الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفصل الأوّل في صفة خلقه صلى الله عليه وسلم وحلمه]
الفصل الأوّل في صفة خلقه صلى الله عليه وسلم وحلمه (الفصل الأوّل) من الباب الخامس (في) بيان ما ورد في (صفة خلقه صلى الله عليه وسلم .
في «النهاية» : الخلق- بالضّم والسكون، وبضمّتين-: السجيّة والطبيعة، والمروءة والدين. وحقيقته: أنّه صورة الإنسان الباطنة؛ وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصّة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلّقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلّقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكرّرت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع. انتهى.
واختلف: هل حسن الخلق غريزة طبيعية، أو مكتسبة اختيارية!؟.
فقيل بالأوّل؛ لخبر البخاري: «إنّ الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم» .
وقيل: بعضه مكتسب؛ لما صحّ في خبر الأشجّ: «إنّ فيك لخصلتين يحبّهما الله: الحلم، والأناة» قال: يا رسول الله؛ قديما كان فيّ أو حديثا؟! قال:
«قديما» . قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبّهما.
قال ابن حجر الهيتمي- رحمه الله تعالى-: فترديد السؤال عليه وتقريره يشعر بأنّ منه ما هو جبلّيّ، ومنه ما هو مكتسب؛ وهذا هو الحق.
ومن ثمّ قال القرطبيّ: هو جبلّة في نوع الإنسان؛ وهم متفاوتون فيه، فمن غلبه حسنه؛ فهو المحمود، وإلّا! أمر بالمجاهدة حتى يصير حسنا، وبالرياضة حتى يزيد حسنه.
.........
قلت: الأظهر أنّ الأخلاق كلّها باعتبار أصلها جبلّيّة؛ قابلة للزيادة والنقصان في الكميّة والكيفيّة والرياضات الناشئة عن الأمور العلمية والعملية، كما تدلّ عليه الأخبار النبوية.
منها حديث: «إنّما بعثت لأتمّم صالح الأخلاق» . رواه البخاري في «تاريخه» ، والحاكم، والبيهقي، وأحمد؛ عن أبي هريرة.
وأخرجه البزّار بلفظ: «مكارم الأخلاق» .
ومنها ما في «مسلم» ؛ عن علي كرّم الله وجهه في «دعاء الافتتاح» :
«واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلّا أنت» .
ومنها ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ كما حسّنت خلقي فحسّن خلقي» .
فالمراد: زيادة تحسين الخلق على ما هو الظاهر؛ على طبق رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)[طه] .
ومنها حديث: «حسن الخلق نصف الدّين» رواه الديلمي؛ عن أنس.
ومنها حديث: «إنّ من أحبّكم إليّ أحسنكم أخلاقا» . رواه البخاري؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. انتهى. ذكره العلامة ملا علي القاري في «جمع الوسائل» .
(وحلمه) صلى الله عليه وسلم وهو: ضبط النّفس والطبع عند هيجان الغضب وعدم إظهاره؛ قاله الخفاجي على «الشفاء» .
وفي «الابتهاج» للبلغيثي: واعلم أنّ الحلم من أصحّ السّمات على محمود الصفات، وهو يدرك بالتخلّق وحمل النفس عليه؛ فهو مكتسب، كما يدلّ عليه الحديث:«إنّما العلم بالتّعلّم، وإنّما الحلم بالتّحلّم» .
وقال عليّ رضي الله تعالى عنه: من حلم ساد، ومن تفهّم ازداد.
وللحلم عشرة أسباب: 1- رحمة الجهّال، و 2- القدرة على المعفوّ عنه،
.........
و3- الترفّع شرفا وعلوّ همّة، و 4- الاستهانة أنفة وعجبا، و 5- الحياء، و 6- الفضل، و 7- الاستكفاف؛ أي: جعل السكوت والصبر سببا لكفّ الجاهل، و 8- خوف العقوبة؛ إمّا لضعف نفس، أو لرأي وحزم، و 9- رعاية نعمة أو حرمة، و 10- توقّع الفرصة؛ دهاء ومكرا.
فإن خلا الحلم عن هذه الأسباب كلّها؛ كان ذلّا. وكلّ واحد منها يحمل على عدم الانتقام في الحال أو دواما.
فمن رحمة الجهّال: قول أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه لرجل شتمه:
يا هذا؛ لا تغرق في سبّنا، ودع للصّلح موضعا، فإنّا لا نكافىء من عصى الله تعالى فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.
وقول الشافعي رضي الله تعالى عنه وقد شتمه رجل: إن كنت كما قلت غفر الله لي، وإلّا!! غفر الله لك.
وفي القدرة على المعفو عنه: ما جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكرا على القدرة عليه» . وقيل: أحسن المكارم عفو المقتدر، وجود المفتقر.
ومن الترفّع: قول ابن هبيرة وقد أعرض عن رجل سبّه وقال له «إيّاك أعني» :
وأنا عنك أعرض.
ولبعضهم:
أو كلّما طنّ الذّباب زجرته
…
إنّ الذّباب إذن عليّ كريم
ولعمرو بن علي:
إذا نطق السّفيه فلا تجبه
…
فخير من إجابته السّكوت
سكتّ عن السّفيه فظنّ أنّي
…
عييت عن الجواب وما عييت
وفي الصفح لأجل الحياء قيل: احتمال أذى السفيه أيسر من التحلّي بحليته.
.........
ومن الفضل قول الإسكندر لما قيل له: فلان وفلان يتنقّصانك؛ فلو عاقبتهما! قال: هما بعد العقوبة أعذر في تنقّصي.
ومن الاستكفاف قول ضرار بن القعقاع- وقد قال له رجل: والله لئن قلت لي كلمة لتسمعنّ عشرا-؛ فقال ضرار: والله لو قلت لي عشرا ما سمعت كلمة واحدة.
وفي خوف العقوبة: قيل: الحلم حجاب الآفات.
وفي رعاية النعمة قيل: أكرم الشّيم أرعاها للذّمم.
وفي توقّع الفرصة قيل: غضب الأحمق في قوله، وغضب العاقل في فعله.
وقيل:
تعاقب أيدينا ويحلم رأينا
…
ونشتم بالأفعال لا بالتّكلّم
ومن المشهورين بالحلم: الأحنف بن قيس، ويضرب به المثل في الحلم، واسمه:«الضّحّاك» وقيل: «صخر» . وهو من الموصوفين ببشاعة الصورة.
وهو من كبار التابعين، وكان يقول: إنّي تعلّمت الحلم من خالي قيس بن عاصم المنقري. وقيس هذا صحابي رضي الله تعالى عنه.
ومن حلمه: ما حدّث به الأحنف قال: كنّا عند خالي قيس بن عاصم، فأتي بولد له قتيل؛ فقال: ادفنوه؛ وعظّم الله أجر أمّه فيه. وما رأيناه تغيّر ولا حلّ حبوته لذلك، فقالوا له: إنّ أخاك قد قتله. فقال متمثّلا:
أقول للنّفس تأساء وتعزية
…
إحدى يديّ أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف من فقد صاحبه
…
هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
ومن حلم الأحنف: ما روي أنّ عمرو بن الأهتم جعل لرجل ألف درهم على أن يسفّه الأحنف؛ فأقبل الرجل عليه فسبّه سبّا ذريعا؛ والأحنف ساكت. فرجع الرجل يعضّ أنامله، ويقول: واسوأتاه؛ ما منعه من جوابي إلّا هواني عليه.
قال القاضي عياض في «الشّفا» : (قال وهب بن منبّه:
…
وفعل به آخر مثل ذلك وأطال في شتمه، إلى أن أراد الأحنف القيام إلى غدائه.
فقال للرجل: يا هذا؛ إنّ غداءنا قد حضر فقم بنا إليه.
وكان الأحنف يقول: ما عاداني أحد إلّا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال:
إن كان أعلى منّي؛ عرفت له قدره، أو دوني؛ رفعت عنه قدري، أو نظيري؛ تفضّلت عليه. انتهى.
وهذا كلام في غاية الحكمة، وقد نظمه الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى:
سألزم نفسي الصّفح عن كلّ مذنب
…
وإن عظمت منه عليّ الجرائم
فما النّاس إلّا واحد من ثلاثة
…
شريف ومشروف ومثل مقاوم
فأمّا الّذي فوقي فأعرف قدره
…
وأتبع فيه الحقّ والحقّ لازم
وأمّا الّذي دوني فحلمي تكرّما
…
أصون به عرضي وإن لام لائم
وأمّا الّذي مثلي فإن زلّ أو هفا
…
تفضّلت إنّ الفضل بالفخر حاكم
انتهى كلام «الابتهاج» .
(قال القاضي) التقيّ النقيّ الورع (عياض) بن موسى اليحصبي الأندلسي السبتي- وقد تقدّمت ترجمته تغمّده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته آمين- (في) كتاب ( «الشفا) بتعريف حقوق المصطفى» صلى الله عليه وسلم؛ في الباب الثاني منه؛ في الفصل الثالث:
(قال) أبو عبد الله (وهب بن منبّه) - بضمّ الميم وفتح النون وكسر الموحدة المشدّدة؛ بزنة اسم الفاعل- ابن كامل اليماني الصنعاني التابعي المشهور بمعرفة الكتب القديمة.
اتّفقوا على توثيقه وعبادته، روى له أصحاب الكتب الستة. توفي سنة:
- 116- ست عشرة ومائة هجرية، وعمره ثمانون سنة، وقد تقدّمت ترجمته، وله ترجمة طويلة في كتاب «الميزان» رحمه الله تعالى.
قرأت في أحد وسبعين كتابا، فوجدت في جميعها: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أرجح النّاس عقلا، وأفضلهم رأيا.
(قرأت في أحد وسبعين كتابا) من الكتب القديمة؛ إذ كان خبرها- وفي «معارف» ابن قتيبة: قرأت من كتب الله اثنين وسبعين كتابا- (فوجدت في جميعها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أرجح النّاس) - أي: الخلق- (عقلا) يعني: أنّ عقله أزيد من عقول الناس جميعا.
وقد اختلف في ماهيّة العقل اختلافا طويلا يطول استقصاؤه، والحقّ أنّه نور روحانيّ به تدرك النّفوس العلوم الضرورية والنظرية.
وابتداء وجوده؛ عند اجتنان الولد في بطن أمّه، ثم لا زال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ.
ومحلّه: القلب عند جمهور أهل الشرع؛ كالأئمة الثلاثة؛ لقوله تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [179/ الأعراف]، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [37/ ق] وقوله صلى الله عليه وسلم:«ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت؛ صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت؛ فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب» والدّماغ تابع له؛ إذ هو من جملة الجسد.
وقال عليّ: العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال، والنّفس في الرئة. رواه البخاري في «الأدب المفرد» ، والبيهقي بسند جيد.
وذهب الحنفية وابن الماجشون وأكثر الفلاسفة: إلى أنّه في الدّماغ؛ لأنه إذا فسد فسد العقل. وأجيب: بأنّ الله أجرى العادة بفساده عند فساد الدماغ؛ مع أنّه ليس فيه! ولا امتناع في هذا. انتهى من شرح الزرقاني على «المواهب» .
(وأفضلهم رأيا) ؛ أي: تدبيرا ناشئا من العقل الكامل الذي ينظر في بدء الأمر ودبره، وأوّله وآخره.
وقد كان صلى الله عليه وسلم من كمال العقل في الغاية القصوى التي لم يبلغها بشر سواه، ولهذا
وفي رواية أخرى: فوجدت في جميعها: أنّ الله تعالى لم يعط جميع النّاس من بدء الدّنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله صلى الله عليه وسلم إلّا كحبّة رمل من بين رمال الدّنيا) .
كانت معارفه عظيمة، وخصائصه جسيمة؛ حارت العقول في بعض فيض ما أفاضه من غيبه لديه، وكلّت الأفكار في معرفة بعض ما أطلعه الله عليه، وكيف لا يعطى ذلك؛ وقد امتلأ قلبه وباطنه وفاض على جسده المكرّم ما وهبه الله من أسرار إلهيته، ومعرفة ربوبيّته، وتحقّق عبوديته!!. قاله الزرقاني على «المواهب» .
وهذا الذي قاله وهب «من أنّه صلى الله عليه وسلم منوّه بذكره في الكتب القديمة» يعضده قوله تعالى النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [157/ الأعراف] .
(وفي رواية أخرى) ؛ عن وهب أيضا: (فوجدت في جميعها) ؛ أي: في جميع الكتب التي قرأها (أنّ الله تعالى لم يعط جميع النّاس من بدء الدّنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله صلى الله عليه وسلم إلّا كحبّة رمل من بين رمال الدّنيا) . رواه أبو نعيم في «الحلية» ، وابن عساكر. يعني: أنّ عقله صلى الله عليه وسلم كجميع رمال الدنيا، وعقل جميع الناس كحبّة منها. وهذا على طريق التمثيل؛ لأن عقولهم لا تقاس بعقله صلى الله عليه وسلم، كما ضرب الخضر لموسى عليهما الصلاة والسلام مثلا بماء في منقار عصفور من ماء البحر بالنسبة لسائره؛ فشبّه به علم الله تعالى وعلم ما عداه.
وقد أورد على كونه أفضل الناس رأيا: أنّه ورد ما يخالفه في كثير من الوقائع الثابتة في الحديث، ورجوعه عن رأيه إلى رأي غيره؛
كما في قصة بدر ورجوعه إلى رأي الحباب بن المنذر؛ حيث نزل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأدنى ماء من مياه بدر، فقال له الحباب: أهذا منزل أنزلكه الله؛ فلا تتقدّم ولا تتأخّر عنه، أو هو الرأي والمكيدة؟! فقال:«بل هو الرّأي والمكيدة» ، فقال: ليس هذا بمنزل؛ بل الرأي أن نسير حتى نأتي أدنى ماء من مياه بدر،
.........
فننزل، ثمّ نغوّر ما وراءه، ونبني عليه حوضا ونملؤه، ثم نقاتل؛ ونشرب ولا يشربون. فقال:«أشرت بالرّأي» ورجع صلى الله عليه وسلم لما قاله؛
وكذا في قصة أسارى بدر والفداء، وكذا في قصة تأبير النخل، ونحوه مما لا حاجة للتطويل بذكره هنا!
وأجاب التجاني: بأنّ رجحان رأيه على من سواه مخصوص بما أمضاه من سنن الشرع؛ واجتهاداته في أمور الدين، فلا ينافي رجوعه في آراء الدنيا لغيره؛ كما صرّح به في قصة التأبير، إذ قال:«إنّما أنا بشر مثلكم؛ فإذا أمرتكم بشيء من دينكم؛ فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنّما أنا بشر أخطىء وأصيب» وهذا نصّ فيما ذكر.
وردّ بأنّ مختار أهل الأصول: أنّه صلى الله عليه وسلم كان متعبّدا فيما لا وحي فيه بانتظار الوحي، ثم بالاجتهاد بعد وقت الانتظار. وقيل: له الاجتهاد مطلقا في الأمور الشرعية والدنيوية. وهذا مذهب مالك وأحمد والشافعي، وهو المنقول عن أبي يوسف وغيره.
واختلف في جواز خطئه في اجتهاده؛ فذهب الإمام الرازيّ وغيره إلى أنّه لا يجوز. وفي «التوضيح» : يجوز؛ لكن لا يقرّر عليه. وعدم الإقرار بالإجماع؛ لوجوب اتّباعه المقتضي لعصمته، وجواز الخطأ عقلا لا مانع منه؛ بمقتضى البشرية. وقوّة عقله صلى الله عليه وسلم وكمال حدسه وسداد رأيه لا ينافيه؛ لأنه من لوازم الطبيعة البشرية، وإذا جاز سهوه في صلاته ومناجاته؛ ففي غيرها بالأولى! فقول التجاني «إنّ جميع أموره الدينية صواب» خلاف المختار عند علماء الأصول.
وحينئذ فمعنى كونه أفضل الناس رأيا واجتهادا مع جواز الخطأ أحيانا:
أنّ رأيه لو خلّي ونفسه؛ أصاب، مع رجحان رأيه بعدم التقرير عليه إذا خالف الأولى. وآراؤه صلى الله عليه وسلم كلّها صواب بعد التقرير عليها، وقبله لا. إلا على قول من يقول:«كل مجتهد مصيب» .
وذكر القسطلّانيّ في «المواهب» ، عن «عوارف المعارف» :
(اللّبّ والعقل مئة جزء؛ تسعة وتسعون في النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وجزء في سائر المؤمنين.
قال: ومن تأمّل حسن تدبيره للعرب الّذين
…
والحاصل: أنّ كون رأيه أفضل الآراء لا ينافي رجوعه لغيره ومشاورته له، فإنّ العبرة بما وقع عليه القرار؛ لا ببادىء الرأي! فافهم! انتهى. قاله جميعه الشهاب الخفاجيّ في كتابه «نسيم الرياض» شرح «الشفاء» للقاضي عياض رحمهم الله تعالى أجمعين. آمين.
(وذكر) الشهاب (القسطلّانيّ) رحمه الله تعالى (في) كتاب ( «المواهب) اللّدنّيّة» ؛ نقلا (عن) كتاب ( «عوارف المعارف» ) للعلّامة العارف بالله تعالى عمر شهاب الدين بن محمد بن عمر السّهرورديّ- بضمّ السين المهملة، وسكون الهاء، وضمّ الراء، وفتح الواو، وسكون الراء الثانية، ودال مهملة- نسبة إلى «سهرورد» :
بلد عند «زنجان» ، الإمام الورع الزاهد الفقيه الشافعي رحمه الله تعالى.
ولد سنة: - 539- تسع وثلاثين وخمسمائة، وأخذ عن الكيلاني وغيره، وسمع الحديث من جماعة، وقرأ الفقه والخلاف، ثم لازم الخلوة والصوم والذكر، ثم تكلّم على الناس لمّا أسنّ، ووصل إلى الله به خلق كثير، وتاب على يديه كثير من العصاة، وكفّ وأقعد؛ وما أخلّ بذكر ولا حضور جمع! ولازم الحج؛ فكانت محفّته تحمل على الأعناق من العراق إلى البيت الحرام.
ومات ببغداد مستهلّ محرّم الحرام سنة: - 632- اثنتين وثلاثين وستمائة رحمه الله تعالى:
(اللّبّ والعقل مائة جزء؛ تسعة وتسعون في النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وجزء في سائر المؤمنين) من أمّته وغيرهم.
(قال) - أي: صاحب «العوارف» - (: ومن تأمّل حسن تدبيره للعرب الّذين
هم كالوحش الشّارد، مع الطّبع المتنافر المتباعد، وكيف ساسهم واحتمل جفاهم، وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطانهم وأحبّاءهم، من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلّم منها سير الماضين.. تحقّق له أنّه أعقل العالمين.
ولمّا كان عقله عليه الصلاة والسلام أوسع العقول.. لا جرم اتّسعت أخلاق نفسه الكريمة اتّساعا، لا يضيق عن شيء) .
هم كالوحش الشّارد) النافر النادّ (مع الطّبع المتنافر المتباعد، و) تأمّل (كيف ساسهم) : ملكهم بحسن تصرّفه فيهم واستجلاب قلوبهم، (واحتمل جفاهم) :
غلظتهم وفظاظتهم، (وصبر على أذاهم، إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطانهم) - جمع وطن: مكانهم ومقرّهم- (وأحبّاءهم؛ من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب؛ يتعلّم منها سير الماضين: تحقّق له أنّه أعقل العالمين) ؛ جواب قوله: «ومن تأمّل
…
الخ» .
(ولمّا كان عقله عليه [الصّلاة] والسّلام أوسع العقول؛ لا جرم) - أي: حقّا، و «لا جرم» في الأصل بمعنى: لا بدّ ولا محالة، ثم كثرت فحوّلت إلى معنى القسم، وصارت بمعنى حقّا؛ ولذا تجاب باللام، نحو: لا جرم لأفعلنّ كذا؛ قاله الفرّاء. كما في «المصباح» -.
(اتّسعت أخلاق نفسه الكريمة اتّساعا لا يضيق عن شيء) ؛ إذ كان مجبولا على الأخلاق الكريمة في أصل خلقته الزكيّة النقيّة، ولم يحصل له ذلك برياضة؛ بل بجود إلهي، ولهذا لم تزل تشرق أنوار المعارف في قلبه حتى وصل إلى الغاية القصوى، والمقام الأسنى.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن.
قال الإمام الغزاليّ
…
وأصل هذه الخصال الحميدة والمواهب المجيدة كمال العقل، لأنّ به تقتبس الفضائل، وتجتنب الرذائل، فإنّ العقل لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان.
قال بعضهم: لكلّ شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر على المكاره.
وقد روى الإمام أحمد في «مسنده» ، ومسلم في «صحيحه» ، وأبو داود في «سننه» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن) ؛ يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه. قال ابن الأثير: أي كان متمسّكا بادابه وأوامره ونواهيه، وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن.
وقال البيضاوي: أي خلقه كان جميع ما حصل في القرآن، فإنّ كلّ ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه قد تحلّى به، وكلّ ما استهجنه ونهى عنه تجنّبه وتخلّى عنه، فكان القرآن بيان خلقه.
وفي «الديباج» : معناه: العمل به، والوقوف عند حدوده، والتأدّب بادابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه، وتدبّره وحسن تلاوته. انتهى. وهي متقاربة. انتهى «مناوي» .
(قال) حجّة الإسلام (الإمام) أبو حامد: محمد بن محمد بن محمد (الغزاليّ) - بتخفيف اللام في المشهور- ولد سنة: - 450- خمسين وأربعمائة.
واشتغل في مبدأ أمره ب «طوس» ، ثمّ قدم «نيسابور» ، واختلف إلى دروس إمام الحرمين، وجدّ في الاشتغال حتى تخرّج في مدة قريبة، وصار من الأعيان في زمن أستاذه، وكان أستاذه يتبجّح به، ولم يزل ملازما له إلى أن توفي، فخرج من «نيسابور» .
في «الإحياء» : (قال سعد بن هشام: دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها، فسألتها عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: أما تقرأ القرآن؟! قلت: بلى.
قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن.
ولقي الوزير نظام الملك، فأكرمه وعظّمه، وكان بحضرة الوزير جماعة من الأفاضل؛ فجرى بينه وبينهم الجدال والمناظرة فظهر عليهم، واشتهر اسمه، وفوّض إليه تدريس النظامية، وأعجب به أهل العراق، وارتفعت عندهم منزلته.
ثم ترك جميع ما كان عليه، وتصوّف وسلك طريق الزهد والانقطاع، واجتهد في العبادة، وزيارة المشاهد المعظّمة، ووزّع أوقاته على وظائف الخير؛ من ختم القرآن، ومجالسة أهل القلوب، إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى، فتوفي سنة:
- 505- خمس وخمسائة هجرية رحمه الله تعالى.
(في) كتابه ( «الإحياء» ) ؛ أي: «إحياء علوم الدين» : (قال سعد بن هشام) بن عامر الأنصاري المدني؛ ابن عمّ أنس بن مالك.
روى عن أبيه، وعائشة، وعنه: زرارة بن أوفى، والحسن، وجميل بن همال. قال النسائي: ثقة. وذكر البخاري أنّه قتل بأرض «بكران» على أحسن أحواله. روى له البخاريّ حديثا واحدا:
(دخلت على عائشة) ؛ الصّدّيقة بنت الصّدّيق (رضي الله تعالى عنها وعن أبيها) أبي بكر، (فسألتها عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: أما تقرأ القرآن؟! قلت: بلى) أقرأ القرآن، (قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن) ؛ أي: ما دلّ عليه القرآن؛ من أوامره ونواهيه، ووعده ووعيده.
قال العارف السّهروردي في «عوارف المعارف» : ولا يبعد أنّ قول عائشة «كان خلقه القرآن» فيه رمز غامض، وإيماء إلى الأخلاق الرّبّانيّة؛ فاحتشمت الحضرة الإلهية أن تقول «كان متخلّقا بأخلاق الله» ؛ فعبّرت عن هذا المعنى بقولها
وإنّما أدّبه القرآن بمثل قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] .
«كان خلقه القرآن» ؛ استحياء من سبحات الجلال، وسترا للحال بلطيف المقال، وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها. انتهى.
فكما أنّ معاني القرآن لا تتناهى؛ فكذلك أوصافه الجميلة الدّالّة على خلقه العظيم لا تتناهى؛ إذ في كلّ حالة من أحواله يتجدّد له من مكارم الأخلاق ومحاسن الشّيم وما يفيضه الله عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله تعالى!! فإذن:
التعرّض لحصر جزئيّات أخلاقه الحميدة تعرّض لما ليس من مقدور الإنسان، ولا من ممكنات عاداته. انتهى؛ من «المواهب» .
وقال في «الإحياء» : (وإنّما أدّبه القرآن بمثل قوله تعالى) في سورة الأعراف (خُذِ الْعَفْوَ) من أخلاق الناس وأعمالهم؛ من غير تجسّس، وذلك مثل قبول الاعتذار منهم، وترك البحث عن الأشياء. والعفو: المساهلة في كلّ شيء (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) المعروف؛ يعني: وأمر بكلّ ما أمرك الله به، وهو كلّ ما عرفته بالوحي من الله عز وجل، وكل ما يعرف في الشرع حسنه، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)) .
وقد نظم هذا المعنى من قال:
خذ العفو وأمر بعرف كما
…
أمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن في الكلام لكلّ الأنام
…
فمستحسن من ذوي الجاه لين
والجاهلون في الآية!!
إن فسّروا بضعفاء الإسلام وجفاة الأعراب؛ كانت الآية محكمة، لأنّ المراد بالإعراض عنهم ألايعنّفهم، ولا يقابلهم بمقتضى غلظتهم في القول والفعل.
وإن فسّروا بالكفار؟ كانت الآية منسوخة باية السيف، ويكون المراد بالإعراض عنهم تركهم على ما هم عليه. وقد أشار القرطبي للقولين.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
…
ويؤيد القول الأول: ما رواه البخاري من أنّ عيينة بن حصن استأذن له الحرّ بن قيس على عمر بن الخطاب في الدخول، فدخل عليه، وقال له: يا ابن الخطاب؛ ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر رضي الله تعالى عنه، فقال له الحرّ: يا أمير المؤمنين؛ إنّ الله عز وجل قال لنبيه ص خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)[الأعراف] وإنّ هذا من الجاهلين. فما جاوزها عمر رضي الله تعالى عنه؛ وكان وقّافا عند كتاب الله تعالى. فهذا يدلّ على أنّها غير منسوخة، وهو الذي يتبادر إليه كلام صاحب «الجلالين» .
قال جعفر الصادق: ليس في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية؛ روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية سأل جبريل عن تأويلها؟! فقال له: حتى أسأل العالم بها، ثم ذهب وأتاه، فقال: يا محمد؛ إنّ الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك.
قال السيوطي: رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ؛ في «تفاسيرهم» ، وابن أبي الدنيا في «مكارم الأخلاق» ، ووصله ابن مردويه من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، وعزاه الشيخ قاسم الحنفي للبخاري؛ عن عبد الله بن الزبير في قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) أنّه قال:
ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وله في رواية أخرى تعليقا؛ عن عبد الله قال: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أقوال الناس، أو من أخلاق الناس.
انتهى؛ قاله الخفاجي.
(و) أدّبه القرآن بمثل (قوله) تعالى في سورة النحل (. إِنَّ اللَّهَ) - أي:
فيما أنزله تبيانا لكل شيء وهدى وبشرى- (يَأْمُرُ) - آثر صيغة الاستقبال فيه وفي ما بعده لإفادة التجدّد والاستمرار- (بِالْعَدْلِ) ؛ أي: التوحيد، أو الإنصاف.
وفي «البيضاوي» : أي بالتوسّط في الأمور؛
وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: 90] .
اعتقادا؛ كالتوحيد المتوسّط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر،
وعملا؛ كالتعبّد بأداء الواجبات المتوسّط بين البطالة والترهّب،
وخلقا؛ كالجود المتوسّط بين البخل والتبذير. انتهى.
(وَالْإِحْسانِ) قال ابن عباس: العدل: شهادة ألاإله إلا الله، والإحسان: أداء الفرائض. وفي رواية عنه؛ قال: العدل: خلع الأنداد، والإحسان: أن تعبد الله كأنّك تراه، وأن تحبّ للناس ما تحبّ لنفسك؛ إن كان مؤمنا تحبّ أن يزداد إيمانا، وإن كان كافرا تحبّ أن يكون أخاك في الإسلام.
انتهى.
(وَإِيتاءِ) : إعطاء (ذِي الْقُرْبى) القرابة، خصّه بالذكر! اهتماما به؛ فإن إيتاءه صدقة وصلة، وفي الحديث:«إنّ أعجل الطّاعة ثوابا صلة الرّحم» .
قال في «الخازن» : يعني ويأمر بصلة الرحم؛ وهم القرابة الأدنون والأبعدون منك، فيستحبّ أن تصلهم من فضل ما رزقك الله تعالى، فإن لم يكن لك فضل! فدعاء حسن، وتودّد. انتهى.
(وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) : الزنا (وَالْمُنْكَرِ) ؛ شرعا من الكفر والمعاصي، (وَالْبَغْيِ) : الظلم، خصّه بالذكر للناس!! اهتماما، كما بدأ بالفحشاء كذلك، ولم يذكر متعلّقات العدل والإحسان والبغي!! ليعمّ جميع ما يعدل فيه ويحسن به وإليه، ويبغى فيه؛ قاله الجمل.
قال بعضهم: إنّ أعجل المعاصي البغي، ولو أنّ جبلين بغى أحدهما على الآخر لدكّ الباغي.
وقوله: وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17] .
وقال بعضهم: إنّ الله سبحانه وتعالى ذكر من المأمورات ثلاثة أشياء، ومن المنهيات ثلاثة أشياء؛ فذكر العدل؛ وهو الإنصاف والمساواة في الأقوال والأفعال، وذكر في مقابلته الفحشاء؛ وهي ما قبح من الأقوال والأفعال، وذكر الإحسان؛ وهو أن تعفو عمّن ظلمك، وتحسن إلى من أساء إليك، وذكر في مقابلته المنكر؛ وهو أن تنكر إحسان من أحسن إليك، وذكر إيتاء ذي القربى؛ والمراد به: صلة القرابة والتودّد إليهم والشفقة عليهم، وذكر في مقابلته البغي؛ وهو أن يتكبّر عليهم أو يظلمهم حقوقهم. انتهى من «الخازن» .
قال النسفي: وهذه الآية سبب إسلام عثمان بن مظعون؛ فإنّه قال: ما كنت أسلمت إلا حياء منه عليه الصلاة والسلام لكثرة ما يعرض عليّ الإسلام، ولم يستقرّ الإيمان في قلبي حتى نزلت هذه الآية؛ وأنا عنده، فاستقرّ الإيمان في قلبي، فقرأتها على الوليد بن المغيرة، فقال: والله؛ إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
وقال أبو جهل: إنّ إلهه ليأمر بمكارم الأخلاق.
وقال ابن مسعود: هي أجمع آية في القرآن للخير والشر. ولهذا يقرؤها كلّ خطيب على المنبر في آخر كل خطبة؛ لتكون عظة جامعة لكلّ مأمور؛ ولكل منهيّ. انتهى.
(و) أدّبه القرآن بمثل (قوله) تعالى في سورة لقمان
(وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) ؛ أي على الذي أصابك أي: في عبادتك وغيرها؛ من الأمر بالمعروف وغيره، سواء كان بواسطة العباد؛ كأذيّتهم، أو لا؛ كالمرض. انتهى «خطيب» .
(إِنَّ ذلِكَ) المذكور (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ؛ أي: مما عزمه الله من الأمور، أي قطعه قطع إيجاب؛ مصدر أطلق للمفعول.
وقوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43] .
وقوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ
…
قال الخازن: يعني: إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى؛ من الأمور الواجبة التي أمر الله بها.
وهذه الآية من وصية لقمان لابنه؛ إذ قال له: يا بني؛ أقم الصلاة، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر. كما قصّه الله تعالى في كتابه الكريم. وكلّ ما قصّه الله تعالى من قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهو إرشاد لنبينا صلى الله عليه وسلم ولأمّته، فكأنّه مما أمر به ابتداء؛ فلا تتوهّم أنها ليست في حقّه.
(و) أدّبه بمثل (قوله) تعالى في سورة الشورى (وَلَمَنْ صَبَرَ) فلم ينتصر، (وَغَفَرَ) : تجاوز (إِنَّ ذلِكَ) الصبر والغفران منه (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ؛ أي: معزوماتها؛ بمعنى: المطلوبات شرعا، أي: من الأمور التي ندب إليها، أو مما ينبغي للعاقل أن يوجبه على نفسه، ولا يترخّص في تركه.
وفي القرطبي: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ أي: صبر على الأذى، وغفر: ترك الانتصار لوجه الله؛ وهذا فيمن ظلمه مسلم.
ويحكى أنّ رجلا سبّ رجلا في مجلس الحسن رحمه الله تعالى، فكان المسبوب يكظم، ويعرق فيمسح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية، فقال الحسن:
عقلها والله وفهمها؛ إذ ضيّعها الجاهلون!!
وبالجملة فالعفو مندوب إليه، ثمّ قد ينعكس في بعض الأحوال؛ فيرجع ترك العفو مندوبا إليه، وذلك إذا احتيج إلى كفّ زيادة البغي وقطع مادّة الأذى.
وعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما يدلّ عليه؛ وهو أنّ زينب أسمعت عائشة رضي الله تعالى عنها بحضرته، فكان ينهاها فلا تنتهي، فقال لعائشة:«دونك فانتصري» . خرّجه مسلم في «صحيحه» بمعناه، انتهى.
(و) أدّبه بمثل (قوله) تعالى في سورة المائدة (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) ؛
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 13] .
[وقوله وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) [النور] .
أي: فاعف عن زلّاتهم يا محمد، واصفح عن جرمهم ومؤاخذتهم. وهذا الأمر بالعفو والصفح عن أهل الكتاب منسوخ باية السيف؛ وهي قوله قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [29/ التوبة] . قاله قتادة.
وقيل: إنها غير منسوخة؛ بل نزلت في قوم كان بينهم وبين النّبيّ صلى الله عليه وسلم عهد؛ فغدروا ونقضوا ذلك العهد، فأظهر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وأنزل هذه الآية؛ ولم تنسخ! وذلك أنّه يجوز أن يعفو عن غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حربا؛ وما لم يمتنعوا من أداء الجزية والصّغار.
وعلى هذا القول بأنها غير منسوخة يكون معنى الآية: فاعف عن مؤمنيهم، أو عمّن تاب منهم، ولا تؤاخذهم بما سلف منهم قبل ذلك.
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ؛ يعني: إذا عفوت عنهم فإنّك تحسن إليهم؛ والله يحب المحسنين.
(و) أدّبه بمثل (قوله) تعالى في سورة النور
(وَلْيَعْفُوا) ؛ أي: أولو الفضل، (وَلْيَصْفَحُوا) عن الخائضين في الإفك؛ أي: ليعرضوا عن لومهم، فإنّ العفو أن يتجاوز عن الجاني، والصفح أن يتناسى جرمه.
(أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم!! (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ؛ مع كمال قدرته، فتخلّقوا بأخلاقه.
نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين حلف ألاينفق على مسطح ابن خالته؛ لخوضه في الإفك على عائشة رضي الله تعالى عنها، وكان مسكينا بدريا مهاجرا، ولما قرأها النّبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي بكر؛ قال: بلى أحبّ أن يغفر
وقوله ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)[فصلت] .
الله لي، وردّ إلى مسطح ما كان ينفقه عليه.
وفي الآية أدلّة على فضل أبي بكر الصّدّيق، لأنّ الفضل المذكور في الآية ذكره تعالى في معرض المدح، وذكره بلفظ الجمع في قوله أُولُوا الْفَضْلِ، وقوله أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ.
وهذا يدلّ على علوّ شأنه ومرتبته؛
منها: أنّه احتمل الأذى من ذوي القربى، ورجّع عليه ما كان ينفقه عليه، وهذا من أشدّ الجهاد؛ لأنّه جهاد النّفس.
ومنها: أنّه تعالى قال في حقّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ، وقال في حقّ أبي بكر: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا فدلّ أنّ أبا بكر كان ثاني اثنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأخلاق؛ قاله الخازن.
وهذه الآية وإن نزلت في أبي بكر؛ فالنبيّ صلى الله عليه وسلم داخل في عمومها؛ كما في سائر الخطابات، فلا يرد على المصنّف أنّ هذه الآية ليست في حقه صلى الله عليه وسلم!
(و) أدّبه بمثل (قوله) تعالى في سورة فصّلت:
(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ) السيئة (بِالَّتِي) أي: بالخصلة التي (هِيَ أَحْسَنُ) ؛ كالغضب بالصبر، والجهل بالحلم، والإساءة بالعفو؛ قاله في «الجلالين» .
وقال النسفي: يعني أنّ الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما؛ فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان، فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك؛ كما لو أساء إليك رجل إساءة؛ فالحسنة: أن تعفو عنه، والتي هي أحسن: أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، ومثل أن يذمّك؛ فتمدحه، أو يقتل ولدك؛ فتفتدي ولده من يد عدوّه. (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ؛ أي: فيصير عدوّك كالصديق القريب في محبّته إذا فعلت ذلك.
وقوله وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ
…
(و) أدّبه بمثل (قوله) تعالى في سورة آل عمران (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) ؛ كظم الغيظ: هو أن يمتلىء غيظا فيردّه في جوفه؛ ولا يظهره بقول ولا فعل، ويصبر عليه ويسكت عنه. ومعنى الآية: أنّهم يكفّون غيظهم عن الإمضاء مع القدرة، ويردّون غيظهم في أجوافهم. وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم.
عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني؛ عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظا؛ وهو يستطيع أن ينفذه؛ دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق؛ حتّى يخيّره في أيّ الحور شاء» . أخرجه الترمذيّ، وأبو داود.
وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود، وغيرهما:«من كظم غيظا؛ وهو يقدر على إنفاذه؛ ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا» .
وأخرج الشيخان؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الشّديد بالصّرعة؛ إنّما الشّديد الّذي يملك نفسه عند الغضب» .
وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ خادما لها غاظها، فقالت: لله درّ التقوى؛ ما تركت لذي غيظ شفاء!!.
(وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) ممّن ظلمهم؛ أي: التاركين عقوبتهم. يعني:
إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه، فتكون الآية على العموم.
روي أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ينادي مناد يوم القيامة: أين الّذين كانت أجورهم على الله؟! فلا يقوم إلّا من عفا» .
وعن ابن عيينة أنّه رواه للرّشيد وقد غضب على رجل؛ فخلّاه.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ هؤلاء في أمّتي قليل؛ إلّا من عصم الله، وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت» . وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون منقطعا؛ وهو ظاهر، وأن يكون متّصلا؛ لما في القلّة من معنى العدم؛ كأنّه قيل: إنّ هؤلاء في أمّتي لا يوجدون إلّا من عصم الله؛ فإنه يوجد في أمّتي. قاله الجمل على «الجلالين» .
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) ] «1» [آل عمران] .
وقوله: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ
…
(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) بهذه الأفعال؛ أي: يثيبهم.
(و) أدّبه القرآن بمثل (قوله) تعالى في سورة الحجرات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) .
قيل: نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين؛ يخدمهما ويتقدّمهما إلى المنزل؛ فيهيّىء لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب، فضمّ سلمان إلى رجلين في بعض أسفاره، فتقدّم سلمان إلى المنزل؛ فغلبته عيناه، فنام؛ ولم يهيّىء لهما شيئا، فلما قدما قالا له: ما صنعت شيئا؟! قال: لا؛ غلبتني عيناي، قالا له: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلب لنا منه طعاما؛ فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل طعاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق إلى أسامة بن زيد؛ وقل له: «إن كان عنده فضل طعام وإدام فليعطك» . وكان أسامة خازن طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رحله، فأتاه، فقال: ما عندي شيء. فرجع سلمان إليهما فأخبرهما، فقالا: كان عند أسامة؛ ولكن بخل! فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة؛ فلم يجد عندهم شيئا، فلما رجع؛ قالوا: لو بعثناك إلى بئر سمحة لغار ماؤها!!
ثم انطلقا يتجسّسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاآ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما:«ما لي أرى خضرة اللّحم في أفواهكما!؟» . قالا:
والله يا رسول الله؛ ما تناولنا يومنا هذا لحما! قال: «ظلمتما بأكل لحم سلمان وأسامة!!» فأنزل الله عز وجل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ يعني: أن يظن بأهل الخير سوآ؛ فنهى الله المؤمن أن يظنّ بأخيه المؤمن شرّا. وقيل: هو أن يسمع من أخيه المسلم كلاما لا يريد به سوآ، أو يدخل مدخلا لا يريد به سوآ؛
(1) الشواهد الثلاث التي مضت من إضافة الشارح.
.........
فيراه أخوه المسلم؛ فيظنّ به سوآ، لأنّ بعض الفعل قد يكون في الصورة قبيحا؛ وفي نفس الأمر لا يكون كذلك!! لجواز أن يكون فاعله ساهيا؛ ويكون الرّائي مخطئا!!.
فأمّا أهل السوء والفسق المتجاهرون بذلك! فلنا أن نظنّ فيهم مثل الذي يظهر منهم. انتهى «خازن» .
وفي القرطبي: قال علماؤنا: الظنّ في الآية هو التّهمة، ومحلّ التحذير والنهي إنّما هو تهمة لا سبب لها يوجبها؛ كمن يتّهم بالفاحشة، أو بشرب الخمر؛ ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك.
ودليل كون الظنّ هنا بمعنى التهمة: قوله بعد هذا وَلا تَجَسَّسُوا؛ وذلك أنّه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء؛ فيريد أن يتجسّس خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصّر ويتسمّع، ليتحقّق ما وقع له من تلك التهمة، فنهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وإن شئت قلت: والذي يميّز الظّنون التي يجب اجتنابها عمّا سواها: أنّ كلّ ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر؛ كان حراما واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممّن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظنّ الفساد به والخيانة محرّم، بخلاف من أشهره الناس بتعاطي الريبة والتجاهر بالخبائث!!
وعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «حرم من المسلم دمه، وعرضه، وأن يظنّ به ظنّ السّوء» .
وعن الحسن: كنّا في زمن: الظنّ فيه بالنّاس حرام، وأنت اليوم: اعمل، واسكت، وظنّ بالناس ما شئت. انتهى.
وإبهام «الكثير» لإيجاب الاحتياط والتأمّل في كلّ ظنّ؛ حتى يعلم أنّه من أيّ قبيل!؟
فإنّ من الظّنّ ما يجب اتّباعه؛ كالظنّ فيما لا قاطع فيه من العمليّات، وحسن
إنّ بعض الظّنّ إثم ولا تجسّسوا
…
الظنّ بالله تعالى. ومنه ما يحرم؛ كالظنّ في الإلهيّات والنبوّات، وحيث يخالفه قاطع، وظنّ السوء بالمؤمنين. ومنه ما يباح؛ كالظن في الأمور المعاشية. انتهى «أبو السعود» .
(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) ؛ أي: مؤثم، وهو كثير، كظنّ السوء بأهل الخير من المؤمنين؛ وهم كثير، بخلافه بالفسّاق منهم! فلا إثم فيه في نحو ما يظهر منهم، كما تقدّم.
قال سفيان الثّوريّ: الظنّ ظنّان: أحدهما: إثم؛ وهو أن يظنّ ويتكلّم به، والآخر: ليس بإثم؛ وهو أن يظنّ ولا يتكلم به.
وقيل: الظنّ أنواع؛ فمنه واجب، ومأمور به؛ وهو الظنّ الحسن بالله عز وجل، ومنه مندوب إليه؛ وهو الظنّ الحسن بالأخ المسلم الظاهر العدالة، ومنه حرام محظور؛ وهو سوء الظنّ بالله عز وجل، وسوء الظن بالأخ المسلم. انتهى «خازن» .
(وَلا تَجَسَّسُوا) - حذف منه إحدى التائين-: لا تتبّعوا عورات المسلمين ومعايبهم بالبحث عنها.
وفي «القرطبي» : معنى الآية: خذوا ما ظهر ولا تتبّعوا عورات المسلمين؛ أي: لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه؛ حتى يطّلع عليه؛ بعد أن ستره الله.
وفي «كتاب أبي داود» عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّك إن اتّبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم» .
فقال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفعه الله بها.
وعن المقدام بن معد يكرب؛ عن أبي أمامة؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الأمير إذا ابتغى الرّيبة في النّاس أفسدهم» . انتهى.
وفي «الخازن» : أخرج الشيخان؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات: 12] ) .
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إيّاكم والظّنّ!! فإنّ الظّنّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا؛ كما أمركم، المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التّقوى ها هنا! التّقوى ها هنا! التّقوى ها هنا! - ويشير إلى صدره-.
بحسب امرىء من الشّرّ أن يحقر أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وعرضه، وماله.
إنّ الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» .
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر؛ فنادى بصوت رفيع: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه؛ لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيّروهم، ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنّه من تتبّع عورة أخيه المسلم تتبّع الله عورته، ومن تتبّع الله عورته يفضحه؛ ولو في جوف رحله» .
قال نافع: ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة؛ فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك!! أخرجه الترمذي؛ وقال: حديث حسن غريب.
وعن زيد بن وهب قال: أتي ابن مسعود فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا!!. فقال عبد الله: إنّا قد نهينا عن التجسّس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. أخرجه أبو داود.
وله؛ عن عقبة بن عامر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موؤودة» .
وأخرج مسلم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
«لا يستر عبد عبدا في الدّنيا إلّا ستره الله يوم القيامة» . انتهى.
(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ؛ لا يذكره بشيء يكرهه؛ وإن كان فيه!.
.........
وعن ابن عبّاس: الغيبة إدام كلام الناس.
وفي «القرطبي» : نهى عز وجل عن الغيبة؛ وهي أن تذكر الرجل بما فيه، فإن ذكرته بما ليس فيه! فهو البهتان، ثبت معناه في «صحيح مسلم» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أتدرون ما الغيبة؟!» قالوا:
الله ورسوله أعلم. قال: «ذكرك أخاك بما يكره» ، قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول!؟ فقال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته! وإن لم يكن فيه!! فقد بهتّه» .
يقال: اغتابه اغتيابا: إذا وقع فيه. والاسم: «الغيبة» ؛ وهي: ذكر العيب بظهر الغيب.
قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه كلّها في كتاب الله تعالى: الغيبة، والإفك، والبهتان؛
فأمّا الغيبة! فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه.
وأمّا الإفك! فهو أن تقول فيه ما بلغك عنه.
وأمّا البهتان! فهو أن تقول فيه ما ليس فيه.
ولا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأنّ على من اغتاب أحدا التوبة إلى الله عز وجل.
وهل يستحلّ المغتاب!؟ فيه خلاف؛
فقالت فرقة: ليس عليه استحلاله، وإنما هي خطيئة بينه وبين ربه.
واحتجّت بأنّه لم يأخذ من ماله، ولا أصاب من بدنه ما ينقصه، فليس ذلك مظلمة يستحلّها منه، وإنّما المظلمة: ما يكون في المال والبدن.
وقالت فرقة: هي مظلمة؛ وكفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه.
وأمثال هذه التّأديبات في القرآن لا تنحصر.
وهو صلى الله عليه وسلم المقصود الأوّل بالتّأديب والتّهذيب، ثمّ منه يشرق النّور على كافّة الخلق؛ فإنّه أدّب بالقرآن فتأدّب به،
واحتجّت بحديث يروى عن الحسن قال: «كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته» .
وقالت فرقة: هي مظلمة؛ وعليه الاستحلال منها.
واحتجّت بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال؛ فليتحلّله منها من قبل أن يأتي يوم ليس فيه هناك دينار ولا درهم، يؤخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات! أخذ من سيّئات صاحبه فزيد على سيّئاته» .
أخرجه البخاري؛ من حديث أبي هريرة. وغير ذلك من الأحاديث.
وليس من هذا الباب غيبة الفاسق المعلن به المتجاهر!! فإنّ في الخبر: «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له» . وقال صلى الله عليه وسلم: «اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره النّاس» . فالغيبة إذن في المرء الذي يستر نفسه.
وروي عن الحسن أنّه قال: ثلاثة ليست لهم حرمة؛ 1- صاحب الهوى، و 2- الفاسق المعلن، و 3- والإمام الجائر. انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى.
(وأمثال هذه التّأديبات في القرآن) - وهي كثيرة- (لا تنحصر، وهو صلى الله عليه وسلم المقصود الأوّل بالتّأديب والتّهذيب) في هذه الآيات وأمثالها، (ثمّ منه يشرق النّور) ؛ أي: نور العلم والأخلاق والهداية والإيمان (على كافّة الخلق) ؛ إذ جميع الأخلاق الحميدة كلها كانت فيه صلى الله عليه وسلم، واقتبس الناس منها كلّ على قدر حظّه ونصيبه الذي قسم له من الوهّاب، (فإنّه) صلى الله عليه وسلم (أدّب بالقرآن) - بالبناء للمفعول-، أي: أدّبه الله بالقرآن أي: بما دلّ عليه القرآن (فتأدّب به) .
في «أدب الإملاء» لابن السمعاني من حديث ابن مسعود رفعه: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي، ثمّ أمرني بمكارم الأخلاق؛ فقال خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ الآية.
وأدّب الخلق به؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» .
ثمّ لمّا أكمل الله تعالى خلقه.. أثنى عليه فقال
…
وأخرج القشيري نحوه في «التحبير» ؛ قاله في شرح «الإحياء» .
(وأدّب الخلق به. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» ) .
قال ابن عبد البرّ: يدخل فيه الصلاح والخير كلّه والدين والفضل، والمروءة والإحسان والعدل، فبعث ليتمّمه.
وقال الباجيّ: كانت العرب أحسن الناس أخلاقا بما بقي عندهم من شريعة إبراهيم، وكانوا ضلّوا بالكفر عن كثير منها؛ فبعث صلى الله عليه وسلم ليتمّم محاسن الأخلاق؛ ببيان ما ضلّوا عنه، وبما قضى به في شرعه. انتهى.
والحديث المذكور! قال العراقي: رواه الإمام أحمد، والحاكم، والبيهقيّ؛ من حديث أبي هريرة. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
ورواه مالك في «الموطأ» ؛ بلاغا عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بلفظ: «إنّما بعثت» .
وقال ابن عبد البرّ: هو متصل من وجوه صحاح؛ عن أبي هريرة مرفوعا؛ منها ما أخرجه أحمد في «مسنده» ، والخرائطي في أوّل «مكارم الأخلاق» ؛ من طريق محمد بن عجلان؛ عن القعقاع بن حكيم؛ عن أبي صالح؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا بلفظ:«صالح الأخلاق» ورجاله رجال الصحيح.
وللطبراني في «الأوسط» بسند ضعيف؛ عن جابر مرفوعا بلفظ: «إنّ الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال» .
(ثمّ لمّا أكمل الله تعالى خلقه) - بضمّ أوّليه-؛ أي: بما جمع فيه من صفات الكمال مما لا يحيط به حدّ، ولا يحصره عدّ (أثنى عليه) في كتابه الكريم؛ (فقال
تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] .
تعالى) مقسما ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ؛ لاجتماع مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال فيك.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته؛ إلا قال:«لبّيك» . فلذلك أنزل الله تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. رواه ابن مردويه، وأبو نعيم بسند واه.
وكلمة «على» للاستعلاء؛ فدلّ اللفظ على أنه مستعل على هذه الأخلاق، ومستول عليها؛ بمعنى أنّه متمكّن من الجري على مقتضاها؛ ببذل المعروف، واحتمال الأذى، وعدم الانتقام، فأشبه في تمكّنه من ذلك: المستعلي على الشيء المستقرّ عليه؛ فهو استعارة تبعيّة لجريانها في الحرف.
قال الحليمي: إنّما وصف خلقه بالعظم؛ مع أنّ الغالب وصف الخلق بالكرم! لأنّ كرم الخلق يراد به السماحة والدّماثة؛ ولم يكن خلقه صلى الله عليه وسلم مقصورا على ذلك؛ بل كان رحيما بالمؤمنين؛ رفيقا بهم، شديدا على الكفّار؛ غليظا عليهم، مهيبا في صدور الأعداء؛ منصورا بالرّعب منهم على مسيرة شهر، فكان وصفه بالعظم أولى؛ ليشمل الإنعام والانتقام.
وقال الجنيد: وإنّما كان خلقه صلى الله عليه وسلم عظيما!! لأنّه لم يكن له همّة سوى الله تعالى، وقد وصف الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بكمال عظيم يرجع إلى قوّته العلمية فقال وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
(113)
[النساء] ، ووصفه بكمال عظيم يرجع إلى قوّته العمليّة؛ فقال وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ،
فدلّ مجموع هاتين الآيتين على أنّ روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة؛ كأنّها لقوّتها وشدّة كمالها من جنس أرواح الملائكة؛ إذ أعطاهم الله تعالى قوّة في العمل لا تصل إليها البشر، وفي العلم ما يصلون به إلى معرفة حقائق الأمور من اللوح المحفوظ، أو الإلهام والعلم الضروري بمعرفة الأمور على ما هي به في
ثمّ قال الغزاليّ: (وعن معاذ بن جبل، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ الله حفّ الإسلام بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال» .
ومن ذلك: حسن المعاشرة، ذلك: حسن المعاشرة،
…
الواقع، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم.
(ثمّ قال) الإمام أبو حامد (الغزاليّ) في كتاب «إحياء علوم الدين» :
(وعن) أبي عبد الرحمن (معاذ بن جبل) بن عمرو بن أوس بن عائذ- بالمعجمة- ابن الخزرج الأنصاري الخزرجي الجشمي المدني، الفقيه الفاضل الصالح.
أسلم معاذ المذكور؛ وهو ابن ثماني عشرة سنة، وشهد العقبة الثانية مع السبعين من الأنصار، ثم شهد بدرا، وأحدا، والخندق، والمشاهد كلّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مسعود.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وسبعة وخمسون حديثا؛ اتّفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث.
روى عنه ابن عمر، وابن عباس، وابن عمرو بن العاصي، وأبو قتادة، وجابر، وأنس، وأبو أمامة، وأبو ثعلبة، وعبد الرحمن بن سمرة، وآخرون من الصحابة والتابعين.
وتوفي شهيدا في طاعون عمواس سنة: ثماني عشرة؛ وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وقيل: أربع وثلاثين. وقيل: ثمان وثلاثين. رضي الله تعالى عنه
(عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إنّ الله حفّ الإسلام بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال»
ومن ذلك) ؛ أي: محاسن الأعمال: (حسن المعاشرة) مع الناس إذا خالطهم؛ ولم يكن بدّ من مخالطتهم. وكلّ مخالط ففي مخالطته أدب، والأدب على قدر حقّه، وحقّه على قدر رابطته التي بها وقعت المخالطة.
وكرم الصّنيعة،
…
والرابطة: 1- إما القرابة؛ وهي أخصّها. أو 2- أخوّة الإسلام؛ وهي أعمّها. وينطوي في معنى الأخوّة الصداقة، والصحبة. وإمّا 3- الجوار. وإمّا 4- صحبة السفر والمكتب والدرس.
ولكلّ واحد من هذه الروابط درجات؛ فالقرابة لها حقّ؛ ولكن حقّ الرّحم المحرم آكد، وللمحرم حقّ؛ ولكن حقّ الوالدين آكد.
وكذلك حقّ الجار؛ ولكن يختلف بحسب قربه من الدار وبعده، ويظهر التفاوت عند النسبة، حتى أنّ البلديّ في بلاد الغربة يجري مجرى القريب في الوطن؛ لاختصاصه بحق الجوار في البلد.
وكذلك حقّ المسلم يتأكّد بتأكّد المعرفة.
وللمعارف درجات، فليس حقّ الذي عرف بالمشاهدة كحق الذي عرف بالسماع، بل آكد منه! والمعرفة بعد وقوعها تتأكّد بالاختلاط.
وكذلك الصحبة تتفاوت درجاتها؛ فحقّ الصحبة في الدرس والمكتب آكد من حقّ صحبة السفر.
وكذلك الصداقة تتفاوت، فإنّها إذا قويت! صارت أخوّة؛ فإن ازدادت! صارت محبّة. وتفاوت درجات الصداقة لا تخفى بحكم المشاهدة والتجربة.
وكلّ ذلك مفصّل في كتاب «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي شكر الله مسعاه، وجعل الجنّة متقلّبه ومثواه. آمين.
فينبغي أن يخالق الجميع بخلق حسن، ويعامل كلّا منهم بحسب طريقته؛ فإنّه إن أراد لقاء الجاهل بالعلم، والأميّ بالفقه، والعييّ بالبيان؛ آذى غيره وتأذّى بنفسه.
(و) من محاسن الأعمال: (كرم الصّنيعة) ؛ أي: حسنها.
قال في «المصباح» : الصنيعة: ما اصطنعته من خير. انتهى.
ولين الجانب، وبذل المعروف، وإطعام الطّعام، وإفشاء السّلام،
…
وفي «القاموس مع الشرح» : والصنيع: الإحسان والمعروف، واليد يرمي بها إلى كل إنسان. وقيل: هو كلّ ما اصطنع من خير؛ كالصنيعة. انتهى.
(ولين الجانب) ؛ هو كناية عن التواضع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى أوحى إليّ أن تواضعوا؛ حتّى لا يفخر أحد على أحد» .
قال العراقيّ: رواه أبو داود، وابن ماجه؛ واللفظ له؛ من حديث عياض بن حمار، ورجاله رجال الصحيح.
(وبذل المعروف) ؛ هو اسم عامّ جامع للخير كلّه، وبذله: إعطاؤه. وقيل:
المراد به القرض.
عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنع المعروف إلى من هو أهله؛ وإلى غير أهله، فإن أصبت أهله! أصبت أهله، وإن لم تصب أهله!؟ كنت أنت أهله» . ذكره الدارقطني في «العلل» ؛ وهو ضعيف. ورواه ابن النجار في «تاريخه» ، ورواه الخطيب؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج البيهقيّ من طريق علي بن موسى الرضا؛ عن آبائه؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «رأس العقل بعد الدّين: التّودّد إلى النّاس، واصطناع المعروف إلى كلّ برّ وفاجر» .
(و) من محاسن الأعمال: (إطعام الطّعام) ؛ وهو من شعب الإيمان؛ ففي «الصحيحين» أنّ رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الإسلام خير؟! قال:
«تطعم الطّعام، وتقرأ السّلام على من عرفت ومن لم تعرف» .
(وإفشاء السّلام) ؛ أي: إشاعته وإكثاره، وبذله لكلّ مسلم؛ من عرفت ومن لم تعرف. ويكون قبل الكلام؛ ففي الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«من بدأ بالكلام قبل السّلام فلا تجيبوه؛ حتّى يبدأ بالسّلام» . ذكره في
وعيادة المريض المسلم؛ برّا كان أو فاجرا،
…
«الإحياء» . قال العراقي: رواه الطبراني في «الأوسط» ، وأبو نعيم في «اليوم والليلة» واللفظ له؛ من حديث ابن عمر بسند فيه لين.
وأخرج البخاريّ في «الأدب المفرد» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا مرّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس؛ فقال: السلام عليكم، فقال:«عشر حسنات» . قال: ثمّ مرّ رجل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال:«عشرون حسنة» . قال: فمرّ رجل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال:«ثلاثون حسنة» .
وأخرج أبو داود؛ عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله تعالى عنه أنّ رجلا أتى إلى مجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: السلام عليكم، فردّ عليه وقال:
«عشر حسنات» . ثمّ جاء رجل آخر؛ فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فردّ عليه وقال:«عشرون حسنة» . ثم جاء آخر؛ فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال:«ثلاثون» وجاءه آخر فقال: ومغفرته، فقال:«أربعون» ، ثمّ قال:«هكذا تكون الفضائل» !.
(و) من محاسن الأعمال: (عيادة المريض المسلم؛ برّا كان أو فاجرا) . قال ابن علان في «شرح «الأذكار» » : أصلها: «عوادة» فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، كما في «صيام» ، و «قيام» .
وعيادة المريض سنّة بالإجماع؛ سواء فيه من تعرفه وغيره، والقريب والأجنبي. وما ورد عند مسلم بلفظ:«يجب للمسلم على المسلم سبع» وذكر منها العيادة وغيرها مما ظاهره الوجوب!! محمول على الندب المتأكّد؛ كحديث: «غسل الجمعة واجب على كلّ محتلم» . وهي من حقّ المسلم على المسلم. انتهى.
وقال في «الإحياء» : والمعرفة والإسلام كاف في إثبات هذا الحقّ.
.........
قال في «شرحه» : والظاهر أنّ كلا منهما شرط؛ فإذا عدم أحدهما! سقط حقّ العيادة. انتهى:
ومن أدب العائد: تخفيف الجلوس عنده؛ لئلّا يملّ المريض منه؛ فقد روى الدّيلمي؛ من حديث أبي هريرة: «من تمام العيادة: خفّة القيام عند المريض» . انتهى.
ومن أدب العائد: قلّة السؤال عن أحواله؛ فإنّ كثرته ربّما تضجره.
ومنها: إظهار الرّقّة والدعاء له بالعافية.
قال في «الإحياء» : وآدابه عند الاستئذان: ألايقابل الباب في وقوفه؛ فإنّه ربّما يقع بصره عند فتحه على ما لا يحلّ له النظر إليه، بل يقف في طرف منه. وإذا دقّ الباب يدقّ برفق ولين؛ لا بإزعاج! ولا يقول:«أنا» ؛ إذا قيل: «من بالباب» !! فقد ورد النهي عن ذلك؛ بل يقول: «فلان» باسمه المعروف. ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته- أو قال: على يده- ويسأله كيف هو؟!، وتمام تحيّاتكم المصافحة» .
وفي لفظ: «وتمام تحيّتكم بينكم المصافحة» . رواه الإمام أحمد، والترمذي وضعّفه.
ورواه ابن أبي الدنيا، والبيهقيّ؛ من حديث أبي أمامة بلفظ:«من تمام» .
ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقيّ بلفظ: «من تمام عيادة أحدكم أخاه: أن يضع يده عليه؛ فيسأله كيف أصبح، كيف أمسى!؟» .
وعند الطبراني في «الكبير» ؛ من حديث أبي رهم: «وإنّ من الحسنات:
عيادة المريض، وإنّ من تمام عيادته أن تضع يدك عليه؛ وتسأله كيف هو؟!» .
وتشييع جنازة المسلم،
…
وروى أصحاب «السنن» ، والحاكم؛ من حديث علي:«من أتى أخاه المسلم عائدا مشى في خرافة الجنّة حتّى يجلس، فإذا جلس! غمرته الرّحمة، فإن كان غدوة! صلّى عليه سبعون ألف ملك حتّى يمسي، وإن كان مساء! صلّى عليه سبعون ألف ملك حتّى يصبح» .
وهذا لفظ ابن ماجه، وصحّحه الحاكم، وحسّنه الترمذي.
ولمسلم؛ من حديث ثوبان: «من عاد مريضا لم يزل في خرافة الجنّة» .
وللبيهقي؛ من حديث علي: «من عاد مريضا قعد في خراف الجنّة، فإذا قام من عنده! وكّل به سبعون ألف ملك يصلّون عليه حتّى اللّيل» .
وفي لفظ عنده من حديثه أيضا: «من عاد مريضا مشى في خراف الجنّة، فإذا جلس عنده! استنقع في الرّحمة، فإذا خرج من عنده! وكّل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له، ويحفظونه ذلك اليوم» .
(و) من محاسن الأعمال: (تشييع جنازة المسلم) ؛ أي: الذهاب مع الجنازة حتى تدفن. أخرج الشيخان؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:
«من تبع جنازة فله قيراط من الأجر، فإن وقف حتّى تدفن؛ فله قيراطان» ، وأخرج الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه وأبو عوانة وأبو داود الطيالسي من حديث ثوبان:«من تبع جنازة حتى يصلي عليها، كان له من الأجر قيراط، ومن مشى مع الجنازة حتى تدفن كان له من الأجر قيراطان، والقيراط مثل أحد» .
وأخرج البخاريّ، والنسائي، وابن حبّان؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:«من تبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معها حتّى يصلّى عليها ويفرغ من دفنها؛ فإنّه يرجع من الأجر بقيراطين؛ كلّ قيراط مثل أحد!! ومن صلّى عليها ثمّ رجع قبل أن تدفن؛ فإنّه يرجع بقيراط من الأجر» .
وحسن الجوار لمن جاورت؛ مسلما كان أو كافرا،
…
والمشي أمامها بقربها أفضل؛ فإنّه شفيع لها، والشفيع يتقدّم.
هذا مذهب الشافعي. ويدلّ له حديث ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بين يديها، وأبو بكر، وعمر.
وقال أبو حنيفة: المشي خلفها أفضل؛ لما رواه البراء بن عازب؛ قال:
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتّباع الجنازة. وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «حقّ المسلم على المسلم خمس
…
» وذكر منها اتّباع الجنازة؛ والاتّباع لا يقع إلّا على التوالي.
وآداب تشييع الجنازة: دوام الخشوع، وترك الحديث، وملاحظة الميت والاعتبار به، والتفكّر في الموت والاستعداد له.
(و) من محاسن الأعمال: (حسن الجوار) ؛ أي: المجاورة (لمن جاورت؛ مسلما كان) الجار؛ (أو كافرا) ؛ لأنّك مأمور بالإحسان إلى جارك مطلقا، إلّا أنّ للمجاورة مراتب بعضها ألصق من بعض؛ على الترتيب المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: «الجيران ثلاثة؛ فجار له حقّ واحد؛ وهو أدنى الجيران حقّا، وجار له حقّان، وجار له ثلاثة حقوق.
فأمّا الّذي له حقّ واحد؛ فجار مشرك لا رحم! له حقّ الجوار.
وأمّا الّذي له حقّان! فجار مسلم له حقّ الإسلام وحقّ الجوار.
وأمّا الّذي له ثلاثة حقوق! فجار مسلم وذو رحم؛ له حقّ الإسلام وحقّ الجوار وحقّ الرّحم» .
رواه الحسن بن يوسف، والبزّار في «مسنديهما» ، وأبو الشيخ في «كتاب الثواب» ، وأبو نعيم في «الحلية» ؛ من حديث جابر.
ورواه ابن عديّ؛ من حديث عبد الله بن عمرو وكلاهما ضعيف، وكذلك رواه الديلميّ والطبراني؛ من حديث جابر. وله طرق متّصلة ومرسلة، وفي الكلّ مقال.
.........
فانظر كيف أثبت للمشرك حقّا بمجرّد الجوار! وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أحسن مجاورة من جاورك تكن مؤمنا»
…
الحديث بطوله الذي رواه الترمذي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وهذا أعمّ من أن يجاور مسلما أو مشركا.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» . متّفق عليه؛ من حديث أبي شريح.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما؛ من حديث عائشة، وابن عمر:
«ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه» .
وأخرج الطبرانيّ؛ عن معاوية بن حيدة: قلت يا رسول الله؛ ما حقّ الجار على جاره؟! قال: «إن مرض عدته، وإن مات شيّعته، وإن استقرضك أقرضته، وإن أعور سترته» .
وفي رواية لأبي الشيخ: «وإن استعانك أعنته، وإن احتاج أعطيته، هل تفقهون ما أقول لكم!؟ لن يؤدّي حقّ الجار إلّا قليل ممّن رحم الله» .
قال في «الإحياء» : واعلم أنّه ليس حقّ الجوار كفّ الأذى فقط! بل احتمال الأذى، فإنّ الجار أيضا قد كفّ أذاه، فليس في ذلك قضاء حقّ، ولا يكفي احتمال الأذى؛ بل لا بدّ من الرّفق وإسداء الخير والمعروف إليه؛ إذ يقال: إنّ الجار الفقير يتعلّق بجاره الغنيّ يوم القيامة؛ فيقول: يا ربّ؛ سل هذا لم منعني معروفه وسدّ بابه دوني!؟.
وبلغ ابن المقفّع أنّ جارا له يبيع داره في دين ركبه- وكان يجلس في ظلّ
وتوقير ذي الشّيبة المسلم،
…
داره- فقال: ما قمت إذا بحرمة ظلّ داره إن باعها معدما! فدفع إليه ثمن الدار؛ وقال: لا تبعها.
وشكا بعضهم كثرة الفأر في داره! فقيل له: لو اقتنيت هرّا! فقال: أخشى أن يسمع الفأر صوت الهرّ؛ فيهرب إلى دور الجيران؛ فأكون قد أحببت لهم ما لا أحبّ لنفسي!!.
وبالجملة: فالذي يشمل جميع حقوق الجار هو: إرادته الخير لجاره، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الأذى وترك الإضرار على اختلاف أنواعه؛ إلّا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار بالقول؛ أو الفعل.
فإن كان كافرا! يعظه بعرض الإسلام عليه، وإظهار محاسنه برفق، والترغيب فيه، فيعظ الفاسق بما يناسبه أيضا، ويستر عليه زلله عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد، وإلّا! هجره؛ قاصدا تأديبه مع إعلامه بالسبب ليكفّ. قاله ابن أبي جمرة. ذكره في شرح «الإحياء» .
(و) من محاسن الأعمال: (توقير) - أي: تعظيم- (ذي الشّيبة المسلم) بما يستحقّه من التبجيل والتعظيم؛ ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «من إجلال الله:
إكرام ذي الشّيبة المسلم»
…
الحديث؛ أي: تعظيم الشيخ الكبير صاحب الشيبة البيضاء الذي عمّر في الإسلام، وتوقيره في المجالس، والرّفق به، والشفقة عليه.
وهذا الحديث قال العراقي: رواه أبو داود؛ من حديث أبي موسى الأشعري بإسناد حسن. وقد سكت عليه أبو داود. أي: فهو عنده حسن! وهكذا قال ابن القطّان، والحافظ ابن حجر.
وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» بهذا اللفظ؛ من حديث أنس، ونقل عن ابن حبّان أنه لا أصل له!
.........
ولم يصب ابن الجوزي؛ ولا ابن حبّان!! بل له أصل من حديث أبي موسى.
وأما حديث أنس الذي قال ابن حبّان «لا أصل له!» فلفظه: «إنّ من إجلال الله توقير الشّيخ من أمّتي» ؛ قاله في شرح «الإحياء» .
أخرج الطبراني في «الأوسط» بسند ضعيف؛ عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منّا من لم يوقّر كبيرنا، ولم يرحم صغيرنا» .
وهو عند أبي داود، والبخاري في «الأدب المفرد» ؛ من حديث عبد الله ابن عمر بسند حسن؛ قاله العراقي.
فيتعيّن أن يعامل كلّا منهما بما يليق؛ فيعطي الصغير حقّه من الرّفق به والرحمة والشفقة عليه، ويعطي الكبير حقّه من الشرف والتوقير.
ومن تمام توقير المشايخ وتعظيمهم: ألايتكلّم بين أيديهم إلا بإذن منهم.
روى أبو الشيخ في «التوبيخ» من حديث جابر: «ثلاثة لا يستخفّ بحقّهم إلّا منافق بيّن النّفاق: 1- ذو الشّيبة في الإسلام، و 2- الإمام المقسط، و 3- معلّم الخير» .
ورواه الطبراني في «الكبير» ؛ من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه نحوه.
وفي الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: «ما أكرم شابّ شيخا لسنّه! إلّا قيّض الله له من يكرمه عند سنّه!!» . رواه الترمذي؛ من حديث أنس، وقال: حديث غريب، وفيه أبو الرجال وهو ضعيف.
قال الغزالي: وهذه بشارة بدوام الحياة فليتنبّه لها! فلا يوفّق لتوقير المشايخ إلّا من قضى الله له بطول العمر. وهكذا ذكره ابن العربي في «شرح الترمذي»
وإجابة دعوة الطّعام، والدّعاء عليه، والعفو، والإصلاح بين النّاس،
…
عن العلماء أنّ فيه دليلا على طول العمر لمن أكرم المشيخة. انتهى. من «الإحياء» و «شرحه» .
(و) من محاسن الأعمال: (إجابة) داعي (دعوة الطّعام) ؛ وجوبا في وليمة العرس، وندبا في غيرها من الولائم؛ بشرطه!
(والدّعاء عليه) ؛ أي: على الطعام وبعده، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أكل عند قوم لم يخرج حتّى يدعو لهم؛ فكان يقول:«اللهمّ؛ بارك لهم وارحمهم» . وكان يقول: «أفطر عندكم الصّائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة» . كما تقدّم.
(والعفو) عمّن اجترأ عليه. قال صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلّا عزّا، وما تواضع أحد لله إلّا رفعه» . رواه مسلم؛ من حديث أبي هريرة.
ورواه كذلك الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبّان.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قطّ إلّا أن تنتهك حرمة الله! فينتقم لله. رواه البخاري ومسلم.
وقال ابن عباس: ما عفا رجل عن مظلمة إلّا زاده الله بها عزّا. أي: في الدنيا؛ فإنّ من عرف بالعفو والصفح عظم في القلوب، أو في الآخرة؛ بأن يعظم ثوابه. وهو معنى حديث أبي هريرة السابق آنفا.
(و) من محاسن الأعمال: (الإصلاح بين النّاس)، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:«أفضل الصّدقة: إصلاح ذات البين» رواه الطبراني في «الكبير» ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» ؛ من حديث عبد الله بن عمرو. وفيه راو ضعيف.
والجود، والكرم، والسّماحة،
…
وعنه صلى الله عليه وسلم: «اتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم؛ فإنّ الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة» . رواه الخرائطي في «مكارم الأخلاق» ؛ عن أنس من حديث طويل، ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وضعّفه البخاري وابن حبّان.
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصّلاة والصّيام والصّدقة؟!» قالوا: بلى! قال: «إصلاح ذات البين. وفساد ذات البين هي الحالقة» .
رواه أبو داود، والترمذي وصحّحه؛ من حديث أبي الدرداء.
ورواه كذلك الإمام أحمد، والبخاري في «الأدب المفرد» ، قال الحافظ ابن حجر: سنده صحيح.
فينبغي للشخص الاعتناء بإصلاح ذات البين بين المسلمين ما وجد لذلك سبيلا. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ليس بكذّاب من أصلح بين اثنين؛ فقال خيرا أو نمى خيرا» . رواه الشيخان؛ من حديث أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكذلك رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن جرير؛ كلهم من حديث حميد بن عبد الرحمن؛ عن أمّه أمّ كلثوم بنت عقبة. ورواه الطبراني في «الكبير» من حديث شدّاد بن أوس.
وليس المراد من الحديث نفي ذات الكذب! بل نفي إثمه. فالكذب كذب؛ لإصلاح أو غيره.
وهذا الحديث يدلّ على وجوب الإصلاح، لأنّ ترك الكذب واجب، ولا يسقط الواجب إلّا بواجب آكد منه. انتهى جميعه من «الإحياء» و «شرحه» والله أعلم.
(و) من محاسن الأعمال: (الجود، والكرم، والسّماحة) ومعانيها متقاربة.
والابتداء بالسّلام،
…
وقد فرّق بعضهم بينها بفروق دقيقة؛
فجعلوا الكرم: الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم قدره ونفعه. أي: فيما يكثر الانتفاع به؛ فلا يطلق على ما يحقر قدره ويقلّ نفعه. وقال بعضهم: الأظهر أن يقال: الكرم إنما هو عطاء ابتداء؛ من غير ملاحظة عوض وغرض انتهاء.
وأمّا السماحة! فهي التجافي عمّا يستحقّه المرء عند غيره؛ من أداء عين، أو قضاء دين؛ بطيب نفس. وقال العلّامة ملّا علي قاري: بعض الأحاديث يدلّ على أنّ المراد بالسماحة السخاوة الخاصة؛ وهي المساهلة في المعاملة؛ كما ورد:
«رحم الله من سمح في البيع والشّراء، والقضاء والاقتضاء» . وفي حديث:
«السّماح رباح» . انتهى.
والسخاء: سهولة الإنفاق على الأقارب والأجانب، والفقير والغني، وسائر المراتب، وتجنبّ اكتساب ما لا يحمد. وهو مرادف للجود.
وقيل: الجود إعطاء الموجود، وانتظار المفقود، والاعتماد على المعبود.
وقيل: الجود هو بذل المجهود، ونفي الموجود.
وقد يقال: من أعطى البعض؛ فهو سخي، ومن بذل الأكثر؛ فهو جواد، ومن أعطى الكلّ؛ فهو كريم. انتهى.
(و) من محاسن الأعمال: (الابتداء بالسّلام) ؛ وهو سنّة عين من الواحد؛ ولو صبيا! ولو على من ظنّ أنّه لا يردّ، ومن الجماعة سنّة كفاية.
وردّه فرض عين على الواحد عند إقباله وانصرافه، وكذا لو علمه واحد فقط من الجماعة، ولو كان المسلّم صبيا مميّزا.
وفرض كفاية؛ إن كان على جماعة اثنين فأكثر، مسلمين مكلفين، أو سكارى؛ لهم نوع تمييز، عالمين به، ولو نساء.
ولو أسقط المسلّم حقّه؛ لم يسقط، لأن الحقّ لله تعالى، ولو ردّوا كلّهم؛
.........
ولو مرتّبا؟ أثيبوا ثواب الفرض، كالمصلّين على جنازة.
وشرطه إسماع واتصال كاتصال الإيجاب بالقبول، فإن شكّ في سماعه؛ زاد في الرفع، فإن كان عنده نيام، خفض صوته ندبا.
ولا يكفي ردّ صبي مع وجود مكلّف، ولا ردّ غير المسلّم عليهم.
ولو سلّم على جماعة؛ فيهم امرأة فردّت؛ هل يكفي؟ قال الزركشي: ينبغي بناؤه على أنّه هل يشرع لها الابتداء بالسّلام؛ بأن كانت محرما له، أو غير مشتهاة مثلا؛ فحيث شرع لها؛ كفى جوابها، وإلّا فلا.
قال الشّبراملّسي: ومحلّ ذلك ما لم يخصّ الرجال، وإلّا فلا يكفي ردّها.
انتهى.
ويجب الجمع بين اللفظ والإشارة على من ردّ على أصمّ، وسنّ لمن يسلّم عليه أن يجمع بينهما.
نعم؛ لو علم أنّه فهم بقرينة الحال والنظر إلى فمه؟ لم تجب الإشارة.
وتجزىء إشارة الآخرس ابتداء وردّا.
وقال الشّبراملّسي: محلّ ذلك إن فهمها كلّ أحد، وإلّا كانت كناية، فتعتبر النيّة معها، لوجوب الردّ والكفاية في حصول السّنّة منه. انتهى.
وصيغته: «السلام عليكم» ، أو «سلامي عليكم» ، ويجزىء مع الكراهة «عليكم السلام» . ويجب فيه الردّ.
وك «عليكم السلام» ، «عليكم سلامي» ، ولو قال «وعليكم السلام» ؟ لم يكن سلاما، فلا يجب ردّه «1» .
(1) بقي مما لا يجب ردّه وهو الآن مستعمل كثيرا: سلام الله عليكم. أو: سلام من الله عليكم.
وكظم الغيظ،
…
وندب صيغة الجمع في الواحد لأجل الملائكة، ويكفي الإفراد فيه، بخلافه في الجمع! فلا يكفي في أداء السّنة، ولا يجب الردّ حيث لم يعيّن واحدا.
والإشارة بيد ونحوها من غير لفظ! خلاف الأولى، والجمع بينها وبين اللفظ أفضل، وصيغة ردّه «وعليكم السلام وعليك السلام» للواحد، لا لجمع سلّموا عليه؛ كما في الشبراملسي، ومع ترك الواو، وإن كان ذكرها أفضل، فإن عكس؛ بأن قال:«والسلام عليكم» ، أو «السلام عليكم» ؟ جاز وكفى، فإن قال «وعليكم» وسكت؟ لم يجز.
والتعريف ابتداء وجوابا أفضل، وزيادة «ورحمة الله وبركاته» أكمل منهما.
انتهى ملخصا من كتاب «فتح العلام» للسيّد العلامة علوي بن أحمد السّقّاف رحمه الله، ثم قال فيه:
وهل لنا سنّة كفاية غير السلام من الجماعة؟! ذهب فخر الإسلام الشاشي إلى نفي ذلك. وردّ بأن منها تشميت العاطس، والتسمية للأكل، والأذان والإقامة، وما يفعل بالميّت؛ مما ندب إليه من جماعته، وتضحية الواحد من أهل البيت بالشاة الواحدة، لتأدّي شعار التضحية. وقد نظم بعضهم ذلك في قوله:
أذان وتشميت وفعل بميّت
…
إذا كان مندوبا وللأكل بسملا
وأضحية من أهل بيت تعدّدوا
…
وبدء سلام والإقامة فاعقلا
فذي سبعة إن جا بها البعض يكتفى
…
ويسقط لوم عن سواه تكمّلا
زاد في «التحفة» و «النهاية» : إجابة تشميت العاطس. انتهى.
(و) من محاسن الأعمال: (كظم الغيظ) الكظم: هو الكفّ؛ إمّا بكفّ النفس؛ أو بالصفح.
والغيظ: هو الغضب الكامن في القلب.
أخرج ابن أبي الدنيا في «ذمّ الغضب» ؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ
والعفو عن النّاس،
…
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظا، ولو شاء أن يمضيه أمضاه؛ ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا» . وفي رواية: «من كتم غيظا؛ وهو يقدر على إنفاذه؛ ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا» . رواه ابن أبي الدنيا؛ من حديث أبي هريرة.
وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما جرع عبد جرعة أعظم أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله تعالى» . رواه ابن ماجه بإسناد جيد، وقال المنذريّ: رواته محتجّ بهم في «الصحيح» .
ورواه الإمام أحمد بلفظ: «ما تجرّع عبد أفضل منه عند الله من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله تعالى» .
وقال ابن عبّاس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ لجهنّم بابا لا يدخله إلّا من شفى غيظه بمعصية الله» . رواه ابن أبي الدنيا في «ذم الغضب» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظا؛ وهو يقدر على أن ينفذه؛ دعاه الله على رؤوس الخلائق، ويخيّره من أيّ الحور العين شاء» . رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ؛ وقال: حسن غريب، وابن ماجه، والطبرانيّ، والبيهقيّ، وابن أبي الدنيا في «ذم الغضب» ؛ وفي «الصمت» من حديث معاذ بن أنس.
وذكر أنّه كان عند ميمون بن مهران الجزري «كاتب عمر بن عبد العزيز» ضيف، فاستعجل جاريته بالعشاء؛ فجاءت مسرعة ومعها قصعة مملوءة من الثريد، فعثرت في ذيلها وأراقتها على رأس سيّدها ميمون، فقال: يا جارية أحرقتيني! قالت: يا معلّم الخير ومؤدّب الناس؛ ارجع إلى ما قال الله تعالى، قال لها: وما قال الله تعالى؟! قالت: قال وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ قال: قد كظمت غيظي؛ أي كففته. قالت وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال: قد عفوت عنك. قالت:
زد، فإنّ الله عز وجل يقول وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) [آل عمران] قال: أنت حرّة لوجه الله تعالى.
(والعفو عن النّاس) تقدّم الكلام على العفو.
واجتناب ما حرّمه الإسلام من اللهو، والباطل، والغناء، والمعارف كلّها،
…
(واجتناب) كلّ (ما حرّمه الإسلام؛ من اللهو والباطل والغناء) - بكسر الغين والمدّ-: الصوت. وغنّى- بالتشديد-: إذا ترنّم بالغناء، والغنى- بالكسر والقصر- بالمال، وأما الغناء- بفتح الغين والمدّ-!! فهو النفع، وعلى ذلك قول بعضهم:
الغنا بالمدّ صوت
…
والغنى بالمال مقصور
والجميع الغين منه
…
عند أهل العلم مكسور
والغنا بالمدّ والفت
…
ح اسمه للنّفع مشهور
(و) من محاسن الأعمال: اجتناب (المعازف كلّها) : آلات يضرب بها.
الواحد عزف؛ مثل فلس. وقال الجوهريّ: المعازف الملاهي.
قال ابن حجر الهيتميّ: صحّ من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «ليكوننّ في أمّتي أقوام يستحلّون الحر والحرير، والخمر والمعازف» . أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وأبو نعيم بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها، وصحّحه جماعة آخرون من الأئمة؛ كما قاله بعض الحفّاظ؛ خلافا لما وهم فيه ابن حزم! فقد علّقه البخاريّ؛ ووصله الإسماعيلي.
وهو صريح ظاهر في تحريم جميع آلات اللهو المطربة.
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه؛ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إيّاكم وسماع المعازف والغناء، فإنّهما ينبتان النّفاق في القلب كما ينبت الماء البقل» . رواه ابن صصري في «أماليه» .
وأخرج الدّيلميّ أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «الغناء واللهو ينبتان النّفاق في القلب كما ينبت الماء العشب، والذي نفسي بيده؛ إنّ القرآن والذّكر لينبتان الإيمان في القلب كما ينبت الماء العشب» .
.........
وعن أبي موسى رضي الله تعالى عنه؛ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يستمع إلى صوت الرّوحانيّين في الجنّة» . رواه الحكيم الترمذي.
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه؛ أنّه سئل عن قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان/ 6] ؛ قال: «الغناء، والذي لا إله إلّا هو؛ لا غيره» .
رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. وأخرجه الحاكم وصحّحه والبيهقيّ وغيره.
ثمّ قال ابن حجر الهيتميّ: يحرم سماع الغناء من حرّة وأمة أجنبيّة؛ بناء على قول عندنا «أنّ صوت المرأة عورة» ، سواء أخاف فتنة بها؛ أم لا!! وكلام الشيخين في «الروضة» و «أصلها» في ثلاثة مواضع يقتضي أنّ هذا هو الراجح في المذهب، ونقل القاضي أبو الطيّب إمام أصحابنا عن الأصحاب: ولو من وراء حجاب.
وصرّح بالتحريم القاضي الحسين أيضا. وادّعى أنّه لا خلاف فيه؛ مستدلا بالحديث الصحيح: «من استمع إلى قينة صبّ في أذنيه الآنك» . أي: الرصاص المذاب.
قال الأذرعيّ: ولو لم يكن المغنّي والمغنّية محلّ الفتنة، ولكن استماع الغناء منه يبعث على الافتتان بغيره من الناس؛ فهو حرام، لما فيه من الخبث؛ وتحريك القلب الخرب إلى ما يهواه، لا سيّما أهل العشق والشغف، ومن يشتغل بصورة خاصّة! وهذا واضح ولا ينازع فيه منصف. انتهى.
وأمّا على قول «أنّ صوت المرأة غير عورة» وهو الأصحّ!! فلا يحرم؛ إلّا إن خشي فتنة.
قال الأذرعيّ: ومحلّه في غير الغناء الملحّن بالنغمات الموزونة مع التخنّث والتغنّج؛ كما هو شأن المغنّيات.
أما هذا!! ففيه أمور زائدة على مطلق سماع الصوت؛ فيتّجه التحريم هنا؛ وإن
وكلّ ذي وتر، وكلّ ذي ذحل، والغيبة،
…
قلنا «إنّ صوتها غير عورة» .
ويجب أن يكون محلّ الخلاف في صوت غير مشتمل على ذلك؛ بخلاف المشتمل عليه، لأنّه يحثّ على الفسوق؛ كما هو مشاهد، ويظهر أنّ سماعه من الأمرد محرّم أيضا؛ إن خشي فتنة به، كسماعه من المرأة.
ثم رأيت الرافعي صرّح بذلك. والأذرعيّ نقل عن القرطبي: أنّ جمهور من أباح سماع الغناء حكموا بتحريمه من الأجنبيّة على الرّجال والنساء، وأنّه لا فرق بين إسماع الشعر والقرآن، لما فيه من تهيّج الشهوة وخوف الفتنة؛ لا سيما إذا لحّنته، فسماعه كالاطلاع على محاسن جسدها، بل الحاصل بغنائها من المفسدة أسرع من ذلك!؛ لأنّ السماع يؤثّر في النفس قبل رؤية الشخص، وأمّا تهييجه للشهوة وإيقاعه في الفتنة!! فلا شكّ فيه.
والحاصل: أنّ سماعهنّ مظنّة للشهوة قطعا. وأطال في تقريره وهو كما قال.
انتهى كلام الأذرعي؛ نقله ابن حجر رحمه الله تعالى.
(و) من محاسن الأعمال: اجتناب (كلّ ذي وتر) - بفتح الواو وسكون التاء المثنّاة فوق، آخره راء-: هو الذّحل- بالذال المعجمة والحاء المهملة- المذكور في قوله (وكلّ ذي ذحل) الحقد وهو بفتح الذال المعجمة. وتفتح الحاء المهملة، فيجمع على أذحال؛ مثل سبب وأسباب، وتسكّن الحاء المهملة، فيجمع على ذحول؛ مثل فلس وفلوس، وطلب بذحله أي بثأره. انتهى «مصباح» وسيأتي تفسيرهما في كلام المصنف، والمراد منهما اجتناب الحقد وإضمار الشرّ للمسلمين.
(و) من محاسن الأعمال: اجتناب (الغيبة) - بكسر الغين المعجمة-: ذكرك أخاك بما يكره؛ ولو بما فيه؛ ولو بحضوره، لكن ظاهر المادّة تؤيّد ما قيل «من أن ما في الحضور لا يسمّى غيبة بل بهتان» . وإذا ذكره بما ليس فيه فقد زاد على ذلك إثم الكذب.
.........
ومن الضلال قول بعض العامّة «ليس هذا غيبة، إنّما هو إخبار بالواقع» ، فربّما جرّه ذلك لكفر الاستحلال- والعياذ بالله تعالى-.
وليست الغيبة مختصّة بالذكر، بل ضابطها: كلّ ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم، بلفظك؛ أو كتابتك؛ أو أشرت إليه بعينك؛ أو يدك؛ أو رأسك؛ أو نحو ذلك، سواء كان ذلك في بدنه؛ أو دينه؛ أو دنياه؛ أو ولده؛ أو والده؛ أو زوجته؛ أو خادمه؛ أو حرفته؛ أو لونه؛ أو مركوبه؛ أو عمامته؛ أو ثوبه؛ أو غير ذلك ممّا يتعلّق به.
ومن ذلك قول المصنفين في كتبهم «قال فلان كذا وهو غلط؛ أو خطأ.. أو نحو ذلك» فهو حرام، إلّا إن أرادوا بيان غلطه؛ أو خطئه، لئلا يقلّد؛ لأنّ ذلك نصيحة؛ لا غيبة.
وقولهم «قال مصنف، أو قال جماعة أو قوم كذا؛ وهو غلط أو خطأ» أو نحو ذلك؟! ليس غيبة، لأنّ الغيبة لا تكون إلّا في إنسان معين؛ أو جماعة معينين.
وقولك «فعل كذا بعض الناس» ، أو:«بعض الفقهاء» ، أو:«من يدّعي العلم» ، أو:«بعض المفتين» أو نحو ذلك غيبة محرّمة إذا كان المخاطب يفهمه بعينه.
وقضيّة ذلك: أنّك إذا ذكرت شخصا تعرفه أنت دون المخاطب؛ لا يكون غيبة.
ويشكل عليه حرمة الغيبة في الخلوة؛ دون حضور أحد، وكذا بالقلب فقط، فإنّها بالقلب محرّمة كهي باللسان، ومحلّ ذلك في غير من شاهد، وأمّا من شاهد!! فيعذر في الاعتقاد حينئذ؛ نعم؛ ينبغي أن يحمله على أنّه تاب.
وحكم الغيبة التحريم بالإجماع.
وهل هي كبيرة؛ أو صغيرة؟!
.........
قال القرطبي من المالكية: إنها كبيرة بلا خلاف- يعني في مذهبه-، وإليه ذهب كثير من الشافعية، وذكر صاحب «العدة» منهم: أنها صغيرة. وأقرّه عليه الرافعيّ ومن تبعه، لعموم البلوى بها، فقلّ من يسلم منها!! وفي التعليل نظر لا يخفى، لأنّ ذلك لا يقتضي كونها من الصغائر، والذي جزم به ابن حجر الهيتمي في «شرح الشمائل» أنّ غيبة العالم وحامل القرآن كبيرة، وغيبة غيرهما صغيرة؛ وهو المعتمد.
وكما يحرم على المغتاب ذكر الغيبة يحرم على السامع استماعها وإقرارها، فيجب على كلّ من سمع إنسانا يذكر غيبة محرّمة أن ينهاه، إن لم يخف ضررا ظاهرا.
وقد ورد: «من ردّ غيبة مسلم ردّ الله عن وجهه النّار يوم القيامة» . فإن لم يستطع باليد؛ ولا باللسان؟! فارق ذلك المجلس. فإن قال بلسانه «اسكت» وهو يشتهي بقلبه استمراره؟! فذلك نفاق؛ كما قاله الغزالي!! فلا بدّ من كراهته بقلبه.
وربّما ألحق مجلس الغيبة بمظانّ الإجابة، فيقول «الله يلطف بنا، وبفلان؛ فعل كذا وكذا» !!.
ومن ذلك غيبة المتفقّهين والمتعبّدين؛ فيقال لأحدهم «كيف حال فلان» فيقول «الله يصلحنا.. الله يغفر لنا.. الله يصلحه؛ نسأل الله العافية! الله يتوب علينا»
…
وما أشبه ذلك مما يفهم منه تنقيصه. فكلّ ذلك غيبة محرّمة، وكذلك إذا قال «فلان ماله حيلة؛ كلنا نفعل ذلك.» .
واعلم أنّ العلماء ذكروا أنّ الغيبة تباح في أحوال للمصلحة؛ وهي ستّة نظمها العلامة ابن أبي شريف رحمه الله تعالى؛ فقال:
القدح ليس بغيبة في ستّة
…
متظلّم ومعرّف ومحذّر
ولمظهر فسقا ومستفت ومن
…
طلب الإعانة في إزالة منكر
والكذب،
…
فالأوّل: المتظلّم، كأن يقول المظلوم لمن له الولاية كالقاضي «فلان ظلمني» .. مثلا.
والثاني: المعرّف، كأن يقول «فلان الأعمش.. أو الأعرج.. أو نحو ذلك» فيمن كان معروفا بذلك؟! بشرط أن يكون بنيّة التعريف، فإن كان بقصد التنقيص!! حرم.
والثالث: المحذّر، كأن تذكر عيوب شخص لمن يريد الاجتماع عليه إذا لم ينكفّ بدون ذكرها، وإلّا!! حرم.
والرابع: مظهر الفسق؛ أي: المجاهر بفسقه، كالمجاهر بشرب الخمر وأخذ المكس.. وغير ذلك، فيجوز ذكره بما فسق به؛ لا بغيره من العيوب، بشرط أن يقصد أن تبلّغه لينزجر.
والخامس: المستفتي؛ كأن يقول للمفتي «ظلمني فلان» ؛ فهل له ذلك؟
وما طريقي في الخلاص منه.
والسادس: الطالب للمعاونة على إزالة المنكر؛ كأن يقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر «فلان يعمل كذا فأعنّي على منعه» ، بشرط أن يكون قصده التوصّل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك؟ كان حراما.
والتوبة تنفع في الغيبة من حيث الإقدام، وأمّا من حيث الوقوع في حرمة من هي له؟! فلا بدّ فيها- مع التوبة- من طلب العفو من صاحبها عنه؛ إذا بلغته. وإذا لم تبلغه؟ كفى الاستغفار له. وإن بلغته بعد ذلك؟ بلغته ممحوّة. انتهى جميع ذلك ملخصا من الباجوري رحمه الله تعالى.
(و) من محاسن الأعمال: اجتناب (الكذب) لغير مصلحة شرعية، فإن كان لمصلحة شرعيّة؟ جاز، كالكذب للزوجة؛ تطييبا لنفسها، بل قد يجب كالكذب لإنقاذ مسلم، أو لإصلاح ذات البين.
والبخل، والشّحّ،
…
قال في «الإحياء» : كلّ مقصود محمود يمكن التوصّل إليه بالصدق والكذب جميعا؛ فالكذب فيه حرام. وإن أمكن التوصّل إليه بالكذب؛ دون الصدق! فالكذب فيه مباح؛ إن كان تحصيل ذلك القصد مباحا، وواجب إن كان المقصود واجبا. كما أنّ عصمة دم المسلم واجبة؛ فمهما كان في الصدق سفك دم امرىء مسلم قد اختفى من ظالم؛ فالكذب فيه واجب، ومهما كان لا يتمّ مقصود الحرب؛ أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجنيّ عليه إلّا بكذب؟! فالكذب مباح، إلّا أنّه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن. انتهى.
(و) من محاسن الأعمال: اجتناب (البخل، والشّحّ) . قال في «الجمل» «1» : الشحّ: اللؤم؛ وهو غريزة، والبخل: المنع نفسه. فهو أعمّ، لأنّه قد يوجد البخل ولا شحّ له، ولا ينعكس.
وفي النسائي؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمع الشّحّ والإيمان في قلب عبد أبدا» .
فإذن الشحّ صفة راسخة يصعب معها على الرّجل تأتّي المعروف؛ وتعاطي مكارم الأخلاق، ويفتقر في التخلّص منه إلى معونة الله وتوفيقه.
وفي «الجامع الصغير» : «الشّحيح لا يدخل الجنّة» . رواه الخطيب في كتاب «البخلاء» ؛ عن ابن عمر.
وفي «الصحاح» : الشحّ: البخل مع حرص. انتهى.
وفي «الإحياء» : قال عبد الله بن عمرو: الشحّ أشدّ من البخل، لأن الشحيح هو الذي يشحّ على ما في يد غيره حتى يأخذه، ويشحّ بما في يده فيحبسه، والبخيل هو: الذي يبخل بما في يده. انتهى.
(1) أي حاشية الجمل! لعلها على الجلالين!!.
.........
وقال في «الاحياء» أيضا: أما حدّ البخل الذي يوجب الهلاك؛!
فقال قائلون: هو منع الواجب، فكلّ من أدّى ما وجب عليه؛ فليس ببخيل.
وهذا غير كاف. ثم أطال في تقرير حدّ البخل،
…
إلى أن قال: السخيّ هو:
الذي لا يمنع واجب الشرع؛ ولا واجب المروءة، فإن منع واحدا منها؟! فهو بخيل، ولكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل، كالذي يمنع أداء الزكاة ويمنع عياله وأهله النفقة، أو يؤدّيها؛ ولكنه يشقّ عليه، فإنّه بخيل بالطبع، وإنّما يتسخّى بالتكلّف، أو الذي يتيمّم الخبيث من ماله؛ ولا يطيب قلبه أن يعطي من أطيب ماله، أو من وسطه. فهذا كلّه بخل.
وأمّا واجب المروءة!! فهو ترك المضايقة، والاستقصاء في المحقّرات، فإنّ ذلك مستقبح. واستقباح ذلك يختلف بالأحوال والأشخاص؛
1-
فمن كثر ماله استقبح منه ما لا يستقبح من الفقير من المضايقة. ويستقبح من الرّجل المضايقة مع أهله؛ وأقاربه؛ ومماليكه ما لا يستقبح مع الأجانب. ويستقبح مع الجار ما لا يستقبح مع البعيد، ويستقبح في الضيافة من المضايقة ما لا يستقبح أقلّ منه في المبايعة والمعاملة، فيختلف ذلك بما فيه من المضايقة في ضيافة؛ أو معاملة.
2-
أو بما فيه المضايقة؛ من طعام؛ أو ثوب، إذ يستقبح في الأطعمة ما لا يستقبح في غيرها، ويستقبح في شراء الكفن مثلا؛ أو شراء الأضحية، أو شراء خبز الصدقة ما لا يستقبح في غيره من المضايقة.
3-
وكذلك بمن معه المضايقة؛ من صديق؛ أو أخ؛ أو قريب؛ أو زوجة؛ أو ولد؛ أو أجنبي. وبمن معه المضايقة؛ من صبي؛ أو امرأة، أو شيخ؛ أو شاب، أو عالم؛ أو جاهل، أو موسر؛ أو فقير.
فالبخيل هو: الذي يمنع حيث ينبغي ألايمنع؛ إمّا بحكم الشرع، وإمّا بحكم المروءة، وذلك لا يمكن التنصيص على مقداره.
ولعل حدّ البخل هو: إمساك المال عن غرض، ذلك الغرض هو أهمّ من حفظ
والجفاء، والمكر، والخديعة،
…
المال!! فإنّ صيانة الدين أهمّ من حفظ المال، فمانع الزكاة والنفقة بخيل، وصيانة المروءة أهمّ من حفظ المال، والمضايق في الدقائق مع من لا تحسن المضايقة معه هاتك ستر المروءة لحبّ المال؛ فهو بخيل. انتهى كلام الإمام الغزاليّ رحمه الله تعالى.
وهو الذي استقرّ رأيه عليه في تقرير البخيل وحدّ البخل؛ بعد أن أطال الكلام في ذلك رحمه الله تعالى.
(و) من محاسن الأعمال: اجتناب (الجفاء) أي: الغلظة والفظاظة. قال الأزهريّ: الجفاء ممدود؛ عند النحويين، وما علمت أحدا أجاز فيه القصر. وفي الحديث:«البذاء من الجفاء، والجفاء في النّار» . وفي الحديث الآخر: «من بدا جفا» أي: غلظ طبعه، لقلّة مخالطة الناس.
والجفاء يكون في الخلقة والخلق؛ يقال: رجل جافي الخلقة، وجافي الخلق أي: كزّ غليظ العشرة، خرق في المعاملة، متحامل عند الغضب والسورة على الجليس،
وفي صفته صلى الله عليه وسلم: «ليس بالجافي المهين» أي: ليس بالغليظ الخلقة والطبع، أي: ليس بالذي يجفو أصحابه. انتهى من شرح «القاموس» .
(و) من محاسن الأعمال: اجتناب (المكر، والخديعة) ؛ وهما من الكبائر. قال ابن حجر في «الزواجر» : المكر- لغة-: الستر، يقال مكر الليل؛ أي: ستر بظلمته ما هو فيه، ويطلق أيضا على الاحتيال والخداع والخبث، وبهذا الاعتبار عبّر عنه بعض اللغويين: بأنّه السعي بالفساد، وبعضهم: بأنّه صرف الغير عما يقصد بحيلة.
وهذا الأخير؛ إمّا محمود بأن يتحيّن في أن يصرفه إلى خير، وعليه يحمل قوله تعالى وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)[الأنفال] .
وإمّا مذموم بأن يتحيّل به في أن يصرفه إلى شرّ، ومنه وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا
والنّميمة،
…
بِأَهْلِهِ [43/ فاطر] انتهى.
ثم قال ابن حجر أيضا: أخرج الطبرانيّ في «الكبير» و «الصغير» بإسناد جيد، وابن حبّان في «صحيحه» ؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من غشّنا فليس منّا، والمكر والخداع في النّار» .
ورواه أبو داود؛ عن الحسن مرسلا مختصرا؛ قال: «المكر، والخديعة، والخيانة في النّار» .
وفي حديث: «لا يدخل الجنّة خبّ- أي: مكّار- ولا بخيل، ولا منّان» .
وفي آخر: «المؤمن غرّ كريم، والفاسق خبّ لئيم» .
وقال تعالى عن المنافقين يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النساء/ 142] أي:
مجازيهم بما يشبه الخداع على خداعهم له، وذلك أنّهم يعطون نورا؛ كما يعطى المؤمنون، فإذا مضوا على الصراط أطفىء نورهم؛ وبقوا في الظّلمة.
وفي حديث: «أهل النّار خمسة
…
، وذكر منهم
…
رجلا لا يصبح ولا يمسي؛ إلّا وهو مخادعك عن أهلك ومالك» . انتهى كلام ابن حجر رحمه الله تعالى.
(و) من محاسن الأعمال: اجتناب (النّميمة) وهي: نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على وجه الإفساد بينهم، كقوله «فلان يقول فيك كذا» .. لكن قال أبو حامد الغزاليّ: وليست النميمة مختصّة بذلك!!. بل حدّها كشف ما يكره كشفه، سواء كان الكشف بالقول؛ أو بالكتابة؛ أو الرمز، أو نحوها، وسواء كان المنقول من الأعمال؛ أو من الأحوال! وسواء كان عيبا؛ أو غيره!!.
قال النّوويّ: فحقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه.
قال: وكلّ من حملت إليه نميمة لزمه ستّة أمور:
الأوّل: ألايصدّقه، لأن النمام فاسق. والفاسق مردود الخبر.
وسوء ذات البين،
…
الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه.
الثالث: أن يبغضه، فإنّه بغيض عند الله. ويجب بغض من أبغضه الله تعالى.
الرابع: ألايظنّ بالمنقول عنه السوء، لقوله تعالى اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات/ 12] .
الخامس: ألايحمله ما حكي له على التجسّس والبحث عن تحقيق ذلك، قال الله تعالى وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات/ 12] .
السادس: ألايحكى نميمة عنه، فيقول «فلان حكى لي كذا» فيصير بذلك نمّاما.
والنميمة محرّمة بالإجماع، والمذاهب متفقة على أنّها كبيرة، لحديث «الصحيحين» :«لا يدخل الجنّة نمّام» . وفي رواية لمسلم: «قتّات» ؛ أي:
نمّام.
وكلّ ذلك ما لم تدع الحاجة إليها، وإلّا! جازت، لأنّها حينئذ ليست نميمة؛ بل نصيحة كما إذا أخبرك شخص: بأنّ فلانا يريد البطش بمالك؛ أو بأهلك؛ أو نحو ذلك! لتكون على حذر، فليس ذلك بحرام؛ لما فيه من دفع المفاسد.
وقد يكون بعضه واجبا، كما إذا تيقّن وقوع ذلك لو لم يخبرك بهذا الخبر.
وقد يكون بعضه مستحبّا، كما إذا شكّ في ذلك؛ ذكره النووي رحمه الله تعالى.
نقله الباجوري عنه رحمهم الله تعالى. آمين.
(و) من محاسن الأعمال: اجتناب (سوء ذات البين) أخرج أبو داود، والترمذيّ وصحّحه، والإمام أحمد، والبخاريّ في «الأدب المفرد» - قال الحافظ ابن حجر: سنده صحيح- عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصّيام والصّلاة والصّدقة» ؟ قالوا: بلى.
وقطيعة الأرحام،
…
قال: «إصلاح ذات البين. وفساد ذات البين هي الحالقة» أي: الخصلة التي شأنها أن تحلق: أي: تهلك، وتستأصل الدين كما يستأصل المزيّنون الشعر، أو المراد المزيلة لمن وقع فيها، لما يترتّب عليه من الفساد والضغائن. انتهى.
«شرح «الإحياء» » .
(و) من محاسن الأعمال: اجتناب (قطيعة الأرحام) ؛ وهم كلّ قريب:
وارثا؛ أو غير وارث، محرما؛ أو غير محرم.
قال العلّامة ابن حجر في «الفتاوى الفقهية» ؛ كتاب السير: المراد بالأرحام الذين يتأكّد برّهم، وتحرم قطيعتهم جميع الأقارب، من جهة الأب أو الأم؛ وإن بعدوا.
وقال في «الزواجر» : وظاهر أن الأولاد والأعمام من الأرحام، وكذا الخالة؛ خلافا للزركشي في قوله «إنّ الخالة والعمّ مثل الأب والأم؛ حتى في العقوق» .
انتهى.
والمراد بقطع الرحم: قطع ما ألف القريب منه من سابق الوصلة والإحسان لغير عذر شرعي، لأن قطع ذلك يؤدّي إلى إيحاش القلوب ونفرتها وتأذّيها، ويصدق عليه حينئذ أنّه قطع وصلة رحمه، وما ينبغي لها من عظيم الرعاية، فلو فرض أنّ قريبه لم يصل إليه منه إحسان؛ ولا إساءة! قط، لم يفسق بذلك.
ولا فرق بين أن يكون الإحسان الذي ألفه؛ منه القريب؛ مالا، أو مكاتبة، أو مراسلة، أو زيارة، أو غير ذلك. فقطع ذلك كلّه بعد فعله لغير عذر كبيرة. قاله ابن حجر في «الزواجر» .
قال: وينبغي أن يراد بالعذر في المال فقد ما كان يصله به؛ أو تجدّد احتياجه إليه، أو أن يندبه الشارع إلى تقديم غير القريب عليه، لكون الأجنبي أحوج أو أصلح، فعدم الإحسان إليه، أو تقديم الأجنبي عليه لهذا العذر يرفع عنه الفسق؛
وسوء الخلق
…
وإن انقطع بسبب ذلك ما ألفه منه القريب، لأنه إنّما راعى أمر الشارع بتقديم الأجنبي على القريب. وواضح أن القريب لو ألف منه قدرا معيّنا من المال يعطيه إيّاه كل سنة مثلا فنقصه؛ لا يفسق بذلك، بخلاف ما لو قطعه من أصله لغير عذر.
فإن قلت: يلزم على ذلك امتناع القريب من الإحسان إلى قريبه أصلا؛ خشية أنه إذا أحسن إليه يلزمه الاستمرار على ذلك؛ خوفا من أن يفسق لو قطعه، وهذا خلاف مراد الشارع من الحثّ على الإحسان إلى الأقارب؟!.
قلت: لا يلزم ذلك، لما تقرّر أنه لا يلزمه أن يجري على تمام القدر الذي ألفه منه، بل اللازم له ألايقطع ذلك من أصله. وغالب الناس يحملهم شفقة القرابة ورعاية الرّحم على وصلتها، فليس في أمرهم بمداومتهم على أصل ما ألفوه منهم تنفير عن فعله، بل حثّ على دوام أصله، وإنما يلزم ذلك لو قلنا «إنه إذا ألف منه شيئا بخصوصه يلزمه الجريان على ذلك الشيء المخصوص دائما؛ ولو مع قيام العذر الشرعي» !!، ونحن لم نقل ذلك.
وأما عذر الزيارة! فينبغي ضبطه بعذر الجمعة «1» ، بجامع أن كلّا فرض عين؛ وتركه كبيرة، وأما عذر ترك المكاتبة والمراسلة! فهو ألايجد من يثق به في أداء ما يرسله معه، والظاهر أنه إذا ترك الزيارة التي ألفت منه في وقت مخصوص لعذر لا يلزمه قضاؤها في غير ذلك الوقت، فتأمّل جميع ما قررته واستفده، فإني لم أر من نبّه على شيء منه مع عموم البلوى به وكثرة الاحتياج إلى ضبطه. انتهى كلام ابن حجر؛ شكر الله مسعاه ورضي الله عنه وأرضاه. آمين.
(و) اجتناب (سوء الخلق) وهو خلاف حسن الخلق.
والخلق؛ بضمتين: هيئة راسخة تصدر عنها الأفعال بيسر من غير حاجة إلى فكر ورويّة، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلا وشرعا
(1) يعني أعذار ترك صلاة الجمعة.
والتّكبّر،
…
بسهولة! سميت الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة؛ سميت الهيئة التي هي المصدر خلقا سيئا، وليس الخلق عبارة عن الفعل، فربّ شخص خلقه السخاء؛ ولا يبذل!! إما لفقد مال أو لمانع، ولا يسمى خلقا ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ واستقرار.
(و) من محاسن الأعمال اجتناب (التّكبّر) اعلم أنّ الكبر اسم لحالة يتخصّص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وأن يرى نفسه أعظم من غيره.
وهو ينقسم إلى ظاهر وباطن، فالباطن: هو خلق في النفس. والظاهر: هو أعمال تصدر من الجوارح، واسم الكبر بالخلق الباطن أحقّ، لأنه منشأ الإعجاب والرؤية، وأما الأعمال فإنّها ثمرة لذلك الخلق ونتائج له، وخلق الكبر موجب للأعمال، ولذلك إذا ظهر أثره على الجوارح يقال: تكبر واستكبر، وإذا لم يظهر يقال: فلان في نفسه كبر، فالأصل هو الخلق الذي في النفس، وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبّر عليه، ويسمّى الكبر أيضا «عزّة» و «تعظّما» ، ولذلك قال ابن عبّاس في قوله تعالى إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ [غافر/ 56] ؛ قال: عظمة لم يبلغوها، ففسر الكبر بتلك العظمة.
والأعمال الصادرة عن خلق الكبر كثيرة، وفيه يهلك الخواصّ من الخلق، وقلّما ينفكّ عنه العباد والزهّاد والعلماء؛ فضلا عن عوامّ الخلق، وهو من الكبائر وآفته عظيمة، وكيف لا تعظم آفته؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر»
…
الحديث!! رواه مسلم؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وإنما صار حجابا دون الجنة!! لأنّه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلّها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة. والكبر وعزّة النفس يغلق تلك الأبواب كلّها؛ لأنه لا يقدر أن يحبّ للمؤمنين ما يحبّ لنفسه؛ وفيه شيء من العزّ!! ولا يقدر على التواضع- وهو رأس أخلاق المتقين- وفيه العزّ!! ولا يقدر على ترك
والفخر، والاختيال، والاستطالة،
…
الحقد؛ وفيه العزّ! ولا يقدر أن يدوم على الصّدق؛ وفيه العزّ! ولا يقدر على ترك الغضب؛ وفيه العزّ، ولا يقدر على كظم الغيظ؛ وفيه العزّ، ولا يقدر على ترك الحسد؛ وفيه العزّ، ولا يقدر على النصح اللطيف؛ وفيه العزّ، ولا يقدر على قبول النصح؛ وفيه العزّ، ولا يسلم من الازدراء بالناس ومن اغتيابهم؛ وفيه العزّ، ولا معنى للتطويل.
فما من خلق ذميم إلّا وصاحب العزّ والكبر مضطرّ إليه، ليحفظ به عزّه!! وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه؛ خوفا من أن يفوته عزّه!!
فمن هذا المعنى لم يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبّة منه.
والأخلاق الذميمة متلازمة، والبعض منها داع إلى البعض لا محالة.
وشرّ أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم؛ وقبول الحق، والانقياد إليه. وفيه وردت الآيات التي فيها ذمّ الكبر والمتكبرين. انتهى ملخصا من «الإحياء» وشرحه.
(و) اجتناب (الفخر) : ادّعاء العظم والكبر والشرف. والتفاخر: التعاظم والتفخّر التكبّر.
(و) اجتناب (الاختيال) - بالخاء المعجمة-، قال النووي: قال العلماء الخيلاء والمخيلة والبطر والزّهوّ والتبختر كلّها بمعنى واحد، وهو حرام، ويقال:
خال الرجل خالا، واختال اختيالا: إذا تكبّر، وهو رجل خال؛ أي: متكبر، وصاحب خال، أي: صاحب كبر. انتهى.
وقال العراقي في «شرح الترمذي» : كأنه مأخوذ من التخيّل إلى الظّنّ، وهو أن يخيّل له أنه بصفة عظيمة بلبسه لذلك اللباس أو لغير ذلك. انتهى نقله في «شرح الإحياء» .
(و) اجتناب (الاستطالة) في عرض المسلم أي: وصفه بأوصاف قبيحة،
والبذخ، والفحش، والتّفحّش،
…
واحتقاره والترفّع عليه، والوقيعة فيه؛ بنحو قذف أو سبّ، لأن العرض أعزّ على النّفس من المال.
(و) اجتناب (البذخ) - بالموحدة المفتوحة والذال المعجمة المفتوحة، والخاء المعجمة آخره-؛ وهو تطاول الرجل بكلامه وافتخاره.
(و) اجتناب (الفحش) اسم لكلّ ما يكرهه الطبع من رذائل الأعمال الظاهرة، كما ينكره العقل ويستخبثه الشرع، فتتفق في حكمه آيات الله الثلاث؛ من الشرع، والعقل، والطبع.
(و) اجتناب (التّفحّش) : تكلّف ذلك وتعمّده، وكلّ ذلك مذموم ومنهيّ عنه، ومصدره الخبث واللؤم في أصل الطبع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إيّاك والفحش؛ فإنّ الله تعالى لا يحبّ الفحش ولا التّفحش» رواه النسائي في «سننه الكبرى» ، والحاكم وصحّحه؛ من حديث عبد الله بن عمرو، ورواه ابن حبّان؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللّعّان، ولا الفاحش، ولا البذيء» .
رواه الترمذي بإسناد صحيح؛ من حديث ابن مسعود، والحاكم وصحّحه، ورواه البخاري في «الأدب المفرد» ، وأحمد وأبو يعلى، وابن حبّان، والطبراني، والبيهقي: كلّهم؛ من حديث ابن مسعود مرفوعا.
والطّعّان: هو الوقّاع في أعراض الناس بنحو ذمّ، أو غيبة.
واللّعّان: الذي يكثر لعن الناس، والفاحش: ذو الفحش في كلامه وأفعاله، والبذيء الفاحش في منطقه؛ وإن كان الكلام صدقا.
وعنه صلى الله عليه وسلم: «الجنّة حرام على كلّ فاحش أن يدخلها» رواه ابن أبي الدنيا، وأبو نعيم في «الحلية» ؛ من حديث عبد الله بن عمرو بإسناد فيه لين. انتهى. شرح «الإحياء» .
والحقد،
…
(و) اجتناب (الحقد) وهو: الانطواء على العداوة والبغضاء وهو ثمرة الغضب ونتيجته، لأن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفّي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه؛ فصار حقدا، فيلزم قلبه حينئذ استثقاله والبغضة له والنّفار عنه.
والحقد يثمر ثمانية أمور:
الأول: الحسد؛ وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنّى زوال النعمة عنه، فتغتمّ بنعمة؛ إن أصابها، وتسرّ بمصيبة؛ إن نزلت به.
الثاني: أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن، فيشمت بما يصيبه من البلاء.
الثالث: أن تهجره وتصارمه وتنقطع عنه؛ وإن طلبك وأقبل عليك.
الرابع: وهو دونه بأن تعرض عنه استصغارا له.
الخامس: أن تتكلّم فيه بما لا يحلّ؛ من كذب، أو غيبة، وإفشاء سرّ، وهتك ستر وغيره.
السادس: أن تحاكيه استهزاء وسخرية منه.
السابع: إيذاؤه بالضرب؛ وما يؤلم بدنه.
الثامن: أن تمنعه حقّه؛ من قضاء دين، أو صلة رحم، أو ردّ مظلمة! وكلّ ذلك حرام.
وأقلّ درجات الحقد: أن تحترز من الآفات الثمانية المذكورة، ولا تخرج بسبب الحقد إلى ما تعصي الله به، ولكن تستثقله في الباطن، ولا ينتهي قلبك عن بغضه حتى تمتنع عما كنت تتطوّع به؛ من البشاشة والرفق والعناية، والقيام بحاجاته، والمجالسة معه على ذكر الله تعالى، والمعاونة على المنفعة له. أو بترك الدعاء له والثناء عليه، أو التحريض على برّه ومواساته، فهذا كلّه مما ينقص درجتك في الدين، ويحول بينك وبين فضل عظيم وثواب جزيل؛ وإن كان
والحسد،
…
لا يعرّضك لعقاب الله تعالى.
(و) اجتناب (الحسد) ؛ وهو: تمنّي زوال نعمة الغير، سواء تمنّاها لنفسه؛ أو لا، بأن تمنّى انتقالها عن غيره لغيره، وهذا أخسّ الأخسّاء، لأنه باع آخرته بدنيا غيره، بخلاف ما إذا تمنّى مثل نعمة الغير؛ فإنّه غبطة محمودة في الخير، كما ورد:«لا حسد إلّا في اثنتين»
…
الحديث.
ودليل تحريمه الكتاب والسنّة والإجماع.
قال الله تعالى وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)[الفلق]، وقال صلى الله عليه وسلم:«الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب» رواه أبو داود؛ من حديث أبي هريرة، وابن ماجه؛ من حديث أنس.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا» أخرجه الإمام أحمد، والبخاريّ، ومسلم.
وفي رواية لمسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم»
…
الحديث بطوله.
وقال صلى الله عليه وسلم: «دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول «حالقة الشّعر» ، ولكن حالقة الدّين، والّذي نفس محمّد بيده؛ لا تدخلون الجنّة حتّى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتّى تحابّوا، ألا أنبّئكم بما يثبّت ذلك لكم!! أفشوا السّلام بينكم» .
رواه الطيالسي، وابن منيع، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذيّ، وابن أبي الدنيا، والشّاشيّ، وابن قانع، وابن عبد البرّ في «جامع العلم» ، والبيهقيّ، والضّياء المقدسي: كلّهم؛ من طريق مولى للزبير، عن الزّبير بن العوّام مرفوعا.
والأحاديث الدالّة على تحريم الحسد كثيرة، وهو من «الكبائر» كما ذكره ابن
والطّيرة، والبغي،
…
حجر في «الزواجر» رحمه الله.
(و) اجتناب (الطّيرة) - بالطاء المهملة؛ وزان عنبة- أي: التطيّر؛ وهو التّشاؤم، وكانت العرب إذا أرادت المضيّ لمهمّ مرّت بمجاثم الطّير وأثارتها لتستفيد: هل تمضي؛ أو ترجع؟! فنهى الشارع عن ذلك، وقال:«لا هام ولا طيرة» ، وقال:«أقرّوا الطّير في وكناتها» . أي: على مجاثمها.
وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا ينجو منهنّ أحد: الظّنّ والطّيرة والحسد، وسأحدّثكم بالمخرج من ذلك» . قالوا: أخبرنا يا رسول الله! قال: «إذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيّرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ» أخرجه ابن أبي الدنيا في «ذمّ الحسد» ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وفيه راويان ضعيفان.
ورواه أبو الشيخ في «التوبيخ» ، والطبراني في «الكبير» ؛ من حديث حارثة بن النعمان:«ثلاث لازمات لأمّتي: سوء الظّنّ، والحسد، والطّيرة، فإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا حسدت فاستغفر الله، وإذا تطيّرت فامض» ذكره في شرح «الاحياء» .
وقد نظم ذلك بعضهم؛ فقال:
ثلاثة لم ينج منها أحد
…
طيرة والظّنّ ثمّ الحسد
لا تبغ لا ترجع ولا تحقّق
…
وقد سلمت خذ كلام مشفق
أعني كلام المصطفى الرّؤوف
…
بالمؤمنين المجتبى العطوف
(و) اجتناب (البغي) : التعدّي عن الحقّ، والاستطالة.
قال الفرّاء في قوله تعالى وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف/ 33] : إن البغي الاستطالة على النّاس.
وقال الأزهريّ: معناه الكبر، وقيل: هو الظلم والفساد.
وقال الرّاغب: البغي على ضربين: أحدهما: محمود؛ وهو: تجاوز العدل
والعدوان، والظّلم.
إلى الإحسان، والفرض إلى التطوع.
والثاني: مذموم؛ وهو: تجاوز الحقّ إلى الباطل، أو تجاوزه إلى الشّبهة، ولذلك قال الله تعالى إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [النور/ 24] . فخصّ العقوبة بمن يبغيه بغير الحق.
قال: والبغي في أكثر المواضع مذموم.
قال الأزهري: وأما قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [البقرة/ 173] !! فغير باغ أكلها تلذّذا، وقيل: غير طالب مجاوزة قدر حاجته، وقيل: غير باغ على الإمام.
وقال الرّاغب: أي غير طالب ما ليس له طلبه.
قال الأزهري: ومعنى البغي قصد الفساد، وفلان يبغي على الناس؛ إذا ظلمهم وطلب أذاهم.
وقال الجوهري: كلّ مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حدّ الشيء بغي.
انتهى شرح «القاموس» .
(و) اجتناب (العدوان) - بضمّ العين المهملة وكسرها- وهو: الظلم المجاوز للقدر، فكأنه تجاوز في الإخلال بالعدالة، ومنه قوله تعالى فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) [البقرة] ؛ أي: لا سبيل، وقيل: العدوان سوء الاعتداء؛ في قول، أو فعل، أو حال ومنه قوله تعالى وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً [النساء]، وقوله تعالى بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) [الشعراء] أي: معتدون.
قال الراغب: الاعتداء مجاوزة الحقّ، وقد يكون على سبيل الابتداء؛ وهو المنهيّ عنه، ومنه قوله تعالى وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)[البقرة] ، وقد يكون على سبيل المجازاة.
ويصحّ أن يتعاطى مع من ابتدأ، كقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ
.........
مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة/ 194] أي: قابلوه بحقّ اعتدائه، سمّي بمثل اسمه!! لأن صورة الفعلين واحدة، وإن كان أحدهما طاعة والآخر معصية. انتهى. شرح «القاموس» .
(و) اجتناب (الظّلم) - بالضم-: التصرّف في ملك الغير، ومجاوزة الحدّ؛ قاله المناوي.
وقال الراغب: هو- عند أكثر أهل اللغة-: وضع الشيء في غير موضعه المختصّ به؛ إما بزيادة، أو نقصان، وإما بعدول عن وقته ومكانه، ويقال فيما يكثر وفيما يقلّ من التجاوز، ولهذا يستعمل في الذنب الكبير، وفي الذّنب الصغير.
قال بعض الحكماء: الظّلم ثلاثة:
الأول: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق، ولذلك قال عز وجل إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)[لقمان] .
والثاني: ظلم بينه وبين الناس، وإيّاه قصد بقوله إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [الشورى/ 42] ، وبقوله وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً [الإسراء/ 33] .
والثالث: ظلم بينه وبين نفسه، وإيّاه قصد بقوله تعالى فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر/ 32] .
وكلّ هذه الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس، فإنّ الإنسان أوّل ما يهمّ بالظلم فقد ظلم نفسه، فإذن الظّالم أبدا مبتدىء بنفسه في الظلم، ولهذا قال تعالى في غير موضع ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(33)
[النحل]، وقوله تعالى وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام/ 82] فقد قيل: هو الشرك انتهى. شرح «القاموس» .
قال ابن حجر في «الزواجر» : أخرج الشيخان وغيرهما؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الظّلم ظلمات يوم القيامة» .
.........
وأخرج مسلم وغيره: «اتّقوا الظّلم، فإنّ الظّلم ظلمات يوم القيامة، اتّقوا الشّحّ، فإنّ الشّحّ أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلّوا محارمهم» .
وأخرج مسلم وغيره؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه عز وجل أنّه قال:
«يا عبادي؛ إنّي حرّمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما، فلا تظالموا» ..
الحديث.
وأخرج الطبراني: «لا تظلموا فتدعو فلا يستجاب لكم، وتستسقوا فلا تسقوا، وتستنصروا فلا تنصروا» .
وأخرج البخاريّ ومسلم وغيرهما أنّه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ- لمّا بعثه إلى اليمن-:
«اتّق دعوة المظلوم، فإنّها ليس بينها وبين الله حجاب» .
وأخرج الشيخان وغيرهما: «إنّ الله ليملي للظّالم حتّى إذا أخذه لم يفلته» .
ثمّ قرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)[هود] » .
وأخرج أبو الشيخ: «قال الله عز وجل: وعزّتي وجلالي لأنتقمنّ من الظّالم في عاجله وآجله، ولأنتقمنّ ممّن رأى مظلوما فقدر أن ينصره؛ ولم يفعل» .
وأخرج البخاريّ، والترمذيّ:«انصر أخاك ظالما؛ أو مظلوما» . فقال رجل: يا رسول الله؛ أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره!؟
قال: «تحجزه- أو: تمنعه- عن الظّلم، فإنّ ذلك نصره» .
وأخرج مسلم: «ولينصر الرّجل أخاه ظالما؛ أو مظلوما، فإن كان ظالما فلينهه، فإنّه له نصرة، فإن كان مظلوما فلينصره» . انتهى كلام ابن حجر رحمه الله تعالى مقتطفا.
وهذه الجمل التي جاءت في هذا الحديث الكلام عليها بالإسهاب يستدعي مجلّدا كاملا؛ فلنقتصر على هذا القدر من شرحها، ولنرجع إلى كلام المؤلف.
قوله وتر: (الوتر) : الثّأر.
و (الذّحل) : الحقد والعداوة، والثّأر أيضا.
قال أنس رضي الله عنه: فلم يدع نصيحة جميلة إلّا وقد دعانا إليها وأمرنا بها، ولم يدع غشّا- أو قال: عيبا، أو قال: شيئا- إلّا حذّرناه ونهانا عنه، ويكفي من ذلك كلّه هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90] .
(قوله) وكلّ ذي (وتر: الوتر) - بفتح الواو وسكون التاء المثناة-: (الثّأر.
و) أما (الذّحل) - بفتح الذّال المعجمة وفتح الحاء المهملة- فهو (الحقد، والعداوة، والثّأر أيضا) يقال: طلب بذحله؛ أي: بثأره. والله أعلم.
وهذا الحديث المتقدّم بطوله. قال الحافظ العراقيّ: لم أقف له على أصل!! ويغني عنه حديث معاذ الآتي بعده بحديث:
(قال أنس) بن مالك (رضي الله تعالى عنه: فلم يدع) صلى الله عليه وسلم (نصيحة جميلة؛ إلّا وقد دعانا إليها وأمرنا بها، ولم يدع غشّا- أو قال: عيبا؛ أو قال: شيئا- إلّا حذّرناه ونهانا عنه، ويكفي من ذلك كلّه هذه الآية. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [90/ النحل] الآية) . أي: اقرأ الآية.
قال العراقي: لم أقف له على إسناد!! وهو صحيح من حيث الواقع. انتهى.
قال في «شرح الإحياء» : والذي يظهر من سياق المصنّف أن الحديث المتقدّم هو من رواية أنس عن معاذ فتأمّل!!.
وأخرج ابن النّجار في «تاريخه» ؛ من طريق الحارث العطلي؛ عن أبيه قال:
مرّ عليّ بن أبي طالب بقوم يتحدّثون، فقال: فيم أنتم؟ قالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أو ما كفاكم الله عز وجل ذاك في كتابه؛ إذ يقول. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [90/ النحل] فالعدل الإنصاف، والإحسان التفضل، فما بقي بعد هذا!؟!
وقال معاذ: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معاذ؛ أوصيك باتّقاء الله،
…
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم؛ عن قتادة قال: ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويعظمونه ويحبّونه إلا أمر الله به، وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه، وإنّما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامّها.
والله أعلم. انتهى.
(وقال معاذ) أي: ابن جبل رضي الله تعالى عنه: (أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «يا معاذ؛ أوصيك باتّقاء الله) . أي: بتقوى الله التي هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيّات، فبذلك يصير العبد في وقاية من النار، ودرجة عالية مع المتقين في دار القرار.
والتقوى ثلاث مراتب؛
الأولى: التوقّي من العذاب المخلّد صاحبه، وذلك بالتبرّي من الكفر، وعليه قوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [26/ الفتح] فإن المراد بها «لا إله إلا الله محمد رسول الله» .
والثانية: التجنّب عن كلّ ما فيه لوم؛ حتّى الصغائر عند قوم، وهذا المعنى هو المعنيّ بقوله تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)[المائدة] .
والثالثة: أن يتنزّه العبد عن كلّ ما يشغل سرّه عن الحق، وهو المعنى المراد بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [102/ آل عمران] .
وتقوى الله مطلوبة من العبد في كلّ حال؛ في جميع الأقوال والأفعال والحركات والسّكنات، وهي كلمة جامعة للخيرات مانعة للسيئات، وبها تنال السعادة الأبدية والكرامة الآخروية، وهي منتهى درجات السالكين ووصية الله للأولين والآخرين، قال الله تعالى وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَن
.........
اتَّقُوا اللَّهَ [النساء/ 131] .
وكم ترتّب عليها من كرامات ومواهب وعطيّات من ربّ البريّات!!
فمن ذلك: المدحة والثناء قال تعالى وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)[آل عمران] .
ومن ذلك: الحفظ والوقاية من كيد الأعداء، قال تعالى وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [120/ آل عمران] .
ومن ذلك: النصر والتّأييد، قال تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)[النحل] .
ومن ذلك النجاة من الشدائد والرزق الحلال، قال تعالى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق] .
ومن ذلك: إصلاح العمل وغفران الذنوب، قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)[الأحزاب] .
ومنها محبة الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)[التوبة] .
ومن ذلك: القبول، قال تعالى إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)[المائدة] .
ومن ذلك: الإكرام والإعزاز، قال تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [13/ الحجرات] . فجعل الكرامة عنده بالتقوى، لا بالأنساب، ولا بالأموال، ولا بشيء آخر!!.
ومن ذلك: التيسير في الأمور قال تعالى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4)[الطلاق] .
ومن ذلك: البشارة بكل خير في الدنيا والآخرة، قال تعالى الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ
وصدق الحديث،
…
َ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(64)
[يونس] .
ومنها: النجاة من النار، قال الله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)[مريم] .
ومنها: الخلود في الجنة، قال تعالى. وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)[آل عمران] وقال تعالى لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [15/ آل عمران]
…
إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها ذكر التقوى ومدح المتقين في نحو مئة وخمسين آية، والأحاديث الواردة في وصف المتقين كثيرة.
قال الإمام حجّة الإسلام الغزاليّ رحمه الله تعالى:
اعلم أن التقوى كنز عزيز، فلئن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر شريف، وعلوّ، وعلم جسيم، وملك عظيم، فكأن خيرات الدنيا والآخرة جمعت في هذه الخصلة التي هي التقوى، وتأمّل ما في القرآن كم علّق بها من خير، وكم وعد عليها من ثواب، وكم أضاف إليها من سعادة!!. انتهى.
وقال بعض العارفين: من أخرجه الله من ذلّ المعصية بعزّ التقوى؛ أغناه بلا مال، وأعزّه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس. انتهى.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتّقين، وأن يدخلنا في عباده الصالحين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والشهداء والصالحين. آمين.
(وصدق الحديث)، أي: المقال. قال العلامة ابن أبي شريف في «حواشي شرح العقائد» : الصدق استعمله الصوفية بمعنى استواء السّرّ والعلانية، والظّاهر والباطن؛ بأن لا تكذّب أحوال العبد أعماله، ولا أعماله أحواله، وجعلوا الإخلاص لازما أعمّ؛ فقالوا: كلّ صادق مخلص، وليس كلّ مخلص صادق.
انتهى.
والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة،
…
أخرج البخاريّ، ومسلم؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرّجل ليصدق حتّى يكتب عند الله صدّيقا، وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وإنّ الرّجل ليكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا» .
ورواه بنحوه؛ من حديث ابن مسعود: أحمد، والبخاريّ في «الأدب المفرد» ، والترمذيّ، وفي أوّله عندهم: «عليكم بالصّدق؛ فإنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإيّاكم والكذب
…
» الحديث.
(والوفاء بالعهد) ؛ أي: إذا عاهد على أمر، قال الله تعالى وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [91/ النحل] . وقال تعالى وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا (34)[الإسراء] . وقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [1/ المائدة] .
أخرج البخاريّ، ومسلم، والإمام أحمد، والنّسائي؛ عن عبد الله بن عمرو ابن العاصي رضي الله تعالى عنهما أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ؛ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها؛ إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» .
وأخرج الترمذي وغيره؛ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حسن العهد من الإيمان» .
(وأداء الأمانة) قال الله تعالى. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [58/ النساء] ، وقال الله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72)[الأحزاب] .
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له» رواه الإمام أحمد.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «المؤمن من أمنه النّاس على دمائهم وأموالهم» أخرجه الحاكم وصحّحه.
(وترك الخيانة) لحديث: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» .
وحفظ الجار، ورحمة اليتيم،
…
وفي الحديث: «يطبع المؤمن على الخلال كلّها إلّا الخيانة والكذب» رواه الإمام أحمد، وروى الطبراني حديث:
«ناصحوا في العلم، فإنّ خيانة أحدكم في علمه أشدّ من خيانته في ماله» .
(وحفظ الجار) ؛ أي: المجاور في السكن، والجمع جيران.
والجار- شرعا-: ما ذكر في «باب الوصايا» بأنّه لو أوصى لجيرانه دفع لأربعين دارا من كلّ جانب من الجوانب الأربعة.
وفي حفظ الجار حصول الألفة والتّوادّ الذي به نظام المعاش والمعاد.
أخرج البخاريّ، ومسلم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يؤذ جاره» .
وروى الترمذيّ حديث: «أحسن إلى جارك تكن مؤمنا» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه» .
رواه البخاريّ ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره» . رواه البخاريّ ومسلم.
(ورحمة اليتيم) وهو: فاقد الأب ما دام صغيرا، فإذا بلغ زال عنه اسم اليتم.
قال ابن السّكّيت: اليتيم في الناس من قبل الأب، وفي البهائم من قبل الأم.
قال ابن خالويه: وفي الطير بفقدهما؛ أي: الأب والأم، لأنّهما يحضنانه ويرزقانه. انتهى.
قال الله تعالى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)[الضحى]، قال البيضاوي: أي لا تغلبه على ماله لضعفه، وقال تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) [الماعون] أي: يدفعه دفعا عنيفا، هو أبو جهل؛ أو غيره كان وصيّا ليتيم، فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه.
ولين الكلام،
…
قال صلى الله عليه وسلم: «كافل اليتيم له؛ أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنّة» . وأشار الرّاوي بالسبابة والوسطى. رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ إنّي أحرّج حقّ الضّعيفين: اليتيم والمرأة» حديث حسن؛ رواه النسائي بإسناد جيّد.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تنزع الرّحمة إلّا من شقيّ» . رواه البخاريّ في «الأدب المفرد» وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم:«من لّا يرحم النّاس لا يرحمه الله» رواه البخاريّ، ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنّة إلّا رحيم» ، قيل: يا رسول الله؛ كلّنا يرحم! قال: «ليس أن يرحم أحدكم صاحبه، إنّما الرّحمة أن يرحم النّاس» . رواه البزّار.
وقال صلى الله عليه وسلم: «الرّاحمون يرحمهم الرّحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السّماء» رواه أبو داود والترمذي وغيرهما.
(ولين الكلام) روى الخرائطيّ، والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» أنّه صلى الله عليه وسلم قال:«أتدرون على من حرّمت النّار» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: «على الهيّن اللّيّن السّهل القريب» .
وفي رواية ابن مسعود: «حرّم على النّار كلّ هيّن ليّن سهل قريب من النّاس» .
وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يحبّ السّهل الطّليق» رواه البيهقي في «شعب الإيمان» ، والشيرازيّ في «الألقاب» ، والدّيلميّ.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: البرّ شيء هيّن.. وجه طليق وكلام ليّن. أخرجه ابن أبي الدنيا في «الصمت» .
وقد نظم بعضهم هذا الحديث؛ فقال:
بنيّ؛ إنّ البرّ شيء هيّن
…
وجه طليق وكلام ليّن
وبذل السّلام، وحسن العمل، وقصر الأمل،
…
(وبذل السّلام) أخرج البزار: «ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الإقتار، وبذل السّلام، والإنصاف من نفسك» . ورواه الطبراني بلفظ:
«من جمعهنّ؛ فقد جمع الإيمان» . وروى مسلم: «حقّ المسلم على المسلم ستّ. إذا لقيته فسلّم عليه، وإذا عطس فحمد الله فشمّته
…
» الحديث.
(وحسن العمل) بالإتيان بالطّاعات على الوجه الذي جاءت به السّنة المطهّرة، واجتناب المحرّمات.
(وقصر الأمل) اعلم أنّ طول الأمل: استشعار طول البقاء في الدّنيا حتّى يغلب ذلك على القلب، فيأخذ في العمل بمقتضاه، وقد قال السّلف: من طال أمله ساء عمله، وذلك لأنّ طول الأمل يحمل على الحرص على الدّنيا والتشمير لعمارتها، حتى يقطع الإنسان ليله ونهاره بالتفكّر في إصلاحها وكيفية السّعي لها؛ تارة بقلبه، وتارة بالعمل في ذلك، والأخذ فيه بظاهره، فيصير قلبه وجسمه مستغرقين في ذلك، وحينئذ ينسى الآخرة ويشتغل عنها، ويسوّف في العمل لها، فيكون في أمر دنياه مبادرا مشمّرا، وفي أمر آخرته مسوّفا ومقصّرا، وكان ينبغي له أن يعكس الأمر، فإنّ طول الأمل مذموم؛ وهو ينسي الآخرة، ولا بأس بقصر الأمل؛ أعني: القدر الذي لا يلهي عن الآخرة، ويتيسّر معه القيام بالمعايش التي لا غنى عنها.
وفي وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله تعالى عنهما: «كن في الدّنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل» ، وفي ذلك غاية الحثّ على قصر الأمل وقلّة الرّغبة في الدنيا.
فعلى العاقل أن يستشعر قرب الموت، فإنّه أقرب غائب ينتظر، لا يأتي في سنّ مخصوص، ولا في زمن مخصوص، وما يدري الإنسان لعلّه لم يبق من أجله إلا الشيء اليسير!! فلا يطيل الأمل، ويسوّف العمل، ويغافل عن الاستعداد للموت إلّا
ولزوم الإيمان، والتّفقّه في القرآن، وحبّ الآخرة، والجزع من الحساب، وخفض الجناح، وأنهاك أن تسبّ حكيما، أو تكذّب صادقا، أو تطيع آثما،
…
أحمق مغرور. انتهى. من «الإحياء» .
وقال ابن الجوزي: طول الأمل مذموم للنّاس؛ لا للعلماء، فلولا أملهم لما ألّفوا ولا صنّفوا. انتهى.
(ولزوم الإيمان) بالله وصفاته، وحدوث ما دونه، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
(والتّفقّه في القرآن) بتعلم أحكام القرآن والعمل بما فيه.
(وحبّ الآخرة) بالاستعداد لها بالعمل الصالح؛ قال الله تعالى وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)[الإسراء] .
(والجزع) - بالجيم والزاي المفتوحتين آخره عين مهملة- أي: الحزن والخوف (من الحساب) يوم القيامة.
(وخفض الجناح) - بفتح الجيم- أي: لين الجانب لعباد الله.
(وأنهاك) يا معاذ (أن تسبّ حكيما) . قال ابن الأثير: الحكيم فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها، فهو بمعنى مفعل، وقيل: الحكيم ذو الحكمة، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها حكيم.
وقال الجوهريّ: الحكم الحكمة من العلم والحكيم العالم، وصاحب الحكمة، وقد حكم ككرم؛ صار حكيما. انتهى. شرح «القاموس» .
(أو تكذّب صادقا) بأن تنسب إليه الكذب؛ والحال أن الغالب عليه الصّدق.
(أو تطيع آثما)، أي: مرتكبا للإثم داعيا لك إليه.
أو تعصي إماما عادلا، أو تفسد أرضا.
وأوصيك باتّقاء الله تعالى عند كلّ حجر وشجر ومدر، وأن تحدث لكلّ ذنب توبة؛
…
(أو تعصي إماما) للمسلمين (عادلا) بعدم امتثال أوامره التي هي غير معصية، أو بالخروج عليه ومحاربته، وكذا إذا كان جائرا فاسقا؛ فلا يجوز الخروج عليه إلّا إذا كفر كفرا صريحا.
ولم يجز في غير محض الكفر
…
خروجنا على وليّ الأمر
(أو تفسد أرضا.
وأوصيك باتّقاء الله تعالى عند كلّ حجر وشجر) والشجر: ماله ساق من النبات، والذي ليس له ساق يقال له: نجم.
(ومدر) - بالميم والدال المهملة والمفتوحتين آخره راء- هو: الطين اليابس، أو التراب المتلبّد، والمراد من ذلك ملازمة التقوى في جميع الأحوال. وقد تقدّم الكلام على التقوى «1» .
(وأن تحدث) - بضمّ أوّله- من: أحدث يحدث؛ أي تجدّد (لكلّ ذنب) أحدثته. (توبة) بالإقلاع عن الذّنب، والنّدم على ما فعل، والعزم على أن لا يعود، وردّ الظّلامة إلى صاحبها، أو التحلّل منها.
قال في «منهل الوراد» : التوبة- لغة-: الرجوع؛ يقال: تاب إذا رجع.
- وشرعا-: الرجوع عمّا كان مذموما في الشرع إلى ما هو محمود فيه.
ولها ثلاثة شروط: 1- الندم، و 2- الإقلاع، و 3- العزم على ألايعود.
هذا إن لم يتعلّق بحق آدمي!! فإن تعلّق الذنب بحقّ آدمي فللتوبة إذن أربعة
(1) قبل صفحات فقط.
.........
شروط: وهي الثلاثة المذكورة آنفا، و 4- وردّ الظّلامة إلى صاحبها، أو تحصيل البراءة منه تفصيلا عندنا- معاشر الشافعية-، وأما عند المالكية! فيكفي تحصيل البراءة إجمالا، وفيه فسحة، فإن لّم يقدر على ذلك؛ بأن كان مستغرق الذّمم؟! فالمطلوب منه الإخلاص وكثرة التضرّع إلى الله تعالى لعلّه يرضي عنه خصماءه يوم القيامة.
ومن شروط التوبة: 5- صدورها قبل الغرغرة؛ وهي حالة النزع، و 6- قبل طلوع الشمس من مغربها، لأنه حينئذ يغلق باب التوبة، فتمتنع التوبة على من لم يكن تاب قبل، أي: لا تصحّ توبته. ولا تقبل حينئذ.
ولا فرق في عدم صحّة التوبة في حال الغرغرة؛ عند الأشاعرة بين الكافر والمؤمن العاصي!!
وأما عند الماتريدية! فلا تصحّ من الكافر في حال الغرغرة، وتصحّ من المؤمن حينئذ.
والذّنوب قسمان: صغائر وكبائر، وتجب التوبة من الصّغائر كوجوبها من الكبائر.
وليست الكبيرة منحصرة في عدد، وهي- كما قال ابن الصّلاح-: كلّ ذنب كبر كبرا يصحّ معه أن يطلق عليه اسم «الكبيرة» .
ولها أمارات؛ منها: إيجاب الحدّ. ومنها: الإيعاد عليها بالعقاب. ومنها:
وصف فاعلها بالفسق، ومنها: اللّعن؛ كلعن الله السّارق.
وأكبرها: 1- الشّرك بالله، ثم 2- قتل النفس التي حرّم الله قتلها إلّا بالحقّ، وما سوى هذين منها: كالزّنا، واللّواط، وعقوق الوالدين، والسّحر، والقذف، والفرار يوم الزّحف، وأكل الربا وغير ذلك!! فمختلف أمره باختلاف الأحوال والمفاسد المترتّبة عليه، فيقال: لكلّ واحدة منه هي من أكبر الكبائر؛ كما قاله النووي رحمه الله تعالى.
.........
وكلّ ما خرج عن حدّ الكبيرة وضابطها؛ فهو صغيرة.
ومن الكبائر الأمر بالفساد، والسرقة، وأكل أموال اليتامى، وضرب المسلم، وشتمه، وأخذ ماله بغير حق، وشهادة الزّور، وقذف المحصنات، واليمين الفاجرة، وشرب الخمر
…
وغير ذلك مما بيّنه الشهاب ابن حجر رحمه الله تعالى في «الزواجر» انتهى. ملخصا.
ومن الصغائر: النظر المحرّم، وكذب لا حدّ فيه، ولا ضرر، والإشراف على بيوت الناس، وهجر المسلم فوق الثلاث، وكثرة الخصومات؛ وإن كان محقّا إلّا أن يراعي حقّ الشرع فيها، والضّحك في الصلاة والنياحة وشق الجيب في المصيبة والتبختر في المشي والجلوس بين الفساق إيناسا لهم، وإدخال مجانين وصبيان ونجاسة يغلب تنجيسهم المسجد، واستعمال نجاسة في بدن؛ أو ثوب لغير حاجة.
قال الناظم رحمه الله تعالى:
وتجب التّوبة من صغيرة
…
في الحال كالوجوب من كبيرة
ولو على ذنب سواه قد أصرّ
…
لكن بها يصفو عن القلب الكدر
تحقيقها إقلاعه في الحال
…
وعزم ترك العود في استقبال
وإن تعلّقت بحقّ آدمي
…
لابّدّ من تبرئة للذّمم
وواجب إعلامه إن جهلا
…
فإن يغب فابعث إليه عجلا
فإن يمت فهي لوارث يرى
…
إن لم يكن فأعطها للفقرا
مع نيّة العزم له إذا حضر
…
ومعسر ينوي الأدا إذا قدر
وإن تصحّ توبة وانتقضت
…
بالعود لا تضرّ صحّة مضت
فإن يمت من قبلها يرجى له
…
مغفرة الله بأن تناله
قال في «منهل الورّاد» : وعندنا- معاشر أهل السنة والجماعة- لا يكفّر مرتكب الذنب؛ صغيرة كانت أو كبيرة، عالما كان مرتكبها أو جاهلا، بشرط أن
السّرّ بالسّرّ، والعلانية بالعلانية» ) .
لا يكون ذلك الذنب من المكفّرات؛ كإنكاره علم الله تعالى بالجزئيات، وإلّا كفر مرتكبه قطعا، وألايكون مستحلّا له وهو معلوم من الدين بالضرورة؛ كالزنا، وإلّا! كفر مرتكبه باستحلاله لذلك، خلافا للخوارج، فالكبيرة عندهم موجبة للكفر.
وعند المعتزلة موجبة للمنزلة بين المنزلتين؛ صاحبها لا مؤمن ولا كافر، وهذا في ارتكابها؛ لا عن اعتقادها، لأنّه لو اعتقد حلّ بعض المحرّمات المعلومة من الدين بالضرورة؛ كالخمر كفر بلا خلاف، فمرتكب الكبيرة مخلّد عند الفريقين، ويعذّب عند الخوارج عذاب الكفّار، وعند المعتزلة يعذّب عذاب الفسّاق.
والحقّ ما عليه أهل السنّة من أن الكبيرة لا تخرج العبد من الإيمان، ولا تدخله في الكفر، ولا تخلّده في النار، ولا تحبط طاعته.
ومما يردّ على المخالفين لأهل السنة في هذه المسألة: ما نطق به القرآن في مواضع؛ منها قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء/ 48] ؛ أي: من جميع الذنوب الكبائر والصغائر غير الشرك، فلا ريب عند أهل الحقّ أنّ من مات موحّدا لا يخلّد في النّار؛ وإن ارتكب من الكبائر غير الشرك ما ارتكب، وقد جاءت به الأحاديث الصّحيحة؛ منها: قوله عليه الصلاة والسلام: «وإن زنى وإن سرق» .
وباجتناب الكبائر تغفر الصّغائر، وأما الكبائر! فلا يكفّرها إلّا التوبة الصحيحة المستحقّة للشروط المقدّم ذكرها، انتهى ملخصا.
(السّرّ بالسّرّ، والعلانية بالعلانية» ) . يعني: إذا أذنبت سرّا؛ فتوبتك تكون سرّا، وإذا أذنبت جهرا فتوبتك تكون جهرا، وهذا ليس بشرط، وإنّما ذلك للمناسبة بين الذنب والتوبة؛ لأنّ التوبة لا يشترط فيها الجهر والإعلان؛ كما لا يشترط فيها الإسرار، لأنها تحصل بمجرّد عقد القلب، وقد ورد في الحديث:
«النّدم توبة» .
فهكذا أدّب عباد الله، ودعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب.
وهذا الحديث الذي رواه معاذ أخرجه أبو نعيم في «الحلية» ، والبيهقي في «الزهد» . ذكره في شرح «الإحياء» .
(فهكذا) صلى الله عليه وسلم (أدّب عباد الله؛ ودعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب) يعني: أنه لم يخصّ معاذا بهذه الآداب، وإنما ذاك أنموذج يدلّك على أنّه فعل مع غير معاذ كما فعل مع معاذ؛ من الدعاء إلى مكارم الأخلاق، والحثّ على محاسن الآداب، وذلك واضح بيّن في كتب السّنة المطهرة؛
من ذلك قوله لبلال: «أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا» .
وقوله لآخر أراد أن ينخلع من ماله كلّه: «أمسك عليك مالك، فإنّك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون النّاس» .
وقال له رجل أوصني؟! فقال: «استحيي من الله كما تستحيي رجلا صالحا من قومك» .
وقال له آخر: أوصني، فقال:«لا تغضب» ، فوصاياه صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ وإن اختلفت بحسب اختلاف أحوالهم؛ إلّا أنّها كلّها ترجع إلى مكارم الأخلاق والتأدبّ باداب الشريعة.
ولم يترك صلى الله عليه وسلم أدبا يحتاج إليه إلّا أرشد إليه أصحابه وأمّته، ولا خيرا إلّا دلّهم عليه، ولا شرّا إلّا حذّرهم منه؛
يؤيد ذلك حديث أبي هريرة «1» رضي الله عنه إذ قال له رجل: «لقد علّمكم نبيّكم كلّ شيء حتّى الخرأة
…
الحديث.
(1) المشهور: سلمان!!
وعن الحسن بن عليّ رضي الله تعالى عنه قال: سألت خالي هند بن أبي هالة-
…
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ، وابن سعد، والبيهقيّ، والطبرانيّ، وذكره القاضي عياض في «الشفاء» بسنده؛ من طريق الترمذي وغيره- وهذا لفظ «الشمائل» -:
(عن) أبي محمد (الحسن بن عليّ) بن أبي طالب، واسمه عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي المدني.
سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته، وسيّد شباب أهل الجنة، وابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، البضعة الطاهرة سيّدة نساء العالمين.
ولد سنة: ثلاث من الهجرة في نصف رمضان، سمّاه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن، وكنّاه «أبا محمد» وعقّ عنه يوم سابعه، وهو خامس أهل الكساء «1» ، وكان شبيها برسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث: قيل ثلاثة عشر، روت عنه عائشة رضي الله تعالى عنها، وروى عنه جماعات من التابعين؛ منهم: ابنه الحسن بن الحسن، والشعبيّ، وأبو وائل، وابن سيرين
…
وآخرون.
توفي بالمدينة مسموما سنة: تسع وأربعين، وقيل: سنة خمسين، وقيل:
إحدى وخمسين، ودفن بالبقيع، وقبره فيه مشهور.
(رضي الله تعالى عنه) : وعن أبويه وحشرنا في زمرتهم. آمين.
(قال: سألت خالي هند بن أبي هالة) ، وإنّما كان خال الحسن!! لأنّه أخو
(1) جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت عباء واحد وبشّرهم فكانوا جميعا خمسة، وفيهم قيل:
لي خمسة أطفي بهم
…
حرّ لهيب الحاطمه
المصطفى، والمرتضى
…
وابناهما، والفاطمه
وكان وصّافا- عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا- فقال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما،
…
أمّه فاطمة الزّهراء من أمّها، فإنّه ابن خديجة الّتي هي أمّ السيّدة فاطمة، وذلك لأن خديجة تزوّجت أبا هالة في الجاهلية؛ فولدت له ذكرين: هندا وهالة، ثم مات، فتزوّجت عتيق بن خالد المخزوميّ، فولدت له عبد الله وبنتا. وقيل الّذي تزوّجها أوّلا عتيق، تزوّجها بعده أبو هالة، وتزوّجها بعدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم منها إلّا إبراهيم؛ فإنه من مارية القبطية- كما سيأتي-.
(وكان) هند (وصّافا) ؛ أي: كثير الوصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كذا قالوه.
وقال الشهاب الخفاجي: وكان وصّافا؛ أي: كان فصيحا له خبرة بوصف النبي صلى الله عليه وسلم لحذقه، أو كان معروفا بذكر صفات النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الباجوري: وإنّما كان هند وصّافا لرسول الله صلى الله عليه وسلم!! لكونه قد أمعن النّظر في ذاته الشريفة؛ وهو صغير مثل عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، لأن كلّا منهما تربّى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، والصغير يتمكّن من التأمّل وإمعان النظر، بخلاف الكبير، فإنه تمنعه المهابة والحياء من ذلك، ومن ثمّ قال بعضهم: عمدة أحاديث الشمائل تدور على هند بن أبي هالة، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما. انتهى.
(عن حلية) - بكسر الحاء المهملة وسكون اللام فتحتيّة-، أي: وصفه ونعته، وهو متعلّق ب «سألت» ، أي: سألته عن صفة (رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أشتهي) ؛ أي: أشتاق إلى (أن يصف لي منها) ؛ أي: من حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم (شيئا) عظيما، فالتنوين للتّعظيم، والجملة معطوفة على جملة «وكان وصّافا
…
الخ» ، والجملتان معترضتان بين السؤال والجواب، أو حاليّتان من الفاعل أو المفعول، أو الأولى من المفعول، والثانية من الفاعل.
(فقال) ؛ أي: هند خال الحسن (: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما) - بفتح الفاء،
مفخّما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر
…
فذكر الحديث بطوله.
قال الحسن: فكتمتها الحسين زمانا، ثمّ حدّثته فوجدته قد سبقني إليه، فسأله عمّا سألته عنه، ووجدته قد سأل أباه عن مدخله ومخرجه
…
وسكون الخاء المعجمة؛ أو كسرها، واقتصر بعضهم على السكون لكونه الأشهر- أي: عظيما في نفسه (مفخّما) - بتشديد الخاء المعجمة؛ بوزن مكرّما-، أي:
معظّما عند الخلق لا يستطيع أحد ألايعظّمه؛ وإن حرص على ترك تعظيمه، وقيل: معنى كونه «فخما» : كونه عظيما عند الله، وكونه «مفخّما» كونه معظّما عند الناس.
(يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر) ؛ أي: يشرق وجهه إشراقا مثل إشراق القمر ليلة كماله، وهي ليلة أربعة عشر، سمي «بدرا» !! لأنّه يبدر الشمس بالطلوع؛ أي: يسبق في طلوعه الشمس في غيرها.
(فذكر) أي: الحسن (الحديث بطوله) - وقد تقدّم في «باب الخلق» من هذا الكتاب-.
(قال الحسن: فكتمتها الحسين زمانا) أي: أخفيت هذه الصفات عن الحسين مدّة طويلة، وإنما كتمها عنه!! ليختبر اجتهاده في تحصيل العلم بحلية جدّه، أو لينتظر سؤاله عنها، فإنّ التعليم بعد الطّلب أثبت وأرسخ في الذهن.
(ثمّ حدّثته) بما سمعته من خالي هند (فوجدته) أي: الحسين (قد سبقني إليه) أي: إلى السّؤال عنها من خاله هند (فسأله) أي: فسأل الحسين خاله (عمّا سألته عنه) من الأوصاف (ووجدته) أي: وجدت الحسين (قد) زاد عليّ في تحصيل العلم بصفة جدّه حيث (سأل أباه عن) كيفية (مدخله ومخرجه) ، كلّ منهما مصدر ميميّ؛ يصلح للزمان والمكان والحدث، والمراد هنا الزمان،
وشكله، فلم يدع منه شيئا.
قال الحسين: فسألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: كان إذا أوى إلى منزله.. جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء؛ جزآ لله، وجزآ لأهله،
…
والمعنى: أنه سأل أباه عن حاله، وصفته في زمن دخوله في البيت، وفي زمن خروجه منه.
(و) عن (شكله) - بفتح أوله- أي: هيئته وطريقته، الشامل لمجلسه، فدخل في السؤال عن الشّكل السؤال عن مجلسه الآتي.
(فلم يدع) ؛ أي لم يترك عليّ (منه) أي: مما سأله عنه (شيئا) ، أو لم يدع الحسين (منه) ؛ أي من السؤال عن أحواله شيئا إلّا سأل عنه.
(قال الحسين) في تفصيل ما أجمله أوّلا بقوله «عن مدخله ومخرجه وشكله» . فقد روى الحسن عن أخيه الحسين ما رواه الحسين عن أبيه علي؛ فصار الحسن راويا ما تقدّم عن خاله هند بلا واسطة، وما سيأتي عن أبيه عليّ بواسطة أخيه الحسين.
ففيه رواية الأقارب عن الأقارب، والصحابيّ عن الصحابي، والكبير عن الصغير.
(فسألت أبي) عليّا (عن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: عن سيرته وطريقته، وما يصنعه في زمن دخوله واستقراره في بيته.
(فقال) أي: أبوه عليّ (: كان) أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (إذا أوى) - بالمدّ والقصر؛ كما تقدّم- (إلى منزله) ؛ أي: وصل إليه واستقرّ فيه (جزّأ) أي: قسم (دخوله) ؛ أي: زمن دخوله (ثلاثة أجزاء) أي: ثلاثة أقسام.
(جزآ لله) تعالى يستفرغ فيه وسعه لعبادة الله والتفكّر في مصنوعاته، (وجزآ لأهله) أي: لمؤانسة أهله ومعاشرتهم، فإنّه كان أحسن الناس عشرة،
وجزآ لنفسه. ثمّ جزّأ جزأه بينه وبين النّاس، فيردّ بالخاصّة على العامّة، ولا يدّخر عنهم شيئا.
وكان من سيرته في جزء الأمّة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدّين،
…
(وجزآ لنفسه) أي: لنفع نفسه، فيفعل فيه ما يعود عليه بالتكميل الآخروي والدنيوي.
(ثمّ جزّأ جزءه بينه وبين النّاس) ؛ أي: ثمّ قسم جزأه الذي جعله لنفسه بينه وبين جميع الناس؛ سواء من كان موجودا، ومن سيوجد بعدهم إلى يوم القيامة بواسطة التبليغ عنه.
(فيردّ بالخاصّة على العامّة) ؛ أي: فيردّ ذلك الجزء الذي جعله للناس بسبب خاصّة الناس وهم أهله وأفاضل الصحابة الذين كانوا يدخلون عليه في بيته، فيأخذون عنه الأحاديث؛ ثم يبلّغونها للذين لم يدخلوا بعد خروجهم من عنده، فكان يوصل العلوم لعامّة الناس بواسطة خاصّتهم.
(ولا يدّخر) - بتشديد الدال المهملة؛ كما هو الرواية- أي: لا يخفي (عنهم شيئا) من تعلّقات النصح والهداية.
(وكان من سيرته) : من عادته وطريقته (في جزء الأمّة)، أي: فيما يصنع في الجزء الذي جعله لأمّته (إيثار) أي: تفضيل (أهل الفضل) حسبا أو نسبا؛ أو سبقا أو صلاحا، أي يقدّمهم على غيرهم في الدخول عليه وإبلاغ أحواله للعامّة، أو في الحاجة كلّ ذلك إنما كان (بإذنه) لهم في ذلك.
(و) كان من سيرته في ذلك الجزء أيضا (قسمه) - بالفتح؛ مصدر قسم- معطوف على «إيثار» ، أي: قسم ذلك الجزء (على قدر فضلهم) أي مراتبهم (في الدّين) من جهة الصلاح والتقوى، لا من جهة الأحساب والأنساب. قال تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [13/ الحجرات] ، أو المراد على قدر حاجاتهم في الدين.
فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج؛ فيتشاغل بهم ويشغلهم في ما يصلحهم والأمّة، من مسألتهم عنه، وإخبارهم بالّذي ينبغي لهم، ويقول: «ليبلّغ الشّاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها،
…
ويلائمه قوله (فمنهم ذو الحاجة) الواحدة، (ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج) ، فإنّ هذا بيان للتفاوت في مراتب الاستحقاق، والفاء للتفصيل والمراد ب «الحوائج» المسائل المتعلّقة بالدّين.
(فيتشاغل بهم) ؛ أي: فيشتغل بذوي الحاجات (ويشغلهم) - بفتح أوله مضارع؛ شغله كمنعه- (في ما) أي: الذي (يصلحهم، و) يصلح (الأمّة) ؛ من قبيل عطف العامّ على الخاصّ، سواء كان المراد أمّة الدعوة، أو أمّة الإجابة؛ والمعنى: لا يدعهم يشتغلون بما لا يعنيهم؛ بل يشغلهم بما يصلحهم ويصلح الأمة.
(من) بيان ل «ما» (مسألتهم) أي: سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم (عنه) أي: عما يصلحهم ويصلح الأمة، (وإخبارهم) أي: إخبار النبي إيّاهم (بالّذي ينبغي لهم) أي: بالأحكام التي تليق بهم، وبأحوالهم وزمانهم ومكانهم، والمعارف التي تسعها عقولهم.
(ويقول) لهم بعد أن يفيدهم ما يصلحهم ويصلح الأمّة: ( «ليبلّغ الشّاهد) الحاضر (منكم) الآن (الغائب) عن المجلس من بقيّة الأمة حتى من سيوجد.
(و) يقول لهم أيضا: ( «أبلغوني) أي: أوصلوا إليّ (حاجة من لا يستطيع إبلاغها) ، إيّاي لعذر كمرض، أو بعد، أو ضعف؛ كالنساء والعبيد والمرضى والغائبين.
وهذا من كمال تواضعه صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمّته، واعتنائه بهدايتهم وإصلاحهم ما استطاع.
فإنّه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها.. ثبّت الله قدميه يوم القيامة» ؛ لا يذكر عنده إلّا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره.
يدخلون روّادا- أي: طلّابا- ولا يفترقون إلّا عن ذواق،
…
ويؤخذ من ذلك أنّه يسنّ المعاونة، والحثّ على قضاء حوائج المحتاجين.
ثم رغّب في ذلك وحثّ عليه بقوله (فإنّه) أي: الحال والشأن (من أبلغ سلطانا) أي: قادرا على تنفيذ ما يبلغه؛ وإن لم يكن سلطانا حقيقة (حاجة من لا يستطيع إبلاغها) ؛ أي: من لا يقدر على إيصالها (ثبّت الله قدميه) على الصراط (يوم القيامة» ) يوم تزلّ الأقدام. دينية كانت الحاجة أو دنيوية، فإنّه لما حرّكهما في إبلاغ حاجة هذا الضعيف جوزي بثباتهما على الصراط.
(لا يذكر عنده إلّا ذلك) أي: لا يحكى عنده إلّا ما ذكر مما ينفعهم في دينهم؛ أو دنياهم، دون ما لا ينفعهم في ذلك؛ كالأمور المباحة التي لا فائدة فيها، وهذا الحصر غالبي، ومنه يعرف حالة قوله
(ولا يقبل) صلى الله عليه وسلم (من) كلام (أحد) شيئا (غيره) أي: غير المحتاج إليه، فهو توكيد للكلام الذي قبله (يدخلون روّادا) - بضم الراء وتشديد الواو- (أي:
طلّابا) للمنافع في دينهم أو دنياهم، المكملة لعقولهم ونفوسهم، فهو جمع زائد من الرّود؛ وهو الطلب، وهو- في الأصل-: من يتقدّم القوم لينظر لهم الكلأ ومساقط الغيث، ثم استعير هنا لتقدّم أكابر الصّحب في الدخول عليه ليستفيدوا ما يصلح أمر الأمّة، ويكون سببا لوقايتهم من مهالك الجهل وغوائل الهوى.
(ولا يفترقون إلّا عن ذواق) - بفتح أوله فعال؛ بمعنى مفعول؛ من الذوق- أي: مذوق طعام حسّيّ؛ على ما هو الأغلب، أو معنوي من الأدب، فإنّه يقوم لأرواحهم مقام الطعام لأجسادهم، و «عن» بمعنى «بعد» كقوله تعالى لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)[الانشقاق] .
وقال بعضهم: الأصل في الذواق الطعام، إلا أنّ العلماء كلّهم حملوه على
ويخرجون أدلّة؛ يعني: على الخير.
قال: فسألته عن مخرجه: كيف كان يصنع فيه؟
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلّا فيما يعنيه، ويؤلّفهم ولا ينفّرهم،
…
العلم والخير، لأن الذوق قد يستعار؛ كما في القرآن فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [112/ النحل] أي: لا يقومون من عنده إلّا وقد استفادوا علما جزيلا وخيرا كثيرا.
(ويخرجون) من عنده (أدلّة) قال القسطلّاني: الرواية المشهورة الصحيحة بدال مهملة، جمع دليل أي: علماء يدلّون الناس. (يعني على) ما علموه من (الخير)، ولهذا قال:«أصحابي كالنّجوم» .
وقال الكازروني: أذلّة- بالمعجمة؛ من الذل-: التواضع، ومعناه:
متواضعون يخضع بعضهم لبعض لأجل الموعظة التي يسمعون، والقرآن الذي يتلون. وهو حسن لو ساعدته الرواية؛ لكنه لا يناسب قوله «يعني على الخير» .
(قال) أي: الحسين: (فسألته) ؛ أي: أبي (عن مخرجه) أي: عن سيرته وطريقته في زمن خروجه من البيت (: كيف كان يصنع فيه؟! قال) أي: عليّ رضي الله عنه.
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن) - بضم الزاي وكسرها، أي: يحبس ويضبط- (لسانه إلّا فيما يعنيه) - بفتح المثناة التحتية- أي: يهمّه مما ينفع دينيا؛ أو دنيويا، فكان كثير الصمت إلّا فيما يعني، كيف وقد قال:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» ؟!.
(ويؤلّفهم) - بفتح الهمزة وتشديد اللام؛ من الألفة- أي: يؤلّف بينهم حتّى يجعلهم كنفس واحدة؛ بحيث لا يبقى بينهم تباغض بوجه، أو يجعلهم آلفين له مقبلين عليه بحاسيّتهم بحسن الخلق معهم وملاطفتهم.
(ولا ينفّرهم) - بتشديد الفاء- أي: لا يفعل بهم ما يكون سببا لنفرتهم، لما
ويكرم كريم كلّ قوم ويولّيه عليهم، ويحذر النّاس ويحترس منهم؛ من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خلقه، ويتفقّد أصحابه، ويسأل النّاس عمّا في النّاس،
…
عنده من العفو والصفح والرأفة بهم.
(ويكرم كريم كلّ قوم) أي: يعظّم أفضل كلّ قوم بما يناسبه من التعظيم.
(ويولّيه) أي: يجعله واليا: أي حاكما (عليهم) وأميرا فيهم، لأن القوم أطوع لكبيرهم مع ما فيه من الكرم الموجب للرفق بهم. وهذا من تمام حسن نظره وعظيم تدبيره.
(ويحذر النّاس) - بفتح الياء وخفة الذال؛ كيعلم، وعليه أكثر الرّواة- أي:
يحترز من الناس، لأنه لم يكن مغفّلا. (ويحترس منهم) أي: يتحفّظ من كثرة مخالطتهم المؤدّية إلى سقوط هيبته وجلالته من قلوبهم، لكن لا يفرط في ذلك؛ بل يحترس (من غير أن يطوي) - بكسر الواو- (عن أحد منهم) من الناس (بشره) - بكسر الموحّدة وسكون الشين المعجمة- أي: طلاقة وجهه وبشاشة بشرته (ولا خلقه) - بضمتين- أي: من غير أن يمنع عن أحد من الناس طلاقة وجهه ولا حسن خلقه.
(ويتفقّد أصحابه) أي: يسأل عنهم حال غيبتهم، فإن كان أحد منهم مريضا عاده، أو مسافرا دعا له، أو ميتا استغفر له، وذلك من مكارم الأخلاق كما قيل
…
ومن عادة السّادات أن يتفقّدوا
…
أصاغرهم والمكرمات عوائد
(ويسأل النّاس) أي: يسأل خاصّة أصحابه (عمّا) وقع (في النّاس) ؛ ليدفع ظلم الظالم، وينتصر للمظلوم، ويقوّي جانب الضعيف.
وليس المراد أنّه يتجسّس عن عيوبهم ويتفحّص عن ذنوبهم.
ويؤخذ منه أنّه ينبغي للحكّام أن يسألوا عن أحوال الرعايا، وكذلك الفقهاء
ويحسّن الحسن ويقوّيه، ويقبّح القبيح ويوهّيه، معتدل الأمر غير مختلف،
…
والصلحاء، والأكابر الذين لهم أتباع؛ فلا يغافلون عن السؤال عن أحوال أتباعهم، لئلا يترتّب على الإهمال مضارّ يعسر دفعها.
(ويحسّن) - بتشديد السين المهملة؛ من التحسين- أي: يصف الشيء (الحسن) بمعنى أنّه يظهر حسنه بمدحه؛ أو مدح فاعله (ويقوّيه) ؛ من التقوية أي: يظهر قوّته بدليل معقول أو منقول.
(ويقبّح) - بتشديد الموحّدة؛ من التقبيح- أي: يصف الشيء (القبيح) بالقبح، بمعنى أنّه يظهر قبحه بذمّه أو ذمّ فاعله، ولا يبالي به؛ وإن عظم قدره وتناهى جاهه. (ويوهّيه) - بتشديد الهاء- أي: يجعله واهيا ضعيفا بالمنع والزجر عنه.
وبين «الحسن» و «القبيح» ، و «يقوّيه» و «يوهّيه» من أنواع البديع الطّباق.
(معتدل الأمر) : مستويه، والأمر الشأن، أو هو ضدّ النهي، يعني: لا يأمر بما لا يطاق (غير مختلف) هو إلى الإطناب أقرب، إذ «معتدل الأمر» يغني عنه، لكن هذا مقام مدح؛ والإطناب يليق به.
وحاصل المعنى: أنّ سائر أفعاله وأقواله على سنن الاستواء والاعتدال، وهي مع ذلك مصونة عن أن يصدر فيها منه أشياء متخالفة المحامل؛ متباينة الأواخر والأوائل.
والرواية في كلّ من هاتين الكلمتين بالرفع؛ على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ مع أن ظاهر السياق النصب على أنّه معطوف على خبر «كان» بحذف حرف العطف، أي: وكان معتدل الأمر غير مختلف.
ولعل وجه الرفع: أن كونه معتدل الأمر غير مختلف من الأمور اللازمة التي
لا يغافل مخافة أن يغافلوا أو يميلوا، لكلّ حال عنده عتاد- أي: شيء معدّ ومهيّأ- لا يقصّر عن الحقّ ولا يجاوزه، الّذين يلونه من النّاس خيارهم، أفضلهم عنده أعمّهم نصيحة،
…
لا تنفكّ عنه أبدا!!. والرفع- على أنّ ذلك خبر مبتدأ محذوف- يقتضي أن يكون الكلام جملة اسمية، وهي تفيد الدوام والاستمرار.
(لا يغافل) عن تذكيرهم وتعليمهم وإرشادهم ونصحهم (مخافة) ؛ مفعول من أجله (أن يغافلوا) عن استفادة أحواله وأفعاله، (أو يميلوا) إلى الدّعة والراحة، أو يميلوا عنه وينفروا منه كما هو شأن المسلّكين، فإنّهم لا يغافلون عن إرشاد تلامذتهم؛ مخافة أن يغافلوا عن الأخذ عنهم، أو يميلوا إلى الكسل والرفاهية.
(لكلّ حال) من أحواله وأحوال غيره (عنده عتاد) - بفتح العين المهملة ومثنّاة فوقية؛ كسحاب- (أي شيء معدّ) له (ومهيّأ) ، فكان يعدّ للأمور أشكالها ونظائرها كالة الحرب وغيرها.
(لا يقصّر) ؛ من التقصير، أو القصور (عن الحقّ) أي: عن استيفائه لصاحبه؛ أو عن بيانه، (ولا يجاوزه) ؛ أي: لا يأخذ أكثر منه.
(الّذين يلونه من النّاس) ؛ أي: الذين يقربون منه في المجلس لاكتساب الفوائد ونشرها وتعليمها (خيارهم) ؛ لأنهم الذين يصلحون لاستفادة العلوم وتعلّمها، ومن ثمّ قال:«ليلني منكم أولو الأحلام والنّهى، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم» .
وينبغي للعالم في درسه أن يجعل الذين يقربون منه خيار طلبته، لأنّهم هم الذين يوثق بهم علما وفهما.
(أفضلهم عنده أعمّهم) ؛ أي: أفضل الناس عنده صلى الله عليه وسلم أكثرهم (نصيحة) للمسلمين في الدين والدنيا، فإنّه ورد:«الدّين النّصيحة» .
وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
قال: فسألته عن مجلسه.
فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم ولا يجلس إلّا على ذكر، وإذا انتهى إلى قوم.. جلس حيث ينتهي به
…
(وأعظمهم عنده منزلة) ؛ أي: مرتبة (أحسنهم مواساة) ؛ وإحسانا للمحتاجين بالنفس والمال؛ ولو مع احتياج أنفسهم، لقوله تعالى وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [90/ الحشر] (ومؤازرة) أي: معاونة لإخوانهم في مهمات الأمور؛ من البر والتقوى، لقوله تعالى وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [2/ المائدة] .
وإنما قسم مدخله دون مخرجه؛ مع أنه ينقسم أيضا ثلاثة أجزاء:
1-
قسم لله؛ وهو وقت الصلاة والتعليم، و 2- قسم لنفسه؛ وهو: ما تدعو إليه ضرورته. و 3- قسم للناس؛ وهو: السعي في حوائجهم!!
لأنهم يعلمون حاله في خروجه؛ فلم يحتج لتقسيمه.
(قال) أي الحسين (: فسألته) أي عليا (عن مجلسه) ؛ أي عن أحواله صلى الله عليه وسلم في وقت جلوسه: (فقال) أي عليّ:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم) من مجلسه (ولا يجلس) فيه؛ (إلّا على ذكر) أي: إلّا في حال تلبّسه بالذكر لله تعالى، «فعلى» للملابسة، وهي مع مدخولها في محلّ نصب على الحال.
ويؤخذ منه ندب الذكر عند القيام وعند القعود.
والأصل في مشروعيّة ذلك قوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [191/ آل عمران] والمقصود من ذلك تعميم الأحوال.
وبالجملة فالذكر أعظم العبادات، لقوله تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [45/ العنكبوت] .
(وإذا انتهى) أي: وصل (إلى قوم) جالسين (جلس حيث ينتهي به) صلى الله عليه وسلم
المجلس، ويأمر بذلك، يعطي كلّ جلسائه بنصيبه، لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه.
(المجلس) أي: يجلس في أيّ مكان يلقاه خاليا، ولا يترفّع على أصحابه لمزيد تواضعه ومكارم أخلاقه، حيث لم يتكلّف خطوة زائدة على الحاجة لحظّ نفسه حتى يجلس في صدر المجلس.
ولأن القصد من قطع الطريق وتعب المشي للبلوغ والوصول إلى القوم، فإذا وصل إلى أوّلهم كان المشي بعد ذلك عبثا وتكبّرا لا يليق بحال العاقل؛ فضلا عن الفاضل؛ فضلا عن أفضل الناس!!
(ويأمر بذلك) أي: بالجلوس حيث ينتهي به المجلس؛ إعراضا عن رعونة النفس وأغراضها الفاسدة.
وقد ورد أمره بذلك فيما رواه الطبرانيّ، والبيهقيّ؛ عن شيبة بن عثمان مرفوعا:«إذا انتهى أحدكم إلى المجلس؛ فإن وسّع له فليجلس، وإلّا فلينظر إلى أوسع مكان يراه؛ فليجلس فيه» .
وبالجملة فقد ثبت مشروعية ذلك فعلا وأمرا.
(يعطي كلّ) واحد من (جلسائه بنصيبه)، أي: شيئا بقدر نصيبه؛ أي:
حظّه من البشر والطلاقة والكرامة والتعليم والتفهيم؛ بحسب ما يليق به، فالمفعول الثاني مقدّر. وقيل: إن الباء زائدة في «بنصيبه» الذي هو المفعول الثاني للتأكيد.
(لا يحسب) - بفتح السين وكسره؛ أي: لا يظنّ- (جليسه) الإضافة للجنس؛ فيشمل كلّ واحد من مجالسيه (أنّ أحدا) من أمثاله وأقرانه (أكرم عليه) صلى الله عليه وسلم (منه) ؛ أي: من نفسه.
وذلك لكمال خلقه وحسن معاشرته لأصحابه، فكان يظنّ كلّ واحد منهم أنّه أقرب من غيره إليه، وأحبّ الناس عنده، لما تبيّن له من عظيم بشره وتقريبه.
وهذا هو الكمال الأعظم!
من جالسه أو فاوضه في حاجة.. صابره حتّى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة.. لم يردّه إلّا بها أو بميسور من القول.
قد وسع النّاس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا
…
(من جالسه) أي: جلس معه، (أو فاوضه) ؛ أي: شرع معه في الكلام في مشاورة أو مراجعة (في حاجة) له، و «أو» للتنويع؛ خلافا لمن جعلها للشكّ.
(صابره) ؛ أي: غلبه في الصبر على المجالسة، أو المكالمة فلا يبادر بالقيام من المجلس، ولا يقطع الكلام، ولا يظهر الملل والسامة، بل يستمرّ معه (حتّى يكون) أي: المجالس؛ أو المفاوض (هو المنصرف عنه) صلى الله عليه وسلم، لمبالغته في الصبر معه.
(ومن سأله) صلى الله عليه وسلم أيّ إنسان كان (حاجة) أيّة حاجة كانت؛ (لم يردّه) أي:
السائل (إلّا بها) إن تيسّرت عنده، (أو بميسور من القول) ؛ إن لم تتيسر لفقد؛ أو مانع يقتضيه.
وهذه قضية مانعة خلوّ؛ أي: لا يخلو حاله حين يسأل من إعطاء المسؤول، أو الرّد بسهولة ولين قوله، ليكون ذلك مسلاة له عن حاجته.
وهذا من كمال سخائه ومروءته وحيائه. وهذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً (28)[الإسراء] ومن ذلك الميسور أن يعد السائل بعطاء إذا جاءه شيء؛ كما وقع له مع كثيرين، ولذلك قال الصدّيق رضي الله تعالى عنه- بعد استخلافه؛ وقد جاءه مال-: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليأتنا، فأتوه فوفّاهم.
(قد وسع) - بكسر السين؛ أي: عمّ- (النّاس) أجمعين حتّى المنافقين (بسطه) أي: بشره وطلاقة وجهه (وخلقه) أي: حسن خلقه الكريم، لكونه صلى الله عليه وسلم يلاطف كلّ واحد بما يناسبه، (فصار لهم) أي: للناس (أبا) في الشفقة والرحمة، وأعظم من أب، إذ غاية الأب أن يسعى في صلاح الظاهر؛ وهو صلّى الله عليه وسلم
وصاروا عنده في الحقّ سواء.
مجلسه مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات،
يسعى في صلاح الظاهر والباطن.
(وصاروا عنده في الحقّ سواء) أي: مستوين في الحقّ لسلامته من الأغراض النفسانية الحاملة للإنسان على اتباع هواه، فالبعيد عن الحقّ والطالب له عنده سواء فيوصل بكلّ إنسان منهم ما يستحقّه ويليق به، ولا يطمع أحد منهم أن يتميّز على أحد عنده لكمال عدله.
(مجلسه مجلس حلم) - بكسر الحاء واللام؛ أي: منه عليهم. وفي نسخة من «الشمائل» : علم؛ بدل: حلم، أي: يفيدهم إيّاه، كما قال تعالى وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [129/ البقرة] .
(وحياء) أي: منهم، فكانوا يجلسون معه على غاية من الأدب؛ كأنّما على رؤوسهم الطير.
(وصبر) أي: منه صلى الله عليه وسلم على جفوتهم، لقوله تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [159/ آل عمران] .
(وأمانة) أي: منهم على ما يقع في المجلس من الأسرار، والمراد أنّ مجلسه مجلس كمال هذه الأمور، لأنه مجلس تذكير بالله تعالى، وترغيب فيما عنده من الثواب، وترهيب مما عنده من العقاب فترقّ قلوبهم، فيزهدون في الدنيا ويرغبون في الآخرة.
(لا ترفع) البناء للمفعول (فيه) أي: في مجلسه (الأصوات) ؛ أي:
لا يرفع أحد من أصحابه صوته في مجلسه صلى الله عليه وسلم إلّا لمجادلة معاند، أو إرهاب عدوّ وما أشبه ذلك، لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [2/ الحجرات] صلى الله عليه وسلم، فكانوا رضي الله عنه [م] على غاية من الأدب في مجلسه، بخلاف كثير من طلبة العلم، فإنّهم يرفعون أصواتهم في الدروس؛ إما لرياء، أو بعد فهم.
ولا تؤبن فيه الحرم ولا تنثى فلتاته. متعادلين، بل كانوا يتفاضلون فيه بالتّقوى، متواضعين،
…
(ولا تؤبن) - بضم التاء وسكون الهمزة، ويجوز إبدالها واوا وفتح الموحدة المخففة وتشدّد أيضا، وآخره نون- من الأبن- بفتح الهمزة- وهو العيب؛ أي:
لا تعاب (فيه) أي: في مجلسه صلى الله عليه وسلم (الحرم) - بضم الحاء وفتح الراء، وبضمّها- جمع حرمة؛ وهي: ما يحترم ويحمى من أهل الرجل.
والمعنى: لا تعاب فيه حرم الناس بقذف؛ ولا غيبة ونحوها، بل مجلسه مصون عن كلّ قول قبيح.
(ولا تنثى) - بضمّ أوّله وسكون النون، وفتح المثلاثة- من «نثا الحديث» :
حدّث به وأشاعه، أي: لا تشاع ولا تذاع (فلتاته) - بفتح الفاء واللام- أي:
هفوات مجلسه، فالضمير للمجلس، والفلتات جمع فلتة؛ وهي: الهفوة، فإذا حصل من بعض حاضريه هفوة لا تشاع ولا تذاع، ولا تنقل عن المجلس، بل تستر على صاحبها إذا صدرت منه؛ على خلاف عادته وطبعه.
هذا ما يعطيه ظاهر العبارة!! والأولى جعل النفي منصبّا على الفلتات نفسها، لا وصفها؛ من الإشاعة والإذاعة.
فالمعنى: لا فلتات فيه أصلا، فلم يكن شيء منها في مجلسه صلى الله عليه وسلم، وليس منها ما يصدر من أجلاف العرب؛ كقول بعضهم «أعطني من مال الله؛ لا من مال أبيك وجدّك» ، بل ذاك دأبهم وعاداتهم.
(متعادلين) أي: كانوا متعادلين، فهو خبر «كان» مقدّرة.
والمعنى أنّهم كانوا متساوين، فلا يتكبّر بعضهم على بعض، ولا يفتخر عليه بحسب أو نسب.
(بل كانوا يتفاضلون) أي: يفضل بعضهم على بعض (فيه) أي: في مجلسه صلى الله عليه وسلم (بالتّقوى) علما وعملا، (متواضعين) حال من الواو في
يوقّرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصّغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمضي له وقت في غير عمل لله عز وجل، أو فيما لا بدّ له من صلاح نفسه.
وكان صلى الله عليه وسلم أحسن النّاس خلقا.
«يتفاضلون» أي: حال كونهم متواضعين (يوقّرون) أي: يعظّمون (فيه) أي:
في مجلسه صلى الله عليه وسلم (الكبير) - بفتح الكاف- (يرحمون فيه الصّغير) - بفتح الصّاد وكسرها- لما ورد: «ليس منّا من لّم يرحم صغيرنا، ولم يوقّر كبيرنا» رواه الترمذي في «جامعه» ؛ عن أنس.
(ويؤثرون ذا الحاجة) أي: يقدّمونه على أنفسهم في تقريبه للنبي صلى الله عليه وسلم ليقضي حاجته منه. (ويحفظون الغريب) . يحتمل أنّ المراد الغريب من الناس- كما هو المتبادر- فالمعنى يحفظون حقّه وإكرامه لغربته، ويحتمل أنّ المراد الغريب من المسائل، فالمعنى يحفظونه بالضبط والإتقان؛ خوفا من الضياع.
(و) في كتاب «الإحياء» و «كشف الغمة» للشعراني:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمضي له وقت في غير عمل لله عز وجل، أو فيما لا بدّ له من صلاح نفسه) . وهذا مستفاد مما سبق في الحديث أنّه جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزآ لله، وجزآ لأهله، وجزآ لنفسه، كما جزّأ خروجه ثلاثة أجزاء:
لله؛ وهو وقت الصلاة والتعليم، وجزآ لنفسه؛ وهو ما تدعو إليه ضرورته، وجزآ للناس؛ وهو السعي في حوائجهم.
(و) أخرج مسلم- واللفظ له؛ من حديث طويل- والترمذيّ؛ عن أنس بن مالك قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن) - ورواية الترمذي: من أحسن- (النّاس خلقا) - بضمتين- لحيازته جميع المحاسن والمكارم وتكاملها فيه. ولما اجتمع فيه
وكان صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق.
وعرّفوا (حسن الخلق) بأنّه: مخالطة النّاس بالجميل، والبشر، واللّطافة، وتحمّل الأذى، والإشفاق عليهم، والحلم «1» ، والصّبر، وترك التّرفّع والاستطالة عليهم، وتجنّب الغلظة والغضب والمؤاخذة.
من خصال الكمال وصفات الجلال والجمال ما لا يحصره حدّ، ولا يحيط به عدّ؛ أثنى الله عليه به في كتابه بقوله وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)[القلم] .
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ عن عليّ رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر) - بكسر الموحّدة وسكون الشين- أي: طلاقة الوجه وبشاشته ظاهرا مع الناس، فلا ينافي أنّه كان متواصل الأحزان باطنا؛ اهتماما بأهوال الآخرة؛ خوفا على أمّته.
(سهل الخلق) - بضمّتين- أي: ليّنه ليس بصعبه، ولا خشنه، فلا يصدر عنه ما يكون فيه إيذاء لغيره بغير حقّ.
قال الباجوريّ في «حاشية الشمائل» : (وعرّفوا حسن الخلق بأنّه مخالطة النّاس بالجميل) ؛ قولا وفعلا، (والبشر) : طلاقة الوجه، (واللّطافة) : اللّين (وتحمّل الأذى) منهم؛ (والإشفاق) أي: الخوف (عليهم) ممّا قد يضرّهم، ( [والحلم] ) - بكسر الحاء- وهو: ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب.
وفي معناه من قال: «هو احتمال الأعلى الأذى من الأدنى» .
(والصّبر) عليهم، (وترك التّرفّع) عليهم، (و) ترك (الاستطالة عليهم) في إعراضهم، (وتجنّب الغلظة) ؛ أي: الخشونة في القول، (و) تجنّب (الغضب) أي: أسبابه المهيّجة له، (و) تجنّب (المؤاخذة) عن مستحقّها بجناية.
(1) في «وسائل الوصول» : التّحمّل.
وعن عليّ كرّم الله وجهه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود النّاس كفّا، وأوسع النّاس صدرا، وأصدق النّاس لهجة، وأوفاهم ذمّة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة. من رآه بديهة..
هابه، ومن خالطه معرفة.. أحبّه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله.
(و) في «الإحياء» ؛ (عن عليّ) رضي الله تعالى عنه و (كرّم الله وجهه) في الجنة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود النّاس كفّا) أي: بذلا للمعروف، (وأوسع النّاس صدرا) أي: قلبا قد وسع الناس بسطه وخلقه، (وأصدق النّاس لهجة) - بفتحتين أي: بفتح فسكون- أي: لسانا، أي كان لسانه صلى الله عليه وسلم أصدق الألسنة، إذ هو أفصح الخلق، وأعذبهم كلاما، وأسرعهم أداء، وأحلاهم منطقا. كان حسن كلامه يأخذ بمجامع القلوب.
(وأوفاهم ذمّة) أي: عهدا (وألينهم عريكة) أي: طبيعة، فهو مع الناس على غاية من السلامة والمطاوعة، وقلّة الخلاف والنفور، (وأكرمهم عشرة) - بكسر العين المهملة-: اختلاطا وصحبة.
(من رآه بديهة) أي: فجأة من غير قصد (هابه) أي: أخذته الهيبة لما كان يظهر عليه من عظم الجلالة والمهابة والوقار.
(ومن خالطه معرفة أحبّه) ، لكمال حسن عشرته وباهر عظيم تألّفه.
(يقول ناعته) أي واصفه (: لم أر قبله ولا بعده مثله) صلى الله عليه وسلم، للزوم هذا الوصف له وظهوره عند من له أدنى بصيرة، فلما لم يخف كان كلّ واصف ملزوما بأن هذا القول يصدر عنه؛ وإن لم يصدر عنه التصريح به غفلة وذهولا.
فالرؤية هنا علميّة، أي: لم أعلم به مماثلا في وصف من أوصاف الكمال.
قال العراقي: رواه الترمذي وقال: ليس إسناده بمتّصل، أي: وفيه مخالفة يسيرة لما في الترمذي.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم النّاس، وأورع النّاس،
…
(و) في «كشف الغمّة» للإمام الشعراني رحمه الله تعالى:
(عن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم النّاس وأورع النّاس) الورع: هو اجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في المحرمات، فتركه الريبة في العبادات والمعاملات وسائر أبواب الأحكام إلى يقين الحلّ هو الورع المحمود، العميم النفع، العظيم الجدوى في الدنيا والآخرى.
قال في «منهل الورّاد» : الورع عامّ وخاصّ،
فالعامّ: هو التورّع عما يوجب الفسق، وذلك ما يحرّمه الفقهاء.
وأما ورع الخاصّة! فهو على ثلاث درجات.
الأولى: ورع الصالحين المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وهو الحذر عما يطرق إليه احتمال التحريم، وإن أفتى المفتي بحلّه بناء على الظاهر، لأنّ مطمح الفقيه إلى ظاهر الأمر، كمن أساء معاشرة زوجته حتّى تبرئه من المهر، فيفتي المفتي الفقيه أن الإبراء صحيح، مع أنّه لا يحلّ للمبرىء المهر بينه وبين الله تعالى.
الثانية: ورع المتقين المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتّى يدع ما لا بأس به حذرا ممّا به بأس» . قال المناوي: أن يترك فضول الحلال؛ حذرا من الوقوع في الحرام.
ومن هذا القبيل ترك النظر إلى تجمّل أهل الدنيا، فإنّه يحرّك داعية الرغبة فيها.
الثالثة: ورع الصديقين؛ وهو صحّة اليقين وكمال التعلّق بربّ العالمين، وعكوف الهمّة عليه، وهذه رتبة قوم عدّوا كلّ ما لم يكن لله عدّوه حراما، فاجتنبوا كلّ ما لا يراد بتناوله القوّة على طاعة الله تعالى.
وهؤلاء قد ذهب معظمهم، لا يكاد يوجد أحد منهم.
وأزهد النّاس،
…
فالفالح في زماننا: من كان ورعه ورع العدول غير مشدّد على نفسه بقوله «أموال الدنيا كلها حرام لكثرة الأيدي الغاصبة والمعاملات الفاسدة» . أي: فهذا مشدّد على نفسه، بل يراجع القلب مسترشدا بقوله صلى الله عليه وسلم:«الإثم ما حاك في الصّدر وتردّد في القلب» . وقوله صلى الله عليه وسلم: «استفت قلبك؛ وإن أفتاك النّاس وأفتوك» . إذ الإنسان غير متعبّد بما هو في نفس الأمر حلال، بل بما هو في اعتقاده أنّه حلال إلّا إن بان له شيء ظاهر في تحريمه. وهذا باب واسع. وقد أجاد بالتفصيل فيه الإمام الغزاليّ جزاه الله خيرا عن الإسلام، ورزقنا التوفيق وحسن الختام.
(وأزهد النّاس) الزهد: هو ترك فضول الحلال. أو هو بغض الدنيا والإعراض عنها، وقيل: هو ترك راحة الدنيا طلبا لراحة الآخرة.
وقال سيدنا الحبيب عبد الله بن علوي الحدّاد في «النصائح» : حقيقة الزهد خروج حبّ الدنيا والرغبة فيها من القلب، وهوان الدنيا على العبد؛ حتّى يكون إدبارها وقلّة الشيء منها أحبّ إليه من ضدّه! وهذا من حيث الباطن، وفي الظاهر يكون منزويا عنها ومتجافيا؛ اختيارا؛ مع القدرة عليها ويكون مقتصرا من سائر أمتعتها- مأكلا؛ وملبسا؛ ومسكنا وغير ذلك- على ما لا بدّ منه دون النعم والتمتع بشهواتها، انتهى.
وقال في «منهل الورّاد» : الزهد خلاف الرغبة: لغة، يقال «زهد في الشيء وعنه» ؛ أي: لم يرغب فيه. وحقيقة: انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، وفضل الزهد شهير، قال الله تعالى وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا الآية إلى قوله وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)[131- 132/ طه] .
والزهد على قسمين:
زهد في الدنيا: لأنها تلهي عن الله، وعن خدمته، وعن الأعمال الصالحة؛ مع أنها لا تصفو لصاحبها، بل لا يزال صاحبها في عناء ومحن وبلاء.
وأكرم النّاس، وأعدل النّاس، وأحلم النّاس، وأعفّ النّاس، لم تمسّ يده يد امرأة لا يملك رقّها، أو عصمة نكاحها، أو تكون ذات محرم منه صلى الله عليه وسلم.
وزهد فيما في أيدي الناس قال صلى الله عليه وسلم: «ازهد في الدّنيا يحبّك الله، وازهد فيما في أيدي النّاس يحبّك النّاس» .
ثم إن للزهد درجات: فزهد في الحرام والشبهة؛ وهو في معنى التقوى، وزهد فيما زاد على الحاجة.
ومن فوائد الزهد أنّ فيه فراغا للروح والبدن بالطاعة، والرغبة فيها، والتجنّب عن الشبهات. انتهى ملخصا من «منهل الوراد» .
(وأكرم النّاس) روى البخاريّ ومسلم؛ من حديث أنس رضي الله تعالى عنه:
كان صلى الله عليه وسلم أحسن النّاس، وأشجع الناس، وأجود النّاس. وسيأتي قريبا.
(و) كان صلى الله عليه وسلم (أعدل النّاس) قد تقدّم في حديث عليّ الطويل قوله «وصار ما عنده في الحقّ سواء
…
الحديث» .
ومعنى «أعدل الناس» أي: أكثرهم عدلا.
(و) كان صلى الله عليه وسلم (أحلم النّاس) . قال العراقي: رواه أبو الشيخ في «كتاب الأخلاق» ؛ من رواية عبد الرحمن بن أبزى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحلم الناس
…
الحديث. وهو مرسل. انتهى.
وسيأتي حديث عبد الله بن سلام في قصة إسلام زيد بن سعنة، من أحبار اليهود. قال الواسطي لما سئل: لأي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلم النّاس؟! قال: لأنه خلق روحه أوّلا؛ فوقع له صحّة التمكين والاستقرار.
(و) كان صلى الله عليه وسلم (أعفّ النّاس) أي: أكثرهم عفّة، وهي- بالكسر- حصول حالة للنفس يمتنع بها عن غلبة الشهوة، ولذلك قال: (لم تمسّ يده يد امرأة لا يملك رقّها، أو عصمة نكاحها، أو تكون ذات محرم منه صلى الله عليه وسلم .
وعن أنس أيضا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن النّاس، وأجود النّاس، وأشجع النّاس.
قال العراقي: رواه الشيخان؛ من حديث عائشة: ما مسّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلّا امرأة يملكها. انتهى.
وأخرجه الترمذيّ، والنسائي، وابن ماجه، وأبو داود بألفاظ مختلفة؛ عن عائشة رضي الله عنها.
والمفهوم من هذه الأحاديث أنّه صلى الله عليه وسلم لم تمسّ يده قطّ يد امرأة غير زوجاته، وما ملكت يمينه؛ لا في مبايعة ولا في غيرها، وإذا هو لم يفعل ذلك مع عصمته وانتفاء الرّيبة في حقّه، فغيره أولى بذلك؛ قاله في «شرح الإحياء» .
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه من حديث طويل؛ (عن أنس أيضا) رضي الله تعالى عنه:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن النّاس) صورة وسيرة.
(وأجود النّاس) بكلّ ما ينفع، كما أنّه أكملهم في سائر الأوصاف، فكان جوده يجمع أنواع الجود؛ من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله في إظهار دينه، وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكلّ طريق؛ من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمّل أثقالهم.
وكان جوده صلى الله عليه وسلم كلّه لله تعالى، وفي ابتغاء مرضاته.
(وأشجع النّاس) أي: أقواهم قلبا، وأجرأهم في حال البأس، فكان الشجاع منهم الّذي يلوذ بجانبه عند التحام الحرب، وما ولّى قطّ منهزما، ولا تحدّث عنه بفرار، وقد ثبتت أشجعيّته بالتواتر النقلي.
قال السيوطي: بل يؤخذ ذلك من النصّ القرآني كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ [73/ التوبة] فكلّفه وهو فرد جهاد الكلّ؛ ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا
وكان صلى الله عليه وسلم أرأف النّاس بالنّاس، وأنفع النّاس للنّاس، وخير النّاس للنّاس.
وكان صلى الله عليه وسلم أصبر النّاس على أقذار النّاس.
وعن خارجة بن زيد بن ثابت
…
وُسْعَها [286/ البقرة] ولا ضير في كون المراد هو ومن معه، إذ غايته أنه قوبل بالجمع، وذلك مفيد للمقصود. انتهى «مناوي» .
(و) في «الإحياء» : (كان صلى الله عليه وسلم أرأف النّاس بالنّاس، وأنفع النّاس للنّاس، وخير النّاس للنّاس) هذا من المعلوم.
قال في «شرح الإحياء» : روينا في الجزء الأول من «فوائد أبي الدحداح» ؛ من حديث علي رضي الله تعالى عنه- في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: كان أرحم النّاس بالناس. الحديث. بطوله. انتهى.
(و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن إسماعيل بن عيّاش بن سليم العنسي الشامي مرسلا؛ قال في العزيزي: وهو صحيح. قال:
(كان صلى الله عليه وسلم أصبر النّاس) أي: أكثرهم صبرا (على أقذار النّاس) ؛ أي:
ما يكون من قبيح فعلهم وسيّء قولهم، لأنه لانشراح صدره يتّسع لما تضيق عنه صدور العامّة، فكانت مساوىء أخلاقهم ومدانىء أفعالهم وسوء مسيرهم وقبح سيرتهم في جنب سعة صدره؛ كقطرة دم في قاموس اليمّ، وفيه شرف الصبر.
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» بسنده (عن) أبي زيد (خارجة بن زيد بن ثابت) بن الضّحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النّجّار الأنصاري النّجّاري المدني التابعي.
كان إماما بارعا في العلم، اتفقوا على توثيقه وجلالته، أدرك عثمان، وسمع أباه زيدا وعمّه يزيد، وأمّ العلاء الأنصاريّة، وأسامة بن زيد.
قال: دخل نفر على زيد بن ثابت
…
روى عنه سالم بن عبد الله والزّهريّ ويزيد بن عبد الله بن قسيط، وأبو الزناد وآخرون.
وهو أحد فقهاء المدينة السبعة الذين هم: 1- سعيد بن المسيب، و 2- عروة بن الزبير، و 3- القاسم بن محمد، و 4- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، و 5- خارجة بن زيد، و 6- سليمان بن يسار. وفي السابع ثلاثة أقوال؛ فقيل: 7- سالم بن عبد الله بن عمر، وقيل: 7- أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقيل: 7- أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وعلى هذا جمعهم الشاعر في قوله:
ألا كلّ من لّا يقتدي بأئمّة
…
فقسمته ضيزى عن الحقّ خارجه
فخذهم عبيد الله عروة قاسم
…
سعيد أبو بكر سليمان خارجه
توفي بالمدينة المنورة سنة: مائة، وقيل: سنة تسع وتسعين، وهو ابن سبعين سنة- بتقديم السين-.
خرّج له الجماعة رحمه الله تعالى.
(قال دخل نفر) - بفتحتين-: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ بل من معناه؛ وهو رجل.
(على زيد بن ثابت) بن الضحاك الأنصاريّ.
الصحابيّ المشهور المدني. الفرضي الكاتب «كاتب الوحي والمصحف والمراسلات» .
أحد الأربعة الذين حافظوا القرآن على عهد المصطفى [صلى الله عليه وسلم]«1» ، وأحد الثلاثة
(1) المشهور أنّهم ثمانية. وفيهم يقول القائل:
لقد حفظ القرآن عهد نبيّنا
…
ثمانية عن جادة الحقّ ما مانوا
أبيّ، أبو الدردا، معاذ، عبادة
…
وزيد، أبو زيد، عليّ، وعثمان
رضي الله تعالى عنه فقالوا له: حدّثنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ماذا أحدّثكم؟
…
الذين جمعوا المصحف.
أعلم الصحابة بالفرائض، وكان عمره حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة إحدى عشرة سنة، وحفظ ستة عشر سورة قبل قدوم المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا.
واستصغره النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر فردّه، وشهد أحدا، وقيل: لم يشهدها، وشهد الخندق وما بعدها من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان يكتب لأبي بكر وعمر بن الخطاب في خلافتهما، وكان عمر يستخلفه إذا حجّ، وكان معه حين قدم الشام، وهو الذي تولّى قسمة غنائم اليرموك، وكان عثمان يستخلفه إذا حجّ، وكان من الراسخين في العلم، وكان على بيت المال لعثمان. وأحواله كثيرة مشهورة.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان وتسعون حديثا؛ اتفقا منها على خمسة، وانفرد البخاريّ بأربعة، ومسلم بحديث.
روى عنه جماعات من الصحابة؛ منهم: ابن عمر، وابن عبّاس، وأنس، وأبو هريرة. وخلائق من كبار التابعين، منهم ابن المسيب، وسليمان وعطاء: إبنا يسار.
وتوفي بالمدينة المنورة سنة: أربع وخمسين. وقيل غير ذلك.
ولما دفن قال الحبر ابن عباس: هذا ذهاب العلماء! دفن اليوم علم كثير.
(رضي الله تعالى عنه.
فقالوا له: حدّثنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنهم سألوه أن يحدّثهم أحاديث الشمائل فاستعظم التحديث فيها؛ فلذلك (قال: ماذا أحدّثكم) كأنّ شمائله لا يحاط بها، وإن انتهى بها المحدّث إلى أقصى الغاية، ولذلك لم يتعاط أكابر
كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي.. بعث إليّ فكتبته له، فكنّا إذا ذكرنا الدّنيا.. ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة.. ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطّعام
…
الشعراء كأبي تمّام ونحوه مدحه وذكر شمائله، لعلمهم باستغنائه عن ذلك، واستشعارهم من أنفسهم العجز عن الوفاء بحقّه فيه، فهو الحقيق بقول القائل:
تجاوز قدر المدح حتّى كأنّه
…
بأحسن ما يثنى عليه يعاب
فكلّ علوّ في حقّه تقصير، فلا يمكن أحد الإحاطة بها، بل ولا ببعضها من حيث الحقيقة والكمال، فالاستفهام تعجّب أفادهم به ردّ ما وقع في خاطرهم من طلب الإحاطة بها، لكن لمّا كان من المقرّر أنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه أفادهم بعضا منها على وجه يدلّ على غاية ضبطه وإتقانه لمرويّه؛ فقال:
(كنت جاره) أي: فأنا أعرف بأحواله وأخبر بأسراره، (فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليّ) ؛ أي: لكتابة الوحي غالبا، كما يدلّ عليه قوله (فكتبته) أي:
الوحي (له) ، فهو من جملة كتبة الوحي، بل هو أجلّهم «1» وهم تسعة؛ 1- زيد المذكور، 2- وعثمان، 3- وعلي، 4- وأبيّ، 5- ومعاوية، 6- وخالد بن سعيد، و 7- حنظلة بن الربيع، و 8- والعلاء بن الحضرمي، و 9- أبان بن سعيد.
(فكنّا) معاشر الصحابة (إذا ذكرنا الدّنيا) ذما أو مدحا، لكونها مزرعة الآخرة ومحلّ الاعتبار لأرباب المعرفة؛ (ذكرها معنا) أي: ذكر الأمور المتعلّقة بالدنيا المعينة على أمور الآخرة، كالجهاد وما يتعلّق به؛ من المشاورة في أموره.
(وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا) ، وبيّن لنا تفاصيل أحوالها، وما يترتّب عليها من الأمور المرغّبة والمرهّبة وغيرها.
(وإذا ذكرنا الطّعام)، أي: ضرره ونفعه، وآداب أكله، وبيان أنواعه من
(1) في مضمار الكتابة، وإلا فلا خلاف أن عثمان وعليا أفضل منه!.
ذكره معنا، فكلّ هذا أحدّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناشدون الشّعر بين يديه أحيانا، ويذكرون أشياء من أمر الجاهليّة، ويضحكون، فيتبسّم هو إذا ضحكوا، ولا يزجرهم إلّا عن حرام.
المأكولات والمشروبات والفواكه وسائر المستلذّات (ذكره معنا) ، وأفاد ما في كلّ واحد من الحكم المتعلّقة به، وما يتعلق به من منفعته ومضرّته؛ كما يعرف من الطبّ النبوي، وإنما ذكر معهم الدنيا والطعام!! لأنه قد يقترن به فوائد علميّة وأدبية، على أن فيه بيان جواز تحدّث الكبير مع أصحابه في المباحات.
(فكلّ) - الرواية بالرفع، لكنه لا يمتنع جواز النصب؛ على أنه مفعول مقدّم «أحدّثكم» ، بل هو أولى لاستغنائه عن الحذف-.
(هذا أحدّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) لتتفقّهوا في الدين فترفعوا إلى درجات المقربين!! وإنما ذكر هذا ليؤكد به اهتمامه بالحديث.
(و) في «الإحياء» : (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناشدون الشّعر) ؛ أي يرادّ بعضهم بعضا الأشعار الجائزة. والتّناشد والمناشدة مرادّة البعض على بعض شعرا (بين يديه أحيانا) فيسمعهم، (ويذكرون أشياء من أمر الجاهليّة) ، وهي الحالة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله ورسوله وشرائع الإسلام.
(ويضحكون؛ فيتبسّم هو إذا ضحكوا) ولا يزيد على ذلك، (ولا يزجرهم إلّا عن حرام) . ويؤخذ منه حلّ إنشاد الشعر، واستماعه؛ إذا كان لا فحش فيه، وإن اشتمل على ذكر أيّام الجاهلية، ووقائعهم في حروبهم، ومكارمهم ونحو ذلك.
وهذا الحديث رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ عن جابر بن سمرة دون قوله «ولا يزجرهم إلا عن حرام» . وروى مسلم بعضا منه.
ورواه البيهقيّ في «الدلائل» ؛ كلاهما عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر النّاس تبسّما وضحكا في وجوه أصحابه، وتعجّبا ممّا تحدّثوا به، وخلطا لنفسه بهم.
ولربّما ضحك حتّى تبدو نواجذه.
باختلاف في الألفاظ.
(و) في «الإحياء» : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر النّاس تبسّما وضحكا في وجوه أصحابه وتعجّبا ممّا تحدّثوا به، وخلطا لنفسه بهم) .
روى الترمذيّ؛ من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء: ما رأيت أحدا أكثر تبسّما من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي «الصحيحين» ؛ من حديث جرير: ولا رآني إلّا تبسّم.
وللترمذي في «الشمائل» ؛ من حديث علي: يضحك مما يضحكون منه، ويتعجّب مما يتعجّبون منه.
ولمسلم؛ من حديث جابر بن سمرة: كانوا يتحدّثون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسّم.
(ولربّما ضحك حتّى تبدو نواجذه) ؛ أي: أضراسه. وقيل: أربع آخر الأسنان، كلّ منهم يسمى «ضرس العقل» ، لأنه لا ينبت إلّا بعد البلوغ. وقيل:
أنيابه. وقيل: ضواحكه.
وفي «القاموس» : هي أقصى الأسنان، أو الأنياب، أو التي على الأنياب؛ أو الأضراس.
قيل: ضحكه إلى أن يبدو آخر أسنانه بعيد من شيمته، فلذا قيل: المراد المبالغة في كون ضحكه هذا فوق ما كان يصدر.
ويؤيده قول الجوهريّ «حتّى بدت نواجذه» إذا استغرب منه، وقد جاء ذلك في المتفق عليه؛ من حديث ابن مسعود في قصّة «آخر من يخرج من النار» . وفي قصّة الحبر الّذي قال «إنّ الله يضع السماوات على إصبع» . ومن حديث أبي هريرة
وكان ضحك أصحابه عنده التّبسّم؛ اقتداء به، وتوقيرا له.
قالوا: وقد جاءه أعرابيّ يوما؛ وهو صلى الله عليه وسلم متغيّر اللّون ينكره أصحابه، فأراد أن يسأله، فقالوا: لا تفعل يا أعرابيّ، فإنّا ننكر لونه. فقال: دعوني، فو الّذي بعثه بالحقّ نبيّا؛ لا أدعه حتّى يتبسّم. فقال: يا رسول الله؛ بلغنا أنّ المسيح- يعني:
الدّجّال- يأتي النّاس بالثّريد وقد هلكوا جوعا.. أفترى لي- بأبي أنت وأمّي- أن أكفّ عن ثريده تعفّفا وتنزّها حتّى أهلك هزالا، أم أضرب في ثريده حتّى إذا تضلّعت شبعا.. آمنت بالله وكفرت به؟!
قالوا: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى بدت نواجذه.
قصة «المجامع في رمضان» وغير ذلك.
وفي كلّ ذلك دليل على أنّ الضحك في مواطن التعجّب؛ سيما ما هو في مثل تعجّبه صلى الله عليه وسلم لا يكره، ولا يخرم المروءة؛ إذا لم يجاوز به الحدّ المعتاد.
(وكان ضحك أصحابه عنده التّبسّم؛ اقتداء به، وتوقيرا له) . رواه الترمذيّ في «الشمائل» ؛ من حديث هند بن أبي هالة في أثناء حديثه الطويل.
(قالوا: وقد جاءه أعرابيّ) ؛ أي: من سكّان البادية (يوما وهو صلى الله عليه وسلم متغيّر اللّون ينكره أصحابه، فأراد) ذلك الأعرابيّ (أن يسأله) في شيء، (فقالوا:
لا تفعل يا أعرابيّ؛ فإنّا ننكر لونه. فقال: دعوني؛ فو الّذي بعثه بالحقّ نبيا؛ لا أدعه حتّى يتبسّم. فقال: يا رسول الله؛؛ بلغنا أنّ المسيح- يعني الدّجّال- يأتي النّاس بالثّريد؛ وقد هلكوا جوعا!! أفترى لي- بأبي أنت وأمّي- أن أكفّ عن ثريده تعفّفا وتنزّها حتّى أهلك هزالا، أم أضرب) بيدي (في ثريده حتّى إذا تضلّعت) أي: امتلأت (شبعا آمنت بالله) وحده، (وكفرت به؟!) - يعني الدجال-.
(قالوا: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى بدت نواجذه. ثمّ قال: «لا، بل يغنيك
ثمّ قال: «لا، بل يغنيك الله بما أغنى به المؤمنين» .
وكان صلى الله عليه وسلم يتلطّف بخواطر أصحابه، ويتفقّد من انقطع منهم عن مجلسه، وكثيرا ما يقول لأحدهم:«لعلّك يا أخي وجدت منّي، أو من إخواننا شيئا» .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا فقد الرّجل من إخوانه ثلاثة أيّام..
سأل عنه، فإن كان غائبا.. دعا له، وإن كان شاهدا.. زاره، وإن كان مريضا.. عاده.
الله بما أغنى به المؤمنين» ) .
قال العراقي: وهو حديث منكر، لم أقف له على أصل!.
ويردّه قوله صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه؛ من حديث المغيرة بن شعبة؛ حين سأله:
إنّهم يقولون: إنّه معه جبل خبز ونهر ماء!!: قال: «هو أهون على الله من ذلك» .
وفي رواية لمسلم: يقولون معه جبال من خبز ولحم
…
الحديث!! نعم، في حديث حذيفة وأبي مسعود المتفق عليهما: أنّ معه ماء ونارا
…
الحديث.
(و) في «كشف الغمّة» للشعراني رحمه الله: (كان صلى الله عليه وسلم يتلطّف بخواطر أصحابه، ويتفقّد من انقطع منهم عن مجلسه) بالسّؤال عنه، فإن كان غائبا؛ دعا له، وإن كان مريضا؛ عاده- كما سيأتي-.
(وكثيرا ما يقول لأحدهم: «لعلّك يا أخي وجدت منّي، أو من إخواننا شيئا» ) يغضبك؟!!
(و) أخرج أبو يعلى- بإسناد ضعيف- عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فقد) - بالبناء للفاعل- (الرّجل من إخوانه) - أي: لم يره- (ثلاثة أيّام سأل عنه، فإن كان غائبا)، أي: مسافرا (دعا له، وإن كان شاهدا) أي: حاضرا بالبلد (زاره، وإن كان مريضا عاده) ، لأن الإمام
وكان صلى الله عليه وسلم يقبل على أصحابه بالمباسطة؛ حتّى يظنّ كلّ منهم أنّه أعزّ عليه من جميع أصحابه.
وكان صلى الله عليه وسلم يعطي كلّ من جلس إليه نصيبه من البشاشة؛ حتّى يظنّ أنّه أكرم النّاس عليه.
وعن عمرو بن العاصي
…
عليه النّظر في حال رعيّته، وإصلاح شأنهم وتدبير أمرهم.
وأخذ منه أنّه ينبغي للعالم إذا غاب بعض الطلبة فوق المعتاد أن يسأل عنه، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه، أو قصد منزله بنفسه وهو أفضل، فإن كان مريضا عاده، أو في غمّ خفّفه عليه، أو في أمر يحتاج لمعونة أعانه، أو مسافرا تفقّد أهله، وتعرّض لحوائجهم ووصلهم بما أمكن، وإلّا تودّد إليه ودعا له.
(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى:
(كان صلى الله عليه وسلم يقبل على أصحابه بالمباسطة) بالكلام وطلاقة الوجه وإظهار التودّد لهم، (حتّى يظنّ كلّ منهم أنّه أعزّ عليه من جميع أصحابه) .
وسيأتي ما يؤيّده ويشهد له؛ من حديث عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنه.
(و) في «كشف الغمّة» أيضا: (كان صلى الله عليه وسلم يعطي كلّ من جلس إليه نصيبه) ؛ أي: حظّه (من البشاشة) أي: طلاقة الوجه والإقبال عليه، (حتّى يظنّ) ؛ أي:
جليسه (أنّه أكرم النّاس عليه) صلى الله عليه وسلم، لما يرى من ملاطفته له ومؤانسته، وذلك من كمال خلقه صلى الله عليه وسلم.
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» بسنده؛ (عن) أبي عبد الله- ويقال: أبو محمد- (عمرو بن العاصي) - الجمهور على كتابته بالياء؛ وهو الفصيح عند أهل العربية. ويقع في كثير من كتب الحديث والفقه؛ أو أكثرها بحذف الياء، وهي لغة.
رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على أشرّ القوم يتألّفهم بذلك،
…
أسلم عام خيبر أوّل سنة سبع، وقيل: أسلم في صفر سنة ثمان؛ قبل الفتح بستّة أشهر، وقيل غير ذلك.
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة فأسلموا، ثمّ أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات السلاسل على جيش هم ثلاثمائة، فلما دخل بلادهم استمدّه فأمدّه بجيش من المهاجرين الأوّلين؛ فيهم أبو بكر وعمر، وأميرهم أبو عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنهم، وقال لأبي عبيدة: لا تختلفا.
وكان عمرو من دهاة العرب وأبطالهم، وكان قصيرا وذا رأي.
وكانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة: ثلاث وأربعين بمصر؛ وهو وال عليها ودفن بها؛ وعمره سبعون سنة. وصلّى عليه ابنه عبد الله.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة وثلاثون حديثا؛ اتفقا على ثلاثة، ولمسلم حديثان، وللبخاريّ بعض حديث.
روى عنه أبو عثمان النّهدي، وقيس بن أبي حازم، وعروة بن الزّبير وغيرهم (رضي الله تعالى عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه) على حدّ «رأيته بعيني» . (وحديثه) . الإقبال بالحديث معناه: جعل الكلام مع المخاطب وقصده به؛ فهو معنويّ والأوّل حسي (على أشرّ القوم) الكثير حذف الهمزة من «أشر» ، واستعماله بها لغة رديئة؛ أو قليلة. قال في «الكافية» لابن مالك:
وغالبا أغناهم خير وشرّ
…
عن قولهم أخير منه وأشرّ
(يتألّفهم) أي: الأشرّ، وإنّما أتى بضمير الجمع!! لأنّه جمع في المعنى، (بذلك) الإقبال المفهوم من الفعل، وإنّما كان يتألّفهم بذلك!! ليثبتوا على الإسلام، أو لاتقاء شرّهم، فاتقاء الشرّ بالإقبال على أهله والتبسّم في وجههم جائز، وأمّا الثناء عليهم!! فلا يجوز، لأنّه كذب صريح.
فكان يقبل بوجهه وحديثه عليّ حتّى ظننت أنّي خير القوم. فقلت:
يا رسول الله؛ أنا خير، أو أبو بكر؟ فقال:«أبو بكر» .
فقلت: يا رسول الله؛ أنا خير، أم عمر؟! فقال:«عمر» .
فقلت: يا رسول الله؛ أنا خير، أم عثمان؟ فقال:«عثمان» .
فلمّا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقني.. فلوددت أنّي لم أكن سألته.
ولا ينافي هذا استواء صحبه في الإقبال عليهم- على ما سبق-!! لأن ذلك حيث لا ضرورة تحوج إلى التخصيص، وتخصيص الأشرّ بالإقبال عليه لضرورة تأليفه.
ومن فوائده أيضا: حفظ من هو خير عن العجب والكبر.
(فكان) ؛ لعظم تألّفه وحسن معاشرته وكريم أخلاقه (يقبل بوجهه وحديثه عليّ) - بتشديد الياء-، (حتّى ظننت) من كثرة إقباله (أنّي خير القوم) .
وسبب ذلك أنه كان حديث عهد بالإسلام، ومن رؤساء قومه.
قال الحافظ العراقيّ:
يجالس الفقير والمسكينا
…
ويكرم الكرام إذ يأتونا
ليس مواجها بشيء يكرهه
…
جليسه بل بالرّضا يشافهه
(فقلت: يا رسول الله) أي: بناء على ظنّه وتردّده في بعض أكابر الصحب.
(أنا خير، أو أبو بكر؟ فقال:«أبو بكر» . فقلت: يا رسول الله؛ أنا خير، أم عمر؟ فقال:«عمر» ، فقلت: يا رسول الله؛ أنا خير، أم عثمان؟ فقال:
«عثمان» . فلمّا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقني) - بتخفيف الدال- أي: أجابني بالصدق من غير مراعاة ومداراة؛ (فلوددت) - بكسر الدال واللام للقسم- أي:
أحببت وتمنّيت (أنّي لم أكن سألته) ، وإنّما ودّ ذلك!! لأنه قبل السؤال كان يظنّ إقباله عليه لخيريّته، فلما سأله بان له أن إقباله عليه إنّما هو للتألّف، فندم لذلك.
وكان صلى الله عليه وسلم يعطي كلّ من جلس إليه نصيبه من وجهه، حتّى كأنّ مجلسه وسمعه وحديثه ولطيف محاسنه وتوجّهه للجالس إليه.
ومجلسه مع ذلك مجلس حياء وتواضع وأمانة.
قال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] .
وفيه أنّه ينبغي للشخص ألايسأل عن شيء إلّا بعد تحقّق أمره والتثبت فيه، لأنّه ربّما ظهر خطؤه فيفتضح حاله.
(و) في «الإحياء» : (كان صلى الله عليه وسلم يعطي كلّ من جلس إليه نصيبه من وجهه) ؛ بالإقبال عليه، (حتّى كأنّ) - بالتشديد- (مجلسه وسمعه) بالإصغاء، (وحديثه ولطيف محاسنه وتوجّهه) ؛ كلّ ذلك (للجالس إليه، ومجلسه مع ذلك مجلس حياء وتواضع وأمانة) .
قال في «شرح الإحياء» : رواه الترمذيّ في «الشمائل» ؛ في حديث عليّ الطويل. وفيه: ويعطي كلّ جلسائه نصيبه؛ لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه، وفيه: ومجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة.
(قال) الله (تعالى) ممتنّا عليه في كتابه العزيز (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ)[159/ آل عمران]«ما» زائدة للتأكيد، أي: فبرحمة. وقيل: نكرة موصوفة، و «رحمة» بدل من «ما» (لِنْتَ لَهُمْ) - أي: سهلت أخلاقك لهم- (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) - أي: سيّء الخلق- (غَلِيظَ الْقَلْبِ) - أي: قاسيه على الخلق- (لَانْفَضُّوا) - أي: تفرقوا- (مِنْ حَوْلِكَ) ولم ينتفعوا بقولك.
والمعنى: أنّك لو كنت فظّا غليظ القلب انفضوا عنك، أي: تفرّقوا ولم يجتمعوا عليك، ولكن بلين جانبك لهم؛ وشفقتك عليهم تؤلّف قلوبهم، وتزيد محبّتهم. وهذا امتنان عليه بما جبله الله عليه من الأخلاق الحسنة.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدا في وجهه بشيء يكرهه.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّه كان عنده رجل به أثر صفرة
…
(و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ في «الأدب المفرد» ، وأبو داود، والنسائي في «اليوم والليلة» بسند حسن؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدا في وجهه) - يعني: لا يشافهه- (بشيء يكرهه) ، لئلا يشوّش عليه، ولأن مواجهته ربّما تفضي إلى الكفر، لأن من يكره أمره ويأبى امتثاله عنادا؛ أو رغبة عنه: يكفر. وفيه مخافة نزول العذاب.
والبلاء إذا نزل قد يعمّ، ففي ترك المواجهة مصلحة، وقد كان واسع الصّدر جدّا غزير الحياء.
ومنه أخذ بعض أكابر السلف أنّه ينبغي إذا أراد أن ينصح أخا له أن يكتب له في لوح ويناوله له؛ كما في «الشّعب» .
فينبغي للرجل ألايذكر لصاحبه ما يثقل عليه، ويمسك عن ذكر أهله وأقاربه، ولا يسمعه قدح غيره فيه، وكثير من الناس يتقرّب لصاحبه بذلك، وهو خطأ ينشأ عن مفاسد، ولو فرض فيه مصالح؛ فلا توازي مفاسده، ودرؤها أولى.
نعم؛ ينبّهه بلطف على ما يقال فيه، أو يراد به؛ ليحذر.
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» بسنده؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه) - وهو الحديث المتقدّم آنفا- ورواته رواته مع اختلاف في الألفاظ- وهذا لفظ «الشمائل» :
(عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه) - أي الحال، والشأن- (كان عنده) أي: عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (رجل به أثر) أي: عليه بقيّة (صفرة) من زعفران؛ أو ورس.
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يواجه أحدا بشيء يكرهه، فلمّا قام.. قال للقوم:«لو قلتم له يدع هذه الصّفرة» .
قال الباجوريّ: (والمراد أنّه لا يكاد يواجه أحدا بمكروه غالبا، فلا ينافي ما ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنّه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين فقال: «إنّ هذين من ثياب الكفّار، فلا تلبسهما» .
(قال) أي: أنس (: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم غالبا من عادته (لا يكاد يواجه) ؛ أي: لا يقرب من أن يقابل، والمواجهة بالكلام المقابلة به لمن حضر، وهذا لتضمّنه نفي القرب من المواجهة أبلغ من قوله «لا يواجه» ، فالمعنى: لا يقرب من أن يقابل (أحدا) من المسلمين؛ بخلاف الكفّار، فكان يغلظ عليهم باللّسان والسّنان؛ امتثالا لأمر الرحمن (بشيء) من أمر؛ أو نهي (يكرهه) ذلك الأحد، فالضمير المستتر في «يكره» للأحد، والبارز للشيء. (فلمّا قام) أي: الرجل من المجلس؛ (قال) ؛ أي المصطفى صلى الله عليه وسلم (للقوم) ؛ أي: أصحابه الحاضرين في المجلس: ( «لو قلتم له يدع) - أي: يترك- (هذه الصّفرة» !!) لكان أحسن، لأن فيها نوع تشبّه بالنساء، ولعل ذلك كان مباحا، وإلّا لما أخّر أمره بتركه لمفارقة المجلس، وجواب «لو» محذوف كما قدّرناه؛ بناء على أنها شرطيّة، ويحتمل أن «لو» للتمنّي؛ فلا جواب لها. والله أعلم.
(قال) العلّامة شيخ الإسلام إبراهيم (الباجوريّ) رحمه الله تعالى في حاشيته على «الشمائل الترمذية» : (والمراد أنّه لا يكاد يواجه أحدا بمكروه غالبا، فلا ينافي) . قال ملا علي قاري في «جمع الوسائل» : وقيّدنا بغالب عادته!! لئلا ينافيه (ما ثبت) في «صحيح مسلم» وغيره (عن عبد الله بن عمرو بن العاصي) رضي الله تعالى عنهما (أنّه قال:
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ) - بتشديد المثناة التحتية- (ثوبين معصفرين؛ فقال:
وفي رواية: قلت: أغسلهما؟ قال: «بل أحرقهما» .
ولعلّ الأمر بالإحراق محمول على الزّجر.
وهذا يدلّ على ما عليه بعض العلماء من تحريم المعصفر، والجمهور
…
وفي رواية) لمسلم أيضا: رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين؛ فقال:
«أمّك أمرتك بهذا» !! (قلت: أغسلهما؟! قال: «بل احرقهما» . ولعلّ الأمر بالإحراق محمول على) التغليظ و (الزّجر) له ولغيره؛ عن تعاطي مثل هذا الفعل نظير أمر تلك المرأة التي لعنت الناقة بإرسالها، وأمر أصحاب بريرة ببيعها وأنكر عليهم اشتراط الولاء ونحو ذلك.
(وهذا) أي: النهي عن لبس المعصفر (يدلّ على ما) جرى (عليه بعض العلماء) ؛ كالحليمي وصوّبه في «الروضة» ، وجزم به في «الأنوار» ، ومال إليه في «شرح مسلم» ، ومال إليه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري؛ واعتمده ابن حجر في «التحفة» ؛ وفي «شرح بافضل» ؛ (من تحريم) لبس (المعصفر) سواء صبغ قبل نسجه؛ أم بعده- كما في «التحفة» أخذا بإطلاقهم، كما صحّت به الأحاديث، واختاره البيهقيّ وغيره، ولم يبالوا بنصّ الشافعي على حلّه؛ تقديما للعمل بوصيته بالعمل بالأحاديث الصحيحة، كما لم يبالوا بكون جمهور العلماء على حلّه المذكور في قوله:
(والجمهور) من علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ قالوا بإباحة المعصفر، وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، كما في «شرح مسلم» ؛ لكنه قال: غيره أفضل منه.
وجرى الرّملي في «النهاية» والخطيب في «المغني» «1» وغيرهما على حلّه
(1) مغني المحتاج شرح المنهاج.
على كراهته) انتهى.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدا بمكروه،..
مطلقا، أي: سواء صبغ قبل النسج؛ أم بعده!!
وجرى جماعة من العلماء (على كراهته) كراهة تنزيه، وعليه كثير من المتأخّرين أرباب الحواشي؛ كالشبراملسي، والجمل، والبجيرمي على «الإقناع» ، والباجوريّ، والشرقاوي.
قال في «شرح مسلم» : وحملوا النهي على هذا، لأنه ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لبس حلّة حمراء.
وفي «الصحيحين» ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال:
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة. وقال الخطّابي: النهي منصرف إلى ما صبغ من الثياب بعد النسج، فأمّا ما صبغ غزله ثم نسج؛ فليس بداخل في النهي.
انتهى.
وفي «الإمداد» للعلامة ابن حجر رحمه الله تعالى: ومحلّ الحرمة إذا صبغ بعد النسج لا قبله، وعليه حمل اختلاف الأحاديث في ذلك، ويحمل عليه اختلاف نصّ الشافعي
…
إلخ، وعليه جرى في «فتح الجواد» .
وأقرّ زكريا في «أسنى المطالب» أقرّ الزركشي على ذلك، لكن ردّه في «التحفة» بمخالفته لإطلاقهم الصريح في الحرمة مطلقا؛ نقله الكردي.
قال في «شرح مسلم» : وحمل بعض العلماء النهي على المحرم بالحجّ؛ أو العمرة، ليكون موافقا لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: نهى المحرم أن يلبس ثوبا مسّه ورس؛ أو زعفران، والله أعلم (انتهى) أي: كلام الباجوري رحمه الله تعالى.
(و) في «كشف الغمّة» للشعراني رحمه الله تعالى: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدا بمكروه) ؛ أي: لا يخاطبه شفاها، ويقول له في وجهه شيئا
ولا يتعرّض في وعظه لأحد معيّن، بل يتكلّم خطابا عامّا.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرّجل الشّيء.. لم يقل:
«ما بال فلان يقول؟!» . ولكن يقول: «ما بال أقوام يقولون..
كذا وكذا؟!» .
وكانت معاتبته صلى الله عليه وسلم تعريضا: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى..؟!»
…
يكرهه. (ولا يتعرّض في وعظه لأحد معيّن، بل يتكلّم خطابا عامّا) ، لحصول الفائدة فيه لكل سامع، مع ما فيه من حصول المواراة والستر عن الفاعل وتأليف القلوب.
(و) أخرج أبو داود بإسناد صحيح؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرّجل) ، ذكر الرجل وصف طرديّ؛ والمراد الإنسان (الشّيء) الّذي يكرهه (لم يقل ما بال فلان) باسمه المعيّن (يقول) كذا، والظاهر أن المراد بالقول ما يشمل الفعل، (ولكن) استدراك أفاد أن من شأنه ألايشافه أحدا معيّنا حياء منه، بل (يقول) منكرا عليه ذلك (:«ما بال أقوام) - أي: ما شأنهم- (يقولون.. كذا وكذا» ) إشارة إلى ما أنكره؛ وهذا هو المعروف من خطبه صلى الله عليه وسلم أنّه إذا كره شيئا فخطب له؛ ذكر كراهيته، ولا يعيّن فاعله.
وهذا من عظيم خلقه صلى الله عليه وسلم، فإن المقصود من ذلك الشخص وجميع الحاضرين وغيرهم ممن يبلغه ذلك، ولا يحصل توبيخ صاحبه في الملأ. انتهى «شرح مسلم» .
(وكانت معاتبته صلى الله عليه وسلم تعريضا) ، وهو أبلغ وأعمّ نفعا، كقوله في حقّ موالي بريرة حين اشترطوا الولاء لهم (: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى..!؟) - أي: ليس لها أصل في كتاب الله تعالى- ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل؛ وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحقّ،
ونحو ذلك. وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى إنسانا يفعل ما لا يليق.. لم يدع أحدا يبادر إلى الإنكار عليه حتّى يتثبّت في أمره، ويعلّمه الأدب برفق.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يأخذ بالقرف، ولا يقبل قول أحد على أحد.
وشرط الله أوثق، ما بال رجال منكم يقول أحدهم «أعتق فلانا والولاء لي! إنّما الولاء لمن أعتق؟!» . ذكره في «الصحيحين» . وهذا لفظ مسلم.
(ونحو ذلك) ؛ كقوله في حقّ النفر الذين سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السرّ، فقال بعضهم: لا أتزوّج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه، فقال:
«ما بال أقوام قالوا كذا وكذا!!. لكنّي: «أصلّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» . ذكره مسلم.
(و) في «كشف الغمة» للشعراني رحمه الله تعالى:
(كان صلى الله عليه وسلم إذا رأى إنسانا يفعل ما لا يليق لم يدع أحدا) من الناس (يبادر إلى الإنكار عليه حتّى يتثبّت في أمره، ويعلّمه الأدب برفق) ، وهذا من عظيم خلقه صلى الله عليه وسلم.
(و) أخرج أبو داود في «مراسيله» ؛ عن الحسن بن علي، وأبو نعيم في «الحلية» بإسناد ضعيف:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ) أحدا (بالقرف) - بفتح القاف وسكون الراء وفاء- أي: بالتهمة، والأخذ مجاز عن العقوبة، من: أخذه السلطان: إذا حبسه وجازاه على ما صدر منه.
(ولا يقبل قول أحد على أحد) ؛ أي: لا يقبل كلام أحد في حقّ أحد، سواء ترتّبت عليه المؤاخذة؛ أم لا، فهو تعميم بعد تخصيص.
و (القرف) : التّهمة.
وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول: «لا تبلّغوني عن أصحابي إلّا خيرا، فإنّي أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصّدر» .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره.. قال: «بشّروا ولا تنفّروا، ويسّروا ولا تعسّروا» .
وذلك وقوفا مع العدل، لأن ما يترتّب عليه موقوف على ثبوته عنده بطريقه المعتبر.
(والقرف) - بفتح القاف وسكون الراء وآخره فاء- هو (: التّهمة) وإسناد الذنب لغيره.
(و) في «كشف الغمة» ك «الإحياء» : (كان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول:
«لا تبلّغوني عن أصحابي إلّا خيرا) . هذا نهي عامّ عن الغيبة والنميمة، ونقل ما يكره نقله من قول؛ أو فعل؛ أو ترك.
(فإنّي أحبّ أن أخرج إليكم؛ وأنا سليم الصّدر» ) سلامة الصدر كناية عن كونه ليس في قلبه بغض لأحد، ولا غضبان على أحد. قال العراقي: رواه أبو داود، والترمذيّ؛ من حديث ابن مسعود، وقال: غريب من هذا الوجه. ورواه كذلك أحمد، والبيهقيّ. انتهى «شرح الإحياء» .
(و) أخرج مسلم في «صحيحه» في «المغازي» ، وأبو داود في «الأدب» ؛ عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث) أي: أرسل (أحدا من أصحابه في بعض أمره) أي: مصالحه كأن أمّره على جيش أمره بالتسهيل على الناس وعدم التشديد المقتضي لتنفيرهم، (قال:«بشّروا ولا تنفّروا، ويسّروا، ولا تعسّروا» ) «1» أي: سهّلوا الأمور، ولا تنفّروا الناس بالتعسير والتشديد.
(1) انظر ما عن هذا الحديث في المجلد الرابع من هذا الكتاب فصل: (حرف الباء) .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا لقي أصحابه.. لم يصافحهم حتّى يسلّم عليهم.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا لقي أحدا من أصحابه.. صافحه، ثمّ أخذ بيده فشابكه، ثمّ شدّ قبضته عليها.
لأن من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنّه ما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فينبغي لأمّته أن يتخلّقوا بأخلاقه، وفي مقدّمتهم أصحابه صلى الله عليه وسلم.
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» ؛ عن جندب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي أصحابه لم يصافحهم حتّى يسلّم عليهم) ؛ تعليما لمعالم الديانة ورسوم الشريعة، وحثّا لهم على لزوم ما خصّت به هذه الأمة من هذه التحية العظمى التي هي تحيّة أهل الجنة في الجنة؛ فيندب تقديم السلام على المصافحة.
(و) في «كشف الغمة» ك «الإحياء» : (كان صلى الله عليه وسلم إذا لقي أحدا من أصحابه صافحه، ثمّ أخذ بيده فشابكه، ثمّ شدّ قبضته عليها) أي: على يده.
قال بعض الشيوخ: أراد بذلك زيادة المحبّة، وتأكّدها؛ قاله في «شرح الإحياء» .
قال ملا علي قاري في «شرح الشفاء» : صفة المصافحة وضع بطن الكفّ على بطن أخرى عند التلاقي مع ملازمة ذلك على قدر ما يقع من السلام، أو من السؤال والكلام إن عرض لها، وأما اختلاف اليد في أثر التلاقي؛ فهو مكروه. انتهى.
وقال في «شرح الإحياء» : روى أبو داود؛ من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وسأله رجل من عنزة: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قطّ إلّا صافحني
…
الحديث.
وروّينا في «علوم الحديث» للحاكم؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه..
قام معه، ولم ينصرف حتّى يكون الرّجل هو الّذي ينصرف عنه، وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده.. ناوله إيّاها، فلم ينزع يده منه حتّى يكون الرّجل هو الّذي ينزع يده منه، وإذا لقي أحدا من أصحابه فتناول أذنه- أي: ليكلّمه سرّا-.. ناوله إيّاها؛ ثمّ لم ينزعها عنه حتّى يكون الرّجل هو الّذي ينزعها عنه؛ أي: لا ينحّي أذنه عن فمه حتّى يفرغ الرّجل من حديثه.
وهو عند مسلم بلفظ: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي.
وقد وقع لنا مسلسلا بالمشابكة، كما وقع لنا في بعض طرق المصافحة؛ مسلسلا بقبض اليد. انتهى.
(و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقيه أحد من أصحابه فقام) أي: ذلك الصحابي؛ أي: وقف (معه) أي: مع النبي صلى الله عليه وسلم (قام) أي: وقف النبي صلى الله عليه وسلم (معه) ؛ أي:
مع ذلك الصحابي (ولم ينصرف) صلى الله عليه وسلم، ويهمله، (حتّى يكون الرّجل هو الّذي ينصرف عنه) صلى الله عليه وسلم، وذلك من كمال الرّفق بأصحابه.
(وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول) ؛ أي: ذلك الصحابي (يده) صلى الله عليه وسلم ليصافحه (ناوله إيّاها، فلم ينزع يده منه) ؛ وإن طال الزمن، (حتّى يكون الرّجل هو الذي ينزع يده منه) صلى الله عليه وسلم. زاد ابن المبارك في رواية أنس: ولا يصرف وجهه عن وجهه حتّى يكون الرجل هو الذي يصرفه.
(وإذا لقي أحدا من أصحابه فتناول) ؛ أي: ذلك الصحابي (أذنه) صلى الله عليه وسلم (أي) قرّب فمه منها (ليكلّمه سرّا) ؛ قاله العزيزي، (ناوله إيّاها؛ ثمّ لم ينزعها عنه حتّى يكون الرّجل هو الّذي ينزعها عنه) .
قال في العزيزي: (أي لا ينحّي أذنيه) صلى الله عليه وسلم (عن فمه) ؛ أي: الرجل (حتّى يفرغ) ذلك (الرّجل من حديثه) على الوجه الأكمل، وهذا من أعظم الأدلّة على
وكان صلى الله عليه وسلم إذا لقيه الرّجل من أصحابه.. مسحه ودعا له.
محاسن أخلاقه وكماله صلى الله عليه وسلم؛ كيف وهو سيّد المتواضعين، وهو القائل «وخالق النّاس بخلق حسن» !!؟
فائدة: سئل العلّامة المحقّق برهان الدين إبراهيم بن حسن الكوراني المدني رحمه الله تعالى عمّا اعتاده المصلّون جماعة في المساجد وغيرها من المصافحة خلف الصّلوات المكتوبة؟
فأجاب بما ملخّصه: بأن الإمام النووي استفتي فيها ففصّل فيها وأجاد، فقال ما معناه: المتصافحان إن لم يلتقيا قبل الدخول في الصلاة؛ فالمصافحة مشروعة على أصلها، لأنّ أوّل اللقاء بعد السلام، وإن التقيا قبله!! فهي بدعة مباحة؛ كما قيل. انتهى. والله أعلم.
(و) أخرج النسائي- بإسناد حسن؛ كما قال العزيزي- عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان صلى الله عليه وسلم إذا لقيه الرّجل من أصحابه مسحه) ؛ أي: مسح يده بيده- يعني صافحه- (ودعا له) .
قال المناوي: تمسّك مالك بهذا وما أشبهه على كراهة معانقة القادم وتقبيل يده.
وقد ناظر ابن عيينة مالكا، واحتجّ عليه سفيان بأن المصطفى صلى الله عليه وسلم لمّا قدم جعفر من الحبشة خرج إليه فعانقه. فقال مالك: ذاك خاصّ بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فقال له سفيان: ما نخصّه بفهمنا!! انتهى.
قال الخفاجي في «شرح الشفاء» : والمصافحة سنّة عند التلاقي، وفي الحديث:«تمام تحيّتكم بينكم المصافحة» . وكانت الصحابة رضوان الله عليهم تفعلها، وإذا قدموا من سفر تعانقوا.
وكانت الصحابة رضي الله عنهم تقبّل يده أيضا، وهي مستحبّة للكبير، وكرّهها
وكان صلى الله عليه وسلم لا يدعوه أحد من أصحابه، أو غيرهم.. إلّا قال صلى الله عليه وسلم:«لبّيك» .
مالك. أمّا إذا كان على وجه التّكبّر؛ فتكره. وقال النووي: إنّه مستحبّ أيضا لأهل الشرف والصلاح، وأمّا لأهل الدنيا! فمكروه.
وقال فقهاؤنا- أي: الحنفية-: لا بأس بالمصافحة، لأنها سنّة متوارثة، لما ورد في الحديث أيضا:«تصافحوا» .
وأمّا بعد صلاة الجمعة والعيد!! فقالوا: إنّه بدعة، وهو من فعل المشايخ، كأنّهم كانوا في الصلاة غائبين عمّن حضرهم، ومن كان هذا حاله لا يكره منه.
انتهى «كلام الشهاب الخفاجي رحمه الله تعالى» .
(و) في «الإحياء» و «كشف الغمّة» للشعراني:
(كان صلى الله عليه وسلم لا يدعوه أحد من أصحابه، أو غيرهم؛ إلّا قال صلى الله عليه وسلم: «لبّيك» ) ، ظاهره أنه جوابه دائما، ويحتمل أنّه كناية عن سرعة الجواب مع التعظيم؛ قاله الزرقاني.
و «لبّيك» كلمة يجاب بها المنادي، فالتلبية إجابة المنادي من دعاه؛ من «لبّ» و «ألب» : إذا أقام بمكان ولم يفارقه، فكأنّه يقول: أنا ثابت على إجابتك.
ولا تستعمل إلّا بلفظ التثنية، كأنّه قال إجابة بعد إجابة! والمراد التكثير، لقوله تعالى ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [4/ الملك] ، وهو منصوب على المصدرية بعامل لا يظهر، وتغلب إضافته لضمير المخاطب، وقد يضاف لغيره؛ كما فصّله النّحاة.
ولا يجاب به إلّا من يعتنى بإجابته وتعظيمه، ولذا يقوله الحاج.
ففي إجابة المصطفى صلى الله عليه وسلم أتباعه بذلك رعاية مقامهم وتعظيمهم، وهو من خلقه العظيم؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب القادم ب «مرحبا» كقوله:«مرحبا بأمّ هانىء» . انتهى من الشهاب الخفاجي على «الشفاء» .
وكان صلى الله عليه وسلم يكنّي أصحابه ويدعوهم بالكنى، وبأحبّ أسمائهم؛ إكراما لهم، واستمالة لقلوبهم، ويكنّي من لم تكن له كنية،
…
قال العراقيّ: رواه أبو نعيم في «دلائل النبوة» بسند واه؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.
قال في «شرح الإحياء» : لفظ أبي نعيم في «الدلائل» : ما كان أحسن خلقا منه، ما دعاه أحد من أصحابه إلّا قال «لبّيك» !! انتهى.
(و) في «كشف الغمّة» للإمام الشعراني ك «الإحياء» للإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (كان صلى الله عليه وسلم يكنّي) - بتشديد النون- (أصحابه) أي: يجعل لهم كنى جمع كنية؛ ك «أبي تراب» و «أبي هريرة» و «أم سلمة» ، (ويدعوهم) أي: يناديهم (بالكنى، و) يدعوهم (بأحبّ أسمائهم) أي: تارة، أو المراد من الأسماء ما يعمّ الأعلام والألقاب والكنى، والمعنى: أنّه لا ينبزهم بما يكرهونه، بل يدعوهم بما يحبّونه؛ (إكراما لهم) أي: يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم لأجل إكرامهم وتعظيمهم؛ تلطّفا بهم. (واستمالة لقلوبهم) ، فإنّ نداء المرء بكنيته تعظيم.
وفي «الصحيحين» ؛ في قصّة الغار؛ من حديث أبي بكر: «يا أبا بكر؛ ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» . ولأبي يعلى الموصلي؛ من حديث سعد بن أبي وقّاص؛ فقال «من هذا؛ أبو إسحاق» ؟! فقلت: نعم.
(ويكنّي من لم تكن له كنية) بأكبر أولاده، وتارة؛ وإن لم يولد له، فكان يدعى بما كنّاه به؛ تبركا بكنيته الشريفة.
روى الحاكم؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال لعمر:
«يا أبا حفص؛ أيضرب وجه عمّ رسول الله» !! صلى الله عليه وسلم. قال عمر: إنّه لأوّل يوم كنّاني فيه ب «أبي حفص» . وقال: صحيح على شرط مسلم.
وفي «الصحيح» : أنّه قال لعلي: «يا أبا تراب» . وللحاكم؛ من حديث رفاعة بن مالك: «إنّ أبا حسن وجد مغصا في بطنه
…
» الحديث. يريد عليّا.
ويكنّي النّساء اللّاتي لهنّ الأولاد، واللّاتي لم يلدن؛ يبتدىء لهنّ الكنى، ويكنّي الصّبيان، فيستلين به قلوبهم.
وله أيضا؛ من حديث ابن مسعود: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كنّاه «أبا عبد الرحمن» ؛ ولم يولد له.
وأخرج الطبرانيّ؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنّاني النبي صلى الله عليه وسلم «أبا عبد الرحمن» قبل أن يولد لي. وسنده صحيح.
وروى الترمذيّ؛ من حديث أنس قال: كنّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم: ب «بقلة» كنت أجتنيها- يعني «أبا حمزة» ، وقال: حديث غريب.
ولابن ماجه: إنّ عمر قال لصهيب مالك! تكتني وليس لك ولد؟! قال:
كنّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ب «أبي يحيى» .
وللطبراني؛ من حديث أبي بكرة: تدلّيت ب «بكرة» من حصن الطائف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«فأنت أبو بكرة» .
(و) كان صلى الله عليه وسلم (يكنّي النّساء اللّاتي لهنّ الأولاد، واللّاتي لم يلدن؛ يبتدىء لهنّ الكنى) . روى الحاكم؛ من حديث أمّ أيمن؛ في قصة شربها بول النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«يا أمّ أيمن» قومي إلى تلك الفخّارة
…
الحديث.
ولابن ماجه؛ من حديث عائشة رضي الله عنها أنّها قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: كلّ أزواجك كنّيت غيري!! قال: «فأنت أمّ عبد الله» وفيه «مولى الزبير» ؛ لم يسمّ!! وروى أبو داود بإسناد صحيح نحوه.
(ويكنّي الصّبيان، فيستلين به قلوبهم) ففي البخاريّ؛ من حديث أمّ خالد أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «يا أمّ خالد؛ هذا سناه» ! وكانت صغيرة.
وفي «الصحيحين» ؛ من حديث أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخ له صغير:
يا أبا عمير؛ ما فعل النّغير» ؟.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا مرّ على الصّبيان.. سلّم عليهم، ثمّ باسطهم. وكان صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر.. تلقّي بصبيان أهل بيته.
وفيه دليل على جواز تكنية من لا ولد له على عادة العرب؛ تفاؤلا بأن يعمّر ويرزق أولادا؛ خلافا لمن منع ذلك، وقال: إنّه خلاف الواقع؛ فهو كذب.
وعن بعض السلف: بادروا أولادكم بالكنى قبل أن تغلب عليهم الألقاب، وكره بعضهم تكنية المرء نفسه إلا لقصد التّعريف.
وقال النوويّ: يجوز تكنية الكافر بشرطين:
الأول: ألايعرف إلا بكنيته.
الثاني: أن يخاف من ذكر اسمه فتنة، فالأول ك «أبي طالب» ، والثاني ك «أبي حباب» لابن سلول! وفيه نظر. وقد تكون لأمر آخر ك «أبي لهب» ، فإنه إشارة إلى أنّه جهنّميّ. وقيل: كنّي بذلك!! لحسن وجهه. والله أعلم؛ ذكره الشهاب الخفاجي في «شرح الشفاء» .
(و) في «كشف الغمّة» و «الإحياء» : (كان صلى الله عليه وسلم إذا مرّ على الصّبيان) وهم يلعبون (سلّم عليهم) فيردّون عليه، (ثمّ باسطهم) ؛ بنحو مسح رؤوسهم.
قال في «شرح الإحياء» : رواه الترمذي، من حديث أنس بدون قوله «ثم باسطهم» .
وروى البخاريّ بلفظ: إنّه صلى الله عليه وسلم مرّ على صبيان؛ فسلّم عليهم.
وروى النسائي؛ من حديثه: كان يزور الأنصار ويسلّم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم. انتهى.
(و) أخرج الإمام أحمد، ومسلم في «الفضائل» ، وأبو داود في «الجهاد» ؛ عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقّي) - فعل ماض مجهول من التلقي- (بصبيان أهل بيته) ، وإنّه قدم مرّة من سفر فسبق بي إليه؛ فحملني بين
وكان صلى الله عليه وسلم أرحم النّاس بالصّبيان والعيال.
وكان صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصّبيان فيبرّك عليهم،
…
يديه «1» ، ثم جيء بأحد ابني فاطمة إمّا حسن؛ وإمّا حسين؛ فأردفه خلفه، فدخلنا المدينة ثلاثة على دابّة.
وفي «الصحيحين» أنّ عبد الله بن جعفر؛ قال لابن الزبير: أتذكر حين تلقّينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت؟! قال: نعم، فحملنا وتركك!. هذا لفظ مسلم، وقال:
أي: البخاريّ: إنّ ابن الزبير قال لابن جعفر. والله أعلم.
قال الإمام النوويّ: هذه سنّة مستحبّة أن يتلقّى الصبيان المسافر، وأن يركبهم، وأن يردفهم ويلاطفهم أي: لا كما فعل أهل التكبّر من التباعد عن الأطفال وزجرهم، إذ المطلوب ملاطفتهم؛ وإن بلغ الشخص ما بلغ للتواضع. انتهى نقله الحفني على «الجامع الصغير» .
(و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن أنس رضي الله عنه قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم النّاس بالصّبيان، والعيال) .
قال النووي: وهذا هو المشهور. وروي: «بالعباد» !! وكلّ منهما صحيح واقع، والعيال أهل البيت ومن يمونه الإنسان.
قال الزين العراقيّ: روّينا في «فوائد أبي الدحداح» ؛ عن علي رضي الله عنه:
كان أرحم النّاس بالناس. انتهى «مناوي» . وقد تقدّم.
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وأبو داود؛ عن عائشة رضي الله عنها إلّا التحنيك؛ فليس في البخاري- قالت:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصّبيان فيبرّك عليهم) أي: يدعو لهم بالبركة؛ ويقرأ عليهم الدعاء بالبركة، ذكره القاضي. وقيل: يقول «بارك الله عليكم» .
(1) على الدابة.
ويحنّكهم، ويدعو لهم.
وكان صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، ويسلّم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم.
وقال الزمخشري: بارك الله فيه، وبارك له، وبارك عليه، وباركه، وبرّك على الطعام، وبرّك فيه؛ إذا دعا له بالبركة. قال الطّيبيّ: و «بارك عليه» أبلغ، فإنّ فيه تصويب البركات وإفاضتها من السماء. (ويحنّكهم) ؛ بنحو تمر من تمر المدينة المشهود له بالبركة ومزيد الفضل. قال النّووي رحمه الله تعالى: اتفق العلماء على استحباب تحنيك المولود يوم ولادته بتمر، فإن تعذّر فما في معناه، أو قريب منه من الحلو، فيمضغ المحنّك التمرة حتّى تصير مائعة بحيث تبتلع، ثم يفتح فم المولود ويضعها فيه؛ ليدخل منها شيء جوفه. ويستحبّ أن يكون المحنّك من الصالحين، وممّن يتبرّك به؛ رجلا كان، أو امرأة. فإن لم يكن حاضرا عند المولود؟ حمل إليه.
(ويدعو لهم) بالإمداد والإسعاد، والهداية إلى طرق الرشاد.
(و) أخرج الترمذي، والنسائي، وابن حبّان؛ عن أنس رضي الله عنه، وهو حديث صحيح؛ كما قال العراقي في «أماليه» . قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، ويسلّم على صبيانهم) ، فيه ردّ على منع الحسن «1» التسليم على الصبيان (ويمسح رؤوسهم) ؛ أي: كان له اعتناء بفعل ذلك معهم أكثر منه مع غيرهم، وإلّا! فهو كان يفعل ذلك مع غيرهم أيضا. وكان يتعهّد أصحابه جميعا، ويزورهم. قال ابن حجر: هذا مشعر بوقوع ذلك منه غير مرّة. أي: فالاستدلال به على مشروعية السلام على الصبيان أولى من استدلال البعض بحديث «مرّ على صبيان فسلّم عليهم» فإنّها واقعة حال.
قال ابن بطّال: وفي السلام على الصبيان تدريبهم على آداب الشريعة، وطرح الأكابر رداء الكبر، وسلوك التواضع ولين الجانب. نعم؛ لا يشرع السلام على
(1) لعله البصري!!
وعن يوسف بن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنهما قال:
سمّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم «يوسف» ، وأقعدني في حجره، ومسح على رأسي.
الصبي الوضيء، سيّما إن راهق. انتهى؛ ذكره المناوي في «كبيره» .
(و) أخرج الإمام أحمد، والترمذي في «الشمائل» :(عن يوسف بن عبد الله بن سلام) - بفتح السين وتخفيف اللام- الإسرائيلي المدني، أبو يعقوب صحابيّ صغير؛ وأبوه صحابيّ كبير- وقد تقدّمت ترجمتهما- (رضي الله تعالى عنهما؛ قال) أي يوسف (: سمّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم «يوسف» ، وأقعدني في حجره) . قال الباجوري- بفتح الحاء وكسرها- والمراد به حجر الثوب؛ وهو طرفه المقدّم منه، لأن الصغير يوضع فيه عادة، ويطلق على المنع من التصرّف، وعلى الأنثى من الخيل، وعلى حجر ثمود، وعلى حجر إسماعيل
…
وغير ذلك مما هو في قول بعضهم:
ركبت حجرا وطفت البيت خلف الحجر
…
وحزت حجرا عظيما ما دخلت الحجر
لله حجر منعني من دخول الحجر
…
ما قلت حجرا ولو أعطيت ملء الحجر «1»
(ومسح على رأسي) . زاد الطبراني: ودعا لي بالبركة. وفي الحديث: بيان تواضعه، وكمال رحمته، ومحاسن أخلاقه. وفيه: أنّه يسنّ لمن يقتدى به؛ ويتبرّك به تسمية أولاد أصحابه، وتحسين الاسم، وأن أسماء الأنبياء من
(1)(ركبت حجرا) ؛ فرسا أنثى (وطفت البيت خلف الحجر) ؛ حجر سيّدنا إسماعيل، والطواف يكون خلفه؛ لأنّه من الكعبة، داخل في أصل بناءها، (وحزت حجرا عظيما) ؛ الحجر هنا: العقل؛ أي: أعطيت عقلا عظيما (ما دخلت الحجر) ؛ أي: حجر سيّدنا إسماعيل. (لله حجر) ؛ أي: منع، فالحجر أيضا: المنع (منعني من دخول الحجر) ؛ حجر سيّدنا إسماعيل؛ وسبب الحجر- أي: المنع- سبق، وهو كونه من الكعبة. (ما قلت حجرا) ؛ أي: حراما؛ فالحجر والحجر والحجر والمحجر، كلّ ذلك: الحرام- والكسر أفصح- (ولو أعطيت ملء الحجر) ؛ أي: ما قلت حراما ولو أعطيت خيرات كثيرة. والبيتان من البحر البسيط. وإنّما سكّنت الراء، وحرّكت الجيم بالكسر في كلمة (حجر) في رويّ وقافية البيتين؛ لأجل الوزن.
وكان صلى الله عليه وسلم يلاعب زينب بنت أمّ سلمة، ويقول:
«يا زوينب؛ يا زوينب» (مرارا) .
وكان صلى الله عليه وسلم يركب الحسن والحسين على ظهره، ويمشي على يديه ورجليه، ويقول:«نعم الجمل جملكما، ونعم العدلان أنتما» ، وربّما فعل ذلك بينهما، وهما على الأرض.
ودخل الحسن- وهو صلى الله عليه وسلم قد سجد- فركب على ظهره، فأبطأ في سجوده حتّى نزل الحسن، فلمّا فرغ.. قال له بعض أصحابه:
…
الأسماء الحسنة، ووصفه بالحجر؛ قاله المناوي.
(و) أخرج الضياء المقدسيّ في «المختارة» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه وهو حديث صحيح؛ كما في العزيزي- قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاعب زينب بنت أمّ سلمة) زوجته صلى الله عليه وسلم، وزينب بنتها من أبي سلمة، فهي «ربيبته صلى الله عليه وسلم» ؛ أي: بنت زوجته (ويقول: «يا زوينب..
يا زوينب) - بالتصغير- (مرارا) ، لأنّ الله جبله على التواضع والإيناس، وطهّر قلبه من الكبر والفحش؛ بشقّ الملائكة صدره المرّات العديدة عند تقلبه في الأطوار المختلفة، وإخراج ما في قلبه ممّا جبل عليه النوع الإنساني، وغسله وامتلائه من الحكم والعلوم.
(و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان صلى الله عليه وسلم يركب الحسن والحسين على ظهره، ويمشي على يديه ورجليه، ويقول: «نعم الجمل جملكما، ونعم العدلان أنتما» . وربّما فعل ذلك بينهما، وهما على الأرض!) لم أقف على من خرّجه!!
(و) في «المواهب اللّدنّية» للعلامة القسطلّاني: (دخل الحسن) بن عليّ رضي الله تعالى عنهما (وهو صلى الله عليه وسلم يصلّي (قد سجد، فركب على ظهره؛ فأبطأ في سجوده حتّى نزل الحسن، فلمّا فرغ؛ قال له بعض أصحابه:
يا رسول الله؛ قد أطلت سجودك؟
قال: «إنّ ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله» ؛ أي: جعلني كالرّاحلة، فركب على ظهري.
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي والحسن والحسين يلعبان ويقعدان على ظهره.
يا رسول الله؛ قد أطلت سجودك؟! قال: «إنّ ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله» «1» ؛ أي: جعلني كالرّاحلة؛ فركب على ظهري) .
في «جمع الفوائد» للرداني رحمه الله تعالى ما نصّه:
عبد الله بن شدّاد عن أبيه: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشيّ؛ وهو حامل حسنا؛ أو حسينا. فتقدّم صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثمّ كبّر للصّلاة، فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها؛ فرفعت رأسي؛ فإذا الصبيّ على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى الصلاة؛ قال النّاس:
يا رسول الله؛ إنّك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها؛ حتّى ظننّا أنّه قد حدث أمر!! وأنّه يوحى إليك!! قال: «كلّ ذلك لم يكن، ولكنّ ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتّى يقضي حاجته» . للنسائي رحمه الله تعالى.
وفي «الإصابة» لابن حجر رحمه الله تعالى في ترجمة الحسن؛ عن عبد الله بن الزبير قال: رأيت الحسن يجيء والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد؛ فيركب رقبته- أو قال: ظهره- فما ينزله حتّى يكون هو الذي ينزل، ولقد رأيته يجيء؛ وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتّى يخرج من الجانب الآخر.
(و) أخرج أبو نعيم في «الحلية» بإسناد حسن؛ (عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي والحسن والحسين يلعبان ويقعدان على ظهره) في
(1) أعجله: أستحثّه على العجلة- بفتح الهمزة والجيم-.
وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بيد الحسن بن عليّ، ووضع رجليه على ركبتيه وهو يقول: «ترقّ.. ترقّ، عين بقّه
…
حزقّة حزقّه» .
قال في «لسان العرب» :
…
حال السجود، وكان يطيل السّجود لطفا بهما.
ولا يقال «إن هذه الحالة تنافي كمال الخشوع المطلوب» !! لأنّه صلى الله عليه وسلم أكمل النّاس خشوعا وحضورا بقلبه مع ربّه؛ وإن كان ظاهره مع الخلق، كما أنّ خلفاءه كذلك فلا حاجة للجواب: بأنّ ذلك للتشريع؛ قاله الحفني في «حاشية الجامع الصغير» .
(و) في «كشف الغمّة» للإمام الشعراني رحمه الله تعالى:
(كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه؛ يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بيد الحسن) السّبط (بن عليّ) بن أبي طالب (ووضع رجليه) - أي: رجلي الحسن (على ركبتيه) صلى الله عليه وسلم (وهو يقول: «ترقّ.. ترقّ) - أي: اصعد- (عين بقّه) - بفتح الباء الموحّدة، وتشديد القاف- (حزقّة) - بضمّ الحاء المهملة والزاي، وتشديد القاف؛ مرفوع على أنّه خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنت حزقّه-.
و (حزقّه) الثاني كذلك، أو أنّه خبر مكرّر، ومن لم ينوّن «حزقة» أراد «يا حزقه» فحذف حرف النداء؛ وهو من الشذوذ، كقولهم «أطرق كرا» ؛ لأن حرف النداء إنما يحذف مع العلم المضموم، أو المضاف؛ قاله في «النهاية» .
(قال) أي: الإمام العلّامة اللغوي الحجّة: أبو الفضل جمال الدين محمد ابن الإمام جلال الدين أبي العزّ مكرم ابن الشيخ نجيب الدين المعروف ب «ابن منظور» الأنصاري الخزرجي، الإفريقي المصري، المولود سنة: 630، والمتوفى سنة:
711، هجرية رحمه الله تعالى (في) كتاب ( «لسان العرب» ) في مادة حزق:
(وفي الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرقّص الحسن أو الحسين؛ ويقول: «حزقّة.. حزقّه، ترقّ عين بقّه» .
(الحزقّة) : الضّعيف الّذي يقارب خطوه من ضعف، فكان يرقى حتّى يضع قدميه على صدر النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الأثير: ذكرها له على سبيل المداعبة والتّأنيس له.
و (ترقّ) بمعنى: اصعد.
و (عين بقّة) : كناية عن صغر العين) انتهى.
(وفي الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرقّص) - بالتثقيل- (الحسن، أو الحسين) - بالشكّ- (ويقول) في حال ترقيصهما- (: «حزقّة) - بالتنوين والرفع- (حزقّة) - ينبغي أن يقرأ بالوقف على الهاء لأجل السّجع- (ترقّ) - بتشديد القاف؛ أي: اصعد- (عين بقّه» ) - بالوقف على الهاء.
(الحزقّه) بوزن عتلّه (: الضّعيف الّذي يقارب خطوه من ضعف) في بدنه، وقيل: القصير العظيم البطن، (فكان) الغلام (يرقى حتّى يضع قدميه على صدر النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
(قال) العلّامة الحافظ مجد الدين (ابن الأثير) أبو السعادات: مبارك بن أبي الكرم؛ محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، المولود سنة: 544، المتوفى سنة: 606 رحمه الله تعالى.
قال في «كتاب النهاية» : (ذكرها)، أي: هذه الكلمات (له) أي: للغلام (على سبيل المداعبة) : الملاعبة (والتّأنيس له.
وترقّ) : فعل أمر (بمعنى اصعد) ؛ من الصعود، أي: العلوّ (وعين بقّة:
كناية عن صغر العين. انتهى) أي: كلام «لسان العرب» ملخصا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألّف أهل الشّرف بالإحسان إليهم، وكان يكرم ذوي رحمه، ويصلهم من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم.
وكان صلى الله عليه وسلم يكرم بني هاشم.
وكان صلى الله عليه وسلم من أشدّ النّاس لطفا بالعبّاس.
(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني ك «الإحياء» للإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألّف أهل الشّرف بالإحسان إليهم) . روى الترمذيّ في «الشمائل» ؛ من حديث عليّ الطويل؛ في صفته صلى الله عليه وسلم: وكان من سيرته إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، وفيه: ويؤلّفهم ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كلّ قوم، ويولّيه عليهم
…
الحديث المتقدّم.
وللطبرانيّ؛ من حديث جرير في قصة إسلامه: فألقى إليّ كساء، ثم أقبل على أصحابه؛ ثم قال:«إذا أتاكم كريم قوم؛ فأكرموه» . ورواه الحاكم؛ من حديث معبد بن خالد الأنصاري نحوه؛ وقال: صحيح الإسناد.
(وكان يكرم ذوي رحمه ويصلهم) ؛ أي: يحسن إليهم ويعطف عليهم، وإن بعدوا عنه، أو أساؤا إليه (من غير أن يؤثرهم) أي: يخصّهم ويقدّمهم (على من هو أفضل منهم) من الناس؛ عدلا منه، وإعطاء لكل ذي حقّ حقّه، وهذا أيضا من حسن العهد.
(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي؛ ورمز برمز الخطيب: (كان صلى الله عليه وسلم يكرم بني هاشم) .
(و) في «كنوز الحقائق» أيضا؛ ورمز له ابن عساكر: (كان صلى الله عليه وسلم من أشدّ النّاس لطفا بالعبّاس) .
وكان صلى الله عليه وسلم يجلّ العبّاس إجلال الولد للوالد.
وكان صلى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسّلام،
…
وروى الحاكم في «الفضائل» ، وكذا ابن حبّان في «صحيحه» ؛ عن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه أنّه صلى الله عليه وسلم كان يرى للعبّاس ما يرى الولد لوالده؛ يعظّمه ويفخّمه ويبرّ قسمه. قال المناوي:
وأصل هذا أنّ عمر لما أراد أن يستسقي عام الرّمادة خطب؛ فقال: أيّها النّاس؛ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعبّاس ما يرى الولد لوالده، فاقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم! واتّخذوا العبّاس وسيلة إلى الله تعالى، فما برحوا حتّى سقاهم الله تعالى.
(و) أخرج الحاكم في (المناقب) ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما- وقال: صحيح، وأقرّه الذهبي- أنّه (كان صلى الله عليه وسلم يجلّ العبّاس) عمّه (إجلال الولد للوالد) ؛ لأنّه في مقام الأب، لكونهما من أصل واحد، ولذا كان صلى الله عليه وسلم يقول:
«إنّما عمّ الرّجل صنو أبيه» أي: فهو كصنو النخلة في كونها من أصل واحد، فهو بمنزلة الوالد في التعظيم والتوقير والإكرام.
وتمام الحديث؛ كما في «المستدرك» : خاصّة خصّ الله بها العبّاس من بين النّاس» .
(و) في «الإحياء» : (كان صلى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسّلام)«من» تفيد العموم، أي: كلّ أحد لقيه؛ صغيرا أو كبيرا من المسلمين! إلّا في مواضع لا يستحبّ السّلام فيها، وأما الكفرة! فلا يسلّم عليهم، وجوّز بعضهم ابتداءهم بالسّلام أيضا؛ قاله الخفاجي.
وهذه السّنّة أفضل من الفريضة، لما فيه من التواضع والتسبّب لأداء الواجب.
وهذا رواه الترمذيّ؛ من حديث هند بن أبي هالة: يسوق أصحابه ويبدأ من لقيه بالسّلام.
وإذا أخذ بيده.. سايره حتّى يكون ذلك هو المنصرف.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا ودّع رجلا.. أخذ بيده، فلا ينزعها حتّى يكون الرّجل هو الّذي يدع يده، ويقول:«أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك» .
وكان صلى الله عليه وسلم لا يجلس إليه أحد وهو يصلّي.. إلّا
(وإذا أخذ بيده سايره حتّى يكون ذلك هو المنصرف) .
روى ابن ماجه؛ من حديث أنس رضي الله عنه: كان إذا لقي الرّجل فكلّمه لم يصرف وجهه حتّى يكون هو المنصرف. وقد مرّت أحاديث نحو هذا.
(و) أخرج الإمام أحمد، والترمذيّ، في «الدعوات» ، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم في «الحج» ، وأخرجه أيضا الضياء في «المختارة» ؛ من طريق الترمذيّ؛ كلّهم عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ودّع رجلا أخذ بيده فلا ينزعها) ؛ أي: يتركها (حتّى يكون الرّجل هو الّذي يدع يده، ويقول) مودّعا له: ( «أستودع الله دينك وأمانتك) قال الشرف المناوي رحمه الله تعالى في «أماليه» :
الأمانة هنا: ما يخلّفه الإنسان في البلد التي سافر منها. انتهى؛ نقله عنه حفيده المناوي في «شرح الجامع الصغير» .
(وخواتيم عملك» )، لأن العبرة في العمل بخواتيمه؛ أي: أكل كلّ ذلك منك إلى الله تعالى، وأتبرّأ من حفظه، وأتخلّى من حراسته، وأتوكّل عليه سبحانه، فإنّه وفيّ حفيظ؛ إذا استودع شيئا حفظه، ومن توكّل عليه كفاه ولا قوّة إلّا بالله.
(و) في «كشف الغمة» ك «الإحياء» و «الشفاء» : (كان صلى الله عليه وسلم لا يجلس إليه أحد) ؛ أي: لا يجلس متوجّها إليه، والمراد لا يجلس عنده صلى الله عليه وسلم (وهو يصلّي إلا
خفّف صلاته وأقبل عليه فقال: «ألك حاجة؟» ، فإذا فرغ.. عاد إلى صلاته.
وكان صلى الله عليه وسلم يكرم كلّ داخل عليه، حتّى ربّما بسط ثوبه لمن ليست بينه وبينه قرابة ولا رضاع، يجلسه عليه.
خفّف صلاته) ، أي: أسرع فيها (وأقبل عليه؛ فقال: «ألك حاجة» ؟! فإذا فرغ) صلى الله عليه وسلم من كلامه وقضاء حاجته (عاد إلى صلاته) الّتي كان فيها.
قال العراقيّ في «تخريج أحاديث الإحياء» : لم أجد له أصلا. انتهى.
ولذا قيل «لو أورد حديث «الصحيحين» : «إنّي لأقوم إلى الصّلاة أريد أن أطوّل فيها، فأسمع بكاء الصّبيّ؛ فأتجوّز في صلاتي؛ كراهة أن أشقّ على أمّه» ؛ كان أظهر، فإنّه متفق عليه، وهو في معنى حديث «الإحياء» ؛ قاله الخفاجي.
قال في «شرح الإحياء» : قلت: لكن روى الإمام أحمد في «مسنده» ؛ عن رجل من الصحابة قال: كان ممّا يقول للخادم: «ألك حاجة؟!» .
وهذا يدلّ إذا جاءه الخادم ووجده في الصلاة كان يخفّف؛ ويقبل عليه بالسؤال عن الحاجة، وهو من جملة مكارم الأخلاق، إذ لا يأتيه في ذلك الوقت إلّا لحاجة، فإذا طوّل في الصلاة فقد أوقعه في الانتظار. انتهى.
(و) في «كشف الغمّة» ك «الإحياء» : (كان صلى الله عليه وسلم يكرم كلّ داخل عليه) بالقيام له، ويلاطفه؛ كقيامه صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه؛ قاله الخفاجي.
(حتّى ربّما بسط) ؛ أي: فرش (ثوبه لمن ليست بينه وبينه قرابة ولا رضاع؛ يجلسه عليه) ؛ إكراما له، وتأليفا لقلبه.
روى الحاكم وصحّح إسناده؛ من حديث أنس رضي الله عنه: دخل جرير بن عبد الله على النبي صلى الله عليه وسلم.. وفيه: فأخذ بردته فألقاها إليه؛ فقال: «اجلس عليها
وكان صلى الله عليه وسلم يؤثر الدّاخل عليه بالوسادة التي تكون تحته
يا جرير
…
» الحديث. وفيه: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» .
وللطبراني في «الكبير» من حديث جرير: فألقى إليّ كساءه.
ولأبي نعيم في «الحلية» فبسط إليّ رداءه.
وأمّا من بينه وبينه قرابة!!.
فروى الخرائطيّ في «مكارم الأخلاق» عن محمد بن عمير بن وهب «خال النبي صلى الله عليه وسلم» أنّ عميرا- يعني أباه- جاء والنبيّ صلى الله عليه وسلم قاعد فبسط له رداءه، فقال:
أجلس على ردائك؛ يا رسول الله!! قال: «نعم، فإنّما الخال والد» . وإسناده ضعيف.
ويروى عن القاسم؛ عن عائشة رضي الله عنها أنّ الأسود بن وهب «خال النبي صلى الله عليه وسلم» استأذن عليه؛ فقال: «يا خال؛ أدخل» فبسط له رداءه. وكذا وقع لأمّه وأخيه وأبيه من الرضاعة؛ كما هو مذكور في السير. انتهى. «شرح الإحياء» .
(و) في «كشف الغمّة» و «الإحياء» : (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثر الدّاخل عليه) أي: يقدّمه على نفسه، ويفرده (بالوسادة الّتي تكون تحته) ؛ وهي فراش يجلس عليه، وكانت محشوّة بالليف؛ كما في البخاري.
وقال عديّ بن حاتم: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من الرّجل؟!» .
فقلت: عديّ بن حاتم. فقام وانطلق بي إلى بيته، فو الله؛ إنّه لعامد بي إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، واستوقفته؛ فوقف لها طويلا تكلّمه في حاجتها. فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك!! ثمّ مضى حتّى دخل بيته؛ فتناول وسادة كبيرة من أدم محشوّة ليفا فقذفها إليّ؛ وقال لي: «اجلس على هذه» . فقلت بل أنت فاجلس عليها؛ فجلس على الأرض وصارت الوسادة بيني وبينه.
فانظر لمكارم الأخلاق!! فقلت «والله؛ ما هذا بملك» !!
فإن أبى أن يقبلها.. عزم عليه حتّى يقبل.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي:«أفّ»
…
وهذا يدلّ على أن الوسادة فراش لا مخدّة؛ قاله الشهاب الخفاجي على «الشفا» رحمه الله تعالى.
(فإن أبى) - أي: امتنع- (أن يقبلها) أي: الوسادة حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم (عزم عليه حتّى يقبل) ؛ أي: أقسم عليه أن يجلس على وسادته بأن يقول له «بالله اجلس أنت» .
قال في «التهذيب» : يقال «عزمت عليك لتفعلن كذا» ؛ أي: أقسمت انتهى.
وهو مأخوذ من العزم؛ وهو التصميم في الأمر. انتهى «خفاجي» .
(و) أخرج البخاريّ؛ ومسلم، وأبو داود والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» .
(عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؛ قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم - زاد في رواية أحمد: في السفر والحضر- (عشر سنين) - بسكون الشين، ويجوز فتحها- وفي مسلم: تسع سنين- وحملت على التّحديد والأولى- وهي أكثر الروايات- على التقريب إلغاء للكسر، فخدمته إنّما كانت أثناء السّنة الأولى من الهجرة-.
(فما قال لي أفّ) ؛ بضمّ الهمزة وتشديد الفاء مكسورة بلا تنوين، وبه، ومفتوحة بلا تنوين.
فهذه ثلاث لغات قرىء بها في السّبع «1» ، وذكر فيها بعضهم عشر لغات.
(1) وهي؛ 1- أفّ: أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي. 2- أفّ: نافع وحفص. 3- أفّ: ابن كثير وابن عامر.
قطّ، وما قال لشيء صنعته:«لم صنعته؟» ، ولا لشيء تركته:
«لم تركته؟» .
وقذ ذكر أبو الحسن الكرمانيّ فيها تسعا وثلاثين لغة، وزاد ابن عطيّة واحدة؛ فأكملها أربعين.
ونظمها السيوطيّ في أبيات فأجاد، وقد ذكر لغاتها مفصّلة في «التصريح شرح التوضيح» للشيخ خالد الأزهري. فراجعه.
وهي كلمة تبرّم وملال، تقال لكلّ ما يتضجّر منه، ويستوي فيه الواحد والمثنّى والجمع، والمذكّر والمؤنث، قال تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [23/ الإسراء] .
(قطّ) - بفتح القاف وتشديد الطاء- مضمومة في أشهر لغاتها، وهي ظرف بمعنى الزّمن الماضي، فالمعنى: فيما مضى من عمري، وربّما يستعمل بمعنى «دائما» ، لكنه قد يتّفق له فعل شيء ليس على الوجه الذي أراده منه المصطفى، ففي رواية أبي نعيم: فما سبّني قطّ، وما ضربني ضربة، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي، ولا أمرني بأمر فتوانيت فيه؛ فعاتبني عليه، فإن عاتبني أحد قال:
(وما قال لشيء صنعته) ؛ أي: مما لا ينبغي صنعه، أو على وجه لا يليق فعله:( «لم صنعته» ) أي: لأي شيء صنعته، (ولا لشيء تركته:«لم تركته» ) ؛ أي لشدّة وثوقه ويقينه بالقضاء والقدر، ولذلك زاد في رواية: ولكن يقول: «قدّر الله، وما شاء فعل» و «لو قدّر الله كان» و «لو قضي لكان» .
فكان يشهد أنّ الفعل من الله؛ ولا فعل لأنس في الحقيقة؛ فلا فاعل إلّا الله، والخلق الآن وسائط، فالغضب على المخلوق في شيء فعله أو تركه ينافي كمال التوحيد؛ كما هو مقرّر في علم التوحيد؛ من وحدة الأفعال.
وفي ذلك بيان كمال خلقه وصبره، وحسن عشرته، وعظيم حلمه وصفحه، وترك العقاب على ما فات، وصون اللّسان عن الزجر والذمّ للمخلوقات، وتأليف
وعنه أيضا قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثمان سنين- خدمته عشر سنين- فما لامني على شيء قطّ، فإن لامني لائم من أهله.. قال:«دعوه، فإنّه لو قضي شيء.. كان» .
وفي «المصابيح» : عن
…
خاطر الخادم بترك معاتبته على كلا الحالات.
وهذا كلّه في الأمور المتعلّقة بحظّ الإنسان. وأمّا ما يتعلّق بالله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!! فلا يتسامح فيه، لأنه إذا انتهك شيء من محارم الله اشتدّ غضبه. وهذا يقتضي أنّ أنسا لم ينتهك شيئا من محارم الله، ولم يرتكب ما يوجب المؤاخذة شرعا في مدّة خدمته له صلى الله عليه وسلم.
ففي ذلك منقبة عظيمة لأنس؛ وفضيلة تامّة لحسن أدبه في خدمته؛ مع صغر سنّه، لكنها كلّها مستفادة من بركة ملازمته للحضرة النبويّة والطلعة البهيّة صلى الله عليه وسلم.
(و) في «المصابيح» للإمام البغوي- وقد تقدّمت ترجمته؛ في أوّل الكتاب رحمه الله تعالى-؛ (عنه) ؛ أي: عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه (أيضا) مفعول مطلق؛ من «آض؛ إذا رجع» أي: ارجع إلى الرواية عن أنس رجوعا.
(قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثمان سنين؛ خدمته عشر سنين) .
قال الحافظ ابن حجر: في معظم الروايات عشر سنين، وفي رواية لمسلم:
والله؛ لقد خدمته تسع سنين، فقال النووي: لعل ابتداء خدمة أنس في أثناء السّنة!! ففي رواية التسع لم يجبر الكسر واعتبر السنين الكوامل، وفي رواية العشر جبرها واعتبرها سنة كاملة. انتهى؛ نقله في «جمع الوسائل» .
(فما لامني على شيء قطّ) أتي فيه على يدي، (فإن لامني لائم من أهله؛ قال:«دعوه، فإنّه لو قضي شيء كان» ) .
قال في «المشكاة» : رواه البيهقيّ في «شعب الإيمان» بتغيير يسير.
(وفي «المصابيح» ) - وهو في «صحيح مسلم» ؛ و «سنن أبي داود» - (عن
أنس أيضا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن النّاس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة؛ فقلت: والله لا أذهب- وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت حتّى أمرّ على صبيان وهم يلعبون في السّوق؛ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي. قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال:«يا أنيس؛ أذهبت حيث أمرتك؟» ، قلت: نعم، أنا أذهب
…
أنس أيضا) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن النّاس خلقا) ينبغي إسقاط «من» لأنّه صلى الله عليه وسلم أحسن النّاس خلقا إجماعا، فكان الأولى تركها لإيهامها خلاف ذلك؛ وإن قيل في الجواب عن ذلك: إنها لا تنافيه!!.
لأن الأحسن المتعدّد بعضه أحسن من بعض، أو لأن «كان» للدوام والاستمرار، فإذا كان دائما من أحسن الناس خلقا كان أحسن النّاس خلقا.
قال ملا علي القاري: وكأنّ مرادهم أنّ سائر الخلق؛ ولو حسن خلقهم أحيانا ساء خلقهم زمانا، بخلاف حسن خلقه عليه الصلاة والسلام، فإنه كان على الدوام، ومع عموم النّاس؛ لا مع خصوص الناس، قال تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم (4) [القلم] وقال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [159/ آل عمران] انتهى كلام القاري والباجوري أيضا.
(فأرسلني يوما لحاجة؛ فقلت: والله؛ لا أذهب) بحسب الظاهر، (وفي نفسي) باطنا (أن أذهب لما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت) من عنده (حتّى أمرّ على صبيان وهم يلعبون في السّوق؛ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من) جهة (ورائي) ؛ أي: خلفي.
(قال) ؛ أي أنس (: فنظرت إليه) صلى الله عليه وسلم (وهو يضحك، فقال: «يا أنيس) تصغير أنس (؛ أذهبت) - بالاستفهام- (حيث أمرتك» ؟!) أي: المكان الذي أمرتك وأرسلتك إليه لقضاء الحاجة المذكورة. قال: (قلت: نعم، أنا أذهب)
يا رسول الله. وعن أنس أيضا قال: كنت أمشي مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ فجبذه بردائه «1» جبذة شديدة رجع نبيّ الله في نحر الأعرابيّ، حتّى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثّرت فيه حاشية البرد من شدّة جبذته.
ثمّ قال: يا محمّد؛
…
الآن (يا رسول الله) لقضاء حاجتك التي أرسلتني لها.
(و) أخرج البخاريّ في «الخمس» و «اللباس» و «الأدب» ، ومسلم كلاهما (عن أنس أيضا؛ قال: كنت أمشي مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه برد) - بضمّ الموحّدة وسكون الراء-: نوع من الثياب. وفي رواية مسلم: رداء (نجرانيّ) - بنون مفتوحة فجيم ساكنة فراء مفتوحة؛ فألف فنون- نسبة إلى نجران: بلدة بين الحجاز واليمن، وهي إليه أقرب؛ فلذا يقال بلدة باليمن، (غليظ الحاشية) أي:
الجانب (فأدركه أعرابيّ) . قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تسميته. انتهى.
وسياق الحديث- كما قيل- يقتضي أنّه من المسلمين المؤلّفة قلوبهم، (فجبذه) - بتقديم الباء على الذال المعجمة- ( [بردائه] جبذة شديدة رجع) بسببها (نبيّ الله) صلى الله عليه وسلم (في نحر الأعرابيّ، حتّى نظرت إلى صفحة) : جانب (عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بين العنق والكتف، أو موضع الرداء من المنكب (قد أثّرت فيه حاشية البرد من شدّة جبذته) .
وفي رواية مسلم: وانشقّ البرد وذهبت حاشيته في عنقه.
(ثمّ قال: يا محمّد) . قيل: [قبل] تحريم ندائه باسمه، أو لقرب عهد الأعرابي بالإسلام؛ فلم يتفقّه في الدين، وفي طبعه الغلظة والجفا، وإلّا فطلبه
(1) ساقطة من الأصل. وأثبتناها من «وسائل الوصول» .
مر لي من مال الله الّذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ ضحك، ثمّ أمر له بعطاء.
وكان صلى الله عليه وسلم هينا لينا، ليس بفظّ ولا غليظ.
وعن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنّها قالت:
…
العطاء من مال الله يدلّ على أنّه مسلم.
(مر لي) - ولمسلم: أعطني- (من مال الله الّذي عندك!! فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ ضحك، ثمّ أمر له بعطاء) . وهو تحميل بعيريه؛ كما سيأتي في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
وفي هذا بيان حلمه عليه الصلاة والسلام، وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز عن جفاء من يريد تألّفه على الإسلام.
(و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان صلى الله عليه وسلم هينا) ؛ أي: سهلا (لينا) في أخلاقه، وكلاهما بالتّشديد والتخفيف.
قال ابن الأعرابي: العرب تمدح بالهين اللين مخفّف، وتذمّ بالهيّن الليّن مشدّد. وفي الحديث «المسلمون هينون لينون» جعله مدحا لهم.
وقال غير ابن الأعرابي: هما بمعنى واحد؛ قاله في «شرح القاموس» .
وقال في «المصباح» : وأكثر ما جاء المدح بالتخفيف. انتهى.
(ليس بفظّ) أي: ليس بسيء الخلق، (ولا غليظ) قلبه بحيث يكون جافي الطبع قاسي القلب، قال تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [159/ آل عمران] . رواه الترمذي في «الشمائل» في حديث الحسن الطويل، وفيه:
سهل الخلق لين الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ
…
الحديث.
(و) روى الترمذيّ في «جامعه» و «شمائله» برجال ثقات؛ (عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها؛ أنّها قالت) - وقد سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت-:
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا، ولا متفحّشا، ولا صخّابا في الأسواق،
…
(لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا) ؛ أي: ذا فحش طبعا؛ في أقواله وأفعاله وصفاته. والفحش: ما خرج عن مقداره حتّى يستقبح، واستعماله في القول أكثر.
(ولا متفحّشا) أي: متكلّفا الفحش في أقواله وأفعاله وصفاته، فالمقصود نفي الفحش عنه صلى الله عليه وسلم طبعا وتكلّفا، إذ لا يلزم من نفي الفحش من جهة الطبع نفيه من جهة التطبّع، وكذا عكسه فمن ثمّ تسلّط النفي على كلّ منهما. فهذا من بديع الكلام.
وفي البخاري في «الصفة النبوية» و «الأدب» ، ومسلم في «الفضائل» ، والترمذيّ في «البر» من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما قال:
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحّشا
…
الحديث. فتوارد عبد الله بن عمرو مع عائشة على نفي الصفتين دليل ظاهر على أنّ ذلك جبلّته مع الأهل والأجانب.
(ولا صخّابا) - بالصاد المهملة المشدّدة- أي: لم يكن ذا صخب (في الأسواق) ، فصيغة «فعال» - بالتشديد- للنّسب؛ كتمّار ولبّان، فيفيد التركيب حينئذ نفي الصّخب من أصله؛ على حدّ قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد (46) [فصلت] أي: بذي ظلم.
وليس صيغة «فعّال» للمبالغة!! لئلا يفيد التركيب حينئذ نفي كثرة الصخب فقط، فالمعنى: ولا صيّاحا في الأسواق، وإذا لم يكن في الأسواق كذلك فغيرها أولى.
وقد جاء سخّابا- بالسين المهملة أيضا؛ على ما ذكره ميرك- من السّخب بفتحتين؛ كالصخب، و «في» ظرفية، والأسواق جمع سوق؛ سمّيت بذلك!! لسوق الأرزاق إليها، أو لقيام النّاس فيها على سوقهم.
ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويصفح.
و (الصّخب) : شدّة الصّوت.
وفي «الإحياء» :
…
(ولا يجزي) - بفتح الياء التحتية من غير همزة في آخره؛ بزنة «يرمي» أي:
لا يكافىء (بالسّيّئة) التي يفعلها الغير معه (السّيّئة) التي يفعلها هو مع الغير؛ مجازاة له، فالباء للمقابلة.
وتسمية الّتي يفعلها هو مع الغير مجازاة له «سيئة» !! من باب المشاكلة؛ كما في قوله تعالى وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [40/ الشورى] ، وإشارة إلى أنّ الأولى العفو والإصلاح، ولذلك قال تعالى فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [40/ الشورى] .
(ولكن) استدراك لدفع ما قد يتوهّم أنّه ترك الجزاء عجزا؛ أو مع بقاء الغضب!! فصرّحت عائشة رضي الله تعالى عنها بأنّه مع القدرة؛ فقالت:
(يعفو) أي: يعامل الجاني معاملة العافي، بأن لا يظهر له شيئا مما تقتضيه الجناية، (ويصفح) : يظهر له أنّه لم يطلع على شيء من ذلك، أو المراد يعفو بباطنه؛ ويصفح يعرض بظاهره، وذلك منه طبعا وامتثالا، لقوله تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [13/ المائدة] وأصله من الإعراض بصفحة العنق عن الشيء؛ كأنه لم يره.
وحسبك من عفوه وصفحه عن أعدائه الّذين حاربوه، وبالغوا في إيذائه حتّى كسروا رباعيته وشجّوا وجهه!. وما من حليم؛ إلّا وقد عرفت له زلّة أو هفوة تخدش في كمال حلمه؛ إلّا المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلا يزيده الجهل عليه وشدّة إيذائه إلّا عفوا وصفحا انتهى «باجوري» . قال:
(والصّخب) - محرّكا- (: شدّة الصوت) يقال: صخب كفرح؛ فهو صخّاب وهي صخّابة. انتهى
(وفي «الإحياء» ) أي: كتاب «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي رحمه الله تعالى:
قد وصفه الله تعالى في «التّوراة» قبل أن يبعثه فقال: محمّد رسول الله عبدي المختار؛ لا فظّ، ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة،
…
(قد وصفه الله تعالى في «التّوراة» ) الّذي أنزل على موسى- على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام- (قبل أن يبعثه) بمدّة طويلة في السّفر الأوّل؛ (فقال محمّد رسول الله عبدي المختار) ؛ أي: اخترته من بين عبادي، (لا فظّ) - بفتح الفاء وتشديد الظاء المعجمة- وهو من الرجال: سيّء الخلق، (ولا غليظ) ؛ هو:
الجافي الطبع القاسي القلب، ولا ينافيه قوله تعالى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [73/ التوبة] !! لأنّ النفي بالنسبة للمؤمنين؛ والأمر بالنسبة للكفار والمنافقين، كما هو مصرّح به في الآية. أو النفي محمول على طبعه؛ والأمر محمول على المعالجة.
قال العلّامة ملا علي قاري رحمه الله تعالى:
وفيه نكتة لطيفة؛ وهي: أنّه كانت صفة الجمال من الرحمة واللّين غالبة عليه حتّى احتاج بمعالجة الأمر إليه. انتهى.
(ولا صخّاب) ؛ من الصّخب- بالصاد والسين والخاء المعجمة- محرّكة؛ هو الضّجر واضطراب الأصوات للخصام. وقيل: غير ذلك.
(في الأسواق) لأنّه ليس ممّن ينافس في الدنيا وجمعها؛ حتّى يحضر الأسواق لذلك؛ فذكرها إنّما هو لكونها محلّ ارتفاع الأصوات لذلك؛ لا لإثبات الصّخب في غيرها، أو لأنّه إذا انتفى فيها انتفى في غيرها بالأولى.
والمراد بالمبالغة هنا أصل الفعل. وقد تقدّم قريبا الكلام على ذلك.
(ولا يجزي) بوزن: يرمي (بالسّيّئة السّيّئة) - بالنصب-، ولما كان ذلك موهما أنّه ترك الجزاء عجزا؛ استدركه بقوله:
ولكن يعفو ويصفح، مولده بمكّة، وهجرته بطابة، وملكه بالشّام، يأتزر على وسطه، هو ومن معه دعاة للقرآن والعلم، يتوضّأ على أطرافه.
(ولكن يعفو) بباطنه، (ويصفح) : يعرض بظاهره، امتثالا لقوله تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)[المائدة] .
(مولده بمكّة) في سوق الليل؛ محلّ معروف هناك، وقد جعل الآن خزانة للكتب العلمية الدينية؛ تابع لوزارة الأوقاف (وهجرته بطابة) ، وهو من أسماء المدينة المنورة، (وملكه بالشّام) ، المراد به الإقليم المعروف، وقد صارت المملكة الإسلامية كلّها عاصمتها دمشق الشام في زمن سيّدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، ثم من بعده خلفاء بني أمية.
(يأتزر على وسطه) أي: يستعمل الإزار؛ كما هو عادة العرب.
(هو ومن معه) من أصحابه (دعاة) ؛ جمع داع- بالدال المهملة- أي:
يدعون النّاس. وفي «الإحياء» - بالراء-: رعاة (للقرآن والعلم) أي: حملة لهما، وحفظة يرعونهما حقّ الرّعاية بالحفظ والفهم والعمل بما فيه.
(يتوضّأ على أطرافه) أي: يغسل أطرافه عند الوضوء.
قال في «شرح الإحياء» : أخرج البيهقيّ في «الدّلائل» عن عطاء بن يسار؛ قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاصي؛ فقلت له: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في «التوراة» ، فقال: أجل والله؛ إنّه لموصوف في «التوراة» ببعض صفته في القرآن: «يا أيّها النّبيّ؛ إنّا أرسلناك شاهدا ومبشّرا ونذيرا وحرزا للأمّيّين، أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكّل، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخب بالأسواق، ولا يدفع السّيّئة بالسّيّئة، ولكن يعفو ويغفر
…
الحديث، وفي لفظ له: ولا صخّاب في الأسواق، وفيه: ولكن يعفو ويصفح» .
رواه البخاريّ عن محمّد بن سنان عن فليح.
وكذلك نعته في «الإنجيل» .
ورواه البيهقي نحو ذلك؛ من حديث عبد الله بن سلام وكعب الأحبار. وفيه:
ولكن يعفو ويغفر ويتجاوز.
ومن طريق محمّد بن ثابت بن شرحبيل عن أمّ الدرداء أنّها سألت كعبا عن صفته صلى الله عليه وسلم في «التوراة» ؛ فقال: نجده «محمّد رسول الله اسمه المتوكّل، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق»
…
الحديث.
ورواه من طريق المسيّب؛ عن نافع؛ عن كعب: قال الله عز وجل لمحمّد صلى الله عليه وسلم «عبدي المتوكّل المختار؛ ليس بفظّ ولا غليظ، ولّا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويصفح» .
وأخرجه البيهقيّ؛ من طريق عمر بن الحكم بن رافع بن سنان عن بعض عمومته وآبائه: أنّه كانت عندهم ورقة يتوارثونها عن الجاهلية حتّى جاء الله بالإسلام، وفيها:«لأمّة تأتي في آخر الزّمان يبلّون أطرافهم، ويتّزرون على أوساطهم»
…
الحديث.
(وكذلك نعته في «الإنجيل» ) من جهة بعثته ومهاجرته وما خصّه الله من أوصافه. أخرج البيهقيّ في «الدلائل» ؛ من طريق العيزار بن حريث؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب في «الإنجيل» : «لا فظّ ولا غليظ، ولا صخّاب بالأسواق؛ ولا يجزي بالسّيّئة مثلها، بل يعفو ويصفح» .
وقد ذكر ذلك صاحب «الشفاء» وغيره، وأوسع شرّاحه الكلام فيه.
وروى الترمذيّ في «الشمائل» ؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:
لم يكن فاحشا ولا متفحّشا، ولا سخّابا في الأسواق، ولا يجزي السيّئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح! وقد تقدّم.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يجفو على أحد، ولو فعل معه ما يوجب الجفاء. وكان صلى الله عليه وسلم يقبل معذرة المعتذر إليه، ولو فعل ما فعل.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا آذاه أحد.. يعرض عنه، ويقول:
«رحم الله أخي موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» .
(و) في «كشف الغّمّة» للإمام الشعراني رحمه الله تعالى:
(كان صلى الله عليه وسلم لا يجفو على أحد، ولو فعل معه ما يوجب الجفاء) .
روى أبو داود، والترمذيّ في «الشمائل» ، والنسائي في «اليوم والليلة» ؛ من حديث أنس رضي الله عنه: قلّما يواجه رجلا بشيء يكرهه. وفيه ضعف.
وللشيخين؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رجلا استأذن عليه صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «بئس أخو العشيرة» . فلمّا دخل ألان له القول
…
الحديث.. وسيأتي.
(و) في «كشف الغمّة» ك «الإحياء» : (كان صلى الله عليه وسلم يقبل معذرة المعتذر إليه؛ ولو فعل ما فعل) . متّفق عليه؛ من حديث كعب بن مالك في قصّة الثلاثة الذين خلّفوا، وفيه: طفق المخلّفون يعتذرون إليه؛ فقبل منهم علانيتهم
…
الحديث.
(و) في «كشف الغمّة» للإمام الشعراني رحمه الله تعالى:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا آذاه أحد يعرض عنه) ويصفح، ولا يقابله بالجفا، بل يشفق عليه؛ (ويقول:«رحم الله أخي موسى) - بن عمران عليه أفضل الصلاة والسلام- (قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» ) أي: آذاه قومه بأشدّ مما أوذيت به من تشديد فرعون وقومه، وإبائه عليه، وقصده إهلاكه، بل ومن تعنّت من آمن معه من بني إسرائيل حتّى رموه بالأدرة، واتهموه بقتل أخيه هارون عليه السلام لما مات معه في التّيه، ولما سلك بهم البحر؛ قالوا: إنّ صحبنا لا نراهم!! فقال: «سيروا
وكان صلى الله عليه وسلم يرى اللّعب المباح فلا ينكره، وترفع عليه الأصوات بالكلام الجافي، فيحتمله ولا يؤاخذ.
فإنّهم على طريق كطريقكم» . قالوا: لا نرضى حتّى نراهم. قال: «اللهم أعنّي على أخلاقهم السيّئة» . ففتحت لهم كوّات في الماء فتراؤا وتسامعوا.. إلى غير ذلك من تعنّتاتهم معه عليه الصلاة والسلام.
وكلامه صلى الله عليه وسلم ذلك شفقة عليهم ونصحا في الدين؛ لا تهديدا وتثريبا.
وسيأتي هذا الحديث مع بيان أنّه رواه الإمام أحمد، والشيخان؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
(و) في «كشف الغمّة» و «الإحياء» : (كان صلى الله عليه وسلم يرى اللّعب المباح فلا ينكره) . وروى البخاريّ، ومسلم؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في لعب الحبشة بين يديه في المسجد، وقال لهم:«دونكم؛ يا بني أرفدة» .
(وترفع عليه الأصوات بالكلام الجافي فيحتمله؛ ولا يؤاخذ) .
قال الحافظ العراقي: روى البخاريّ؛ من حديث عبد الله بن الزبير: قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد! وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس! فقال أبو بكر: ما أردت إلّا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك! فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما، فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [1/ الحجرات] انتهى.
وروى البخاريّ، وابن المنذر، والطبرانيّ عن ابن أبي مليكة؛ قال: كاد الخيّران أن يهلكا: أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب من بني تميم
…
فساقه. وأخرجه الترمذيّ من هذا الطريق. انتهى شرح «الإحياء» .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل أن يدعو على أحد.. عدل عن الدّعاء عليه ودعا له.
وما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة ولا خادما قطّ ولا غيرهما؛ إلّا أن يكون في الجهاد.
(و) في «الإحياء» و «كشف الغمة» : (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل أن يدعو على أحد) مسلم أو كافر؛ عامّ أو خاصّ (عدل عن الدّعاء عليه ودعا له) .
روى الشيخان؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قالوا: يا رسول الله؛ إنّ دوسا قد كفرت وأبت فادع عليها. فقيل: هلكت دوس. فقال: «اللهمّ؛ اهد دوسا وأت بهم» .
ولما آذاه المشركون يوم أحد وكسروا رباعيته وشجّوا وجهه شقّ ذلك على أصحابه، فقالوا: لو دعيت عليهم؟! فقال: «إنّي لم أبعث لعّانا! ولكن بعثت داعيا ورحمة!! اللهمّ؛ اغفر لقومي- أو اهد قومي- فإنّهم لا يعلمون» .
(و) روى مسلم، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:(ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده) - لتأكيد النوعيّة؛ نحو يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [38/ الأنعام] ، إذ الضرب عادة لا يكون إلا باليد- (امرأة) من نسائه، (ولا خادما) له (قطّ) وخصّهما!! لكثرة وجود سبب ضربهما، للابتلاء بمخاطبتهما ومخالفتهما غالبا، (ولا غيرهما) آدميّ وغيره؛ أي: ضربا مؤذيا.
وضربه لمركوبه!؟ لم يكن مؤذيا، ووكز بعير جابر حتّى سبق القافلة بعد ما كان عنها بعيدا معجزة، وكذا ضربه لفرس طفيل الأشجعيّ لمّا رآه متخلّفا عن الناس؛ وقال:«اللهمّ؛ بارك فيها» ، وقد كان هزيلا ضعيفا!! قال طفيل: فلقد رأيتني ما أملك رأسها، ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا. رواه النسائي «ذكره الزرقانيّ على «المواهب» .
(إلّا أن يكون في الجهاد) فيضرب إن احتاج إليه، وقد قتل بأحد أبيّ بن خلف
قال أنس رضي الله تعالى عنه: كان الخادم إذا أغضبه.. يقول صلى الله عليه وسلم: «لولا خشية القصاص يوم القيامة..
لأوجعتك بهذا السّواك» .
ولمّا كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم وشجّ وجهه
…
الكافر، وما قتل بيده أحدا غيره!! بل قال ابن تيمية: لا نعلمه ضرب بيده أحدا غيره. انتهى.
(قال أنس رضي الله تعالى عنه: كان الخادم إذا أغضبه يقول صلى الله عليه وسلم: «لولا خشية القصاص يوم القيامة لأوجعتك بهذا السّواك» ) . ذكره الشعراني في «كشف الغمّة» .
(و) في «الشفاء» و «المواهب» : روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم (لمّا كسرت) - بصيغة المجهول؛ يعني: شطبت- (رباعيته صلى الله عليه وسلم اليمنى السفلى وذهبت منها فلقة،
وهي- بفتح الراء وخفّة الموحّدة والمثناة التحتية المفتوحة؛ بوزن ثمانية-:
السنّ التي بين الثنية والنّاب. وللإنسان ثنايا أربع، ورباعيات أربع، وأنياب أربعة، وأضراس عشرون.
وكان الذي كسرها عتبة بن أبي وقّاص وجرح شفته السفلى.
(وشجّ وجهه) - بصيغة المجهول- شجّه عبد الله بن شهاب الزّهري؛ قاله العلامة ملا علي القاري.
وقال الزرقاني: إن الّذي شجّ وجهه عبد الله بن قمئة، ونقل الخفاجيّ؛ عن «سيرة ابن هشام» وغيره: أن عتبة بن أبي وقّاص رماه صلى الله عليه وسلم فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السّفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجّ وجهه الشريف، وأنّ ابن قمئة ضربه بالسيف على شقّه الأيمن وجرح وجنته؛ فدخلت
يوم أحد.. شقّ ذلك على أصحابه شديدا، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: «إنّي لم أبعث لعّانا؛ ولكن بعثت داعيا ورحمة،
حلقتان من المغفر في وجنته الشريفة فنزعهما أبو عبيدة بن الجرّاح حتى سقطت ثنيّته.
وقد اختلف في إسلام عتبة بن أبي وقّاص؟! والصحيح أنّه لم يسلم، وابن شهاب أسلم. وأمّا ابن قمئة! فنطحه كبش فقتله، أو فألقاه من شاهق فهلك، ولم يولد أحد من نسل عتبة إلّا أبخر أهتم. فسرى خزيه لعقبه. انتهى.
ذكره الخفاجي والقاري في «شرحيهما» ؛ على «الشفا» رحمهم الله تعالى.
آمين.
(يوم أحد) حتّى صار الدم يسيل على وجهه الشّريف، فصار ينشّفه، ويقول:
«لو وقع شيء منه على الأرض لنزل عليهم العذاب من السّماء» .
(شقّ ذلك) المذكور؛ من الكسر والجرح والشجّ (على أصحابه) شقّا (شديدا، وقالوا) له صلى الله عليه وسلم (: لو دعوت) ؛ أي: الله (عليهم) أي: على الكفّار بأن يهلكهم الله ويستأصلهم بأشدّ العذاب لأجيب دعاؤك، أو أنّ «لو» للتمنّي؛ فلا تحتاج لجواب.
(فقال: «إنّي لم أبعث) - بالبناء للمجهول- أي: لم يبعثني الله (لعّانا) أي: صاحب لعن وطرد عن رحمة الله تعالى، فالمراد نفي أصل الفعل؛ نحو وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ [46/ فصلت] يعني: لو دعوت عليهم لبعدوا عن رحمة الله تعالى، ولصرت قاطعا عن الخير مع أنّي لم أبعث بهذا، (ولكن بعثت داعيا) للناس إلى الله تعالى، (ورحمة) للناس أجمعين بإخراجهم من الكفر إلى الإيمان، وبتأخير العذاب عمن كفر؛ لا لطردهم من رحمة الله، وإبعادهم عنه، فاللعن مناف لحالي فكيف ألعن؟!!.
ثمّ لم يكتف بذلك حتّى سأل الله تعالى لهم الغفران أو الهداية، فقال:
اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون» .
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرا من مظلمة ظلمها
…
(اللهمّ) ؛ اغفر لقومي، كما في رواية، وفي أخرى:
اللهمّ (اهد قومي) بإضافتهم إليه؛ إظهارا لسبب شفقته عليهم، فإنّ الطبع البشري يقتضي الحنوّ على القرابة بأيّ حال، ولأجل أن يبلغهم ذلك فتنشرح صدورهم للإيمان. ثمّ اعتذر عنهم بالجهل؛ بقوله:
(فإنّهم لا يعلمون» ) طريق الحق؛ ولا معرفة قدر نبيه صلى الله عليه وسلم، وما يريد بهم من الخير، ولو علموا ذلك لم يصدر عنهم ما صدر.
ولم يقل «يجهلون» !! تحسينا للعبارة ليجذبهم بزمام لطفه إلى الإيمان، ويدخلهم بعظيم حلمه حرم الأمان، مع أنّه إنّما هو جهل حكميّ، وإن لم يكن بعد مشاهدة الآيات البيّنات عذر، لكنه تضرّع إلى الله أن يمهلهم حتّى يكون منهم، أو من ذريّتهم مؤمنون، وقد حقّق الله رجاءه. انتهى «زرقاني، وخفاجي» .
وقال ملا علي قاري في «شرح الشفاء» : والحديث رواه البيهقيّ في «شعب الإيمان» مرسلا، وآخره موصولا؛ وهو في «الصحيح» حكاية عن نبيّ ضربه قومه. انتهى
(و) أخرج البخاريّ في «الأدب» و «الصفة النبوية» ، ومسلم في «الفضائل» ، والإمام أحمد، وأبو داود في «الأدب» ، والترمذيّ في «الشمائل» مع مخالفة يسيرة، وهذا لفظ «الشمائل» إلّا قوله فإن كان إثما
…
إلخ: كلهم؛
(عن عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما رأيت) أي:
ما علمت، إذ هو الأنسب بالمقام (رسول صلى الله عليه وسلم منتصرا) ؛ أي منتقما وناصرا لنفسه على غيره (من) أجل (مظلمة) - بفتح الميم وكسر اللام، وتفتح- (ظلمها) - بصيغة المجهول- فلا ينتصر لنفسه ممّن ظلمه، بل كان يعفو عنه؛ فقد عفا عمّن
قطّ ما لم ينتهك من محارم الله شيء، فإذا انتهك من محارم الله شيء.. كان من أشدّهم في ذلك غضبا. وما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما؛
…
قال له «إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله تعالى» !! لأجل تأليفه في الإسلام، مع عذره؛ لاحتمال أنّها جرت على لسانه من غير أن يقصد بها الطعن في القسمة،
وقد عفا أيضا عمّن رفع صوته عليه، لكونه طبعا وسجيّة له؛ كما هو عادة جفاة العرب. وعمّن جذبه بردائه حتّى أثّر في عنقه الشريف؛ وقال: إنّك لا تعطيني من مالك، ولا من مال أبيك!! فضحك وأمر له بعطاء!! لما كان عليه من مزيد الحلم والصبر، والاحتمال، فلو انتقم لنفسه لم يكن عنده صبر، ولا حلم، ولا احتمال، بل يكون عنده بطش وانتقام.
(قطّ) أبدا (ما لم ينتهك) - مبني للمفعول- أي: يرتكب (من محارم الله شيء) حرّمه الله، وهذا كالاستثناء المنقطع، لأنه في هذه الحالة ينتصر لله، لا لنفسه، وإنّما ناسب ما قبله!! لأنّ فيه انتقاما ما في الجملة.
(فإذا انتهك) أي: ارتكب (من محارم الله شيء) حرّمه الله؛ (كان من أشدّهم) أي: أشدّهم «من» زائدة (في ذلك) أي: لأجل ذلك (غضبا) ، فينتقم ممّن ارتكب ذلك لصلابته، فإن العفو عن ذلك ضعف ومهانة.
ويؤخذ من ذلك: أنّه يسنّ لكل ذي ولاية التّخلّق بهذا الخلق، فلا ينتقم لنفسه، ولا يهمل حقّ الله عز وجل. (وما) - رواية الشيخين: ولا- (خيّر) بلفظ المبنيّ للمجهول (بين أمرين) أي: من أمور الدنيا، بدليل قوله:«ما لم يكن مأثما» لأنّ أمور الدين لا إثم فيها.
(إلّا اختار أيسرهما) : أسهلهما وأخفّهما، فإذا خيّره الله في حقّ أمّته بين وجوب الشيء وندبه؛ أو حرمته؛ أو إباحته اختار الأيسر لهم، وكذلك إذا خيّره الله في حقّ أمّته بين المجاهدة في العبادة والاقتصاد، فيختار الأسهل لهم؛ وهو الاقتصاد.
ما لم يكن إثما، فإن كان إثما.. كان أبعد النّاس منه. وكان صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه، ولا ينتقم لها، وإنّما يغضب إذا انتهكت حرمات الله عز وجل؛ فحينئذ يغضب، ولا يقوم لغضبه شيء
…
وإذا خيّره الكفّار بين المحاربة والموادعة؛ اختار الأخفّ عليهم؛ وهو الموادعة.
وإذا خيّره الله بين قتال الكفار وأخذ الجزية منهم اختار الأخفّ عليهم؛ وهو أخذ الجزية.
فينبغي الأخذ بالأيسر، والميل إليه دائما، وترك ما عسر من أمور الدنيا والآخرة.
وفي معنى ذلك الأخذ برخص الله تعالى ورسوله ورخص العلماء؛ ما لم يتتبع ذلك بحيث تنحلّ ربقة التقليد من عنقه؛ قاله الباجوري رحمه الله تعالى.
(ما لم يكن) أيسرها (إثما) ، وبعضهم جعل الاستثناء منقطعا؛ إن كان التخيير من الله، ومتّصلا؛ إن كان من غيره، إذ لا يتصوّر تخيير الله إلّا بين جائزين.
(فإن كان) الأيسر (إثما؟ كان) صلى الله عليه وسلم (أبعد النّاس منه) ؛ فيختار الأشدّ حينئذ.
(وكان صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه، ولا ينتقم لها) ؛ أي: لا ينتصر لها إذا آذاه أحد من الأعراب وغيرهم؛ بما يتعلّق بنفسه.
(وإنّما يغضب إذا انتهكت) : ارتكبت (حرمات الله عز وجل، فحينئذ يغضب) لله تعالى؛ لا لحظّ نفسه.
(ولا يقوم) ؛ من قام: إذا ثبت، أي لا يثبت (لغضبه شيء) .
حتّى ينتصر للحقّ، وإذا غضب.. أعرض وأشاح.
والقريب والبعيد والقويّ والضّعيف.. عنده في الحقّ سواء.
قوله (أشاح) أي: أعرض بوجهه.
والمعنى: لا يقوم أحد من الخلق لدفع غضبه إذا تعرّض أحد له في أمر ربّه (حتّى ينتصر للحقّ) ؛ أي: يقوم بنصرة الحقّ فيؤدّيه ويبطل خلافه.
(وإذا غضب أعرض) عمّن غضب عليه من غير لوم له، لشدّة حلمه صلى الله عليه وسلم (وأشاح) - بشين معجمة وحاء مهملة؛ بينهما ألف- قيل معناه: صرف وجهه، فهو تأكيد لما قبله، وقيل معناه: قبض وجهه وزواه من غير لوم وعقاب؛ قاله الخفاجي.
(والقريب) أي: ذو القرابة (والبعيد) أي: الأجنبيّ، (والقويّ) ؛ أي:
القادر على أخذ حقّه، (والضّعيف) أي: القاصر عن التوصّل إلى حقّه كلّهم (عنده في الحقّ سواء) ، فيأخذ الحقّ من القويّ للضعيف، ومن القريب للبعيد، وعكسه.
(قوله: أشاح) - بشين معجمة وحاء مهملة في آخره- (أي: أعرض بوجهه) وصفح عنقه عنه، فهو على هذا تأكيد لما قبله- كما تقدّم-.
روى الترمذيّ في «الشمائل» في حديث هند بن أبي هالة: «لا تغضبه الدنيا؛ وما كان منها، فإذا تعدّي الحقّ؛ لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، وقد تقدّم.
ونحوه في «الشفاء» وفيه: وإذا غضب أعرض وأشاح.
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وأبو داود: ثلاثتهم في «الأدب» ، والترمذيّ في «البرّ» في «جامعه» وفي «شمائله» مع مخالفة في الألفاظ- وهذا لفظ- «الشمائل» :
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده، فقال:«بئس ابن العشيرة» ، أو «أخو العشيرة» . ثمّ أذن له، فلمّا دخل.. ألان له القول.
فلمّا خرج.. قلت: يا رسول الله؛ قلت ما قلت، ثمّ ألنت له القول؟
(عن عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: استأذن رجل) هو عيينة بن حصن الفزاريّ الّذي يقال له «الأحمق المطاع» ، وكان إذ ذاك مضمر النّفاق، فلذلك قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال ليتّقي شرّه، فهو ليس بغيبة، بل نصيحة للأمّة. ويدلّ على ذلك أنّه أظهر الردّة بعده صلى الله عليه وسلم كما سيأتي- (على رسول الله) أي: في الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده، فقال) ؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم في حقّ عيينة (: «بئس ابن العشيرة» ؛ أو «أخو العشيرة» .) هكذا وقع في هذه الرواية بالشكّ من الراوي، وفي البخاري:«بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة» - بالواو- ومن غير شكّ، والشكّ من سفيان، فإنّ جميع أصحاب ابن المنكدر رووه عنه بدون الشك.
والعشيرة: القبيلة، وإضافة الابن أو الأخ إليها كإضافة الأخ إلى العرب؛ في قوله:«يا أخا العرب» يريدون بذلك واحدا منهم؛ أي: بئس هذا الرجل من هذه القبيلة؛ فهو مذموم متميّز بالذمّ من بين آحادها.
(ثمّ أذن له) أي: في الدخول، (فلمّا دخل ألان له القول) أي: لطّفه له ليتألّفه ليسلم قومه، لأنّه كان رئيسهم.
وفيه جواز مداراة الكافر اتقاء شرّه، لا سيّما إن كان مطاعا في قومه ما لم يؤدّ للمداهنة في الدين.
(فلمّا خرج قلت: يا رسول الله؛ قلت ما قلت) أي: قلت الّذي قلته في غيبته (ثمّ ألنت له القول) ؛ أي: لطّفت له القول عند معاينته، فهلا سوّيته بين حضوره وغيبته؟! وما السبب في عدم التسوية بين الحالين؛ كما هو المأمول منك فظهر
فقال: «يا عائشة؛ إنّ من شرّ النّاس من تركه النّاس، أو ودعه النّاس اتّقاء فحشه» .
قال في «المواهب» : (هذا الرّجل هو عيينة بن حصن
…
من هذا أنّ غرضها الاستفهام عن سبب عدم التسوية بين الحالين كما هو المأمول.
(فقال: «يا عائشة؛ إنّ من شرّ النّاس من تركه النّاس- أو ودعه النّاس) شكّ من سفيان، والدّال مخففة؛ كما قرىء به قوله تعالى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ شاذّا، فلا ينافي قول الصرفيين:«وأمات العرب ماضي: يدع، ويذر» !! لأنّ المراد بإماتته ندرته؛ فهو شاذّ استعمالا صحيح قياسا.
قال صاحب «منظومة الصرف» .
وقد أماتوا الماضي من يذر يدع
…
لكنّ في الضّحى قري بما ودع
(اتقاء فحشه» ) أي: لأجل اتقاء قبيح قوله وفعله، أو لأجل اتقاء مجاوزته الحدّ الشرعي؛ قولا، أو فعلا.
وحاصل ما أجابها به عليه الصلاة والسلام: أنّه ألان له الكلام في الحضور لاتقاء فحشه؛ كما هو شأن جفاة العرب، لأنّه لو لم يلن له الكلام لأفسد حال عشيرته، وزيّن لهم العصيان، وحثّهم على عدم الإيمان، فإلانة القول له من السياسة الدينية والمصلحة للأمّة المحمّدية.
وبالجملة؛ فقد كمّل الله نبيّنا صلى الله عليه وسلم في كلّ شيء.
ومن جملة ذلك تأليفه لمن يخشى عليه؛ أو منه، فكان يتألّفهم ببذل الأموال وطلاقة الوجه، وشفقة على الخلق وتكثيرا للأمّة، كيف لا؛ وهو نبيّ الرّحمة؟!
وقد جمع هذا الحديث علما وأدبا؛ فتنبّه لذلك.
(قال) العلّامة شهاب الدّين أبو العبّاس القسطلّاني (في «المواهب) اللّدنيّة» ؛ نقلا عن ابن بطّال (: هذا الرّجل) المبهم في الحديث (هو عيينة بن حصن) - بكسر الحاء المهملة وإسكان الصاد المهملة- ابن حذيفة بن بدر
الفزاريّ، وكان يقال له:(الأحمق المطاع) .
وقد كانت منه في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبعده أمور تدلّ على ضعف إيمانه، فيكون ما وصفه به عليه الصلاة والسلام من علامات النّبوّة. وأمّا إلانة القول بعد أن دخل
…
(الفزاريّ) - نسبة إلى بني فزارة: قبيلة مشهورة- وكذا فسّره به القاضي عياض، والقرطبيّ، والنوويّ جازمين بذلك.
(وكان يقال له «الأحمق) - فاسد العقل- (المطاع» ) !! لأنّه كان يتبعه من قومه عشرة آلاف قناة لا يسألونه «أين يريد» .
ومن حمقه أنّه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة عنده قبل نزول الحجاب؛ فقال:
من هذه؟ قال: «عائشة» . قال: ألا أنزل لك عن أمّ البنين؟! فغضبت عائشة؛ وقالت: من هذا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا الأحمق المطاع» يعني: في قومه. رواه سعيد بن منصور.
وروى الحارث بن أبي أسامة هذا الحديث مرسلا؛ وفيه: «إنّه منافق أداريه عن نفاقه، وأخشى أن يفسد عليّ غيره» .
(وقد كانت منه في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبعده أمور تدلّ على ضعف إيمانه) ؛ كدخوله على المصطفى بلا إذن، فقال له:«أخرج فاستأذن» !. فقال: إنّها يمين عليّ ألاأستأذن على مضريّ.
وقوله لعمر في خلافته: ما تعطي الجزل، ولا تحكم بالعدل. فغضب؛ فقال له الحرّ بن قيس: إنّ الله يقول خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)[الأعراف] فتركه عمر رضي الله عنه.
ودخل على عثمان فأغلظ له؛ فقال عثمان: لو كان عمر ما أقدمت عليه.
(فيكون ما وصفه به عليه الصلاة والسلام من علامات النّبوّة) .
(وأمّا إلانة القول بعد أن دخل) على المصطفى صلى الله عليه وسلم في المحلّ الذي كان فيه!!
فعلى سبيل الائتلاف والمداراة. وهي مباحة، وربّما استحسنت بخلاف المداهنة.
والفرق بينهما أنّ المداراة: بذل الدّنيا لصلاح الدّنيا أو الدّين، أو هما معا.
(فعلى سبيل الائتلاف والمداراة، وهي مباحة، وربّما استحسنت) ؛ فكانت مستحبّة، أو واجبة.
وللديلميّ في «الفردوس» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا: «إنّ الله أمرني بمداراة النّاس؛ كما أمرني بإقامة الفرائض» .
ولابن عديّ، والطّبراني؛ عن جابر رفعه:«مداراة النّاس صدقة» .
وفي حديث أبي هريرة: «رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة النّاس» .
أخرجه البيهقي بسند ضعيف، وعزاه في «فتح الباري» للبزّار! وتعقبه الحافظ السّخاويّ؛ بأن لفظ البزار «التّودّد إلى النّاس» بدل «مداراة النّاس» !!. انتهى.
(بخلاف المداهنة) في الدين؛ فليست مباحة، بل محرّمة.
وفي «شرح القاموس» : المداهنة المصانعة؛ كما في «الصحاح» ، وقيل:
إظهار خلاف ما يضمر؛ كالادّهان. ومنه قوله تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)[القلم] . وقال الفرّاء: يعني ودّوا لو تكفر فيكفرون. وقال- في قوله تعالى أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)[الواقعة]- أي: تكذّبون. ويقال: كافرون. وقيل: معناه ودّوا لو تلين في دينك فيلينون.
وقال قوم: المداهنة المقاربة، والادّهان الغش؛ نقله الجوهري. انتهى ملخصا.
(والفرق بينهما) أي: بين المداراة والمداهنة (: أنّ المداراة بذل الدّنيا لصلاح الدّنيا أو) لصلاح (الدّين، أو هما) أي: الدين والدنيا، أي لصلاحهما (معا) ، أو لسلامة عرضه من مذمّة أهل الشرّ.
والمداهنة: بذل الدّين لصلاح الدّنيا.
والنّبيّ صلى الله عليه وسلم إنّما بذل له من دنياه حسن عشرته والرّفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإنّ قوله فيه حقّ، وفعله معه حسن عشرة، وقد ارتدّ عيينة في زمن الصّدّيق وحارب،
…
وفي الحديث: «ما وقى به المرء عرضه فهو له صدقة» ، فإذا استكفى الإنسان ما يخافه من شرّ الأشرار بما لا يضرّه في دينه؛ لم يكن عليه في ذلك جناح؛ إن شاء الله تعالى، وهذا إنّما يكون عند الابتلاء بالأشرار.
ومن البذل لين الكلام، وترك الإغلاظ في القول، والرفق بالجاهل في التعليم؛ والفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه؛ حيث لم يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف حتّى يرتدع عمّا هو مرتكبه، فكلّ هذا من أنواع المداراة.
(و) أما (المداهنة) ! فهي (: بذل الدّين لصلاح الدّنيا) ، كأن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكون مرتكب ذلك يعطيه شيئا من الدنيا، وذلك واقع كثيرا، وقلّما فعل ذلك أحد؛ إلّا أذلّه الله وأهانه، وسلّط عليه النّاس وحرم ممّا يرجوه منهم. (والنّبيّ صلى الله عليه وسلم إنّما بذل له من دنياه حسن عشرته، والرّفق في مكالمته) ، وليس ذلك من بذل الدين في شيء!!
(ومع ذلك فلم يمدحه بقول! فلم يناقض قوله فيه فعله، فإنّ قوله فيه)«بئس ابن العشيرة» (حقّ، وفعله معه حسن عشرة)، فيزول مع هذا التقرير الإشكال الّذي هو: أن النصيحة فرض؛ وطلاقة الوجه وإلانة القول يستلزمان الترك!؟
وحاصل جوابه: أنّ الفرض سقط لعارض.
ولله الحمد على فهمه، ما ظاهره يشكل علينا ففهمه من النّعم.
قال في «فتح الباري» : (وقد ارتدّ عيينة في زمن الصّدّيق وحارب) ، وبايع
ثمّ رجع وأسلم، وحضر بعض الفتوح في عهد عمر رضي الله تعالى عنه) انتهى.
وقال ابن الأثير
…
طليحة. قال بعضهم: فجيء به إلى الصدّيق أسيرا؛ فكان الصبيان يصيحون عليه في أزقّة المدينة، ويقولون: هذا الّذي خرج من الدين؟! فيقول لهم: عمّكم لم يدخل حتّى خرج، فكان ذلك القول علما من أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم ومعجزة من معجزاته حيث أشار لمغيّب يقع؛ لكنه كما قال.
(ثمّ رجع وأسلم) بعد ذلك وحسن إسلامه، (وحضر بعض الفتوح في عهد عمر) بن الخطاب (رضي الله تعالى عنه. انتهى) أي كلام «المواهب» ؛ مع «شرحه من الزرقاني» .
(وقال) الإمام العلّامة المحدّث المؤرّخ النّسّابة أبو الحسن عليّ بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف ب « (ابن الأثير) » الجزري الملقّب «عز الدين» .
ولد بالجزيرة؛ أي: جزيرة ابن عمر سنة: خمس وخمسين وخمسمائة، ونشأ بها وسكن الموصل، وتجوّل في البلدان، وعاد إلى الموصل ولزم بيته متوفّرا على النظر في العلم والتّصنيف، وكان بيته مجمع الفضل لأهل الموصل والواردين عليها.
وكان إماما في حفظ الحديث ومعرفته، وما يتعلّق به، وحافظا للتواريخ المتقدّمة والمتأخرة، وخبيرا بأنساب العرب ووقائعهم وأخبارهم.
قال ابن خلّكان: واجتمعت به فوجدته رجلا مكمّلا في الفضائل وكرم الأخلاق، وكثرة التواضع؛ فلازمت التّرداد عليه، وكان بينه وبين الوالد مؤانسة أكيدة، فكان بسببها يبالغ في الرعاية والإكرام لي.
ومن مؤلّفاته كتاب «الكامل في التاريخ» ، وهو من خيار التواريخ مرتّب على
في كتابه «أسد الغابة» ، في آخر ترجمة مخرمة بن نوفل رضي الله تعالى عنه: (روى النّضر بن شميل قال: حدّثنا أبو عامر الخزّاز،
…
السنين، بلغ فيه عام: تسع وعشرين وستمائة. وأكثر من جاء بعده من المؤرخين عيال على كتابه.
ومنها كتاب «اللباب في مختصر «الأنساب» لابن السمعاني، و «أسد الغابة في معرفة الصحابة» ، و «تاريخ الدولة الأتابكيّة» ، وغيرها.
وكانت وفاته سنة: ثلاثين وستمائة هجرية رحمه الله تعالى.
والجزيرة التي ينسب إليها هي جزيرة عبد العزيز بن عمر رجل من أهل «برقعيد» ؛ من أعمال الموصل بناها فأضيفت إليه. وقيل غير ذلك.
ذكره ابن خلّكان في «تاريخه» «1» رحمه الله تعالى.
(في كتابه «أسد الغابة) في معرفة الصحابة» (في آخر ترجمة مخرمة بن نوفل) القرشيّ الزّهري. صحابي شهير من مسلمة الفتح، وكان له سنّ عالية وعلم بالنسب، فكان يؤخذ عنه، وعلم بأنصاب الحرم، فبعثه عمر فيمن بعثه لتحديدها، ومات سنة: أربع- أو: خمس- وخمسين، عن مائة وخمس عشرة سنة.
(رضي الله تعالى عنه: روى النّضر بن شميل) - بالتصغير- المازني، أبو الحسن البصري؛ ثم الكوفي النحوي شيخ مرو روى عن حميد، وبهز بن حكيم، وابن عون، وشعبة. وعنه يحيى بن يحيى، وإسحاق، والكوسج، وثّقه النّسائيّ، وأبو حاتم، وابن معين.
قال محمد بن قهزاذ مات سنة: ثلاث ومائتين.
(قال: حدّثنا أبو عامر الخزّاز) - بمعجمات-: صالح بن رستم المزني
(1) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان.
عن أبي يزيد المدنيّ، عن عائشة قالت: جاء مخرمة بن نوفل، فلمّا سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم صوته.. قال:«بئس أخو العشيرة» . فلمّا جاء.. أدناه، فقلت: يا رسول الله؛ قلت له ما قلت، ثمّ ألنت له القول؟
«مولاهم» ، البصري صدوق كثير الخطأ.
قال أحمد بن حنبل: صالح الحديث، وضعّفه ابن معين، وأبو حاتم. ووثقّه أبو داود الطيالسيّ، وأبو داود، وابن حبّان، وأبو أحمد ابن عدي وغيرهم.
ومات سنة: اثنتين وخمسين ومائة.
(عن أبي يزيد المدنيّ) ؛ ثم البصري، روى عن أبي هريرة، وأسماء بنت عميس، وعنه أيوب، وجرير بن حازم؛ وثّقه ابن معين، وقال أبو حاتم:
لا يسمّى ويكتب حديثه. وقال أبو زرعة: لا أعرف اسمه.
(عن عائشة) أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها؛ (قالت: جاء مخرمة بن نوفل) القرشيّ الزّهري يستأذن، (فلمّا سمع النّبيّ) صلى الله عليه وسلم (صوته؛ قال:«بئس أخو العشيرة» ) ؛ أي: الواحد منها. يقال «هو أخو تميم» ؛ أي: واحد منهم، والمراد بالعشيرة: الجماعة من الناس؛ لا واحد لها من لفظها. أو القبيلة؛ قاله عياض.
وقال غيره: العشيرة الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجدّه.
وللعشيرة ثلاثة إطلاقات.
(فلمّا جاء أدناه) ؛ أي: قرّبه ولاطفه وألان له القول.
(فقلت: يا رسول الله؛ قلت له) ؛ أي: لأجله؛ وفي شأنه، لا أنّه خاطبه!! لفساد المعنى (ما قلت) أي: الذي قلته في غيبته، (ثمّ) في حضوره (ألنت له القول) ؛ أي: لطّفت له القول؟!
فقال: «يا عائشة؛ إنّ من شرّ النّاس من تركه النّاس اتّقاء فحشه» . أخرجه الثّلاثة.
قال: وكان مخرمة هذا من المؤلّفة قلوبهم، وكان في لسانه فظاظة، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتّقي لسانه) انتهى.
(فقال: «يا عائشة؛ إنّ من شرّ النّاس من تركه النّاس اتّقاء فحشه» ) أي:
لأجل اتقاء قبيح قوله وفعله.
(أخرجه الثّلاثة) لم أره فيها! وعزاه في «المواهب» إلى عبد الغني بن سعيد!! ولم يتعقّبه الزّرقاني!! فلو كان موجودا في الكتب الثلاثة لما سكت الزرقاني على عزوه لعبد الغني بن سعيد: كما هي عادته رحمه الله تعالى!!
(قال) أي ابن الأثير (: وكان مخرمة هذا من المؤلّفة قلوبهم) ، أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين خمسين بعيرا؛ قاله الواقدي.
(وكان في لسانه فظاظة) ؛ أي: خشونة في كلامه.
وفي البخاريّ؛ عن المسور بن مخرمة أنّ أباه؛ قال له: يا بنيّ؛ بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمت عليه أقبية؛ وهو يقسمها فاذهب بنا إليه. فذهبنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم في منزله؛ فقال: يا بنيّ؛ ادع لي النبيّ صلى الله عليه وسلم فأعظمت ذلك؛ وقلت: أدعو لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!! فقال: يا بنيّ إنّه ليس بجبّار! فدعوته، فخرج وعليه قباء من ديباج مزرّر بالذّهب. فقال:«يا مخرمة؛ هذا خبّأناه لك» . فأعطاه إيّاه.
قال الحافظ ابن حجر: وللحديث طرق؛ عن ابن أبي مليكة. وفي بعضها أنّه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت أرى أن تقسم في قريش قسما فتخطئني.
(و) عند البغوي وأبي يعلى؛ من طريق صالح بن حاتم بن وردان؛ عن أبيه؛ عن أيوب؛ عن ابن أبي مليكة نحو الأول. وزاد: قلت لحاتم: لم فعل ذلك؟! قال: (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتّقي لسانه) أي: خشونة لسانه. (انتهى) ؛ أي: كلام ابن الأثير رحمه الله تعالى.
والظّاهر أنّ ماذكره ابن الأثير من أنّ صاحب هذه القصّة هو مخرمة بن نوفل هو الصّحيح، أو: تكّررت.
وعن الحسن بن عليّ [رضي الله تعالى عنه] قال: قال الحسين:
سألت أبي عن سيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في جلسائه.. فقال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق،
قال المصنف: (والظّاهر أنّ ما ذكره ابن الأثير) في «أسد الغابة» (من أنّ صاحب هذه القصّة) الأخيرة (هو مخرمة بن نوفل هو) القول (الصّحيح)، لأن في هذه الرواية التصريح بتسميته! وإن كان في سنده راويان: أبو يزيد، وأبو عامر؛ وفيهما مقال- كما علمت-
لكن قال الخطيب والقاضي عياض وغيرهما: الصحيح أنّه عيينة. قالوا:
ويبعد أن يقول صلى الله عليه وسلم في حقّ مخرمة ما قال، لأنّه كان من خيار الصحابة.
(أو) يقال: إنّ القصة تعدّدت؛ أي (تكرّرت) !!
قال الحافظ ابن حجر: يحمل ذلك على التعدّد. وقد حكى المنذريّ القولين؛ فقال: هو عيينة، وقيل: مخرمة. وهو الراجح. انتهى
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» بسند فيه راو لم يسمّ (عن الحسن) السّبط (بن عليّ) بن أبي طالب؛ (قال) أي الحسن (: قال الحسين) السّبط أخو الحسن (: سألت أبي) هو عليّ بن أبي طالب (عن سيرة) - بكسر السين- (النّبيّ صلى الله عليه وسلم أي: طريقته ودأبه (في جلسائه) ؛ أي: معهم (فقال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر) - بكسر الموحّدة وسكون الشين المعجمة- أي: طلاقة الوجه وبشاشته ظاهرا مع الناس، فلا ينافي أنّه كان متواصل الأحزان باطنا؛ اهتماما بأهوال الآخرة؛ خوفا على أمّته، فلم يكن حزنه لفوت مطلوب، أو حصول مكروه من أمور الدّنيا؛ كما هو عادة أبناء الدنيا.
(سهل الخلق) - بضمّتين- أي: ليّنه ليس بصعبه؛ ولا خشنه، فلا يصدر عنه
ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مشاحّ،
…
ما يكون فيه إيذاء لغيره بغير حقّ.
(ليّن) - بتشديد التحتية المكسورة- (الجانب) ؛ أي: سريع العطف كثير اللّطف، جميل الصفح مع السكون والوقار والخشوع والخضوع وعدم الخلاف.
(ليس بفظّ) - بفتح الفاء وتشديد الظاء المشالة- (ولا غليظ) أي: ليس بسيّء الخلق ولا غليظ القلب؛ بحيث يكون جافي الطبع قاسي القلب، قال تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [159/ آل عمران] .
وهذا قد علم من قوله سهل الخلق، لكن ذكر تأكيدا ومبالغة في المدح، والمراد أنّه كذلك في حقّ المؤمنين، فلا ينافي قوله تعالى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [73/ التوبة] ، لأنّه في الكفّار والمنافقين؛ كما هو مصرّح به في الآية.
(ولا صخّاب) - بالصاد المهملة وتشديد الخاء المعجمة-، أي: ذي صخب- بالصاد أو بالسين- فهو صيغة نسب فيفيد نفي أصل الصخب كما مرّ (ولا فحّاش) أي: ليس بذي فحش، فهو صيغة نسب أيضا، فيفيد نفي أصل الفحش قليله؛ فضلا عن كثيره.
(ولا عيّاب) - بالعين المهملة- أي: ليس بذي عيب، فهو صيغة نسب؛ كما في الّذي قبله. في «الصحيحين» : ما عاب طعاما قطّ.
وهذا بالنسبة للمباح؛ فلا ينافي أنّه كان يعيب المحرّم وينهى عنه.
ويؤخذ منه: أنّ من آداب الطعام ألايعاب؛ كمالح، حامض، قليل الملح، غير ناضج، ونحو ذلك كما صرّح به النووي- وقد تقدّم-.
(ولا مشاحّ) - بضم الميم وتشديد الحاء المهملة- اسم فاعل من المشاحّة؛ وهي المضايقة في الأشياء، وعدم المساهلة فيها؛ شحّا بها وبخلا فيها، فالمراد أنّه لا يضايق في الأمور، ولا يجادل، ولا يناقش فيها.
يتغافل عمّا لا يشتهي؛ ولا يؤيس منه، ولا يجيب فيه،
…
وفي بعض نسخ «الشمائل» المصحّحة، ولا مدّاح؛ أي: ليس مبالغا في مدح شيء، لأنّ ذلك يدلّ على شره النّفس؛ أي: شدّة تعلّقها بالطعام، فلذلك روي أنّه ما عاب طعاما ولا مدحه؛ أي: على وجه المبالغة لوقوع أصله منه أحيانا.
وفي بعض النسخ: «ولا مزّاح» ؛ أي: ليس مبالغا في المزح. لوقوع أصله منه صلى الله عليه وسلم أحيانا.
(يتغافل عمّا لا يشتهي) ؛ أي: يظهر الغافلة والإعراض عمّا لا يستحسنه من الأقوال والأفعال؛ تلطفا بأصحابه ورفقا بهم.
(ولا يؤيس منه) - بضمّ الياء وسكون الهمزة وكسر الياء الثانية-، وفي نسخة من «الشمائل» : ولا يوئس منه- بسكون الواو بعدها همزة مكسورة؛ أي:
لا يجعل غيره آيسا مما لا يشتهيه، ولا يقطع رجاءه منه، فالضمير المجرور في «منه» عائد على ما لا يشتهيه، ويحتمل أنّه راجع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي: لا يجعل غيره الرّاجي له آيسا من كرمه وجوده.
ويؤيّد الاحتمال الأوّل قوله: (ولا يجيب فيه) - بالجيم- فإنّ الضمير المجرور ب «في» عائد لما لا يشتهي، أي: إذا طلب منه غيره شيئا لا يشتهيه لا يؤيسه منه، ولا يجيبه فيه؛ بل يسكت عنه؛ عفوا وتكرّما.
وقيل: المعنى لا يجيب من دعاه إلى ما لا يشتهيه من الطعام، بل يردّ الداعي بميسور من القول.
ويؤيّد الاحتمال الثاني ما في بعض نسخ «الشمائل» من قوله «ولا يخيّب فيه» - بفتح الخاء المعجمة وتشديد الياء التحتية-؛ من التخييب، فإنّ الضمير المجرور ب «في» راجع للنبي صلى الله عليه وسلم.
وفي نسخة من «الشمائل» : و «لا يخيب» - بكسر الخاء المعجمة وسكون
قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك النّاس من ثلاث:
…
الياء المثناة- وهي بمعنى التي قبلها. أي: لا يخيب الراجي فيه؛ أي: المترجّي منه شيئا من أمور الدّنيا والآخرة، بل يحصل له مطلوبه، وفي بعض الرّوايات:
«يتغافل عمّا يشتهي. بحذف «لا» النّافية.
ومعناه أنّه لا يتكلّف تحصيل ما يشتهيه من الطعام.
ويؤيده خبر عائشة رضي الله تعالى عنها المارّ: كان لا يسأل أهله طعاما ولا يتشهاه، فإن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل.
(قد ترك نفسه) ؛ أي: منعها (من ثلاث) خصال مذمومة، فضمّن «ترك» معنى «منع» ؛ فعدّاه ب «من» ؛ وأبدل من ثلاث قوله
(: 1- المراء) وما بعده، وهو بكسر الميم وبالمدّ؛ أي: الجدال، ولو بحقّ لحديث:«من ترك المراء وهو محقّ بنى الله له بيتا في ربض الجنّة» .
وفي نسخة من «الشمائل» بدله «الرياء» ؛ وهو: أن يعمل ليراه النّاس.
(2- والإكثار) - بالمثلاثة- أي: الإكثار من الكلام، أو من المال.
وفي نسخة من «الشمائل» : الإكبار- بالموحدة- أي: استعظام نفسه؛ من أكبره: إذا استعظمه. ومنه قوله تعالى فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ [31/ يوسف] وقيل: جعل الشيء كبيرا بالباطل، فلا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» ونحوه.
(3- وما لا يعنيه) أي: ما لا يهمّه في دينه ودنياه كيفا، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ، وقال تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)[المؤمنون] .
(وترك النّاس) ؛ أي: ترك ذكرهم (من) خصال (ثلاث) مذمومة؛ فهذه الثلاث تتعلّق بأحوال النّاس، والثلاثة السابقة تتعلّق بحال نفسه؛ وإلّا! فهذه الثلاثة مما ترك نفسه منه أيضا.
كان لا يذمّ أحدا، ولا يعيبه؛ ولا يطلب عورته، ولا يتكلّم إلّا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلّم.. أطرق جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطّير،
…
(1- كان لا يذمّ أحدا)، أي: مواجهة، (ولا يعيبه) ؛ أي: في الغيبة، فيكون على هذا تأسيسا «1» ؛ وهو خير من التأكيد؛ فهذا أولى مما اختاره ابن حجر من جعله تأكيدا؛ نظرا لكون الذمّ والعيب بمعنى واحد.
وفي بعض نسخ «الشمائل» : «ولا يعيّره» من التعيير؛ وهو التوبيخ.
(ولا يطلب عورته) أي: لا يطلب الاطلاع على عورة أحد؛ وهي ما يستحيا منه؛ إذا ظهر، فلا يتجسّس عن أموره الباطنة التي يخفيها.
ولا يعارضه ما سبق، يسأل النّاس عمّا في النّاس؟! لأنّ ذلك للأمور الظاهرة التي تناط بها الأحكام الشرعيّة والمصالح البشرية، وما قرّرناه هو المتبادر من العبارة كما فسّر به الشيخ ابن حجر، وإن قال بعض الشّرّاح: وقد أبعد ابن حجر حيث فسّره بعدم تجسّس عورة أحد.
(ولا يتكلّم إلّا فيما رجا ثوابه) ؛ أي: ولا ينطق إلّا في الشيء الذي يتوقّع ثوابه، لكونه مطلوبا شرعا، لا فيما لا ثواب فيه مما لا يعني.
(وإذا تكلّم أطرق جلساؤه) أي: أرخوا رؤوسهم إلى الأرض؛ ونظروا إليها، وأصغوا إليه لاستماع كلامه.
ولسرورهم وارتياح أرواحهم بحديثه (كأنّما على رؤوسهم الطّير) ، هذا كناية عن كونهم في نهاية من السكوت والسكون عند تكلّمه وتبليغه إليهم الأحكام الشرعية، لأن الطير لا يقع إلا على رأس ساكت ساكن.
و «أل» في «الطير» للجنس، فالمراد جنس الطير مطلقا. وقيل: للعهد والمعهود الباز.
(1) أي حكما مستقلا عن ما قبله؛ لا تأكيدا له.
فإذا سكت.. تكلّموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلّم عنده.. أنصتوا له حتّى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوّلهم، يضحك ممّا يضحكون منه، ويتعجّب ممّا يتعجّبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته
…
وبالجملة فشبّه حال جلسائه عند تكلّمه بحال من ينزل على رأسهم الطير في السكوت والسكون؛ مهابة له وإجلالا، لا لكبر ولا لسوء خلق فيه. حاشاه الله من ذلك.
(فإذا سكت تكلّموا)، أي: فلا يبتدرونه بالكلام، ولا يتكلّمون مع كلامه، بل لا يتكلمون إلّا بعد سكوته. وفي بعض النسخ «فإذا سكت سكتوا» أي:
لاقتدائهم به وتخلّقهم بأخلاقه.
(لا يتنازعون عنده الحديث) ؛ أي: لا يختصمون عنده في الحديث.
(ومن تكلّم عنده أنصتوا له) أي: استمعوا لكلام المتكلّم عنده (حتّى يفرغ) من كلامه، فلا يتكلّم عنده اثنان معا، ولا يقطع بعضهم على بعض كلامه، لأنّه خلاف الأدب.
(حديثهم عنده حديث أوّلهم) ؛ أي: لا يتحدّث أوّلا إلّا من جاء أوّلا، ثم من بعده
…
وهكذا على الترتيب.
(يضحك ممّا يضحكون منه، ويتعجّب ممّا يتعجّبون منه) ؛ أي: موافقة لهم وتأنيسا وجبرا لقلوبهم.
(ويصبر للغريب على الجفوة) - بفتح الجيم- أي: الغلظة وسوء الأدب (في منطقه ومسألته) كما كان يصدر من جفاة الأعراب.
فالصبر على أذى النّاس وجفوتهم من أعظم أنواع الصبر، فقد ورد:«إنّ المؤمن الّذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم أفضل ممّن يعتزلهم» .
حتّى أن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول:«إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها.. فارفدوه» .
ولا يقبل الثّناء إلّا من مكافىء،
…
وقد كان صلى الله عليه وسلم أعلى النّاس في ذلك مقاما، فقد أتاه ذو الخويصرة التميمي؛ فقال: يا رسول الله؛صلى الله عليه وسلم اعدل. فقال: «ويحك؛ ومن يعدل إذا لم أعدل!! فقد خبت وخسرت إن لم أعدل» . فقال عمر: يا رسول الله؛ ائذن لي أضرب عنقه. فقال: «دعه» . رواه البيهقيّ؛ عن أبي سعيد.
والمعنى أنّه صلى الله عليه وسلم كان يصبر للغريب إذا جفاه في مقاله وسؤاله، (حتّى أن) أي: أنّه؛ أي: الحال والشأن، «أن» مخفّفة من الثقيلة ( [كان أصحابه] «1» ليستجلبونهم) أي: الغرباء إلى مجلسه صلى الله عليه وسلم ليستفيدوا من مسألتهم ما لا يستفيدونه عند عدم وجودهم، لأنّهم يهابون سؤاله، والغرباء لا يهابون؛ فيسألونه عما بدا لهم، فيجيبهم ويصبر على مبالغتهم في السؤال.
(ويقول) ؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه (: «إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فارفدوه» ) - بوصل الهمزة وضمّ الفاء، و [أرفدوه] بقطع الهمزة وكسر الفاء؛ فإن كان من الرّفد؛ وهو العطاء؛ فالهمزة للوصل، وإن كان من الإرفاد؛ بمعنى:
الإعانة!! فمعناه: أعينوه على حاجته وساعدوه حتّى يصل إليها.
(ولا يقبل الثّناء) ؛ أي: المدح من أحد (إلّا) إذا كان (من مكافىء) - بالهمزة- أي: مجاز على إنعام وقع من النبي صلى الله عليه وسلم إليه؛ فإذا قال شخص: إنّه صلى الله عليه وسلم من أهل الكرم والجود؛ وليس مثله موجود! فإن كان ذلك واقعا منه مكافأة على إحسان صدر من النبي صلى الله عليه وسلم إليه قبل ثناءه عليه، وإلّا لم يقبل منه، بل يعرض عنه؛ ولا يلتفت إليه، لأنّ الله ذمّ من يحبّ أن يحمد بما لم يفعل في قوله تعالى لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [188/ آل عمران]
…
الآية.
(1) ساقطة من الأصل، وأثبتناها من «وسائل الوصول» .
ولا يقطع على أحد حديثه حتّى يجوز فيقطعه بنهي، أو قيام.
وأمّا حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فقد كان صلى الله عليه وسلم أحلم النّاس، وأرغبهم في العفو مع القدرة، حتّى أتي بقلائد من ذهب أو فضّة، فقسمها بين أصحابه،
(ولا يقطع) صلى الله عليه وسلم (على أحد حديثه) أي: حديث ذلك الأحد؛ لا حديث نفسه صلى الله عليه وسلم، فالضمير المجرور في «حديثه» عائد على «الأحد» أي: لا يقطع كلام أحد يتكلّم عنده؛ بل يستمع له حتّى يفرغ منه.
(حتّى يجوز) - بجيم وزاي-؛ من المجاوزة، أي: حتى يتجاوز الحدّ، أو الحقّ.
وفي نسخة من «الشمائل» : حتّى يجور- بالجيم والراء-؛ من الجور. أي:
حتّى يجور في الحق بأن يميل عنه (فيقطعه) حينئذ (بنهي أو قيام) فيقطع عليه الصلاة والسلام حديث ذلك الأحد؛ إذا جاوز الحدّ: إما 1- بنهي له عن الحديث إن أفاد؛ بأن لّم يكن معاندا، أو 2- قيام من المجلس؛ إن كان معاندا.
ولذلك كان بعض الصالحين إذا اغتاب أحد في مجلسه ينهاه؛ إن أفاد النهي، وإلّا! قام من مجلسه.
وفي هذا الحديث ما لا يخفى من نهاية كماله صلى الله عليه وسلم ورفقه، ولطفه، وحلمه، وصبره، وصفحه، ورأفته، ورحمته، وعظيم أخلاقه..
(وأمّا حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد) ذكره بقوله:
(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلم النّاس) ؛ أي: أكثرهم حلما.
(و) كان (أرغبهم في العفو مع القدرة) على الانتقام.
(حتّى أتي) - بصيغة المجهول- (بقلائد) - جمع: قلادة- وهي: ما يجعل في العنق (من ذهب؛ أو فضّة) أي: القلائد مصوغة منهما؛ وهو الحليّ (فقسمها بين أصحابه) بما أراه الله تعالى.
فقال أعرابيّ: ما أراك تعدل، قال:«ويحك فمن يعدل عليك بعدي؟!» ، فلمّا ولّى.. قال:«ردّوه عليّ رويدا» .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض للنّاس يوم [حنين]«1» ، من فضّة في ثوب بلال، فقال له رجل: يا رسول الله؛ اعدل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك؛ فمن يعدل إذا لم أعدل؟! فقد خبت إذا وخسرت إن كنت لا أعدل» .
(فقال أعرابيّ) من سكّان البادية الأعراب الجفاة (: ما أراك تعدل) ، حيث أعطى صلى الله عليه وسلم بعضا وترك بعضا، أو أكثر لبعض وأقلّ لآخرين.
(قال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم (: «ويحك فمن يعدل عليك بعدي» ؟! فلمّا ولّى) أي: الأعرابي (قال: «ردّوه عليّ رويدا» ) - أي: من غير استعجال، فحلم عليه، وعفا عنه مع غلظة كلامه، وأمر بردّه على إمهال!! لئلا يرتاع.
قال العراقيّ: رواه أبو الشيخ؛ من حديث ابن عمر بإسناد جيد. انتهى.
ورواه أيضا الحاكم؛ من حديث ابن عمر، وفيه زيادة في آخره. انتهى «شرح الإحياء» .
(و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ، ومسلم، وغيرهم- كما قاله في «شرح الإحياء» - عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض) - مبنيا للفاعل- أي: يعطي (للنّاس يوم [حنين] من فضّة) كانت (في ثوب بلال؛ فقال له رجل: يا رسول الله؛ اعدل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك؛ فمن يعدل إذا لم أعدل!! فقد خبت إذا وخسرت) - روي بفتح التاء في «خبت» و «خسرت» ، وبضمّها فيهما- ومعنى الضمّ ظاهر، وتقدير الفتح: خبت أنت أيّها التابع؛ (إن كنت لا أعدل» ) . لكونك تابعا ومقتديا
(1) في «وسائل الوصول» : خيبر.
فقام عمر فقال: ألا أضرب عنقه؟ فإنّه منافق.
فقال: «معاذ الله أن يتحدّث النّاس أنّي أقتل أصحابي» .
وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة، فقال رجل من الأنصار: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى.
بمن لا يعدل، والفتح أشهر؛ قاله في «شرح مسلم» .
(فقام عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه (فقال: ألا أضرب عنقه؛ فإنّه منافق!!) وفي روايات أخر أنّ المستأذن في قتله خالد بن الوليد. وليس فيهما تعارض!! بل كلّ واحد منهما استأذن فيه؛ قاله في «شرح مسلم» .
(فقال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم (: «معاذ الله؛ أن يتحدّث النّاس أنّي أقتل أصحابي» ) فحلم صلى الله عليه وسلم على القائل وصبر؛ لما علم من جزيل ثواب الصابر، والله يأجر بغير حساب.
(و) في «الإحياء» : (قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين (قسمة) آثر ناسا فيها ليتألّفهم. (فقال رجل من الأنصار) ؛ سمّاه الواقديّ بأنه معتب بن قشير المنافق.
(: هذه قسمة) ما عدل فيها، و (ما أريد بها وجه الله تعالى!!) .
قال في «شرح مسلم» : قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: حكم الشرع أنّ من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم كفر، وقتل. ولم يذكر في هذا الحديث أنّ هذا الرجل قتل!
قال المازري: يحتمل أن يكون لم يفهم منه الطعن في النبوة، وإنّما نسبه إلى ترك العدل في القسمة.
والمعاصي ضربان: كبائر وصغائر؛ فهو صلى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر بالإجماع.
واختلفوا في إمكان وقوع الصغائر!! ومن جوّزها منع من إضافتها إلى الأنبياء؛ على طريق التنقيص. وحينئذ فلعلّه صلى الله عليه وسلم لم يعاقب هذا القائل، لأنه لم يثبت عليه ذلك، وإنّما نقله عنه واحد، وشهادة الواحد لا يراق بها الدم!
قال القاضي: هذا التأويل باطل يدفعه قوله «اعدل؛ يا محمد، واتق الله؛
فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم.. فاحمرّ وجهه وقال:
«رحم الله أخي موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» .
وبال أعرابيّ في المسجد بحضرته، فهمّ به أصحابه، فقال صلى الله عليه وسلم:«لا تزرموه» ؛ أي: لا تقطعوا عليه البول.
يا محمد» ، وخاطبه خطاب المواجهة بحضرة الملأ؛ حتّى استأذن عمر وخالد النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتله؛ فقال:«معاذ الله أن يتحدّث النّاس أنّ محمّدا يقتل أصحابه» ! فهذه هي العلّة. وسلك معه مسلكه مع غيره من المنافقين الذين آذوه، وسمع منهم في غير موطن ما كرهه؛ لكنّه صبر! استبقاء لانقيادهم وتأليفا لغيرهم؛ لئلا يتحدّث النّاس أنّه يقتل أصحابه؛ فينفروا، وقد رأى هذا الصنف في جماعتهم وعدّوه من جملتهم.
(فذكر ذلك) القول (للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فاحمرّ وجهه) ، وغضب غضبا شديدا؛ لنسبته إلى الجور، وقد جبل الله تعالى النفس على التألّم بما يفعل بها، والتألّم سبب للانتقام من المؤلم، ولهذا شقّ عليه هذا القول، لكنه لكمال حلمه صلى الله عليه وسلم تحمّله من فاعله؛ فلم ينتقم منه.
(وقال: «رحم الله أخي موسى) بن عمران الإسرائيليّ؛ (قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» ) أي: آذاه قومه بأشدّ مما أوذيت به فصبر على إيذائهم.
قال العراقي: متفق عليه؛ من حديث ابن مسعود. ورواه الإمام أحمد أيضا عنه. انتهى «شرح الإحياء» .
(و) في «الإحياء» : (بال أعرابيّ في المسجد) النّبوي (بحضرته) صلى الله عليه وسلم (فهمّ به أصحابه) أي: قصدوا منعه عن ذلك؛ (فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تزرموه» ) - بضم التاء الفوقية وسكون الزاي- (أي: لا تقطعوا عليه البول) فإنّه يضرّ البائل.
قال ذلك شفقة عليه.
ثمّ قال له: «إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء» . وفي رواية: «قرّبوا ولا تنفّروا» .
وجاء أعرابيّ يطلب منه شيئا، فأعطاه صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال له:«آحسنت إليك؟» .
قال الأعرابيّ: لا، ولا أجملت.
فغضب المسلمون، وقاموا إليه. فأشار إليهم أن كفّوا.
ثمّ قام ودخل منزله، وأرسل إلى الأعرابيّ وزاده شيئا،
…
(ثمّ قال له: «إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء» ) ؛ أي: الغائط.
(وفي رواية: «قرّبوا ولا تنفّروا» ) . قال العراقي: متّفق عليه؛ من حديث أنس رضي الله تعالى عنه. انتهى «شرح الإحياء» .
(و) في «الإحياء» أيضا: (جاء أعرابيّ) لم يسمّ (يطلب منه شيئا) ؛ أي:
من مطالب الدنيا (فأعطاه صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال: «آحسنت إليك؟!» ) - بهمزة ممدودة وسكون حاء؛ لاجتماع همزة الأفعال وهمزة الاستفهام التقريري وهو حمل المخاطب على الإقرار بأنه أحسن إليه وأنعم عليه.
(قال الأعرابيّ: لا) أي: لا أعطيتني كثيرا، ولا قليلا (ولا أجملت) أي:
ولا أتيت بالجميل، أو ولا أوصلتني جميلا حيث لا أحسنت جزيلا. وقيل:
ما أجملت ما أكثرت، وهو أوّل؛ قاله ملا علي قاري.
(فغضب المسلمون) من كلامه وجرأته عليه صلى الله عليه وسلم (وقاموا إليه) ليضربوه ويجازوه بما يستحقّه. (فأشار إليهم أن كفّوا) أي: امتنعوا عنه.
وهذا من حلمه صلى الله عليه وسلم وشفقته تألّفا له؛ ليحسن إسلامه.
(ثمّ قام) من مجلسه، (ودخل منزله، وأرسل إلى الأعرابيّ وزاده شيئا) على
ثمّ قال له: «آحسنت إليك؟» .
قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا.
فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ حتّى يذهب من صدورهم ما فيها عليك» .
قال: نعم.
فلمّا كان الغد أو العشيّ.. جاء فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
ما أعطاه أوّلا، (ثمّ قال له:«آحسنت إليك؟» قال: نعم) أحسنت إليّ (فجزاك الله) على إحسانك إليّ ولطفك بي (من أهل وعشيرة خيرا. فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّك قلت ما قلت) آنفا (وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإن أحببت) - أي: أردت إزالة ذلك- (فقل بين أيديهم) أي: عندهم (ما قلت بين يديّ) أي: من المديح ليكون كفّارة لذلك القبيح، وعلّق قوله على محبّته وإرادته؛ لطفا منه صلى الله عليه وسلم أيّ لطف، مع أنّه ذنب عظيم ينبغي التنصّل منه.
وفيه من الشفقة بالأمّة ما لا يخفى (حتّى يذهب) ؛ أي: بقولك لهم ذلك (من صدورهم ما فيها) أي: الغضب والألم الذي في قلوبهم (عليك» ) بسبب ما قلته أوّلا.
(قال: نعم) أي: أقول لهم ذلك.
(فلمّا كان الغد) المراد بالغد صبيحة اليوم الذي بعد اليوم الذي كلّمه فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، والغداة من طلوع الفجر إلى الزوال.
(أو) قال (العشيّ) - بفتح فكسر؛ فتشديد- وهو: ما بعد الزوال إلى الغروب، والشكّ هنا من الراوي.
(جاء) أي: الأعرابي إلى مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم (فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه
«إنّ هذا الأعرابيّ قال ما قال، فزدناه فزعم أنّه رضي ذلك، أكذلك؟» . قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا.
فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ مثلي ومثل هذا الأعرابيّ كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه فاتّبعها النّاس؛ فلم يزيدوها إلّا نفورا فناداهم صاحب النّاقة: خلّوا بيني وبين ناقتي، فإنّي أرفق بها وأعلم، فتوجّه لها صاحب النّاقة بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض
…
الحاضرين عنده (: «إنّ هذا الأعرابيّ قال ما قال) لي أوّلا مما سمعتموه، (فزدناه) على عطائه الأوّل (فزعم أنّه رضي [ذلك] ) أي: بجملة ما أعطيناه له،
(أكذلك» ؟!) استفهام تقرير متوجّه من النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ، أي: الأمر كذلك من أنّك رضيت.
(قال، نعم: فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ مثلي ومثل هذا الأعرابيّ كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه) أي: نفرت منه وذهبت في الأرض (فاتّبعها النّاس) ؛ من الاتّباع، أو من الإتباع، أي مضوا وجروا خلفها ليمسكوها (فلم يزيدوها إلّا نفورا) أي: لم يحصل باتباع النّاس لها إلّا زيادة هربها ونفورها لخوفها منهم.
(فناداهم صاحب النّاقة) أن: (خلّوا بيني وبين ناقتي، فإنّي أرفق بها وأعلم) أي: أنا أشفق عليها وأعلم بحالها وطبعها وطريق أخذها منكم.
(فتوجّه لها صاحب النّاقة بين يديها) ؛ أي: جاءها من أمامها.
(فأخذ لها من قمام الأرض) القمام- بضمّ القاف وتخفيف الميم- جمع قمامة ككناسة؛ لفظا ومعنى. والمراد بها هنا: النبات الّذي ترعاه الدوابّ كحشيش وتبن، شبّهه بالقمام! لخسّته، ولأنّه مما يطرح؛ كالقمامة، فاستعير له اسمها لمشاركته صفته.
فردّها هونا هونا حتّى جاءت واستناخت وشدّ عليها رحلها واستوى عليها، وإنّي لو تركتكم حيث قال الرّجل ما قال فقتلتموه دخل النّار» .
(فردّها هونا هونا) هو اسم صوت لدعاء الناقة (حتّى جاءت) فيه مقدّر؛ أي: فدنت منه لتأكل ما بيده من الحشيش، فأمسكها وردّها حتّى أتى بها محلّه،
(واستناخت) أي: بركت ومكثت عنده؛ من ناخ الجمل ونوّخه إذا برّكه.
(وشدّ عليها رحلها) أي: ربط عليها قتبها، فالرّحل للإبل كالسّرج للفرس.
(واستوى عليها) أي: على ظهرها، أي: ركبها. يقال: استوى على الدابّة إذا علا على ظهرها وركبها، (وإنّي لو تركتكم حيث قال الرّجل ما قال) أي: لو لم أكفّكم وأمنعكم عنه حين قال لي الرّجل مقالته السيّئة (فقتلتموه دخل النّار» ؛) عقوبة له بإساءته على النبي صلى الله عليه وسلم.
وشبّه المال لخسّة الدّنيا عنده بالقمامة، وشبّه نفسه بالرّجل، وشبّه الأعرابيّ بدابّة شاردة عن ربّها، وشبّه الصحابة لما غضبوا وقاموا له بالناس التابعين لها الذين نفّروها عن ربّها، وشبّه قوله «كفّوا عنه» بقوله «خلّوا بيني وبينها» .
وفي قوله «فإنّي أرفق بها منكم» بيان لأنّه أعظمهم رفقا وأقواهم شفقة على خلق الله تعالى، وهو تشبية في أعلى طبقات البلاغة لتضمّنه هذه المعاني اللطيفة.
قيل: ويحتمل أنّ الرجل إنّما قال أوّلا ما قال ليطّلع على حلمه صلى الله عليه وسلم، لأنه سمع صفاته من أهل الكتاب والنبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك.
وقيل: إنّ جزمه بدخول النّار لكفره بما قاله للنبي صلى الله عليه وسلم. والنبيّ تلطّف به حتّى آمن ونجا من النار. فتأمل!!
وهذا الحديث رواه البزّار، وأبو الشيخ بسند ضعيف؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وابن حبّان في «صحيحه» ، وابن الجوزي في «الوفا» عنه.
ومما يناسب المقام ويلائم المرام: ما روي عن خوّات بن جبير من الصحابة
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كنت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه برد غليظ الحاشية، فجذبه أعرابيّ بردائه جبذة شديدة حتّى أثّرت حاشية البرد على صفحة عاتقه،
…
الكرام أنّه قال: نزلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرّ الظهران فإذا نسوة يتحدّثن، فأعجبنني، فأخرجت حلّة من عيبتي فلبستها؛ وجلست إليهنّ، فمرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فهبته. فقلت: يا رسول الله؛ جمل لي شرود وأنا أبتغي له قيدا!! فمضى وتبعته، فألقى عليّ رداءه ودخل الأراك؛ فقضى حاجته وتوضّأ، ثمّ جاء؛ فقال:
«يا أبا عبد الله؛ ما فعل شراد جملك؟» . ثمّ ارتحلنا، فجعل كلّما لحقني؛ قال:«السّلام عليك يا أبا عبد الله؛ ما فعل شراد جملك» . فتعجّلت المدينة وتركت مجالسته والمسجد، فطال ذلك عليّ فتحيّنت خلوّ المسجد، ثمّ دخلت فطفقت أصلّي. فخرج من بعض حجره فصلّى ركعتين خفّفهما وطوّلت؛ رجاء أن يذهب عنّي. فقال:«طوّل يا أبا عبد الله ما شئت؛ فلست ببارح حتّى تنصرف» .
فقلت: والله؛ لأعتذرنّ إليه. فانصرفت، فقال:«السّلام عليك يا أبا عبد الله؛ ما فعل شراد الجمل» . فقلت: والذي بعثك بالحقّ؛ ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت!! فقال: «رحمك الله» «مرّتين» ، أو «ثلاثا» ثم لم يعد.
(و) أخرج أبو داود والبيهقيّ؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) - وأخرجه الشيخان أيضا؛ عن أنس، وقد تقدّم- (قال: كنت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه برد غليظ الحاشية) البرد والبردة: كساء أسود مربّع، أو شملة مخطّطة، والحاشية، جانب الثوب.
(فجذبه) - بتقديم الذال المعجمة على الموحّدة- وفي رواية: فجبذه- بتقديم الموحّدة- وهما لغتان صحيحتان (أعرابيّ) لم يسمّ (بردائه)، هذا يقتضي أنّه كان عليه برد ورداء فوقه؛ وإن الجذب وقع بهما (جبذة شديدة) أي: دفعة عنيفة (حتّى أثّرت) - بتشديد المثلاثة؛ مبنيّ للفاعل- أي: أظهرت أثرا وعلامة (حاشية البرد على صفحة عاتقه) الصفحة: الجانب؛ أو العرض. والعاتق: ما بين العنق
ثمّ قال: يا محمّد؛ أحمل لي على بعيريّ هذين من مال الله الّذي عندك، فإنّك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك.
فسكت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ قال: «المال مال الله، وأنا عبده» ، ثمّ قال:«ويقاد منك يا أعرابيّ ما فعلت بي» . قال:
لا. قال: «لم؟» ، قال: لأنّك لا تكافىء بالسّيّئة السّيّئة.
فضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم،
…
والكتف، أو موضع الرداء من المنكب. وهو يؤنّث ويذكّر، وفي رواية أنّ البرد انشقّ، ولم يتأثّر صلى الله عليه وسلم من سوء أدبه.
(ثمّ قال) أي: الأعرابيّ على عادة أجلاف العرب (: يا محمّد؛ أحمل لي) - بفتح الهمزة- أي: أعطني ما أحمل (على بعيريّ) بالتثنية مضافا إلى ياء المتكلم (هذين) أي: حمّلهما لي طعاما (من مال الله الّذي عندك، فإنّك لا تحمل لي) أي: لا تعطيني (من مالك، ولا من مال أبيك!!
فسكت النّبيّ صلى الله عليه وسلم حلما وكرما، (ثمّ قال:«المال مال الله؛ وأنا عبده» ) أي: أتصرف في ماله بإذنه، وأعطي من يأمرني بإعطائه، فردّ صلى الله عليه وسلم بألطف ردّ.
(ثمّ قال) أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (: «ويقاد منك) ؛ من القود وهو القصاص، وهو هنا مجاز عن مطلق المجازاة، أي: أتجازى على ترك أدبك (يا أعرابيّ) ، يشير به إلى أنّه معذور لما فيه من غلظ الأعراب وهم أهل البادية (ما فعلت بي» ) من جذب بردي بأن يفعل به مثله، أو يعزّر بما يليق به.
(قال) أي الأعرابي (: لا) أي: لا يقاد مني. (قال: «لم» ؟!) أي: لأي شيء لا يقاد منك؟ (قال: «لأنّك لا تكافىء) بهمزة أي: لا تجازي (بالسّيّئة السّيّئة) ، بل تجازي بالسيئة الحسنة، وفيه مشاكلة، لأنّ الجزاء ليس بسيئة.
(فضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم سرورا بما رآه من حسن ظنّه به، وأنّه لم يفعل ذلك بقصد التنقيص منه، وتطمينا لقلبه إذ أبدى المسرّة بمقالته، وهذا يقتضي أنّه كان مسلما غير أنّ فيه جفاء البادية.
ثمّ أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر.
وروى الطّبرانيّ وابن حبّان
…
(ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير، وعلى الآخر تمر) .
وفيه من حلمه صلى الله عليه وسلم وتحمّله الأذى وعدم التضجّر ما لا يخفى، وهو إرشاد لأمّته لا سيّما من يتولّى منهم أمور المسلمين.
(وروى الطّبرانيّ) ؛ كما في «المواهب» و «الشفاء» ، (وابن حبّان) الحافظ العلامة:
أبو حاتم محمد بن حبّان بن أحمد بن حبان بن معاذ التميمي الدارمي البستي- بضم الباء الموحّدة وإسكان السين وفوقية- نسبة إلى «بست» : بلد كبير من بلاد الغور بطرف خراسان، الشافعي الإمام الكبير.
صاحب التصانيف، كان على قضاء سمرقند زمانا، وكان من فقهاء الدّين وحفّاظ الآثار، عالما بالطبّ والنجوم وفنون العلم.
قال الحاكم: كان ابن حبان من أوعية العلم؛ في الفقه، واللّغة، والحديث، والوعظ، ومن عقلاء الرجال. انتهى
سمع أبا عبد الرحمن النّسائي، والحسن بن سفيان، وأبا يعلى الموصلي، وأبا بكر بن خزيمة، وأمما لا يحصون من مصر إلى خراسان.
حدّث عنه الحاكم وغيره، وصنّف التصانيف؛ منها «المسند الصحيح» المسمّى ب «التقاسيم والأنواع» في خمس مجلدات كبار، وترتيبه مخترع ليس على الأبواب؛ ولا على المسانيد والكشف منه عسر جدّا، وهو موجود بتمامه؛ بخلاف «صحيح ابن خزيمة» فقد عدم أكثره؛ كما قاله السّخاويّ.
ومن مؤلّفاته «التاريخ» ، و «كتاب الضعفاء» . وتوفي ب «بست» سنة:
أربع وخمسين وثلاثمائة؛ وهو في عشر الثمانين. وقد قيل: إنّ أصحّ من صنّف في الصحيح بعد الشيخين ابن خزيمة؛ فابن حبّان رحمهم الله.
والحاكم والبيهقيّ
…
(و) أبو عبد الله (الحاكم) النّيسابوريّ، وأبو نعيم الأصفهاني، وأبو الشيخ ابن حيان؛ في كتاب «الأخلاق النبوية» .
(و) الإمام الحافظ العلّامة؛ الكبير الشهير شيخ السّنّة: أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى؛ أبو بكر (البيهقيّ) نسبة إلى «بيهق» : قرى مجتمعة بنواحي نيسابور؛ على عشرين فرسخا منها. الخسروجردي الشافعي، الفقيه الحافظ الأصولي، الديّن الورع، واحد زمانه في الحفظ، وفرد أقرانه في الإتقان والضبط، من كبار أصحاب الحاكم؛ ويزيد عليه بأنواع من العلوم.
كتب الحديث وحفظه وضبطه من صباه، وتفقّه وبرع، وأخذ في الأصول، وارتحل إلى العراق والجبال والحجاز.
ثم صنّف. وتاليفه تقارب ألف جزء مما لم يسبقه إليه أحد.
جمع بين علم الحديث والفقه وبيان علل الحديث، ووجه الجمع بين الأحاديث، وكان على سيرة العلماء؛ قانعا باليسير، متجمّلا في زهده وورعه.
وعن إمام الحرمين أبي المعالي؛ قال: ما من شافعي إلّا وللشافعي عليه منّة إلّا أبا بكر البيهقي، فإنّ له المنة على الشافعي؛ لتصانيفه في نصرة مذهبه.
ولد سنة: أربع وثمانين وثلثمائة في شعبان، وسمع أبا عبد الله الحاكم، وأبا طاهر بن محمش، وأبا بكر بن فورك، وأبا عليّ الرّوذباري، وأبا عبد الرحمن السّلمي، وخلقا بخراسان، وعدّة ببغداد، وطائفة بمكّة، وجماعة بالكوفة.
وبورك له في علمه؛ لحسن قصده وقوّة فهمه وحفظه.
وصنّف التصانيف المفيدة؛ منها «السنن الكبرى» في عشر مجلدات ضخام، «والسنن الصغرى» في مجلدين، و «دلائل النبوة» و «شعب الإيمان» و «مناقب الشافعي» و «الدعوات الكبير» وكتاب «الأسماء والصفات» ، وكتاب
عن زيد بن سعنة- وهو كما قال النّوويّ رحمه الله تعالى: أجلّ أحبار اليهود الّذين أسلموا- أنّه قال: لم يبق من علامات النّبوّة شيء
…
«الخلافيات» وكتاب «معرفة السنن والآثار» أي: معرفة الشافعي بها، وكتاب «المدخل إلى السنن الكبرى» ، وكتاب «البعث والنشور» و «الأربعون الكبرى» و «الأربعون الصغرى» ، وجزء في الرؤية، وجزء في حياة «الأنبياء» ، ومناقب الإمام أحمد.
وكانت وفاته في عاشر جمادى الأولى سنة: ثمان وخمسين وأربعمائة.
وحمل تابوته إلى بيهق؛ ودفن بها بخسروجرد، وهي من قراها الصغرى رحمة الله تعالى عليه. آمين.
(عن زيد بن سعنة) - بفتح السين المهملة وسكون العين المهملة وفتح النون؛ كما قيّده بذلك الحافظ عبد الغني، والدارقطني. و [سعية]- بالمثناة التحتية بدل النون-؛ ثبت في «الشفاء» وهو الّذي ذكره ابن اسحاق، وحكى ابن عبد البر وغيره الوجهين قال ابن عبد البر: والنون أكثر، واقتصر الجمهور على النون. قال الذّهبيّ: وهو أصحّ.
- (وهو- كما قال النّوويّ رحمه الله تعالى-: أجلّ) - بجيم ولام؛ كذا في النسخ!! والذي في «تهذيب النووي» : أحد- بحاء ودال مهملتين- (أحبار اليهود الّذين أسلموا) ، وأكثرهم علما ومالا، أسلم وحسن إسلامه، وشهد معه صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة، وتوفي في غزوة تبوك؛ مقبلا إلى المدينة. انتهى.
والمصنّف تبع القسطلّاني في «المواهب» . قال الزرقاني: فكأنّه غيّر «أحد» ب «أجل» !! لأن قوله «أكثرهم علما ومالا» يفيد أنّه أجلّهم، ثم يرد على هذا ابن سلام، إذ ظاهر الأحاديث أنّه أجل المسلمين من اليهود، إلّا أن تكون الجلالة باعتبار مجموع العلم والمال. (أنّه قال:
لم يبق من علامات النّبوّة شيء) ، وفي رواية- عند ابن سعد-: ما بقي شيء
إلّا وقد عرفته في وجه محمّد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه، إلّا اثنتين لم أخبرهما «1» منه: 1- يسبق حلمه جهله، 2- ولا تزيده شدّة الجهل عليه إلّا حلما. فكنت أتلطّف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فابتعت منه تمرا إلى أجل،
…
من نعت محمّد في «التوراة» (إلّا وقد عرفته) أي: شاهدته، ويروى: عرفتها.
باعتبار أنّ الشيء بمعنى العلامة. (في وجه محمّد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه
إلّا اثنتين) في رواية: إلّا خصلتين (لم [أخبرهما] ) - بفتح الهمزة وإسكان الخاء المهملة وضمّ الباء الموحدة- أي: لم أعلمهما (منه) على حقيقتهما، إذ علمهما لا يكون بالمشاهدة؛ بل بالاختبار:
[الأولى] : (يسبق حلمه جهله) مقابل الحلم من الغضب والانتقام ممّن آذاه. قال الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فالمراد أنّ حلمه يغلب حدّته، كقوله:«سبقت رحمتي غضبي» . فليس الجهل هنا مقابل العلم، وهو: عدم إدراك الشيء، أو إدراكه على خلاف ما هو عليه!! كما توهّمه من لم يعرف لغة العرب. حيث قال لو كان له جهل؛ نحو فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)[المؤمنون]«2» وهذه إحدى الخصلتين.
(و) الثانية (لا تزيده شدّة الجهل) أي: جهل غيره- أي: سفاهته- (عليه) وأذيّته (إلّا حلما)، فكلّما زادت واشتدّت زاد حلمه صلى الله عليه وسلم (فكنت أتلطّف) :
أتخشع وأترفّق (له) ؛ توصّلا (لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فابتعت) أي:
اشتريت (منه تمرا إلى أجل)«3» . وفي رواية أبي نعيم: وأعطاه زيد بن سعنة قبل
(1) في «وسائل الوصول» : أجدهما.
(2)
يعني لو كان هناك خالق. فليس فيه التفاضل على بابه من أن شيئين اشتركا
…
فتنبه.
(3)
أي: سلما.
فأعطيته الثّمن، فلمّا كان قبل محلّ الأجل بيومين أو ثلاثة.. أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه [على عنقه] ، ونظرت إليه بوجه غليظ، ثمّ قلت: ألا تقضيني يا محمّد حقّي؟! [فو الله] إنّكم يا بني عبد المطّلب مطل. فقال عمر: أي عدوّ الله؛ أتقول لرسول الله ما أسمع، فو الله لولا ما أحاذر [فوته] .. لضربت بسيفي رأسك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر بسكون وتؤدة، وتبسّم.
إسلامه ثمانين مثقالا ذهبا، في تمر معلوم إلى أجل معلوم. (فأعطيته الثّمن، فلمّا كان قبل محلّ) - بكسر الحاء- أي: وقت (الأجل بيومين أو ثلاثة) - وفي رواية أبي نعيم: بيوم أو يومين- (أتيته فأخذت بمجامع) جمع مجمع؛ كمقعد ومنزل:
موضع الاجتماع- كما في «القاموس» وغيره- أي: بما اجتمع من (قميصه وردائه [على عنقه] ، ونظرت إليه بوجه غليظ) أي: عابس مقطّب (ثمّ قلت: ألا تقضيني يا محمّد؛ حقّي!! [فو الله] إنّكم يا بني عبد المطّلب مطل) - بضم الميم والطاء المهملة- جمع: ماطل؛ أي تمتنعون من أداء الحقّ، وتسوّفون بالوعد؛ مرّة بعد أخرى، (فقال عمر) - في رواية أبي نعيم: فنظر إليه عمر؛ وعيناه تدوران في وجهه؛ كالفلك المستدير؛ فقال- (: أي؛ عدوّ الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع) !! زاد أبو نعيم: وتفعل به ما أرى!! (فو الله؛ لولا ما أحاذر) - بمعنى أحذر، أي: شيء أخاف ( [فوته] ) من بقاء الصلح بين المسلمين وبين قومه، - وفي رواية أبي نعيم: لولا ما أحاذر قومك- (لضربت بسيفي رأسك!!
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر بسكون) ضدّ: الحركة (وتؤدة) ؛ التأنّي، فتغاير مفهوما؛ لا ما صدقا «1» ، (وتبسّم) من مقالهما، لشدّة حلمه، ولعله كوشف «2»
(1) مصطلح منطقي يقابل المفهوم، غير أن أحدهما للمفرد والآخر للمركب.
(2)
في هذا تأمّل!! إذ لو كشف ما في رغبة ابن سعنة لم تعد ثمّة فضيلة في هذا الحلم، ولبطل موضع الشاهد.
فقلت: يا عمر؛ كلّ علامات النّبوّة قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما نظرت إليه، إلّا اثنتين لم أختبرهما:
يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدّة الجهل [عليه] إلّا حلما، فقد اختبرتهما،
…
بمراد ابن سعنة!! وإنّ عمر لو كشف له لم يصعب عليه ذلك.
(ثمّ قال: «أنا وهو) - أي: صاحب الحقّ- (كنّا أحوج إلى غير هذا) الذي قلته. (منك يا عمر؛) وأبدل منه قوله: (أن تأمرني بحسن [الأداء] ) أي: وفاء ما عليّ (وأن تأمره بحسن [التّباعة] » ) !! - بالكسر-: المطالبة بالحقّ.
وفي «الشفاء» : تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي.
ثم قال: «لقد بقي من أجله ثلاث» !! انتهى. فتكرّم صلى الله عليه وسلم فعجّلها قبل الأجل وزيادة، فقال:
( «اذهب به يا عمر؛ فاقضه حقّه وزده عشرين صاعا مكان ما روّعته» ) :
فزعته. و «ما» مصدرية أي: في مقابلة روعك له.
(ففعل) ذلك عمر. قال زيد: (فقلت: يا عمر؛ كلّ علامات النّبوّة قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما نظرت إليه؛ إلّا اثنتين لم أختبرهما) ؛ أي: لم أعلمهما.
(1- يسبق حلمه) : ثباته وصفحه وصبره (جهله) : حدّته؛ فلا ينتقم.
(2- ولا يزيده شدّة الجهل [عليه] إلّا حلما، فقد اختبرتهما) أي:
فأشهدك أنّي قد رضيت بالله ربّا؛ وبالإسلام دينا، وبمحمّد صلى الله عليه وسلم نبيّا. قال القاضي عياض في «الشّفا» : (وحسبك ما ذكرناه ممّا في «الصّحيح» والمصنّفات الثّابتة، ممّا بلغ متواترا مبلغ اليقين: من صبره على مقاساة قريش،
…
صاحبهما، إذ الاختبار: الامتحان، وهو لم يختبر الخصلتين. والمذكور بخطّ الشاميّ: خبرتهما- بلا «ألف» - أي: علمتهما منه بما رأيت من فعله صلى الله عليه وسلم
(فأشهدك) يا عمر؛ (أنّي قد رضيت بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد صلى الله عليه وسلم نبيّا) .
وفي رواية: وما حملني على ما رأيتني صنعت يا عمر إلّا أنّي كنت رأيت صفاته التي في «التوراة» كلّها إلّا الحلم، فاختبرت حلمه اليوم فوجدته على ما وصف في «التوراة» ، وإنّي أشهدك أنّ هذا التمر وشطر مالي في فقراء المسلمين. وأسلم أهل بيته كلّهم إلّا شيخا غلبت عليه الشّقوة. انتهى «زرقاني» رحمه الله تعالى.
(قال) العلّامة الإمام (القاضي) أبو الفضل: (عياض) بن موسى اليحصبيّ الأندلس السّبتي- سقى الله ثراه صبيب الرحمة والرضوان- (في) كتابه ( «الشّفاء» ) الذي هو كاسمه شفاء، أي: شفاء لما في الصدور.
قال في «الباب الثّاني منه؛ في آخر: فصل الحلم والاحتمال» :
(وحسبك) أي: مغنيك وكافيك (ما ذكرناه ممّا في الصّحيح) أي: في الكتب الصحيحة، (والمصنّفات الثّابتة) أي: ولو لم تكن من الصحاح الستة!! أو: ولو لم تكن صحيحة؛ بل ثابتة حسنة!! فإنّها حجّة بيّنة؛ أي: كافيك ذلك منضمّا (ممّا بلغ) أي: ممّا وصل عندك مجموعه (متواترا) ؛ تواترا معنويا (مبلغ اليقين) أي: مبلغا يحصل به اليقين للمؤمنين في أمر الدين، ولو قال «مبلغ الضروريّ» !! كان أولى.
(من صبره) بيان ل «ما بلغ» ؛ أي: من تحمّله (على مقاساة قريش) أي:
وأذى الجاهليّة، ومصابرة الشّدائد الصّعبة معهم، إلى أن أظفره الله تعالى عليهم- يعني: بفتح مكّة- وحكّمه فيهم وهم لا يشكّون في استئصال شأفتهم، وإبادة خضرائهم- أي: إهلاك جماعتهم- فما زاد على أن عفا
…
مكابدتهم ومعارضتهم ومخالفتهم (وأذى الجاهليّة) أي: وتأذّيه من أهل جاهليّتهم وسفاهتهم، (ومصابرة الشدائد) أي: مغالبة المحن (الصّعبة) أي: الشّاقّة (معهم) في الحروب الواقعة بينه وبينهم، وهي؛ وإن كانت سجالا؛ إلّا أنّه صبّ عليهم العذاب.
فالمصابرة: مفاعلة؛ من الصبر عن شدائد الحروب، وهم صناديد وأبطال كان لهم صبر على اصطلاء نارها، لكنه صلى الله عليه وسلم غلبهم وصابرهم وزاد عليهم.
(إلى أن أظفره الله تعالى) بهم، وفي نسخة: أظهره الله (عليهم- يعني:
بفتح مكّة- وحكّمه فيهم) - بتشديد الكاف-، أي: جعله الله تعالى قاهرا غالبا لهم، وهم في قبضة تصرّفه؛ يحكم فيهم بما يريد من قتل وأسر وعفو؛ إن شاء (وهم لا يشكّون) ؛ أي: لا يتردّدون، بناء على زعمهم وقياسا على أنفسهم (في استئصال) ؛ هو: قطع الشيء من أصله وإزالته بالكليّة (شأفتهم) - بفتح شين معجمة، فسكون همزة، ففاء؛ تليها هاء تاء تأنيث، وتبدل الهمزة ألفا- أي:
جمعهم وقطع أثرهم.
والشّأفة- في الأصل-: قرحة تخرج للإنسان في أسفل القدم؛ فتكوى فتذهب فهم يقولون في المثل «استأصل الله شأفته» أي: أذهبه كما أذهبها، (وإبادة) - بكسر الهمزة وبالدال المهملة- مصدر بمعنى: الإهلاك (خضرائهم) - بفتح الخاء المعجمة، وسكون الضّاد المعجمة؛ بعدهما راء، فألف ممدودة- (أي: إهلاك جماعتهم) وتفريق جمعهم.
والمعنى: أنّه صلى الله عليه وسلم ظفر بهم في حال تيقّنوا هلاكهم بأسرهم؛ وذهابهم عن آخرهم، بحيث لا يبقى منهم باقية (فما زاد) صلى الله عليه وسلم (على أن عفا) : تجاوز عن
وصفح، وقال:«ما تقولون أنّي فاعل بكم؟» ، قالوا: خيرا؛ أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال:«اذهبوا؛ فأنتم الطّلقاء» .
أفعالهم، (وصفح) أي: أعرض عن أقوالهم؛ أي: مع شدّة أذاهم ونصره عليهم بحيث صاروا في قبضة تصرّفه؛ قد أحاط بهم الهلاك من كلّ جانب، ما زاد على ما كان عليه من حاله إلا العفو والصفح، لاشفاء النفس بالانتقام؛ وفعل ما يستحقّون بحيث لو فعل لم يلم.
(وقال) أي: لهم تلويحا بلطفه إليهم؛ وشفقته عليهم، واستخراجا لما في ضمائرهم؛ واستظهارا لما في سرائرهم.
(: «ما تقولون) - «ما» استفهامية، «وتقولون» بمعنى تظنّون- (أنّي فاعل بكم؟!» ) ، بفتح همزة «أنّ» وهي وما معها سادّة مسدّ مفعوليه
(قالوا: خيرا) منصوب بمقدّر يدلّ عليه فاعل قبله؛ أي تفعل خيرا، أو أنت فاعل خيرا؛ (أخ كريم) أي: أنت (وابن أخ كريم) أي: فلا يجيء من مثلك إلّا ما يوجب الكرم والعفو عمن ظلم.
وهذا على عادة العرب في تسمية القريب «أخا» قال تعالى. وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [65/ الأعراف] .
والكريم: الجامع للخير والفضائل؛ كما في الحديث: «الكريم بن الكريم بن الكريم: يوسف.. إلخ» .
(فقال) : أقول؛ كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، (اذهبوا؛ فأنتم الطّلقاء» ) - بضمّ الطّاء المهملة؛ ففتح اللام ممدودا- جمع: طليق بمعنى مطلوق؛ وهو الأسير؛ يطلق ويخلّى سبيله؛ أي: أنتم الخلصاء من قيد الأسر، فإنّهم كانوا حينئذ أسرى.
وقد قال ذلك يوم فتح مكة؛ وهو آخذ بعضادتي باب الكعبة؛ على ما رواه ابن سعد، والنّسائي، وابن زنجويه؛ قاله ملا علي قاري في «شرح الشفاء» .
وقال أنس رضي الله تعالى عنه: هبط ثمانون رجلا من التّنعيم صلاة الصّبح ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الفتح: 24] . وقال لأبي سفيان
…
قال الخفاجي: وفيه بلاغة وطيّ بديع، لما فيه من الإيماء إلى شقّهم عصا القرابة بينهم، وحسدهم له، وكذبهم عليه، وقطع رحمه مع ماله صلى الله عليه وسلم من الشرف الباذخ؛ فإنّه الكريم بن الكريم!! وإنّ حسدهم وبغيهم كان سببا لعلوّ مقامه وتملّكه لنواصيهم وذلّتهم له معترفين بقصورهم. انتهى
(وقال أنس رضي الله تعالى عنه) كما رواه مسلم؛ وأبو داود، والترمذي، والنسائيّ؛ قاله القاري
(: هبط ثمانون رجلا من التّنعيم) - بفتح التاء-: موضع على ثلاثة أميال من مكّة، وقيل: أربعة، وهو من جهة المدينة. والشام سمّي بذلك!! لأنّه عن يمينه جبل؛ يقال له «نعيم» ، وعن شماله جبل يقال «ناعم» ؛ والوادي «نعمان» .
(صلاة الصّبح) - منصوب على الظرفية؛ أي: نزلوا وقت صلاة الصبح- (ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا) - بصيغة المجهول- (فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى) في هذه القصّة (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ) - أي: كفار مكة- (عَنْكُمْ
…
الآية) أي: اقرأ الآية، ونزول الآية عام الحديبية، وضمير الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وكان ذلك وهو في أصل الشجرة، فبينما هو كذلك إذ خرج ثمانون رجلا وأخذوا أسرى؛ والسّفراء يمشون في الصلح، فأطلقهم وخلّى سبيلهم، وعفا عنهم وهم «العتقاء» .
(وقال) صلى الله عليه وسلم (لأبي سفيان) : صخر بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف.
شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا وأعطاه من غنائمها مائة وأربعين أوقية؛ وزنها له
- وقد سيق إليه
…
بلال، وكان شيخ مكّة ورئيس قريش بعد أبي جهل.
أسلم يوم الفتح، ونزل المدينة سنة: إحدى وثلاثين، ودفن في البقيع؛ قاله القاري.
(وقد سيق إليه) أي: جيء به إليه، والسائق له هو العبّاس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمّا سار النبيّ صلى الله عليه وسلم لفتح مكّة، ونزل مرّ الظّهران عشاء، وأوقد عشرة آلاف نار، وجعل على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وأراد دخولها قهرا لقتل الكفّار؛ فرقّت نفس العبّاس رضي الله تعالى عنه لأهل مكّة، فخرج على بغلة النبي صلى الله عليه وسلم حتّى أتى الأراك، فقال: لعلّي أجد ذا حاجة يأتي مكّة؛ فيخبرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى يخرجوا؛ ويستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة. قال: فسمعت صوت أبي سفيان يقول لبديل: ما رأيت كالليلة سرابا؛ ولا عسكرا!!
فقلت: أبا حنظلة؟!. فقال: أبو الفضل!! قلت: نعم.
قال: ما لك؛ فداك أبي وأمّي.
قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس!! واصباح قريش «1» .
قال: ما الحيلة؟
قلت: والله؛ لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك، فاركب عجز هذه البغلة، حتّى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي؛ فكنت كلّما مررت بأحد؛ قال:
بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها عمّه!!
حتّى مررت بعمر رضي الله عنه؛ قال: أبو سفيان عدوّ الله!! الحمد لله الّذي أمكن منك بلا عقد؛ ولا عهد.
وخرج يشتدّ نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فركضت البغلة ودخلت عليه وعمر رضي الله تعالى عنه معه. فقال: هذا أبو سفيان؛ دعني أضرب عنقه.
(1) ندبة أو استغاثة.
بعد أن جلب عليه الأحزاب، وقتل عمّه وأصحابه ومثّل بهم،
…
فقلت: إنّي قد أجرته. وجلست.
فلما أكثر عمر رضي الله عنه في شأنه؛ قال صلى الله عليه وسلم: «مهلا يا عمر، اذهب به يا عبّاس إلى رحلك، فإذا أصبح فائتني به» .
فغدوت به صباحا، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أنّه جاء ليسلم منقادا (بعد أن جلب عليه) أي: ساق إليه (الأحزاب) ؛ وهي جموع مجتمعة للحرب من قبائل شتّى، ويقال: تحزّبوا: تجمّعوا.
وهذه غزوة الخندق التي كانت في سنة: خمس وكانوا ثلاثة عساكر، وعدّتهم عشرة آلاف، وكان الحصار للمسلمين أربعين يوما.
وإسناد جلب الأحزاب إليه!! لأنّه كان قائد جيشهم، وصاحب رأيهم، وإلّا! فسبب التحزيب إنّما كان جماعة من اليهود؛ دعوا القبائل وحرّكوا قريشا لذلك.
والمعنى بعد كثرة قبائحه وجملة فضائحه.
منها: أنّه جمّع أحزاب كفّار مكة وغيرهم وأتى أهل المدينة على عزم قتلهم ونهبهم واستئصالهم.
(و) منها: أنّه (قتل عمّه) حمزة سيّد الشهداء رضوان الله تعالى عنه في غزوة أحد، أي: تسبّب في قتله، إذ قاتله المباشر له هو وحشيّ، وهو من جملة عسكره؛ فهو الباعث والسبب في ذلك القتال والمهيّج له.
(و) منها: أنّه قتل (أصحابه) صلى الله عليه وسلم يوم أحد؛ أي: تسبّب في قتلهم وهم سبعون. وقيل: سبعون من الأنصار خاصّة!! وقيل: مجموع القتلى سبعون؛ أربعة من المهاجرين: حمزة، ومصعب بن عمير، وشمّاس بن عثمان المخزومي، وعبد الله بن جحش الأسدي، وباقيهم من الأنصار.
(و) منها: أنّه (مثّل) - بتشديد المثلاثة- أي: تسبب في فعل المثلة- بضم الميم- (بهم) ؛ وهي العقوبة الشديدة بتشويه خلقتهم؛ بقطع أنف وأذن، ومذاكير
فعفا عنه، ولاطفه في القول- وقال:«ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم ألاإله إلّا الله؟!» ، فقال: بأبي أنت وأمّي، ما أحلمك، وأوصلك، وأكرمك) .
وشقّ بطن، وإخراج قلب وكبد، وسائر أطرافهم.
والممثّلة بحمزة زوجته «هند بنت عتبة» ومن معها من النسوة؛ تشفّيا لقتل حمزة أباها في بدر.
ونسب التمثيل لأبي سفيان؟! لأنّ فعل أهل الرجل كفعله، لا سيّما النساء.
وقد مثّل بجماعة غير حمزة، فممّن مثّل به أنس بن النّضر، وعبد الله بن جحش بل قال البغوي في «تفسيره» : لم يبق أحد من قتلى أحد إلّا مثّل به؛ غير حنظلة بن راهب، فإنّ أباه عامرا الراهب كان مع أبي سفيان؛ فتركوا حنظلة لذلك.
(فعفا) أي: مع هذا كلّه الذي صدر عنه عفا (عنه) ما سبق منه في حال كفره، لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله.
(ولاطفه في القول) ؛ إذ خاطبه، (وقال:«ويحك) «ويح» كلمة ترحّم لمن وقع في هلكة لا يستحقها، وقيل:«ويح» باب رحمة، و «ويل» باب هلكة، و «ويس» استصغار (يا أبا سفيان) أي: أتعجّب لك مع عقلك ودهائك وظهور حقيقة الإسلام؛ ألاتسلم (ألم يأن) ؛ من «أنى يأني» ؛ أي: جاء أناه، أي: ألم يقرب الوقت (لك أن تعلم) علما يقينا (ألاإله إلّا الله» ؟!) أي: توحّد الله، وتصدّق به فتسلم إسلاما صحيحا.
(فقال) أي أبو سفيان (: بأبي أنت وأمّي) أي: أفديك بهما (ما أحلمك!) صيغة تعجّب؛ من الحلم!! وكذا ما بعده صيغ تعجب (وأوصلك) لرحمك! (وأكرمك!!) أي: ما أكثر كرمك على من أساء إليك؛ وخالف عليك، إذ خاطبتني بلطف مع ما قاسيته منّي، ثم أجابه مصدّقا؛ فقال: لقد ظننت أن لّو كان مع الله إله غيره؛ لقد أغنى شيئا بعد!!.
وقال الإمام النّوويّ في «التّهذيب» : (قد جمع الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم كمال الأخلاق، ومحاسن الشّيم، وآتاه علم الأوّلين والآخرين، وما فيه النّجاة والفوز؛ وهو أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا معلّم له من البشر، وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، واختاره على جميع
…
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك يا أبا سفيان؛ ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟!» . فقال: بأبي أنت وأمّي؛ أمّا هذه ففي النّفس منها شيء!! فقال له العبّاس: ويحك؛ أسلم واشهد أن لّا إله إلا الله، وأنّ محمدا رسول الله قبل أن يضرب عنقك. فشهد شهادة الحق وأسلم. والحديث مذكور بتمامه في السير، وأمر أبي سفيان رضي الله عنه مشهور.
(وقال) الحافظ الحجّة (الإمام) وليّ الله تعالى شيخ الإسلام أبو زكريا يحيى بن شرف محيي الدين (النّوويّ) تغمّده الله برحمته ورضوانه. آمين
(في) كتاب ( «التّهذيب» ) ؛ أي: «تهذيب الأسماء واللغات» الّذي لا يستغني عنه طالب علم (: قد جمع الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم كمال الأخلاق) أي: الأخلاق الكاملة المتفرّقة في الناس، جمع الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم منها كمالها وأعلاها، (ومحاسن الشّيم) - بالشين المعجمة والمثناة التحتية؛ جمع شيمة، كسدرة وسدر- وهي: الغريزة والطبيعة والجبلّة التي خلق الإنسان عليها؛ أي علّمه الله تعالى جميع محاسن الأخلاق والطرق الحميدة، وجمع له السيرة الفاضلة والسياسة التامّة.
(وآتاه) أي: أعطاه (علم الأوّلين والآخرين، وما فيه النّجاة والفوز) في الآخرة، والغبطة والخلاص في الدنيا، (وهو أمّيّ) منسوب إلى بطن الأم؛ (لا يقرأ ولا يكتب، ولا معلّم له من البشر!!) ؛ نشأ في بلاد الجهل والصحاري يتيما لا أب له ولا أمّ.
(وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، واختاره) أي: اصطفاه (على جميع
الأوّلين والآخرين، وأعطاه مفاتيح خزائن الأرض كلّها؛ فأبى أن يأخذها، واختار الآخرة عليها، وكان كما وصفه الله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] انتهى.
الأوّلين والآخرين، وأعطاه مفاتيح خزائن الأرض كلّها) حقيقة، (فأبى أن يأخذها) ، ولو أخذها لصرفها في مرضاة الله تعالى.
(و) لكنه (اختار الآخرة عليها) لتأتسي به أمّته في الهرب من الدنيا والتقلّل منها.
(وكان) في أخلاقه (كما وصفه الله تعالى) في كتابه في سورة التوبة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) - بضم الفاء؛ أي: منكم، وقرىء مِنْ أَنْفُسِكُمْ «1» - بفتح الفاء؛ من النفاسة، أي من أشرفكم- (عَزِيزٌ) - أي:
شديد- (عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) - أي: عنتكم أي: مشقّتكم ولقاؤكم المكروه- (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) - أن تهتدوا- (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ) - شديد الرحمة (رَحِيمٌ) يريد لهم الخير (انتهى) أي كلام الإمام النووي رحمه الله تعالى.
(1) هي قراءة شاذة.