الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفصل الخامس في صفة تواضعه صلى الله عليه وسلم وجلوسه واتّكائه]
الفصل الخامس في صفة تواضعه صلى الله عليه وسلم وجلوسه واتّكائه (الفصل الخامس) من الباب الخامس (في) بيان ما ورد في (صفة تواضعه صلى الله عليه وسلم .
بضمّ الضاد؛ أي تذلّله وخشوعه؛ قاله الباجوري.
وقال ابن القيّم: التواضع انكسار القلب لله، وخفض جناح الذلّ والرحمة للخلق؛ حتّى لا يرى له على أحد فضلا، ولا يرى له عند أحد حقا، بل، ويرى الحقّ لذلك الأحد؛ نقله الزرقاني على «المواهب» .
وقال شيخنا العلّامة الشيخ حسن المشاط في «إسعاف أهل الإسلام» ؛ قبيل «باب ما جاء في ما يلبسه المحرم من الثياب» ما نصّه:
واعلم أنّ التواضع خلق شريف؛ معناه عند المحققين: ألايرى العبد لنفسه قدرا، ولا قيمة، ولا مزيّة، ويرى الحال التي هو فيها أعظم من أن يستحقّها.
قال سيّدي محمد بن قاسم الشهير ب «جسوس» ؛ عن أبي زيد رضي الله عنه:
ما دام العبد يظنّ أنّ في الخلق من هو شرّ منه؛ فهو متكبّر.
قيل له: فمتى يكون متواضعا؟!
قال: إذا لم ير لنفسه مقالا؛ ولا حالا.
قال في «الحكم» : ليس المتواضع الذي إذا تواضع رأى أنّه فوق ما صنع، ولكنّ المتواضع الّذي إذا تواضع رأى أنّه دون ما صنع.
ثمّ التواضع تارة يكون لرؤية العبد نقص نفسه، وتارة يكون عن شهود عظمة ربّه، وهذا التواضع الحقيقيّ الّذي لا يمكن ارتفاعه، فإنّ شهود عظمته تعالى هو
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ النّاس تواضعا،
…
الذي يخمد النّفس ويذيبها، ويبطل أنانيّتها، وبه تنقلع شجرة الرياسة والكبر من القلب. فإنّ من شاهد عظيما من الخلق ذا هيئة ومنصب؛ لم يمكنه إلّا الخضوع له، فكيف لمن تتجلّى له عظمة الله تعالى التي لا عظمة تكاد تدانيها؟!! فما تجلّى الله لشيء إلّا خضع له فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً [143/ الأعراف] .
ولمّا كان لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحظّ الأوفر من تجلّي نور الشهود كان أعظم الخلق تواضعا، وقد رفع الله ذكره، وأعلى على كلّ قدر قدره. ولم يخلق جاها أعظم من جاهه صلى الله عليه وسلم!!.
وقد شرح الإمام العارف الشهير ب «زروق» في «قواعده» ما تقدّم من حقيقة خلق التواضع؛ بقوله: التواضع: ترك اعتقاد المزيّة على الغير، ولو كان في أعلى درجات الرفعة. والكبر: اعتقاد المزيّة، ولو كان في أدنى درجات الضعة.
وبالجملة؛ فالتواضع والأدب، والوقوف عند الحدّ، والتأسّي برسول الله صلى الله عليه وسلم هو ملاك كلّ خير، وسبب كلّ علو وشرف، ومن تواضع لله رفعه الله، سلك الله بنا طريق الخير بمنّه وفضله. آمين؛ انتهى.
(و) صفة (جلوسه) لكونه محتبيّا ومتوقّرا، ومستقبل القبلة ونحو ذلك.
(و) صفة (اتّكائه) على وسادة؛ أو غيرها.
قال الإمام الغزاليّ في «الإحياء» ، والإمام الشعراني في «كشف الغمّة» :
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ النّاس تواضعا) - بضمّ الضاد المعجمة- قال بعض العارفين: اعلم أنّ العبد لا يبلغ حقيقة التواضع؛ وهو التذلّل والتخشّع إلّا إذا دام
وأسكنهم من غير كبر،
…
تجلّي نور الشهود في قلبه، لأنه حينئذ يذيب النفس ويصفّيها عن غش الكبر والعجب، فتلين وتطمئنّ للحق والخلق؛ بمحو آثارها، وسكون وهجها، ونسيان حقّها، والذهول عن النظر إلى قدرها.
ولمّا كان الحظّ الأوفر من ذلك لنبيّنا صلى الله عليه وسلم كان أشدّ النّاس تواضعا. وحسبك شاهدا على ذلك أنّ الله خيّره بين أن يكون نبيّا ملكا؛ أو نبيّا عبدا؛ فاختار أن يكون نبيّا عبدا!! ومن ثمّ لم يأكل متّكئا بعد حتى فارق الدنيا.
وقال: «أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد» ، ولم يقل لشيء فعله خادمه أنس «أفّ» قطّ، وما ضرب أحدا من عبيده وإمائه، وهذا أمر لا يتّسع له الطبع البشري؛ لولا التأييد الإلهي، وكذا الأخبار الآتية فكلّها دالّة على شدّة تواضعه صلى الله عليه وسلم.
(وأسكنهم) - بالنون- أي: أكثرهم سكونا (من غير كبر) .
قال الحافظ العراقيّ: روى أبو داود وابن ماجه؛ من حديث البراء:
فجلس وجلسنا كأنّ على رؤوسنا الطير. ولأصحاب «السنن» ؛ من حديث أسامة بن شريك: أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأنّما على رؤوسهم الطير.
وفي «الشمائل» للترمذي: أطرق جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلّموا.
وفي «الشمائل» لأبي الحسن بن الضحاك؛ من حديث أبي سعيد الخدري:
دائب الإطراق. وسنده ضعيف. أي: دائم السكون.
وقوله «كأنّما على رؤوسهم الطير» كناية عن كونهم عند كلامه صلى الله عليه وسلم على غاية تامّة من السكوت والإطراق، وعدم الحركة، وعدم الالتفات، أو عن كونه مهابين مدهوشين في هيئته، لما أنّ كلامه عليه أبّهة الوحي وجلالة الرسالة.
وأصل ذلك: أنّ سليمان عليه السلام كان إذا أمر الطير بأن تظلّل على
وأبلغهم من غير تطويل، وأحسنهم بشرا، لا يهوله شيء من أمر الدّنيا.
أصحابه؛ غضّوا أبصارهم، ولم يتكلّموا حتّى يسألهم مهابة. أو عن كونهم متلذّذين بكلامه.
وأصل ذلك: أنّ الغراب يقع على رأس البعير يلقط عنه صغار القردان؛ فيسكن سكون راحة ولذّة، ولا يحرّك رأسه؛ خوفا من طيرانه عنه.
وهذه الحالة لهم إنّما هي من تخلّقهم بأخلاقه صلى الله عليه وسلم إذ كان صلى الله عليه وسلم لكمال استغراقه بالمشاهدة في سكون دائم وإطراق ملازم.
(وأبلغهم) ؛ أي: أكثرهم بلاغة في الكلام (من غير تطويل) .
قال الحافظ العراقي: روى الشيخان؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:
كان يحدّث حديثا لو عدّه العادّ لأحصاه.
ولهما من حديثها: لم يكن يسرد الحديث كسردكم. علّقه البخاري، ووصله مسلم.
زاد الترمذيّ: ولكنه كان يتكلّم بكلام يبيّنه؛ فصل، يحفظه من جلس إليه.
وله في «الشمائل» ؛ من حديث هند بن أبي هالة يتكلّم بجوامع الكلم، فصل؛ لا فضول ولا تقصير.
(وأحسنهم بشرا) قال الحافظ العراقي: رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: كان صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق
…
الحديث.
وله في «الجامع» ؛ من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء: ما رأيت أحدا أكثر تبسّما من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقال غريب. قلت: وفيه ابن لهيعة. انتهى شرح «الإحياء» .
(لا يهوله شيء من أمر الدّنيا) يقال: هاله الشيء؛ إذا راعه وأعجبه.
وكان صلى الله عليه وسلم متواضعا في غير مذلّة.
وعن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النّصارى ابن مريم،
قال العراقيّ: روى أحمد من حديث عائشة: ما أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من الدنيا، ولا أعجبه أحد قطّ؛ إلا ذو تقى.
وفي لفظ له: ما أعجب النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أعجبه شيء من الدنيا، إلا أن يكون منها ذو تقى. وفيه ابن لهيعة. انتهى شرح «الإحياء» .
(و) في «شرح الإحياء» : قال الحافظ العراقيّ: روى أبو الحسن بن الضحاك في «الشمائل» ؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه؛ في صفته صلى الله عليه وسلم: أنه (كان صلى الله عليه وسلم متواضعا في غير مذلّة) . وسنده ضعيف. انتهى.
(و) أخرج البخاريّ والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» (عن) أبي حفص الفاروق (عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ووقع في رواية البخاريّ؛ عن ابن عبّاس أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول
(: «لا تطروني) - بضمّ أوّله وسكون الطاء المهملة- والإطراء: المدح بالباطل، أي: لا تتجاوزوا الحدّ في مدحي؛ بأن تقولوا ما لا يليق بي؛ (كما أطرت النّصارى) المسيح (ابن مريم) . وفي رواية: عيسى ابن مريم حيث كذبوا وقالوا: إله، و: ابن الله، و: أحد ثلاثة!! وحرّفوا قوله تعالى في «التوراة» «عيسى نبيي؛ أنا ولّدته- بتشديد اللام- من مريم» ؛ فجعلوا الأول «بنيّ» بتقديم الباء، وخفّفوا اللام في الثاني «ولدته» إلى غير ذلك من إفكهم!!؟.
فمنعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يصفوه بالباطل. وفي العدول عن «المسيح» إلى «ابن مريم» تبعيد عن الإلهية. والمعنى: أنّهم بالغوا في المدح بالكذب حتى جعلوا من حصل من جنس النساء الطوامث إلها، وابن إله.
إنّما أنا عبد فقولوا: (عبد الله ورسوله) » .
قال ابن الجوزيّ: ولا يلزم من النهي عن الشيء وقوعه، لأنّا لا نعلم أن أحدا ادّعى في نبينا ما ادّعته النصارى في عيسى!!. وإنّما سبب النهي- فيما يظهر-:
ما وقع في حديث معاذ بن جبل لمّا استأذن في السجود له على قصد التعظيم وإرادة التكريم، فامتنع ونهاه، وكأنّه خشي أن يبالغ غيره بأخوف من ذلك؛ فبادر إلى النهي تأكيدا للأمر، فالمعنى لا تتجاوزوا الحدّ في مدحي بغير الواقع؛ فيجرّكم ذلك إلى الكفر، كما جرّ النصارى إليه لمّا تعدّوا عن الحدّ في مدح عيسى عليه السلام بغير الواقع، واتخذوه إلها. وإلى ذلك أشار في «البردة» بقوله:
دع ما ادّعته النّصارى في نبيّهم
…
واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
ثم استأنف؛ وقال: (إنّما أنا عبد)، أي: لست إلّا عبدا لا إلها، فلا تعتقدوا فيّ شيئا ينافي العبودية، (فقولوا عبد الله ورسوله» ) . ولا تقولوا ما قالته النصارى، فأثبت لنفسه ما هو ثابت له من العبودية والرسالة، وأسلم لله ما هو له؛ لا لسواه.
وقد روى الإمام أحمد عن أنس أنّ رجلا جاءه؛ فقال: يا سيّدنا وابن سيّدنا، وخيرنا وابن خيرنا! فقال:«يا أيّها النّاس قولوا بقولكم، ولا يستهوينّكم الشّيطان، أنا محمّد بن عبد الله؛ عبد الله ورسوله» .
وأخرج عن ابن الشخّير أنّه جاءه رجل؛ فقال: أنت سيّد قريش! فقال:
«السّيّد الله» . فقال: أنت أعظمها فيها طولا، وأعلاها قولا. قال:«يا أيّها النّاس قولوا بقولكم، ولا يستهوينّكم الشّيطان» .
وأخرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: استبّ رجلان؛ رجل من المسلمين، ورجل من اليهود. فقال المسلم: والّذي اصطفى محمّدا على العالمين. وقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين! فلطم المسلم اليهوديّ، فأتى اليهوديّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره، فدعاه فسأله؛ فاعترف. فقال:
و (الإطراء) : هو مجاوزة الحدّ في المدح.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يدفع عنه النّاس، ولا يضربوا عنه.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يأتيه أحد من حرّ ولا عبد، ولا أمة ولا مسكين.. إلّا قام معه في حاجته.
وهذه الأحاديث الثلاثة في «الصحيحين» أيضا، وهذا من مزيد تواضعه صلى الله عليه وسلم، وقد كان أعظم النّاس تواضعا- كما تقدّم-؛ ذكره المناوي على «الشمائل» .
(والإطراء: هو مجاوزة الحدّ في المدح) بالكذب.
(و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» بإسناد حسن؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: (كان صلى الله عليه وسلم لا يدفع عنه النّاس، ولا يضربوا عنه) ببناء الفعلين للمفعول؛ وحذف النون للتخفيف، وذلك لعظم تواضعه؛ وبراءته من الكبر والتعاظم الذي هو من شأن الملوك وأتباعهم.
وفيه أنّ أصحاب المقارع بين يدي الحكّام والأمراء محدثة مكروهة، كما ورد في خبر:
رأيت المصطفى صلى الله عليه وسلم على ناقته.. لا ضرب ولا طرد، ولا «إليك
…
إليك» .
وأخذ منه أن المفتي أو المدرّس ينبغي له ألايتخذ نقيبا جافيا غليظا، بل فطنا كيّسا دريّا يرتّب الحاضرين على قدر منازلهم، وينهى عن ترك ما ينبغي فعله؛ أو فعل ما ينبغي تركه، ويأمر بالإنصات للدرس، وعلى العالم سماع السؤال من مورده على وجهه؛ ولو صغيرا. انتهى مناوي؛ على «الجامع الصغير» .
(و) في «الإحياء» و «كشف الغمّة» : (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتيه أحد) ؛ أي: يطلبه في حاجة (من حرّ ولا عبد، ولا أمة ولا مسكين؛ إلّا قام معه في حاجته) .
وكان صلى الله عليه وسلم لا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين.
روى البخاريّ تعليقا؛ من حديث أنس: إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت. ووصله ابن ماجه، وقال:
وما ينزع يده من يدها حتّى تذهب حيث شاءت من المدينة في حاجتها.
وسيأتي مع حديث ابن أبي أوفى: ولا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين حتى يقضي لهما حاجتهما. انتهى شرح «الإحياء» .
(و) في «الإحياء» و «كشف الغمّة» : (كان صلى الله عليه وسلم لا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين) - بكسر الميم؛ لغة جميع العرب، إلا بني أسد فبفتحها- من السكون؛ لسكونه إلى النّاس.
قال السيّد محمّد مرتضى الزبيدي في شرح «الإحياء» : هكذا في النسخ!! وفي نسخة العراقي: لا يستكبر أن يمشي مع المسكين.
وقال: رواه النسائي، والحاكم؛ من حديث عبد الله بن أبي أوفى بسند صحيح.
ورواه الحاكم؛ من حديث أبي سعيد وقال: صحيح على شرط الشيخين.
انتهى.
قلت: ولفظ النسائيّ: كان لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين.
وبهذا يظهر أن الذي في سياق المصنف من ذكر الأمة تحريف من النسّاخ! والصواب: الأرملة. ثمّ وجدت في البخاري: إن كانت الأمة لتأخذ بيده صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت.
وعند أحمد: فتنطلق به في حاجتها.
وعنده أيضا: كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها حتّى تذهب حيث شاءت. انتهى كلام السيد محمد مرتضى في شرح «الإحياء» . وستأتي هذه الأحاديث التي ذكرها قريبا.
وكان صلى الله عليه وسلم يكثر الذّكر ويقلّ اللّغو، ويطيل الصّلاة ويقصر الخطبة، وكان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتّى يقضي له حاجته.
(و) أخرج النسائي، والحاكم؛ عن عبد الله بن أبي أوفى، والحاكم عن أبي سعيد الخدري، قال الحاكم: على شرطهما. وأقرّه الذهبيّ. ورواه الترمذيّ في «العلل» عن ابن أبي أوفى، وذكر أنّه سأل عنه البخاريّ؛ فقال: هو حديث تفرّد به الحسين بن واقد؛ قاله المناوي. وقال العزيزي: هو حديث صحيح.
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذّكر) أي: ذكر الله تعالى، (ويقلّ اللّغو) ؛ أي: لا يلغو أصلا. قال ابن الأثير: القلّة تستعمل في نفي الشيء أصلا، ويجوز أن يريد باللغو الهزل والدعابة، أي: أنّه كان منه قليلا. انتهى «مناوي» .
وقال الحفني: «قوله اللغو» ؛ أي: المزاح. فالمراد باللغو غير الذكر من المزاح، فيقع منه قليلا. وهذا أظهر من حمل اللغو على حقيقته، فإنّه حينئذ يضيع قوله «يقل» إذ المعنى حينئذ: لا يلغو أصلا. انتهى.
(ويطيل الصّلاة ويقصر الخطبة)، ويقول:«إنّ ذلك من علامة فقه الرّجل» .
(وكان لا يأنف ولا يستكبر)، تفسير لقوله: لا يأنف.
(أن يمشي مع الأرملة) ؛ أي: التي لا زوج لها، (والمسكين والعبد) ، لأنه سيّد المتواضعين (حتّى يقضي له حاجته) قرب محلّها أو بعد.
وسيأتي حديث مسلم والترمذي؛ عن أنس: أنه جاءت امرأة إليه صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنّ لي إليك حاجة. فقال: «اجلسي في أيّ طرق المدينة شئت أجلس إليك حتّى أقضي حاجتك» .
وفيه بروزه للناس، وقربه منهم ليصل ذو الحقّ إلى حقّه، ويسترشد بأقواله وأفعاله، وصبره على تخمّل المشاقّ لأجل غيره
…
وغير ذلك. انتهى «مناوي» .
وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت.
وعن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه: أنّ امرأة
…
وقد نظم الحافظ العراقي معنى هذا الخبر فأجاد؛ حيث قال:
يمشي مع المسكين والأرملة
…
في حاجة من غير ما أنفة
(و) أخرج البخاريّ في «باب الكبر؛ من كتاب الأدب» تعليقا، ووصله ابن ماجه: كلاهما (عن أنس رضي الله تعالى عنه) : إن (كانت الأمة) أيّ أمة كانت (من إماء أهل المدينة) المنوّرة (لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت) من الأمكنة، ولو كانت حاجتها خارج المدينة.
وفي رواية الإمام أحمد؛ عن أنس: فتنطلق به في حاجتها.
وعند أحمد أيضا إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء؛ فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها حتّى تذهب به حيث شاءت، ويجيب إذا دعي. انتهى. والمقصود من الأخذ باليد لازمه، وهو الانقياد.
قال في «المواهب» : وقد اشتمل الحديث على أنواع من المبالغة في التواضع، لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمّم بلفظ الإماء. أي أيّ أمة كانت، وبقوله «حيث شاءت» أي: من الأمكنة.
والتعبير «باليد» إشارة إلى غاية التصرّف، حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة؛ والتمست مساعدته في تلك الحالة لساعدها على ذلك بالخروج معها، وهذا من مزيد تواضعه صلى الله عليه وسلم وبراءته من جميع أنواع الكبر. ومن ثمّ أورده البخاريّ في «باب الكبر» إشارة إلى براءته منه. انتهى.
(و) أخرج البخاريّ ومسلم، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» - واللفظ لها-:(عن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه أنّ امرأة) . أي: كان في عقلها شيء؛ كما في رواية مسلم.
جاءت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت له: إنّ لي إليك حاجة، فقال:«اجلسي في أيّ طرق المدينة شئت أجلس إليك» .
وعند البخاريّ: امرأة من الأنصار. وفي رواية: ومعها صبيّ.
قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمها! وفي بعض «الحواشي» أنّها أم زفر ماشطة خديجة أمّ المؤمنين. ونوزع فيه، وتردّد البرهان الحلبي في «المقتضى» في أنّها هي أو غيرها؟!! وجزم غيره بأنها هي، لكن نوزع!!.
(جاءت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقالت له: إنّ لي إليك حاجة) ؛ أي: أريد أن أخفيها عن غيرك؛ قاله القاري.
(فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (: «اجلسي» ) - بصيغة المخاطبة-؛ من أمر الحاضر (في أيّ) طريق من (طرق المدينة) المنوّرة (شئت)، أي: في أيّ سكّة من سككها وقيل: المعنى في أيّ جزء من أجزاء طريق المدينة، وليس المراد أيّ طريق يوصل إلى المدينة؛ وإن كان طريق الشيء: ما يوصل إليه!!
(أجلس) ؛ بالجزم جواب الأمر (إليك» ) أي: معك ف «إلى» بمعنى «عند» ، وزاد في رواية مسلم، «حتّى أقضي حاجتك» . قال أنس: فجلست، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم إليها حتّى فرغت من حاجتها؛ تواضعا منه صلى الله عليه وسلم، وملاطفة لسعة حلمه، وبراءته من الكبر.
قال بعضهم: وفيه إيماء وإرشاد إلى أنّه لا يخلو أجنبيّ مع أجنبية، بل إذا عرضت حاجة يكون معها بموضع لا يتطرّق فيه تهمة، ولا يظن به ريبة؛ ككونه بطريق المارّة، وأنّه ينبغي للحاكم المبادرة إلى تحصيل أغراض ذوي الحاجات، ولا يتساهل في ذلك.
وفيه حلّ الجلوس في الطريق لحاجة.
ومحلّ النهي عنه!! إذا لزم عليه الإيذاء للمارّة.
وقد أخرج أبو نعيم في «الدلائل» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:
وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلّى بالنّاس الغداة أقبل عليهم بوجهه فقال: «هل فيكم مريض أعوده؟» ، فإن قالوا: لا..
قال: «فهل فيكم جنازة أتبعها؟» ، فإن قالوا: لا.. قال: «من رأى منكم رؤيا يقصّها علينا» .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ النّاس لطفا، والله؛ ما كان يمتنع في غداة باردة من عبد؛ ولا أمة أن يأتيه بالماء فيغسل صلى الله عليه وسلم وجهه وذراعيه. وما سأله سائل قطّ إلّا أصغى إليه؛ فلا ينصرف حتّى يكون هو الّذي ينصرف، وما تناول أحد يده قطّ إلّا ناوله إيّاها، فلا ينزعها حتّى يكون هو الّذي ينزعها منه.
قال في «المواهب» : إنّ هذا كلّه من كثرة تواضعه صلى الله عليه وسلم، لبروزه للناس وقربه وصبره على المشاقّ لأجل غيره؛ خصوصا امرأة في عقلها شيء. انتهى مع شيء من الشرح.
(و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (كان صلى الله عليه وسلم إذا صلّى بالنّاس الغداة) ؛ أي: الصبح (أقبل عليهم بوجهه؛ فقال: «هل فيكم مريض أعوده؟» ، فإن قالوا: لا؛ قال: «فهل فيكم جنازة أتبعها؟» ، فإن قالوا: لا؛ قال: «من رأى منكم رؤيا يقصّها علينا!» ) أي: لنعبّرها له، لأنّه محبّ لأصحابه؛ وسيّد العارفين بالتعبير، والمطلوب قصّ الرؤيا على حبيب عارف بالتعبير.
قال الحكيم الترمذيّ: كان شأن الرؤيا عنده عظيما؛ فلذلك كان يسأل عنها كلّ يوم، وذلك من إخبار الملكوت من الغيب، ولهم في ذلك نفع في أمر دينهم؛ بشرى كانت؛ أو نذارة؛ أو معاتبة. انتهى.
وقال القرطبيّ: إنّما كان يسألهم عن ذلك؟!! لما كانوا عليه من الصلاح والصدق، وعلم أنّ رؤياهم صحيحة؛ يستفاد منها الاطلاع على كثير من علم الغيب، وليسن لهم الاعتناء بالرؤيا والتشوّق لفوائدها، ويعلّمهم كيفية التعبير، وليستكثر من الاطلاع على الغيب.
وكان صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض،
وقال ابن حجر: فيه أنّه يسنّ قصّ الرؤيا بعد الصبح، وبعد الانصراف من الصلاة.
وأخرج الطبرانيّ والبيهقيّ في «الدلائل» : كان عليه الصلاة والسلام إذا صلى الصبح قال: «هل رأى أحد منكم شيئا» فإذا قال رجل: أنا؛ قال: «خيرا تلقاه وشرّا توقاه، وخيرا لنا وشرّا لأعدائنا. والحمد لله ربّ العالمين؛ اقصص رؤياك..» . الحديث وسنده ضعيف جدّا.
قال ابن حجر: في الحديث 1- إشارة إلى ردّ ما أخرجه عبد الرزاق؛ عن معمر؛ عن سعيد بن عبد الرحمن، عن بعض علمائهم: ولا تقصص رؤياك على امرأة، ولا تخبر بها حتّى تطلع الشّمس. 2- وردّ على من قال من أهل التعبير:
يستحبّ أن يكون تفسير الرّؤيا بعد طلوع الشمس! إلى الرابعة، ومن العصر إلى قبيل المغرب. فإنّ الحديث دلّ على ندب تعبيرها قبل طلوع الشمس! ولا يصحّ قولهم بكراهة تعبيرها في أوقات كراهة الصلاة.
قال المهلّب: تعبير الرؤيا بعد الصبح أولى من جميع الأوقات؛ لحفظ صاحبها لها، لقرب عهده بها، وقلّ ما يعرض له نسيانها، ولحضور ذهن العابر، وقلّة شغله فيما يفكره فيما يتعلّق بمعاشه؛ ليعرض الرائي ما يعرض له بسبب رؤيا. انتهى «مناوي» .
(و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» بإسناد حسن؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض) أي: من غير حائل بل يباشر التراب، (ويأكل على الأرض) أي: من غير مائدة ولا خوان، إشارة إلى طلب التساهل في أمر الظاهر، وصرف الهمّ إلى عمارة الباطن وتطهير القلوب، وتأسّى به أكابر صحبه؛ فكانوا يصلّون على الأرض في المساجد، ويمشون حفاة في الطرقات، ولا يجعلون غالبا بينهم وبين التراب حاجزا في مضاجعهم.
ويعتقل الشّاة، ويجيب دعوة المملوك على خبز الشّعير.
وكان صلى الله عليه وسلم يعود مرضى المساكين
…
قال الإمام الغزاليّ: وقد انتهت النوبة الآن إلى طائفة يسمّون الرعونة «نظافة» ، ويقولون: هي مبنى الدين. فأكثر أوقاتهم في تزيين الظاهر؛ كفعل الماشطة لعروسها والباطن خراب، ولا يستنكرون ذلك، ولو مشى أحدهم على الأرض حافيا؛ أو صلّى عليها بغير سجادة مفروشة أقاموا عليه القيامة، وشدّدوا عليه النكير، ولقّبوه ب «القذر» وأخرجوه من زمرتهم، واستنكفوا عن مخالطته؛ فقد صار المعروف منكرا، والمنكر معروفا. انتهى. ذكره المناوي.
وهذا في زمان الغزاليّ؛ فكيف لو رأى زماننا، ورأى ما فيه من اعتناء الناس بإصلاح الظواهر؟! خصوصا الشباب، فإنّ الواحد منهم يحسّن نفسه ويمشط رأسه ويلبس الملابس الرقيقة الشفّافة؛ أو الملساء البرّاقة، حتّى يصير أشبه بالبنت في الميوعة والتكسّر، تكاد تكون ذهبت منه الرجولة؟! فلا حول ولا قوّة إلّا بالله العزيز الحكيم.
(ويعتقل الشّاة) قال المناوي: أي: يجعل رجليه بين قوائمها ليحلبها؛ إرشادا إلى التواضع وترك الترفّع. (ويجيب دعوة المملوك) يحتمل أنّ المراد إذا أمره سيّده بذلك، لأن المملوك يمتنع عليه الإطعام من مال سيده بغير إذنه (على خبز الشّعير) زاد في رواية: والإهالة السنخة: أي الدّهن المتغيّر الريح.
وعلمه ذلك؛ إمّا بإخبار الداعي، أو للعلم بفقره ورثاثة حاله، أو مشاهدة غالب مأكوله
…
ونحو ذلك من القرائن الحاليّة، فكان لا يمنعه ذلك من إجابته؛ وإن كان حقيرا، وهذا من كمال تواضعه ومزيد براءته من سائر صنوف الكبر وأنواع الترفع. انتهى «مناوي» .
(و)«في كشف الغمّة» : (كان صلى الله عليه وسلم يعود مرضى المساكين) ؛ جمع مسكين بكسر الميم وفتحها؛ مأخوذ من السكون، ويكون بمعنى المتذلّل الخاضع، ومنه
الّذين لا يؤبه لهم، ويخدمهم بنفسه صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم يجيب من دعاه؛ من غنيّ أو فقير أو شريف، ولا يحتقر أحدا.
وكان صلى الله عليه وسلم يجيب إلى الوليمة، ويشهد الجنائز.
قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ أحيني مسكينا وأمتني مسكينا» ، ولا يجوز أن يطلق على النبي صلى الله عليه وسلم أنّه «فقير» أو «مسكين» ، وإن أطلقه على نفسه الشريفة.
(الّذين لا يؤبه) أي: لا يفطن (لهم، ويخدمهم بنفسه) الشريفة، أي:
يباشر خدمتهم بنفسه صلى الله عليه وسلم ؛ تواضعا منه.
(وكان صلى الله عليه وسلم يجيب من دعاه، من غنيّ أو فقير أو شريف) أو وضيع، جبرا لخاطره وتواضعا مع ربّه.
(ولا يحتقر أحدا) ؛ امتثالا لأمره سبحانه بقوله وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)[الشعراء] .
(و) في «الإحياء» و «كشف الغمّة» : (كان صلى الله عليه وسلم يجيب إلى الوليمة) ؛ وهي طعام العرس، وسيأتي حديث «لو دعيت إلى كراع لأجبت» . وفي «الأوسط» للطبرانيّ؛ من حديث ابن عبّاس: كان الرّجل من أهل العوالي ليدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف الليل على خبز الشعير فيجيب، وإسناده ضعيف.
(ويشهد الجنائز) ؛ أي: يحضرها للصلاة عليها، ودفنها؛ هبها لشريف أو وضيع.
روى الترمذي، وابن ماجه وضعّفه، والحاكم وصحّحه؛ من حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال:
كان يعود المريض ويشهد الجنائز. ورواه الحاكم؛ من حديث سهل بن حنيف. وقال: صحيح الإسناد.
وكان صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المرضى،
…
وفي «الصحيحين» وغيرهما عدّة أحاديث في عيادته صلى الله عليه وسلم للمرضى وشهوده الجنائز؛
منها حديث جابر: مرضت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر رضي الله عنه؛ وهما ماشيان
…
الحديث. وقد أخرجه أبو داود. فيتأكّد لأمّته التأسّي به.
وآثر قوم العزلة ففاتهم بها خيرات كثيرة؛ وإن حصل لهم منها خير كثير. ولتشييع الجنازة آداب مبيّنة في كتب الفروع، وسيأتي ذلك في حديث «الشمائل» ، وغيرها.
(و) أخرج أبو يعلى والطبرانيّ في «الكبير» ، والحاكم، عن سهل بن حنيف- بالتصغير- قال في العزيزي: وهو حديث صحيح
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم) في مواطنهم؛ تلطّفا بهم وإيناسا لهم، (ويعود مرضاهم) ؛ أيّ مريض كان؛ حرا أو عبدا، شريفا أو وضيعا. وكان يدنو من المريض ويجلس عند رأسه، ويسأله كيف حاله.
وجاء في فضيلة العيادة أحاديث كثيرة، ولها آداب مبيّنة في محلّها، وللعلامة ابن حجر الهيتمي كتاب «الإفادة في ما جاء في المرضى والعيادة» رسالة مفيدة جدّا، ولم تكن عندي حال الكتابة حتّى أنقل من فوائدها شيئا أتحف به القرّاء.
(ويشهد جنائزهم) أي: للصلاة والدفن، وهو فرض كفاية، وكان إذا شيّع جنازة علا كربه، وأقلّ الكلام، وأكثر حديث نفسه. رواه الحاكم في «الكنى» ؛ عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما.
(و) أخرج أبو داود، والبيهقيّ، والترمذيّ في «الشمائل» - واللفظ لها-؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المرضى) ؛
ويشهد الجنائز ويركب الحمار،
…
الشريف والوضيع، والحرّ والعبد؛ حتّى لقد عاد غلاما يهوديا كان يخدمه؛ فقعد عند رأسه؛ فقال له:«أسلم» فنظر إلى أبيه. فقال له: أطع أبا القاسم. فأسلم، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يقول:«الحمد لله الّذي أنقذه من النّار» .
رواه البخاريّ عن أنس رضي الله تعالى عنه.
وعاد عمّه أبا طالب؛ وهو مشرك، وعرض عليه الإسلام. وقصّته في «الصحيحين» .
وعدّت العيادة تواضعا؛ مع أنّ فيها رضا الله تعالى وحيازة الثواب؛ ففي الترمذيّ وحسّنه مرفوعا: «من عاد مريضا؛ ناداه مناد طبت وطاب ممشاك، وتبوّأت من الجنّة منزلا» . ولأبي داود: «من توضّأ فأحسن الوضوء؛ وعاد أخاه المسلم محتسبا بوعد من جهنّم سبعين خريفا..» إلى غير ذلك!!!
لما فيها من خروج الإنسان عن مقتضى جاهه وتنزّهه عن مرتبته إلى ما دون ذلك.
وكان صلى الله عليه وسلم يدنو من المريض ويجلس عند رأسه ويسأل عن حاله؛ ويقول:
«كيف تجدك!!» أو «كيف أصبحت» ، أو «كيف أمسيت» ، أو «كيف هو» ، ويقول:«لا بأس عليك، طهور إن شاء الله تعالى» ، أو «كفّارة وطهور» .
وقد يضع يده على المكان الذي يألم؛ ثم يقول: «باسم الله أرقيك من كلّ داء يؤذيك، الله يشفيك» . انتهى ذكره العلامة ملا علي قاري في «جمع الوسائل» .
( [ويشهد الجنائز] ، ويركب الحمار) ؛ بل عريانا أحيانا؛ مع قدرته على غيره من الناقة والفرس والجمل، وربما كان يردف أحدا معه؛ كما سيأتي.
وتأسّى به في ذلك أكابر السلف
…
أخرج ابن عساكر أنّ سالم بن عبد الله بن
ويجيب دعوة العبد.
وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف وعليه إكاف.
عمر كان له حمار هرم، فنهاه بنوه عن ركوبه فأبى، فجدعوا أذنه، فأبى أن يدعه وركبه، فجدعوا الآخرى، فركبه فقطعوا ذنبه؛ فصار يركبه مجدوع الأذنين مقطوع الذنب.
قال الباجوري: وقد كان أكابر العلماء قبل زماننا هذا يركبون الحمير، واطّردت عادتهم الآن بركوب البغال. انتهى.
والآن مع ظهور هذه المخترعات الحديثة كالسيارات والطيارات؛ اكتفى النّاس بها وتركوا ركوب الدّواب إلّا قليلا.
(ويجيب دعوة العبد) وفي رواية: المملوك، فيجيبه لأمر يدعوه له؛ من ضيافة وغيرها. وروى ابن سعد: كان يقعد على الأرض، ويأكل على الأرض، ويجيب دعوة المملوك. وهذا من مزيد تواضعه صلى الله عليه وسلم وبراءته من جميع أنواع الكبر، ولله درّ الحافظ العراقي حيث يقول:
يردف خلفه على الحمار
…
على إكاف غير ذي استكبار
يمشي بلا نعل ولا خفّ إلى
…
عيادة المريض حوله الملا
(وكان) راكبا (يوم بني قريظة)، وفي رواية لأبي الشيخ: يوم خيبر ويوم قريظة والنضير، وبنو قريظة- بصيغة التصغير، والقاف والراء المهملة والظاء المشالة، ثمّ [تاء التأنيث]-: قوم من اليهود بقرب المدينة، أي: يوم الذهاب إليهم لحربهم، وكان ذلك عقب الخندق (على حمار مخطوم) في أنفه (بحبل) ؛ أي: مجعول له خطام- بكسر الخاء المعجمة- وهو: الزمام (من ليف) - بكسر اللام والفاء آخره- بشيء يتّخذ من النخل، ويفتل حبالا. (وعليه) أي: الحمار (إكاف) - بكسر الهمزة وكاف وألف وفاء آخره؛ بزنة كتاب، و [أكاف] بضمّ
و (الخطام) : الزّمام. و (الإكاف) : البرذعة.
وعن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشّعير
…
كغراب، ويقال: وكاف- بالواو- وهو: رحل يوضع على ظهر الحمار للركوب عليه يسمّى في بعض البلدان ب «البرذعة» . وبعضهم يسمّيه «الشّدّ» ؛ وهو لذوات الحافر بمنزلة السّرج للفرس.
وهذا نهاية التّواضع، وأيّ تواضع!! وقد ظهر له صلى الله عليه وسلم من نصر الله عليهم، والظفر بهم، وبأموالهم ما هو معروف.
وفيه أنّ ركوب الحمار ممّن له منصب شريف لا يخلّ بمروءته.
وروى النسائيّ، وابن حبّان؛ عن ابن مسعود: أنّهم كانوا يوم بدر كلّ ثلاثة على بعير، فكان أبو لبابة وعليّ زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا جاءت عقبته؛ قالا: نحن نمشي عنك، فيقول:«ما أنتما بأقوى مني، وما أنا بأغنى عن الآخرة منكما» انتهى مناوي على «الشمائل» .
(والخطام) - بخاء معجمة وطاء مهملة- وهو: (الزّمام) الذي تقاد به الدابّة، (والإكاف) - بكسر الهمزة وكاف؛ آخره فاء؛ بزنة كتاب- هو (البرذعة) - بالذال والدال- وهي: حلس تجعل تحت الرّحل، والجمع البراذع؛ هذا هو الأصل، وفي عرف زماننا: هي للحمار ما يركب عليه؛ بمنزلة السّرج للفرس، والرحل للبعير، وهذه البرذعة التي يركب عليها يسمّيها بعضهم بهذا الاسم؛ أعني برذعة، وبعضهم يسميّها:«الشدّ» - بالشين المعجمة والدال المهملة-، ويخصّ اسم البرذعة بما تحت الشدّ، فيجتمع على ظهر الحمار شيئين الشدّ؛ وهو ما يركب عليه والبرذعة: وهي ما تحت الشدّ على هذا القول الأخير. والله أعلم.
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ، وابن ماجه في «سننه» - واللفظ ل «الشمائل» -؛ (عن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه:
كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشّعير.
والإهالة السّنخة، فيجيب، ولقد كان له درع عند يهوديّ فما وجد ما يفكّها حتّى مات.
والإهالة: السّنخة) - بفتح السين وكسر النون؛ فالخاء المعجمة- أي: الدّهن المتغيّر الريح من طول المكث. ويقال الزّنخة- بالزاي بدل السين-.
ويؤخذ من ذلك جواز أكل المنتن من لحم وغيره؛ حيث لا ضرر.
(فيجيب) دعوة من دعاه، (ولقد كان له درع) - بكسر الدال المهملة- زاد البخاريّ: من حديد. وفي نسخة من «الشمائل» : كانت بالتأنيث وهي أولى، لأن درع الحديد مؤنّثة، لكن أجاز بعضهم فيه التّذكير.
وهذه الدرع هي «ذات الفضول» التي أرسل بها إليه سعد بن عبادة- كما قاله ابن القيّم- رهنها صلى الله عليه وسلم (عند يهوديّ) هو أبو الشحم؛ في ثلاثين صاعا من شعير؛ كما رواه البخاريّ، وأحمد، وابن ماجه، والطبرانيّ وغيرهم.
وفي عشرين صاعا من طعام أخذه لأهله؛ كما قاله الترمذيّ في «الجامع» ، والنسائي في «سننه» .
وجمع بينهما بأنّه أخذ أوّلا عشرين؛ ثم عشرة! أو لعلّها كانت دون ثلاثين وفوق العشرين، فمن قال «ثلاثين) جبر الكسر، ومن قال «عشرين) ألغاه.
وهل هذه العشرون اشتراها منه، أو اقترضها منه!؟ قولان في ذلك، وكان الشراء إلى أجل سنة؛ كما في البخاري. وإنّما عامل صلى الله عليه وسلم اليهوديّ ورهن عنده؛ دون الصحابة؟! لبيان جواز معاملة اليهود وجواز الرهن بالدّين؛ حتى في الحضر، وإن كان القرآن مقيّدا بالسّفر!! لكونه الغالب، ولأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لا يأخذون منه رهنا، ولا يتقاضون منه ثمنا، فعدل إلى اليهودي لذلك.
(فما وجد ما يفكّها) - بضم الفاء وتشديد الكاف- أي: يخلّصها (حتّى مات) وافتكّها بعده أبو بكر وسلّمها إلى عليّ.
لكن روى ابن سعد؛ عن جابر أنّ أبا بكر قضى عداته، وأنّ عليّا قضى ديونه.
و (الإهالة السّنخة) وفي رواية: الزّنخة؛ هي: الدّهن المتغيّر الرّيح من طول المكث.
وعن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أهدي إليّ كراع.. لقبلت،
…
وفي ذلك بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الزهد والتقلّل من الدنيا والكرم الذي ألجأه إلى رهن درعه. وحديث «نفس المؤمن مرهونة بدينه حتّى يقضى عنه» !! مقيّد بمن لم يخلّف وفاء، مع أنّه في غير الأنبياء. انتهى باجوري، و «جمع الوسائل» .
(والإهالة) - بكسر الهمزة وتخفيف الهاء ولام- (: السّنخة) - بفتح السين المهملة وكسر النون وفتح الخاء المعجمة وهاء آخره-.
(- وفي رواية: الزّنخة-) بزاي بدل السّين. قال الزمخشريّ: سنخ وزنخ إذا تغيّر وفسد، والأصل السين، والزّاي بدله.
(هي) أي الإهالة السّنخة (: الدّهن المتغيّر الرّيح من طول المكث) يقال:
سنخ الدهن وزنخ إذا تغيّر.
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أهدي) - بصيغة المجهول- أي: لو أرسل هديّة (إليّ كراع) - بضم الكاف؛ كغراب: ما دون الكعب من الدوابّ، وقيل: مستدقّ الساق من الغنم والبقر، يذكّر ويؤنّث، والجمع: أكرع؛ ثم أكارع. وفي المثل «أعطي العبد كراعا؛ فطلب ذراعا» ؛ لأنّ الذراع في اليد والكراع في الرجل، والذّراع خير من الكراع.
(لقبلت) ، ولم أردّه على المهدي؛ وإن كان حقيرا، جبرا لخاطره ليحصل التحابب والتالف، فإنّ الردّ يحدث النّفور والعداوة، فيندب قبول الهديّة؛ ولو لشيء قليل.
ولو دعيت عليه.. لأجبت» .
(ولو دعيت) بصيغة المجهول (عليه) أي: إليه- كما في نسخة من «الشمائل» - أي: لو دعاني إنسان إلى ضيافة كراع غنم (لأجبت» ) أي: الداعي ولم أتكبّر، لا على داع؛ ولو كان حقيرا، ولا على مدعوّ إليه؛ ولو كان صغيرا، لأن القصد من الإجابة تأليف الداعي؛ وزيادة المحبة. وعدم الإجابة يقتضي النّفرة؛ وعدم المحبّة، فيندب إجابة الدعوة؛ ولو لشيء قليل.
وفيه حسن خلق المصطفى صلى الله عليه وسلم وحسن تواضعه، وجبره للقلوب بإجابة الداعي، وإن قلّ الطعام المدعوّ إليه جدا، والحثّ على المواصلة والتّحابب.
وفي «الجامع الصغير» إنّ هذا الحديث بهذا اللفظ رواه الإمام أحمد، والترمذيّ، وابن حبان؛ عن أنس.
قال المناوي في «شرح الجامع» : ورواه البخاريّ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في مواضع من «النكاح» وغيره؛ بلفظ: «لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت» .
وقال المناوي في «شرح الشمائل» : قال الحافظ ابن حجر: زعم بعضهم 1- أنّ المراد بالكراع المكان المعروف ب «كراع الغميم» محلّ بين الحرمين، و 2- أنّه أطلق ذلك مبالغة في الإجابة؛ ولو بعد المكان، لكن الإجابة مع حقارة الشيء أبلغ في المراد.
وذهب الجمهور إلى أنّ المراد كراع الشاة!! قال: وحديث «الشمائل» يؤيّده. انتهى.
وقال في «شرح الجامع الصغير» : قال ابن حجر: وأغرب في «الإحياء» فذكر الحديث بلفظ «كراع الغنم» !! ولا أصل لهذه الزيادة. انتهى.
وعنه أيضا قال: حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رحل رثّ، وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، فقال:«اللهمّ؛ اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة» .
(و) أخرج ابن ماجه، والترمذيّ في «الشمائل» واللفظ له- بسند ضعيف، وله شاهد ضعيف؛ ذكره في «جمع الوسائل» - وكذا أخرجه البيهقيّ: كلهم؛
(عنه) أي: أنس بن مالك (أيضا) رضي الله [تعالى] عنه (قال: حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة في حجّة الوداع (على رحل) أي: قتب (رثّ) - بفتح الراء المهملة وتشديد المثلاثة- أي: خلق بال، والرّحل للجمل كالسّرج للفرس، أي:
حال كونه صلى الله عليه وسلم راكبا على قتب بال، (وعليه) أي: الرّحل، كما هو أنسب بالسياق.
ويؤيده قوله في رواية أخرى «على رحل وقطيفة» فأفادت أنّ ضمير «عليه» ليس للمصطفى [صلى الله عليه وسلم] . (قطيفة) أي: كساء من صوف له خمل، وهو: هدب القطيفة، أي: الخيوط التي بطرفه المرسلة من السّدى من غير لحمة عليها (لا تساوي) أي: لا يبلغ مقدار ثمنها (أربعة دراهم) ، لأنه في أعظم مواطن التواضع، لا سيّما والحجّ حالة تجرّد وإقلاع، وخروج عن المواطن سفرا إلى الله!! ألا ترى ما فيه من الإحرام!! ومعناه: إحرام النفس من الملابس؛ تشبيها بالفارّين إلى الله، ومن الوقوف الذي يتذكّر به الوقوف بين يدي الله تعالى، فكان التواضع في هذا المقام من أعظم المحاسن، لأن الحجّ من أعظم شعائره التواضع وإظهار الافتقار إلى الله تعالى، ومنع النفس من التلذّذ والملابس؛
(فقال: «اللهمّ؛ اجعله) أي: اجعل حجّي هذا (حجّا) - بفتح الحاء وكسرها- (لا رياء فيه) الرياء: العمل لغرض مذموم؛ كأن يعمل ليراه الناس.
(ولا سمعة» ) - بضمّ السين، فسكون الميم- وهي: أن يعمل العمل وحده، ثم يتحدّث بذلك ليسمع الناس ويصير مشهورا به؛ فيكرم ويعظم جاهه في قلوبهم.
وفي الحديث: «من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به» ، فتضرّع صلى الله عليه وسلم إلى
و (القطيفة) : كساء له خمل.
هذا.. وقد فتحت عليه الأرض، وأهدى في حجّه ذلك مئة بدنة.
ولمّا فتحت عليه مكّة
…
الله وسأله عدم الرّياء والسمعة مع كمال بعده عنهما؛ تخشّعا، وتذلّلا، وعدّا لنفسه كواحد من الآحاد، وهذا من عظيم تواضعه، إذ لا تتطرّق السمعة إلّا لمن حجّ على المراكب النفيسة، والملابس الفاخرة، والأغشية المحبّرة، والأكواب المفضّضة
…
إلى غير ذلك مما هو مكروه كما يفعله أهل زماننا؛ لا سيّما علماؤنا!!.
هذا؛ مع أنّه صلى الله عليه وسلم أهدى في هذه الحجة مائة بدنة، وأهدى أصحابه ما لا يسمح به أحد، ومنهم سيّدنا عمر بن الخطاب أهدى فيما أهدى بعيرا أعطي فيه ثلثمائة دينار فأبى قبولها. انتهى من المناوي على «الشمائل» .
(والقطيفة) - بقاف مفتوحة فطاء مهملة؛ فمثنّاة تحتيّة ففاء فهاء آخره؛ بزنة:
الصّحيفة- (: كساء) من صوف (له خمل) - بفتح الخاء المعجمة وإسكان الميم؛ بزنة فلس- وهو: هدب القطيفة، أي: الخيوط التي بطرفه المرسلة من السّدى من غير لحمة عليها.
(هذا) أي: فعله صلى الله عليه وسلم هذا واختياره رثّ الثياب والمركب؛ (و) الحال أنّه (قد فتحت عليه الأرض)، وألقت أفلاذها من ذهب وغيره (وأهدى) كما روى مسلم عنه (في حجّه ذلك) عام حجة الوداع (مائة بدنة) أي: ناقة تقرّبا إلى الله تعالى، وإرشادا لمن يقتدي به، وإيماء إلى أن ترك تكلّفه في ثوبه ومركوبه لم يكن عن عجز وافتقار به، وقد نقل أنه صلى الله عليه وسلم نحر بيده الكريمة ثلاثا وستين بقدر سنيّ عمره، وأمر عليّا كرّم الله وجهه بنحر البقية في يومه.
(ولمّا فتحت عليه مكّة) في شهر رمضان الكريم لتسع عشرة ليلة خلت منه؛
ودخلها بجيوش المسلمين.. طأطأ على رحله رأسه حتّى كاد يمسّ قادمته؛ تواضعا لله تعالى.
وكان صلى الله عليه وسلم يركب ما يمكنه، فمرّة فرسا،
…
فيما رواه ابن إسحاق والبيهقيّ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها، والحاكم، والبيهقيّ، وأبو يعلي؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا فتحت عليه مكّة (ودخلها بجيوش المسلمين) وعددهم!! قيل: ثمانية آلاف، وقيل: عشرة آلاف، وقيل: اثنا عشر ألفا (طأطأ) - بهمزتين أولاهما ساكنة وثانيهما مفتوحة- أي: خفض وأرخى (على رحله رأسه) مفعول «طأطأ» (حتّى كاد) ؛ أي:
قارب صلى الله عليه وسلم (يمسّ) - بفتح الميم- كقوله تعالى لا يَمَسُّهُ [79/ الواقعة] أي: يصيب برأسه، أو قارب رأسه أن يمسّ (قادمته) ؛ أي: مقدّمة رحله، لأنّ الرحل له مقدّم ومؤخّر مرتفع عن محل الراكب، وفيها لغات: قادم، وقادمة، ومقدّم، ومقدمة؛ بكسر الدال مخففة، و [مقدّمة] فتحها مشدّدة- وكذا آخره الرّحل (تواضعا لله تعالى) ؛ مفعول لأجله، وفيه إيماء إلى ما يشير إليه قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) [البقرة] أي: متواضعين، لا متكبرين؛ كالجبارين.
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم أن ركب الجمل؛ دون الفرس وعلى رأسه مغفر فوقه عمامة سوداء، وأردف خلفه أسامة رضي الله تعالى عنه- كما سيأتي-.
(و) في «الإحياء» و «كشف الغمّة» : (كان صلى الله عليه وسلم يركب ما يمكنه، فمرّة فرسا) . روى الشيخان؛ من حديث أنس رضي الله تعالى عنه ركوبه صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة؛ وسيأتي.
ولمسلم؛ من حديث سمرة ركوبه الفرس عريا حين انصرف من جنازة ابن الدّحداح،
ولمسلم؛ من حديث سعد: كان للنبي صلى الله عليه وسلم فرس يقال له «اللّحيف» .
ومرّة بعيرا، ومرّة بغلة، ومرّة حمارا، ومرّة يمشي راجلا حافيا، بلا رداء ولا قلنسوة، ليعود المرضى في أقصى المدينة.
وكان صلى الله عليه وسلم يركب الحمار عريا، ليس عليه شيء.
وركب صلى الله عليه وسلم الفرس مسرجة تارة، وعريانة أخرى،
(ومرّة) يركب (بعيرا) . روى الشيخان؛ من حديث البراء، ومن حديث ابن عبّاس: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير.
(ومرّة) يركب (بغلة) . روى الشيخان؛ من حديث البراء: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء يوم حنين.
(ومرّة) يركب (حمارا) . روى الشيخان؛ من حديث أسامة أنّه صلى الله عليه وسلم ركب على حمار إكاف
…
الحديث.
(ومرّة يمشي راجلا) ؛ أي: على قدميه (حافيا) : أي: بلا نعل (بلا رداء ولا قلنسوة، ليعود المرضى في أقصى المدينة) .
روى الشيخان؛ من حديث ابن عمر كان يأتي قباء راكبا وماشيا.
وروى مسلم؛ من حديث ابن عمر في عيادته صلى الله عليه وسلم لسعد بن عبادة، فقام وقمنا معه؛ ونحن بضعة عشر: ما علينا نعال؛ ولا خفاف؛ ولا قلانس؛ ولا قمص نمشي في السّباخ.
(وكان صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن حمزة بن عبد الله بن عتبة مرسلا (يركب الحمار عريا) - بضمّ العين المهملة، وإسكان الراء- أي:(ليس عليه شيء) مما يشدّ على ظهره: من نحو إكاف وبرذعة؛ تواضعا، وهضما لنفسه وتعليما وإرشادا. قال ابن القيم: لكن كان أكثر مراكبه الخيل والإبل. انتهى «مناوي» .
(وركب صلى الله عليه وسلم الفرس مسرجة تارة) ؛ وهو الغالب من أحواله صلى الله عليه وسلم (وعريانة) أي: بلا إكاف تارة (أخرى) ؛ وهو قليل، واستعمال عريانة وصفا للفرس! غير
وكان يجري بها في بعض الأحيان.
وكان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى العيد ماشيا، ويرجع ماشيا.
وكان صلى الله عليه وسلم يتوكّأ إذا مشى.
وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس براكب بغل ولا برذون.
معروف، فإنّ الذي صرّح به أهل اللغة أنّه لا يقال فرس عريان؛ كما لا يقال رجل عري.
(وكان يجري بها في بعض الأحيان) رواه الشيخان؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت فتلقّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت، واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري، والسيف في عنقه؛ وهو يقول:«لن تراعوا» . وفي رواية: فلما رجع؛ قال: «ما رأينا من شيء؛ وإن وجدناه لبحرا» . أي: واسع الجري.
(و) أخرج ابن ماجه؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى العيد) أي: صلاته (ماشيا) ؛ لا راكبا، (ويرجع ماشيا) في طريق آخر ليسلّم على أهل الطريقين، وليتبرّكا به، وليقضي حاجتهما وليظهر الشّعار فيهما، وليغيظ منافقيها، فتخالف الطريق لذلك ولغيره من الحكم التي لا يخلو فعله عنها، ولأنّ الطريقين يشهدان له، ففيه تكثير الشهود، وقد ندب المشي إلى الصلاة؛ تكثيرا للأجر. (و) في «كنوز الحقائق» للمناوي (كان صلى الله عليه وسلم يتوكّأ إذا مشى) رمز له ابن عساكر.
(و) أخرج أبو داود، والترمذي في «الشمائل» ؛- واللفظ لها-.
(عن جابر رضي الله تعالى عنه؛ قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني؛ كما في رواية أبي داود (ليس براكب بغل ولا برذون) ، بل كان على رجليه ماشيا، كما
وكان صلى الله عليه وسلم يردف خلفه عبده أو غيره،
…
صرّحت به رواية البخاريّ وغيره؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، وأبو بكر وهما ماشيان، فكان صلى الله عليه وسلم لتواضعه يدور على أصحابه ماشيا.
والمراد أنّ الركوب ليس عادة مستمرّة له، فلا ينافي أنّه ركب في بعض المرّات.
والبرذون- بكسر الموحدة وسكون الراء وفتح الذال المعجمة- هو: الفرس الأعجميّ، وهو أصبر من العربيّ، وفي «المغرب» : هو التركيّ من الخيل، والجمع البراذين وخلافها العراب، والأنثى برذونة. انتهى «باجوري، وجمع الوسائل» .
(و) في «الإحياء» و «كشف الغمّة» : (كان صلى الله عليه وسلم يردف) - بضمّ التحتية- (خلفه عبده أو غيره) ؛ ذكرا كان أو أنثى، صغيرا أو كبيرا.
قال الخفاجي في «نسيم الرياض؛ شرح شفاء القاضي عياض» : ذكروا أنّ جميع من أردفه النبي صلى الله عليه وسلم على فرس؛ أو غيره في سفره وحضره بلغ أربعين:
وهم 1- أبو بكر الصديق في الهجرة رضي الله عنه، و 2- عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ راجعا من بدر. و 3- علي كرّم الله وجهه؛ في حجة الوداع، و 4- أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما؛ مرجعه من عرفة. و 5- عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما بين يديه، وأسباطه الثلاثة: 6- الحسين، و 7- الحسن، و 8- علي بن أبي العاص؛ مع: 9/ 10- غلامين من بني هاشم، وأولاد عبّاس الأربعة: 11- عبد الله، و 12- عبيد الله، و 13- الفضل، و 14- قثم، و 15- معاوية رضي الله عنه، و 16- معاذ بن جبل؛ على عفير.
و17- أبو ذرّ، على حمار، و 18- زيد بن حارثة رضي الله عنه، و 19- ثابت بن الضحاك، و 20- الشريد بن سويد رضي الله عنه، و 21- سلمة بن الأكوع،
.........
و22- أبو طلحة الأنصاريّ؛ زوج أم سليم، و 23- سهيل بن بيضاء، و 24- عبد الله بن الزّبير، و 25- غلام مطلبيّ، و 26- أسامة بن عمير، و 27- صفية بنت حييّ؛ مقدمه من خيبر، و 28- أبو الدرداء، و 29- آمنة بنت أبي الصلت، و 30- أبو إياس، و 31- أبو هريرة، و 32- قيس بن سعد بن عبادة، و 33- خوات بن جبير، و 34- زيد بن أرقم، و 35- أم حبيبة الجهنية رضي الله عنها، و 36- جابر بن عبد الله، و 37- جبريل عليه السلام؛ على البراق في الإسراء انتهى.
وفي «فتح الباري» للحافظ ابن حجر أنّ الحافظ يحيى بن عبد الوهاب بن الحافظ الكبير أبي عبد الله بن منده أفرد أسماء من أردفه النبي صلى الله عليه وسلم في جزء؛ فبلغوا ثلاثين نفسا، وذكر غير الحافظ أنّه بلّغهم نحو الخمسين، وذكر كثيرا منهم العلّامة إبراهيم بن أحمد الخليل الزّبيدي اليمني في «المنهج الأعدل شرح مولد الأهدل» .
قال الخفاجي في «نسيم الرياض» : وزاد ابن منده غير هؤلاء، ونظمهم أبو ذرّ بن موفّق الدين؛ فقال:
وأردافه جمّ غفير فمنهم
…
عليّ وعثمان شريد وجبريل
وأولاد عبّاس ذوو الرّشد والهدى
…
أسامة والدّوسيّ؛ وهو نبيل
معاوية قيس بن سعد صفيّة
…
وسبطاه ماذا عنهم سأقول!؟
معاذ أبو الدّردا صديّ وعقبة
…
وآمنة إن قام ثمّ دليل
كذلك خوّات الظّريف وسبطه
…
عليّ ووجه النّقل فيه جميل
أسامة والصّدّيق ثمّ ابن جعفر
…
وزيد وعبد الله ثمّ سهيل
كذا بنت قيس خولة وابن أكوع
…
وقدرهم في العالمين جليل
كذلك زيد جابر ثمّ ثابت
…
فعن حبّهم والله لست أحول
ثلاثة غلمان وزد معهم أبا
…
إياس وحسبي الله وهو وكيل
وقد شرح هذا النظم العلّامة شيخ الإسلام مفتي الديار اليمنية السيد: محمد بن
.........
أحمد عبد الباري الأهدل المراوعي؛ مؤلف «الكواكب الدريّة شرح متممة الآجرومية» المتوفى سنة: ثمان وتسعين ومائتين وألف هجرية رحمه الله تعالى في رسالة سماها «إتحاف النّجباء الظّراف بمن ثبت لهم من النبي صلى الله عليه وسلم الإرداف» .
والفقير مؤلّف هذا الكتاب سيعلّق على هذه الأبيات من الشرح المذكور آنفا:
قوله وأردافه- بفتح الهمزة- جمع: رديف؛ أي الذين أردفهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله عليّ ذكر حديثه ابن القيّم في «الهدي النبوي» ، وذكر أبو داود والنسائي فيه حديثا آخر عن رافع بن عمر المزنيّ رضي الله عنه.
وقوله شريد؛ أي: ابن سويد الثقفي أبو عمرو، ذكر حديثه البخاريّ في «الأدب المفرد» عنه.
وقوله وجبريل قال في «الشرح» : صحّ أنّه حمله على البراق رديفا له، وذلك في ليلة الإسراء. ورواه الإمام أحمد بلفظ: على ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس. قال ابن حجر المكيّ: وأوّل ذلك بعضهم بما لا حاجة إليه، إذ ركوب جبريل معه لا ينافي كونه في خدمته. انتهى.
وقوله وأولاد عبّاس، فأمّا عبد الله- بالتكبير-!! فروى حديثه الإمام أحمد، والترمذي؛ عنه رضي الله عنه. وأمّا عبيد الله- بالتصغير-!! فروى حديثه النسائيّ وغيره. وأمّا الفضل!! فحديثه في «الصحيح» ، وكذا قثم حديثه في «الصحيح» أيضا.
قوله أسامة: أي ابن زيد بن حارثة حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم روى حديثه الإمام أحمد، والبخاريّ، ومسلم.
وقوله والدوسي؛ يريد أبا هريرة رضي الله تعالى عنه، وقصة إردافه ذكرها المحبّ الطبريّ في «سيرته» . وروى الإمام محمد بن جابر الفقيه في كتاب «الدلائل» له؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم؛
.........
فقال: «يا أبا هريرة؛ هلك الأكثرون، إنّ الأكثرين هم الأقلّون يوم القيامة
…
»
وذكر الحديث، وفيه قصّة الجمل الذي كلّمه في الحائط «1» .
قوله معاوية قيس؛ ذكر في الشرح أحاديثهما بغير عزو.
وقوله صفيّة روى حديثهما البخاريّ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه.
قوله وسبطاه: الحسن والحسين؛ ذكر حديثهما مسلم بن الحجّاج؛ عن سلمة بن الأكوع، وكذلك روى حديثهما مسلم، وأبو داود، والنسائيّ؛ من طريق مورق العجلي، عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما.
قوله معاذ؛ أي: ابن جبل، روى حديثه الإمام أحمد والشيخان، والترمذيّ عنه؛ ورواه البزّار بسند رجاله ثقات؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
قوله أبو الدرداء؛ ذكر في «الشرح» حديثه بدون عزو.
قوله صدي أي: ابن عجلان أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه؛ ذكر حديثه في «الشرح» غير معزوّ، ثم قال: وأصله في أبي داود والترمذي وغيرهما.
وقوله عقبة؛ يعني ابن عامر. قال في «الشرح» : لم أقف على قصّة إردافه!! قال: ولم يذكر أحد من علماء الحديث والسّير: أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف عقبة بن عامر الجهني؛ قاله القسطلّانيّ.
قوله وآمنة- بالنون- قيل: أمّه آمنة بنت وهب؛ وقيل غيرها؛ وهو أقرب لكنه لم يبيّنها في «الشرح» . قال: وبعضهم ضبطه أميّة- بضمّ الهمزة وبالياء التحتية المشدّدة- ويظهر لي أنّه وهم!! وقد جرى على ذلك إبراهيم بن أحمد الخليل في «شرح مولد الأهدل» فقال: وأميّة الغفاري. انتهى
قوله كذلك خوّات؛ أي: ابن جبير الأنصاري رضي الله عنه؛ ذكره ابن منده، وقال: كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا خرج إلى بدر، فردّه من الرّوحاء، لأنّه اشتكى.
(1) تقدّم، وهو الذي شكا أصحابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى منعهم عنه.
.........
قوله: وسبطه علي أي: ابن أبي العاص بن الربيع؛ أمّه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذكر حديثه الزبير بن بكّار، وذكره في «مختصر الاستيعاب» لابن عبد البر.
قوله أسامة؛ أي: ابن عمير الهذلي رضي الله عنه، روى حديثه الطبرانيّ برجال الصحيح عنه رضي الله عنه.
قوله والصديق؛ أي: أبو بكر الصديق، روى حديثه الإمام أحمد، والبخاريّ وغيرهما؛ عن أنس رضي الله عنه.
قوله ابن جعفر- يعني: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما- روى حديثه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود وغيرهم عنه. ورواه أيضا مسلم والنّسائي وغيرهما.
قوله وزيد؛ أي: ابن حارثة حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى حديثه أبو يعلى عنه رضي الله عنه.
قوله وعبد الله؛ يعني: ابن الزبير، روى حديثه البخاريّ، ومسلم، والإمام أحمد.
قوله ثم سهيل؛ أي: ابن بيضاء رضي الله عنه ابن وهب بن ربيعة بن هلال، توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى حديثه الإمام أحمد والطبرانيّ في «الكبير» ، وابن أبي شيبة وغيرهم عنه رضي الله عنه.
قوله كذا بنت قيس خولة؛ وهي بنت قيس بن قهد- بالقاف- الأنصاري؛ تكنّى «أمّ محمد» وهي امرأة سيّدنا حمزة رضي الله عنه، روى لها البخاريّ والترمذي وغيرهما
قال في «الشرح» ؛ ولم أقف على قصّة إردافه لها، ولعلّه في بعض مغازيه!.
قوله وابن أكوع؛ هو سلمة بن عمرو بن وهب بن سنان، وهو الأكوع الأسلمي
.........
رضي الله عنه، روى حديث إردافه البخاريّ ومسلم عنه.
ورواه أيضا الطبرانيّ بسند رجاله ثقات عنه.
قوله كذلك زيد؛ يعني: ابن ثابت، أو زيد بن أرقم، أو زيد بن سهل؛ أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنهم، إذ كلّ من هؤلاء الثلاثة قد عدّ فيمن أردفه النبيّ صلى الله عليه وسلم!! ولم أقف على قصّة إردافه لكلّ منهم!! غير أنّ ذلك مصرّح به في كتب السّير.
قوله جابر؛ يعني: ابن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، روى حديثه إبراهيم الحربيّ في «غريبه» ، وابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه.
قوله ثم ثابت؛ يريد: ابن الضحّاك بن خليفة الأنصاري الأشهلي، قال أبو زرعة الرازي: هو من أهل الصّفّة، وممن بايع تحت الشجرة، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، ودليله إلى حمراء الأسد.
قوله ثلاثة غلمان روى حديثهم البخاريّ في «الصحيح» .
قوله أبا إياس رضي الله عنه، روى حديثه ابن منده والحارث بن أبي أسامة عنه رضي الله عنه. انتهى.
وهذا آخر التعليق من شرح الأبيات للسيد العلّامة محمد بن أحمد عبد الباري الأهدل رحمه الله تعالى.
ثم رأيت في كتاب «دليل الفالحين شرح رياض الصالحين» للعلامة الشيخ محمد بن علي بن علّان المكّي رحمه الله تعالى ما نصّه:
وقد تتبعت الذين أردفهم النبيّ صلى الله عليه وسلم معه على دابّته، فبلغت بهم فوق الأربعين، وجمعتهم في جزء سمّيته «تحفة الأشراف بمعرفة الأرداف» ، وقد نظمت اسم جماعة منهم، وأوردته في آخر ذلك الجزء؛ وها هو:
لقد أردف المختار طه جماعة
…
فسنّ لنا الإرداف إن طاق مركب
وتارة يردف خلفه وقدّامه، وهو في الوسط.
ولمّا قدم صلى الله عليه وسلم مكّة استقبله أغيلمة بني عبد المطّلب، فحمل واحدا بين يديه، وآخر خلفه.
أبو بكر عثمان عليّ أسامة
…
سهيل سويد جبرائيل المقرّب
صفيّة والسّبطان، ثمّ ابن جعفر
…
معاذ وقيس والشّريد المهذّب
وآمنة مع خولة وابن أكوع
…
وزيد أبو ذرّ سما ذاك جندب
معاوية زيد وخوّات ثابت
…
كذاك أبو الدّرداء في العدّ يكتب
وأبناء عبّاس وابن أسامة
…
صديّ بن عجلان حذيفة صاحب
كذلك جا فيهم أبو هريرة من روى
…
ألوفا من الأخبار تروى وتكتب «1»
وعدّ من الأرداف يا ذا أسامة
…
هو ابن عمير ثمّ عقبة يحسب
وأردف غلمانا ثلاثا كذا أبو
…
إياس وأنثى من غفار تقرّب
وأردف شخصا، ثمّ أردف ثانيا
…
وما سمّيا فيما روي يا مهذّب
أولئك أقوام بقرب نبيّهم
…
لقد شرفوا طوبى لهم يا مقرّب
(وتارة يردف) - بضمّ أوّله؛ من الإرداف- والرّدف والرّديف: الراكب خلف الراكب بإذنه؛ قاله في «المواهب» . (خلفه) أي: من ورائه (وقدّامه) أي:
أمامه، (وهو) صلى الله عليه وسلم يكون (في الوسط)، وقد بيّن ذلك في قوله:
(ولمّا قدم صلى الله عليه وسلم مكّة استقبله أغيلمة) - تصغير الغلمة: جمع الغلام- وهو شاذّ، والقياس غليمة؛ قاله الكرماني. انتهى «زرقاني»
(بني عبد المطّلب، فحمل واحدا بين يديه وآخر خلفه) . رواه البخاريّ؛ عن عبد الله بن عبّاس، وقد بيّن في رواية أخرى هذين المبهمين، ففي البخاريّ: قال ابن عبّاس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة وقد حمل قثم- بضم القاف وفتح المثلاثة الخفيفة- بين يديه، والفضل خلفه، أو قثم خلفه والفضل بين يديه؟! شكّ الراوي، ففي هذه الرواية الآخرى بيان المبهمين في الرواية الأولى.
(1) يستقيم الوزن بإبدال (هريرة) إلى (هرّ) .
وعن قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما
…
وفيه جواز الإرداف؛ وإن كانوا ثلاثة إذا لم تكن الدابّة ضعيفة لا تطيق ذلك.
وقيل: يكره ما فوق الاثنين؛ قاله الزرقاني على «المواهب» .
(و) أخرج أبو داود؛ وغيره وفيه قصّة طويلة (عن) أبي الفضل (قيس بن سعد بن عبادة) بن دليم بن حارثة بن حرام بن حزيمة- بفتح الحاء المهملة وكسر الزاي- ابن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي السّاعدي المدني.
الصحابي بن الصحابي (رضي الله تعالى عنهما) الجواد بن الجواد، وهم أربعة مشهورون بالكرم؛ هو، وأبوه سعد، وجدّه عبادة، وجدّ أبيه دليم.
وكان قيس من فضلاء الصحابة، وأحد دهاة العرب؛ وذوي الرأي الصائب؛ والمكيدة في الحرب والنّجدة، وكان شريف قومه غير مدافع، ومن بيت سيادتهم، وأحد السادات الطّلس- أي: لم يكن في وجهه لحية؛ ولا شعر- وكانت الأنصار تقول: وددنا أن نشتري لقيس لحية بأموالنا!! وكان جميلا، وكان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة الشّرطيّ من الأمير- يعني: يلي أموره. ذكره النووي في «التهذيب» .
قال الزهري وكان قيس يحمل راية الأنصار مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وله في جوده أخبار كثيرة مشهورة، ورووا أنّه كان في سريّة فيها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فكان يستدين ويطعم النّاس!! فقالا: إن تركناه أهلك مال أبيه!! فهمّا بمنعه، فسمع سعد؛ فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: من يعذرني منهما؛ يبخّلان عليّ ابني!!
وصحب قيس بعد ذلك عليّا في خلافته؛ وكان معه في حروبه، واستعمله على مصر.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ستّة عشر حديثا؛ روى عنه الشعبيّ، وابن أبي ليلى،
قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا أراد الانصراف..
قرّب له سعد حمارا وطّأ عليه بقطيفة، فركب صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال سعد: يا قيس؛ اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال قيس: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اركب» ، فأبيت، فقال:«إمّا أن تركب، وإمّا أن تنصرف» ، فانصرفت. وفي رواية أخرى:«اركب أمامي؛ فصاحب الدّابّة أولى بمقدّمها» .
وعمرو بن شرحبيل وغيرهم. وكانت وفاته سنة: ستين. وقيل: قبلها بسنة رحمة الله عليه ورضوانه. آمين.
(قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عادته في تفقّد أصحابه. قيل: كان سعد دعاه رجل ليلا فخرج له، فضربه بسيفه، فعاده صلى الله عليه وسلم (فلمّا أراد الانصراف قرّب له سعد حمارا) ليركبه (وطّأ) - بشدّ المهملة وهمزة آخره- (عليه بقطيفة) ؛ بزنة صحيفة: كساء له خمل ووبر؛ وضعه على ظهر الحمار.
(فركب صلى الله عليه وسلم ثمّ قال سعد) لابنه (: يا قيس؛ اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي:
كن معه في خدمته.
وفي ذا الحديث أنّه صلى الله عليه وسلم جاء على حمار مردفا أسامة خلفه؛ فسعد وهبه الحمار ليركبه وحده؛ ويبقى أسامة على الحمار الذي جاء به.
(قال قيس: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اركب» ، فأبيت) أن أركب تأدّبا معه صلى الله عليه وسلم؛ لا مخالفة لأمره.
(فقال: «إمّا أن تركب، وإمّا أن تنصرف» ) ؛ أي: ترجع ولا تمشي معي، (فانصرفت.
وفي رواية أخرى: «اركب أمامي، فصاحب الدّابّة أولى بمقدّمها» ) . إذ هو أدرى بسيرها، وسمّاه صاحبا باعتبار ما كان، لأنّه ابن مالكها سعد بن عبادة.
وعند ابن منده: فأرسل ابنه معه ليردّ الحمار، فقال:«أحمله بين يديّ» .
قال: سبحان الله؛ أتحمله بين يديك؟! قال: «نعم، هو أحقّ بصدر حماره» .
وفي «المواهب» : (عن المحبّ الطّبريّ:
…
قال: هو لك؛ يا رسول الله. قال: «أحمله إذن خلفي» .
وفي البخاريّ؛ من حديث أنس بن مالك: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وإنّي لرديف أبي طلحة وهو يسير، وبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عثرت الناقة، فقلت: المرأة!! فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّها أمّكم» .
فشددت الرّحل وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دنا ورأى المدينة؛ قال: «آيبون تائبون عائدون؛ لربّنا حامدون» . انتهى.
والمرأة هي صفيّة بنت حييّ أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها.
(و) ذكر العلّامة الشهاب القسطلّاني (في «المواهب) اللّدنّيّة بالمنح المحمدية» ؛ نقلا (عن المحبّ الطّبريّ) في «مختصر السيرة» له؛
وهو الإمام الحافظ القدوة المحدّث الفقيه الشافعي، أبو العباس: أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر محبّ الدين الطّبري، ثم المكيّ شيخ الحرم،
فرع دوحة كبيرة من دوحات الشّرف والرياسة؛ في العلم والحسب، ينتهي نسبهم إلى سيّدنا الحسين السّبط بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه
رسخت أصولهم في «طبرستان» ؛ من بلاد العجم في الشرق، وامتدت فروعهم إلى أمّ القرى في بلاد الحجاز، وتوارث هو وبنو أعمامه وأبناؤهم وأحفادهم مناصب التدريس والقضاء، والخطابة وإمامة الحرم المكي نحو ستة قرون.
وكانوا أكثر أصحاب البيوتات بمكّة، حتّى كان الأشراف حكّام مكّة لا يعدلون بهم أحدا في الشرف والصهر والنّسب وكان نساء هذه الأسرة يبارين فحول الرجال في رفع منار العلم والاستباق إلى غايات المجد.
قال المحبيّ في «الخلاصة» «1» : والطبريّون بيت علم وشرف؛ مشهورون في
(1) خلاصة الأثر.
.........
مشارق الأرض ومغاربها، وهم أقدم ذوي البيوتات بمكّة، وإنّ أوّل من قدم منهم مكّة الشيخ رضيّ الدين أبو بكر محمّد بن أبي بكر بن علي بن فارس الحسيني الطبري. قيل: سنة سبعين وخمسمائة، أو: في التي بعدها وانقطع بها، وزار النبي صلى الله عليه وسلم، وسأل الله عنده أولادا علماء، هداة مرضيين؛ فولد له سبعة أولاد؛ وهم: محمّد، وأحمد، وعلي، وإبراهيم، وإسحاق وإسماعيل، ويعقوب.
وكانوا كلّهم فقهاء علماء مدرّسين. انتهى، ذكره في مواضع متفرقة.
وكان دخول القضاء وإمامة مقام إبراهيم في بيتهم سنة: ثلاث وسبعين وستمائة؛ كما ذكره النجم بن فهد في تاريخه «إتحاف الورى بأخبار أمّ القرى» ، والفاسيّ في «العقد الثمين» .
وكان منصب الخطابة قديما ينتقل بمكّة في ثلاثة بيوت: الطبريين، والظهريين، والنّويريين. وبيت الطبريّ أقدمهم في ذلك؛ كما يعلم من كتب التواريخ.
ومن خطباء الطبريين: المحبّ الطّبريّ، والبهاء الطبريّ،
ولبني الطبري مزيد التقوى والورع والصلاح، وتوفّر أسباب الخير والفلاح؛
وكان مولد صاحب الترجمة سنة: خمس عشرة وستمائة، أو: ستّ عشرة.
سمع من أبي الحسن بن المقيّر، وابن الجمّيزي، وشعيب الزعفراني، وعبد الرحمن بن أبي حرمي، وجماعة. وتفقّه ودرّس وأفتى وصنّف.
وكان شيخ الشافعية ومحدّث الحجاز، إماما صالحا، زاهدا كبير الشأن، روى عنه البرزالي، وأبو الحسن العطّار، وولده قاضي مكّة؛
وصنّف التصانيف الجيّدة؛ منها: كتاب «الأحكام» في الحديث، وله «مختصر في الحديث» رتّبه على أبواب الفقه، وكتاب «خلاصة سيرة سيّد البشر، صلى الله عليه وسلم» ، وكتاب «صفوة القرى في صفة حجة المصطفى صلى الله عليه وسلم وطوفه بأمّ القرى» ، وكتاب «السّمط الثمين في مناقب أمّهات المؤمنين» ، و «القرى
أنّه صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عريا إلى قباء، وأبو هريرة معه، قال:«يا أبا هريرة؛ أأحملك؟» ، قال: ما شئت يا رسول الله، قال:«اركب» ، فوثب أبو هريرة ليركب فلم يقدر، فاستمسك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقعا [جميعا] ، ثمّ ركب صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال:«يا أبا هريرة؛ أأحملك؟» ، قال: ما شئت
لقاصد أمّ القرى» ، و «الرياض النّضرة في مناقب العشرة» ، و «ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى» .
ومن طالع «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» للفاسي علم ما لهم من المناقب، وما اشتملوا عليه من المناصب.
وتوفي في جمادى الأولى سنة: أربع وسبعين وستمائة، أو: أربع وتسعين وستمائة. وقع تحريف في «سبعين» ؛ هل هي بتقديم السين!! رحمهم الله تعالى رحمة الأبرار. آمين.
(أنّه صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عريا) - بضمّ العين وإسكان الرّاء- أي: ليس عليه إكاف، ولا يقال ذلك في الآدمي، إنّما يقال عريان- كما تقدّم قريبا-.
(إلى قبا) - بالضمّ-: موضع بالمدينة، وفيه لغات جمعها القائل:
حرا وقبا أنّث وذكّرهما معا
…
ومدّ أو اقصر واصرفن وامنع الصّرفا
وزدت عليها أخذا من «شرح مسلم» قولي:
وأفصحها التّذكير والصّرف يا فتى
…
مع المدّ فاعلم إنّ ذلك لا يخفى
(وأبو هريرة معه، قال: «يا أبا هريرة؛ أأحملك؟!» . قال: ما شئت) افعله (يا رسول الله. قال: «اركب» ، فوثب أبو هريرة ليركب؛ فلم يقدر، فاستمسك) أي: تمسّك وتعلّق (برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقعا [جميعا] ، ثمّ ركب صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال: «يا أبا هريرة؛ أأحملك؟!» ، قال:) افعل (ما شئت؛
يا رسول الله، فقال:«اركب» ، فلم يقدر أبو هريرة على ذلك، فتعلّق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقعا جميعا، فقال:«يا أبا هريرة؛ أأحملك؟» ، فقال: لا، والّذي بعثك بالحقّ لا رميتك ثالثا.
وذكر الطّبريّ أيضا: أنّه عليه الصلاة والسلام كان في سفر وأمر أصحابه بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله؛ عليّ ذبحها، وقال آخر: يا رسول الله؛ عليّ سلخها، وقال آخر: يا رسول الله؛ عليّ طبخها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«عليّ جمع الحطب» ، فقالوا: يا رسول الله؛ نكفيك العمل، فقال: «قد علمت أنّكم تكفوني، ولكن أكره أن أتميّز عليكم،
…
يا رسول الله! فقال: «اركب» فلم يقدر أبو هريرة على ذلك، فتعلّق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقعا جميعا، فقال:«يا أبا هريرة؛ أأحملك؟!» فقال: لا، والّذي بعثك بالحقّ؛ لا رميتك) أي: لا أرميك (ثالثا) . واستعمل الماضي موضع المضارع، لأنّه قوي عنده أنّه إذا ركب وقعا جميعا أيضا.
(وذكر) المحبّ (الطبريّ أيضا) في الكتاب المذكور (أنّه عليه الصلاة والسلام كان في سفر وأمر أصحابه) أي: الجنس (بإصلاح شاة) أي: تهيئتها للأكل.
(فقال رجل: يا رسول الله؛ عليّ ذبحها. وقال آخر: يا رسول الله؛ عليّ سلخها. وقال آخر: يا رسول الله؛ عليّ طبخها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عليّ جمع الحطب» ) من الوادي.
(فقالوا: يا رسول الله؛ نكفيك العمل!! فقال: «قد علمت أنّكم تكفوني) - بحذف إحدى النونين تخفيفا- والأصل: تكفونني (ولكن أكره أن أتميّز عليكم،
فإنّ الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه متميّزا بين أصحابه» ) .
وقال في «الشّفا» : (عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال:
وفد وفد النّجاشيّ،
…
فإنّ الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه متميّزا بين أصحابه» ) ؛ أي: لا يثني عليه إذا رآه متميّزا.
والمكروه له تعالى في الحقيقة هو تميّز العبد؛ لا رؤيته تعالى لذلك.
(وقال) القاضي عياض (في) كتاب ( «الشّفا) بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» :
وأخرجه ابن إسحاق، والبيهقي في «الدلائل» (؛ عن أبي قتادة) الأنصاريّ السّلمي- بفتحتين-: الحارث؛ ويقال: عمرو- أو النعمان- بن ربعي- بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة-.
شهد أحدا وما بعدها، ولم يصحّ شهوده بدرا، وكان يقال له «فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
ومات سنة: أربع وخمسين. وقيل: ثمان وثلاثين، والأوّل أصحّ، وأشهر وعمره: سبعون سنة- بتقديم السين المهملة على الموحدة-.
روى له أحمد، وأصحاب «السنن» (رضي الله تعالى عنه؛ [قال] :
وفد) أي: قدم (وفد) - بسكون الفاء-: اسم جمع بمعنى: وافدين (النّجاشيّ) - بفتح النون وكسرها وتشديد الياء وتخفيفها- واسمه: أصحمة، والنّجاشيّ اسم لكلّ من ملك الحبشة، وكان رضي الله عنه ممن أعان المسلمين لمّا هاجروا إليه، وكاتب النبي صلى الله عليه وسلم، وأهدى له الهدايا، وزوّجه ب «أمّ حبيبة» رضي الله تعالى عنها. وكتب له النبيّ صلى الله عليه وسلم كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، فأسلم على يد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه سنة: ستّ. وكان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم محبّة عظيمة، فلما توفي في رجب سنة: تسع من الهجرة نعاه النبي صلى الله عليه وسلم وصلّى على
فقام النّبيّ صلى الله عليه وسلم يخدمهم، فقال له أصحابه: نكفيك، قال:«إنّهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحبّ أن أكافئهم» .
ولمّا جيء بأخته من الرّضاعة الشّيماء
…
جنازته، وبه استدلّ الشافعي رضي الله عنه على جواز الصلاة على الغائب، ولما توفيّ خلفه نجاشيّ آخر دعاه النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام، فأبى ومات كافرا. انتهى «خفاجي؛ على «الشفاء» وأرسل النّجاشيّ المسلم جماعة من عنده رسلا إليه صلى الله عليه وسلم.
(فقام النّبيّ صلى الله عليه وسلم يخدمهم) بنفسه تواضعا منه وإرشادا لغيره.
(فقال له أصحابه:) نحن (نكفيك) خدمتهم؛ أي: نقوم عنك بذلك.
فأبى، و (قال: «إنّهم كانوا لأصحابنا) الذين هاجروا إلى أرضهم (مكرمين، وأنا أحبّ أن أكافئهم) - بكسر الفاء وبعدها همزة مفتوحة- أي:
أجازيهم على إكرامهم لأصحابنا بإكرامهم، ولا إكرام أعظم من تعاطيه صلى الله عليه وسلم أمورهم بنفسه.
(ولمّا) ؛ أي وحين (جيء) - مبنيّ للمفعول- أي: جاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم (بأخته من الرّضاعة) - بفتح الراء وكسرها- بمعنى الرضاع (الشّيماء) - بفتح الشين المعجمة وسكون المثناة التحتية والميم وهمزة ممدودة- ويقال لها «الشّمّاء» - بتشديد الميم- من غير ياء؛ كما قاله المحبّ الطبري.
وهي بنت حليمة السعدية التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: أختها.
وزوج حليمة هو الحارث بن عبد العزّى، وحليمة أسلمت وعدّت من الصحابة واسمها- يعني «الشّمّاء» - جدامة- بجيم مضمومة ودال مهملة- وقيل: حذافة- بحاء مهملة وذال معجمة وفاء-. وقيل: خذافة- بمعجمتين أولاهما مكسورة-.
واختلف في زوجها أبو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع! فلم يذكر أحد من أهل السير إسلامه، ولكن ذكره يونس بن بكير في روايته؛ فقال حدّثنا ابن إسحاق؛ عن أبيه
في سبايا هوازن، وتعرّفت له.. بسط لها رداءه، وقال لها: «إن أحببت
…
عن بعض بني سعد بن بكر:
أن الحارث بن عبد العزّى أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع قدم عليه بمكّة بعد بعثته؛ فقالت له قريش: يا حارث؛ ما يقول ابنك هذا!! فقال: ما يقول؟.
قالوا: يزعم أنّ الله يبعث الخلق بعد الموت، وأنّ لله دارين، يعذّب فيهما من عصاه، ويكرم من أطاعه. وقد شتّت أمرنا وفرّق جماعتنا!!
فأتاه فقال: يا بنيّ؛ مالك ولقومك يشكونك، ويزعمون أنّك تقول لهم:
«إنّ النّاس يبعثون بعد الموت، ثمّ يصيرون إلى جنّة، أو نار؟!!» . فقال:
«نعم، ولو كان ذلك اليوم يا أبت أخذت بيدك حتّى أعرّفك حديثك اليوم» .
فأسلم وحسن إسلامه، وكان يقول حين أسلم: لو أخذ ابني بيدي فعرّفني ما قال؛
لم يرسلني- إن شاء الله- حتّى يدخلني الجنّة. انتهى ذكره الخفاجي.
(في سبايا) جمع سبية بمعنى: مسبية، أي: مأسورة (هوازن) اسم قبيلة؛ من بني سعد بن بكر، سمّيت باسم الأب الأعلى كتميم.
وهو هوازن بن نصر بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن نصر.
والمراد بكونها فيهم: أنّها كانت مسبيّة معهم أيضا؛ أي: أسيرة من جملة أسارى قبيلة هوازن المذكورة.
(وتعرّفت له) يقال: تعرّف له: إذا أعلمه باسمه وشأنه، فهي أعلمته صلى الله عليه وسلم أنّها أخته رضاعا، فقال لها صلى الله عليه وسلم:«ما علامة ذلك!؟» . فقالت: عضّة كنت عضّيتنيها في ظهري، فعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّقها.
وجواب «لمّا» قوله (بسط [لها] رداءه) أي: فرشه لها لتجلس عليه؛ إكراما لها ومكافأة لفعلها، لأنها كانت تربّيه مع أمّها حليمة.
(وقال لها) أي: على وجه التّخيير (: «إن أحببت) - أي: الإقامة عندي-
أقمت عندي مكرمة محبّة، أو متّعتك ورجعت إلى قومك» ، فاختارت قومها، فمتّعها.
وقال أبو الطّفيل:
…
(أقمت عندي مكرمة) - بضمّ أوله وسكون ثانية وتخفيف رائه؛ اسم مفعول من أكرمه: إذا فعل به ما يحسبه من الإحسان؛ قولا وفعلا- (محبّة) - بضمّ أوّله وفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة- أي: محبوبة وهو اسم مفعول؛ من أحبّه، ويقال «حبّه وأحبّه» بمعنى، والأفصح الأكثر في اسم المفعول: أن يكون من الثلاثي؛ فيكثر فيه محبوب، ويقال محبّ، لكنه هنا أحسن لاقترانه ل «مكرمة» ! وعليه الاستعمال؛ كقول الشاعر:
وإذا نزلت فلا تظنّي غيره
…
منّي بمنزلة المحبّ المكرم
(أو متّعتك) أي: إن كنت تريدين الرجوع أعطيتك متاعا حسنا، وزوّدتك، (ورجعت إلى قومك» ) رجوعا مستحسنا.
(فاختارت قومها، فمتّعها) وزوّدها، ورجعت إلى قومها.
وتفصيله؛ كما قال أصحاب السّير: أنّه لما قدمت أخته الشّماء بنت الحارث بن عبد العزّى، وعرّفته صلى الله عليه وسلم بنفسها فعرفها، وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه وخيّرها؛ فاختارت الرجوع لقومها وأرضها، وأن يمتّعها بالإحسان إليها، فأعطاها عبدا له اسمه «مكحول» وجارية، فزوّجت أحدهما من الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقيّة.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: إنّها أسلمت فأعطاها ثلاثة أعبد وجارية، ونعما وشاء، وهذا منه صلى الله عليه وسلم صلة لرحمه، لأنّ الرضاع له حكم النسب والقرابة. انتهى
خفاجي، وعلي قاري: كلاهما على «الشفاء» للقاضي عياض.
(وقال أبو الطّفيل) - بضمّ الطاء المهملة، وفتح الفاء- منقول من مصغّر الطّفل، جعل علما لعامر بن واثلة- بالتاء المثلاثة- الكناني الصحابي آخر من مات
رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا غلام، إذ أقبلت امرأة حتّى دنت منه، فبسط لها رداءه، فجلست عليه، فقلت: من هذه؟ قالوا:
أمّه الّتي أرضعته.
من الصّحابة على الإطلاق، كان مولده عام واحد من الهجرة، ووفاته سنة مائة من الهجرة، روى أربعة أحاديث. قال بعضهم:
آخر من مات من الصّحاب له
…
أبو الطّفيل عامر بن واثله
وقد روى هذا الحديث أبو داود في «سننه» بسند حسن؛ كما قال الخفاجيّ، أو صحيح؛ كما قال ملا علي قاري؛ كلاهما في «شرح الشفاء» ؛ عن أبي الطّفيل المذكور قال:
(رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أي: وكان جالسا [ذات] يوم بالجعرانة يقسم لحما؛
(وأنا غلام) في «كفاية المتحفّظ» : الغلام- عند بعض أهل اللغة-: الصبيّ إذا فطم إلى سبع سنين، ثم يصير يافعا إلى عشر حجج. وقد يطلق الغلام على الشابّ التامّ الرجولية. والمراد هنا الأوّل.
(إذ أقبلت امرأة حتّى دنت منه) أي: قربت من مكانه الجالس فيه، (فبسط لها رداءه) ؛ تكريما لها. (فجلست عليه) أي: بأمره.
(فقلت [لمن عنده] : من هذه؟ قالوا: أمّه الّتي أرضعته) فقيل: هي حليمة. وقيل: ثويبة. قال الحافظ الدّمياطيّ: لا يعرف لحليمة صحبة؛ ولا إسلام، وزوجها لا نعرف له صحبة؛ ولا إسلاما،
وما قاله ابن عبد البرّ من «أنّها أتته صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وبسط لها رداءه، وروت عنه، وروى عنها عبد الله بن جعفر!! لم يصحّ، وابن جعفر لم يدركها، وإنّما التي جاءته هي بنتها الشّماء.
وأمّا حليمة!! فإنّها جاءته صلى الله عليه وسلم بمكّة قبل النبوة في زمن خديجة رضي الله عنها؛ فأعطاها أربعين شاة وجملا، ثم انصرفت لأهلها.
وعن عمرو بن السّائب: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما،
…
وما هنا يقتضي مجيئها له صلى الله عليه وسلم بعد النبوة بالجعرانة بعد انقضاء حرب هوازن؛ ومجيء وفدهم!! وليس كذلك، إنّما هي ابنتها. وجوّز الذهبيّ رحمه الله تعالى أن تكون المرأة التي جاءته ثويبة مولاة أبي لهب الآتي ذكرها.
ويردّه أنّها ماتت سنة: سبع؛ قبل هوازن، ولما فتح مكة سأل عنها ابنها مسروحا فأخبره بموتها. وصحّح بعضهم خلافه؛ ذكره ابن الجوزي في «الوفا» .
وصنّف الحافظ مغلطاي جزآ في إسلامها سمّاه «النعمة الجسيمة في إثبات إسلام حليمة» . وأيّده وارتضاه علماء عصره، وممّن أنكره أبو حيّان النحوي.
والله أعلم.
وصحّح ابن حبّان وغيره ما يدلّ على إسلام حليمة. انتهى من «شرح الشفا» .
قلت: وابن عبد البرّ وابن حبّان كلّ منهما أجلّ من الحافظ الدمياطي، فالراجح عندي ما قاله ابن عبد البرّ؛ من إثبات إسلامها، وهو الذي اعتمده الحافظ مغلطاي. وأيّده علماء عصره؛ لا سيما وقد ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني في «الإصابة» في الصحابيات أهل القسم الأول. والله أعلم.
(وعن عمرو بن السّائب) ؛ كذا في «الشفاء» : عمرو- بالواو- وهو ابن راشد المصري «مولى بني زهرة» تابعيّ. ذكره الحافظ عبد الغني في «إكماله» فيمن اسمه عمرو، ووهّمه الحافظ المزّيّ؛ وقال: اسمه عمر- بضم العين-.
قال الحلبي: وهو غلط صريح صوابه عمر بن السائب- بضم العين؛ وحذف الواو-
وهو يروي عن أسامة بن زيد وجماعة، وعنه الليث، وابن لهيعة، وعمرو بن الحارث وغيرهم؛ ذكره ابن حبّان في «الثقات» .
والحديث رواه أبو داود مرسلا عنه أنّه بلغه (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما
فأقبل أبوه من الرّضاعة، فوضع له بعض ثوبه، فقعد عليه. ثمّ أقبلت أمّه، فوضع لها شقّ ثوبه من جانبه الآخر، فجلست عليه. ثمّ أقبل أخوه من الرّضاعة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه.
وكان صلى الله عليه وسلم يبعث إلى ثويبة- مولاة أبي لهب-..
فأقبل أبوه من الرّضاعة) ؛ هو: الحارث بن عبد العزّى- وقد تقدّم الكلام فيه وفي إسلامه- (فوضع له) صلى الله عليه وسلم (بعض ثوبه) وفرشه له في الأرض ليجلس عليه، (فقعد عليه، ثمّ أقبلت أمّه) ؛ أي: حليمة، (فوضع لها شقّ) - بكسر الشين المعجمة- أي: طرف (ثوبه من جانبه الآخر؛ فجلست عليه؛ ثمّ أقبل أخوه من الرّضاعة) وهو عبد الله بن الحارث المذكور، (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه) يعني:
أنّه أجلس أباه عن يمينه وفرش له جانبا من ثوبه، وأجلس أمّه حليمة عن يساره وفرش تحتها جانبا من ثوبه؛ إكراما لها، فلما قدم أخوه- وهو عبد الله بن الحارث بن عبد العزّى- لم يبق جانب من ثوبه يفرشه، فقام له صلى الله عليه وسلم لئلا يقصّر في توقيره عن أبويه!!
وفيه دليل على أنّه يجوز القيام تعظيما لمن يستحقّ التعظيم؛ خلافا لمن قال «إنّه مكروه مطلقا» !!
وللنّبيّ صلى الله عليه وسلم عدّة مرضعات؛ منها حليمة هذه، وثويبة مولاة أبي لهب الآتية، وخولة بنت المنذر بن زيد بن لبيد، وأمّ أيمن، وثلاث نسوة من سليم؛ تسمّى كلّ واحدة منهنّ «عاتكة» ، وهو أحد القولين في قوله صلى الله عليه وسلم:«أنا ابن العواتك» وقيل: إنّهنّ جدّات له.
ومعنى عاتكة: متضمّخة بالطيب؛ قاله الخفاجي.
(وكان صلى الله عليه وسلم يبعث) أي: يرسل من المدينة إلى مكة (إلى ثويبة) - بضمّ مثلّثة وفتح واو، فسكون تحتيّة فموحّدة- (: مولاة أبي لهب) - بفتح الهاء- أي: جارية عتيقة لأبي لهب، وهذه كنيته، واسمه عبد العزّى، وكنّي «أبا لهب» ! لتوقّد
مرضعته بصلة وكسوة، فلمّا ماتت.. سأل:«من بقي من قرابتها؟» ، فقيل: لا أحد) .
لونه، وذكر بهذه الكنية في القرآن!! للإشارة إلى أنّه جهنّميّ.
(مرضعته) صلى الله عليه وسلم؛ وهو بالجرّ بدل، أو عطف بيان من ثويبة (بصلة) - بكسر الصاد المهملة- أي: نفقة (وكسوة) - بكسر الكاف- أي: ثياب تلبسها.
(فلمّا ماتت) بمكّة بعد هجرته عليه الصلاة والسلام (سأل: «من بقي) أي:
عمن بقي (من قرابتها؟» ) ؛ فهو منصوب بنزع الخافض، أو تقديره.
وقال: من بقي من قرابتها!! فهي إمّا موصولة؛ أو استفهامية.
(فقيل: لا أحد) أي: ما بقي منهم أحد، وما ذكر من حسن الوفاء وصلة الرحم. وفيه من مكارم أخلاقه وحسن عهده صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى.
وهذا الحديث رواه ابن سعد؛ عن الواقدي؛ عن غير واحد من أهل العلم.
وفي «الروض الأنف» كان يصلها من المدينة، فلما فتح مكّة؛ سأل عنها وعن ابنها «مسروح» ؟ فقيل: ماتا.
وأما إرضاع ثويبة له صلى الله عليه وسلم!! فثابت في «الصحيحين» ، وهي أوّل من أرضعته مع ابنها مسروح؛ المتقدّم ذكره قبل حليمة، وأرضعت قبله عمّه حمزة، وأبا سلمة.
واختلف في إسلامها! فأثبته بعضهم، وعدّها في الصحابة، وأنكره أبو نعيم، وكان أبو لهب أعتقها لما بشّرته بولادة النبي صلى الله عليه وسلم ورؤي في المنام؛ وهو يقول:
خفّف عنّي العذاب بإعتاقي ثويبة لمّا بشرتني به.
وفي السّير أنّه أعتقها قبل ولادته بدهر طويل. انتهى خفاجي، وملا علي قاري؛ على «الشفاء» .
وكان صلى الله عليه وسلم يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين.
وكان له صلى الله عليه وسلم عبيد وإماء، وكان لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس.
(و) أخرج ابن أبي شيبة في «مصنفه» ، والطبراني في «الكبير» - قال في العزيزي: إنّه حديث حسن- عن أميّة بن خالد بن عبد الله بن أسد الأموي يرفعه.
وقال المنذري: رواته رواة الصحيح، وهو مرسل. انتهى.
وقال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين أحدهما رجاله رجال الصحيح. انتهى، لكن الحديث مرسل، وأميّة المذكور لم يخرّج له أحد من الستّة. ورواه عنه أيضا البغوي في «شرح السنة» .
وقال ابن عبد البرّ: لا يصحّ عندي والحديث مرسل.
وفي «تاريخ ابن عساكر» أنّ أميّة هذا تابعيّ ثقة، ولّاه عبد الملك خراسان.
قال الذهبيّ في «مختصره» : والحديث مرسل.
وقال ابن حبان: أميّة هذا يروي المراسيل، ومن زعم أنّ له صحبة!! فقد وهم، وقال في «الاستيعاب» : لا يصحّ عندي صحبته.
وفي «أسد الغابة» : الصحيح لا صحبة له، والحديث مرسل.
وفي «الإصابة» : ليس له صحبة ولا رؤية. قاله المناوي على «الجامع الصغير» .
(كان صلى الله عليه وسلم يستفتح ويستنصر) أي: يطلب النصر والفتح (بصعاليك المسلمين) أي: بدعاء فقرائهم لقربه من الإجابة، بسبب انكسار قلوبهم لخلوّ أيديهم من الأموال.
(و) في «كشف الغمّة» ك «الإحياء» :
(كان له صلى الله عليه وسلم عبيد وإماء. وكان لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس) .
وكان صلى الله عليه وسلم يأكل مع خادمه.
وكان صلى الله عليه وسلم يجلس مع الفقراء.
روى: محمد بن سعد في «الطبقات» ؛ من حديث سلمى؛ قالت: كان خدم النبي صلى الله عليه وسلم أنا، وخضرة، ورضوى، وميمونة بنت سعد؛ أعتقهنّ كلّهن. وإسناده ضعيف.
وروى أيضا: أن أبا بكر بن حزم كتب إلى عمر بن عبد العزيز بأسماء خدم النبي صلى الله عليه وسلم فذكر بركة «أم أيمن» ، وزيد بن حارثة، وأبا كبشة، وآنسة، وشقران، وثوبان، وسفينة، ورباحا، ويسارا، وأبا رافع، وأبا مويهبة، ورافعا؛ أعتقهم كلّهم، وفضالة، ومدعما، وكركرة.
ولمسلم من حديث أبي اليسر: «أطعموهم ممّا تطعمون، وألبسوهم ممّا تلبسون»
…
الحديث.
(و) أخرج أبو بكر بن الضّحاك في «الشمائل» ؛ من حديث أبي سعيد الخدري بإسناد ضعيف:
(كان صلى الله عليه وسلم يأكل مع خادمه) ؛ تواضعا لله وجبرا لخاطره.
(و) في «كنوز الحقائق» - ورمز له برمز أبي داود-: (كان صلى الله عليه وسلم يجلس مع الفقراء) ، ويجتنب مجالسة الأغنياء، ويقول:«اتّقوا مجالسة الموتى» .
روى أبو داود؛ من حديث أبي سعيد: جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين، وإنّ بعضهم ليستتر ببعض من العري!! وفيه؛ فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا ليعدل بنفسه فينا
…
الحديث.
ولابن ماجه؛ من حديث خبّاب: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا
…
الحديث في نزول قوله تعالى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [52/ الأنعام]
…
الآية وإسنادهما حسن.
وكان صلى الله عليه وسلم يواكل الفقراء والمساكين، ويفلي ثيابهم.
وكان صلى الله عليه وسلم يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرّجال في بيوتهم.
(و) في «كشف الغمّة» : (كان صلى الله عليه وسلم يواكل الفقراء والمساكين) الفرق بين المسكين والفقير مشهور في مبحث الزكاة، إلّا أنّ كلّا منهما يطلق على الآخر من غير فرق في العرف، والمسكين- بكسر الميم وفتحها- مأخوذ من السكون، ويكون بمعنى المتذلّل الخاضع، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«اللهمّ؛ أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا» .
ولا يجوز أن يطلق على النبي صلى الله عليه وسلم أنّه فقير أو مسكين، وإن أطلقه على نفسه الشريفة؛ قاله العلّامة الشهاب الخفاجي على «الشفا» .
روى البخاريّ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا على أحد؛ إذا أتته صدقة بعث بها إليهم؛ ولم يتناول منها، فإذا أتته هديّة أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها.
(ويفلي) - بفتح فسكون- مضارع فلى؛ ثلاثيّا. (ثيابهم) أي: يزيل منها القمل. وهذه الجملة لم أجدها في غير «كشف الغمّة» !!.
(و) أخرج الإمام أحمد، وابن سعد، وأبو الشيخ وصحّحه، وابن حبّان؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيط) - بفتح المثناة التحتية وكسر الخاء المعجمة- (ثوبه)، ورواية أبي الشيخ وابن سعد: ويرقع الثوب، (ويخصف) - بكسر الصاد المهملة- (نعله) ؛ أي: يخرز طاقا على طاق.
قال في «مختصر النهاية» : وخصف النعل خرزها.
(ويعمل ما يعمل الرّجال في بيوتهم) من الاشتغال بمهنة الأهل والنفس؛ إرشادا للتواضع وترك التكبّر، لكنه مشرّف بالوحي والنبوة، مكرّم بالمعجزات والرسالة.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّه قيل لها: ماذا كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: كان بشرا من البشر، يفلي ثوبه،
…
وفيه أنّ الإمام الأعظم يتولّى أموره بنفسه، وأنّه من دأب الصالحين.
(و) أخرج الإمام أحمد، والترمذيّ في «الشمائل» - واللفظ لها-، وأبو نعيم في «الحلية» : كلهم؛
(عن عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها؛ أنّه قيل لها) ؛ أي: قال لها بعضهم (: ماذا كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟.
قالت: كان بشرا من البشر) ، ذكرت ذلك تمهيدا لما تذكره بعد؛ الذي هو محطّ الجواب، ودفعت بذلك ما رأته من اعتقاد الكفّار أنّه لا يليق بمنصبه أن يفعل ما يفعله غيره من العامّة، وإنّما يليق أن يكون كالملوك الذين يترفّعون عن الأفعال العاديّة؛ تكبرا! وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [7/ الفرقان] فقالت: إنّه كان خلقا من خلق الله تعالى. أي: واحدا من بني آدم؛ يعتريه ما يعتريهم من الاحتياج إلى المأكل والمشرب، والمشي في السوق، والمحن والضرورات.
(يفلي) - بفتح المثناة التحتية وسكون الفاء؛ بعدها لام مكسورة، وآخره ياء تحتية، مضارع «فلى» ثلاثيا؛ كما ضبطه غير واحد، بزنة: رمى يرمي. ويجوز [يفلي] ضمّ أوّله وسكون ثانيه مخفّفا، أو [يفلّي] فتحه مثقّلا-
(ثوبه) أي: يفتّشه ليلتقط ما فيه مما علق فيه من نحو شوك، أو ليرقع ما فيه؛ من نحو خرق، لا نحو قمل، لأن أصل القمل من العفونة؛ ولا عفونة فيه! وأكثره من العرق، وعرقه طيب!! ولذلك ذكر ابن سبع- وتبعه بعض شرّاح «الشفاء» أنّه لم يكن فيه قمل، لأنه نور، ومن قال «إنّ فيه قملا» ؟! فهو كمن نقصه، وقيل: إنه كان في ثوبه قمل ولا يؤذيه. وإنّما كان يلتقطه!! استقذارا له؛ كذا قرّره الباجوريّ على «الشمائل» .
ويحلب شاته، ويخدم نفسه.
وقال المناوي في شرح «الجامع الصغير» : ومن لازم التفلّي وجود شيء يؤذي في الجملة؛ كبرغوث وقمل، فدعوى أنّه لم يكن القمل يؤذيه؛ ولا الذباب يعلوه دفعت بذلك، ومحاولة الجمع ب «أن ما علق بثوبه من غيره؛ لا منه» !! ردّت بأنّه نفي أذاه، وأذاه غذاؤه من البدن، وإذا لم يتغذّ لم يعش، انتهى. ومن ثمّ قال الزرقاني؛ كالمناوي: ظاهره أنّ القمل يؤذيه. لكن قال ابن سبع
…
إلى آخر ما تقدّم عن الباجوري.
(ويحلب) - بضمّ اللّام ويجوز كسرها- (شاته، ويخدم) - بضمّ الدال وتكسر- (نفسه) عطف عامّ على خاصّ. ونكتته الإشارة إلى أنّه كان يخدم نفسه عموما وخصوصا، وهذا يتعيّن حمله على أنّه كان يفعل ذلك في بعض الأوقات؛ لا دائما، فإنّه ثبت أنّه كان له خدم، فتارة يكون بنفسه، وتارة بغيره، وتارة بالمشاركة.
وفيه ندب خدمة الإنسان نفسه، وأنّه لا يخلّ بمنصبه؛ وإن جلّ. انتهى؛ قاله الزرقاني على «المواهب» . وذكر مثله المناويّ على «الجامع الصغير» .
وقال ملا علي قاري في «جمع الوسائل» - بعد قوله «يخدم نفسه» -: إنّه فسّر بصبّ الماء في الوضوء والغسل على الأعضاء. انتهى.
قال المناوي في «شرح الشمائل» : وفيه الترغيب في التواضع، وترك التكبّر، وخدمة الرجل نفسه وأهله. ولذا قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب لأمير المؤمنين عمر بن الخطّاب: يا أمير المؤمنين؛ إن سرّك أن تلحق بصاحبيك؛ فارفع القميص، وأنكس الإزار، واخصف النعل، وأقصر الأمل، وكل دون الشبع؛ تلحق بهما.
وقد نظم معنى ذلك الحافظ العراقيّ حيث قال:
يخصف نعله يخيط ثوبه
…
يحلب شاته، ولن يعيبه
يخدم في مهنة أهله كما
…
يقطع بالسّكّين لحما قدما
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسع النّاس خلقا، وكان إذا دخل بيته يكون أكثر عمله فيه الخياطة، وكان يصنع كما يصنع آحاد النّاس، يشيل هذا، ويحطّ هذا، ويقمّ البيت، ويقطّع اللّحم، ويعين الخادم.
(وعن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسع النّاس خلقا) - بضمّتين- أي: بشرا وطلاقة وجه وإبداء سرور.
(وكان إذا دخل بيته يكون أكثر عمله فيه الخياطة) .
روى ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّه كان يرقع ثوبه ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم، وفي رواية له عنها: يعمل عمل البيت، وأكثر ما يعمل الخياطة. انتهى.
وفيه أنّ الخياطة صنعة لا دناءة فيها، وأنّها لا تخلّ بالمروءة؛ ولا بالمنصب.
(وكان يصنع) في بيته (كما يصنع آحاد النّاس) في بيوتهم.
ثم فصّل بعض ما يفعله في البيت؛ فقال: (يشيل هذا) المتاع المحتاج إليه، (ويحطّ هذا) المتاع الذي انتهت منه الحاجة. (ويقمّ) - بضمّ القاف وكسرها وتشديد الميم- (البيت) أي: يكنسه ويزيل قمامته.
(ويقطع اللّحم) . قال الحافظ العراقي: رواه الإمام أحمد؛ من حديث عائشة رضي الله عنها: أرسل إلينا آل أبي بكر بقائمة شاة ليلا، فأمسكت وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو قالت: فأمسكه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطعنا.
وفي «الصحيحين» ؛ من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر في أثناء حديث:
وايم الله؛ ما من الثلاثين ومائة إلّا حزّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم من سواد بطنها. انتهى «شرح الإحياء» .
(ويعين الخادم) ؛ مملوكا أو غيره، وهو يشمل الذكر والأنثى.
وكان صلى الله عليه وسلم يركب الحمار، ويخصف النّعل، ويرقع القميص، ويلبس الصّوف، ويقول:«من رغب عن سنّتي.. فليس منّي» .
(و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ، وأبو الشيخ في «كتاب الأخلاق» :
كلاهما؛ عن أبي أيوب الأنصاري، وفي سنده راويان ضعيفان:
(كان صلى الله عليه وسلم يركب الحمار)، زاد ابن سعد في رواية: عريا؛ ليس عليه شيء.
وذلك- مع ما فيه من غاية التواضع- إرشاد للعباد، وبيان أنّ ركوبه لا يخلّ بمروءة ولا رفعة، بل فيه غاية التواضع وكسر النّفس.
(ويخصف) - بفتح المثناة التحتية- (النّعل) أي: يصلحها بترقيع وخرز.
(ويرقع) - بالقاف؛ من باب قطع- (القميص) أي: يجعل مكان القطع خرقة من نوعه؛ ومن غير نوعه.
(ويلبس) - بفتح الموّحدة- يقال: لبس الثوب يلبس- بفتح الباء الموحّدة؛ في المضارع، وكسرها في الماضي-، ويقال لبس يلبس- بفتح الموحّدة في الماضي، وكسرها في المضارع؛ بمعنى خلط-.
وقد نظم الفرق بينهما بعضهم؛ فقال:
لعين مضارع في لبس ثوب
…
أتى فتح، وفي الماضي بكسر
وفي خلط الأمور أتى بعكس
…
لعينهما فخذه بغير عسر
(الصّوف) ؛ رداآ وإزارا وعمامة. (ويقول) منكرا على من ترفّع عن ذلك:
«هذه سنّتي، و (من رغب عن سنّتي) - أي: طريقتي وهديي- (فليس منّي» ) ؛ أي: من العاملين بطريقتي السالكين منهجي، وهذه سنّة الأنبياء قبله أيضا.
روى الحاكم، والبيهقيّ في «الشعب» ؛ عن ابن مسعود: كانت الأنبياء يستحبّون أن يلبسوا الصوف، ويحلبوا الغنم، ويركبوا الحمر.
وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: بحقّ أقول: إنّه من طلب الفردوس فغذاء الشعير له، والنوم على المزابل مع الكلاب كثير.
وكان صلى الله عليه وسلم يعقل البعير، ويعلف ناضحه، ويأكل مع الخادم، ويعجن معها، ويحمل بضاعته من السّوق.
وفيه ندب خدمة الرجل نفسه، وأنّه لا دناءة في ذلك.
(و) في «الشفاء» : (كان صلى الله عليه وسلم يعقل) - بكسر القاف؛ بوزن يضرب- (البعير) ؛ أي: يربطه في رجله بالعقال؛ وهو ما يعقل به من الحبال.
(ويعلف) - بكسر اللام- (ناضحه) - بنون وضاد معجمة وحاء مهملة- أي:
بعيره الذي يستقي عليه الماء.
(ويأكل مع الخادم) الخادم: متعاطي الخدمة؛ ذكرا كان أو أنثى، حرّا أو عبدا، وأكل الإنسان مع خادمه سنّة.
قال القاضي زكريا؛ في «شرح الروض» : السنّة أن يجلس خادمه للأكل معه، ويلبسه من لباسه، فإن أبى فلينا وله مما يأكله.
ومن الغريب ما نقل عن الشافعي: أنّه واجب للأمر به في الحديث. وفيه نظر!!
(ويعجن معها) الضمير للخادم، لأنّه يطلق على الأنثى- كما مرّ-، والعجين من عمل النساء غالبا، (ويحمل بضاعته) - بكسر الموحّدة-: ما يشتريه (من السّوق) إلى محلّه في بعض أوقاته، إذ ثبت أنّه عليه الصلاة والسلام كان له خدم يقومون بما له من المرام.
وفي ذلك دلالة على أنّه صلى الله عليه وسلم كان يدخل السوق، قالوا: وهو عادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [20/ الفرقان] وكذا كان دأب الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
ولا ينافيه: «أحبّ البقاع إلى الله تعالى المساجد، وأبغضها إلى الله الأسواق» !! لأن المراد بغض ما فيها، أو النهي عن الجلوس فيها من غير حاجة.
انتهى «خفاجي، وقاري» .
و (النّاضح) : البعير يستقى عليه، ثمّ استعمل في كلّ بعير.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: دخلت السّوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشترى سراويل وأخذه، فذهبت لأحمله، فقال:«صاحب الشّيء أحقّ بشيئه أن يحمله» .
(والنّاضح) - بالنون والضاد المعجمة والحاء المهملة آخره- هو (: البعير يستقى عليه) الماء، والأنثى ناضحة؛ بالهاء.
سمّي ناضحا!! لأنّه ينضح العطش. أي: يبله بالماء الذي يحمله؛
هذا أصله، (ثمّ استعمل) الناضح (في كلّ بعير) ؛ وإن لم يحمل الماء، وجمعه: نواضح.
(و) أخرج الطبرانيّ في «الأوسط» ، وأبو يعلى في «مسنده» - بسند ضعيف جدّا- (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) قال:
(دخلت السّوق) يوما؛ (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إلى البزازين؛ (فاشترى سراويل) بأربعة دراهم. وسراويل فارسي معرب، يذكّر ويؤنّث، ولم يعرف فيه الأصمعيّ إلّا التأنيث. وجمعه سراويلات. والأشهر عدم صرفه.
وكان لأهل السوق وزّان، فقال له:«زن وأرجح» .
(وأخذه) أي: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السراويل. قال أبو هريرة:
(فذهبت) أي: قصدت (لأحمله) عنه؛ (فقال) صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة (: «صاحب الشّيء أحقّ بشيئه) - أصله بالهمزة، قلبت ياء وأدغمت فيها الياء- أي: بمتاعه المختصّ به (أن يحمله» ) . أي: أحقّ بحمله، لأنّه أبقى على تواضعه، وأنفى لكبره وتمام الحديث- بعد قوله «أن يحمله» -:«إلّا أن يكون ضعيفا؛ فيعجز عنه فيعينه أخوه المسلم» . فقلت: يا رسول الله؛ إنّك لتلبس السراويل. قال: أجل في السّفر والحضر، وبالليل والنهار، فإنّي أمرت بالستر، فلم أجد أستر منه. انتهى.
.........
وكذا أخرجه ابن حبّان في «الضعفاء» ؛ عن أبي يعلى، والدارقطني في «الأفراد» ، والعقيلي في «الضعفاء» ، ومداره على يوسف بن زياد الواسطي؛ وهو وشيخه ضعيفان.
بل بالغ ابن الجوزيّ فذكر الحديث هذا في «الموضوعات» !! وتعقّبه السيوطيّ، واقتصر الحافظ ابن حجر وغيره على أنّه ضعيف فقط.
لكن صحّ شراء النبيّ صلى الله عليه وسلم للسراويل من غير هذا الطريق، فقد روى الإمام أحمد، وأصحاب «السنن الأربعة» ، وصحّحه ابن حبّان؛ عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبد بزّا من هجر، فأتينا مكّة، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى فتساومنا سراويل؛ فبعناه منه فوزن ثمنه، وقال للوزّان:«زن وأرجح» .
وروى النّسائيّ، وأحمد؛ عن أبي صفوان: مالك بن عميرة الأسدي: أنّه باع من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر رجل سراويل؛ فلما وزن له أرجح له، وهذه القصّة غير التي ساقها المصنف، لأنّها بعد الهجرة، إذ أبو هريرة إنما جاء في خيبر!!.
واختلف العلماء: هل لبس النبي صلى الله عليه وسلم السراويل؛ أم لا!! فجزم بعض العلماء بأنّه لم يلبسه، ولكن اشتراه، ويستأنس له بما جزم به النّوويّ في «ترجمة عثمان بن عفان» ؛ من كتاب «تهذيب الأسماء واللغات» : أنه رضي الله عنه لم يلبس السراويل في جاهلية ولا إسلام إلّا يوم قتله؛ مخافة أن تظهر عورته، فإنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا أحرص شيء على اتباعه صلى الله عليه وسلم.
وفي «الهدي النبوي» لابن القيّم: الظاهر أنّه إنما اشتراه ليلبسه.
قال الحافظ ابن حجر: وما كان ليشتريه عبثا، وإن كان غالب لبسه الإزار!! ويحتمل أنّه اشتراه لغيره! وفيه بعد. وكانوا يلبسونه في زمانه، وبإذنه، بل قال الشاميّ: يؤيّد ابن القيّم أن البيهقي في «الشعب» ، وابن الجوزي في «الوفاء» وغيرهما من العلماء أوردوا الحديث في «باب ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسه» .
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لم يكن شخص أحبّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكانوا إذا رأوه.. لم يقوموا؛ لما يعلمون
…
وقد ترجم البخاري في «كتاب اللباس» ؛ من «صحيحه» باب السراويل، وأورد فيه حديث المحرم: «لا تلبسوا القمص ولا السّراويل
…
» الحديث، لكونه لم يرد فيه شيء على شرطه، فاكتفى بما دلّ عليه الحديث: أنّ الحلال يجوز له لبس السراويل.
وروى أبو نعيم؛ عن أبي هريرة مرفوعا: «أوّل من لبس السّراويل إبراهيم الخليل» . قيل: ولذا كان أوّل من يكسى يوم القيامة؛ كما في «الصحيحين» .
وروى الترمذيّ؛ وقال غريب، عن ابن مسعود رفعه:«كان على موسى يوم كلّمه ربّه كساء صوف، وكمّة صوف، وجبّة صوف، وسراويل صوف، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت» . والكمّة- بالضمّ-: القلنسوة الصغيرة. صحّحه الحاكم وردّه المنذريّ. انتهى من «شرح المواهب» و «شرح الشفاء» . وقد تقدّم الكلام على السراويل في «اللباس» .
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» بسنده (عن أنس) بن مالك (رضي الله تعالى عنه؛ قال: لم يكن شخص أحبّ) أي: أكثر محبوبيّة (إليهم) أي: إلى الصحابة (من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنّه أنقذهم من الضلالة، وهداهم إلى السعادة، حتى قال عمر: يا رسول الله؛ أنت أحبّ إليّ من كلّ شيء إلّا من نفسي.
فقال صلى الله عليه وسلم: لا يكمل إيمانك حتّى أكون أحبّ إليك من نفسك» . فسكت ساعة، ثم قال: حتّى من نفسي. فقال: «ألآن تمّ إيمانك يا عمر» .
وقاتلوا معه آباءهم وأبناءهم، فقتل أبو عبيدة أباه، لإيذائه للمصطفى صلى الله عليه وسلم.
وتعرّض أبو بكر لقتل ولده عبد الرحمن يوم بدر
…
إلى غير ذلك مما هو مبيّن في كتب السّير.
(قال) أي أنس (: وكانوا إذا رأوه) أي: مقبلا (لم يقوموا) له (لما يعلمون
من كراهته لذلك.
وأمّا جلوس رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فعن خارجة بن زيد رضي الله [تعالى] عنه قال:
…
من كراهته لذلك!) ، أي: لأجل المعلوم المستقرّ عندهم، وهو كراهته لذلك القيام؛ تواضعا وشفقة عليهم، وخوفا عليهم من الفتنة؛ إذا أفرطوا في تعظيمه، وإسقاطا لبعض حقوقه المعيّنة عليهم، فاختاروا إرادته على إرادتهم، لكن كان لا يكره قيام بعضهم لبعض، ولذلك قال:«قوموا لسيّدكم» يعني: سعد بن معاذ سيّد الأوس. فأمرهم بفعله؛ لأنه حقّ لغيره فوفّاه حقّه، وكره قيامهم له! لأنّه حقّه فتركه تواضعا.
وهذا دليل لما عليه محرّر المذهب الإمام محيي الدين النوويّ؛ من ندب القيام لأهل الفضل. وقد قام صلى الله عليه وسلم لعكرمة بن أبي جهل لمّا قدم عليه، وكان يقوم لعديّ بن حاتم كلما دخل عليه؛ كما جاء ذلك في خبرين، وهما؛ وإن كانا ضعيفين؛ يعمل بهما في الفضائل. فزعم سقوط الاستدلال بهما وهم.
وقد ورد أنّهم قاموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم!! فيناقض ما هنا.
إلا أن يقال في التوفيق: إنّهم إذا رأوه من بعد غير قاصد لهم لم يقوموا له. أو أنه إذا تكرّر قيامه وعوده إليهم لم يقوموا؟! فلا ينافي أنّه إذا قدم عليهم أوّلا قاموا، وإذا انصرف عنهم قاموا. انتهى «باجوري» .
(وأمّا جلوس رسول الله صلى الله عليه وسلم ف) قد ذكره في قوله:
(عن خارجة بن زيد) بن ثابت الأنصاريّ المدني التابعي، أحد فقهاء المدينة السبعة، وقد سبقت ترجمته (رضي الله [تعالى] عنه) ، فيكون حديثه مرسلا، وهو من «مراسيل أبي داود» ؛ كما قال الخفاجي في «شرح الشفاء» .
وذكره القاضي عياض في «الشفاء» بسنده من طريق أبي داود صاحب «السنن» ؛ (قال) : حدّثنا عبد الرحمن بن سلّام؛ قال: حدّثنا حجاج بن
كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أوقر النّاس في مجلسه؛ لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه.
وكان مجلسه صلى الله عليه وسلم مجلس حلم وحياء، وأمانة
محمد بن عبد الرحمن بن أبي الزّناد؛ عن عمر بن عبد العزيز بن وهيب؛ قال:
سمعت خارجة بن زيد يقول:
(كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أوقر النّاس في مجلسه) أي: أعظمهم وقارا إذا برز للناس وجلس معهم، بخلاف ما إذا خلا مع أهله، أو مع خاصّته، فإنّه ينبسط معهم ويلاطفهم؛ يعني: أنّ هذا كان عادته ودأبه صلى الله عليه وسلم بحيث لا يصدر عنه خلافه.
و «كان» ؛ وإن كانت بحسب الأصل فعلا ماضيا؛ لكنّها قد تستعمل 1- للاستمرار نحو وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)[النساء]، و 2- للتكرار نحو: كان حاتم يقري الضيف، لقرينة؛ وهو استعمال شائع، ولكثرته عدّه بعض الأصوليين معنى لها، ولم يحقّقه أحد كابن جني في كتاب «الخصائص» ! فإن أردته؛ فانظره. انتهى «خفاجي» .
(لا يكاد يخرج) - بضمّ أوّله مضارع: أخرج- و (شيئا) مفعول، (من أطرافه) أي: أطراف بدنه كرجليه، ولا يكاد يخرج فيه مبالغة، أي: لا يخرج ولا يقرب من الخروج، ولذا عدل عن «لا يخرج» وهو أخصر.
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» من حديث عليّ الطويل:
(كان مجلسه صلى الله عليه وسلم مجلس حلم) - بكسر الحاء، وسكون اللام- وهو: ملكة تورث التّؤدة وعدم العجلة عند حركة الغضب وداعية العقوبة.
(و) مجلس (حياء) - بالمدّ- أي: منهم، فكانوا يجلسون معه على غاية من الأدب، فكأنّما على رؤوسهم الطير!
(و) مجلس (أمانة) ؛ أي: يأمن المتكلّمون فيه على أسرارهم، فلا ينقل منه ما لا يحبّون إفشاءه؛ كما في الحديث:«المجالس بالأمانة» .
وصيانة، وصبر وسكينة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم،
…
وورد: «لا إيمان لمن لا أمانة له» . رواه الإمام أحمد، وابن حبّان في «صحيحه» ؛ عن أنس رضي الله عنه.
(و) مجلس (صيانة) ؛ غير موجود في «الشمائل» !
(و) مجلس (صبر) منه على جفائهم (وسكينة) ؛ غير موجود في «الشمائل الترمذية» !
والمراد أنّه مجلس أعمال هذه الأمور، أو مجلس اكتسابها، وذلك لأنّ مجلسه مجلس تذكير بالله، وترغيب فيما عنده من الثواب، وترهيب مما عنده من العقاب، فترقّ قلوبهم فيزهدون في الدنيا، ويرغبون في الآخرة.
(لا ترفع) - بالبناء للمفعول- (فيه) أي: في مجلسه (الأصوات) ؛ أي:
لا يرفع أحد من أصحابه صوته في مجلسه صلى الله عليه وسلم إلّا بمجادلة معاند، أو إرهاب عدوّ.. وما أشبه ذلك، لكونه محرّما عليهم؛ لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [2/ الحجرات] .
فكانوا رضي الله عنهم على غاية من الأدب في مجلسه صلى الله عليه وسلم.
وأمّا كونه وقع رفع الصوت بحضرته في قصة الإفك!! فنادر لا يعتدّ به.
(ولا تؤبن) - بضمّ المثناة الفوقيّة، فهمزة ساكنة وتبدل واوا، ففتح الموحّدة المخفّفة، وقد تشدّد مع فتح الهمزة فنون آخره؛ من الأبن- بفتح الهمزة- وهو العيب، يقال أبنه يأبنه- بكسر الباء وضمّها- أبنا: إذا عابه. أي لا تعاب
(فيه) أي: في مجلسه (الحرم) - بضمّ الحاء وفتح الراء- جمع حرمة؛ وهي: كلّ ما يحرم هتكه. وأما استعماله بمعنى المرأة!! فعاميّة، وإن كان لها وجه؛ قاله الخفاجي.
والمعنى: لا تعاب فيه حرم الناس بقذف، ولا غيبة ونحوهما، بل مجلسه مصون عن كلّ قبيح.
يتعاطفون فيه بالتّقوى، ويتواضعون، ويوقّر الكبار، ويرحم الصّغار، ويؤثرون المحتاج، ويحفظون الغريب، ويخرجون أدلّة على الخير.
قوله: (لا تؤبن فيه الحرم)
…
(يتعاطفون فيه) أي: يعطف بعضهم على بعض، ويشفق عليه ويرحمه (بالتّقوى) ؛ أي: بسبب تقوى الله لا رياء؛ ولا سمعة، ولا خوفا، واتقاء شرّ.
فالباء سببيّة، كقوله تعالى رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [29/ الفتح] .
(ويتواضعون) أي: يتواضع بعضهم لبعض، ولا يتكبّر أحد على أحد؛ فيخدمه ويخفض جناحه له، كما قال تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [54/ المائدة] وكما قال تعالى أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [29/ الفتح]
(ويوقّر) فيه (الكبار) عمرا؛ أو قدرا.
(ويرحم) فيه (الصّغار) بمقتضى الشفقة، روى الترمذي في «جامعه» ؛ عن أنس:«ليس منّا من لّم يرحم صغيرنا ولم يوقّر كبيرنا» .
(ويؤثرون المحتاج) أي: يقدّمونه على أنفسهم في تقريبه للنّبي صلى الله عليه وسلم ليقضي حاجته منه. (ويحفظون الغريب) من الناس، أي: يراعونه ويكرمونه، ويحفظون حقّه؛ لبعده عن بلاده وأصحابه، ومفارقة أولاده وأحبابه.
(ويخرجون) من عنده (أدلّة) - بالدال المهملة- أي: علماء هداة يدلون الناس (على الخير) .
قال المصنّف: (قوله: لا تؤبن) - بضمّ المثناة الفوقية وهمزة ساكنة وتبدل واوا؛ من الأبن- بفتح الهمزة- يقال: أبنه يأبنه- بكسر الباء وضمّها- أبنا: إذا عابه ورماه بقبيح، وأصل الأبن: العقدة في القسيّ تفسدها وتعاب بها.
(فيه الحرم) - بضمّ الحاء المهملة وفتح الراء المهملة- جمع الحرمة؛ وهي:
ما لا يحلّ انتهاكه وروي بضمّتين بمعنى النساء من الأهل، وما يحميه الرّجل.
أي: لا تذكر فيه النّساء بقبيح، ويصان مجلسه عن الرّفث، وما يقبح ذكره.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه كأنّه أحدهم، فيأتي الغريب فلا يدري أيّهم هو حتّى يسأل عنه. فطلب أصحابه منه أن يجلس مجلسا رفيعا ليعرفه الغريب فقال:«افعلوا ما بدا لكم» ، فبنوا له دكّانا من طين، فكان يجلس عليها.
(أي: لا تذكر فيه النّساء بقبيح) من القول. (و) منه حديث النّهي عن شعر تؤبن فيه النساء، وكذا حديث الإفك «أشيروا عليّ في أناس أبنوا أهلي» . بل كان (يصان مجلسه عن الرّفث) أي: القول الفاحش. (و) عن (ما يقبح) - بضمّ الموحّدة- (ذكره) من لغو القول، وما لا يليق بمقام الكرام. انتهى ملا علي قاري؛ في «شرح الشفاء» وغيره.
(و) في «كشف الغمّة» و «الإحياء» : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه) ؛ مختلطا بهم (كأنّه أحدهم، فيأتي الغريب) من الخارج (فلا يدري أيّهم هو) صلى الله عليه وسلم (حتّى يسأل عنه) الحاضرين؛ فيقول: أيّكم ابن عبد المطلب؟
أو: أيّكم رسول الله!؟ فكانوا يقولون: هذا الأبيض المتّكىء.
(فطلب أصحابه منه أن يجلس مجلسا رفيعا) أي: مرتفعا (ليعرفه الغريب) حال دخوله لما يرى من تميّزه في المجلس؛
(فقال: «افعلوا ما بدا لكم» ) ممّا يجريه الحقّ على أيديكم.
(فبنوا له دكّانا) - بضمّ الدال المهملة وتشديد الكاف- أي: دكة مرتفعة (من طين، فكان يجلس عليها) صلى الله عليه وسلم.
قال العراقي: رواه أبو داود، والنّسائيّ، من حديث أبي هريرة؛ وأبي ذرّ
و (الدّكّان) - كالدّكّة-: المكان المرتفع يجلس عليه، وهو المسطبة «1» .
رضي الله تعالى عنهما. انتهى شرح «الإحياء» .
(والدّكّان) - بزنة رمّان- (: كالدّكّة) - بفتح الدّال المهملة؛ في المعنى- وكلاهما معناهما: (المكان المرتفع) عن الأرض (يجلس عليه) .
وفي «المصباح» : الدّكّان يطلق على الحانوت، وعلى الدّكّة التي يقعد عليها.
قال الأصمعي: إذا مالت النخلة بني تحتها من قبل الميل بناء كالدّكان فتمسكها بإذن الله تعالى أي دكّة مرتفعة.
وقال الفارابي: الطّلل ما شخص من آثار الدار؛ كالدّكان ونحوه.
وأما وزنه!! فقال السّرقسطي: النون زائدة؛ عند سيبويه، وكذلك قال الأخفش. وهي: مأخوذة من قولهم «أكمة دكّاء» أي: منبسطة.
وقال ابن القطّاع وجماعة: هي أصليّة؛ مأخوذة من دكنت المتاع: إذا نضدته. ووزنه على الزيادة فعلان، وعلى الأصالة فعال؛ حكى القولين الأزهريّ وغيره.
فإن جعلت الدّكّان بمعنى الحانوت؛ ففيه التذكير والتأنيث. انتهى
(وهو) أي: المكان المرتفع ( [المسطبة] ) - بفتح الميم وتكسر- أي:
يسمّى بذلك عرفا.
(و) أخرج البزّار في «مسنده» ؛ عن قرّة بن إياس- وهو حديث ضعيف؛ كما في العزيزي-:
(1) في «وسائل الوصول» : المصطبة. وكلاهما جائز.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس.. جلس إليه أصحابه حلقا حلقا.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يتنخّم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل من أصحابه، فيدلك بها وجهه وجلده. وكان صلى الله عليه وسلم إذا توضّأ.. كادوا يقتتلون على وضوئه؛ أي: الماء الّذي يتوضّأ به.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا تكلّموا عنده.. يخفضون أصواتهم، وإذا
…
(كان صلى الله عليه وسلم إذا جلس) يتحدّث (جلس إليه أصحابه حلقا حلقا) قال العزيزي:
بكسر الحاء وفتح اللام. وقال المناوي: [حلقا] بفتحتين؛ على غير قياس، واحدته: حلقة- بالسكون-. والحلقة: القوم الذين يجتمعون متدبّرين، وذلك لاستفادة ما يلقيه من العلوم وينشره من الأحكام الشرعية.
(و) أخرج البخاريّ في «صحيحه» ؛ عن مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة في حديث صلح الحديبية الطويل؛ من كلام عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه:
(كان صلى الله عليه وسلم لا يتنخّم نخامة) - بضمّ النون-: ما يصعد من الصدر إلى الفم (إلّا وقعت في كفّ رجل) منهم، أي (من أصحابه فيدلك بها) أي: بالنّخامة (وجهه وجلده) ؛ تبرّكا بفضلاته. زاد ابن إسحاق: ولا يسقط من شعره شيء إلّا أخذوه.
وفي البخاريّ: وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره.
(وكان صلى الله عليه وسلم إذا توضّأ) الأولى حذف «كان، وما بعدها» ، لأنّه من جملة كلام عروة بن مسعود؛ إذ قال: وإذا توضّأ (كادوا يقتتلون على وضوئه) - بفتح الواو- (أي) فضلة (الماء الّذي يتوضّأ به) ، أو على ما يجتمع من القطرات، وما يسيل من الماء الذي باشر أعضاءه الشريفة عند الوضوء.
(وكان صلى الله عليه وسلم إذا تكلّموا عنده يخفضون أصواتهم) ، إجلالا له وتوقيرا. (وإذا
نظروا إليه.. لا يحدّون النّظر؛ تعظيما له صلى الله عليه وسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم يتخوّل أصحابه بالموعظة.
وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال:
…
نظروا إليه) صلى الله عليه وسلم (لا يحدّون) - بضمّ الياء المثناة وكسر الحاء المهملة- من الإحداد؛ وهو: شدّة النظر انتهى؛ من «شرح العيني، وزكريا الأنصاري:
كلاهما على البخاريّ» :
أي: لا يتأمّلونه ولا يديمون (النّظر) إليه (تعظيما له صلى الله عليه وسلم .
وهذا من جملة كلام عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه، ثم قال- أي عروة- بعده حين رجع إلى أصحابه؛ مخبرا لهم بما رأى من الصحابة؛ من محبّتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلالهم وتعظيمهم؛ قال: أي قوم؛ والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على كسرى وقيصر والنّجاشي، والله إن رأيت ملكا قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمّدا، والله؛ إن تنخّم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل منهم؛ فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر؛ تعظيما له، وإنّه قد عرض عليكم خطّة رشد!! فاقبلوها
…
الحديث.
(وكان صلى الله عليه وسلم يتخوّل) - بفتح المثناة التحتية وفتح التاء الفوقية، والخاء المعجمة والواو المشدّدة المفتوحة واللام- أي: يتعهّد (أصحابه بالموعظة) أي: بالنصائح المفيدة؛ مخافة السامة، أي: الملالة عليهم. رواه الشيخان؛ من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة؛ مخافة السامة علينا.
(و) أخرج أبو داود، والترمذيّ في «الشمائل» - واللفظ لها-، والبزار، والبيهقيّ وإسناده ضعيف: كلهم؛ (عن أبي سعيد الخدريّ) : سعد بن مالك بن سنان (رضي الله تعالى عنه) وعن والده؛ (قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد.. احتبى بيديه. قوله: (احتبى) الاحتباء: أن يجلس على ألييه ويضمّ رجليه إلى بطنه بنحو عمامة يشدّها عليهما وعلى ظهره.
و (اليدان) بدل عمّا يحتبي به؛ من نحو عمامة.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد احتبى بيديه)
وفي رواية: بثوبه. زاد البزّار: ونصب ركبتيه.
وأخرج البزار أيضا؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بلفظ: جلس عند الكعبة فضمّ رجليه وأقامها، واحتبى بيديه. ذكره ملا علي قاري.
قال الباجوري؛ كالمناوي: هذا مخصوص بما عدا ما بعد صلاة الفجر، لخبر أبي داود بسند صحيح؛ عن جابر بن سمرة أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى الفجر تربّع في مجلسه حتّى تطلع الشمس حسناء. أي: بيضاء نقيّة.
ومخصوص أيضا بما عدا يوم الجمعة والإمام يخطب، للنهي عنه في حديث جابر ابن سمرة:«الاحتباء مجلبة للنّوم» ، فيفوته سماع الخطيب. وربما ينتقض وضوءه.
(قوله: احتبى) ؛ قال الباجوريّ: (الاحتباء) - بالحاء المهملة- (أن يجلس على ألييه) - بفتح الهمزة- تثنية: ألية؛ وهي: العجيزة، والجمع أليات مثل سجدة وسجدات، ولا تكسر الهمزة؛ كما قاله ابن السّكّيت وجماعة.
(ويضمّ رجليه إلى بطنه بنحو عمامة يشدّها) أي: العمامة (عليهما)، أي:
على رجليه (وعلى ظهره) . هذا معنى الاحتباء، وهذه كيفيته بحسب الاستعمال الكثير المعروف المألوف؛ ويقال: الحبوة جدار العرب.
(واليدان) أي: والاحتباء باليدين (بدل عمّا يحتبي به؛ من نحو عمامة) .
قال الحافظ ابن حجر: والاحتباء جلسة الأعراب، ومنه: الاحتباء حيطان العرب. أي: كالحيطان لهم في الاستناد، فإذا أراد أحدهم الاستناد احتبى، لأنّه لا حيطان في البراري، فيكون الاحتباء بمنزلة الحيطان لهم.
وكان أكثر جلوسه: أن ينصب ساقيه جميعا، ويمسك بيديه عليهما شبه الحبوة. وكان لا يعرف مجلسه صلى الله عليه وسلم من مجالس أصحابه؛ لأنّه كان حيث انتهى به المجلس جلس.
وما رئي صلى الله عليه وسلم قطّ مادّا رجليه يضيّق بهما على أصحابه؛ إلّا أن يكون المكان واسعا.
وكان أكثر جلوسه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة.
(و) في «كشف الغمّة» ك «الإحياء» : (كان أكثر جلوسه) أي: هيئات جلوسه وحالات قعوده (: أن ينصب ساقيه جميعا، ويمسك بيديه عليهما شبه الحبوة) - بضمّ الحاء وكسرها-، والعامة تقول «حبية» .
روى البخاريّ؛ من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة محتبيا بيديه؛ قاله العراقيّ.
(وكان لا يعرف مجلسه صلى الله عليه وسلم من مجالس أصحابه) ؛ لكثرة تواضعه وعدم تميّزه عليهم. روى أبو داود، والنّسائيّ، من حديث أبي هريرة؛ وأبي ذر رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه؛ فيجيء الغريب؛ فلا يدري أيّهم هو حتى يسأل
…
الحديث. (لأنّه كان حيث انتهى به المجلس جلس) . رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ من حديث عليّ الطّويل.
(وما رئي صلى الله عليه وسلم قطّ مادّا رجليه) بين أصحابه (يضيّق بهما على) أحد من (أصحابه؛ إلّا أن يكون المكان واسعا) لا ضيق فيه. قال العراقيّ: رواه الدّارقطني في «غرائب مالك» ؛ من حديث أنس وقال: باطل. وروى الترمذيّ، وابن ماجه:
لم ير مقدّما ركبتيه بين يدي جليس له. زاد ابن ماجه: «قطّ» . وسنده ضعيف.
(وكان أكثر جلوسه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة)، وكان يحثّ أصحابه بذلك؛ ويقول:
«أكرم المجالس ما استقبل به القبلة» كما رواه الطبرانيّ في «الأوسط» ، وابن عديّ، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. انتهى؛ جميعه من «شرح الإحياء» .
وعن قيلة بنت مخرمة رضي الله تعالى عنها: أنّها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وهو قاعد القرفصاء، قالت:
فلمّا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشّع
…
(و) أخرج أبو داود، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» - وهذا لفظها- والبخاريّ في «التاريخ» : كلهم؛
(عن قيلة) - بفتح القاف وسكون التحتيّة ولام- (بنت مخرمة) - بفتح الميم وإسكان المعجمة-.
قال في «الإصابة» : قيلة بنت مخرمة التميمية، ثمّ من بني العنبر، ومنهم من نسبها غنوية؛ فصحّف.
هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع حريث بن حسان «وافد بني بكر بن وائل» .
روى حديثها عبد الله بن حسّان العنبري، عن جدّتيه: صفية ودحيية؛ ابنتي عليبة. وكانتا ربيبتي قيلة، وكانت قيلة جدّة أبيها. أنّها قالت:
قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث بطوله أخرجه الطبرانيّ مطوّلا.
وأخرج البخاريّ في «الأدب المفرد» طرفا منه، وأبو داود طرفا منه أيضا، والترمذيّ؛ من أول المرفوع إلى قوله «يتعاونان» . قال: فذكر الحديث بطوله وقال: لا نعرفه إلّا من حديث عبد الله بن حسّان. قال أبو عمر: هو حديث طويل فصيح. وقد شرح حديثها أهل العلم بالحديث؛ فهو حديث حسن. انتهى.
(رضي الله تعالى عنها؛ أنّها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد) بعد صلاة الصبح. (وهو قاعد القرفصاء) - مثلاثة القاف، والفاء؛ مقصورة- والقرفصاء بالضمّ ممدودة، والقرفصاء- بضمّ القاف والراء على الإتباع؛ وهي منصوب مفعول مطلق؛ أي: قعودا مخصوصا. وسيأتي معنى القرفصاء في كلام المصنّف.
(قالت) أي قيلة (: فلمّا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشّع) - بالتشديد- أي:
في الجلسة «1» .. أرعدت من الفرق.
قوله: (القرفصاء)
…
الخاشع خشوعا تامّا (في الجلسة) أي: في هيئة جلسته تلك وكيفية قعدته المتضمّنة إظهار عبوديّته؛ فهو خافض الطرف والصوت، ساكن الجوارح؛ لا على هيئة جلوس الجبّارين المتكبّرين؛ من التربّع، والتمدّد، والاتكاء، ورفع الرأس، وشماخة الأنف؛ وعدم الالتفات إلى المساكين، والاحتجاب عن المحتاجين.
والتفعّل ليس للتكلّف؛ بل لزيادة المبالغة في الخشوع.
(أرعدت) - بضمّ تاء المتكلم؛ مبنيّا للمجهول- أي: حصلت لي رعدة (من الفرق) - بفاء وراء مفتوحتين، وقاف- أي: الخوف والفزع الناشىء مما علاه صلى الله عليه وسلم من عظم المهابة والجلالة، أو للتّأسّي به، لأنّه إذا كان مع كمال قربه من ربّه غشيه من جلاله ما صيّره كذلك فغيره؛ يجب أن يرعد فرقا وهذا نهاية المهابة. ودليل على أنّ مهابته لأمر سماويّ ليس بالتصنّع.
والظاهر من سياق قصّة قيلة أنّه أوّل ملاقاتها للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولذلك هابته.
ووقع في قصّتها- بعد قولها: أرعدت من الفرق-: فقال له جليسه:
يا رسول الله؛ أرعدت المسكينة!! فقال صلى الله عليه وسلم ولم ينظر إلي وأنا عند ظهره-:
«يا مسكينة عليك السّكينة» . فلما قاله أذهب الله ما كان دخل قلبي من الرّعب انتهى. وقد تقدّم في «اللباس» بعض من قصّتها.
(قوله: القرفصاء) - بضمّ القاف وإسكان الراء وضمّ الفاء وصاد مهملة؛ مع المدّ- وهذه اللغة هي الفصحى، والقرفصى- مثلث القاف والفاء مع القصر- وزاد ابن جني: القرفصاء- بضمّ القاف والراء مع المدّ- وقال: هو على الإتباع ضرب من القعود. قال الجوهري: فإذا قلت قعد فلان القرفصاء. فكأنّك قلت: قعد قعودا مخصوصا.
(1) في «وسائل الوصول» : جلسته.
هي: أن يجلس على ألييه، ويلصق فخذيه ببطنه، ويضع يديه على ساقيه، وهي: جلسة المحتبي. وقيل: أن يجلس على ركبتيه منكبّا، ويلصق بطنه بفخذيه، ويتأبّط كفّيه.
و (الفرق) : الخوف.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه:
…
و (هي: أن يجلس على ألييه، ويلصق فخذيه ببطنه، ويضع يديه على ساقيه) ؛ كما يحتبى بالثوب؛ فتكون يداه مكان الثوب، (وهي:«جلسة المحتبي» .
وقيل) - كما نقله الجوهري؛ عن أبي المهدي- هي (: أن يجلس على ركبتيه منكبّا) - بالنون بعد الميم وباء آخره- (ويلصق بطنه بفخذيه، ويتأبّط كفّيه) ، وهي «جلسة الأعراب» .
(والفرق) - بفاء وراء مفتوحتين- (: الخوف) والفزع.
(وعن أنس رضي الله تعالى عنه) ؛ كذا في النسخ التي بأيدينا من هذا الكتاب «وسائل الوصول» .
والحديث بتمامه مذكور في «المواهب» !! قال شارحها الزّرقاني:
أخرجه ابن ماجه، والحاكم؛ من حديث أبي مسعود البدريّ، والحاكم أيضا؛ من حديث جرير.
وذكر في «الإحياء» قطعة منه إلى قوله «تأكل القديد» . وعزاه الزّبيديّ شارح «الإحياء» إلى الحاكم؛ من حديث جرير. وقال: صحيح على شرط الشيخين.
وكذا ذكر هذه القطعة في «الشفاء» للقاضي عياض، وعزاها شرّاحه إلى الحاكم؛ من حديث أبي مسعود البدري أيضا.
وراجعت «مستدرك الحاكم» فوجدته ذكر القطعة الّتي في «الإحياء» في
.........
موضعين: الموضع الأول في «التفسير» ؛ من حديث جرير بن عبد الله البجلي.
والموضع الثاني: في «المغازي» ؛ من حديث أبي مسعود البدري.
كما راجعت ابن ماجه؛ فوجدته ذاكرا القطعة الّتي في «الإحياء» ؛ من حديث أبي مسعود البدري.
وذكر النّوويّ في «رياض الصالحين» القطعة الأخيرة من الحديث معزوّة إلى مسلم؛ من حديث عياض بن حمار. قال شارحه ابن علّان: ورواه أبو داود، وابن ماجه؛ من حديث عياض أيضا، وكذا ذكره في «الجامع الصغير» بلفظ «رياض الصالحين» ، ورمز له برمز مسلم وأبي داود وابن ماجه؛ عن عياض بن حمار.
وراجعت مسلما وأبا داود وابن ماجه؛ فوجدتهم ذكروا الحديث كما قال النووي، وجعلوه من مسند عياض بن حمار.
ولم أر أحدا من هؤلاء ذكر الحديث من مسند أنس بن مالك؛ كما قال المصنف!! إلّا الإمام الشّعراني في «كشف الغمّة» !! فإنّه ذكر القطعة الّتي ذكرها في «الإحياء» ؛ فقال: قال أنس رضي الله عنه وأتي صلى الله عليه وسلم برجل
…
الخ فتبعه المصنّف.
نعم؛ رأيت في «سنن ابن ماجه» في «كتاب الزهد» من مسند أنس بن مالك القطعة الأخيرة من الحديث، وهي قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله أوحى إليّ أن تواضعوا، ولا يبغي بعضكم على بعض» .
والظاهر أنّ نسخة «كشف الغمّة» فيها تحريف، وأنّ قوله «قال أنس بن مالك» صوابه:«قاله أنس بن مالك» . والضمير في «قاله أنس» يعود على الكلام قبله، لأنّه المرويّ عن أنس بن مالك. ولفظه: كان صلى الله عليه وسلم إذا مرّ على الصبيان سلّم عليهم، ثمّ باسطهم
…
فهذا الحديث هو الّذي رواه أنس بن مالك. أخرجه الإمام الترمذيّ عنه؛ كما ذكره في شرح «الإحياء» .
أتي صلى الله عليه وسلم برجل فأرعد من هيبته صلى الله عليه وسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم:«هوّن عليك، فلست بملك، إنّما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» ، فنطق الرّجل بحاجته، فقام صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيّها النّاس؛ إنّي أوحي إليّ
…
وقد تقدّم ذلك في الباب الرابع. فراجعه. والله أعلم.
(أتي صلى الله عليه وسلم برجل) يوم الفتح، (فأرعد من هيبته) أي: انتفض جسمه من مهابته صلى الله عليه وسلم عند وقوع بصره عليه، إذ قد تقدّم من وصفه: أنّه من رآه بديهة هابه.
وما ساقه المصنّف هو لفظ «كشف الغمّة» و «الإحياء» !!
وفي «المواهب» : ولقد جاء إليه صلى الله عليه وسلم رجل فقام بين يديه؛ فأخذته رعدة شديدة ومهابة، (فقال له صلى الله عليه وسلم:«هوّن عليك) - أي: خفّف عن نفسك هذا الخوف وأزله منك، ولا تجزع منّي-، (ف) - إني- (لست بملك) أي: متصوّر بصورة ملوك الأرض يهاب منهم! (إنّما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» ) ؛ أي: اللحم اليابس، وكانت قريش تقدّد اللحم وترفعه لوقت الحاجة. (فنطق الرّجل بحاجته) التي جاء لها، فسكّن عليه الصلاة والسلام روعه؛ شفقة، لأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وسلب عن نفسه الملوكية؛ بقوله «فإنّي لست بملك» لما يلزمها من الجبروتية، وقال «أنا ابن امرأة» فنسب نفسه إليها، ولم يقل «رجل» !! زيادة في شدّة التواضع؛ وتسكين الروع، لما علم من ضعف النسّاء، ووصفها بأنها تأكل القديد!! تواضعا، لأن القديد مفضول، وهو مأكول المتمسكنة، وكأنّه قال «أنا ابن امرأة مسكينة تأكل مفضول الأكل؛ فكيف تخاف مني!!» .
(فقام صلى الله عليه وسلم ؛ إذ رأى تواضع نفسه مع الرجل سكّن روعه فتمكّن من عرض حاجته عليه؛ آمرا لهم بالتواضع وبيّن أنّه بالوحي؛
(فقال: «يا أيّها النّاس؛ إنّي أوحي إليّ) وحي إرسال، وزعم أنّه وحي
أن تواضعوا، ألا فتواضعوا حتّى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد،
…
إلهام!! خلاف الأصل؛ وخلاف الظاهر بغير دليل، والوحي: إعلام في خفاء.
(أن تواضعوا) أي: تواضعكم، أي: آمركم به (ألا فتواضعوا) بخفض الجناح ولين الجانب (حتّى لا يبغي) أي: لا يجور ولا يعتدي؛ (أحد) منكم (على أحد) ولو ذمّيّا؛ أو معاهدا؛ أو مؤمّنا. والبغي: مجاوزة الحدّ في الظلم.
وذلك لأنّ من انكسر وتذلّل امتثالا لأمر الله عز وجل حال ذلك بينه وبين الفساد والوقوع في الظلم والاعتداء والعناد، ف «حتّى» هنا بمعنى «كي» ؛ كما قال الطيبي، فهو علّة للتواضع، فيكون طريقا لترك البغي والتعدّي.
(ولا يفخر) - بفتح الخاء المعجمة- والفخر: هو المباهاة بالمكارم والمناقب؛ من حسب ونسب.. وغير ذلك، سواء كان فيه، أو في آبائه. أي: لا يباهي (أحد) بتعداد محاسنه؛ كبرا، ورفع قدره على الناس؛ تيها وعجبا مستعليا بفخره (على أحد) ليس كذلك، فالخلق من أصل واحد، والنظر إلى العرض الحاضر الزائل ليس من شأن العاقل.
قال المجد ابن تيمية: نهى الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عن نوعي الاستطالة على الخلق، وهما: البغي والفخر، لأن المستطيل إن استطال بحقّ؛ فقد افتخر، أو بغير حق فقد بغى. فلا يحلّ هذا ولا هذا، فإن كان الإنسان من طائفة فاضلة؛ كبني هاشم!! فلا يكن حظّه استشعار فضل نفسه، والنظر إليها، فإنّه مخطىء، إذ فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص، فربّ حبشيّ أفضل عند الله من جمهور قريش.
ثم هذا النظر يوجب بغضه وخروجه عن الفضل؛ فضلا عن استعلائه بهذا.
واستطالته به.
وأخذ منه أنّه يتأكّد للشيخ التواضع مع طلبته، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)[الشعراء] وإذا طلب التواضع لمطلق النّاس؛ فكيف لمن له حقّ
وكونوا عباد الله إخوانا» .
وعن عبد الله بن زيد
…
الصحبة وحرمة التودّد وصدق المحبّة؟!! لكن لا يتواضع معهم مع اعتقاد أنّهم دونه! فقد قال ابن عطاء الله السّكندري رحمه الله تعالى: من أثبت لنفسه تواضعا؛ فهو المتكبّر حقّا، فالتواضع لا يكون إلّا عن رفعة مع عظمة واقتدار؛ ليس المتواضع الذي إذا تواضع رأى أنّه فوق ما صنع، بل الذي إذا تواضع رأى أنّه دون ما صنع. انتهى ذكره المناوي على «الجامع الصغير» .
(وكونوا) يا (عباد الله) فهو منادى بحذف الأداة، والخبر قوله (إخوانا» ) ، لا قوله «عباد الله» إذ هم عباده، فالقصد كونهم إخوانا. انتهى «زرقاني» .
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، و «الموطأ» ، و «الشمائل» ؛ (عن) أبي محمد (عبد الله بن زيد) بن عاصم بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن غنم بن مازن بن النّجّار الأنصاري المازني؛ يعرف ب «ابن أمّ عمارة» واسمها نسيبة- بفتح النون وضمها- وهو راوي 1- حديث: صفة الوضوء، و 2- حديث: الرجل يشكّ في الحدث؛ فلا ينصرف حتى يسمع صوتا، و 3- حديث: صلاة الاستسقاء.
وهو غير صاحب الأذان. لأنّ هذا اسمه عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وليس له إلّا حديث الأذان فقط، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة: اثنتين وثلاثين هجرية. بخلاف عبد الله بن زيد بن عاصم صاحب الترجمة؛ فإنّ له عدّة أحاديث، وشهد أحدا؛ وما بعدها من المشاهد،
واختلفوا في شهوده بدرا!! فقال ابن منده، وأبو نعيم الأصبهاني: شهدها.
وقال ابن عبد البرّ؛ لم يشهدها. ويقال: هو قاتل مسيلمة الكذّاب. شارك وحشيا في قتله؛ رماه وحشي بالحربة، وقتله عبد الله بن زيد بسيفه.
خرّج له الجماعة أهل الكتب الستة. وروى عنه ابن أخيه عبّاد بن تميم،
رضي الله تعالى عنهما: أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم مستلقيا في المسجد، واضعا إحدى رجليه على الآخرى.
ويحيى بن عمارة، وواسع بن حبان وغيرهم.
واستشهد يوم الحرّة بالمدينة المنورة سنة: ثلاث وستين، وهو: ابن سبعين سنة، وكان أبوه زيد صحابيا (رضي الله تعالى عنهما) ؛ ذكره النووي في «التهذيب» .
(أنّه) أي: عبد الله بن زيد (رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم مستلقيا) ؛ أي: مضطجعا على قفاه (في المسجد) ، ولا يلزم منه نوم، ولا يخفى أنّه إذا حلّ الاستلقاء في المسجد حلّ الجلوس فيه بالأولى، فلهذا ذكر هذا الحديث في فصل جلوس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاندفع ما يقال «الاستلقاء ليس من الجلوس، فلا وجه لذكر هذا الحديث في هذا الباب» .
(واضعا) حال من النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا قوله «مستلقيا في المسجد» حال من النبي؛ فيكون حالا مترادفة، أو «واضعا» حال من ضمير «مستلقيا» ؛ فتكون حالا متداخلة، أي: حال كونه واضعا (إحدى رجليه على الآخرى) ، وهذا يدلّ على حلّ وضع الرّجل على الآخرى حال الاستلقاء، مع مدّ الآخرى؛ أو رفعها.
لكن يعارض ذلك رواية مسلم؛ عن جابر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستلقينّ أحدكم ثمّ يضع إحدى رجليه على الآخرى» .
وجمع بأن الجواز لمن لم يخف انكشاف عورته بذلك، كالمتسرول مثلا، والنهي خاصّ بمن خاف انكشاف عورته بذلك؛ كالمؤتزر.
وإنما اطلق النهي!! لأن الغالب فيهم الاتزار.
نعم؛ الأولى خلافه في مجامع الناس، وبحضرة من يحتشمه، وإن لم يخف الانكشاف؛ لا كخدمه وأصاغر جماعته، والظاهر من حال المصطفى صلى الله عليه وسلم أنّه إنّما فعله عند خلوّه ممن يحتشم منه.
وروى أبو داود بسند صحيح: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى الفجر.. تربّع في مجلسه حتّى تطلع الشّمس حسناء؛ أي: بيضاء نقيّة.
وهذا الجمع- كما قال الحافظ ابن حجر- أولى من ادّعاء النسخ، لأنه لا يصار إليه بالاحتمال، وأولى من زعم أنّه من خصائصه، لأنه لا يثبت بالاحتمال أيضا، ولأن بعض الصّحب كانوا يفعلونه بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم بالمسجد؛ ولم ينكره!! انتهى مناوي، وباجوري على «الشمائل» .
(وروى أبو داود) في «كتاب الأدب» (بسند صحيح) ، وكذا رواه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي بتغيير في الألفاظ؛ كلهم عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه
(أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى الفجر تربّع في مجلسه) أي: يذكر الله تعالى- كما في رواية الطبراني- (حتّى تطلع الشّمس حسناء؛ أي: بيضاء نقيّة) ؛ أي:
زائلة عنها الصفرة التي تتخيل فيها عند الطلوع بسبب ما يعترض دونها على الأفق من الأبخرة والأدخنة. والمعنى أنّه كان يجلس متربّعا في مجلسه مستقبل القبلة يذكر الله تعالى إلى ارتفاع الشمس.
وفيه استحباب الجلوس في المصلّى بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، مع الاشتغال بذكر الله تعالى في هذه الجلسة، فإنّ ثواب ذلك عظيم جدّا.
فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود، وأبو يعلى؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه بإسناد حسن- أنّه قال:«لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتّى تطلع الشّمس أحبّ إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل؛ دية كلّ واحد منهم اثنا عشر ألفا، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة العصر إلى أن تغرب الشّمس أحبّ إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل؛ دية كلّ واحد منهم اثنا عشر ألفا» .
وكان صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مجلس إلّا قال:
«سبحانك اللهمّ وبحمدك، لا إله إلّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» ، وقال:«لا يقولهنّ أحد حيث يقوم من مجلسه.. إلّا غفر له ما كان منه في ذلك المجلس» .
وأخرج الترمذيّ- وقال: حسن غريب-؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؛ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من صلّى الفجر في جماعة ثمّ قعد يذكر الله تعالى حتّى تطلع الشّمس، ثمّ صلّى ركعتين؛ كانت له كأجر حجّة وعمرة تامّة
…
تامّة
…
تامّة» .
قال في «الحرز» : قوله «ثمّ قعد يذكر الله تعالى» أي: استمرّ على حال ذكره؛ سواء كان قائما، أو قاعدا، أو مضطجعا. والجلوس أفضل إلّا إذا عارضه أمر؛ كالقيام لطواف، أو صلاة جنازة، أو لحضور درس ونحوها. انتهى.
وما ذكره من القيام للطواف!! جرى على مثله المحقّق الشهاب الرّمليّ.
وفي «التحفة» لابن حجر: وأفتى بعضهم بأن الطواف بعد الصبح أفضل من الجلوس ذاكرا إلى طلوع الشمس وصلاة ركعتين، وفيه نظر ظاهر!! بل الصواب أنّ الثاني أفضل، لأنّه صحّ في الأخبار الصحيحة ما يقارب ذلك، ولأن بعض الأئمة كره الطواف بعد الصبح؛ ولم يكره أحد تلك الجلسة، بل أجمعوا على ندبها وعظيم فضلها. انتهى «شرح الأذكار» .
(و) أخرج الحاكم في «المستدرك» - قال العزيزي: وهو حديث صحيح- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مجلس) ؛ أي: لا يفارقه (إلّا قال) - أي: قبل قيامه أو عقبه-
(: «سبحانك اللهمّ) - ربي، وفي رواية: ربّنا- (وبحمدك) أي: سبّحتك (لا إله إلّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» ، وقال: «لا يقولهنّ) ؛ أي: هذه الكلمات (أحد حيث يقوم من مجلسه إلّا غفر له ما كان منه في ذلك المجلس» ) .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسا، فأراد أن يقوم..
استغفر عشرا إلى خمس عشرة،
…
أي: الذنوب الواقعة فيه مطلقا، أو خصوص الصغائر عند الجمهور إلّا حقوق الخلق؛ من نحو غيبة، أو أخذ مال، فلا بدّ من ردّه، أو استحلاله؛ قاله الحفني.
قال المناوي: في رواية «أنه كان يقول ذلك ثلاثا» .
قال الحليمي: كان يكثر أن يقول ذلك بعد نزول سورة الفتح الصغرى «1» عليه، وذلك لأن نفسه نعيت إليه بها.
فينبغي لكلّ من ظنّ أنّه لا يعيش مثل ما عاش؛ أو قام من مجلس فظنّ أنّه لا يعود إليه أن يستعمل هذا الذكر. إلى هنا كلامه!.
وقال الطيّبيّ: فيه ندب الذكر المذكور عند القيام، وأنّه لا يقوم حتّى يقوله، إلّا لعذر.
قال القاضي عياض: وكان السّلف يواظبون عليه، ويسمّى ذلك «كفّارة المجلس» .
(و) أخرج ابن السّنّيّ في «عمل اليوم والليلة» ؛ عن أبي أمامة الباهليّ؛- وهو حديث حسن لغيره؛ كما قال العزيزي-:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسا) ؛ أي: قعد مع أصحابه يتحدّث، (فأراد أن يقوم) منه (استغفر) الله تعالى (عشرا) من المرّات، وزاد (إلى خمس عشرة) مرّة، بأن يقول «أستغفر الله الّذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه» كما ورد تعيينه في خبر آخر، فتارة يكرّرها عشرا، وتارة يزيد إلى خمس عشرة مرّة.
(1) هي السورة التي ذكر فيها النصر: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ.... وأما الكبرى فهو التي ذكر فيها إِنَّا فَتَحْنا لَكَ....
وروى ابن السّنّيّ: عشرين مرّة.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا انصرف.. انحرف بجانبه.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام
…
وهذه تسمّى «كفارة المجلس» أي: أنّها ماحية لما يقع فيه من اللّغط، وكان عليه الصلاة والسلام يقولها تعليما للأمة، وتشريعا، وحاشا مجلسه من وقوع اللّغط!!.
(و) قد (روى ابن السّنّيّ) أيضا؛ عن عبد الله الحضرمي أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من المجلس استغفر الله (عشرين مرّة) ؛ فأعلن بالاستغفار. أي: نطق به جهرا؛ لا سرّا، ليسمعه القوم فيقتدوا به.
وأخرج النسائي في «اليوم والليلة» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
ما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا، ولا تلا قرآنا، ولا صلّى إلّا ختم ذلك بكلمات فقلت يا رسول الله أراك ما تجلس مجلسا، ولا تتلو قرآنا ولا تصلّي صلاة إلا ختمت بهؤلاء الكلمات؟! قال:«نعم؛ من قال خيرا كنّ طابعا له على ذلك الخير، ومن قال شرّا كانت كفّارة له: سبحانك اللهمّ [و] بحمدك، لا إله إلّا أنت أستغفرك، وأتوب إليك» . انتهى. ذكره المناوي في «الشرح الكبير على الجامع الصغير» .
(و) أخرج أبو داود بسند حسن؛ عن يزيد بن الأسود العامري السوائي رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف) ؛ أي: من صلاته بالسّلام (انحرف بجانبه) ، بأن يدخل يمينه في المحراب ويساره إلى الناس- على ما عليه الحنفية-، أو عكسه- على ما عليه الشافعية-؛ فيندب ذلك للإمام إلّا إذا كان في مسجد المدينة فالأفضل موافقة الحنفية، لئلا يصير مستدبرا لقبره صلى الله عليه وسلم.
انتهى «عزيزي» .
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» ؛ عن وائل بن حجر الحضرمي رضي الله تعالى عنه قال:
(كان صلى الله عليه وسلم إذا قام) ؛ أي: من جلسة الاستراحة في الصلاة؛ كما في
اتّكأ على إحدى يديه.
وأمّا اتّكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متّكئا على وسادة على يساره.
وعن أبي بكرة
…
المناوي. قال العزيزي: وظاهر الحديث الإطلاق، وهو المنقول في كتب الفقه (اتّكأ) - بالهمزة-، (على إحدى يديه) كالعاجن- بالنون-، فيندب ذلك لكلّ مصلّ من إمام أو غيره؛ ولو ذكرا قويّا، لأنه أعون وأشبه بالتواضع.
وقوله «إحدى يديه» هو ما وقع في هذا الخبر، وفي بعض الأخبار «يديه» بدون «إحدى» ، وعليه الشافعية؛ فقالوا لا تتأدّى السنّة بوضع إحداهما مع وجود الآخرى وسلامتها؛ قاله المناوي في «شرحه الكبير على الجامع الصغير» .
(وأمّا اتّكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وهو الاعتماد على الشيء من وسادة ونحوها.
(ف) قد ورد فيما أخرجه أبو داود في «اللباس» ، والترمذي في «الجامع» في «الاستئذان» ، وقال: حديث حسن غريب. وفي «الشمائل» - واللفظ لها-؛
(عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه؛ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي:
أبصرته حال كونه (متّكئا على وسادة) - بكسر الواو- بوزن: إفادة- بمهملات- متعلّق ب «متّكئا» . وهي المخدّة- بكسر الميم وفتح الخاء المعجمة- وقد يقال: «وساد» بلا تاء، و «أساد» بالهمزة بدل الواو (على يساره) ؛ أي: حال كونها موضوعة على يساره، أي: جانبه الأيسر، وهو لبيان الواقع، وإلّا! فيحلّ الاتكاء يمينا أيضا.
وقد بيّن الراوي في هذا الخبر ما اتكأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكيفية اتكائه.
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» واللفظ لها؛ كلهم
(عن أبي بكرة) - بالهاء في آخره- كنّي بذلك!! لأنه تدلّى من حصن بالطائف
رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أحدّثكم
…
إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببكرة، وكان أسلم وعجز عن الخروج من الطائف إلّا هكذا.
وهو صحابي مشهور بكنيته، واسمه نفيع- بضم النون وفتح الفاء؛ بعدها مثناة تحتية؛ مصغّر- ابن الحارث بن كلدة- بكاف ولام مفتوحتين- ابن عمرو بن علاج بن أبي سلمة، وهو عبد العزّى بن غيرة- بكسر الغين المعجمة- ابن عوف بن قسي- بفتح القاف وكسر السين المهملة- وهو ثقيف بن منبه الثقفي البصري.
وأمّه سميّة أمة للحارث بن كلال؛ وهي أيضا أمّ زياد بن أبيه، فهو أخوه من الأم.
وكان أبو بكرة من الفضلاء الصالحين، ولم يزل على كثرة العبادة حتى توفّي، وكان أولاده أشرافا بالبصرة في كثرة العلم والمال والولايات.
قال الحسن البصري: لم يكن بالبصرة من الصحابة أفضل من عمران بن حصين؛ وأبي بكرة. واعتزل أبو بكرة يوم الجمل فلم يقاتل مع أحد من الفريقين.
وروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنان وثلاثون حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم منها على ثمانية أحاديث، وانفرد البخاريّ بخمسة، وانفرد مسلم بحديث.
روى عنه ابناه: عبد الرحمن ومسلم، وربعيّ بن حراش، والحسن البصري، والأحنف.
وكانت وفاته بالبصرة سنة: إحدى وخمسين، وقيل سنة: اثنتين وخمسين هجرية (رضي الله تعالى عنه) وأرضاه. (قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أحدّثكم) وفي رواية: ألا أخبركم» وفي أخرى:
«ألا أنبّئكم» ومعنى الكلّ واحد.
قال الزين العراقي: ويؤخذ من ذلك أنّه ينبغي للعالم أن يعرض على أصحابه ما يريد أن يخبرهم به، وكثيرا ما كان يقع ذلك من المصطفى صلى الله عليه وسلم،
بأكبر الكبائر؟» ،
…
ويحتمل ذلك أمورا؛ منها: ألايجد عندهم قابليّة لما يريد إخبارهم به، لاحتمال كونهم مشغولين بشيء آخر.
ومنها: حثّهم على التفرّغ والاستماع لما يريد إخبارهم به.
ومنها: أن يكون وجد هناك سببا يقتضي التحذير بما يحذّرهم، أو الحضّ على الإتيان بما فيه صلاحهم.
(بأكبر الكبائر» ) - وفي رواية: «ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟!! «ثلاثا» .
والمراد: أن المصطفى صلى الله عليه وسلم أعاد هذه الكلمة ثلاث مرّات؛ على عادته في تكرير كلامه المفيد؛ تأكيدا لينبّه السامع على احضار قلبه وفهمه للخبر الذي يذكره- كما يأتي في وصف كلامه-.
والكبائر؛ جمع كبيرة، واختلف في تعريفها!! فقيل: ما توعّد عليه بخصوصه بنحو غضب، أو لعن في الكتاب أو السنة. واختاره في «شرح اللّبّ» للقاضي زكريا الأنصاري. وقيل: ما يوجب حدّا.
واعترض على الأوّل: بالظهار، وأكل الخنزير، والإضرار في الوصية؛ ونحو ذلك مما عدّ كبيرة؛ ولم يتوعّد عليه بشيء من ذلك.
واعترض على الثاني: بالفرار من الزحف، والعقوق، وشهادة الزور، ونحوها من كلّ ما لا يوجب حدّا؛ وهو كبيرة.
وقيل: كلّ جريمة تؤذن بقلّة اكتراث مرتكبها بالدّين ورقّة الدّيانة؛ وعليه إمام الحرمين. وهو أشمل التعاريف.
لكن اعترض عليه بأنه يشمل صغائر الخسّة؛ كسرقة لقمة، وتطفيف حبّة.
والإمام إنّما ضبط به ما يبطل العدالة من المعاصي.
قال بعض الشافعية: والتحقيق: أنّ كلّ واحد من الأوجه اقتصر على بعض أنواعها. وبمجموع الأوجه يحصل ضابطها. وقد عدّوا منها جملة مستكثرة، حتّى
قالوا: بلى يا رسول الله، قال:«الإشراك بالله، وعقوق الوالدين» ،
قال الأذرعي في «التوسّط» : رأيت للحافظ الذهبي جزآ جمع فيه من الكبائر أربعمائة. انتهى.
أقول: قد وقفت على ذلك الجزء، فلم أجده عدّ فيه إلّا نحو ثمانين!! انتهى (مناوي)
وقد استوعب المحقّق ابن حجر الهيتميّ في «الزواجر» كلّ ما قيل فيه «إنّه كبيرة» ، أو انطبق عليه تعاريف الكبيرة. وقد عدّ منها أربعمائة ونيّفا وستين؛ في مجلدين ضخمين وهو مطبوع متداول!! فلينظره من أراده
(قالوا: بلى)، أي: حدّثنا (يا رسول الله)
فائدة النداء مع عدم الاحتياج إليه!! الإشارة إلى عظيم الإذعان لرسالته المصطفوية، وما ينشأ عنها من بيان الشريعة واستجلاب ما عنده من الكمالات والعلوم التي أوتيها بعد رسالته؛ كذا قيل. ذكره المناوي على «الشمائل»
(قال: «الإشراك بالله) يعني الكفر به، وإنما عبّر بالإشراك!! لأنه أغلب أنواع الكفر؛ لا لإخراج غيره (وعقوق) - بضمّ العين المهملة- (الوالدين» ) ؛ أو أحدهما. وجمعهما!! لأن عقوق أحدهما يستلزم عقوق الآخر غالبا، أو يجرّ إليه، لأن من تجرّأ على أحدهما تجرّأ على الآخر، لأن المعصية عقوبة المعصية قبلها، والطاعة تعجيل لبعض ثواب الطاعة قبلها، فالطاعات تتسلسل، كما أن المعاصي والذنوب تتسلسل بعضها يلي بعض، فالمتأخّرة من بعض ثمرات المتقدّمة
والمراد من العقوق: أن يصدر من الولد في حقّهما ما من شأنه أن يؤذيهما من قول؛ أو فعل مما لا يحتمل عادة.
والمراد بالوالدين: الأصلان؛ وإن عليا. ومال الزركشيّ الشافعي إلى إلحاق العمّ والخال بهما، ولم يتابع عليه!.
وقرن العقوق بالشرك!! لمشاركته له من حيث أنّ الأب سبب وجوده ظاهرا؛
قال: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متّكئا- قال:
«وشهادة الزّور» ؛ أو: «قول الزّور»
…
وهو يربّيه، ولذلك ذكرهما تعالى في سلك واحد، فقال. وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [23/ الإسراء] .
(قال) أي: أبو بكرة (وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ تنبيها على عظم إثم شهادة الزور وتأكيد تحريمها وعظيم قبحها. (وكان متّكئا) قبل جلوسه.
وهذا وجه مناسبة الحديث للترجمة، لأن فيه الاتّكاء.
(قال) ؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم استئناف بيانيّ، فكأنّ سائلا قال: ما فعل بعد ما جلس!! فقال: قال (وشهادة الزّور) ؛ عطف على ما سبق، أي: وأكبر الكبائر شهادة الزور.
وخصّها!! 1- لما يترتّب عليها من نحو قتل وزنا، و 2- لغلبة وقوع الناس فيها واستهانتهم بها، فإنّ الشّرك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يضرب عنه الطبع. وأما الزور!! فالحامل عليه كثير؛ من نحو عداوة، وحسد، فاحتيج للاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لكونه فوق الإشراك؛ أو مثله، بل لتعدّي مفسدته إلى الغير، فكانت أبلغ ضررا من هذا الوجه.
قال القرطبي: شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصّل بها إلى الباطل؛ من إتلاف نفس، أو أخذ مال، أو تحليل حرام؛ أو تحريم حلال، فلا شيء أعظم ضررا منه، ولا أكثر فسادا بعد الشرك بالله. انتهى؛ ذكره العلامة ملا علي قاري.
قال المطرّزيّ: وأصل الزّور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته حتّى يخيّل لمن سمعه بخلاف ما هو. وقيل للكذب «زور» !! لأنه مائل عن جهته.
(أو «قول الزّور» ) شكّ من الراوي، لا من الصحابي، إذ يبعد نسيانه مع المبالغة وكثرة التكرار. ورواية البخاري لا شكّ فيها؛ وهي «ألا وقول الزّور، وشهادة الزّور» فما زال يكرّرها حتّى قلنا: ألا سكت!!.
قال: فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها حتّى قلنا: ليته سكت.
قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون عطف تفسير، فإنّا لو حملنا القول على الإطلاق؛ لزم أن الكذبة الواحدة كبيرة!! وليس كذلك.
وجزم غيره بأنّه عطف خاصّ على عامّ، وأنّ كلّ شهادة زور قول زور، ولا ينعكس.
وفيه أنّه ينبغي للواعظ والمفيد فعل ما يفيد كثرة توجّه الحاضرين من تغيير الوضع والتكرار والمبالغة وإجهاد النفس في الإفادة؛ حتّى يرحمه السامعون، كما يدلّ له قوله (قال) أي: أبو بكرة
(: فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها) أي: هذه الكلمة؛ وهي «شهادة الزّور، أو قول الزّور» (حتّى قلنا: ليته سكت) تمنّوا سكوته!! شفقة عليه وكراهة لما يزعجه، أو خوفا أن يجري على لسانه ما يوجب نزول البلاء عليهم. وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب والمحبّة والشفقة عليه صلى الله عليه وسلم.