، فإِنه لابد من رؤيته عند إظهار الوجه والكفين بحكم الضرورة.
وقال ابن عطية: ويظهر بحكم أَلفاظ الآية، أن المرأَة مأْمورة أَن لا تبدى، وأن تجتهد في الإخفاءِ لكل ما هوزينة، ووقع الاستثناءُ لما يظهر بحكم الضرورة في إصلاح شأْن ونحوه فعفوعنه (3).
واعلم أن ما ظهر من الزينة على ماسبق بيانه مباح إظهاره للأجانب والمحارم. وأَن ما بطن منها لا يحل إبداؤه إلا لمن ذكرهم الله في هذه الآية، على ما سيأْتي بيانه، واعلم أَن السوار من الزينة الباطنة - كما قال مجاهد، لأنها في الذراع لا في الكفين. وهوبذلك يخالف ما نقل سابقا عن ابن عباس من كونها من ظاهر الزينة، ومن الزينة الباطنة: الخلخال والدملج والقلادة والقرْط (4).
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} :
الخمر: جمع الخمار، وهو ما تغطى به المرأَة رأسها، والجيوب: جمع الجيب ، وهوكما قال الآلوسى: فتح في أَعلى القميص يبدومنه بعض الجسد (5).
والمراد من الآية - كما روى عن أَبي حاتم عن ابن جبير -: أمرهن بستر نحورهن وصدورهن بخمرهن، لئلا يرى منها شىءٌ.
(1) القرطة - بوزن عتبة - جمع: قرط؛ وهوحلية الأذن؛ والفتحة بالسكون وبفتحتين: الحاتم؛ وجمعها: فتح بفتحتين.
(2)
ولظهورهما في الصلاة والحج.
(3)
انظر المسألة الثالثة في تفسير القرطبى للآية.
(4)
انظر الآلوسى.
(5)
وفي الصحاح: تقول: جبت القميص أجوبه وأجيبه إذا قورت جيبه.
وكان النساءُ يغطين رءُوسهن بالخُمر، ويَسْدلنها (1) كعادة الجاهلية من وراء الظهر فتبدونحورهن وبعض صدورهن.
وصح أنه لما نزلت هذه الآية، سارع نساءُ المهاجرين إلى امتثال ما فيها، فشققن مروطهن (2) فاختمرن بها تصديقا وإيمانا بما أنزل الله - تعالى - من كتابه.
بعد أن أجاز الله للمرأة في صدر الآية أن تبدى للأجانب من زينتها ما يظهر منها عادة، عقبه بإجازة أَكثر منه لأنواع عيَّنَهَا فيها.
وأَول هذه الأنواع: (البعولة). جمع بعل، ويطلق على الزوج، وكذا على السيد، كما قاله ابن العربى، ومنه ما جاء في حديث جبريل عن أشراط الساعة في إحدى الروايات:"إِذا ولدت الأمة بعلها" يعنى سيدها؛ لأنها إذا استولدها سيدها، فولَدها يكون سببا في عتقها بعد موت أبيه، فكأنه سيدها الذي من عليها بالعتق (3)، فكل من الزوج والسيد يرى زينة المرأة كلها، وله الحق في أَكثر من رؤْية زينتها وهوتمام الاستمتاع بها نظرا أَوفراشا في مكان الحلِّ منها ، قال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} . (4)
أما النظر إلى الفرج فقد أجازه قوم بالقياس الأولوى على الجماع، فللرجل أَن ينظر إلى فرج زوجته وأَمته، ولهما أن ينظرا إلى فرجه، ومنعه بعضهم لحديث عائشة:"ما رأَيت منه ولا رأَى منى" وحمله أصحاب القول الأول على الأدب لا على التحريم، ومن الفقهاء من أَجازه مع الكراهة، وبه قال أَكثر الشافعية (5)، ومن الفقهاء من قال إنه خلاف الأولى ، وهومذهب الحنفية كما حكاه الخفاجى.
(1) أي يريخين شعورهن، وفعله: سدل، من بابي: ضرب ونصر.
(2)
جمع: مرط، وهوكساء من صوف أوحرير كان يؤتزر به.
(3)
والحديث يشير إلى كثرة السراري بكثرة الفتوحات، فيأتى الأولاد من الإماء، فتعتق كل أم بولدها - انظر القرطبى.
(4)
سورة المؤمنون؛ الآيتان: 5، 6.
(5)
وقليل منهم يقول بالتح
ولما بدأ الله بذكر البعولة؛ ثنى بذوى المحارم، وهم آباءُ المرأة وإن علوا وآباءُ الأزواج كذلك، وأَبناءُ المرأة وإِن سفلوا، وأبناءُ للزوج كذلك، وإِخوان المرأَة وبنوإِخوانها، وبنوأخواتها والمراد بإخوانها: إخوتها الذكور أشقاء أَولأب أولأم، ومثل ذلك بنوإِخوانها وبنوأَخَوَاتها وإِن سفلوا، فهؤلاء جميعا يجوز للمرأة أَن تبدى من زينتها لهم أَكثر مما تبديه للأجانب لكثرة المخالطة الضرورية، وقلة توقع الفتنة، فلهم أَن ينظروا من المرأَة ما يظهر منها عند المهنة - أَي الخدمة - كما ذكره الآلوسى.
وقال القرطبى في المسألة الحادية عشرة: سوى الله بينهم في إبداءِ الزينة، ولكن تختلف مراتبهم بحسب ما في نفوس البشر، فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها، وتختلف مراتب ما يبدى لهم، فيُبدى للأب ما لا يجوز إِبداؤه لِوَلَدِ الزوج.
ونحن نرى؛ أن الاحتياط والتصون في هذا الزمان أمر ضرورى، لفساد المعايير والأخلاق، فلا تبدى المرأَة من جسدها لغير زوجها وسيدها إِلا ما يظهر عند خدمتها منزلها في ثياب مرسلة، وحشمة واتزان، وبخاصة مع أبناء زوجها، فينبغى أَن يكون تحفظها معهم أكثر (1).
ولم يرد في الآية العم ، ولا الخال - مع أَنهما من المحارم - والجمهور على أنهما كسائر المحارم في جواز النظر إلى ما يبدومن المرأَة عند المهنة على نحوما قلناه، ولم يُذْكَرَا في الآية اكتفاءً بذكر الآباء، فإِنهما عند الناس بمنزلتهم، ولا سيما الأعمام، وقيل: لم يذكرا لأَن الأَحوط أن تستتر المرأة عنهما، حذرا من أَن يصفاها لأولادهم، فيبعثهم ذلك على رؤيتها والاختلاط بها، وليس في الآية ذكر الرضاع؛ وهو مثل النسب فيما تقدم (2).
أَما قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} فالمراد منه: المسلمات المختصات بهن بالصحبة والخدمة من حرائرهن، أما الكوافر فلا يظهرن لهن إلا ما يظهرنه للرجال الأجانب، وقال عبادة
(1) وعند الشافعية كما ذكره ولى الدين البصير في كتابه (النهاية) الذي شرح به متن أبي شجاع: أن لهم أن يروا ما عدا ما بين السرة والركبة قياسا على ما يراه السيد من أمته المزوجة، فقد روى أبو داود وغيره:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زوج أحدكم عبده جاريته، أوأجيره فلا ينظر إلى ما بين السرة والركبة") ونحن لا نوافقهم على هذا القياس غير المتكافىء، فإن الأمة لا تماثل الحرة، وغير السيد لا يماثل السيد، فالحق والأحوط ما قلناه وهونظر ما يبدوعند المهنة - أي: الخدمة - دون سواه.
(2)
انظر القرطبى والآلوسى.
ابن نُسَيٍّ: كتب عمر رضي الله عنه إلى أَبي عبيدة بن الجراح: أَنه بلغنى أَن نساءَ أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساءِ المؤمنين، فامنع من ذلك وحُلْ دونه فإنه لا يحل أَن ترى الذمية عِرْيَةَ (1) المسلمة، فعند ذلك قام أبو عبيدة وابتهل وقال: أَيُّمَا امرأَة تدخل الحمام من غير عذر، لا تريد إِلا أن تبيض وجهها، فَسَودَ الله وجهها يوم تبيض الوجوه.
ونقل الآلوسى عن ابن حجر الشافعى: أن الأصح تحريم نظر الذمية إِلى غير ما يبدومن المسلمة في المهنة - أَي. الخدمة - غير سيدتها ومحرمها، ودخول الذميات على أمهات المؤمنين الوارد في الأحاديث الصحيحة دليل لحل نظرها منها ما يبدوعند المهنة.
وأَما قوله سبحانه: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} فالمراد منه: الإماءُ ولوكافرات ، وأما العبيد فهم كالأَجانب لا يرون من زينة سيدتهن ألا ما ظهر منها، وهذا مذهب أَبي حنيفة، وأَحد قولين في مذهب الشافعى، قال ابن عباس: لا بأْس أَن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وقال سعيد ابن المسيب: لا تَغُرنكُمْ هذه الآية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إِنما عنى بها الإِماءُ ولم يعن بها العبيد، وعلل ذلك بأنهم فحول ليسوا أزواجا ولا محارم، والشهوة متحققة فيهم - انظر الآلوسى.
وأَما قوله تعالى: " {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} (2) مِنَ الرِّجَالِ" فالمراد بهم: الذين يتبعون البيوت ليصيبوا من طعام أهلها، وليست لهم حاجة إِلى النساءِ، لكونهم شيوخا طاعنين في السن، وقد فنيت شهواتهم، والممسوحون الذين قطعت ذكورهم وخصاهم، فهؤلاء ينظرون من المرأَة ما يبدومنها عند المهنة، أما المجبوب: وهو من قطع ذكره، والخصى وهو من قطعت خصيتاه ، ففيهما خلاف، فبعضهم أباح له أَن ينظر من المرأَة ما يبدوعند المهنة كابن الزوج ومن في حكمه، ومنهم من جعله في حكم الأجانب، فلا يرى منها غير الوجه والكفين، وظاهر الثياب - وهذا هوالراجح - انظر الآلوسى.
(1) أي: ما يتعرى منها وينكشف.
(2)
الإربة، والإرب، والمأربة، والأرب: الحاجة.
وفسره بعضهم: بالأبْلَه، وفسره آخرون: بالصبى الذي لم يدرك، قال القرطبى: وهذا الاختلاف كله متقارب، ويجتمع فيمن لا فهم له، ولا همة ينتبه بها إلى أَمر النساء.
وأَما قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ (1) الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ} فالمراد به: الأطفال الذين لم يعرفوا ما هي عورات النساء، وما شأنها بالنسبة إِلى الرجال، وفسره الآلوسى بقوله: أي: الأطفال الذين لم يعرفوا ما هي العورة ولم يميزوا بينها وبين غيرها.
وهذا القول قريب مما قلناه، وعلى هذا وذاك يكون قوله:{لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} مأخوذًا من الظهور، بمعنى الاطلاع، وقد جعل كناية عما ذكر.
وفسره ابن كثير بأَنهم لصغرهم لا يفهمون أَحوال النساء وعوراتهن، من كلامهن الرحيم، وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن، فإذا كان الطفل صغيرًا لا يفهم ذلك، فلا بأس بدخوله على النساءِ، فأما إن كان مراهقا أَوقريبا منه، بحيث يعرف ذلك ويدريه، ويفرق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكَّن من الدخول، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:("إِياكم والدخول على النساء" قالوا: يا رسول الله أَفرأَيت الحَمو (2)؟ قال: "الحَمو: الموت").
ومنهم من فسر {الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ} بالذين لم يبلغوا حد الشهوة والقدرة على الجماع، وَإِن كان قادرا على التمييز بين العورات، من قولهم: ظهر على فلان إِذا قوى عليه، ومنه قوله تعالى:{فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} فيشمل الطفل المذكور على هذا الرأى المراهق، الذي لم يظهر منه تشوق للنساء، والأَصح عند بعض الشافعية: أَنه يلزم الاحتجاب منه كالمراهق الذي ظهر منه ذلك ، وذكروا في الطفل غير المراهق أَنه إِن كان قادرا على حكاية العورات وتمييزها فله حكم المحرم في النظر، وإلا فهوكالعدم، فيباح في حضوره ما يباح في الخلوة (3).
(1) الطفل: اسم مقترن بأل الحنسية، وقد يراد به الجمع كما هنا، فهوبمعنى الأطفال، ولهذا وصف بالجمع.
(2)
الحمو، والحم: أقارب الزوج، وإذا كان رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر في أبي الزوج وهو من المحارم فكيف يسمح بدخول غيره البيت ورؤيته نساءه؟.
(3)
انظر الآلوسى في تفسير هذه الجزئية من ال
وأما قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} فمعناه أَنه لا يحل للنساء أَن يضربن الأَرض بأَرجلهن لتُسمع غيرها صوت خلخالها وتعلمه ما تخفيه من زينتها، فإسماع صوت الزينة كإبدائِها في الحرمة بل أَشد، لأَنه يغرى الرجال بهن ، لما فيه من إيهام أن لهن ميلا إليهم، واستدعاء لهم، أخرج ابن جرير الطبرى بسنده عن حضرمي (أَن امرأَة اتخذت خَلخَالا من فضة، واتخذت جَزْعًا في ساقها، فمرت بقوم فضربت برجلها، فوقع الخلخال على الجزع فصوَّت، فأنزل الله {وَلَا يَضْرِبْنَ
…
} الآية، والجزع: خرز فيه بياض وسواد تُشَبَّه به العيون، ويفهم من سبب النزول أَن الجزع كان منظوما في خيط حول الساق، وأَن الخلخال كان في أَعلاه فلما ضربت الأَرض برجلها وقع الخلخال عليه فصوَّت.
قال الآلوسى في تعليقه على هذا الأثر: والنساءُ اليوم على جَعْل الجزع ونحوه في جوف الخلخال، فإذا مشين ولوهونا صوَّت
…
الخ.
وكان النساءُ في عصرنا هذا يتخذن خلاخيل من ذهب أَوفضة لها جلاجل مرتبطة بها، تجلجل وتصوت عند مشيهن، ثم تلاشت هذه الحلية أَوكادت.
وكما يحرم على المرأَة تنبيه الرجال إليها بضرب الأَرض برجلها، يحرم عليها تنبيههم بنحوالتطيب عند خروجها، قال صلى الله عليه وسلم: "كل عين زانية، والمرأَة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعنى زانية (1) والحديث حسن صحيح.
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : أَي وقل أَيها النبي للمؤمنين في ضمن ما كلفوا به في هذه الآية - قل لهم -: توبوا إلى الله تعالى مما عسى أَن تكونوا قد ارتكبتموه مما نهيتم عنه فيها، ولا تتخلوا عن المتاب من آن لآخر، فإنكم لا تخلون من التقصير في حقوق الله - تعالى - لعلكم بالتوبة تفلحون، وتفوزون بما تأملونه من السعادة في الدارين.
(1) انظر ابن كثير، والحديث في تحفة الأحوذى - أبواب الاستئذان - باب: ما جاء في خروج المرأة متعطرة.
والمعنى الإجمالى للآية: وقل أَيها الزسول للمؤْمنات: اخفضن أَبصاركن وامنعنها من النظر إِلى الرجال إِلا ما يبدومنهم عادة، من غير إِمعان ولا اشتهاء، وقل لهن أَيضا: يحفظن فروجهن بمنعها عن الزنى، وسترها عن العيون بثياب لا تحكيها، ولا يظهرن زينتهن للرجال الأَجانب إِلا ما ظهر منها، وهو الوجه والكفان والثياب الخارجية الفضفاضة، وعليهن أن يسترن أَعناقهن وما تظهره فتحات صدورهن من أجسادهن، بسترها بخُمُرِهِنَّ أَي: بأَغطية رءُوسهن، ولا يظهرن زينتهن الداخلية إِلا لأَزواجهن أوآباءِ أَزواجهن، أَوأَبنائِهن، أَوأَبناء أَزواجهن ، أَوإخوتهن، أَوأبناءِ إِخوتهن، أَوأَبناء أَخواتهن، وهؤلاءِ غير متساوين في النظر، فالأَزواج ينظرون ما شاءُوا من أَجسادهن وما عليها، أَما غيرهم؛ فلَا ينظرون منهن إلا ما يبدوعند المهنة.
ويباح لهن إِبداءُ مثل ذلك للنساء المؤْمنات، أَما الكوافر فهن مثل الرجال الأجانب في نظر الوجه والكفين وظاهر الثياب دون سواها، وقيل: مثل المحارم في نظر ما يبدوعند المهنة ، كما يباح للنساء المؤمنات إِبداءُ ما يظهر عند المهنة للرجال الذين يتبعون البيوت، ليصيبوا من طعام أهلها وبرِّهم، ولا يشتهون النساء، كالرجال الواغلين في الشيخوخة، الذين فقدوا الحاجة إِلى فراش النساء، وكالممسوح والأَبله، أَما التابعون من ذوى الإِربة والحاجة إِلى النساءِ، فلا ينظرون من المرأَة أَكثر من وجهها وكفيها، وظاهر ثيابها الفضفاض كسائر الأَجانب.
ويباح للنساء المؤْمنات أَيضا إِبداءُ زينتهن للأَطفال الذين لا يفهمون عورات النساء ووظيفتها ولا يدركون الفوارق بين العورات، ولا يفهمون الغرض مما تبديه المرأَة من مظاهر أُنوثتها.
ويحرم عليهن أن يضربن الأرض بأَرجلهن، ليسمع الناس جلجلة خلاخيلهن، ويعرفوا ما تخفينه من زينتهن فإِن ذلك يوهم رغبة المرأَة في الصلة بهم، ويطمعهم في غشيان بيتها.
وتوبوا إلى الله أَيها المؤمنون جميعا ، من مختلف الذنوب والمعاصي، لعلكم بالتوبة تظفرون برضوان رب العالمين.
المفردات:
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} : الأيامى جمع أَيِّم ، وهو من لا زوج له ذكرًا كان أَوأُنثى ، سبق له الزواج أَو لم يسبق ، وإنكاحهم تزويجهم.
{وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} : المراد بهم من يصلحون للقيام بحقوق النكاح من عبيدكم وجواريكم.
{وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} : كثير الرزق والإنعام.
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} : وَليجتهد في العفة من لا يجدون أَسباب النكاح.
{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} : وَالمماليك الذين يريدون مكاتبتكم على العتق في مقابل عوض يؤدونه لكم، فكاتبوهم وتعاقدوا معهم.
{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ} : ولا تكرهوا إِماءَكم على الزنى.
{إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} : أَي إن أَرَدن تَعفُّفا.
{فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : أي فإن الله من بعد إِكراهكم لهن غفور لهن رحيم بهن، حيث يعفوعنهن لأَنهن مكرهات على البغاء.
التفسير
32 -
لما نهى الله عما يفضى إلى السفاح المخل بالنسب، عقبه بالحث على النكاح منعا من الانحراف إِلى الإثم، وحفظا لطهارة النسب، والخطاب في الآية موجه إِلى الأَولياءِ والسادة، فالأَولياءُ مطالبون بتزويج الحرائر والأَحرار بعد استئذانهم أَو التماسهم، ولابد في إذن الثيب الحرة أَن يكون صريحا، أَما البكر فيكفى صمتها مع الرضا، ويباشر الحر البالغ عقده بنفسه، ويباشر الولى العقد عن موليته عند الأكثرين، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا نكاح إِلا بولى".
والسادة مكلفون بتزويج عبيدهم وإمائِهم الصالحين إن طلبوا ذلك ووجد السادة فيهم خيرا، وأَمر السادة بإِنكاح أَرقائِهم الصالحين على التجويز والإباحة عند الأَكثرين كما ذكره القرطبى في المسأَلة الرابعة.
والنكاح مباح عند الشافعية، فإنه قضاءُ لذة كالأَكل والشرب، ما لم توجبه الضرورة كخوف العنت، أَي: الزنى، ومستحب عند الحنفية والمالكية، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"فمن رغب عن سنتى فليس منى" ما لم توجبه الضرورة كما تقدم، وفي المسأَلة تفصيلات مفيدة عند الفقهاء فليرجع إليها من شاء.
والمراد من صلاح العبيد والإِماءِ معناه اللغوى، وهو: صلاحهم للقيام بحقوق النكاح، وقيل: المراد صلاحهم الدينى، ليكونوا جديرين بعناية مواليهم وإشفاقهم عليهم.
ثم بين سبحانه أن الفقر في الخاطب أَو المخطوبة لا يمنع من المناكحة، فإن المال غاد ورائح، ولا حرج على فضل الله في أَن يغنى الفقير، ولهذا زوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأَة برجل فقير لا يملك ولا خاتما من حديد، على أَن يعلمها ما يحفظ من القرآن.
وجنح بعض المفسرين إِلى أَن الآية وعد من الله بالإِغناء، لكن ذلك مشروط بمشيئة الله تعالى كقوله سبحانه وتعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1).
ثم ختم الله الآية بقوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} : للإِيذان بأَنه لا ينبغي عدم اليأس من فضل الله فإنه سبحانه ذوسعة في الغنى والقدرة فلا حرج على فضل الله - عليم بأَحوال عباده، يمنحهم من رِغدِه ما علمَ أَنه يصلح من أَمرهم.
والمعنى الإِجمالى للآية: وزوِّجُوأَيها الأولياءُ من تتولون أَمرهم من الحرائر والأَحرار غير المتزوجين إن طلبوا ذلك، ولا تمنعوهم حقهم في سنة الله وفي إِعفافهم، وزوجوا الصالحين للنكاح من عبيدكم وإمائكم، والفقر ليس بمانع من زواج الأحرار، إِن يكونوا فقراء فالله قادر على أَن يغنيهم من فضله إن شاء، والله واسع الغنى والقدرة، عليم بأَحوال عباده فلا يخفى عليه محتاج، ولا تضيق موارد رزقه على الفقراء، فهوكافل الأَرزاق لجميع مخلوقاته.
33 -
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ .. } الآية.
تتضمن هذه الآية ثلاثة آداب للمؤمنين، أَولها: فيمن لا يجد أهبة النكاح، وثانيها في حث السادة على مكاتبة أَرقائِهم ومساعدتهم إِن علموا فيهم خيرا، وثالثها في منعهم من إكراه إمائِهم على البغاء، وفيما يلى الكلام على الجزءِ الأَول من الآية.
المراد من كونهم لا يجدون نكاحا: أَنهم لا يجدون أَسبابه من مهر ونفقة (2)، وقد
(1) سورة التوبة ، الآية: 28
(2)
وهو إما من إطلاق النكاح على ما تنكح به المرأة من مهر ونفقة، كإطلاق اللباس على ما يلبس ، واللحاف على ما يلتحف به ، أو بتقدير مضاف.
طلبت الآية ممن لا يجدون أسباب النكاح مع توقانهم إِليه، أَن يجتهدوا في العفة والبعد عن الزنى، وذلك بالاستعانة بالصيام كما قال صلى الله عليه وسلم:"ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"(1).
أَو بالاستعانة بالصبر حتى يغنيهم الله من فضله فيتزوجوا، وذلك خير لهم من الإقدام على الزواج مع الفقر، انتظارا لفضل الله حسب وعد الله في الآية السابقة، فإِنه وعد مشروط بمشيئة الله تعالى، فإن شاءَ حققه وإِن لم يشأْ لم يحققه، حسبما تقتضيه حكمته تعالى، وقد أَمر الله بالسعي في قوله تعالى:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِه} (2).
هذا هو الجزءُ الثاني من الآية، وهو تأْديب وإِرشاد منه تعالى للسادة في حق أَرقائهم أن يكاتبوهم ذكورا كانوا أَو إِناثا على العتق في مقابل جُعْل يؤُدونه لسادتهم مُنجَّمًا، أَومرة واحدة في آخر مدة الكتابة أَو نحو ذلك.
وصورة المكاتبة أَن يقول السيد لمملوكه: كاتبتك على أَن تؤَدى مائة دينار مثلا، فإِذا أَديتها عتقت، فيقبل العبد، وهذا القول يسمى مكاتبة وإِن لم يكتب في سجل لأنها بمعنى المعاقدة والعهد، كما في قوله تعالى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أَي: عقد على نفسه عهدا بذلك، وقيل: سمى بذلك لأَنه مما يكتب.
والمكاتبة إسلامية الأصل، فلم تكن في الجاهلية كما نقله الخفاجى عن الدميرى وكذا قال ابن حجر، وأَول من كاتبه المسلمون؛ عَبْدٌ لعُمر يسمى أَبا أُمية (3)، وقيل: نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له: صبَيح، طلب من مولاه أن يكاتبه فأبى،
(1) من حديث أخرجه البخاري ومسلم عن ابن مسعود.
(2)
سورة الملك من الآية: 15
(3)
انظر الآلوسى.
فأَنزل الله تعالى هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين دينارا فأَداها، وقتل بحنين في الحرب، ذكره القشيرى، وقال مكى: هو صبيح القبطى غلام حاطب بن أبي بلتعة (1).
وسواءٌ أكان للآية سبب نزول أم لم يكن، فإِن الله تعالى أَمر فيها المؤْمنين أَن يكاتبوا أَرقاءَهم إن طلبوا منهم ذلك، وعلم سيد كل عبد منه خيرا، فإن طلبها الرقيق وأَباها سيده، فله ذلك؛ لأَن إِجابته ليست بواجبة بل مَنْدوبة عند أَكثر العلماء - كما حكَاه البيضاوى - وعَللَه؛ بأَن الكتابة معاوضة تتضمن الإِرفاق فلا تجب كغيرها من المعاوضات إِلا عن تراض (2)، وقال جماعة: بوجوبها عملا بظاهر النص، ومنهم عكرمة وعطاء وعمرو بن دينار، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، واختاره الطبرى ، واحتج داود أَيضا بأَن سيرين والد محمد بن سيرين، سأَل أَنس بن مالك المكاتبة وهو مولاه فأَبى أَنس، فرفع عمر عليه الدِّرة فكاتبه أَنس ، قال داود: وما كان عمر ليرفع عليه الدرة فيما لا يباح له أَن يفعله.
والمراد بعلم السادة الخير في أَرقائِهم: أَن يعرفوا فيهم الدين والقدرة على الاكتساب والوفاء بما تعاقدوا عليه مع سادتهم، وكان ابن عمر يكره أَن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة، ويقول: أَتأمرني أَن آكل أَوساخ الناس - يعني صدقاتهم - وبعث عمر بن الخطاب إِلى عامله عُمَيْر بن سعد أَن ينهى المسلمين أن يكاتبوا أَرقاءَهم على مسأَلة الناس، وكرهه الأَوزاعى، وأحمد، وإسحاق، ورخص فيه مالك، والشافعي، وأَحمد، وعلي رضي الله عنه وفي رواية أُخرى عن مالك: أَنه كره مكاتبة الأَمة التي لا حرفة لها لما تؤَدى إِليه من فسادها.
وقد رد من قال بجواز مكاتبة من لا حرفة له على المانعين بحديث روته الصحاح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلَتْ عليَّ بريرة فقالت: إِن أَهلى كاتبوني على تسع أَوَاقٍ في
(1) انظر القرطبي.
(2)
وقال القرطبي -: إن تعليق الأمر بالكتابة على شرط أن يعلم السيد أن في العبد خيرا يصرفه عن الإِيجاب لأن الخير أمر باطني لا سبيل إلى علمه يقينا فللسيد أن يقول: لم أعلم فيك خيرا فيرجع إلى قوله. انظر المسألة الثالثة في القر
تسع سنين، كل سنة أَوقية، فأعينيني
…
) الحديث، ففيه دليل على مكاتبة الأَمة وهي لا حرفة لها، ولم يسأَل النبي صلى الله عليه وسلم هل لها حرفة أَم لا؟ ولو كان هذا واجبا لسأَل عنه، لأَنه بعث مبينا معلما (1).
وظاهر الآية صحة المكاتبة على تنجيم المال - أَي: تقسيطه - وعلى دفعه كله حالًّا أَو مؤجلا، وبهذا أَخذ الحنفية، أَما الشافعية فقد أَوجبوا تنجيمه بنجمين فأَكثر، فلا تجوز عندهم بدون أَجل، أَما الكتابة على مال حال فلا تجوز عندهم، لأَن الرقيق لا مال له، فكيف يكاتب على ما يتعذر عليه دفعه، فيكون ذلك سببا لعودته إلى الرق.
وقد طلب الله إلى الموالى أَن يبذلوا لأَرقائِهم الذين كاتبوهم شيئا من أَموالهم ، وفي معناه حَطُّ شيءٍ من مال الكتابة ، وهو للوجوب عند الأَكثرين، ويكفى فيه أَقل متمول، وعن علي رضي الله عنه: يحط الربع، وقيل: يحط الثلث، وقيل: هذا أَمر لكافة المسلمين بإعانة المكاتبين، وإِعطائهم سهمهم من الزكاة، ويَحلُّ للمولى وإِن كان غنيا، لأَنه لا يأخذُه صدقة - كالدائن والمشترى (2).
المراد من الفتيات هنا: الإِماءِ، وسبب نزول هذا النهي؛ ما أَخرجه مسلم وأَبو داود عن جابر رضي الله عنه أَن جارية لعبد الله بن أُبي بن سلول يقال لها: مُسَيْكَة، وأُخرى يقال لها: أُمَيْمَة كان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وأخرج ابن أَبي حاتم عن السدى قال: كان لعبد الله بن أُبَيٍّ جاريةٌ تدعى مُعَاذة، فكان إذا نزل ضيف أَرسلها له ليواقعها إِرادة الثواب منه والكرامة له، فأَقبلت الجارية إِلى أَبي بكر رضي الله عنه فشكت ذلك إِليه، فذكره أَبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأَمره بقبضها، فصاح عبد الله بن أُبَيٍّ من يعذرنى من محمد يغلبنا على مماليكنا؟ فنزلت،
(1) انظر المسألة الخامسة في القرطبى.
(2)
انظر البيض
وروى: كانت له ست جوار: معاذة، ومسيكة، وأُميمة، وعَمْرَة، وأَرْوَى، وقُتَيْلَة، يكرههن على البغاءِ، وضرب عليهن ضرائب، وروى عن علي وابن عباس أَنهم كانوا في الجاهلية يُكرهون إِماءَهم على الزنى، ويأخذون أُجورهن فنهوا عن ذلك في الإِسلام، إلى غير ذلك من الروايات والآية عامة الحكم وإن نزلت بسبب خاص.
وليس قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} شرطا لتحريم الإِكراه في الحقيقة، فإِن الإكراه على الزنى حرام في كل حال، بل المراد منه تهويل جريمة سادتهن، حيث أَكرهوهن على الزنى مع رغبتهن في العفة - كما جاء في سبب النزول (1).
والمعنى الإِجمالى للآية: وليجتهد في العفة وكبح النفس عن شهواتها، من لا يجدون أَسباب النكاح من صداق أَو نفقة أَو زوجة مناسبة لحالهم ، أَو مسكن يؤويهم وذلك بالاشتغال بتقوى الله، وليصبروا حتى يغنيهم الله من فضله، وعليهم أَن يأْخذوا في أَسباب الغنى ليغنِيَهم الله تعالى فيتزوجوا عن غنى، والأَرقاءُ الذين يرغبون في أَن يكاتبهم سادتهم على العتق في مقابل جُعْلٍ يبذلونه لسادتهم، فعلى هؤلاءِ السادة أَن يكاتبوهم إِن عرفوا فيهم خيرا في الدين وقدرة على السداد، ووفاءً بالعقد، وأَن يعطوهم من مال الله الذي آتاهم، ولو بالنزول عن بعض العوض الذي كاتبوهم عليه، وليساعدهم المؤمنون ببعض زكاة أَموالهم أَو بالتصدق عليهم.
ولا تكرهوا - أَيها المسلمون - جواريكم على الزنى إِن أَردن تعففًا - كما فعله بعضكم - يبتغون بذلك متاعا فاسدًا من متاع الحياة الدنيا، ومن يكرههن على الزنى، فإِن الله من بعد إكراههن غفور لهن رحيم بهن، لأَنهن مُكْرَهَاتٌ عليه، أَو غفور رحيم للتائبين من السادة الذين أكرهوهن.
34 -
هذا كلام مستأْنف جىءَ به لبيان وضوح الآيات السابقة وجلالة قدرها، وصدر بلام القسم وقد، لإِبراز كمال العناية بشأْنه ، أَي: وبالله لقد أَنزلنا إِليكم في هذه السورة
(1) ومما قيل في الجواب عن قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} : أنه شرط لا مفهوم له؛ حيث أبطله الإجماع على تحريم الإكراه على البغاء مط
الكريمة آيات موضحات لما تحتاجون إلى إِيضاحه من الحدود وسائر الأَحكام والآداب، وأَنزلنا إليكم مثلا من قبيل أَمثال الذين مضوا قبلكم، كقصة عائشة التي تماثل قصة مريم ، وقصة يوسف عليهما السلام حيث أُسند إِليهما ما أُسند إلى عائشة - رضئ الله عنها -، وأَنزلنا إِليكم فيها ما يتعظ به المتقون، ويبتعدون عن المحرمات والمكروهات، فهم المنتفعون بأَنوارها وعظاتها.
وقيل: المراد بالآيات المبينات، والمثل، والموعظة: جميع ما في القرآن منها، والله الموفق للصواب وإِليه المرجع والمآب.
المفردات:
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : الله هادى أَهل السموات والأَرض، وللكلام بقية في الشرح. (كَمِشْكَاةٍ): المشكاة؛ موضع الفتيلة من القنديل، وهذا هو المعنى المشهور، ولهذا قال بعده:{فِيهَا مِصْبَاحٌ} : وهو الفتيلة التي تضىءُ، وسيأتي في الشرح مزيد بيان. {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}: كوكب مضىءٌ متلأْلىءٌ كالزُّهَرة (1) في صفائه ولمعانه
…
(1) الزهرة - بضم الزاي المشددة وفتح الهاء -: نجم قوى النور عظيم التألق واللمعان.
{مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} : من شجرة كثيرة الخير. {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} : أَي أَنها مكشوفة للشمس شرقًا وغربًا، فليست شرقية فحسْبُ، ولا غربية كذلك فتحرم من ضوء الشمس في أَيهما - وسيأْتي بسط الحديث فيها.
{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} : ويبين الله الأَشباه والنظائر لهم.
التفسير
35 -
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..... } الآية.
منذ بدأَت هذه السورة، ونحن نرى فيها نور الهدى والرشاد، فقد رأَينا فيها آيات بينات تحمى الأَعراض، وتصون الأَنساب، وتزجر المعتدين عليها بما فرضته من عقوبات ، كما رأَينا آيات كريمة تحث على صيانة الأَلسنة عن قالة السوء في المؤمنين والمؤمنات، وعقوبة القاذفين لهم، وقرأنا فيها آيات الاستئذان على البيوت، وتحريم دخولها دون استئذان، ووجوب غض الأبصار عما يحرم النظر إليه من النساء والرجال، إلى غير ذلك من الأَحكام والآداب ومكارم الأَخلاق.
وقد جاءَت هذه الآية لتقرر أَن هذه الأَحكام وأَمثالها: هي من نور الله وهدايته لعباده المؤمنين، فإِنها كمشكاة فيها مصباح عظيم الضياء، فهى تضىءُ قلوب المتقين، وتكشف الظلام عنها، كما يكشف الكوكب الدرى الظلام بنوره.
كما جاءَت لتبين أَنه - تعالى - يهدى لنوره من يشاءُ، ويضرب الله الأمثال للناس تقريرا لأَحكامه وتنويرًا لهم، لعلهم يتذكرون.
والنور في الأَصل: كيفية يدركها البصر، ويدرك بسببها الْمبْصَرَاتِ، مثل الكيفية التي تنبعث من الشمس والقمر على الأَجرام الكثيفة المقابلة لهما، أَو من المصباح على ما حوله، والنور بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى؛ لأَن النور مدرك بالأَبصار، والله تعالى يقول:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} وبالجملة فالله تعالى منزه عن الجسمية والكيفية ولوازمهما، ولعدم صحة إطلاق النور بمعناه اللغوي المذكور على الله تعالى، اختلف العلماءُ
في تفسيره في الآية، فمنهم من فسره بالهداية، مراعاة لسياق الآية مع ما قبلها، وقد ذهب إِلى ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فقد أَخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أَبي حاتم، والبيهقى في الأَسماءِ والصفات: عن ابن عباس أَنه قال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَي: هادى أَهلهما. قال الآلوسى: وهذا وجه حسن: انتهى.
ونرى أَن هذا الرأْى مناسب لما سبق وما لحق من الآيات، ويكون إِطلاق النور على الله - تعالى - في هذا الرأْى على سبيل المجاز.
وقال آخرون: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} معناه: منَوِّرهُمَا، فإِطلاق النور على الله تعالى بهذا المعنى على سبيل التجوز أَيضًا، كما تقول: زيد عَدْلٌ، بمعنى: عادل، على سبيل المجاز، ويرشح هذا المعنى أَنه قرأَ بعض القراءِ:{اللَّهُ مُنَوِّر السمَآءِ وَالْأَرْضِ} .
وقد نورهما الله - تعالى - بالكواكب والنجوم، حيث جعلها تلقى أَشعتها على الأَجرام المقابلة لها، كما نوّر الأَرض بالمصابيح التي هدى عباده إِلى اختراعها على اختلافها قوة وضعفًا، وكِبَرا وصِغَرا، وطولا وقِصَرا.
ويتناول النور على الوجه الأَول وحيه - تعالى - إلى ملائكته وأَنبيائه، وهداية كل شيءٍ لما خلق له، كما قال - تعالى - حكاية لما قاله موسى لفرعون:{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (1) وفي هذا الجزء من الآية آراءٌ أُخرى، وحسب القارىء ما تقدم.
المقصود من النور هنا: الهدى القلبي الناشيءُ عن النظر في آيات الله في الأَنفس والآفاق، وعن التأَثر بمواعظ القرآن العظيم، وسنة النبي الكريم، فإن الهدى الناجم عن ذلك يذهب بظلمات الحيرة والشك والوسوسة التي تغشى القلوب، ويحِلُّ محلها الإِيمان الذي لا تهزه العواصف، ولا تقصفه الرياح القواصف، ومَثَله في ذلك مثل النور الحقيقي الذي تنجاب
(1) سورة طه، الآية: 50
به الظلمات، وتَبينُ به المرئيات على حقائقها، والضمير في {نُورِهِ} عائد إِلى الله - تعالى - (1) فإن الهدى هداه {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} .
والنور بهذا المعنى هو المشبه بالمشكاة، وهو الذي جنح إِليه ابن عباس رضي الله عنهما؛ فقد أَخرج ابن جرير وابن المنذر، وابن أَبي حاتم والبيهقى عن ابن عباس أَنه قال:{مَثَلُ نُورِهِ} : مَثَل هداه في قلب المؤمن" وبه قال أَنس، أَخرج ابن جرير عنه أَنه قال:(إلهي يقول: نُوري هُدَاي) ونقل الآلوسى أَن تفسيره بالهدى هو اختيار الأَكثرين، والمشكاة: هي موضع الفتيلة من القنديل، وقد نقله ابن كثير عن ابن عباس، ومحمد بن كعب، وغيرهما، وقال: إِنه هو المشهور، ولهذا قال بعده:{فِيهَا مِصْبَاحٌ} وهو الذُّبَالَةُ (2) التي تضىءُ، وقيل: هي الكُوة في الحائط غير نافذة، وعزاه القرطبى إِلى الجمهور، وقال: إنها بهذا المعنى أَجمع للضوءِ، ونقل القرطبى عن مجاهد أَنها هي القنديل، وقد اشتهرت بهذا المعنى في عصرنا، وتفسير المتقدمين للمصباح بالزبالة، أَي: فتيلة القنديل، ملاحظ فيه أَن المصابيح في هذا الزمان كانت كذلك، ولهذا جاءَ في النص الكريم أَن هذا المصباح {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} .
وقد بين الله - تعالى - أَن هذا المصباح في زجاجة، وهي القنديل، وقد وصف الله زجاج القنديل بالصفاءِ والزُّهْرَة الفائقة، حيث قال:{الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} ومن هذا القنديل الشفاف ينفذ ضوءُ المصباح إِلى ما حوله.
والمراد بالكوكب الدرى: أَحد الكواكب التي يطلق عليها العرب الدرارىّ، مثل: المشترى، والزهرة، وهي منسوبة إلى الدُّرّة، لبياضها وزُهْرَتِها وحسنها.
وتشبيه الزجاجة بالكوكب الدرى يحتمل معنيين: أَحدهما: أَنها بما فيها من المصباح تشبهه، وثانيهما: أَنها لصفائها وجودة جوهرها تشبهه، قال القرطبى: وهذا التأْويل أَبلغ في التعاون على النور.
(1) أجاز بعض العلماء رجوع الضمير إلى المؤمن، وروى ذلك عن ابن عباس في إحدى الروايات عنه كما روى عن أبي بن كعب، وكان يقرأ:(مثل نور المؤمن) وهناك أقوال أخرى في مرجع الضمير، فقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: هو القرآن، وما ذكرناه من رجوعه إلى الله هو الموافق لظاهر النص القرآني.
(2)
أي: الفت
وقد بين الله أَن هذا المصباح {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} : أي يوقد من زيتها، والمقصود بها: الجنس من شجرة الزيتون، وبركتها إِما كثرة منافعها، وإِما لأَنها تنبت في الأرض التي بورك فيها للعالمين، وعلى أَي حال فهي كثيرة المنافع، روى عن ابن عباس أنه قال: في الزيتونة منافع: يسرج بالزيت، وهو إدام ودهان ودباغ، ووقود - يوقد بحطبه وتُفْلِه - وليس فيه شىءٌ إِلا وفيه منفعة، حتى الرماد يُغْسَل به الإِبريسم
…
إِلخ.
والإِبريسم: الحرير.
وقد جاءَ في زيتها حديث أَخرجه عبد بن حميد في مسنده، والترمذى وابن ماجه، عن عمر رضي الله عنه أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ائتدموا بالزيت، وادهنوا به، فإِنه من شجرة مباركة".
وقد وصف الله تعالى الزيتونة بقوله: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} : فأَما كونها غير شرقية وغير غربية، فالمقصود: أنها مكشوفة للشمس، لا يحجبها عنها جبل ولا شجر، من حين تطلع حتى تغرب، وذلك أَحسن لزيتها، فهي ليست خالصة للشرق حتى يقال فيها: شرقية، ولا خالصة للغرب حتى يقال فيها: غربية، بل هي شرقية غربية.
وقال ابن زيد: إنها من شجر الشام، فإن شجر الشام لا شرقى ولا غربى، وشجر الشام هو أَفضل الشجر، وهو الأرض المباركة. وهذا رأى حسن.
وقد وصف الله زيتها بقوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} تأْكيدا لصفائه وجودة النور المنبعث عنه، وبهذا الوصف اكتملت الأَنوار للمشكاة، فكان أَمرها كما قال تعالى:{نُورٌ عَلَى نُورٍ} : فقد اجتمع فيها ضوءُ المصباح إِلى ضوء الزجاجة إلى ضوء الزيت، فكانت كأَنْوَر ما يكون، فكذلك براهين الله - تعالى - واضحة تستضىء بها القلوب وتهتدى، وهي برهان بعد برهان، وتنبيه بعد تنبيه، بإرساله الرسل، وإِنزاله الكتب، الوعظ المتكرر، وآيات الله في الأَنفس والآفاق.
ولما كان الناس مختلفين في معرفة الهدى والرشاد، متباينين في إِدراك الحق والضلال، عقب ذلك بقوله:{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} : أَي يوفق الله لإصابة الحق ومعرفته والاستجابة إِليه - يوفق - من يشاءُ من عباده، ممن حسنت نيته، وطابت طويته، وذلك بإلهامه الاقتناع به، وشرح صدره إِليه، بعد أَن وفقه إلى حسن النظر في آياته التي نور الله بها السموات والأرض، وفيما أَنزل على رسوله من نور القرآن كما قال - تعالى -:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} حتى اطمأن بها فؤاده، واهتدى إلى الحق والرشاد. وفي ربط الهداية بمشيئة الله - تعالى - إيذان بأَن مناطها هو مشيئته، وليست الأَسباب وحدها، فهو أَعلم بمن يستحقها، قال الشاعر:
إذا لم يَكُ التوفيق عونا لطالب
…
طريقَ الهدى أعيت عليه مطالبه
أَخرج الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ، فمن أَصابه يومئذ من نوره اهتدى، ومن أخطأَه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله عز وجل".
وقد ختم الله الآية بما يدل على أن إطلاق لفظ؛ (النور) على الآيات والبراهِين من قبيل ضرب الأمثال، فقال - سبحانه -:{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} : أي يبين الله الأشباه والنظائر من الحسيات، تمثيلا للمعانى عند إرادته - تعالى - هداية الناس وإِرشادهم إلى الحق - كالذى جاءَ في الآية من تشبيه ما تحدثه الآيات من نور الهدى في القلوب، بنور المشكاة؛ لما لها من الأثر العظيم في إرشاد الحق إِلى الحق.
وختم الآية بقوله - سبحانه -: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أَي: أنه - تعالى - يعلم الأشياء جميعها حقائقها ومجازاتها، وما ينبغي التعبير عنه بأسلوب المجاز، وما ينبغي التعبير عنه بأسلوب الحقيقة، كما يعلم من يستحق الهداية ممن يستحق الإِضلال.
أَخرج الإمام أَحمد بسنده، عن أَبي سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القلوب أَربعة: قلب أجْرَد، فيه مثل السراج يزْهر، وقلب أغْلَف، مربوط
غلافه، وقلب مَنْكوس، وقلب مصْفَح، فأما القلب الأجرد (1)، فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف، فقلب الكافر، وأَما القلب المنكوس، فقلب المنافق - عرف ثم أنكر - وأَما القلب المصْفَح (2)، فقلب فيه إيمان ونفاق، ومَثَل الإيمان فيه كمثل البَقْلة يمدها الماءُ الطيب، ومَثَل النفاق فيه كمثل القَرْحَةَ يمدها القيح والدم، فأي المدَّتَيْنِ غلبت على الأُخرى غلبت عليه" قال ابن كثير: إسناده جيد.
المعنى الإجمالى للآية:
الله هادى أهل السموات إلى معرفته ومعرفة ما تستقيم به مصالحهم، وما يحققون به ما وُكل إليهم، مَثَل هدايته خلقه إِلى ذلك، كمثل نور مشكاة فيها مصباح مضىء. وهذا المصباح داخلَ زجاجة تشبه في صفائها. وقوة شعاعها الكوكب الدرى، وهو يوقد من زيت شجرة مباركة كثيرة المنافع، هي شجرة الزيتون، تلك الزيتونة تتمتع بضوء الشمس وحرارتها في مشرقها ومغربها فيجود بذلك زيتها، وقد بلغ من شدة صفاء هذا الزيت أَنه يكاد يضىءُ ولو لم تمسسه نار وقد أَصبح نور المشكاة بذلك مضاعفًا، فهو نور فوق نور، يهدى الله للانتفاع بهداه من يشاء ممن رق حِسُّه، وحسن استعداده، وطابت سريرته، دون من عداه ممن لم يكترث بهداه، ويضرب الله الأمثال الحِسِّية للناس حين يهديهم إلى الحق والخير، لعلهم يهتدون إِلى ما أَرشدهم إليه مما ينفعهم في أُخراهم ودنياهم، فتستنير قلوبهم وتصفو أرواحهم.
(1) المراد من كونه أجرد: أنه على أصل الفطرة، فنور الإيمان يزهر فيه.
(2)
المصفح: الذي له وجهان، يلقى أهل الإيمان بوجه، وأهل الكفر بوجه، وصفح كل شيء: وجهه وناحيته.
المفردات:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} : المراد بها المساجد، والإذن برفعها: الأمر برفع شأنها وتعظيمها. {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} : الغُدوَةُ أَول النهار، والغُدُوُّ: الإقبال في الغُدْوة، والآصال: جمع الأصيل، وهو آخر النهار. {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}: تضطرب فيه من شدة الهول. {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} : أحسن جزاء ما عملوه.
التفسير
36 -
لما بين الله تعالى في الآية السابقة أَن هدايته لعباده إِلى معرفته تشبه مصباحًا في زجاجة جاء بهذه الآية ليبين أَثر هدايته لهم، وهو تسبيحهم إياه في بيوت أَذن برفعها، ونقاءِ سيرتهم وسريرتهم، فهي استئناف مبين لأثر الهداية فيهم.
(1){فِي بُيُوتٍ} متعلق بـ (يسبح) ولفظ: {فِيهَا} تكرير لقوله: {فِي بُيُوتٍ} جىء به التأكيد والتذكير مما تقدمها، والإيذان بأن التقديم للاهتمام لا الحصر.
والمراد بالبيوت: المساجد مطلقًا، وقيل: هي المساجد الأربعة التي لم يَبْنِها إلا نبي (1)، وهي: الكعبة، ومسجد المدينة، ومسجد قباء، وبيت أَريحا (2)، حكاه القرطبى في آخر المسألة الأُولى عن ابن بريدة، وعقبه بقوله: الأظهر الأول؛ لما رواه أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أَحب الله - عزوجل - فليحبنى، ومن أحبنى فليحب أصحابى، من أحب أَصحابى فليحب القرآن، ومن أحب القرآن فليحب المساجد؛ فإنها أَفْنِيَةُ الله، أَبنيته أذن الله في رفعها، وبارك الله فيها، ميمونةٌ ميمونٌ أَهلها، محفوظة محفوظ أهلها، هم في صلاتهم، والله عز وجل في حوائجهم، هم في مساجدهم، والله من ورائهم".
والمراد من إذن الله برفعها: أَمره بتعظيمها، وذلك بتطهيرها من الأقذار والنجاسات، ومنع الجنب والحائض والنفساء من دخولها، ومنع البيع والشراء ورفع الصوت فيها، والامتناع عن أَكل ذى ريح كريه قبيل في دخولها، وفي المسألة كلام طويل يطلب من الموسوعات من كتب الفقه والتفسير.
وحمل بعض المفسرين رفعها على رفع بنيانها، كما في قوله تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} وبه قال مجاهد وعكرمة، وفي بناء المسجد يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من بنى مسجدا يبتغى به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة" أخرجه البخاري في صحيحه بسنده عن عثمان بن عفان.
وهل يجوز تَزيين المساجد ونقشها؟ قال القرطبى في المسألة الثالثة: اختلف، في ذلك، فكرهه قوم، وأَباحه آخرون، واستند من كرهه إِلى قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقوم الساعة حتى تتباهى الناس في المساجد" أَخرجه أَبو داود بسنده عن أنس. وفي البخاري: وقال أنس: "يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا".
واستند من قال بإباحتها إِلى أن فيها تعظيم المساجد، والله أَمر بتعظيمها بقوله:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} وروى عن عثمان بن عفان - رضى الله عنه - (أَنه بنى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالساج وحسنه).
(1) وهذا هو رأي ابن زيد، أخرجه ابن أبي حاتم عنه - انظره في الآلوسى ولعله تصحيف لابن بريدة ليتفق مع ما ذكره القرطبى عنه كما سيجىء.
(2)
المراد به: بيت المقدس، بناه داود وسليمان - عليهما السلام
والساج: شجر ينبت ببلاد الهند، وخشبه أسود رزين لا تكاد تبليه الأرض.
وقال أبو حنيفة: لا بأس بنقش المساجد ماء الذهب، وروى عن عمر بن عبد العزيز أَنه نقش مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبالغ عمارته وتزيينه، وذلك في زمن ولايته المدينة قبل الخلافة، ولم ينكر عليه أَحد.
ومن تعظيم المساجد: الدعاءُ عند الدخول والخروج، أخرج الإمام مسلم بسنده عن أبي أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا دخل أَحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لى أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أَسألك من فضلك".
ومن تعظيمها: صلاة ركعتين لله تعالى قبل الجلوس، روى مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله - صل الله عليه وسلم - قال:"إِذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس".
والمراد بالتسبيح فيها بالغدوِّ والآصال: الصلوات فيها بالغُدوَات، أي: أوائل النهار، وبالعشيات: أَواخره، وقيل: المراد به: تنزيه الله ومراقبته والاشتغال بطاعته.
والغدوُّ في الأصل: مصدر، أُطلق مجازا على وقته، ولذا حسن اقترانه بالآصال، جمع: الأصيل، وهو: العشيُّ، وسيأْتى المعنى الإِجمالى لهذه الآية مع الآيتين بعدها، لشدة اتصالها بهما.
37 -
{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ
…
} الآية.
رجالٌ: فاعل لقوله: (يُسَبِّحُ) في الآية السابقة، وخص الرجال بالذكر؛ لأن النساء لا حَظَّ لهن في المساجد؛ إذْ لا جمعة عليهن ولا جماعة، وصلاتهن في بيوتهن أَفضل، أخرج الإمام أَحمد، والبيهقى: عن أم سلمة أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير مساجد النساء قَعْر بيوتهن" فإن صلين في المساجد ابتعدن عن أسباب الفتنة، فقد ثبت في صحيح مسلم عن زينب امرأة ابن مسعود قالت: قال لنا رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: "إذا شهدت إِحداكن المسجد فلا تمَس طيبًا" وفي الصحيحين عن عائشة - رضى الله عنها - أنها قالت: "كانت نساءُ المؤمنين يشهدْن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرجعن متلفعات بمررطهن" وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت: "لو أَدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أَحدث النساء لَمَنَعَهُن المساجد، كما منعت نساء بنى إسرائيل" انظر ابن كثير.
وذِكْر البيع بعد التجارة مع شمولها له؛ لأنه أَقوى نوعيها في الإلهاء عن الصلاة لحرص التاجر عليه طلبًا لربح عاجل، أَو دفعًا لخسارة منتظرة، أَو سدادًا لدين، أو جلْبا لرزق ناجز، بخلاف الشراء فإن الأناة فيه أكثر؛ إذ الربح فيه متوقع وليس بناجز، وقيل: المراد بالتجارة: الشراءُ، فإنه أَصلها ومبدؤها، وقيل: الجلب سفرا، ومنه يقال: تَجَر في كذا، إذا جلبه، ويؤيده ما أَخرجه ابن أَبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هؤلاء الموصوفين بما ذكر:"هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله".
والمقصود من أَنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله: أنهم يُلَبُّون نداء الصلاة جماعة ويتركون البيع والشراء، روى عن ابن مسعود أَنه رأى قومًا من أهل السوق حيث نودى بالصلاة تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} رواه ابن جرير الطبرى.
وروى عن عبد الله بن عمر - رضى الله عنهما - أنه كان في السوق فأُقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم، ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، وقد جاء في مثل ذلك أخبار كثيرة (1).
(1) انظر ابن كثير وغيره.
والمراد من تقلب القلوب والأبصار في يوم القيامة: اضطرابها من الهول، أَو تقلب أحوالها فتفقه ما لم تكن تفقه، فتؤمن بعد الكفر حيث لا ينفعها الإيمان، وفي هذا المعنى يقول المولى سبحانه:{فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} .
38 -
{لِيَجْزِيَهُمُ} : متعلق بفعل يتضمن طاعاتهم السابقة، أي: يفعلون كل ما تقدم من تسبيحهم لله في المساجد، وصلاتهم فيها كلما سمعوا النداءِ إِليها، وإيتائهم الزكاة لمستحقيها، وخوفهم من يوم الحساب، يفعلون كل ذلك. ليجزيهم الله أحسن ما عملوا .... إلخ.
المعنى الإجمالى للآيات الثلاث: 36، 37، 38 ما يلى:
يسبح لله تعالى في مساجد أمر الله أن تعظم بالصيانة والنظافة، ويذكر فيها اسمه - يسبح له فيها - رجال استنارت قلوبهم بمشكاة الهدى، فأصبحوا لا تلهيهم ولا تشغلهم دنياهم عن ذكر الله، وإقام الصلاة في أوقاتها جماعة كلما سمعوا النداء إليها، كما لا تشغلهم عن إِعطاء الزكاة لمستحقيها في مواقيتها، يخشون يومًا رهيبًا تضطرب فيه القلوب والأبصار كما قال الله تعالى:{وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} وذلك من هول ما رأوا من الشدائد والتغيرات الكونية حيث {تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} .
يسبح لله هؤلاء الرجال في المساجد خائفين من يوم الوعيد، لكي يجزيهم الله في الجنة أحسن جزاء لما عملوه في دنياهم، حسبما وعدهم الله تعالى كل لسان رسوله، ويزيدهم من الثواب فوق ما وعدهم مما لم يخطر لهم ببال، والله يثيب من يشاء من عباده المتقين رزقًا واسعًا، دون أن يحاسبه أحد على ما أعطى؛ فهو الرزاق ذو القوة المتين.
المفردات:
{كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} : السراب - كما عرّفه المتقدمون -: ما يُرى في الفلاة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة، فيُظَنُّ أنه ماءٌ يسرب، أَي: يجرى. والقيعة: هي القاع وهو الأرض المستوية الخالية من النبات (1)، وسيأْتى لذلك مزيد بيان.
{وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} : وجد الظمآن قضاءَ الله عند السراب.
{فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} : أي عميق، كثير الماء، منسوب إلى الُّلجِّ واللُّجةِ، وكلاهما معناه:
الماءُ الكثير البعيد القاع. {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} : يغطى البحر موج، مأخوذ من الغشاء، وهو الغطاءُ.
التفسير
39 -
(1) انظر تفسير البيضاوي.
لما ضرب الله مثل المؤمنين فيما تقدم، عقبه بضرب مثل الكافرين هنا وفي الآية التالية وهذه الآية معطوفة على ما قبلها، من عطف المَثل على المَثَل، والقصة على القصة، كأنه قيل: مثل المؤمنين في حالهم ومآلهم كما وُصف، ومثل الذين كفروا أعمالهم كسراب
…
إلخ.
ويقول مقاتل: إِن هذه الآية نزلت في شيبة بن ربيعة، كان يترهب متلمسا الدين فلما خرج صلى الله عليه وسلم كفر شيبة، ذكره القرطبى، وسواء أكان هذا هو السبب أَم غيره، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
والسراب - كما عرفه المتقدمون -: بخار رقيق يرتفع من قاع القيعان تحت تأثير الشمس، فإذا اتصل به ضوءُها أَشبَهَ عند من يراه من بعيد الماء السارب، أَي: الجارى، وقيل: هو ما ترقرق من الهواء في الهجير بفَيَافى الأرض المنبسطة، ويشبه في لمعانه الماء، وليس بماء.
وفي خداع السراب يقول الشاعر في تشبيه العهود الخادعة:
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم
…
كَلَمْعِ سراب في الفَلَا متألِّقٍ
ويفسره العلماءُ المعاصرون: بأنه ظاهرة ضوئية، سببها انعكاس الشعاع المنبعث من الأجسام المضيئة، وارتداده من سطح أَرض فسيحة جرداء، عندما ترتفع درجة حرارتها إِثناء النهار، فيتجه الشعاع المنعكس على التدريج بحذاءِ سطح الأرض، متباعدا عنها قليلا قليلا، حتى يصل إِلى عين الراصد، وعندها تُرَى صور الأجسام المضيئة مقلوبةً، كما لو كانت مرآة كبيرة ممتدة (1).
والقيعة: هي الأرض المستوية المنبسطة، وهي مفرد، كالقاع، وقيل: هي جمع قاع، كجِيرَة: جمع جار.
(1) انظر تعليق الحبراء على كلمة: (سراب) بالتفسير المنتخب الذي أصدره المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر.
والمعنى الإجمالى للآية: والذين كفروا أعمالهم التي يحسبونها صالحة مرضية لله تعالى كصلة الأرحام، والعطف على الأيتام، وسقاية الحاج، وعمارة البيت الحرام، وقِرَى الأضياف، وغير ذلك من المبَرات - أعمالهم هذه - شبيهة في ضياعها في الآخرة بسراب لامع تحت ضوء الشمس في أرض فسيحة جرداء، يحسبه الظمآن حين يراه من بعيد يترقرق ويلمع - يحسبه - ماءً يروى ظمآه، ويطفىءُ لهيب عطشه، حتى إِذا جاءه حيث كان يبدو له، لم يجده شيئًا مطلقًا؛ لزوال الصورة التي خدعه بها السراب، فكذلك جنس الكافر، يحسب أنه قد عمل في دنياه عملا نافعًا، واعتقد اعتقادًا سديدًا، فإذا بعث يوم القيامة، ورأى أهوال القيامة، اشتدت حاجته إلى عمله لينفعه وينجيه، فلم يجد له أثرا، وخاب ظنه فيه، بل وجد حساب الله وافيًا في مواجهته، ونقاشه إياه مستوعيًا لعقائده الزائفة، وأعماله الفاسدة، وأنه تعالى لم يتقبل منه ما قدمه من أعمال البر؛ لأنها قامت على أساس الكفر، إلى جانب ما داخلها من الرياء والفخر والعُجب، فكان أمر الله معه في تلك المبَرات كما قال - سبحانه -:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (1).
وقد ختم الله الآية بقوله: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} : للإيذان بأَنه لا يشغله حساب عن حساب، فلهذا كان سريع الحساب لجميع عباده.
ويلاحظ أن تشبيه عمل الكافر بالسراب انتهى عند قوله تعالى: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} أما قوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} فهو لبيان بقية أحواله بطريق التكملة، حتى لا يتصور أن نهاية أمره هو الخيبة والقنوط فقط - كما هو شأن الظمآن بعد أَن عرف حال السراب - بل يعتريهم من سوء الحال والمآل، ما يفوق خيبة الظمآن حين يئس من الماء (2).
ومن المفسرين من جعل هذا السراب في الآخرة، قال جار الله الزمخشرى: شبه الله سبحانه ما يعمله غير المؤمن بسراب سوف يراه بالساهرة - يوم القيامة - وقد غلبه العطش، فيحسبه ماءً، فيأتيه فلا يجده، ويجد زبانية الله عنده، يأخذونه فيسقونه الحميم
(1) سورة الفرقان، الآية: 23
(2)
انظر كتاب (إرشاد العقل السليم).
والغسَّاق. قال الآلوسى - تعليقًا على هذا الرأْى -: وكأَنه مأْخوذ مما أَخرجه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أَبي حاتم، من طريق السدى في غرائبه عن الصحابة، أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الكفار يبعثون يوم القيامة وِرْدا (1) عطاشا، فيقولون: أين الماءُ؟ فيمثل لهم السراب فيحسبونه ماءً، فينطلقون إِليه، فيجدون الله تعالى عنده فيوفيهم حسابهم، والله سريع الحساب" واستحسن ذلك الطيبى
…
إلى آخر ما كتبه الآلوسى في هذا المقام.
وقد نقل ابن كثير في هذا المعنى عن الصحيحين: "أَنه يقال يوم القيامة لليهود: ما كنتم تعملون في الدنيا؟ فيقولون: كنا نعبد عزيرا ابن الله، فيقال: كذبتم؛ ما اتخذ الله من ولد، ماذا تبغون؟ فيقولون: أي ربنا، عطشنا فاسقنا، فيقال: ألَا تَرَونَ؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا، فينطلقون فيتهافتون فيها"(2).
40 -
{كَظُلُمَاتٍ} معظوفة بأو على {كَسَرَابٍ} وحرف (أو) هنا: إما للتخيير، فإن أعمالهم لكونها لاغية لا ثواب عليها، تشبه السراب، ولكونها خالية عن نور الحق، وضوء الإيمان، تشبه الظلمات المتراكمة من عمق البحر، والأمواج المتتابعة فوقه، وظلمة السحاب فأنت مخير في تشبيهها بأيهما، قال الزجاج: إن شئت مَثِّلْ بالسراب، وإن شئت مَثِّلْ بالظلمات (3).
ويصح أَن تكون (أو) للتنويع، فإن أَعمالهم إن كانت حسنة فهي كالسراب في عدم جدواها، وإن كانت قبيحة في كالظلمات، وفيها غير ما ذكرنا من الوجوه (4)، وحَسْب القارىءِ ما تقدم.
(1) الورد - بكسر الواو وسكون الراء -: القوم الذين يردون الماء كالواردة، ومنه: الموردة، وهي: مأتاة الماء: (قاموس).
(2)
البخاري: تفسير سورة النساء، ومسلم: كتاب الإيمان.
(3)
انظر القرطبى.
(4)
انظر البيضاوى.
ومعنى الآية موصولة بما قبلها ما يلى:
والذين كفروا أَعمالهم كسراب بقيعة، أو كظلمات في بحر عميق بعيد القاع، يغطى هذا البحر موجٌ من فوقه موج، وهكذا تتتابع أمواجه، ويتراكم بعضها فوق بعض، من فوق هذا الموج المتتابع سحاب كثيف يحجب أَضواء النجوم، فهي ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، إذا أخرج من ابتلى بهذه الظلمات يده، وجعلها قريبة من عينيه لينظر إِليها، لم يقرب من رؤيتها، فضلا عن أَن يراها، مع أنها أقرب شيء إليه.
وكذلك كل كافر يعيش في أعماق ظلمات كثيفة داكنة من عقيدته، وسيئات أعماله، لا يرى في أثنائها بصيصا (1) من نور الهدى، يهديه إلى سواء السبيل، بسبب تقليده، وخضوعه لسيطرة أئمة الكفر، وجنوحه عمن يدعوه إلى الهدى، قائلا له: إئتنا لتستنير بنورنا.
ويختم الله الآية بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} : أي ومن لم يُقَدِّر الله له نورا قلبيًا يهديه إلى الحق بسبب إعراضه عنه، فليس له نور من سواه، فيبقى في ظلام دامس من الضلال، كما قال تعالى:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} .
أَما من يقبل الهدى فإن الله تعالى يهديه بنور على نور، حتى يثبت الحق في بصيرته، ويستعصى على من يضله، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} نسأل الله الرءُوف الرحيم أَن يملأ قلوبنا نورا، ويجعل النور عن أيماننا وشمائلنا، وأن يعظم لنا النور بفضله ورحمته.
(1) البصيص: البريق.
المفردات:
{وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} : الطير جمع طائر، كصَحْب: جمع صاحب، وجمع الجمع: طيور وأطيار، كفرخ وفروخ وأفراخ، وقد يقع لفظ الطير على الواحد، كقوله تعالى:
{فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} . ومعنى: {صَافَّاتٍ} : باسطات أجنحتهن.
{كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} : أي كل من في السموات والأرض والطير قد علم دعاءه وتنزيهه لله تعالى. (المَصِيرُ): المرجع.
التفسير
41 -
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ
…
} الآية.
بيَّن الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أنه هدى عباده ومخلوقاته بنور هداه إلى ما خلقوا لأجله، وأن من لم يجعل الله له نورا يهتدى به فما له من نور.
وجاء بهذه الآية عقبها ليبين أن آثار هداه في السموات والأرض والطير واضحة لمن يراها ويتأملها.
والهمزة في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} للتقرير بالرؤية، والمراد بالرؤية هنا: العلم والمعرفة، والخطاب إما أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم وإِما أَن يكون لكل عاقل، فإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو يشير إلى أنه تعالى قد أفاض عليه من مراتب النور أعلاها وأجلاها، حتى عرف من أسرار الملك والملكوت أدقها وأخفاها.
وإن كان لكل عاقل: فهو يشير إلى وضوح هدى الله في السموات والأرض ومن فيهن لكل من يتأمل فيها، فلولا هداه وقوانينه الكونية الدقيقة في كل ذرة من هذا الكون لاختل نظامه، فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ولولا إِبداعه المحكم لهذا الكون، وما أَودعه فيه من أَسباب الهدى إلى ما خلق لأجله، لما رأَينا هذا الكمال الناطق بنزاهته تعالى عن الشريك والنظير، وسوء التدبير {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} .
فالمراد من التسبيح في الآية: التنزيه عن كل ما لا يليق بالله تعالى من نقص أو خلل تنزيها معنويًا تفهمه العقول السليمة، فإن كل موجود في السموات والأرض، من أَجزائهما وما استقر فيهما، أَو كان سابحا وطائرا بينهما، يدل على صانع مبدع واجب الوجود، متصف بكل صفات الكمال، منزه عن كل ما لا يليق بشأْنه وعظمته، وإطلاق لفظ:(مَنْ) على العقلاء وغيرهم، على سبيل التغليب، كما هو معهود في عرف اللغة.
وقد نبه الله - سبحانه - على قوة الدلالة وغاية وضوحها بالتعبير عنها بالتسبيح الذي يختص به العقلاء، وهو أَقوى مراتب التنزيه وأَظهرها، تنزيلا للسان الحال منزلة لسان المقال.
وتخصيص التسبيح - أَي: التنزيه - بالذكر مع دلالة ما في السمواتِ والأَرض على اتصافه - تعالى - بنعوت الكمال كلها، لأَن هذه الآية مسوقة لتقبيح حال الكفرة. في إِخلالهم بالتنزيه، بجعلهم الجمادات شريكة له - تعالى - في الأُلوهية، ونسبتهم الولد إليه - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - ولهذا جعل الله أَعمالهم {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} ، أَو {كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاه} .
وإِنما ذُكِر لفظ: {الطَّيْر} مع أَنه مندرج في جملة من في السموات والأَرض؛ لعدم استقرار الطير فوق الأَرض، ولاستقلالها بآية واضحة على تنزيه الله - تعالى - عن الشريك وكل صفات النقص، وعلى كمال قدرته ولطف تدبيره، حيث أَعطاها أَجنحة وذيولا تصفُّها وتطير بها، وحماها بذلك من وقوعها على الأَرض استجابة لجاذبيتها، ومكنها بذلك من الحركة في الجو والرحلة كما تشاء.
وأَما قوله - تعالى -: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} فهو جملة مستأْنفة، اشتملت على صورة بلاغية رفيعة؛ فقد شُبِّه فيها حال كل من في السموات والأَرض والطير في أَداءِ وظائفها التي خلقت لها، استجابة لتسخير الله - تعالى - شُبِّهت حالها بحال إنسان عرف خالقه وكيفية عبادته وتسبيحه، فصلى له وسبحه.
وعلى هذا الوجه فالضمير في (عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) راجع إلى كل واحد مما ذكر، وإِليه ذهب الزجاج.
وأجاز بعضهم أَن يكون ضمير (عَلِمَ) راجعًا إلى الله - تعالى - وضميرا (صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) عائديْن إِلى كل واحد مما في السموات والأَرض والطير، والمعنى على هذا: كل واحد مما ذكر قد علم الله صلاته وتسبيحه لربه، والأَول أَولى؛ لما في الثاني من تشتيت الضمائر.
وقال غير واحد: يجوز أَلا يكون في الكلام استعارة، والعلم على حقيقته، ويراد به: مطلق الإِدراك، والمراد من قوله:{كُلٌّ} جميع أَنواع الطير وأَفرادها، ويراد بالصلاة والتسبيح: ما أَلهمه الله إِياه من الدعاء والتسبيح المخصوصين به، قال الآلوسى: ولا بُعْدَ في هذا الإلهام؛ فقد أَلهم الله كل نوع من أَنواع الحيوانات علومًا دقيقة، لا يكاد يهتدى إِليها جهابذة العقلاء (1) .... إِلى آخر ما قال.
(1) فهذه مملكة النحل تدير أمورها أنثى بحكمة عجيبة، وقد ألهمها الله - تعالى - بناء بيوت هندسية من الشمع متساوية الأضلاع، كما ألهمها تغذية الملكات المقبلة بغذاء خاص يختلف عن غذاء الذكور والخناثى، وهذه الكلاب تنبح قبل حدوث الزلازل منذرة بها، والقنفد يحس بريحى الشمال والجنوب قبل هبوبهما فيغير المدخل، وهذا وأمثاله يدل على أن لها إدراكا عاليا تدير به شئونها، فلا بد أن يكون لها تسبيح وصلاة. والله أعلم.
وقد ختم الله الآية بقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} لتقرير ما تقدم في الآية.
والمعنى الإِجمالى للآية: أَلم تعلم - أَيها العاقل - علمًا يشبه الرؤية في اليقين، أَن الله تعالى ينزهه عن الشريك والنظير، وعن كل ما لا يليق بجنابه في ذاته وصفاته وأَفعاله - ينزهه - كل شيءٍ في السموات والأَرض، وبخاصة الطير وهي باسطة أَجنحتها وأَذيالها في السماءِ؛ لتستطيع أَن تتجه بها إِلى المشارق والمغارب، وهي محلقة في جو السماء ما يمسكهن إلا الله تعالى فإنها جميعًا بما أُنشئت وأُبدعت عليه من دقة الصنع، وأَدائها لوظائفها التي خلقت لها، في نظام رتيب بلا فتور ولا قصور، تنطق بلسان الحال، أن من أَبدعها منزه عن الشريك والنظير، وعن كل نقص في ذاته وفي صفاته وفي أَفعاله، وكل منها في مجموعه وفي أَجزائه قد استجاب لتسخير الله إِياه استجابة تشبه استجابة العقلاء لما كلفهم الله به من الصلاة والتسببح، والله عليم بأَدائها لوظائفها وفق تدبيره الحكيم لها، لا يغفل عنها طرفة عين، فهي لذلك لا يعتريها نقص ولا اختلال، فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.
وأَجاز بعض المفسرين حمل التسبيح والصلاة على حقيقته، كما تقدم بيانه، قال سفيان: للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود، وعمم بعضهم التسبيح بمعناه الحقيقى في جميع الكائنات من جماد ونبات وحيوان، أَخذا من ظاهر قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (1) وليس هذا ببعيد على بديع السموات والأَرض، ولقد سجل بعض علماء الغرب بآلة شديدة الحساسية - سجل - أَنين الشجرة إِذا قطع منها غصن، أَو نقلت شجرة مجاورة لها، وهذا يدل على أَن في الكون أَسرارا عجيبة لم يصل العقل البشرى إِلى كشفها بعد.
42 -
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} :
أَي ولله ملك السموات والأَرض خلقًا وملكا وتصرفًا، فلا يصح أَن يعبد سواه، وإِليه وحده المرجع يوم القيامة فيحكم فيه بما يشاءُ، ولا معقب لحكمه {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (2).
(1) سورة الإسراء، الآية: 44
(2)
سورة النجم، الآية: 31
المفردات:
{يُزْجِي سَحَابًا} : يسوقه ويدفعه، يقال: زَجَاه، وزَجَّاه، وأَزْجَاه، أَي: دفعه وساقه.
{رُكَامًا} : الركام؛ السحاب المتراكم بعضه فوق بعض، ويطلق أَيضًا في غير هذه الآية على كل ما جمع بعضه فوق بعض، كركام الرمل، مأْخوذ من: رَكَمَ الأَشياء، أَي: جمع بعضها فوق بعض. {الْوَدْقَ} : يطلق على المطر وعلى البرق، وسيأْتى شرح ذلك.
{وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا} : المراد من السماء هنا: السحاب أَو الجوّ أَو الفضاء، والجبال في السماء: هي السحب المتراكمة بعضها فوق بعض على هيئة الجبال.
{مِنْ بَرَد} : البَرَد؛ حب ينزل من السحب، فيه بياض كبياض الثلج، وبرودة كبرودته.
{سَنَا بَرْقِهِ} : السَّنا؛ الضوءُ أَما السَّناءُ - بالمد - فهو بمعنى العلوّ والرفعة.
والبرق: التلأْلؤ واللمعان، يقال: برق السيف وغيره، أَي: لمع. {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} : أَي، يصرفهما. وسيأْتى بيانه في التفسير.
التفسير
43 -
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ
…
} الآية.
بيّن الله في الآية السابقة أَنه تعالى له ملك السموات والأرض، وعقبها بهذه الآية ليبين نوعًا من سلطانه وملكه وتصرفه فيهما، تأْكيدا لملكه لهما.
والمقصود من الاستفهام في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} التنبيه إِلى آيات الله التالية للاستفهام المذكور، والحث على رؤيتها، أَو التقرير بها.
والخطاب فيه: إِما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخطابه خطاب لأُمته؛ لأَنه إمامها، وإِما لكل مَنْ هو أَهل للخطاب من المكلفين، والرؤية هنا إِما بصرية، لأَن تحريك السحب وما يتلوه من آثار أَمْرٌ مرئيٌّ لكل ذى عينين،، وإِما علمية لذوى البصيرة والتأَمل ولو على سبيل الإِجمال.
والسحاب: واحده سحابة، ويتكون من بخار الماء الصاعد إِلى طبقات الجو العليا، وينشأْ هذا البخار من تسلط حرارة الشمس على المياه في نواحى الأَرض المختلفة، فإِن بقى هذا البخار بيننا ولم يرتفع إلى الطبقات العليا، فهو الضباب، فكلاهما ناشيءٌ من بخار الماءِ (1).
والله - تعالى - يزجى السحاب المتفرق، أَي: يسوقه من مواطنه المختلفة شيئًا فشيئًا، ثم يؤلف بين جزئياته ويضمها، ثم يجعله متراكما بعضه فوق بعض.
ولِلْوَدْقِ في اللغة معنيان: أَحدهما المطر، وبه قال الجمهور في تفسيرهم إِياه في الآية، وشاهِدُه قول الشاعر:
فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا
…
ولا أَرْضَ أبْقَلَ إِبقالَها
وقال امرؤ القيس: فَدَمْعهُمَا وَدْقٌ وَسحٌّ ودِيمَةٌ (2).
(1) ومن ثم قال العلماء: الضباب: سحاب أنت فيه، والسحاب: ضباب لست فيه.
(2)
السح: السائل. والديمة: الدائم.
والمعنى الثاني: أَنه البرق، حكى القرطبى عن أَبي الأَشهب قوله في هذا المعنى:
أثَرْنَ عَجَاجَةً وخرجْن منها
…
خروج الوَدْقِ من خَلَلِ السحاب
السماءُ في اللغة: ما عَلَا وارتفع، ومنه يقال للسحاب: سماءٌ، وللفضاءِ والسقف: سماء، وللرفعة المعنوية: سماء، ومنه قول الشاعر في الفخر:
إذا بلغ السماءُ لنا وليدٌ
…
تَخِرُّ له أَعادينا سجودا
ولفظ السماء يُذَكّر ويؤنث، والمراد به في الآية: إِما السحاب، وإِمَّا الفضاءُ فكلاهما يشتمل على جبال الركام التي ينزل منها البَرَد، كما هو صريح النص الشريف.
وإِطلاق لفظ الجبال على الركام من باب التشبيه البليغ؛ فإن السحب الركامية تشبه الجبال في ضخامتها وارتفاعها.
قال الإِمام الرازى في تفسير الآية: أَراد بقوله: {مِنْ جِبَالٍ} السحاب العظام؛ لأَنها إذا عظمت أَشبهت الجبال، كما يقال: فلان يملك جبالا من مال: انتهى كلام الفخر الرازى.
ويقول علماءُ الطبيعة الجوية في عصرنا: إِن السحب الركامية ترتفع أَميالا على شكل هرمي، قاعدتها إلى أَسفل وقمتها إِلى أَعلى، وهم بذلك يؤكدون ما نقلناه عن الإمام الرازى.
وفي الآية إِعجاز علمى فوق إِعجازها البلاغى؛ فقد تحدثت عن تكاثف السحب، ووصولها في هذا التكاثف إلى درجة عالية تشبه في ضخامتها وشكلها الجبال، كما تحدثت عن إنزال البَرَد من تلك السحب الركامية المعبَّر عنها بالجبال، وعن البروق الخاطفة المتلأْلئة
(1) لفظ (من) وقوله: {مِنَ السَّمَاءِ} ابتدائية، وقوله:(من جبال) بدل اشتمال من قوله: {مِنَ السَّمَاءِ} فإن السماء هنا بمعنى السحاب أو الجو، وكلاهما يشتمل على ركام السحب الشبيهة بالجبال، ولفظ:(من) في قوله: (من برد) للتبعيض أو البيان، في موضع المفعول به لقوله:(ينزل).
القوية الضوءِ إلى درجة تكاد تخطف الأبصار، وكل ذلك وغيره تنبىء عنه هذه الآية العظيمة، ويجرى على لسان أمِّيٍّ لا علم له ولا لغيره من أهل الأرض جميعًا في زمنه بمثل تلك العلوم الكونية، حيث كانت الجهالة والبدائية تنتشر بين الناس في المشارق والمغارب، الوثنيين منهم وأهل الكتاب، ولا شك أن هذا لا يمكن أن ينطق به إلا رسول آتاه الله العلم بوحى أيده به ، وآذن بصدقه في نبوته ورسالته، فتبارك الله رب العالمين (1).
والبَرَدُ الذي ينزل من تلك السحب الركامية: حبات في بياض الثلج وبرودته، ويقول الله في شأن هذا البَرَد:{فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} : أي فيصيب الله بهذا البَرَد من يشاءُ من عباده فيتضرر به في نفسه، أو ماله، أَو زراعته، أو ماشيته، ويصرفه ويمنعه عمن يشاء، فيسلم من غائلته، حسبما جرت به حكمة الله وقدره.
ويعقب الله ذلك بقوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} : أَي يقرب ضوءُ برق السحاب المتراكم المعبَّر عنه بالسماء، ثم بالجبال، يقوب ضوءُه أن يخطف الأبصار، من فرط الإضاءة والسرعة، وفي ذلك دليل عظيم على قدرة الله تعالى، حيث ولد النور من الظلمة الركامية، وخلق الشيء من ضده، بالإضافة إلى ما تضمنته الآية من عجائب إبداعه وقدرته، ويعقِّب الله ذلك بقوله:
(1) وقد علق الخبراء على هذه الآية في التفسير المنتخب الذي أصدره المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فقالوا ما يلى: تسبق هذه الآية الكريمة ركب العلم؛ فإنها تتناول مراحل تكوين السحب الركامية وخصائصها وما عرف عنها في العهد الأخير، من أن السحب الممطرة تبدأ على هيئة وحدات، يتألف عدد منها في مجموعات هي السحب الركامية، أي: السحب التي تنمو في الاتجاه الرأسى، وترتفع قممها إلى علو 15 أو20 كيلو مترا فتبدو كالجبال الشامخة.
والمعروف علميا أن السحابة الركامية الممطرة تمر بمراحل ثلاث، هي:
1 -
مرحلة الالتحام والنمو.
2 -
ثم مرحلة الهطول.
3 -
وأخيرا مرحلة الانتهاء.
كما أن هذه السحب هي وحدها التي تجود بالبرد، وتشحن بالكهرباء، وقد يتلاحق حدوث البرق في سلسلة تكاد تكون متصلة (أربعين تفريغا في الدقيقة الواحدة) فيذهب ببصر الراصد من شدة الضياء، وهذا هو عين ما يحدث للملاحين والطيارين الذين يخترقون عواصف الرعد - في المناطق الحارة - وينجم عن فقد البصر هذا أضرار بالغة تشكل خطرا حقيقيا على أعمال الطيران وسط العواصف الرعدية. وتعليقا على هذا نقول: إن ذهاب البصر في هذه الحالة وقتي، ولهذا قال - سبحانه -:{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} .
440 -
{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} : أَي يُصَرِّفهما بالمعاقبة بينهما، أَو بنقص أحدهما، وزيادة الآخر، أَو بتغيير أَحوالهما بالحر والبرد، والمظلمة والنور، أو بما يعم ذلك كله.
ويختم الله الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} : والمراد بالأبصار هنا: البصائر والعقول، فهي التي تعتبر وتتعظ، أَي إن فيما تقدم من إزجاء السحاب، وإِنزال الوَدْقِ والبَرَدِ، وتقليب الليل والنهار، لَعِظَةً بليغة لذوى العقول المستنيرة، وذكرى لمن كان له قلب منيب، وإدراك وضاءٌ، حيث يدرك من هذا الإبداع في الخلق، والإحكام في التدبير، أَن ذلك كله من صنع إِله قدير، حكيم خبير.
المعنى الإجمالى للآية:
أَلم تشاهد - أيها الإنسان - من دلائل الألوهية والربوبية، أن الله تعالى يكوِّن سحابا في الجو ويسوقه من جهات مختلفة، ثم يؤلف بين وحداته فيضم بعضها إلى بعض، ثم يجعله متراكما طبقة فوق أخرى، فترى المطر أو البرق يخرج من بين هذا السحاب المتألف المتراكم، وينزل من السماء من سحابها المتراكم الشبيه بالجبال في عظمتها وارتفاعها - ينزل منها حبا يشبه الثلج في بَرْده ولونه، يسمى: البَرَد، فيصيب به من يشاء من عباده من ضرر في نفسه، أَو ماشيته، أو زراعته، أو ماله، ويصرفه عمن يشاء فينجو من أضراره، ويخرج منها برقًا مضيئًا سريع التتابع، يقرب هذا الضوءُ من أن يخطف أبصار الناظرين إِليه من فرط إِضاءته وسرعته.
يُصَرِّف الله الليل والنهار بأن يجعلهما يتعاقبان، أَو يزيد في أحدهما وينقص من الآخر، أو يغير أحوالهما برودة وحرارة، أَو يجمع ذلك كله، إن فيما تقدم من عظائم القدرة، ودقة التدبير وإحكامه لعظةً لأصحاب البصائر النيرة؛ لِدِلَالَتِهِ على وجود صانع حكيم قدير عليم، لا شريك له في ملكه، ولا معارض له في حكمه.
المفردات:
{كُلَّ دَابَّةٍ} : الدابة اسم لكل ما يدب ويتحرك من الحيوان، من: دَبَّ، يَدِبُّ دبًّا ودبيبًا - أي تحرك -، فهو دابٌّ، والتاءُ للمبالغة، ويقال: أكذب من دب ودرج، أي: أَكْذَب الأحياء والأموات، قاله صاحب المختار.
{آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} : آيات موضحات للحقائق.
{إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} : إلى طريق لا اعوجاج فيه.
التفسير
45 -
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ. . . . .} الآية.
بيّن الله - تعالى - فيما تقدم أنه - سبحانه - نور السموات والأرض، فلا تخفى ربوبيته على من له عينان، وأن السموات والأرض والطير تسبح بحمده، وتشهد بتنزيهه عن جميع النقائص، وباستحقاقه جميع الكمالات، وأن السماء والمطر والبَرَد، والبرق الخاطف وضياءه الباهر من إبداعه، وتحت إرادته وحكمه، وأنه يقلب الليل والنهار بحكمة وتدبير رتيب، وجاء بهذه الآية ليشير بها إلى برهان من براهين ربوبيته، وهو خلقه كل دابة من ماء.
والمراد بالدابة هنا: ما يدب ويتحرك بنفسه على الأرض، أو في جوفها، أو في مائِها من الحيوانات والحشرات والأسماك، والله تعالى يقول: إنه خلقها كلها من ماءٍ، والمراد منه: النطفة، فالله - تعالى - جعل لكل ذكر من الحيوانات والحشرات والأَسماك نطفة تشتمل على خصائص نوعه، يودعها أَحشاء أنشاء فتحمل ثم تضع ذريتها لاستبقاءِ نوعها، ولا نعلم شيئًا من الكائنات الحية يخالف هذه القاعدة سوى آدم وعيسى، فآدم خلق من تراب، وعيسى خلق بالنفخ ، ولا يمنع هذا عموم خلق الكل من الماء، فالنادر لا حكم له، فإن وجدت كائنات حية خلقت بغير النطفة سواهما، فالتعبير حينئذ بلفظ:(كل) مراعاة للغالب (1).
وقد يراد من الماء: ما دخل في تكوين كل دابة من الماءِ، وخصّه بالذكر دون سائر عناصر تكوينها لأَهميته العظمى في بناءِ أَجسامها، ويفصل الله - تعالى - أنواع الدواب المخلوقة من الماء فيقول:
أَي: فمن الدواب التي خلقت من ماءٍ من يمشى على بطنه كثعابين البَرِّ وزواحفه المختلفة، وثعابين الماءِ وسائر أَسماكه، وسميت حركة هذه وتلك مَشْيًا مع أَن الأُولى زَحْفٌ، والثانية سباحة، للمبالغة في إظهار قدرتها على الحركة كالدواب التي تمشى، ويزيدها حسنًا ما فيها من المشاكلة لِمَشْىِ ما بعدها، والمشاكلة نوع من أَنواع البلاغة.
ومن هذه الدواب من يمشى على رجلين: كالإِنسان والطير، ومنها من يمشى على أَربع: كالأَنعام والوحوش وبعض حيوانات البحر.
(1) يقول الخبراء - تعليقا على هذه الآية - في منتخب المجلس الأعلى للشئون الإسلامية: الماء في الآية هو ماء التناسل، أي: المشتمل على الحيوانات المنوية، والآية الكريمة لم تسبق ركب العلم في بيان نشوء الإنسان من نطفة؟ كما جاء في قوله - تعالى -:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} لم تسبقه فيها فحسب، بل سبقته كذلك في بيان أن كل دابة تدب على الأرض خلقت كذلك بطريقة التناسل من الحيوانات المنوية، وإن اختلفت أشكال هذة الحيوانات المنوية وخصائصها في كل نوع من أنواع هذه الدواب.
ومما تحتمله الآية من معان علمية: أن الماء قوام تكوين كل كائن حي، فمثلا يحتوى جسم الإنسان على نحو 70% (سبعين في المائة) من وزنه ماء، أي أن الشخص الذي يزن 70 كيلو جراما فجسمه يحوى 50 كجم ماء، ولم يكن تكوين الجسم واحتواؤه هذه الكمية الكبيرة من الماء معروفا مطلقا قبل نزول القرآن .... إلخ ما ذكره الخبراء.
وترتيب الأصناف حسبما جاء في الآية، على سبيل التدرج، ولأن قدرة الزواحف على الحركة مع فقدانها الأَرجل أَدَلُّ على قدرة الله، وتمكينه إياها من الحركة بغير الأسباب المعهودة في سعى الحيوان على رزقه، ولم يذكر من يمشى على أَكثر من أَربع - كالعناكب ونحوها - إِما لأن المراد بكل دابة: ما تقع عليه العين غالبًا، أَو أَن ما ذكر من باب التمثيل وأنه أشير إِلى ما يمشى على أَكثر من أربع بقوله تعالى:{يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} أَي: مما ذكر وما لم يذكر.
والتعبير بضمير العقلاء في قوله: {وَمِنْهُمْ} مع أن من يمشى على بطنه وعلى أَربع ليس منهم، لتغليب جانب العقلاءِ، وهم من يمشون على رجلين كالإنسان، واستعمال:(مَنْ) في غير العقلاءِ للمشاكلة، أو لأنها تستعمل في غير العقلاءَ بِقِلَّةٍ (1).
ويختم الله الآية بقوله: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} : أي يخلق الله ما يريد خلقه مما ذكر وما لم يذكر، بسيطا كان أَو مُرَكَّبًا، على ما يشاءُ من الصُّوَر والحركات والطبائع والقُوَى، إن الله على كل شيءٍ أَراد خلقه عظيم القدرة، إذ يقول للشىء: كن، فيكون.
المعنى الإجمالى للآية:
والله خلق كل حيوان يدب ويسعى فوق سطح الأرض أو في جوفها أَو في مائها - خلقه - من ماء، هو سائل النطفة الذي هو أَصل الكائنات الحية المتوالدة، أَو هو الماءُ الذي خلق منه معظم جسمه، فمن هذه الدواب من يمشى على بطنه، كالزواحف والأسماك، ومنهم من يمشى على رجلين: كالإِنسان والطير، ومنهم من يمشى على أَربع: كالأنعام والوحوش وبعض الحيوانات البحرية، يخلق الله ما يشاءُ خَلْقَه من هذه الدواب وغيرها، على ما يشاءُ من صورها وحركاتها وقواها ومنافعها وأضرارها، والله على كل شيءٍ أراد خلقه قدير؛ إذ يقول له: كن، فيكون.
(1) الحق أن استعمال: (من) في العقلاء أغلبى، وأن استعمال:(ما) في غير العقلاء كذلك، وقد يتقارضان، فتستعمل كلتاهما في غالب ما تستعمل فيه الأخرى - كما هنا في (من) وكما في قوله تعالى:(والسماء وما بناها) بالنسبة لما، فإنها هنا مراد منها المولى سبحانه وتعالى أي: ومن بناها.
46 -
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} : هذه الآية جاءت مقدمة لما بعدها، ولهذا لم تُعطف على ما قبلها كما عطفت مثيلتها السابقة:{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ. . .} الآية.
والمعنى: لقد أنزلنا آيات قرآنية موضحات لكل عاقل ما ينبغي توضيحه من الأحكام الدينية، والأسرار التكوينية، والله يهدى من يشاءُ هدايته إلى طريق مستقيم يوصله إلى الحق والفوز في دار الثواب، وذلك بتوفيق من وعاها بسمعه وقلبه إلى التدبر في معانيها، والنظر الصحيح فيما ترشده إليه من دلائل الحق.
المفردات:
{يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} : يعرض جماعة منهم عن طاعة الله ورسوله.
{مُعْرِضُونَ} : منصرفون. {مُذْعِنِينَ} : منقادين.
{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : المراد بالمرض هنا، النفاق. {أَنْ يَحِيفَ}: أن يجور ويظلم.
التفسير
47 -
بيّن الله - سبحانه - في الآية السابقة أنه تعالى يهدى إلى آياته البينات من يشاء، وهم أَولو البصائر النيرة، فيهتدون بهديه إلى الصراط المستقيم، وبين في هذه الآية وما بعدها من لم يشأ الله هدايتهم من ذوى البصائر المظلمة، والأفكار الضالة من المنافقين.
ويقول الطبرى وغيره في سبب نزول هذه الآية وما بعدها: إن رجلا من المنافقين اسمه: (بشر) كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض ، فدعاه اليهودى إلى التحاكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان اليهودى محقًّا والمنافق مبطلا، فأبى المنافق وقال. إن محمدا يحيف علينا، فلنُحَكِّم (كعب بن الأشرف) فنزلت فيه (1).
وقال الضحاك: نزلت في (المغيرة بن وائل) كان بينه وبين على - كرم الله وجهه - خصومة في أرض ، فدعاه عليّ أن يتحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ، أما محمد فلست آتيه؛ فإنه يبغضنى وأنا أخاف أن يحيف علي، فنزلت (2).
وهذه الآية وإن نزلت في قصة واحد من المنافقين (3) ، لكنهم لما كانوا جميعًا على مذهب واحد من النفاق، حيث كانوا يظهرون الإيمان والطاعة، ويبطنون الكفر والمخالفة - لما كانوا جميعًا كذلك - حكى الله نفاقهم بصيغة الجمع بقوله:{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} وختم الآية بقوله: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} .
والمعنى الإجمالى للآية، ويقول المنافقون بألسنتهم: صدقنا بالله وبالرسول وأطعنا ، مظهرين بذلك ولاءَهم لله ولرسوله ، ثم ينصرف فريق منهم من بعد قولهم هذا معرضين عما يقتضيه الإيمان من الالتزام بشريعة الله والتخلق بأخلاق المؤمنين، وما هؤلاء المنافقون بالمصدقين المخلصين، فقلوبهم مخالفة لألسنتهم، وما قالوه كان رياءً ونفاقًا لجرِّ المنافع ودفع المضار.
(1) نقله القرطبي عن الطبري.
(2)
مختصر من الآلوسى.
(3)
على اختلاف الروايتين.
48 -
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} :
وإذا دعا المنافقين خصومُهم إِلى شرع الله ورسوله، ليحكم به الرسول بينهم، فاجأ بعضهم بالإِعراض عن التحاكم إِلى رسول الله إذا كان الباطل في جانبهم والحق في جانب غيرهم، خشية أن يحكم عليهم بشريعة الله التي تنصف المظلوم ولو كان من الكافرين، وتدين الظالم ولو لبس ثياب المؤمنين.
49 -
{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} :
وإن يكن للمنافقين الحق جهة خصومهم يأْتوا إِلى الرسول صلى الله عليه وسلم منقادين له، مسرعين إِليه؛ لعلمهم بأنه سيحكم لهم؛ لأنه يحكم بالحق حيثما كان.
ثم بين الله ما يدور عليه إِعراض المنافقين عن التحاكم إلى رسول الله وهم مبطلون، فقال - سبحانه -:
50 -
تفيد هذه الآية أن امتناع المنافقين عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يكون الحق ضدهم، لا يخرج عن أن يكون ناشئًا عن مرض في قلوبهم، يميل بهم إلى الظلم وكراهة الحق، أَو ناشئًا - في زعمهم - عن وجود ما يريبهم ويشككهم في نبوته صلى الله عليه وسلم أَو عن خوف من أَن يجور الله عليهم ورسوله.
وبما أَنه لا سبيل إِلى الريب في نبوته؛ لأنه النبي الحق المؤيد من عند الله بالآيات البينات، ولا مجال للخوف من جوره في الحكم؛ لأَنه عرف بالعدل التام بين الناس جميعًا فلا يبقى إِلا السبب الأَول، وهو مرض قلوبهم الشامل لكفرهم ونفاقهم، فهو الذي صرفهم عن التحاكم إليه صلى الله عليه وسلم ولهذا ختمت الآية بالحكم بظلمهم لنفوسهم وذلك بنفاقهم الذي أَصبح مرضًا في قلوبهم.
وقد اتبعت الآية معهم أسلوب المحاورة لكشف حالهم، والاستفهام فيه للتوبيخ والذم وتشديد النكير عليهم.
والمعنى الإجمالي للآية: أَفي قلوب هؤلاه المنافقين مرض منعهم من التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم ارتابوا في نبونه لوجود ما يريبهم فيها، أَم يخافون أن يجور الله عليهم ورسوله إِن تحاكموا إليه؟ والحق أَنه لا يوجد سبب من جهته صلى الله عليه وسلم يمنعهم من التحاكم إِليه؛ فهو النبي العادل دون ريب، بل السبب هو ظلمهم لأنفسهم بمرض قلوبهم ونفاقهم، وظلمهم لخصومهم بمحاولة الاستيلاء على حقوقهم.
المفردات:
{الْمُفْلِحُونَ} : الفائزون. {وَيَتَّقْهِ} : قرأَها حفص بإسكان القاف وكسر الهاء غير مشْبَعَة، حكى ابن الأَنبارى أَنها لغة لبعض العرب، إِذ يُسكِّنون ما قبل الحرف المعتل بعد حذفهم المعتل للجازم، ومنه قول الشاعر:
ومن يتَّقْ فإن الله معه
…
ورزق الله مؤْتَابٌ وغادى
وقرأَها الباقون بكسر القاف، اكتفاء بحذف حرف العلة للجازم، وخفِّفَ كسرة الهاء بعضهم، وأشبعها بعض آخر، وهذا عند القراءة، أما عند الوقف فقد أجمع القراء على تسكين الهاء.
التفسير
51 -
تحكى هذه الآية الكريمة حال المؤمنين الصادقين إِذا دعوا إلى التحاكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر حكاية حال المنافقين، ليتبين الفرق بين الخبيث والطيب.
ومعنى الآية: ما كان قول المؤمنين الصادقين إِذا دعاهم أحد إلى شرع الله ورسوله ليحكم به الرسول بينهم - ما كان قولهم حينئذ - إِلا أن يقولوا لداعيهم: سمعنا قولك، وأطعنا أَمرك بالنزول على حكم الله ورسوله، وأولئك المؤمنون الصادقون هم الفائزون برضوان الله وجزيل ثوابه، دون من عداهم من المنافقين الذين يتحاكمون إِلى غيره؛ فرارا من عدل الله ورسوله.
قال قتادة - تعليقًا على هذه الآية -: ذُكِرَ لنا أن عبادة بن الصامت - وكان عَقبِيًّا (1)، بَدرِيًّا (2)، أَحد نقباء الأنصار - أنه لما حضره الموت قال لابن أَخيه جنادة بن أبي أمية: ألا أنبئك بماذا عليك وماذا لك؟ قال: بلى، قال: فإن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومَنْشطِك ومَكْرَهِك (3)، وأَثرَة عليك (4) ، وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وأَلا تنازع الأمر أهله، إِلا أَن يأمروك بمعصية الله بَوَاحًا (5)، فما أمرت به من شيءٍ يخالف كتاب الله فاتبع كتاب الله.
وقال قتادة أيضًا، وذكر لنا أَن أَبا الدرداء قال: لا إسلام إِلا بطاعة الله، ولا خير إلا في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله، وللخليفة وللمؤمنين عامة.
(1) أي: كان ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة بمنى، وقد شهد العقبتين - الأولى والثانية -.
(2)
أي: كان من المقاتلين في غزوة بدر.
(3)
المنشط: ما تنشط إليه نفسك وتشرئب لعمله، والمكره: ضده.
(4)
الأثرة: حبك الشيء لنفسك، والإيثار: ضده، والمراد من السمع والطاعة في الأثرة عليه ألا يمانع في فضيل غيره عليه.
(5)
ظاهرا مكشوفا.
وقال أيضًا: وذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: عروة الإسلام شهادة أن لا إله إِلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والطاعة لمن ولاه الله أَمر المسلمين. رواه ابن أبي حاتم، انظر ابن كثير.
52 -
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} :
هذه الآية مستأنفة لتقرير ما قبلها من حسن حال المؤمنين، وترغيب سواهم في أن يكونوا منهم.
والمعنى، ومن يطع الله فيما فرضه على عباده، ويطع رسوله فيما بينه من الفرائض والسنن، ويخشى الله على ما مضى من ذنوبه، ويتقه فيما يستقبل من عمره، فأولئك هم الفائزون بالنعيم المقيم في جنة الرحمن الرحيم، دون عن عداهم من المنافقين والكافرين.
المفردات:
{جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} : أَي طاقة أيمانهم (1)، والمراد: أنهم بلغوا أقصى المراتب في الإقسام بالله، و (جَهْدَ) مصدر في موضع الحال بتأْويله بجاهدين {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} أَي: طاعتكم طاعة معروفة باللسان، فلا تقسموا، فالجملة علة للنهى عن القسم الكاذب
(1) وفي إضافة الجهد للإيمان مجاز بالاستعارة، لأن الجهد الحالف، وليس اليمين.
{فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} : أَي ما على الرسول سوى تبليغ ما حمله الله من الرسالة وقد فعل.
{وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} : من الطاعة القلبية والظاهرية.
التفسير
53 -
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ. . .} الآية.
بَيَّن الله في الآيات السابقة أَن المنافقين {يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} عن قبول التحاكم إِلى الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفهم بقوله: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} إِلى آخر ما جاء فيهم من ذم أحوالهم، وجاءت هذه الآية لتبين أنهم لما علموا بنزول هذه الآيات فيهم جاءوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبرئوا أنفسهم من النفاق والكذب في أَيمانهم ويعلنوا طاعتهم، وأقسموا على أنه صلى الله عليه وسلم لو أمرهم أَن يخرجوا من أموالهم وديارهم لفعلوا. (1)
والمعنى: وأقسم المنافقون مبالغين في إِقسامهم جهد طاقتهم، ليبرئوا أنفسهم من النفاق وعدم الطاعة والانقياد لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، قائلين: والله لئن أمرتنا يا رسول الله بالخروج من ديارنا وأموالنا لنفذنا أمرك، وخرجنا منها طاعة لأمرك، فرد الله عليهم قائلا لرسوله:
{قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أَي: قل لهم أيها الرسول: لا تقسموا على طاعة الله ورسوله، فطاعتكم طاعة معروفة للناس، فهي طاعة باللسان، وليست نابعة من قلوبكم ، أن الله خبير بما يصدر عنكم من أعمال النفاق الضارة بالإسلام وبالمسلمين، فمجازيكم عليها أشد الجزاء.
54 -
قل لهم أيها الرسول: أطيعوا الله ورسوله مخلصين غير منافقين ، فإن تتولوا وتعرضوا عما كلفتم به من الطاعة فما على الرسول سوى تبليغ الرسالة التي حمله الله تعالى أمر تبليغها،
(1) وفسر بعضهم الخروج في الآية بالخروج الجهاد، ولكنه غير مناسب لسياق الآيات قبلها.
وما عليكم إلا الطاعة الخالصة من النفاق، فهي التكليف الذي حملكم الله إياه لتنفذوه، وختم الله الآية بنصيحتهم بقوله:
{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} : أي وإن تطيعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يأْمركم به وينهاكم عنه ويحكم به تهتدوا إلى الحق وإِلى صراط مستقيم، وليس على الرسول إِلا تبليغ أمته تبليغا مبينًا للحق والباطل وقد فعل، وليس عليه أن يقهركم على الطاعة، فهي مسئولة منكم وتكليف واجب عليكم.
المفردات:
{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} : ليجعلنهم خلفاءَ متصرفين في الأرض.
{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} : أَي وليجعلنه مكينا ثابتًا.
{وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} : ومآلهم ومسكنهم جهنم.
التفسير
55 -
قال أبو العالية في سبب نزول هذه الآية الكريمة: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين (1) بعد ما أوحى الله إِليه خائفًا هو وأَصحابه يدعون إلى الله سرًّا وجهرا، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح، فقال رجل: يا رسول الله أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تلبثون إلا يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتَبِيًا ليس عليه حديدة" ونزلت الآية، وأَظهر الله نبيه على جزيرة العرب فوضعوا السلاح وأمنُوا. اهـ
وقال الضحاك ما خلاصته: أَن هذه الآية تتضمن صحة خلافة أَبي بكر وعمر وعثمان وعلي فهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقد استخلفهم الله على الأرض التي وَلَاّهم الله عليها، وإلى هذا الرأى ذهب ابن العربي، وحكى في أحكامه أن علماء المالكية يرون أن هذه الآية دليل على صحة خلافتهم، فهم الذين استخلفهم الله ورضى أَمانتهم، ولم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا، فاستقر الأَمر لهم، وقاموا بسياسة المسلمين، وذبُّوا عن حوزة الدين فنفذ الوعد فيهم.
وحكى القشيرى هذا القول عن ابن عباس، واحتجوا بما رواه سَفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(1) التقييد بعشر سنين راجع إلى مدة إيذائهم للنبي وأصحابه بعد الجهر بالدعوة، أما مدة الدعوة إلى الإسلام بمكة فقد كانت ثلاث عشرة سنة، وكانت الدعوة في السنوات الثلاث الأولى في الخفاء، فلما جهر بها النبي صلى الله عليه وسلم وعاب آلهتهم التي عبدها آباؤهم، أخذتهم حمية الجاهلية، فآذوه وأصحابه عشر سنين تباعا، وحملوهم على الهجرة.
"الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا".
وقالت طائفة من العلماء: هذا وعد لجميع المسلمين بأن تكون الأرض كلها تحت لواءِ الإسلام، وهم مستخلفون عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إِن الله زَوَى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها" من حديث رواه الإمام أحمد بسنده عن شداد بن أَوس.
واختار ابن عطية هذا القول، وقال: الصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور، واستخلافهم هو أن يملكهم البلاد ويجعلهم أهلها كالذى جرى في الشام والعراق وخراسان والمغرب (1).
ونحن نقول: سواءٌ أَكان المراد من الآية الخلفاء الأربعة، أَو جماعة الأمة الإسلامية فقد حقق الله وعده هذا وذاك ، وقد ارتفع لواءُ الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها، ولا توجد اليوم أمة في الأرض إلا والإسلام إما غالب فيها، أوْ له كيان بين أرجائها، أَو مكان ممتاز بين أَديانها، بفضل سلامة مبادئه، ووضوح آياته، وجهاد قادته وثقافة دعاته. وما زلنا ننتظر المزيد من فضل الله رب العالمين.
وكما حقق الله بذلك وعده، حقق به وعد رسوله صلى الله عليه وسلم إذ قال:"والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه". أَخرجه الأمام مسلم في صحيحه، وكلاهما من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم لأنه إِخبار عما سيكون فكان، مع أَنه فوق مستوى الظنون، ودون تحقيقه ما هو إلا المستحيل أَقرب، ولكن الله على كل شيءٍ قدير.
وقد وعدهم الله أَن يستخلفهم {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} :
والمراد من الذين قبلهم: بنو إسرئيل، فقد استخلفهم على أرض الجبارين في بلاد الشام، وهي الأرض المقدسة التي دعاهم موسى عليه السلام إلى دخولها بقوله لهم:
(1) ارجع إلى القرطبي.
{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (1) فأجابوه بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} .
ولما نصحهم بعض المخلصين منهم بالهجوم عليهم متوكلين على الله فإِنهم سيغلبونهم {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (2) فشكاهم إِلى الله تعالى فحرمها عليهم {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} (3).
ولما فَنىَ هذا الجيل الفاسد، وانتهت عقوبة الحرمان، فتحها بذرياتهم نبي الله يوشعُ عليه السلام فهذه هي الأَرض التي استخلفهم الله عليها بعد أَن ظلوا عبيدا للمصريين بعد يوسف عليه السلام حتى أنقذهم الله تعالى من العبودية على يد موسى وهرون عليهما السلام.
وقد أَشار الله تعالى إِلى ماضيهم المستضعف وإلى الأَرض التي استخلفوا عليها بقوله: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} (4).
فالأَرض التي أُورثوا مشارقها ومغاربها، هي الأَرض المباركة وهي أرض فلسطين لقوله تعالى:{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (5).
ولما أَفسد بنو إِسرائيل فيها عدة مرات أخرجوا منها، وحرموا ميراثها، ثم اغتصبوها عدوانًا من المسلمين الذين خلصوا أَهلها من ظلمهم، وكانوا أحق بها منهم، والعاقبة للمؤمنين الصابرين.
(1) سورة المائدة، الآية: 21
(2)
سورة المائدة، الآية: 24
(3)
سورة المائدة، من الآية: 26
(4)
سورة الأعراف، من الآية: 137
(5)
سورة الأنبياء، الآية: 71
(6)
أول سورة الإسراء.
{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} أي: أَنه تعالى كما وعد المؤمنين الصالحين باستخلافهم في الأرض وعدهم أَيضًا بأن يمكن ويثبت لهم دينهم الإسلام الذي ارتضاه لهم، وأَن يمنحهم الأمن والطمأْنينة، بدلا من الخوف الذي كان يقض مضاجعهم من أَعدائهم (1).
وعقب الله هذا الوعد ببيان مقتضيه فقال: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} : أَي أَنه تعالى إِنما يستخلفهم ويمكن لهم دينهم، لأنهم يعبدونه وحده لا يشركون به في العبادة سواه، وأتبع هذا بتحذيرهم من الكفر فقال سبحانه:
{وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} :
والمراد من الكفر هنا إما الردة، وإما كفران نعمة الاستخلاف والتمكين، فإن أريد منه الردة فالمراد بالفسق بلوغ الغاية فيه، حيث ارتدوا بعد إِيمان، وإن أُريد منه كفران النعمة، فالمراد منه مطلق الخروج عن الطاعه مع بقاء الإيمان.
والمعنى الإِجمالي للآية: وعد الله الذين آمنوا بالله ورسوله، وآزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه - مع قلتهم وكثرة أعدائهم - وعدهم -، أن يجعلهم خلفاءَ على أرضه في مشارقها ومغاربها، يَلُون أمرها وتدين لطاعتهم، وينشرون في أَرجائها دينه، ويبينون للناس آياته وبراهينه.
وهذا الاستخلاف لهم قد سبقه مثله لبنى إسرائيل قبلهم في أرض فلسطين، بعد أن استقامت أمورهم، وعادوا إلى ربهم، وقبل أَن يفسدوا في الأرض.
كما وعدهم أَن يثبت لهم دينهم الإسلام بين سائر الملل والنحل فيحميه من أَهلها، وأَن يعوضهم بدلا بن الخوف الذي يعيشون فيه أَمنًا من الأعداء، بما يمنحهم من القوة
(1) وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه: "أتعرف الحيرة"؟ قال: لم أعرفها ولكن قد سمعت بها، قال:"فوالذى نفسى بيدى ليثبتن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز" قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: "نعم كسرى بن هرمز .. " من حديث أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام.
والكثرة والفتوحات، لأنهم يعبدونه تعالى لا يشركون به سواه، ومن ارتد بعد هذا الوعد أو تحقيقه أو كفر بنعمته التي أنعم بها عليه فأولئك هم الخارجون عن الإيمان، أو عن فضيلة الشكران (1).
56 -
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} : وأدوا الصلاة بأركانها وشروطها في مواقيتها، وأعطوا زكاة أموالكم وأبدانكم إلى من يستحقها، وأطيعوا الرسول في كل ما أمركم به أوْ نهاكم عنه، لعلكم ترحمون في الدنيا بتحقيق مواعيد الله لكم، وتحقيق آمالكم، وفي الآخرة بالنجاة من النار، والثواب الجزيل في جنات النعيم.
57 -
في هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعد له بالنصر، أي: لا تظن يا محمد أن هؤلاء الذين كذبوك وكفروا بما جئتهم به من الله - لا تظنهم - معجزين الله في الأرض عن الانتقام منهم ونصرك عليهم، فإن الله قادر على ذلك، وسوف يعذبهم على كفرهم، ومآلهم النار يأوون إليها خالدين ولبئس مصير الظالمين.
(1) أطال ابن كثير في التعليق على هذه الآية الكريمة، فارجع إلى ما كتبه فيها إن شئت، فإنه كلام نفيس، تناول فيه التطورات التي مرت بالدولة الإسلامية نحو خلافتها في الأرض تحقيقا لوعد الله الكريم، وحسب القارىء ما كتبناه، ففيه الكفاية والله تعالى هو الموفق.
المفردات:
{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} : ليطلب الإذن منكم. {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} : عبيدُكم وإماؤُكم، والتعبير عنهم بما ملكت الأيمان لأنهم يؤسرون في الحرب بالأيمان لا بالشمائل غالبًا فنسب الملك إليها لذلك.
{الْحُلُمَ} بضم اللام: أَوان البلوغ. {تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ} : تخلعونها.
{ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} : العورة؛ الخلل، يقال: أَعورُ المكان، أَي: مخْتلُّه (1)، ورجل أَعور أي: مختل العين، أي: هي ثلاث أوقات يختل فيها تستركم. {جُنَاحٌ} أَي: حرج.
{طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} : أي؛ هم يطوفون عليكم في غير هذه الأوقات لقضاء مصالحكم، فَلا داعى لاستئذانهم منكم.
{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} : العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل أَو عن التصرف لكبر السن، ومفرده: قاعد، بدون هاءٍ، ليدل حذفها على أَنه قعود الكبر وهو من الصفات الخاصة بالنساء كالطالق والحائض. {أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ}: أي؛ يتخلين عن الثياب الظاهرة.
{غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} : أي؛ غير مظهرات زينتهن {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ} : يطلبن العفة بالستر {خَيْرٌ لَهُنَّ} : من التجرد من الثياب الخارجية الظاهرة لأنه أبعد عن التهمة.
التفسير
58 -
هذه الآية وما بعدها اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض، وما تقدم في أَول السورة كان بيانًا لاستئذان الأجانب بعضهم على بعض، وقد أَمر الله المؤمنين والمؤمنات (2) في هذه الآية، أَن يستأْذنهم خدمهم مِما ملكت أَيمانهُم من العبيد والإماءِ وأَطفالُهم الذين لم يبلغوا الحلم. وكانوا مميزين في ثلاثة أحوال:
الأولى: من قبل صلاة الصبح، لأن الناس حينئذِ إِما نيام في فرشهم، وإِما قيام من مضاجعهم ليطرحوا ثياب النوم ويلبسوا ثياب اليقظة.
والحالة الثانية: حين يخلعون ثيابهم وقت الظهيرة للنوم.
والحالة الثالثة: بعد صلاة العشاء إلى الفجر، لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة ولبس ثياب النوم، والتساهل في كشف بعض أَجزاءِ الجسد، وقد يكون الرجل مع أَهله
(1) انظر البيضاوى.
(2)
فالخطاب في الآية وإن كان للرجال، إلا أن الحكم فيها عام لهم وللنساء ، لأنهن شقائق الرجال في الأحكام إلا ما علم خصوصه بأحدهما.
في أية حالة من هذه الحالات، فيؤمر الخدم والأطفال أَلا يهجموا على أهل البيت فيها، بل يستأْذنوا تأدبًا وتصونًا، وحفاظًا على عورات الناس أَن تكشف، ولقد أَطلق الله على هذه الأوقات عورات لذلك روى ابن أَبي حاتم بسنده (عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أَمر الله بها في القرآن، فقال ابن عباس:
إن الله ستِّير يحب الستر، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حِجَالٌ (1) في بيوتهم، فربما فاجأ الرجلَ خادمه أَو ولده أو يتيمه في حجره أَي في كفالته وهو على أهله، فأمرهم أَن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله ثم جاء الله بعد بالستور، فبسط عليهم الرزق، فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال. فرأى الناس أَن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أُمروا به) قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إِلى ابن عباس.
وحكى المهدوى عن ابن عباس أن الاستئذان كان واجبًا إِذ كانوا لا غَلَق لهم ولا أبواب. ولو عاد الحال لعاد الوجوب - ذكره القرطبى في المسألة الثانية وعقبه برأى آخر يفيد أن الآية محكمة واجبة ثابتة على الرجال والنساءِ، وذكر أنه قول أَكثر أَهل العلم. اهـ
وبه نقول، فإن الآية الكريمة أَطلقت الأمر بالاستئذان، سواءٌ وجدت الأَبواب والستور أو لم توجد، فلا يحل اقتحام الأَبواب والستور دون استئذان في تلك الأَوقات، لوجود مقتضى المنع وهو احتمال انكشاف العورات فيها، روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له مُدْلِج إِلى عمر بن الخطاب ظهيرةً ليدعوه، فوجده نائمًا قد أغلق عليه الباب، فدق عليه الغلام الباب فناداه ودخل، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شىءٌ، فقال عمر: وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءَنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإِذن، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الآية قد أنزلت، فخر ساجدًا شكرًا لله.
فأَنت ترى أَن الغلام دق الباب ونادى عمر ودخل قبل أَن يستيقظ عمر ويأْذن له، فانكشف منه للغلام ما لا يحب أَن ينكشف لأَحد، فلهذا نرى أَن الحكم ثابت مع وجود
(1) الحجال: جمع حجلة، وهي بيت كالقبة يستر بالثياب وله أزرار كبار.
الأبواب والستور، كما أطلقتة الآية الكريمة، ويشير إلى ذلك ختم الآية بقوله سبحانه:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
وقال السدى في سبب نزول الآية: كان أناس من الصحابة - رضى الله عنهم - يحبون أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أَلا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن.
وقال مقاتل بن حيان: بلغنا - والله أَعلم - أَن رجلا من الانصار وامرأَته أسماء بنت مَرْثَد، صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعامًا، فجعل الناس يدخلون بغير إذن، فقالت أسماءُ: يا رسول الله، ما أَقبح هذا، إنه ليَدْخُل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد غلامهما بغير إذن، فأُنْزِل في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ
…
} الآية.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} : أَي ليس عليكم أَيها المؤمنون والمؤمنات حرج في أن يدخل عليكم عبيدكم وإماؤُكم وأَطفالكم الذين لم يبلغوا الحلم في غير هذه الأوقات؛ لأنكم تكونون حينئذ متسترين محتاطِين، مستعدين لدخولهم عليكم، لكي يقضوا حاجاتكم، ولذا علل نفى الجناح بقوله:
{طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} : أَي: هم طوافون عليكم بحوائج البيت، بعضكم طائف على بعض.
ولا يخفى ما في هذا التعبير القرآنى الجليل من جبر خواطر المماليك، بجعلهم بعضًا من سادتهم المخاطبين، وبذلك يقوى أمر العِلِّية، ثم ختم الله الآية بقوله:
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} : أي مثل ذلك البيان الواضح يبين الله لكم سائر آيات الأحكام، والله عليم بمصالح عباده، حكيم في تشريعه.
المعنى الإجمالي للآية: يا أيها المؤمنون والمؤمنات يجب عليكم أن تأمروا عبيدكم وإماءكم وأولادكم المميزين الذين لم يصلوا إلى سِنِّ البلوغ بالاحتلام، أن يستأذنوا في الدخول
ثلاث مرات (1): (إحداها) من قبل صلاة الفجر، لأنه وقت القيام من النوم، والاستعداد للصلاة بالطهر من الجنابة، أَو خلع ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة.
(وثانيها) حين تخلعون ثيابكم وقت الظهيرة، وتلبسون ثياب نومكم للقيلولة.
(وثالثها) من بعد صلاة العشاء، لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة، ولبس ثياب النوم، فهذه ثلاثة أَوقات يختلُّ فيها تستركم، وتبدو بعض عوراتكم، وقد يكون فيها الرجلَ مع أَهله، فعلِّموا عبيدكم وإماءكم ومن لم يبلغ الحلم من أَطفالكم أدب الاستئذان فيها صيانة لعوراتكم، وتأْديبًا لأتباعكم وأَطفالكم، ليس عليكم ولا عليهم حرج بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان، فهم طوافون عليكم لقضاء مصالحكم، وهم بعض منكم طائف على بعض، فكُلْفَةُ استئذانهم عليكم مرفوعة حينئذ، لأنكم في غير خلوة، ومحتاطون بالتستر في غير هذه الأوقات، ومستعدون للقائهم لقضاء حاجاتكم، مثل ذلك البيان الواضح يبين الله لكم سائر آياته التشريعية، والله عليم بمصالحكم، حكيم فيما يشرعه لكم.
59 -
لما بَين الله في الآية السابقة حكم الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم: وهو أنهم لا يُلزَمون بالاستئذان إِلا في الأوقات الثلاثة المبينة فيها، عقبها الله هذه الآية لبيان حكم الأطفال الذين بلغوا، سواءٌ أكانوا أَقارب أَم أجانب - كما قاله أبو حيان في البحر (2) وقد بين الله - تعالى - في الآية أَنهم يستأذنون كما استأذن الذين من قبلهم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا
…
} الآية، وذلك بأن يستأْذنوا في جميع الأوقات قبل الدخول، ويرجعوا إن قيل لهم: ارجعوا.
(1) يرى الجمهور أن قوله تعالى: "ثلاث مرات" بمعنى ثلاثة أوقات، وإطلاق اسم المرات على تلك الأوقات لمرور المستأذنين فيها، وعلى هذا يكون لفظ:(ثلاث) منصوبا علي الظرفية مجازا، واختار أبو حيان في (البحر) أن المعنى: ثلاث استئذانات، كما هو الظاهر، فإنك إذا قلت: ضربت ثلاث مرات، لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:"الاستئذان ثلاث" وعليه يكون لفظ (ثلاث) مفعولا مطلقا للاستئذان مبينا لعدده. انتهى بتصرف يسير نقلا من الآلوسى.
(2)
وأخرج ابن أبي حاتم نحو هذا التفسير عن سعيد بن جبير.
وأخرج ابن أَبي حاتم عن سعيد بن المسيب أنه قال: يستأذن الرجل على أمه، وأخرج البخاري في الأدب، وابن أَبي حاتم وغيرهما عن عطاء أَنه سأل ابن عباس - رضى الله عنهما - أأَستأذن على أختي؟ قال: نعم، قلت: إنها في حجرى - أي: في كفالتى - وأَنا أنفق عليها، وإِنها معى في البيت، أَأَستاذن عليها؟ قال: نعم - ثم قال: فالإذن واجب على خلق الله أجمعين (1).
وروى عنه أَنه قال: إِنى لآمر جارتي - يعنى زوجته - أن تستأذن عليّ، وحمل بعضهم الآية على أَطفال المؤمنين الأجانب إِذا بلغوا، وقال بعض الأجلَّة: المراد بهم: ما يعم البالغين من الأحرار والمماليك، فهؤلاء وأولئك هم الذين يستأذنون في جميع الأحوال (2).
والمعنى الإجمالي للآية: وإِذا بلغ الأطفال الحلُم منكم أَيها المؤمنون فليستأذنوا في جميع الأحوال كما استأذن الذين ذكروا من قبلهم في قوله - تعالى -: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} وعليكم أَن ترجعوا إذا قيل لكم: ارجعوا، مثل ذلك البيان الواضح يبين الله لكم آيات أحكامه، والله عليم بمصالحكم، حكيم فيما يشرعه لكم.
60 -
أَي: والنساءُ العجائز اللاتى قعدن عن الحيض والحمل، ولا يطمعن في الزواج لكبرهن فليس عليهن حرج في أَن يخلعن ثيابهن الظاهرة التي لا يفضى خَلْعها إلى كشف العورة، كالرداء والقناع الذي يكون فوق الخمار (3)، وعليهن ألا يظهرن زينة أمر الله بإخفائها في قوله - تعالى -:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} وأَن يستعففن بالستر أَفضل لهن؛ لأنه أَبعد عن التهمة، وأدعى إِلى الخير، والله سميع لمقالتهن للرجال، عليم بمقاصدهن فيحاسبهن عليها.
(1) ولعل استئذان المحارم البالغين إنما يطلب في غير الأوقات، التي وردت في الآية التي قبلها إذا كان الباب مغلقا، فإن كان مفتوحا فإنه لا حاجة لاستئذانهم علي محارمهم، لأن فتح الباب فيه إذن ضمني.
(2)
انظر الألوسى.
(3)
الخمار - بكسر الحاء -: غطاء الرأس، ويقال له: النصيف.
المفردات:
{حَرَجٌ} : ضيق ومؤاخذة. {إِخْوَانِكُمْ} : أَي إخوتكم الذكور.
{مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} : أي المكان الذي بأيديكم مفاتحه أمانة لإخوانكم، والمفاتح: جمع مِفتح، وهو المفتاح. {أَشْتَاتًا}: متفرقين، جمع شَتٍّ، أَي متفرق.
{مُبَارَكَةً} : مرجوة الخير والثواب. {طَيِّبَةً} : تطيب بها نفس من يستمع إليها.
التفسير
61 -
تحدثت الآيات الثلاث السابقة عن أدب الاستئذان من المماليك وصغار الأطفال والبالغين على ذويهم، وجواز ترك العجائز لبس الثياب الخارجية كالأردية، مع ستر
ما يجب ستره من المرأة وعدم التزين، وأن لبس الثياب الخارجية خير لهن وأبعد عن التهمة من خَلْعِها.
وجاءت هذه الآية الكريمة لتحدثنا عن أنواع أخرى من الآداب الإسلامية الرفيعة، فقد اشتملت على ثلاثة منها (أولها) يرتبط بأصحاب العاهات (وثانيها) يرتبط بالأصحاء (وثالثها) تحية الإسلام عند الدخول، فأما ما يرتبط بأصحاب العاهات ففي قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} .
وفي هذا الجزء من الآية نقل الآلوسى من كتاب (الزهراوين) عن ابن عباس أن هؤلاء الطوائف كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء، حذرا من استقذارهم إياهم وخوفًا من تأذيهم بأفعالهم، فنزلت.
ونقل القرطبى عن ابن العربى أنه قال: المختار أن يقال: إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به المشى، وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه، كالصوم وشروط الصلاة وأركانها، والجهاد ونحو ذلك، ثم قال بعد ذلك مبينًا: وليس عليكم حرج في أن تأكلوا من بيوتكم، فهذا معنى صحيح، وتفسير بيِّنٌ مفيد يعضده الضرع والعقل، ولا يحتاج في تفسير الآية إلى نقل. اهـ.
قال القرطبى - تعقيبًا على كلام ابن العربى -: وإلى هذا أشار ابن عطية فقال: فظاهر الآية وأمْرُ الشريعة يدل على أن الحرج مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضى نيتُهم فيه الإتيان بالأكمل، ويقتضى العذر أَن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا. اهـ.
ونرى أن كلام ابن عطية شامل لما قاله ابن العربى، ولما روى عن ابن عباس، وهو خير ما يقال في تفسير هذا الجزء من الآية، وبه نقول.
(والنوع الثاني من الأدب) يشتمل عليه قوله - سبحانه -:
{لَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}:
وقد بَيَّن الله - سبحانه - في هذا الجزء من الآية أنه لا حرج على المؤمنين جميعًا، ومنهم أصحاب العاهات المذكورة، أن يأكلوا من بيوتهم، والمقصود منها: البيوت التي فيها أولادهم وزوجاتهم فهي كبيوتهم، فلا حرج عليهم في أن يأكلوا من طعام مملوك لهم؛ لأن ولد الرجل بعضه، وحكمه حكم نفسه، ولذا لم يذكر الله تعالى الأولاد في الآية، قال صلى الله عليه وسلم:"أنت ومالك لأبيك" ولأن الزوجين صارا كنفس واحدة، فصار بيت المرأة كبيت الزوج، فكأنه تعالى يقول: ولا على أنفسكم حرج في أن تأكلوا من مساكنكم التي فيها أهلوكم وأولادكم.
كما بَيَّن - سبحانه - أنه لا حرج على المؤمنين في أن يأكلوا من بيوت آبائهم أو بيوت أمهاتم، أو بيوت إخوتهم الذكور، أو بيوت أخواتهم الإناث، أو أعمامهم أو عماتهم أو أخوالهم أو خالاتهم، سواءٌ أذنوا لهم في الأكل أو لم يأذنوا؛ لأن في القرابة التي بينهم إذنا عرفيا لهم بالأكل، ويقول ابن العربى: أباح الله الأكل من جهة النسب من غير استئذان، إِذا كان الطعام مبذولا، فإذا كان الطعام مُحْرزًا لم يكن لهم أخذه، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن كان غير محرز إلا بإذن.
وقال بعض العلماء: لا يباح الأكل من بيوت هؤلاء الأقارب إِلا بإذن منهم؛ لأنه لا يعلم رضاهم إلا به، أما القرابة فليست من أَسباب الرضا دائِما، فمن الأقارب من لديه سماحة، ومنهم أشحة، ولا يعلم ما في القلوب إلا الله، فلا يحل الأكل من بيوتهم بغير إذنهم ومعرفة رضاهم، وهذا الكلام قريب مما قاله ابن العربى، فإن الطعام إذا كان مبذولا لآكليه، فتلك أَمارة على رضا أَصحابه.
والمقصود الأول من الآية: هو غرس غريزة الكرم والبر بالأقارب في نفوس المؤمنين ، ما داموا قادرين على ذلك، وإعداد النفوس المسلمة إلى هذا اللون من التعاون والتقارب والأخوة في الإسلام، عملا بقوله - تعالي -:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ، وبقوله
- صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، فإِن شحت نفوسهم عن الخير مع قدرتهم عليه، فهذا مخالف للخلق الذي اختاره الله لعباده المؤمنين.
ولقد تأَدب المؤمنون بهذا الأَدب العالى في عهده صلى الله عليه وسلم ولم يقصروه على الأَقارب، فقد كانوا يؤثرون إِخوانهم على أَنفسهم ولو كان بهم خصاصة واحتياج.
ثم قال الله - سبحانه -: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} يعنى أَنه يباح لمن كانت لديه مفاتيح فكان مستأْمن عليه أَن يأْكل منه، والمقصود من ملكه لمفاتيحه أَن يَكون أَمانة تحت يده، قال ابن عباس رضي الله عنه: هو وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته.
وروى عن عكرمة أَنه قال: إِذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأْس أَن يَطْعَمَ الشيء اليسير (1).
وروى عن ابن عباس أَنه قال: نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيًا، وخلف مالك بن زيد على أَهله (2)، فلما رجع وجده مجهودا، فسأَله عن حاله، فقال: تَحرجْت أن آكل من طعامك بغير إِذنك، فأَنزل الله - تعالى - هذه الآية، وقد أَباح الله للصديق أَن يأْكل من صديقه بقوله:{أَوْ صَدِيقِكُمْ} (3) والصديق: من يصدق في مودتك، وتصدق في مودته.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل بستان أَبي طلحة المسمى (بَيْرَحَاء) ويشرب من ماءٍ فيها طيب بغير إِذنه، والماءُ مُتَمَلَّك لأَهله.
وإذا جاز الشرب من ماءِ الصديق بغير إِذنه جاز الأَكل من ثماره وطعامه، إِذا علم أَن نفس صاحبه تطيب به لتفاهته ويسير مؤنته، أَو لما بينهما من المودة، مادام محافظا على المحارم، أَما الآن فقد غلب الشح على الناس فلا يؤكل إلا بإذن.
ويقول الله - تعالى -: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} : وهذه الجملة مستأْنفة لبيان حكم جديد: هو إِباحة الاجتماع على الطعام المشترك، وأن يتفرقوا إن لم
(1) أي: يأكل الشيء القليل.
(2)
أي: وكيلا له في قضاء مصالح أهله.
(3)
لفظ الصديق والعدو يطلق على الواحد والجمع.
يرغبوا في الاجتماع عليه، واختلف فيمن نزلت، فقيل: نزلت في بنى ليث بن عمرو، وكانوا يتحرجون أَن يأْكل الرجل وحده، فربما قعد منتظرا نهاره إلى الليل، فإِن لم يجد من يؤاكله أَكل - ضرورة - وحده، ونَفْيُ الجناح عن أَكلهم دون ضيف لبيان أَن لا إِثم فيه، ولا يُذَمُّ صاحبه شرعا، كما ذمَّت به الجاهلية، فإنهم غير مقصرين إِذا لم يحضر الضيف.
وقيل: نزلت في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام، لاختلاف في الأَكل، وزيادة بعضهم على بعض، فأُذن لهم فيما تحرجوا منه.
(والأدب الثالث في الآية) تضمنه قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} أي: فإذا دخلتم بيوتًا من هذه البيوت التي أُذن لكم في الأكل منها، فابدأوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم قرابة ودينا، تحية من عند الله تعالى، ثابتة بأمره، مشروعة من عنده، مباركة طيبة؛ لأن السلام دعوة مؤمن لمؤمن، يرجى بها من الله السلامة وزيادة الخير وطيب الرزق، ثم ختم الله الآية بقوله:
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} : أي مثل ذلك البيان الواضح يبين الله لكم سائر آياته لكي تتعقلوها وتفهموها، وتحرصوا على العمل بها.
المعنى الإجمالي للآية: ليس على الأعمى إثم ولا ضيق بتركه ما يقدر عليه البصير، ولا على الأعرج إثم ولا ضيق بتركه ما يقدر عليه الماشى، ولا على المريض إثم ولا ضيق بتركه ما يقدر عليه الصحيح، فلا يكلف أصحاب هذه الأعذار بما يكلف به سواهم ممن لا عذر لهم، فهؤلاء جميعًا لا يكلفون بالجهاد بالسيف ونحوه، والمرضى منهم لا يكلفون بالصيام ونحوه مما ليس في وسعهم، حتى يزول عذرهم، قال - تعالى -:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) كما أَنه ليس على هؤلاء ضيق في أن يأكلوا مع الأصحاء، وأن يأْكل الأصحاءُ معهم، حذرا من استقذارهم إياهم، وتأذيهم بوجودهم أو بتصرفهم أثناء تناول
(1) سورة البقرة، من آخر آية فيها.
الطعام بسبب أَعذارهم (1)، ما لم يكن بالمرضى أمراض معدية، فعليهم أن يتركوا مخالطة الأصحاء في الطعام، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يوردَنِّ مُمْرِض على مُصِحٍّ".
وينبغى لمن يؤاكلهم أن ييسر لهم تناول الطعام دون حرج ولا مشقة ولا شح، وينبغى لهم أن يلتزموا الحكمة في تناولهم الطعام مع سواهم.
وليس عليكم - أيها المؤمنون - ضيق ولا إثم في أن تأكلوا من المساكن التي فيها أولادكم وأهلوكم؛ فأولادكم منكم، ونساؤكم سكن لكم، ومودة ورحمة بينكم ، فلا عليكم أن تأكلوا من طعام مملوك لهؤلاء وأولئكم.
وليس عليكم ضيق ولا إِثم في أَن تأْكلوا من بيوت آبائكم، أو بيوت أُمهاتكم، أو بيوت إخوتكم، أو أخواتكم، أو أَعمامكم، أَو عماتكم، أَو أخوالكم، أو خالاتكم - ولو بدون إذن - إن كان الطعام مبذولا، فإن كان داخل حرز، فلا يحل لكم الأكل منه إِلا بإذن منهم، أو قيام أمارة على رضاهم.
وليس عليكم إثم ولا ضيق في أن تأكلوا مما وليتم مفاتحه ورعايته وكنتم وكلاء فيه، كالضياع ومرابض الماشية، فلكم أَن تأكلوا من ثمر الضياع، وتشربوا من لبن الماشية على أَلا تتوسعوا في ذلك، وليس لكم حق الادخار منه.
وليس عليكم إثم ولا ضيق في أن تأكلوا في بيت صديقكم من طعامه المبذول، أو المحرز ولو بغير إذن، إِذا علمتم أن نفسه تطيب به لتفاهته ويسر مؤنته، ما دمتم محافظين على المحارم، والآن وقد غلب الشح على الناس فلا يؤكل من بيوتهم بغير إذن منهم.
وقد أباح الله لكم الاجتماع على الأكل في سفر أو حضر، فليس عليكم إثم في أَن تجتمعوا على طعام اشتركتم في ثمنه، ولكم ألا تشتركوا وتأكلوا أشتاتًا متفرقين.
وإذا دخلتم بيتا من هذه البيوت التي أبيح لكم الأكل منها، فاستأذنوا على من فيها، وسلموا عليهم؛ فهم كأنفسكم لقرابتهم، ولأخوتهم لكم في الدين، وقد شرع الله هذا
(1) روى أن العرب وأهل المدينة كانوا قبل البعث يتجنبون الأكل معهم، لأن الأعمى تجول يده في الصحفة، ولسوء جلسة الأعرج، وعدم خلو المريض من رائحة تؤذى.
السلام تحية من عنده، ثابتة بأمره، مباركة طيبة؛ لأنها دعوة طيبة من المؤمن لأخيه المؤمن، مباركة كثيرة الخير، لما فيها من المودة والألفة وربط القلوب بعضها ببعض.
المفردات:
{عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} : على أمر من شأنه أَن يجتمع له المسلمون، كالإعداد للحرب ونحوه، ووصف الأمر بأنه جامع على سبيل المجاز.
التفسير
62 -
هذه الآية مستأنفة لبيان نوع من أَرقى أنواع الأدب في الإسلام، وهو أَلا ينصرف المؤمن من مجلس الرسول المعقود لأمر جامع، إلا باستئذانه صلى الله عليه وسلم إِذا كانت لديه حاجة ملحة إلى الانصراف من هذا الأمر الجامع.
وقد نزلت الآية في شوال سنة خمس من الهجرة، حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه يحفرون خندقًا حول المدينة لوقايتها من هجوم قريش، وقائدها أبو سفيان
وغطفان، وقائدها عيينة بن حصن، وبنى مرة، وقائدهم الحارث بن عوف المُرِّى، وبنى أَشجع وبنى سليم، وبنى أَسد، وعدد هؤلاء جميعًا عشرة آلاف مقاتل، وكان سلمان الفارسى هو الذي أَشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفره، ولم تكن العرب تعرفه من قبل.
وقد حفر في شمال المدينة؛ لأن هذه الجهة كانت مظنة هجوم الأعدام، أَما باقى الجهات فمشغولة بالبيوت والنخيل فلا يتمكن العدو من الحركة فيها.
وقد قاسى المسلمون صعوبات جسيمة في حفره، لأنهم كانوا في غير سعة من العيش وقد عمل معهم النبي صلى الله عليه وسلم فكان يحمل التراب معهم، وكان المنافقون يتسللون لواذا (1) من العمل، أو يعتذرون بأعذار كاذبة، فنزلت هذه الآية تنعى عليهم تسللهم، وتشير إِلى أَن الإيمان لم يتمكن من قلوبهم، لتسللهم عن الجماعة دون استئذان من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحكم ثابت لحكام المسلمين في الأمور الجماعية الخطيرة، فإذا كان إِمام المسلمين معهم أو مع أَهل شوراه أَو مع غيرهم لأمر يهم المسلمين، فلا يحل لأحد أَن يتسلل من الاجتماع دون إِذن منه.
والمعنى الإجمالي للآية: إِنما المؤمنون الصادقون هم الذين اجتمع فيهم أَمران، أحدهما: أن يؤْمنوا بالله ورسوله، وثانيهما: أَنهم إذا كانوا معه على أَمر يقتضي اجتماعهم: لم يذهبوا من مكان الاجتماع حتى يطلبوا الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بذهابهم، فمن خرج دون إِذن منه، فهو ناقص الإيمان، إن الذين يستأذنونك لبعض شأنهم صادقين، أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله حقًّا، دون المنافقين المتسللين دون استئذان، أَو المستأذنين منهم بعذر كاذب، كقولهم:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} (2) فإذا استأذنك المؤمنون الذين تعلم صدقهم في إِيمانهم - إِذا استأْذنوك - لبعض شأنهم فائذن لمن شئت الإذن له منهم، فإنك أعلم بمن تكون المصلحة في بقائه معك منهم، ومن لا ضرر في التيسير له بالذهاب، واستغفر لهم الله في استئذانهم، فإنه وإن كان لمصلحة، لا يخلو
(1) أي: يلوذ بعضهم ببعض ويلجأ إليه في التسلل.
(2)
سورة الأحزاب، من الآية:13.
عن شائبة تقديم أَمر الدنيا على الآخرة، إِن الله عظيم الغفران لفرطات عباده، واسع الرحمة في قبول أَعذارهم.
المفردات:
{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ} : أَي لا تجعلوا نداءه. {يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} التسلل: الخروج على سبيل التدرج والاستخفاء، واللواذ: التبعية واللجوءُ، وقد يطلق على الفرار، ومنه قول حسان بن ثابت:
وقريش تجول منا لواذا
…
لم تحافظ وخفَّ منها الحلوم
{يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} : أَي يعرضون عن أمره. {فِتْنَةٌ} : محنة في الدنيا.
التفسير
63 -
{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا
…
} الآية.
هذه الآية الكريمة مستأْنفة لبيان عظيم شأنه صلى الله عليه وسلم وكريم قدره، مقررة لما قبلها من وجوب استئذانه قبل الانصراف من مكان الاجتماع: أَي لا تجعلوا نداءه صلى الله عليه وسلم كنداء بعضكم بعضًا باسمه، ورفع الصوت به، وندائه من
وراء الحجرات، ولكن نادوه بلقبه العظيم، مثل: يا نبى الله، أَو يا رسول الله، مع التوقير والتواضع وخفض الصوت.
أو: لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض، فلا تبالوا بسخطه، فإن دعاءه مستجاب.
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} : لفظ (قد) مع الفعل المضارع يفيد التقليل غالبًا، وقد يفيد التحقيق بمعونة المقام - كما هنا - وهو مع الماضى يفيد التحقيق دائما.
والمعنى: قد يعلم الله بالتحقيق من يخرجون منكم - أَيها المنافقون - من مكان يجتمع فيه رسول الله بالمؤمنين دون استئذان منه صلى الله عليه وسلم يخرجون - متدرجين متلاوذين بأن يستتر بعضكم ببعض حتى يخرج، أو يلوذ بمن يؤذَن له، فينطلق معه كأنه تابعه، أو يهرب في خفية.
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : أي فليحذر الذين يخالفون معرضين عما أمر به الله من الاستئذان من الرسول صلى الله عليه وسلم حين الخروج من مجلسه - فيلحذروا أن تصيبهم محنة في الدنيا، أو يصيبهم عذاب شديد الإيلام في الآخرة.
64 -
أَلَا: أَداة تنبيه إِلى الاهتمام بما يجىءُ بعدها، والمعنى: أَلا إِن لله وحده جميع ما في السموات والأَرض من أَجزائهما وما استقر فيهما، خلقًا وملكا وتدبيرا وعلما، فكيف تخفى عليه أَحوال المنافقين وإِن اجتهدوا في إِخفائها وسترها، إِنه يعلم ما أَنتم عليه - أَيها المكلفون جميعًا - من الأَحوال التي من جملتها الموافقة والمخالفة والإِخلاص والنفاق، ويوم يرجع هؤلاء المنافقون إِليه - سبحانه - للحساب والجزاء في دار الجزءِ، فينبئهم بما عملوه، فيرتب عليه ما يستحقه من الجزاء، والله محيط علمه بكل شيءٍ، فلا تخفى عليه خافية في الأَرض ولا في السماء.