المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الفصل الثاني في صفة عشرته صلى الله عليه وسلم مع نسائه رضي الله تعالى عنهن] - منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول - جـ ٢

[عبد الله عبادى اللحجى]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌[الباب الرّابع في صفة أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وشربه

- ‌[الفصل الأوّل في صفة عيشه صلى الله عليه وسلم وخبزه]

- ‌[الفصل الثّاني في صفة أكله صلى الله عليه وسلم وإدامه]

- ‌[الفصل الثّالث في ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم قبل الطّعام وبعده]

- ‌[الفصل الرّابع في صفة فاكهته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الخامس في صفة شرابه صلى الله عليه وسلم وقدحه]

- ‌[الفصل السّادس في صفة نومه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الباب الخامس في صفة خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه، وعشرته مع نسائه، وأمانته، وصدقه، وحيائه، ومزاحه، وتواضعه، وجلوسه، وكرمه، وشجاعته]

- ‌[الفصل الأوّل في صفة خلقه صلى الله عليه وسلم وحلمه]

- ‌[الفصل الثّاني في صفة عشرته صلى الله عليه وسلم مع نسائه رضي الله تعالى عنهنّ]

- ‌[الفصل الثّالث في صفة أمانته صلى الله عليه وسلم وصدقه]

- ‌[الفصل الرّابع في صفة حيائه صلى الله عليه وسلم ومزاحه]

- ‌[الفصل الخامس في صفة تواضعه صلى الله عليه وسلم وجلوسه واتّكائه]

- ‌[الفصل السّادس في صفة كرمه صلى الله عليه وسلم وشجاعته]

- ‌[فهرسة الجزء الثاني من كتاب منتهى السّول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم]

الفصل: ‌[الفصل الثاني في صفة عشرته صلى الله عليه وسلم مع نسائه رضي الله تعالى عنهن]

[الفصل الثّاني في صفة عشرته صلى الله عليه وسلم مع نسائه رضي الله تعالى عنهنّ]

الفصل الثّاني في صفة عشرته صلى الله عليه وسلم مع نسائه رضي الله تعالى عنهنّ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا بنسائه.. ألين النّاس، وأكرم النّاس، ضحّاكا بسّاما.

وكان صلى الله عليه وسلم من أفكه النّاس.

(الفصل الثّاني)، من الباب الخامس (في) بيان ما ورد في (صفة عشرته صلى الله عليه وسلم مع نسائه) أي: أزواجه (رضي الله تعالى عنهنّ) ، وقد كان حسن العشرة معهنّ.

أخرج ابن سعد في «طبقاته» ، وابن عساكر في «تاريخه» ، وقال العزيزي:

إنه حديث حسن لغيره؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا بنسائه ألين النّاس، وأكرم النّاس) في القول والخلق، (ضحّاكا بسّاما) أي: كثير التبسّم، وهو تفسير لضحّاك، فيستحبّ للزوج فعل ذلك مع زوجته؛ اقتداء به صلى الله عليه وسلم، إذ كان يلاطفهنّ ويتنزل معهنّ، حتّى إنّه سابق عائشة رضي الله تعالى عنها يوما فسبقته؛ كما رواه الترمذي في «العلل» عنها.

قال ابن القيّم: وكان من تلطّفه بهنّ أنّه إذا دخل عليهنّ بالليل سلّم تسليما لا يوقظ النائم، ويسمع اليقظان؛ ذكره مسلم.

(و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ، والحسن بن سفيان في «مسنده» ، والطبرانيّ، والبزّار: كلّهم؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفكه النّاس) زاد الطبراني: مع صبي. وزاد البزّار: مع نسائه.

ص: 508

قال المناويّ: (أي: من أمزحهم إذا خلا بنحو أهله) .

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة نساءه حديثا، فقالت امرأة منهنّ: كأنّ الحديث حديث خرافة.

(قال المناويّ) في «فيض القدير؛ شرح الجامع الصغير» : (أي: من أمزحهم إذا خلا بنحو أهله) . والفكاهة: المزاحة، ورجل فكه؛ ذكره الزمخشري.

وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: إنّي لطّخت وجه سودة بخزيرة.

ولطّخت سودة وجه عائشة؛ فجعل يضحك. رواه الزّبير بن بكّار في «كتاب الفكاهة» ، وأبو يعلى بإسناده. قال الحافظ العراقيّ: جيّد.

(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛

قالت: حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة) أي: في ساعات ذات ليلة، ف «ذات» صفة موصوف محذوف. أو لفظ «ذات» مقحم، فهو مزيد للتأكيد (نساءه) أي:

أزواجه (حديثا) أي: كلاما عجيبا، أو تحديثا غريبا، فالمراد على الأوّل ما يتحدّث به، وعلى الثاني المصدر.

(فقالت امرأة منهنّ؛ كأنّ) - بتشديد النون- هذا (الحديث حديث خرافة!!) - بضمّ الخاء المعجمة وفتح الراء- ولا تدخله «أل» لأنّه معرفة؛ لكونه علما على رجل، نعم إن أريد به الخرافات الموضوعة من حديث الليل عرّف.

ولم ترد المرأة ما يراد من هذا اللفظ؛ وهو الكذب المستملح، لأنها عالمة بأنّه لا يجري على لسانه إلّا الصدق. وإنّما أرادت التشبيه في الاستملاح فقط، لأن حديث خرافة يراد به الموصوف بصفتين: الكذب، والاستملاح. فالتشبيه في إحداهما؛ لا في كلتيهما. انتهى «باجوري» . ولكنّه صلى الله عليه وسلم لمّا علم أنّ كلا منهما موهم؛ وقالت تلك المرأة ما قالت بيّن المراد؛

ص: 509

فقال: «أتدرون ما خرافة؟ إنّ خرافة كان رجلا من عذرة، أسرته الجنّ

(فقال: «أتدرون ما خرافة؟!» ) خاطبهنّ خطاب الذكور تعظيما لشأنهنّ، فكأنّهنّ قلن: لا ندري، فقال:

( «إنّ خرافة كان رجلا من عذرة) - بضمّ العين المهملة وسكون الذال المعجمة-: قبيلة من اليمن (أسرته) أي: اختطفته (الجنّ) .

قال العلّامة الشيخ ابن حجر الهيتمي في «التحفة شرح المنهاج» : الجنّ أجسام هوائيّة؛ أو نارية أي: يغلب عليها ذلك، فهم مركّبون من العناصر الأربعة كالملائكة؛ على قول، وقيل: أرواح مجرّدة. وقيل: نفوس بشريّة مفارقة عن أبدانها، وعلى كلّ فلهم عقول وفهم، ويقدرون على التشكّل بأشكال مختلفة، وعلى الأعمال الشاقّة في أسرع زمن.

وصحّ خبر أنّهم ثلاثة أصناف: ذوو أجنحة يطيرون بها، وحيّات، وآخرون يحلّون ويظعنون.

ونوزع في قدرتهم على التشكل باستلزامه رفع الثّقة بشيء!! فإنّ من رأى؛ ولو ولده؛ يحتمل أنّه جنّيّ تشكّل به.

ويردّ: بأنّ الله تكفّل لهذه الأمّة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤذي لمثل ذلك المترتب عليه الرّيبة في الدين، ورفع الثقة بعالم وغيره، فاستحال شرعا الاستلزام المذكور.

قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: ومن زعم أنّه رآهم ردّت شهادته وعزّر، لمخالفته القرآن.

وكأنّ المصنّف أخذ منه قوله «من منع التفضيل بين الأنبياء عزّر، لمخالفته القرآن» !! وحمل بعضهم كلام الشافعي على زاعم رؤية صورهم الّتي خلقوا عليها.

ص: 510

.........

ولمّا عرّف البيضاويّ الجنّ في تفسير قُلْ أُوحِيَ [1/ الجن] بنحو ما مرّ؛ قال:

وفيه دليل على أنّه صلى الله عليه وسلم ما رآهم، ولم يقرأ عليهم!! وإنّما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته؛ فسمعوها، فأخبره الله تعالى بذلك. انتهى.

وكأنّه لم يطلّع على الأحاديث الصحيحة الكثيرة؛ المصرّحة برؤيته صلى الله عليه وسلم لهم، وقراءته عليهم، وسؤالهم منه الزاد لهم ولدوابّهم على كيفيّات مختلفة!!

ولا يسقط عنا ما كلّفنا به من نحو إقامة الجمعة؛ أو فروض الكفايات بفعلهم!؟ لما مرّ أنّهم- وإن أرسل إليهم صلى الله عليه وسلم وكلّفوا بشرعه إجماعا ضروريا؛ فيكفر منكره- لهم تكاليف اختصّوا بها؛ لا نعلم تفاصيلها.

ولا ينافي هذا إجراء غير واحد عليهم بعض الأحكام؛ كانعقاد الجمعة بهم معنا، وصحّة إمامتهم لنا.

والجمهور على أنّ مؤمنيهم يثابون ويدخلون الجنة.

وقول أبي حنيفة واللّيث «لا يدخلونها، وثوابهم النجاة من النار» !! بالغوا في ردّه، على أنّه نقل عن أبي حنيفة أنّه أخذ دخولهم من قوله تعالى لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74)[الرحمن] انتهى كلام «التحفة» .

وفي كتاب «شفاء الأسقام فيما يتعلق بالجنّ من الأحكام» للشيخ العلّامة المحقّق الفهّامة: محمد بن عمر الحشيبري المتوفى سنة: إحدى وخمسين وألف هجرية رحمه الله تعالى:

الجنّ والشياطين جنس واحد، أبوهم إبليس؛ وهم ذريته، فالجنّ المؤمنون والشياطين الكافرون. قال تعالى حكاية عنهم وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ- وهم الجن- وَمِنَّا الْقاسِطُونَ الكافرون الجائرون؛ وهم الشياطين فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا- قصدوا- رَشَداً (14) . وأما القاسطون الجائرون بالكفر أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً

(15)

[الجن] .

ص: 511

.........

وسمّوا جنّا!! لاستتارهم عن أعين الناس غالبا، وسمّوا «شياطينا» !! لبعدهم عن رحمة الله تعالى، ومنه بئر شطون؛ إذا كانت بعيدة العمق.

وسمّي إبليس!! لأنّه أبلس من رحمة الله عز وجل، أي: يئس، والمبلس:

الكئيب الحزين الآيس؛ كما في «التهذيب» للنووي. وفيهم أهل السّنّة، والمبتدعة؛ حتّى الشيعة والرافضة، والمرجئة والقدرية. وغير ذلك على مذاهب الإنس الذي يسكنون معهم في بلادهم، ولهم ملوك كبار، وأسماء ملوك يخضعون لها، ويطيعون للإقسام عليهم بها، وقد يخضعون لأسماء من أسماء الله تعالى القاهرة، ويستخدمون بها مسخّرين، ولذلك صفات وهيئات معروفة عند المعزّمين الذين يفتتنون بذلك، وقد يصيبهم منهم مصائب؛ نسأل الله العافية، ولهم سلطة على بعض المسلمين، ويتولّجون في باطن الحيوانات، وينفذون من منافذها الضيقة؛ نفوذ الهوى المستنشق.

وفي الحديث الصحيح في البخاري «إنّ الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم» . قال الشّرّاح أي: يدخل فيه. لما تقرّر أنّه جسم لطيف، وحمل الحديث على الحقيقة؛ أخذا بظاهره أولى من حمله على المجاز؛ وهو الوسوسة. انتهى.

ومن لازم دخولهم في الإنس المرض والصّرع، وتشويه الخلقة لبعض المسلمين، ولغة الجنّ كلّ منهم على لغة من يسكنون بلده، ومذاهبهم على مذاهب الإنس الذين يسكنون بلدهم، ولهم الأعمار الطويلة؛ فلا يموتون إلّا بالصعقة، فإنهم كأبيهم إبليس من المنظرين. وقيل: إن المسلم منهم يموت قبل الصعقة؛ والكافر منهم لا يموت إلا بموت إبليس.

قال العلّامة شيخ الإسلام محمد بن أبي بكر الأشخر رحمه الله تعالى:

الجنّ مكلّفون، لا على حدّ تكليفنا وتفصيله، فمن ثمّ يجب الحجّ على من أمكنه الطيران منهم، بخلاف من أمكنه ذلك خرق عادة من الأنس، فعلى هذا يسجد لتلاوته، ويقتدى به، وتحصل فضيلة الصفّ، ويتمّ به عدد الجمعة، ويكفي

ص: 512

في الجاهليّة،

تجهيز ميتنا، ويقبل خبره وشهادته؛ ولو في النكاح، على خلاف في جميع ذلك.

نعم؛ الأصحّ من وجهين حرمة مناكحتهم.

والرضاع مبنيّ على ذلك؛ فإن حرّمنا المناكحة لم يحرّم، وإن جوّزناها حرّم، وهو أحد احتمالين للبلقيني رحمه الله تعالى في «تدريبه» انتهى.

ولو أولج جنيّ ذكره في إنسية؛ أو أنسيّ في جنّيّة أجنب المولج والمولج فيه.

وفرض ذلك أن يتحقّق ما ذكر، إذ لا جنابة مع الشكّ. انتهى.

والجنّ مكلّفون بالإيمان بالله تعالى، وترك الإشراك به؛ من ابتداء خلقهم، لا مثل الإنس بعد البلوغ.

وأمّا التزام أحكام الشرائع!! فالذي أرسل إليهم عموما هو نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهم مكلّفون بالتزام شريعته صلى الله عليه وسلم. قال مقاتل رحمه الله تعالى: لم يبعث نبيّ قبل نبينا إلى الإنس والجنّ جميعا، فعلى هذا لا يلزمهم اتباع شريعة نبيّ قبله، وإنما يلزمهم التوحيد، وترك الإشراك بالله تعالى.

والصحيح: أنّ الرسل من الإنس إلى الإنس، وفي زمن كلّ رسول كانت النّذر من الجن تسمع كلام الرّسل وتبلّغه قومها؛ منذرين لهم، فيعملون بما يسمعون.

وليس للجنّ رسل منهم يوحى إليهم، وإنّما يعملون بما أنذرهم قومهم بما يسمعون من رسل الإنس. انتهى. ملخصا من «شفاء الأسقام فيما يتعلق بالجنّ من الأحكام» تأليف الشيخ العلامة المحقق محمد بن عمر الحشيبري رحمه الله تعالى.

فائدة: الجنّ على مراتب، فالأصل «جنّيّ» ، فإن خالط الإنسان قيل «عامر» ومن تعرّض منهم للصبيان قيل «أرواح» ، ومن زاد في الخبث قيل «شيطان» ، فإن زاد على ذلك قيل «مارد» ، فإن زاد على ذلك قيل «عفريت» . انتهى كذا وجدت معزوّا لكتاب «توشيح» السيوطي رحمه الله.

(في) أيّام (الجاهليّة) هي: الحالة الّتي كانت عليها العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم من

ص: 513

فمكث فيهم دهرا، ثمّ ردّوه إلى الإنس، فكان يحدّث النّاس بما رأى من الأعاجيب، فقال النّاس:(حديث خرافة) » .

الجهل بالله تعالى ورسوله وشرائع الإسلام، وكان اختطاف الجنّ للإنس كثيرا إذ ذاك.

(فمكث) - بضمّ الكاف وفتحها- أي: لبث (فيهم) أي: معهم (دهرا) أي: زمنا طويلا (ثمّ ردّوه إلى الإنس) - بكسر الهمزة وسكون النون- أي:

البشر، الواحد إنسيّ، والجمع: أناسيّ وأناسية؛ كصيارفة.

(فكان يحدّث النّاس بما رأى من الأعاجيب) ؛ جمع: أعجوبة، أي الأشياء التي يتعجّب منها.

والتعجّب: انفعال النفس لزيادة وصف في المتعجّب منه. إمّا لاستحسانه والرّضا عنه، وإمّا لذمّه وإنكاره، فهو على وجهين: الأول: فيما يحمده الفاعل.

والثاني: في ما يكرهه. انتهى «باجوري» .

فكان خرافة يخبر الناس بما رأى؛ فيكذّبونه فيما أخبرهم به، مع أن الرجل كان صادقا؛ لا كاذبا.

(فقال النّاس: حديث خرافة» ) أي: قالوا ذلك فيما سمعوه من الأحاديث العجيبة والحكايات الغريبة؛ الّتي يستملحونها ويكذّبونها؛ لبعدها عن الوقوع.

وغرضه صلى الله عليه وسلم من مسامرة نسائه تفريح قلوبهنّ، وحسن العشرة معهن، فيسنّ ذلك، لأنه من باب حسن المعاشرة، وفي الحثّ عليه أحاديث كثيرة مشهورة.

والنهي الوارد عن الكلام بعد العشاء!! محمول على ما لا يعني من الكلام الدّنيويّ.

قال في «المنهاج» : ويكره النوم قبلها والحديث بعدها؛ إلّا في خير.

انتهى.

ص: 514

وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقبّل عرف ابنته فاطمة الزّهراء، وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقبّلها في فمها أيضا.

و (العرف) : أعلى الرّأس، ويطلق على الرّقبة.

وكان صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وأزواجه كواحد منهم، وكان حسن المعاشرة.

وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: كنت إذا هويت

(و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» - وهو حديث ضعيف؛ كما في العزيزي- عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقبّل عرف) - بضم العين وإسكان الراء- (ابنته فاطمة الزّهراء) أي: أعلى رأسها؛ قاله المناوي

(وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقبّلها في فمها أيضا) . زاد أبو داود بسند ضعيف:

ويمصّ لسانها.

(والعرف) - بالضمّ- (أعلى الرّأس) مأخوذ من عرف الدّيك؛ وهو: اللحمة المستطيلة في أعلى رأسه. انتهى. (ويطلق) أي: العرف (على الرّقبة) .

قال في العزيزي: قال الشيخ: العرف- بالمهملة والفاء-: الرقبة؛ أخذا من معرفة الفرس؛ أي: منبت شعره من رقبته. انتهى.

(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني: (كان صلى الله عليه وسلم مع أصحابه) كواحد منهم؛ لا يتميّز عنهم بشيء، لمزيد تواضعه وحسن عشرته.

(و) كان مع (أزواجه) ؛ جمع: زوج، أي امرأة، لأن اللغة الفصحى:

«زوج» - بلا هاء، وبها جاء القرآن في نحو وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [19/ الأعراف] حتّى بالغ الأصمعيّ؛ فقال: لا تكاد العرب تقول «زوجه» بالهاء.

وقوله (كواحد منهم) فيه تغليب الذكور، (وكان حسن المعاشرة) مع أصحابه وأزواجه، وأهل بيته وسائر النّاس على اختلاف طبقاتهم.

(وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها؛ تقول: كنت إذا هويت) أي: أردت

ص: 515

شيئا.. تابعني صلى الله عليه وسلم عليه. وكنت إذا شربت من الإناء..

أخذه فوضع فمه على موضع فمي وشرب، وكان ينهش فضلتي من اللّحم الّذي على العظم، وكان يتّكىء في حجري ويقرأ القرآن.

وحدّثت عائشة رضي الله تعالى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث أمّ زرع؛ وهو: أنّ إحدى عشرة امرأة تعاهدن وتعاقدن ألايكتمن من أخبار أزواجهنّ شيئا،

(شيئا تابعني) أي: وافقني صلى الله عليه وسلم عليه) إشارة إلى مزيد حبّه لها.

(وكنت إذا شربت من الإناء أخذه؛ فوضع فمه على موضع فمي وشرب) .

رواه مسلم من حديثها.

(وكان ينهش فضلتي من اللّحم الّذي على العظم) رواه مسلم أيضا من حديثها بلفظ: وإذا تعرّقت عرقا أخذه فوضع فمه على موضع فمي.

(وكان يتّكىء في حجري ويقرأ القرآن) رواه الشيخان؛ من حديثها.

(وحدّثت عائشة رضي الله تعالى عنها؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث أمّ زرع) ؛ كما رواه الشيخان، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها.

وأمّ زرع هي واحدة من النساء اللّاتي ذكرهن بقوله:

(وهو: أنّ إحدى عشرة) - بسكون الشين- (امرأة) ؛ قيل: كلّهن من بعض قرى اليمن، أو قرى مكّة، ولم يعرف منهن سوى أسماء ثمانية سردها الخطيب البغدادي في كتاب «المبهمات» ؛ وقال: إنّه لا يعرف أحد أسماءهن إلّا من تلك الطريق، وإنّه غريب جدّا.

(تعاهدن) ؛ أي ألزمن أنفسهنّ عهدا، (وتعاقدن) عطف تفسير (أن لا يكتمن) أي: لا يخفين (من أخبار أزواجهنّ شيئا) ؛ سواء كان مدحا، أو ذمّا، بل يظهرن ذلك ويصدقن.

ص: 516

فوصفت كلّ واحدة زوجها،

(فوصفت كلّ واحدة زوجها) ؛

فقالت الأولى: زوجي لحم جمل غثّ. على رأس جبل وعر؛ لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل.

قالت الثانية: زوجي لا أثير خبره، إنّي أخاف ألاأذره؛ إن أذكره أذكر عجره وبجره.

قالت الثالثة: زوجي العشنّق؛ إن أنطق أطلّق، وإن أسكت أعلق.

قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة؛ لا حرّ ولا قر، ولا مخافة ولا سامة.

قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد.

قالت السادسة: زوجي إن أكل لفّ، وإن شرب اشتفّ، وإن اضطجع التفّ، ولا يولج الكفّ ليعلم البثّ.

قالت السابعة: زوجي عياياء، أو غياياء طلبقاء، كلّ داء له داء؛ شجّك، أو فلّك، أو جمع كلّا لك!!.

قالت الثامنة: زوجي المسّ مسّ أرنب، والريح ريح زرنب.

قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النّجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من النّاد.

قالت العاشرة: زوجي مالك، وما مالك!! مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك؛ قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المزهر. أيقنّ أنهنّ هوالك.

قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع

وما أبو زرع!! أناس من حليّ أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إليّ نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشقّ؛ فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق، فعنده أقول فلا أقبّح

ص: 517

فكانت أحسنهنّ وصفا لزوجها وأكثرهنّ تعدادا لنعمه عليها: زوجة أبي زرع.

قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع» .

وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمّح:

أمّ أبي زرع؛ فما أمّ أبي زرع!! عكومها رداح، وبيتها فساح.

ابن أبي زرع؛ فما ابن أبي زرع!! مضجعه كمسلّ شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة.

بنت أبي زرع؛ فما بنت أبي زرع!! طوع أبيها وطوع أمها، وملء كسائها وغيظ جارتها.

جارية أبي زرع؛ فما جارية أبي زرع!! لا تبثّ حديثنا تبثيثا، ولا تنقث ميرتنا تنقيثا. ولا تملأ بيتنا تعشيشا. قالت:

خرج أبو زرع والأوطاب تمخض فلقي امرأة معها ولدان لها؛ كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلّقني ونكحها.

فنكحت بعده رجلا سريّا؛ ركب شريّا، وأخذ خطيا، وأراح علي نعما ثريا، وأعطاني من كلّ رائحة زوجا، وقال: كلي أمّ زرع وميري أهلك. فلو جمعت كلّ شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.

(فكانت أحسنهنّ وصفا لزوجها، وأكثرهنّ تعدادا لنعمه عليها: زوجة أبي زرع) التي يضاف إليها الحديث؛ فيقال «حديث أم زرع» .

وإنّما أضيف إليها!! لأنّ معظم الكلام وغاية المرام فيه إنّما هو بالنسبة إلى ما يتعلّق بها ويترتّب عليها، ولذلك (قالت عائشة رضي الله تعالى عنها؛ فقال) - وفي بعض نسخ «الشمائل» : قال عروة: قالت عائشة: فلما فرغت من ذكر حديثهنّ؛ قال- (لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع» ) في الألفة والوفاء؛ لا في الفرقة والجفاء.

ص: 518

.........

فالتشبيه ليس من كلّ وجه؛ كما يفيد ذلك قوله «لك» ولم يقل «وعليك» !! فإنّه يفيد أنّه لها كأبي زرع لأمّ زرع في النفع؛ لا في الضرّ الّذي حصل بطلاقها.

ويؤخذ من الحديث ندب حسن العشرة مع الأهل، وحلّ السّمر في خير؛ كملاطفة حليلته، وإيناس ضيفه وجواز ذكر المجهول عند المتكلّم والسّامع بما يكره، فإنّه ليس غيبة.

غاية الأمر: أن عائشة رضي الله تعالى عنها ذكرت نساء مجهولات، وذكر بعضهن عيوب أزواجهن المجهولين الذين لا يعرفون بأعيانهم؛ ولا بأسمائهم، ومثل هذا لا يعدّ غيبة، على أنّهم كانوا من أهل الجاهليّة؛ وهم ملحقون بالحربيّين في عدم احترامهم.

وفي الحديث فوائد كثيرة. وقد أفرده بالتصنيف أئمّة؛ منهم القاضي عياض، والإمام الرافعي في مؤلف جليل جامع، وساقه بتمامه في «تاريخ قزوين» !.

قال الحافظ ابن حجر: المرفوع من حديث أبي زرع في «الصحيحين» «كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع» ، وباقيه من قول عائشة رضي الله تعالى عنها.

وجاء خارج «الصحيحين» مرفوعا كلّه من رواية عبّاد بن منصور عند النسائي، وساقه بسياق لا يقبل التأويل؛ ولفظه: قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع» قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: بأبي أنت وأمّي، يا رسول الله من كان أبو زرع!؟ قال: «اجتمع

» فساق الحديث كلّه.

وكذا جاء مرفوعا عند الزّبير بن بكّار، وجاء في بعض طرقه الصحيحة:

ثمّ أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّث بحديث أمّ زرع، ويقوّي رفعه جميعه أنّ التشبيه المتّفق على رفعه يقتضي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سمع القصّة وعرفها فأقرّها، فيكون مرفوعا كلّه؛ من هذه الحيثية. انتهى؛ نقله في «جمع الوسائل» للعلّامة الملا علي قاري رحمه الله تعالى.

ص: 519

وكان صلى الله عليه وسلم يسرّب إلى عائشة رضي الله تعالى عنها بنات الأنصار يلعبن معها.

وكان صلى الله عليه وسلم يريها الحبشة؛ وهم يلعبون في المسجد، وهي متّكئة على منكبه.

وروي: أنّه صلى الله عليه وسلم سابقها، فسبقته، ثمّ سابقها بعد ذلك، فسبقها وقال:«هذه بتلك» .

(و) روى الشيخان: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرّب) ؛ من التسريب- بالمهملة- وهو: الإرسال، والتسريح أي: يرسل (إلى عائشة رضي الله تعالى عنها بنات الأنصار) واحدة بعد أخرى (يلعبن معها) ، لأنّها كانت صغيرة.

(وكان صلى الله عليه وسلم يريها الحبشة؛ وهم يلعبون) بحرابهم للتدريب على مواقع الحرب والاستعداد، ولذا جاز (في المسجد) لأنه من منافع الدين، (وهي متّكئة على منكبه) ، ولعله أراها لعبهم لتضبطه وتعلمه فتنقله للناس بعد.

وهذا رواه البخاري؛ من حديثها، ورواه الترمذي بلفظ: قام صلى الله عليه وسلم فإذا حبشة تزفن والصبيان حولها، فقال:«يا عائشة تعالي فانظري» . فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه؛ فقال لي: «أما شبعت.. أما شبعت!!» فجعلت أقول: لا.. لا. وقال الترمذي:

حديث حسن صحيح غريب.

ولعل رؤيتها للحبشة كان قبل الحجاب!! وقيل: إنّها كانت تنظر إلى لعبهم؛ لا إلى أجسامهم. وفيه ما فيه!!.

(وروي أنّه صلى الله عليه وسلم سابقها) في سفر (فسبقته) ؛ لخفّة جسمها بقلّة اللّحم.

(ثمّ سابقها بعد ذلك) في سفر آخر؛ وقد سمنت (فسبقها، وقال) مطيّبا لخاطرها (: «هذه بتلك» ) السّبقة. رواه أبو داود بلفظ: سابقته في سفر فسبقته على رجلي، فلما حملت اللّحم سابقته فسبقني. قال:«هذه بتلك السّبقة» .

ص: 520

وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّهم كانوا يوما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها، إذ أتي بصحفة خبز ولحم من بيت أمّ سلمة، فوضعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«ضعوا أيديكم» ، فوضع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم [يده] ، ووضعنا أيدينا، فأكلنا وعائشة تصنع طعاما عجّلته، وقد رأت الصّحفة الّتي أتي بها، فلمّا فرغت من طعامها.. جاءت به فوضعته، ورفعت صحفة أمّ سلمة فكسرتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كلوا باسم الله؛ غارت أمّكم» .

وهذا من مزيد لطفه؛ حتّى لا تتشوّش.

وروى الإمام أحمد عنها: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره؛ وأنا جارية لم أحمل اللّحم؛ ولم أبدن، فقال للناس:«تقدّموا» . فتقدّموا، ثم قال:

«تعالي حتّى أسابقك» . فسابقته فسبقته؛ فسكت عنّي، حتّى حملت اللّحم وبدنت وسمنت؛ خرجت معه في بعض أسفاره؛ فقال للناس:«تقدّموا» . ثمّ قال: «تعالي حتّى أسابقك» فسبقني، فجعل يضحك ويقول:«هذه بتلك» .

(وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّهم كانوا يوما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها؛ إذ أتي بصحفة) : إناء كالقصعة المبسوطة ونحوها، جمعها صحاف (خبز ولحم من بيت أمّ سلمة؛ فوضعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«ضعوا أيديكم» ) للأكل.

(فوضع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم [يده] ووضعنا أيدينا فأكلنا!! وعائشة تصنع طعاما عجّلته) أسرعت به. (و) الحال أنّها (قد رأت الصّحفة الّتي أتي) - على صيغة المبني للمجهول- أي: جيء (بها) من بيت أمّ سلمة.

(فلمّا فرغت من طعامها جاءت به فوضعته، ورفعت صحفة أمّ سلمة فكسرتها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلوا باسم الله) من صحفة عائشة (غارت أمّكم» ) هي كاسرة الصحفة عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها.

ص: 521

ثمّ أعطى صحفتها أمّ سلمة؛ فقال: «طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء» . رواه الطّبرانيّ في «الصّغير» .

وهو عند البخاريّ بلفظ: كان صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمّهات المؤمنين بصحفة فيها طعام،

وأبعد الداودي؛ فقال: هي سارة زوج الخليل. وأنّه أراد لا تعجبوا مما وقع من هذه من الغيرة؛ فقد غارت تلك التي قبلها!! وردّ- مع بعده- بأن المخاطبين ليسوا من أولاد سارة، إذ ليسوا من بني إسرائيل!!.

(ثمّ أعطى صحفتها أمّ سلمة؛ فقال: «طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء» .

رواه الطّبرانيّ في) «معجمه (الصّغير» ) . وعزاه في «الفتح» و «المقدمة» له في «الأوسط» ، (وهو) أي: حديث أنس (عند البخاريّ) في «المظالم» و «الأطعمة» (بلفظ:

كان صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه) هي عائشة؛ كما في الترمذي وغيره، ولا خلاف في ذلك! (فأرسلت إحدى أمّهات المؤمنين) هي:

صفيّة؛ كما رواه أبو داود والنسائيّ من حديث عائشة.

أو: حفصة؛ كما رواه الدارقطني؛ من حديث أنس وابن ماجه عن عائشة.

أو: أمّ سلمة؛ كما رواه الطبراني في «الأوسط» عن أنس وإسناده أصحّ من إسناد الدارقطني. وساقه بسند صحيح؛ وهو أصحّ ما ورد في ذلك.

ويحتمل التعدّد!!.

وحكى ابن حزم في «المحلّى» أنّ المرسلة زينب بنت جحش؛ ذكره الحافظ، وتبعه القسطلّانيّ، ففي جزم السيوطي بالأخير شيء.

(بصحفة) هذا لفظ البخاري في «الأطعمة» ، ولفظه في «المظالم» بقصعة- بفتح القاف- (فيها طعام) أي: حيس؛ كما في «المحلّى» لابن حزم. ويأتي

ص: 522

فضربت الّتي في بيتها يد الخادم، فسقطت الصّحفة فانفلقت، فجمع صلى الله عليه وسلم فلق الصّحفة، ثمّ جعل يجمع فيها الطّعام الّذي كان في الصّحفة ويقول:«غارت أمّكم» ، ثمّ حبس الخادم، حتّى أتي بصحفة من عند الّتي هو في بيتها، فدفع الصّحفة إلى الّتي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت الّتي كسرت.

رواية «يلتقط اللحم» ، فيحتمل أن اتّحدت القصّة؛ أنّه كان فوق الحيس، قال الشاعر:

التّمر والسّمن جميعا والأقط

الحيس إلّا أنّه لم يختلط

مع خادم (فضربت الّتي [النّبيّ] ) صلى الله عليه وسلم (في بيتها) هي عائشة على جميع الأقوال (يد الخادم) لم يسمّ؛ قاله الحافظ ابن حجر.

(فسقطت الصّحفة؛ فانفلقت، فجمع صلى الله عليه وسلم فلق الصّحفة) ؛ جمع فلقة؛ كقطعة وقطع: وزنا ومعنى. (ثمّ جعل يجمع فيها الطّعام الّذي كان في الصّحفة؛ ويقول) مبديا لعذرها (: «غارت أمّكم» ) عائشة.

(ثمّ حبس الخادم) : منعه من العود إلى سيّدته التي أرسلته (حتّى أتي بصحفة من عند الّتي هو في بيتها، فدفع الصّحفة) الّتي لا كسر فيها (إلى) الخادم ليوصلها إلى (الّتي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت الّتي كسرت) ؛ عقابا لها.

فإن قيل: القصعة متقوّمة فكيف ضمّنها بالمثل؛ لا بالقيمة؟!

أجاب البيهقيّ بأنّ القصعتين كانتا للنبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت زوجتيه، فعاقب الكاسرة- بجعل- المكسورة في بيتها، وجعل الصحيحة في بيت صاحبتها، ولم يكن هناك تضمين.

وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والنّسائيّ: قالت عائشة رضي الله تعالى

ص: 523

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بخزيرة طبختها له، وقلت لسودة والنّبيّ صلى الله عليه وسلم بيني وبينها؛ فقلت لها: كلي، فأبت، فقلت لها: كلي، فأبت، فقلت لها: لتأكلين، أو لألطّخنّ بها وجهك، فأبت، فوضعت يدي في الخزيرة فلطخت بها وجهها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عنها: ما رأيت صانعة طعاما مثل صفيّة؛ أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إناء من طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته!! فقلت: يا رسول الله؛ ما كفّارته؟ قال: «إناء كإناء، وطعام كطعام» ففي هذه الرواية: المرسلة صفيّة، فيخالف رواية الطّبراني أنّها أم سلمة!! إن لم يحمل على التعدّد.

وعند غير أحمد، وأبي داود، والنسائي: فأخذت القصعة من بين يديه فضربت بها وكسرتها، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم يلتقط اللّحم والطعام؛ وهو يقول «غارت أمّكم» . فلم يثرّب عليها صلى الله عليه وسلم، ووسع خلقه الشريف آثار طفحات غيرتها، ولم يتأثّر من فعلها ذلك بحضوره وحضور أصحابه؛ لمزيد حلمه وعلمه بما تؤدّي إليه الغيرة، وقضى عليها بحكم الله في التقاصّ بجعل المكسورة عندها ودفع الصحيحة لضرّتها.

(وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بخزيرة) - بخاء وزاي معجمتين؛ فياء مثناة، فراء فتاء تأنيث- (طبختها له، وقلت لسودة) أمّ المؤمنين (والنّبيّ صلى الله عليه وسلم بيني وبينها؛ فقلت لها: كلي. فأبت، فقلت لها: كلي. فأبت.

فقلت لها: لتأكلين؛ أو لألطّخنّ بها وجهك!! فأبت. فوضعت يدي في الخزيرة فلطخت بها وجهها) - بالتخفيف [لطّخت] وتشدّد مبالغة.

(فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوضع فخذه لها؛ وقال لسودة:«ألطخي وجهها قصاصا» . فلطخت به وجهي. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحديث رواه ابن غيلان؛ من حديث الهاشمي.

ص: 524

و (الخزيرة) : لحم يقطع قطعا صغارا، ويصبّ عليه ماء كثير، فإذا نضج ذرّ عليه الدّقيق.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا غضبت عائشة.. عرك بأنفها وقال: «يا عويش؛ قولي: اللهمّ ربّ محمّد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلّات الفتن» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتي بهديّة قال: «اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنّها كانت صديقة لخديجة

وأخرجه الملّا في «سيرته» ؛ ذكره في «المواهب» قال:

(والخزيرة: لحم يقطع قطعا صغارا، ويصبّ عليه ماء كثير، فإذا نضج) :

استوى (ذرّ عليه الدّقيق) ، فإن لم يكن فيها لحم؛ فهي عصيدة؛ قاله الجوهري وغيره، وكذا ذكره ابن السّكّيت؛ وزاد: من لحم بات ليلة. وقال ابن فارس:

دقيق يخلط بشحم. وقيل: غير ذلك، كما ذكره القسطلّاني في «المواهب» .

(و) أخرج ابن السّنّيّ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:

(كان صلى الله عليه وسلم إذا غضبت عائشة عرك بأنفها) - بزيادة الموّحدة- (وقال) ؛ ملاطفا لها (: «يا عويش) - منادى مصغّر مرخّم، فيجوز ضمّه وفتحه على لغة «من ينتظر» وعلى التمام- (قولي:(اللهمّ؛ ربّ محمّد اغفر لي ذنبي، وأذهب) - بهمزة القطع- (غيظ قلبي، وأجرني من مضلّات الفتن.) ؛ أي: الفتن المضلّة، أي الموقعة في الضلال، فمن قال ذلك بصدق وإخلاص ذهب غضبه لوقته، وحفظ من الضلال والوبال.

(و) أخرج البخاريّ في «الأدب المفرد» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان) النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أتي) - مبنيّ للمجهول- أي: أتاه أحد (بهديّة؛ قال: «اذهبوا بها إلى بيت فلانة) لم يسمّها الرواة، (فإنّها كانت صديقة لخديجة

ص: 525

- رضي الله تعالى عنها- إنّها كانت تحبّ خديجة» .

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة رضي الله تعالى عنها لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان ليذبح الشّاة فيهديها إلى خلائلها، واستأذنت عليه أختها..

- رضي الله تعالى عنها-)

وفي رواية: (إنّها كانت تحبّ خديجة» ) . وفيه الحثّ على البرّ والصّلة وحسن العهد.

(و) أخرج البخاريّ ومسلم وغيرهما (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما غرت) - بكسر العين المعجمة وسكون الراء- (على امرأة) أي: من نساء النبي صلى الله عليه وسلم (ما غرت) ؛ أي: كغيرتي (على خديجة- رضي الله تعالى عنها- لما كنت) لعلة لغيرتها أي: لأجل كوني دائما (أسمعه) ؛ أي: أسمع النبي صلى الله عليه وسلم (يذكرها) أي: ذكرا جميلا وثناء جزيلا.

قال الطبريّ وغيره: الغيرة من النساء مسموح لهنّ ومفسوخ في أخلاقهن لما جبلن عليه، وإنّهن لا يملكن عندها أنفسهنّ. ولهذا لم يزجر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، ولا ردّ عليها عذرها، لما علم من فطرتها وشدّة غيرتها. قال الزبيدي: والعامّة تكسرها والصواب فتحها. انتهى «ملا علي قاري رحمه الله تعالى» .

(وإن) - بكسر الهمزة وسكون النون؛ على أنّ «إن» مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف؛ أي: وإنّه عليه الصلاة والسلام (كان ليذبح الشّاة) - بفتح اللام- وهي المسماة ب «الفارقة» ، نحو قوله تعالى وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً [143/ البقرة] (فيهديها) - بضمّ الياء- أي: فيرسلها هديّة (إلى خلائلها) - بالخاء المعجمة- جمع: خليلة؛ أي صدائقها لكلّ واحدة منها قطعة.

(واستأذنت عليه أختها) أي: طلبت الإذن في الدخول له صلى الله عليه وسلم أخت خديجة؛

ص: 526

فارتاح لها «1» ، ودخلت عليه امرأة فهشّ لها وأحسن السّؤال عنها، فلمّا خرجت قال:«إنّها كانت تأتينا أيّام خديجة، وإنّ حسن العهد من الإيمان» .

وهي هالة بنت خويلد بن أسد أمّ أبي العاصي بن الربيع «زوج زينب بنته صلى الله عليه وسلم» ، واسمه: لقيط بن الربيع، وهالة ذكرها ابن منده، وأبو نعيم في «الصحابة» .

(فارتاح [لها] ) ؛ أي: حصلت له صلى الله عليه وسلم راحة، إذ دخلت عليه وأظهر البشر والسرور برؤيتها، (ودخلت عليه امرأة) أي: أخرى في وقت آخر (فهشّ لها) - بتشديد الشين المعجمة- أي: فرح بها واستبشر، (وأحسن السّؤال عنها) بقوله «كيف أنتم..؟ كيف حالكم

؟ كيف كنتم بعدنا» ؟ (فلمّا خرجت) من عنده (قال: «إنّها كانت تأتينا أيّام خديجة) أي: في زمانها فلنا بها معرفة قديمة، (وإنّ حسن العهد) قال السّخاوي: ينصرف لغة إلى وجوه؛ أحدها: الحفظ والرعاية، وهو المراد هنا. أي: الوفاء والحفظ، ورعاية العهود القديمة، ورعاية من يحبّك أو يحبّ من يحبّك (من الإيمان» ) أي: من أخلاق أهله وخصالهم، أو من شعب الإيمان ومقتضياته، لأن من كمال الإيمان مودّة عباد الله ومحبّتهم.

وهذا الحديث رواه الحاكم في «مستدركه» في «كتاب الإيمان» ؛ عن عائشة مرفوعا، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين؛ وليس له علّة. وأقرّه الذّهبيّ. ومن طريق الحاكم رواه الدّيلميّ، من حديث الصّغاني؛ عن أبي عاصم؛ قال: حدّثنا رستم؛ عن ابن أبي مليكة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت:

جاءت عجوز إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو عندي، فقال لها:«من أنت» ؟! فقالت جثّامة المزنيّة. قال: «أنت حسّانة، كيف أنتم

؟ كيف حالكم

؟ كيف كنتم بعدنا؟» . قالت: بخير، بأبي أنت وأمّي؛ يا رسول الله. فلما خرجت؛ قلت:

يا رسول الله؛ تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال!! قال: «إنّها كانت تأتينا زمن

(1) في «وسائل الوصول» : إليها.

ص: 527

قال القسطلّانيّ: (وهكذا كانت أحواله عليه الصلاة والسلام مع أزواجه، لا يأخذ عليهنّ ويعذرهنّ، وإن أقام عليهنّ قسطاس عدل أقامه من غير قلق، ولا غضب.

وبالجملة: فمن تأمّل سيرته عليه الصلاة والسلام مع أهله وأصحابه وغيرهم من الفقراء، والأيتام، والأرامل، والأضياف، والمساكين.. علم أنّه قد بلغ من رقّة القلب ولينه الغاية الّتي لا مرمى وراءها لمخلوق، وإنّه كان يشدّد في حدود الله وحقوقه ودينه؛ حتّى قطع يد السّارق

إلى غير ذلك) .

خديجة، وإنّ حسن العهد من الإيمان» .

(قال) العلّامة الشّهاب (القسطلّانيّ) في «المواهب» عقب الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها في كسر الصحفة السابق!! ولو ذكره المصنف هناك كان أولى؟!

(وهكذا كانت أحواله عليه الصلاة والسلام مع أزواجه؛ لا يأخذ عليهنّ ويعذرهنّ) - بكسر الذال-: يرفع عنهن اللّوم.

(وإن أقام عليهنّ قسطاس) : ميزان (عدل؛ أقامه من غير قلق ولا غضب) كما هو الواقع من غيره كثيرا.

(وبالجملة؛ فمن تأمّل سيرته عليه الصلاة والسلام مع أهله وأصحابه وغيرهم؛ من الفقراء، والأيتام، والأرامل، والأضياف، والمساكين؛ علم أنّه قد بلغ من رقّة القلب ولينه الغاية الّتي لا مرمى وراءها لمخلوق)، أي: لا يصل أحد بعده إليها (وإنّه كان يشدّد في حدود الله وحقوقه ودينه؛ حتّى قطع يد السّارق

إلى غير ذلك) كحدّ الزاني. انتهى كلام «المواهب» .

ص: 528