المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الفصل الخامس في صفة شرابه صلى الله عليه وسلم وقدحه] - منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول - جـ ٢

[عبد الله عبادى اللحجى]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌[الباب الرّابع في صفة أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وشربه

- ‌[الفصل الأوّل في صفة عيشه صلى الله عليه وسلم وخبزه]

- ‌[الفصل الثّاني في صفة أكله صلى الله عليه وسلم وإدامه]

- ‌[الفصل الثّالث في ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم قبل الطّعام وبعده]

- ‌[الفصل الرّابع في صفة فاكهته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الخامس في صفة شرابه صلى الله عليه وسلم وقدحه]

- ‌[الفصل السّادس في صفة نومه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الباب الخامس في صفة خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه، وعشرته مع نسائه، وأمانته، وصدقه، وحيائه، ومزاحه، وتواضعه، وجلوسه، وكرمه، وشجاعته]

- ‌[الفصل الأوّل في صفة خلقه صلى الله عليه وسلم وحلمه]

- ‌[الفصل الثّاني في صفة عشرته صلى الله عليه وسلم مع نسائه رضي الله تعالى عنهنّ]

- ‌[الفصل الثّالث في صفة أمانته صلى الله عليه وسلم وصدقه]

- ‌[الفصل الرّابع في صفة حيائه صلى الله عليه وسلم ومزاحه]

- ‌[الفصل الخامس في صفة تواضعه صلى الله عليه وسلم وجلوسه واتّكائه]

- ‌[الفصل السّادس في صفة كرمه صلى الله عليه وسلم وشجاعته]

- ‌[فهرسة الجزء الثاني من كتاب منتهى السّول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم]

الفصل: ‌[الفصل الخامس في صفة شرابه صلى الله عليه وسلم وقدحه]

[الفصل الخامس في صفة شرابه صلى الله عليه وسلم وقدحه]

الفصل الخامس في صفة شرابه صلى الله عليه وسلم وقدحه عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: كان أحبّ الشّراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلو البارد.

(الفصل الخامس:) من الباب الرّابع (في) بيان ما ورد من الأخبار في (صفة شرابه) صلى الله عليه وسلم، والشّراب: ما يشرب من المائعات، يقال: شربت الماء وغيره؛ شربا- بتثليث الشّين لكنّه بالفتح مصدر قياسيّ، وبالضّمّ والكسر مصدران سماعيّان، خلافا لمن جعلهما اسمي مصدر-.

وفي هذا الفصل بيان الأحاديث الّتي فيها كيفية شربه صلى الله عليه وسلم .

قال في «المصباح» : الشّرب: مخصوص بالمصّ حقيقة، ويطلق على غيره مجازا.

(و) في بيان الأخبار الواردة في (قدحه) صلى الله عليه وسلم.

والقدح- بفتحتين-: ما يشرب فيه، وهو إناء لا صغير ولا كبير، وجمعه أقداح؛ كسبب وأسباب.

وكان له صلى الله عليه وسلم قدح يسمّى الرّيان، وآخر يسمّى مغيثا، وقدح مضبّب بسلسلة من فضّة في ثلاثة مواضع، وآخر من زجاج، وآخر من عيدان- بفتح العين المهملة- والعيدانة: النّخلة السّحوق، وهو الّذي كان يوضع تحت سريره ليبول فيه باللّيل.

وقد تقدّم (عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها؛ قالت:

كان أحبّ الشّراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلو البارد) ؛ برفع «أحبّ» على أنّه

ص: 241

.........

اسم «كان» ، ونصب «الحلو البارد» على أنّه خبرها، وقيل: بالعكس.

أخرجه الإمام أحمد والتّرمذي في «الجامع» و «الشّمائل» في «الأشربة» ؛ عن عائشة، والحاكم في «الأطعمة» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا.

وتعقّبه الذّهبيّ بأنّه من رواية عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة عن هشام، عن أبيه، عن عائشة. وعبد الله هالك! فالصّحيح إرساله. انتهى.

ولذا قال التّرمذيّ في «جامعه» : والصحيح ما روي عن الزّهري عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلا؛ ثمّ يحتمل أن تريد عائشة ب «الحلو البارد» : الماء الحلو العذب؛ كالعيون والآبار الحلوة، فإنّه كان يستعذب له الماء، ويحتمل أن تريد به الماء الممزوج بالعسل، أو الذي ينقع فيه التّمر أو الزّبيب.

قال ابن القيّم: والأظهر أنّه يعمّ الثّلاثة جميعا، لأنّه يصدق على الكلّ أنّه ماء حلو.

وكان صلى الله عليه وسلم ينبذ له أوّل اللّيل ويشربه إذا أصبح يومه ذلك واللّيلة التي تجيء والغد إلى العصر، فإن بقي منه شيء سقاه الخادم؛ أو أمر به فصبّ. رواه مسلم.

وهذا النّبيذ هو: ماء حلو يطرح فيه تمر يحلّيه، وله نفع عظيم في زيادة القوّة، ولم يكن يشربه بعد ثلاث؛ خوفا من تغيره إلى الإسكار.

فإن لم يتغيّر سقاه الخادم، وإلّا صبّه.

ولا يشكل بأنّ اللّبن كان أحبّ إليه!! لأنّ الكلام في شراب هو ماء؛ أو فيه ماء.

وأمّا حديث عائشة: كان أحبّ الشّراب إليه العسل. رواه ابن السّنّي وأبو نعيم في «الطب» ؟! فالمراد: الممزوج بالماء، كما يأتي في الرواية الّتي بعد هذا.

وروى الإمام أحمد: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الشّراب أطيب؟ قال: «الحلو البارد» ، فإذا جمع الماء الوصفين المذكورين- وهما الحلاوة والبرودة- حفظ

ص: 242

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب العسل الممزوج بالماء البارد.

الصّحّة، ونفع الأرواح والقوى، والكبد والقلب، وقمع الحرارة وحفظ على البدن رطوباته الأصليّة، وردّ إليه ما تحلّل منها، ورقّق الغذاء ونفّذه إلى العروق.

والماء الملح؛ أو السّاخن يفعل ضدّ هذه الأشياء، وتبريد الماء وتحليته لا ينافي كمال الزّهد!! لأنّ فيه مزيد الشّهود لنعم الله تعالى، وإخلاص الشّكر له، ولذلك كان سيّدي أبو الحسن الشّاذلي يقول: إذا شربت الماء الحلو أحمد ربّي من وسط قلبي. وليس في شرب الماء الملح فضيلة.

ويكره تطييبه بنحو مسك كتطييب الماكل، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستعمل أنفس الشّراب؛ لا أنفس الطّعام غالبا، وكان صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء من بيوت صحبه، أي: يطلب له الماء العذب من بيوتهم.

(و) في «المواهب» : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب العسل) : النحل، إذ هو المراد لغة وطبّا. وفي «القاموس» العسل- محرّكة-: لعاب النّحل.

(الممزوج بالماء البارد) .

وقال ابن القيّم: وفي هذا من حفظ الصّحّة ما لا يهتدي إلى معرفته إلّا أفاضل الأطبّاء، لما فيه من التّعديل، فإنّ شرب العسل ولعقه على الريق يزيل البلغم، ويغسل خمل المعدة، ويجلو لزوجتها «1» ، ويدفع عنها الفضلات، ويسخّنها باعتدال، ويفتح سددها «2» ، والماء البارد رطب يقمع الحرارة ويحفظ البدن، فجمعه مع العسل غاية في التّعديل. وإنّما يضرّ بالعرض لصاحب الصّفراء!! لحدّته وحدّة الصّفراء، فربّما هيّجها، فدفع ضرره لصاحبها بالخلّ.

قال في «العارضة» : كان يشرب الماء البارد ممزوجا بالعسل، فيكون حلوا باردا، وكان يشرب اللّبن، ويصبّ عليه الماء حتّى يبرد أسفله.

(1) شيء كالدهن يتربى على فم المعدة.

(2)

بضم السين المهملة جمع سدة؛ كغرفة وغرف، وهي الحاجز بين الشيئين.

ص: 243

وعن جابر: أنّه صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار- ومعه صاحب له- فسلّم، فردّ الرّجل وهو يحوّل الماء في حائطه، فقال صلى الله عليه وسلم:«إن كان عندك ماء بات في شنّة، وإلّا.. كرعنا» ،

وقال في «العارضة» أيضا: العسل واللّبن مشروبان عظيمان، سيّما لبن الإبل «1» ، فإنّها تأكل من كلّ الشّجر، وكذا النّحل لا تبقي نورا إلا أكلت منه، فهما مركبان من أشجار مختلفة، وأنواع من النّبات متباينة، فكأنّهما شرابان مطبوخان مصعدان، ولو اجتمع الأوّلون والآخرون على أن يركّبوا شيئين منهما لما أمكن، فسبحان جامعهما. انتهى نقله المناوي والزرقاني.

(و) أخرج البخاري في موضعين في «الأشربة» ، وأبو داود وابن ماجه في «الأشربة» أيضا؛ (عن جابر) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما (أنّه صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار) بستانه، وهو أبو الهيثم بن التّيّهان- جزم به الحافظ ابن حجر في «المقدمة» ، ومرّضه «2» في «الشرح» ، لأنّ راويه الواقديّ، وهو متروك-.

(ومعه صاحب له) أبو بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه (فسلّم)، أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه- كما في رواية، أي: وسلّم صاحبه- على الرّجل، (فردّ الرّجل) السّلام عليهما- زاد في رواية للبخاري: وقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمّي- وهي ساعة حارة.

(وهو) - في رواية: والرجل- (يحوّل الماء في حائطه)، أي: ينقله من عمق البئر إلى ظاهرها، أو يجري الماء من جانب إلى جانب من بستانه؛ ليعمّ أشجاره بالسّقي.

(فقال صلى الله عليه وسلم للرجل (: «إن كان عندك ماء بات في شنّة) - بفتح الشّين المعجمة والنّون المشدّدة، وتاء تأنيث-: قربة خلق، وجواب الشّرط محذوف- صرّح به في رواية ابن ماجه، فقال-: فاسقنا منه، (وإلّا) يكن عندك (كرعنا» ) ، - بفتح

(1) لعلها: البقر والله أعلم.

(2)

ضعّفه أو شكك في صحته.

ص: 244

فقال: عندي ماء بات في شنّ، فانطلق إلى العريش فسكب في قدح ماء، ثمّ حلب عليه من داجن [له] ؛ فشرب عليه الصلاة والسلام.

الكاف والرّاء؛ وتكسر- أي: شربنا من غير إناء ولا كفّ؛ بل بالفم.

(فقال: عندي ماء بات في شنّ)، قال الجوهري: الشّن والشّنة: القربة الخلق، وقال الدّاودي: هي الّتي زال شعرها من البلى.

(فانطلق) - بفتحات- أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه مع الرّجل بطلبه (إلى العريش) الموضع المسقف من البستان بالأغصان، وأكثر ما يكون في الكروم؛ وعليه عشب وثمام- وفي رواية للبخاري: فانطلق بكسر اللّام وإسكان القاف فانطلق بهما- (فسكب) أي: الرّجل (في قدح ماء، ثمّ حلب عليه) لبنا (من داجن [له] ) - بجيم ونون-: شاة تألف البيوت، كما سيأتي للمصنف.

(فشرب عليه الصلاة والسلام ، ثمّ شرب الرّجل الذي جاء معه.

وفي رواية أحمد: وشرب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وسقى صاحبه، قال الحافظ ابن حجر:

وظاهره أنّه شرب فضلة النّبيّ صلى الله عليه وسلم. لكن في رواية لأحمد أيضا وابن ماجه: ثمّ سقاه، ثمّ صنع لصاحبه مثل ذلك، أي: حلب له أيضا، وسكب عليه من الماء البائت؛ هذا هو الظّاهر، ويحتمل أنّ المثليّة في مطلق الشّراب. انتهى.

وعورض هذا الحديث بما أخرجه ابن ماجه؛ عن ابن عمر: مررنا على بركة، فجعلنا نكرع فيها، فقال صلى الله عليه وسلم:«لا تكرعوا، ولكن اغسلوا أيديكم ثمّ اشربوا بها..» الحديث. وفي سنده ضعف، فإن كان محفوظا!! فالنّهي فيه للتّنزيه.

وقوله: وإلّا كرعنا!! لبيان الجواز، أو كان قبل النّهي، أو النّهي في غير حال الضّرورة، وهذا الفعل كان لضرورة شرب الماء الّذي ليس ببارد، فشرب بالكرع لضرورة العطش؛ لئلّا تكرهه نفسه إذا تكررت الجرع، فقد لا يبلغ الغرض من الرّي. أشار إلى هذا الأخير ابن بطّال.

وإنّما قيل للشّرب بالفم كرع!! لأنّه فعل البهائم لشربها بأفواهها، والغالب أنّها

ص: 245

و (الشّنّ) : الجلد البالي. و (الدّاجن) : ما يألف البيوت من الشّياه ونحوها.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استنّ.. أعطى السّواك الأكبر،

تدخل أكارعها حينئذ. وعند ابن ماجه من وجه آخر؛ عن ابن عمر: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا؛ وهو الكرع. وسنده ضعيف أيضا.

فإن ثبت! احتمل أنّ النّهي خاصّ بهذه الصّورة، وهي أن يكون الشّارب منبطحا على بطنه، ويحمل حديث جابر على الشّرب بالفم من مكان عال لا يحتاج إلى الانبطاح. انتهى «زرقاني» .

(والشّنّ) : - جمعه شنان؛ مثل سهم وسهام- هو (الجلد البالي.

(و) أمّا (الدّاجن) - بالدال المهملة والجيم المكسورة، وآخره نون؛ بوزن العاجن- فهي (: ما يألف البيوت من الشّياه) والدّجاج والحمام، (ونحوها) - والجمع دواجن.

(و) أخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» ؛ عن عبد الله بن كعب بن مالك السّلمي- قال في «التقريب» : يقال له رؤية؛ ولا رواية له اتفاقا، فالحديث مرسل. قال في العزيزي: وهو حديث حسن-:

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استنّ) ؛ أي: تسوّك، أي: استعمل السّواك في أسنانه- من السّنّ؛ وهو إمرار شيء فيه خشونة على آخر، ومنه المسنّ- (أعطى السّواك الأكبر)، الظّاهر أنّ المراد به: الأفضل، ويحتمل الأسنّ، أي: ناوله بعد تسوّكه به إلى أكبر القوم الحاضرين لأنّه توقير له، فيندب تقديم الأكبر في السّواك وغيره من سائر وجوه الإكرام والتّوقير، وفيه حلّ الاستياك بحضرة الغير؛ قاله المناوي.

وفي العزيزي: قال الشّيخ: وهذا يشعر بجواز دفع السّواك للغير، لكن ينبغي حمله على جواز بكراهة في شأن غير الشّارع، على أنّه كان يفعل مثل ذلك لبيان الجواز فلا ينافي حينئذ كراهة الاستياك بسواك الغير. انتهى.

ص: 246

وإذا شرب.. أعطى الّذي عن يمينه.

وكان صلى الله عليه وسلم يمصّ الماء مصّا، ولا يعبّ عبّا.

وفي الحفني قوله: أعطى السّواك الأكبر، أي: أكبر الحاضرين؛ وإن لم يكن على يمينه، بخلاف الأكل والشّرب، فيسنّ البدء بمن على اليمين؛ ولو صغيرا ومفضولا.

ويؤخذ من هذا الحديث عدم كراهة الاستياك بسواك الغير إذا كان بإذنه، وهو كذلك، ففي «شرح محمد رملي» : ولا يكره سواك غيره بإذنه، ويحرم بدونه؛ إن لم يعلم رضاه به. انتهى.

قال علي الشّبراملسي: «قوله ولا يكره» ؛ أي: لكنّه خلاف الأولى إلّا للتّبرّك، كما فعلته عائشة رضي الله تعالى عنها. انتهى.

(وإذا شرب) ماء؛ أو لبنا (أعطى الّذي عن يمينه) ؛ ولو مفضولا صغيرا- كما مرّ-.

قال ابن حجر: وظاهر تخصيص الشّراب أنّ ذلك لا يجري في الأكل، لكن وقع في حديث أنس خلافه. انتهى «مناوي» .

(و) في «الإحياء» : (كان صلى الله عليه وسلم يمصّ الماء) - بضمّ الميم وفتحها، ومنهم من يقتصر عليه- (مصّا) - مصدر مؤكّد لما قبله- أي: يأخذه في مهلة ويشربه شربا رفيقا.

(ولا يعبّ) - بضمّ العين- (عبّا)، أي: لا يشرب بكثرة من غير تنفّس.

روى البغوي، والطّبراني، وابن عدي، وابن قانع، وابن منده، وأبو نعيم في «الصحابة» ، وابن السّنّي، وأبو نعيم في «الطّب» ؛ من حديث بهز: كان يستاك عرضا، ويشرب مصّا. وأسانيده كلّها ضعيفة مضطربة.

وروى الطّبراني؛ من حديث أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها:

كان يبدأ بالشّراب إذا كان صائما، وكان لا يعبّ فيشرب مرّتين أو ثلاثا.

ص: 247

وكان يدفع فضل سؤره إلى من على يمينه، فإن كان من على يساره أجلّ رتبة.. قال للّذي على يمينه: «السّنّة أن تعطى، فإن أحببت..

آثرتهم» .

ولأبي الشّيخ؛ من حديث ميمونة: لا يعبّ ولا يلهث. وكلّها ضعيفة.

وروى سعيد بن منصور، وابن السّنّي، وأبو نعيم في «الطّب» ، والبيهقي في «الشّعب» ؛ من مرسل ابن أبي حسين:«إذا شرب أحدكم فليمصّ مصّا، ولا يعبّ عبّا، فإنّ الكباد من العبّ» . وروى أبو داود في «مراسيله» ؛ عن عطاء ابن أبي رباح: «إذا شربتم فاشربوا مصّا، وإذا استكتم فاستاكوا عرضا» .

وروى الدّيلمي من حديث علي: «إذا شربتم الماء فاشربوه مصّا، ولا تشربوه عبّا، فإنّ العبّ يورث الكباد» .

والكباد- بضمّ الكاف وتخفيف الباء-: وجع الكبد، لأنّ مجمع العروق عند الكبد، ومنه ينقسم إلى العروق ويتولّد منه السّدد فيقوى البلغم؛ فيورث كسلا عن القيام والعبادة، وهذا من محاسن حكمته عليه الصلاة والسلام.

قال ابن القيّم: وقد علم بالتجربة أنّ هجوم الماء دفعة واحدة يؤلم الكبد ويضعف حرارتها، بخلاف وروده بالتدريج، ألا ترى أنّ صبّ الماء البارد على القدر وهي تفور يضرّ، وبالتدريج لا. انتهى.

(وكان) صلى الله عليه وسلم (يدفع فضل سؤره) ؛ أي: ما بقي من الشراب (إلى من على يمينه) .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أنس رضي الله تعالى عنه.

ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: «الأيمن فالأيمن»

أو «الأيمنون فالأيمنون» .

واستفيد منه تقديم الأيمن ندبا؛ ولو صغيرا مفضولا.

(فإن كان من على يساره أجلّ رتبة! قال) النّبيّ صلى الله عليه وسلم (للّذي على يمينه:

«السّنّة أن تعطى) - بفتح الطّاء المهملة؛ مبنيا للمجهول- (فإن أحببت آثرتهم» ) - بفتح التّاء- قال العراقي: متّفق عليه؛ من حديث سهل بن سعد. انتهى.

ص: 248

وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وخالد بن الوليد

(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والتّرمذي في «الجامع» و «الشّمائل» - وقال التّرمذيّ: هذا حديث حسن- وابن ماجه، وفي ألفاظهم اختلاف بالزّيادة والنّقص- وهذا لفظ «الشّمائل» -؛ كلهم

(عن) عبد الله (ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ قال:

دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا) - ضمير منفصل مؤكّد، أتى به لأجل العطف، كما قال ابن مالك في «الخلاصة» :

وإن على ضمير رفع متّصل

عطفت فافصل بالضّمير المنفصل

(وخالد بن الوليد) بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، القرشي المخزومي.

أبو سليمان- وقيل: أبو الوليد- سيف الله.

أمّه لبابة الصّغرى بنت الحارث «أخت ميمونة: أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها» ؛ ولبابة الكبرى امرأة العبّاس.

أسلم بعد الحديبية، وكانت الحديبية في ذي القعدة سنة: ستّ من الهجرة.

وشهد غزوة مؤتة، وسمّاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ «سيف الله» ، وشهد خيبر وفتح مكّة وحنينا. روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر حديثا اتفق البخاري ومسلم على حديث.

روى عنه ابن عبّاس، وجابر، والمقدام بن معدي كرب، وأبو أمامة بن سهل؛ الصّحابيّون رضي الله تعالى عنهم.

وروى عنه من التّابعين: قيس بن أبي حازم، وأبو وائل، وغيرهما.

وكان من المشهورين بالشّجاعة والشّرف والرّياسة، وممّن يوزن بألف من الرّجال:

ص: 249

على ميمونة،

ممّن بألف يوزن: المقداد

خارجة، عبادة الآساد

كذا زبير، وعليّ منهم

وخالد في العدّ أيضا معهم

وله الآثار العظيمة المشهورة في قتال المرتدّين باليمامة، وفي قتال الرّوم بالشّام، والفرس بالعراق، وافتتح دمشق.

ولما حضرته الوفاة؛ قال: لقد شهدت مائة زحف أو نحوها، وما في بدني موضع شبر؛ إلّا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي فلا نامت أعين الجبناء، وما لي من عمل أرجى من «لا إله إلّا الله» ؛ وأنا متترّس بها.

وتوفي في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما سنة: إحدى وعشرين هجرية بحمص، وقبره مشهور على نحو ميل من حمص «1» ، وحزن عليه عمر والمسلمون حزنا شديدا رضي الله تعالى عنه وعنهم، وعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.

(على) أمّ المؤمنين (ميمونة) بنت الحارث بن حزن الهلالية العامريّة، تزوّجها النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمكّة سنة ستّ، وقيل: سنة سبع، وبنى بها «2» في سرف- بسين مهملة مفتوحة، ثمّ راء مكسورة، ثم فاء-: موضع بين التّنعيم والوادي في طريق المدينة المنوّرة على عشرة أميال من مكّة، وقدّر الله أنّها ماتت عند قفولها من الحجّ ب «سرف» وهو المكان الّذي بنى بها فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم سنة: - 51- إحدى وخمسين هجرية، ودفنت فيه، فاجتمع في ذلك المكان الهناء والعزاء.

وبني على قبرها مسجد يزار ويتبرّك به،

(1) هو الآن وسطها.

(2)

الصواب أن يقال بنى عليها. وإنما يقال دخل بها؛ خلاف المشهور. لأن المراد: بنى عليها قبة، ودخل عليها هذه القبة. والله تعالى أعلم.

ص: 250

فجاءتنا بإناء من لبن، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا على يمينه، وخالد عن شماله.

فقال لي: «الشّربة لك،

وكان الّذي صلّى إماما بالنّاس على جنازتها ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما.

وهي أخت أم الفضل: امرأة العبّاس، وأخت لبابة الصغرى: أمّ خالد، وأخت أسماء بنت عميس، فهي خالة خالد بن الوليد وخالة ابن عبّاس، وهي آخر أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

روى عنها جماعة؛ منهم عبد الله بن عبّاس.

روي لها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ستّة وأربعون حديثا رضي الله تعالى عنها.

(فجاءتنا بإناء) مملوء (من لبن، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي: منه (وأنا على يمينه، وخالد عن شماله)، أي: والحال أنّي على يمينه وخالد عن شماله، وتعبيره ب «على» في الأوّل، وب «عن» في الثّاني!! للتّفنّن الّذي هو ارتكاب فنّين من التعبير مع اتّحاد المعنى، فهما هنا بمعنى واحد وهو مجرّد الحضور.

(فقال) أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم (لي) - بفتح الياء وتسكّن- (: «الشّربة لك) أي:

هذه المرّة من الشّرب حقّ لك لأنّك على اليمين، ومن على اليمين مقدّم على من على اليسار، فقد ورد:«الأيمن فالأيمن» . رواه مالك، وأحمد، وأصحاب الكتب السّتّة؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه.

والسّرّ في تقديم من على اليمين على من على اليسار!! أنّ من على اليمين مجاور لملك اليمين الّذي هو حاكم على ملك الشّمال، وتجرى هذه السّنّة- وهي تقديم من على اليمين- في غير الشّراب كالمأكول والملبوس وغيرهما؛ كما قاله المهلّب وغيره، خلافا لمالك حيث قال في الشراب خاصة. وقال ابن عبد البرّ: لا يصحّ عنه.

وأوّله القاضي عياض بأنّ مراده أنّه إنّما جاءت السّنّة بتقديم الأيمن في الشّرب خاصّة، وغيره إنّما هو بطريق القياس، فالسّنّة البداءة في الشّرب ونحوه بعد الكبير

ص: 251

فإن شئت آثرت بها خالدا» .

بمن على يمينه؛ ولو صغيرا مفضولا، وتأخير من على اليسار؛ ولو كبيرا فاضلا!! بل ذهب ابن حزم إلى وجوب ذلك، فقال: لا تجوز البداءة بغير الأيمن إلّا بإذنه.

فإن قيل: يعارض ما تقدّم ما رواه أبو يعلى؛ عن الحبر ابن عبّاس بإسناد صحيح: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقى قال: «ابدأوا بالأكبر» أو قال: بالأكابر» .

أجيب: بأنّ ذلك محمول على ما إذا لم يكن عن يمينه أحد، بل كان الجميع أمامه؛ أو وراءه.

(فإن شئت آثرت بها خالدا» ) - بفتح التّاء فيها ومدّ الهمزة-؛ من آثرت.

يقال: آثرته- بالمدّ-: فضّلته وقدّمته، لأنّ الإيثار معناه: التّفضيل والتّقديم، وأما استأثر بالشّيء! فمعناه: استبدّ به؛ كما في «المصباح» وغيره.

وفي تفويض الإيثار إلى مشيئته تطييب لخاطره، وتنبيه على أنّه ينبغي له إيثار خالد؛ لكونه أكبر منه.

وهذا ليس من الإيثار في القرب المكروه، على أنّ الكراهة محلّها حيث آثر من ليس أحقّ منه؛ بأن كان مساويا له وأقلّ منه، أمّا إذا آثر من هو أحقّ منه!! كأن آثر من هو أحقّ منه بالإمامة!! فليس مكروها.

فإن قيل: قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيمن في هذا الخبر، ولم يستأذن أعرابيّا عن يمينه؛ والصّدّيق عن يساره في قصة نحو هذه!؟.

أجيب: بأنّه إنّما استأذن هنا ثقة بطيب نفس ابن عباس بأصل الاستئذان، لا سيّما وخالد قريبه، مع رياسته في قومه، وشرف نسبه بينهم، وقرب عهده بالإسلام، فأراد صلى الله عليه وسلم تطييب خاطره، وتألّفه بذلك.

وأمّا الصّدّيق- رضي الله تعالى عنه- فإنّه مطمئنّ الخاطر؛ راض بكل ما يفعله المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا يتغيّر ولا يتأثّر، ولا ينقص ذلك بمقام الصّدّيق، ولا يخرجه عن فضيلته الّتي أولاه الله إيّاها، لأنّ الفضيلة إنّما هي فيما بين العبد وربّه، لا فيما بينه وبين الخلق.

ص: 252

فقلت: ما كنت لأؤثر على سؤرك أحدا.

ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطعمه الله طعاما.. فليقل:

(فقلت: ما كنت لأؤثر) - بكسر اللّام ونصب الفعل، كما في قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [33/ الأنفال]-.

(على سؤرك أحدا) السؤر- بضمّ السّين وسكون الهمزة، وقد تبدل واوا-:

ما بقي من الشّراب. والمعنى: لا ينبغي أن أقدّم على ما بقي من شرابك أحدا غيري يفوز به؛ لما فيه من البركة، ولا يضرّ عدم إيثاره لذلك، ولهذا أقرّه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وكذا نقل عن بعض الصّحابة أنّه لما أقرع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بين رجل وولده في الخروج للجهاد فخرجت القرعة للولد؛ فقال له أبوه: آثرني، فقال: يا أبت لا يؤثر بالجنّة أحد أحدا أبدا!! فأقرّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، مع أنّ برّ الوالدين متأكّد، لكن على ما أحكمته السّنة؛ دون غيره.

ويؤخذ من هذا الحديث: أنّ من سبق إلى مجلس عالم أو كبير وجلس بمجلس عال لا ينقل منه لمجيء من هو أفضل منه، فيجلس ذلك الجائي حيث ينتهي به المجلس؛ ولو دون مجلس من هو دونه.

(ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطعمه الله طعاما؛ فليقل) ندبا مؤكّدا حال الشروع في الأكل، فإن لم يقل ذلك حال الشّروع في الأكل؛ فليأت به بعده، ويقدم عليه حينئذ صيغة الحمد، نحو قوله «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين» ، كذا قاله الباجوري، تبعا للمناوي التّابع لابن حجر الهيتمي.

وقال ملّا علي قاري في «جمع الوسائل» : ليقل ندبا بعد أكله والحمد عليه.

وأما قول ابن حجر «فليقل حال الأكل، فإن أخّره إلى ما بعده! فالأولى أن يكون بعد الحمد كما هو ظاهر» !! فليس بظاهر، لأنّ حال الأكل لا يقال «أطعمنا خيرا منه، أو زدنا منه» ؛ كما هو ظاهر. انتهى.

ص: 253

(اللهمّ؛ بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرا منه) ، ومن سقاه الله لبنا..

فليقل: (اللهمّ؛ بارك لنا فيه، وزدنا منه) .

ثمّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس شيء يجزىء مكان الطّعام والشّراب غير اللّبن» .

وكان صلى الله عليه وسلم يشرب قاعدا، وكان ذلك عادته

(: اللهمّ؛ بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرا منه) ، الظّاهر أنّه يأتي بهذا اللّفظ المذكور؛ وإن كان وحده، بل وإن كان امرأة؛ رعاية للّفظ الوارد، وملاحظة لعموم الإخوان من المسلمين.

(ومن سقاه الله لبنا؛ فليقل) حال الشّروع في الشّرب؛ كما تقدم

(: اللهمّ؛ بارك لنا فيه، وزدنا منه» ) أي: من جنس اللّبن الّذي شربنا منه، ولم يقل- على قياس ما سبق- «واسقنا خيرا منه» !! لأنّه لا خير من اللّبن، بخلاف بقيّة الأطعمة؛ لأنّ اللّبن يجزي مكان الطّعام والشّراب؛ ولا كذلك غيره، فهو خير من سائر الأطعمة وليس فيها خير منه.

وأشار المصنّف إلى دليله بقوله: (ثمّ قال) أي: ابن عبّاس: (قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس شيء يجزىء) - بضمّ أوّله وهمزة في آخره؛ من الإجزاء- أي:

لا يقوم، ولا يغني شيء (مكان الطّعام والشّراب؛ غير اللّبن» ) - بنصب «غير» على الاستثناء، أو بالرّفع على البدل- يعني: لا يكفي في دفع الجوع والعطش معا شيء واحد؛ إلا اللّبن، فإنّه يقوم مقام الطّعام والشّراب، لكونه يغذّي ويسكّن العطش.

وبذلك يعلم أنّ سائر الأشربة لا تلحق باللّبن في ذلك، بل بالطّعام.

وحكمة الدّعاء حين الطّعام والشّراب: إسناد ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، ورفع مدخليّة غيره في ذلك.

(وكان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قاعدا، وكان ذلك عادته) المستمرّة.

ص: 254

رواه مسلم. وفي رواية له أيضا: أنّه نهى عن الشّرب قائما.

وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم وهو قائم.

(رواه) الإمام (مسلم) في «صحيحه» .

(وفي رواية له أيضا) من حديث قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه (أنّه) صلى الله عليه وسلم (نهى) - ولمسلم أيضا: زجر- (عن الشّرب قائما) .

قال قتادة: فقلنا: فالأكل!؟ قال: «ذلك أشرّ وأخبث» ؛ هذا بقيّته في «مسلم» .

وكذا رواه أبو داود والتّرمذي- وفي رواية لمسلم أيضا- عن عمر بن حمزة:

أخبرني أبو غطفان المرّي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم:

«لا يشربنّ أحدكم قائما، فمن نسي فليستقىء» .

(و) في «الصحيحين» وغيرهما: (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم شرب من) ماء (زمزم) - ولفظه: أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء زمزم في حجّة الوداع؛ فشرب- (وهو قائم) .

وفي حديث علي بن أبي طالب عند البخاريّ: أنّ عليّا شرب وهو قائم فضل وضوئه، وكان في رحبة الكوفة، ثمّ قال: إنّ أناسا يكرهون الشّرب قائما، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت.

ولأحمد عن علي أنّه شرب قائما فرأى النّاس كأنّهم أنكروه؛ فقال: ما تنظرون أن أشرب قائما!! فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما، وإن شربت قاعدا؛ فقد رأيته يشرب قاعدا!!

وكلّ هذه الأحاديث صحيحة؛ خلافا لمن أشار إلى تضعيف أحاديث النّهي، ولا إشكال فيها، ولا تعارض.

ص: 255

.........

وغلط من زعم أنّ فيها نسخا، وكيف يصار للنّسخ مع إمكان الجمع بين الأحاديث، والنّسخ إنّما يكون لو ثبت التّاريخ. وأنّى له بذلك!!

والصّواب أنّ النّهي محمول على كراهة التّنزيه.

وأمّا شربه صلى الله عليه وسلم قائما! فلبيان الجواز، أو لأنّه لم يجد محلّا للقعود،؛ لازدحام النّاس على زمزم، أو ليرى النّاس أنّه غير صائم، أو لابتلال المحلّ.

فإن قلت: كيف يكون الشّرب قائما مكروها؛ وقد فعله صلى الله عليه وسلم؟!.

فالجواب: أنّ فعله صلى الله عليه وسلم إذا كان بيانا للجواز لم يكن مكروها في حقّه؛ بل البيان واجب عليه، فيثاب عليه صلى الله عليه وسلم ثواب الواجب.

قال النّوويّ: وقد ثبت أنّه توضّأ مرة مرّة، وطاف على بعيره؛ مع أنّ الإجماع على أنّ الوضوء ثلاثا والطواف ماشيا أكمل!! ونظائر هذا لا تنحصر.

وكان ينبّه على جواز الشّيء مرّة أو مرّات، ويواظب على الأفضل، ولذا كان أكثر وضوئه ثلاثا، وأكثر طوافه ماشيا، وأكثر شربه جالسا؛ وهذا واضح، فلا يتشكّك فيه من له نسبة إلى علم.

وأمّا قوله عليه الصلاة والسلام «فمن نسي فليستقىء» !! محمول على الاستحباب والنّدب، فيستحبّ لمن شرب قائما أن يتقيّأ، لهذا الحديث الصّحيح؛ سواء كان ناسيا؛ أو لا. قاله النّووي.

وقالت: المالكيّة: يجوز الشّراب قائما؛ وبالجواز صرّح ابن رشد من أئمّتهم، لصحّة الأدلّة [ولأنها] أقوى من أحاديث النّهي!!

فإنّهم استدلوا لذلك بحديث جبير بن مطعم الصّحابي؛ قال: رأيت أبا بكر الصّديق يشرب قائما وهو من أشد النّاس بعدا عن المكروه.

واستدلّوا بقول مالك: إنّه بلغه عن عمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم أنّهم كانوا يشربون قياما؛ وبلاغات مالك ليست من الضّعيف؛ لأنّها تتبعت كلّها فوجدت موصولة.

ص: 256

.........

وهذا يؤيّد الجواز بلا كراهة، وقد صحّ:«عليكم بسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضّوا عليها بالنّواجذ» ، و «واقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر» !!.

قال صاحب «المفهم» : لم يذهب أحد إلى أنّ النّهي في الحديث للتّحريم، ولا التفات لابن حزم! وإنّما حمل على الكراهة؛ والجمهور على عدمها، فمن السّلف الخلفاء الأربعة، ثمّ مالك؛ تمسّكا بشربه [صلى الله عليه وسلم] من زمزم قائما، وكأنّهم رأوه متأخّرا عن النّهي، فإنّه في حجّة الوداع؛ فهو ناسخ، وحقّق ذلك فعل خلفائه بخلاف النّهي، ويبعد خفاؤه عليهم مع شدّة ملازمتهم له وتشدّدهم في الدّين.

وهذا؛ وإن لم يصلح دليلا للنّسخ يصلح لترجيح أحد الحديثين!! انتهى.

وأجاب المالكية عن حديث أبي هريرة: «لا يشربنّ أحدكم قائما، فمن نسي فليستقىء» بأجوبة منها: قول المازري: قال بعض شيوخنا: «لعلّ النّهي ينصرف لمن أتى أصحابه بماء، فبادر لشربه قائما» !! قال: وأيضا فالأمر بالاستقاء لا خلاف بين أهل العلم أنّه ليس على أحد أن يستقيء، قال: والأظهر لي أن أحاديث شربه قائما تدلّ على الجواز، وأحاديث النّهي تحمل على الاستحباب، والحثّ على ما هو أولى وأكمل؛ لأنّ في الشّرب قائما ضررا ما، فكره من أجله.

وفعله صلى الله عليه وسلم!! لأمنه من الضّرر الحاصل لغيره، قال: وعلى هذا الثّاني يحمل قوله: «فمن نسي فليستقىء» على أنّ ذلك يحرّك خلطا يكون القيء دواءه، وعليه فالنّهي طبّي إرشاديّ.

ويؤيّده قول إبراهيم النّخعي: «إنّما نهى عن ذلك لداء البطن» !. انتهى كلام المازري.

قال ابن القيّم: وللشّرب قائما آفات عديدة؛

منها: أنّه ينزل بسرعة إلى المعدة؛ فيخشى منه أن يبرّد حرارتها.

ومنها: أنّه يسرع النّفوذ إلى أسافل البدن بغير تدريج؛ لعدم استقراره في المعدة، وكلّ هذا يضرّ بالشّارب قائما، فإذا فعله نادرا لم يضرّه، وكذا لحاجة!

ص: 257

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يتحف الرّجل بتحفة..

سقاه من ماء زمزم.

قال- أعني ابن القيّم-: ولا يعترض على هذا بالعوائد، فإنّها لها طبائع ثوان وأحكام أخرى، وهي بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء. انتهى.

قال ابن العربي: وللمرء ثمانية أحوال: قائم، وماش، مستند، راكع، ساجد، متكىء، قاعد، مضطجع، كلّها يمكن الشّرب فيها. وأهنؤها وأكثرها استعمالا القعود، وأمّا القيام! فنهي عنه لأذيّته للبدن. انتهى.

وللحافظ ابن حجر- وقيل: للحافظ السيوطي- «1» :

إذا رمت تشرب فاقعد تفز

بسنّة صفوة أهل الحجاز

وقد صحّحوا شربه قائما

ولكنّه لبيان الجواز

(و) أخرج أبو نعيم في «الحلية» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما- قال «العزيزي» : قال الشّيخ حديث حسن. انتهى. قال المناويّ: وخرّجه الفاكهي في «تاريخ مكّة» : موقوفا بسند على شرط الشّيخين-:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يتحف) - بضمّ أوّله، من أتحف- (الرّجل بتحفة) - بسكون الحاء؛ وقد تفتح، قال العلقمي: التّحفة: طرفة الفاكهة، وتستعمل في غيرها. وقال في «المصباح» : التّحفة: ما أتحفت به غيرك- (سقاه من ماء زمزم) لجموم فضائله وعموم فوائده، ومدحه في الكتب الإلهيّة.

قال وهب: إنّكم لا تدرون ماء زمزم!! والله؛ إنّها لفي كتاب الله. - أي:

«التّوراة» -: «المضنونة، وبرة، وشراب الأبرار؛ لا تنزف ولا تذمّ، طعام من طعم، وشفاء من سقم، لا يعمد إليها امرؤ فيتضلّع منها إلّا نفت ما به من داء، وأحدثت له شفاء، والنّظر إلى زمزم عبادة، تحطّ الخطايا حطّا» «2» . رواه عبد الرزّاق وابن منصور بسند فيه انقطاع.

(1) بل هي للحافظ ابن حجر قطعا؛ لأنه أنشدها لنفسه وعزاها إليه الإمام ابن علان في «شرح الأذكار» .

(2)

انظر بداية الجزء الرابع عند قوله صلى الله عليه وسلم «ماء زمزم لما شرب له» .

ص: 258

وكان صلى الله عليه وسلم يحمل ماء زمزم.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنهما قال:

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

(و) أخرج التّرمذي، والحاكم؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل ماء زمزم) من مكّة إلى المدينة، ويهديه لأصحابه، وكان يستهديه من أهل مكّة، فيسنّ فعل ذلك.

(و) أخرج التّرمذي في «الشّمائل» ؛ (عن) أبي عبد الرحمن- وقيل:

أبي نصير؛ بضمّ النون- (عبد الله بن عمرو بن العاص) بن وائل بن هاشم بن سعيد- بضم السّين وفتح العين- ابن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي السّهمي، الزّاهد العابد، الصّحابي بن الصّحابي (رضي الله تعالى عنهما) .

كان بينه وبين أبيه في السّن اثنتا عشرة سنة، - وقيل: إحدى عشرة سنة-.

وأمّه ريطة بنت منبّه، بن الحجّاج بن عامر بن حذيفة بن سعيد بن سهم.

أسلمت. وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في حقه: «نعم أهل البيت: عبد الله، وأبو عبد الله، وأمّ عبد الله» أخرجه أحمد، وأبو يعلى؛ عن طلحة رضي الله تعالى عنه؛

أسلم عبد الله قبل أبيه، وكان كثير العلم، مجتهدا في العبادة؛ تلّاء للقرآن.

وكان أكثر النّاس أخذا للحديث والعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعمائة حديث؛ اتّفق البخاريّ ومسلم على سبعة عشر منها، وانفرد البخاري بثمانية، وانفرد مسلم بعشرين، وشهد مع أبيه فتح الشّام، وكانت معه راية أبيه يوم اليرموك، وتوفّي سنة: - 63- ثلاث وستين.

وقيل غير ذلك، وكان عمره اثنتين وسبعين سنة.

(قال: رأيت) أي: أبصرت (رسول الله صلى الله عليه وسلم مفعول «رأيت» ، وجملة

ص: 259

يشرب قائما وقاعدا.

وعن النّزّال بن سبرة قال: أتي عليّ بكوز من ماء وهو في الرّحبة، فأخذ منه كفّا فغسل يديه، ومضمض،

(يشرب) حال، و (قائما وقاعدا) حالان من فاعل «يشرب» .

والمراد أنّه رآه مرّة يشرب قائما ورآه مرّة يشرب قاعدا، لا أنّه رآه مرّة واحدة يشرب قائما وقاعدا، كما يوهمه ظاهر العبارة؛ فيكون قد جمع في مرّة واحدة بين القيام والقعود، وهو خلاف المراد.

وحيث كان الغالب من فعله صلى الله عليه وسلم الشّرب قاعدا، وشربه قائما إنّما كان نادرا؛ لبيان الجواز!! كان تقديم القيام في نحو هذا الحديث للاهتمام بالردّ على المنكر لذلك؛ لا لكثرته كما وهم.

(و) أخرج التّرمذي في «الشّمائل» (عن النّزّال) - بفتح النّون وتشديد الزّاي- (بن سبرة) - بفتح السّين وسكون الباء الموحّدة وفتح الراء؛ آخره تاء تأنيث- الهلاليّ العامريّ الكوفي. قيل: له صحبة، خرّج له الجماعة غير مسلم، روى عن أبي بكر وعثمان وعلي، وعنه الشّعبي والضّحّاك. وثّقه العجلي.

(قال: أتي عليّ) رضي الله تعالى عنه (بكوز من ماء؛ وهو في الرّحبة) أي:

والحال أنّه في الرّحبة- أي: رحبة الكوفة- كان يقعد فيها للحكم أو للوعظ، أو في رحبة المسجد؛- وهي بفتح الرّاء والحاء المهملة، وقد تسكن-: المكان المتّسع، ورحبة المسجد منه؛ فلها حكمه ما لم يعلم حدوثها، وهي المحوط عليه لأجله؛ وإن لم يعلم دخولها في وقفه. بخلاف حريمه؛ فليس له حكمه، والحريم ما تلقى فيه قمامات المسجد؛ وليس منه.

(فأخذ منه)، أي: من الماء الذي في الكوز (كفّا)، أي: ملء كفّ من الماء (فغسل يديه) إلى رسغيه، (ومضمض) .

قال العصام: الظّاهر أنّه عطف على «غسل» ، فتكون المضمضة والاستنشاق

ص: 260

واستنشق، ومسح وجهه وذراعيه ورأسه، ثمّ شرب وهو قائم، ثمّ قال: هذا

وغسل اليدين ومسح الوجه والذّراعين والرّأس، وكذا مسح الرّجلين- كما وقع في رواية- من كفّ واحدة. قال: ولا صارف عنه.

وتعقّب؛ بأنّه لا صارف أقوى من استبعاد ذلك من كفّ واحد من طريق النّقل الشّرعي والفعل العرفي، إذ ملء الكفّ لا يحصل منه ما ذكر؛ خصوصا مع قوله «فغسل يديه» ! لأنّه إذا غسلهما بما في كفّه لم يبق شيء يتمضمض به، ويفعل منه ما ذكر بعد المضمضة، فالصّواب أنّه عطف على «أخذ» .

وكذا قوله (واستنشق؛ ومسح وجهه وذراعيه) : يحتمل أنّ المراد بالمسح حقيقته، وهو: إمرار الماء من غير سيلان له على العضو، وعليه فالمراد بالوضوء: الوضوء اللّغوي، وهو مطلق التّنظيف.

ويؤيّده عدم ذكر الرّجلين في هذه الرّواية. ويحتمل أنّ المراد به: الغسل الخفيف، وعليه، فالمراد بالوضوء: الوضوء الشّرعي.

ويؤيّده ما في بعض الرّوايات الصّحيحة أنّه غسل الوجه والذّراعين مع ذكر الرّجلين. ويمكن الجمع بين الرّوايات على الاحتمال الأوّل بأنّ الواقعة تعدّدت منه رضي الله تعالى عنه.

(ورأسه) أي: مسح رأسه كلّه؛ أو بعضه، وفي رواية: ورجليه، أي:

ومسح رجليه. على الاحتمالين السّابقين- أعني: احتمال إرادة حقيقة المسح وإرادة الغسل الخفيف- وفي رواية: وغسل رجليه.

(ثمّ شرب) أي: منه، أي: من فضل ماء وضوئه.

وتعبيره ب «ثم» !! لإفادة التّراخي الرّتبي؛ لأنّ ما سبق وضوء، وهذا شرب ماء لدفع عطش.

(وهو قائم) حال. (ثمّ قال: هذا) - أي: ما ذكر، والإشارة لما عدا

ص: 261

وضوء من لم يحدث، هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل.

وعن كبشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فشرب من في قربة

الشّرب- (وضوء من لم يحدث) . أي: بل أراد التّنظيف على احتمال إرادة حقيقة المسح، أو التّجديد على احتمال إرادة الغسل، وأما وضوء المحدث! فمعلوم بشرائط معلومة.

(هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل)، أي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل هذا، ومن بعض المشار إليه الشّرب قائما، وهذا هو السّبب في إيراد الحديث في هذا الباب.

ويؤخذ من الحديث أنّ الشّرب من فضل وضوئه مستحبّ؛ أخذا من فعله صلى الله عليه وسلم، كما يدلّ له فعل عليّ رضي الله تعالى عنه، وإن كان الشّرب قائما لبيان الجواز؛ فليس سنّة، بل تركه أفضل، خلافا لمن زعم أنّه سنة.

(و) أخرج التّرمذيّ في «الجامع» و «الشّمائل» - وقال: حديث حسن غريب صحيح- وابن ماجه، واللفظ ل «الشّمائل»

(عن كبشة) - بفتح الكاف وسكون الموحدة فشين معجمة- بنت ثابت بن المنذر بن حرام، أخت حسّان لأبيه، من بني مالك بن النجار، لها صحبة وحديث، ويقال فيها: كبيشة- بالتصغير- (رضي الله تعالى عنها؛

قالت: دخل عليّ) - بتشديد الياء- أي: في بيتي (النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فشرب من في)، أي: من فم (قربة) - بكسر القاف- معروفة.

ولا ينافي ذلك 1- ما ورد من نهيه صلى الله عليه وسلم عن الشّرب من فم السّقاء- على ما رواه البخاري وغيره؛ عن أنس- و 2- ما ورد من نهيه عن اختناث الأسقية- على ما رواه الشيخان وغيرهما؛ عن أبي سعيد- وهو أن يقلب رأسها ثمّ يشرب منه؛ لأنّ فعله صلى الله عليه وسلم للشّرب من فم القربة لبيان الجواز أو للضّرورة، ونهيه عنه لبيان الأفضل

ص: 262

معلّقة قائما، فقمت إلى فيها فقطعته- أي: قطعت فم القربة للتّبرّك والاستشفاء.

ووقع مثل ذلك لأمّ سليم رضي الله تعالى عنها.

والأكمل، فهو للتّنزيه (معلّقة قائما) ، لبيان الجواز، أو لعدم إمكان الشّرب منها قاعدا.

(فقمت) قاصدة (إلى فيها) أي: إلى فمها، (فقطعته) . قال المصنف:

(أي: قطعت فم القربة للتّبرّك والاستشفاء) ، أو لعدم الابتذال، ولا مانع من الجمع.

قال النّووي في «شرح مسلم» في تفسير هذا الحديث؛ ناقلا عن التّرمذي:

وقطعها فم القربة لوجهين، أحدهما: أن تصون موضعا أصابه فم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يبتذل، ويمسّه كلّ أحد.

والثاني: أن تحفظه للتّبرك به والاستشفاء.

وهذا الحديث يدلّ على أنّ النّهي ليس للتّحريم. انتهى.

(ووقع مثل ذلك) القطع للتبرّك والاستشفاء (لأمّ سليم) سهلة، وقيل:

رملة، وقيل: مليكة، وقيل: أنيسة، وقيل: رميثة، وقيل: الرّميصاء بنت ملحان- بكسر الميم- ابن خالد بن زيد بن حرام بن جندب الأنصاريّة؛ أم أنس بن مالك، «خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم» ؛

وكانت أم سليم هذه هي وأختها خالتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الرضاع.

وكانت من فاضلات الصّحابيّات، وكانت تحت أبي طلحة.

روت عن النّبي صلى الله عليه وسلم عدّة أحاديث، روى عنها: ابنها أنس، وابن عبّاس، وزيد بن ثابت، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وآخرون.

(رضي الله تعالى عنها) ، وذلك فيما أخرجه التّرمذي في «الشّمائل» ، وأبو الشّيخ في «الأخلاق» واللفظ له؛ عن أنس رضي الله عنه، قال:

ص: 263

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينفخ في طعام ولا شراب، ولا يتنفّس في الإناء.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا شرب.. تنفّس ثلاثا، ويقول:

«هو أهنأ،

دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم على أمّ سليم؛ فرأى قربة معلّقة فيها ماء، فشرب منها- ولفظ «الشّمائل» : فشرب من فم القربة- وهو قائم، فقامت أمّ سليم إليها- ولفظ «الشّمائل» إلى رأس القربة- فقطعتها بعد شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وقالت:

لا يشرب منها أحد بعد شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(و) أخرج ابن ماجه والطّبراني بإسناد حسن؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينفخ في طعام ولا شراب) .

بل إذا كان الطّعام حارا صبر حتّى يبرد، وإذا كان فيه نحو ذبابة أخرجها بنحو أصبعه أو عود، ولا ينفخ في الطّعام لإخراجها أو لتبريده؛ لأنّ ذلك مما تعافه الأنفس، ولربّما خرج من ريقه شيء في الطعام.

وذلك تعليم للأمّة، وإلّا! فنفسه الشّريف وريقه ممّا يستشفى به.

(و) كان (لا يتنفّس في الإناء)، أي: لا يتنفّس في جوف الإناء؛ لأنّه يغير الماء: إمّا لتغيّر الفم بالمأكول، وإمّا لترك السّواك، وإمّا لأنّ النّفس يصعد ببخار المعدة.

(و) أخرج الشيخان والأربعة، وأحمد، بألفاظ مختلفة بالزيادة والنّقص، وهذا لفظ أبي داود عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شرب تنفّس) خارج الإناء (ثلاثا) من المرّات، كان يسمّي الله في أوّل كلّ مرّة ويحمده في آخرها؛ كما جاء مصرّحا به في رواية.

(ويقول: «هو) - أي: الشّرب بثلاث دفعات- (أهنأ) - بالهمز؛ من الهناء- وهو: خلوص الشّيء عن النّصب والنّكد، وفي رواية بدله: أروى من الرّي

ص: 264

وأمرأ، وأبرأ» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا شرب.. تنفّس مرّتين، وربّما كان يشرب بنفس واحد حتّى يفرغ.

- بكسر الرّاء-؛ أي: أكثر ريّا. (وأمرأ) - بالهمز-: أقمع للظّمأ، وأقوى على الهضم، (وأبرأ» ) - بالهمز- من البراءة، أو البراء، أي: أكثر صحّة للبدن.

(و) أخرج التّرمذي؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شرب تنفّس مرّتين) . وإسناده ضعيف- كما في «الفتح» - لكن له شواهد، وفعله في بعض الأحيان! لجواز النّقص عن ثلاث.

وللتّرمذيّ بسند ضعيف أيضا- كما قال الحافظ- عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: لا تشربوا واحدة كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسمّوا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم.

قال التّرمذي: فيه أنّه لا بأس بالشّرب في نفسين؛ وإن كان الأولى كونه ثلاثا.

وقال العراقيّ: فيه الاقتصار على مرّتين إذا حصل الاكتفاء بهما، لكن ينبغي أن يزيد ثالثة؛ وإن اكتفى بمرّتين.

وأجاب الحافظ ابن حجر عن الحديثين بأنّهما ليسا نصّا في الاقتصار على مرّتين، بل يحتمل أنّه أراد مرّتي التّنفّس الواقعتين أثناء الشّرب، وأسقط الثّالثة! لأنّها بعد الشّرب، فهي من ضرورة الواقع.

(و) في «الإحياء» : (ربّما كان يشرب بنفس واحد حتّى يفرغ) .

رواه أبو الشّيخ بسند ضعيف؛ عن زيد بن أرقم أنّه صلى الله عليه وسلم كان شربه بنفس واحد.

وللحاكم، وصحّحه؛ عن أبي قتادة مرفوعا:«إذا شرب أحدكم فليشرب بنفس واحد» . لكن قال الزّين العراقي: هذان الحديثان محمولان على ترك التّنفّس في الإناء.

ص: 265

وكان صلى الله عليه وسلم يشرب في ثلاثة أنفاس، وإذا أدنى الإناء إلى فيه.. سمّى الله تعالى، وإذا أخّره.. حمد الله تعالى.

(يفعل ذلك ثلاثا) .

وكان صلى الله عليه وسلم لا يتنفّس في الإناء، بل ينحرف عنه.

(و) أخرج الطّبراني في «الكبير» و «الأوسط» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب في ثلاثة أنفاس، وإذا أدنى) ؛ أي قرّب (الإناء إلى فيه سمّى الله تعالى، وإذا أخّره) عن فيه (حمد الله تعالى. يفعل ذلك ثلاثا) . أي: ثلاث مرّات.

وروى عبد بن حميد؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ قال:

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب في ثلاثة أنفاس، فقلت: تشرب الماء في ثلاثة أنفاس؟! فقال: «هو الشّفاء، وأبرأ وأمرأ» .

وروى البزّار والطّبراني؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شرب تنفّس في الإناء ثلاثا؛ يحمد الله على كلّ نفس، ويشكره عند آخرهنّ.

قوله: «تنفّس في الإناء ثلاثا» ؛ معناه: أنّه يشرب ثمّ يزيله عن فمه ويتنفّس، ثمّ يشرب؛ ثمّ يفعل كذلك، ثمّ يشرب، ثمّ يفعل كذلك.

وروى الطّبراني، وابن السّنّي؛ عن نوفل بن معاوية أنّه صلى الله عليه وسلم كان يشرب في ثلاثة أنفاس؛ يسمّي الله في أوّله، ويحمد الله في آخره.

قال الإمام ابن القيّم: للتّسمية في الأوّل والحمد في الآخر تأثير عجيب في نفع الطّعام والشّراب، ودفع مضرّته.

قال الإمام أحمد: إذا جمع الطّعام أربعا فقد كمل: 1- إذا ذكر الله في أوّله، و 2- حمد في آخره، و 3- كثرت عليه الأيدي، و 4- كان من حل.

(و) في «الإحياء» و «كشف الغمة» : (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتنفّس في الإناء) أي: في جوفه، (بل ينحرف عنه) ؛ لأنّه يغيّر الماء، إمّا لتغيّر الفم

ص: 266

وأتوه مرّة بإناء فيه عسل ولبن، فأبى أن يشربه، وقال:

«شربتان في شربة، وإدامان في إناء واحد؟!» ، ثمّ قال صلى الله عليه وسلم:«لا أحرّمه، ولكنّي أكره الفخر والحساب بفضول الدّنيا [غدا] ، وأحبّ التّواضع [لربّي عز وجل] ؛ فإنّ من تواضع لله.. رفعه [الله] » .

بالمأكول، وإمّا لترك السّواك، وإمّا لأنّ النّفس يصعد ببخار المعدة.

قال العراقي: روى الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:

لا يتنفّس أحدكم في الإناء إذا شرب منه، ولكن إذا أراد أن يتنفّس فليؤخّره عنه، ثم يتنفّس. قال: حديث صحيح الإسناد.

(وأتوه مرّة بإناء فيه عسل ولبن، فأبى أن يشربه، وقال: شربتان في شربة، وإدامان في إناء واحد، ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: «لا أحرّمه، ولكنّي أكره الفخر والحساب بفضول الدّنيا [غدا] ، وأحبّ التّواضع [لربّي عز وجل] ؛ فإنّ من تواضع لله رفعه [الله] [1] » .)

قال العراقي: رواه البزّار من حديث طلحة بن عبيد الله، دون قوله:«شربتان في شربة»

إلى آخره، وسنده ضعيف. ورواه الطّبراني في «الأوسط» ، والحاكم في «المستدرك» في «الأطعمة» من حديث أنس؛ قال:

أتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقعب فيه لبن وعسل؛ فأبى أن يشربه، وقال:«إدامان في إناء!! لا آكله ولا أحرّمه» . وقال الحاكم: صحيح. وردّه الذّهبيّ في «التّلخيص» ، وقال: بل منكر واه.

وقال الهيثميّ عقب عزوه للحاكم: فيه عبد الكبير بن شعيب! لم أعرفه، وبقيّة رجاله ثقات. وقال الحافظ ابن حجر: في طريق الطّبراني راو مجهول.

ص: 267

وكان يستعذب له صلى الله عليه وسلم الماء من بيوت السّقيا.

وأمّا قوله: «من تواضع لله رفعه» !! فرواه أبو نعيم في «الحلية» من حديث أبي هريرة. ورواه ابن النجّار بزيادة: «ومن اقتصد أغناه الله» .

وروى ابن منده وأبو عبيد من حديث أوس بن خولي بزيادة:

«ومن تكبّر وضعه الله» .

وروى أبو الشّيخ من حديث معاذ بلفظ: «من تواضع تخشّعا لله رفعه الله» .

وروى تمّام، وابن عساكر: من حديث ابن عمر في أثناء حديث: «إنّي قد أوحي إليّ أن تواضعوا، ولا يبغي أحد على أحد، فمن رفع نفسه وضعه الله، ومن وضع نفسه رفعه الله» الحديث. انتهى من شرح «الإحياء» .

(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم- وقال: على شرط مسلم؛ وأقرّه الذّهبي- وبه ختم أبو داود «كتاب الأشربة» ساكتا عليه؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:

(كان يستعذب له الماء) ؛ أي: يطلب له الماء العذب ويحضر إليه لكون أكثر مياه المدينة مالحا، وهو كان يحبّ الماء الحلو البارد (من بيوت السّقيا) - بضمّ السّين المهملة وسكون القاف وتحتيّة؛ مقصورة-: عين بينها وبين المدينة يومان؛ كذا قاله المناوي كصاحب «المواهب» ؛ تبعا لما نقله أبو داود في «سننه» عقب روايته الحديث المذكور؛ عن شيخه: فيه قتيبة بن سعيد.

قال السّمهودي: وهو صحيح لكنّها ليست المراد هنا، وكأنّه لم يطّلع على أنّ بالمدينة بئرا تسمّى بذلك!! وقد اغترّ به المجد «1» ؛ فقال: السّقيا: قرية جامعة من عمل الفرع. ثم أورد حديث أبي داود.

وأورد قول «النّهاية» : السّقيا منزل بين مكّة والمدينة، قيل: على يومين منها، ومنه حديث: كان يستعذب له الماء من بيوت السّقيا.

(1) الفيروز آبادي.

ص: 268

وفي لفظ: يستسقى له الماء العذب من بئر السّقيا.

وقول أبي بكر بن موسى: «السّقيا: بئر بالمدينة، أي: على بابها، وكان يستسقى لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها» !! محمول على هذا.

ثم لو سلّم أنّ المراد الاستعذاب من العين التي ذكرها قتيبة! فمحمول على أنّه كان يستعذب له منها إذا نزل قربها في سفر حجّ أو غزو، وأمّا استعذابه منها إلى المدينة! فلا أراه وقع أصلا. انتهى.

ويؤيّده زيادة ابن حبّان، وأبي الشّيخ: من بيوت السّقيا من أطراف الحرّة عند أرض بني فلان، فإنّ الحرة بظاهر المدينة؛ وليس بينهما يومان!.

وروى أيضا أنّه كان يستعذب له الماء من بئر غرس، ومنها غسّل، ولمّا نزل عند أبي أيوب؛ كان يستعذب له من بئر مالك «والد أنس» ، ثمّ كان أنس وهند وجارية «أبناء أسماء» ، يحملون الماء إلى بيوت نسائه من السّقيا، وكان رباح الأسود يستقي له من بئر غرس مرّة؛ ومن بيوت السّقيا مرّة. رواه ابن سعد، والواقديّ، عن سلمى أمّ رافع.

وغرس- بفتح الغين المعجمة وإسكان الرّاء- كما قيّده أبو عبيد وياقوت وغيرهما.

وبه تعقّب الحافظ ضبط الذّهبي للغين بالضمّ قائلا: ذكره لي المطرّزي؛ وقد قال المجد: الصّواب الّذي لا محيد عنه الفتح ثمّ السّكون. وقطع به ابن الأثير، انتهى «زرقاني» .

(وفي لفظ) للحاكم وغيره: كان (يستسقى له الماء العذب من بئر السّقيا) ؛ لأنّ الشّراب كلّما كان أحلى وأبرد؛ كان أنفع للبدن وينعش الرّوح والقوى والكبد، وينفذ الطّعام إلى الأعضاء أتمّ تنفيذ، لا سيّما إذا كان بائتا، فإنّ الماء البائت بمنزلة العجين الخمير، والّذي يشرب لوقته كالفطير.

وسمّيت سقيا!! لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استنبطها، وقال:«هذه سقيا» .

ص: 269

قال ابن القيّم رحمه الله تعالى: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب على طعامه؛ لئلّا يفسده، ولا سيّما إن كان الماء حارّا، أو باردا، فإنّه رديء جدّا.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شرب الماء.. قال:

«الحمد لله الّذي سقانا عذبا

أخرج الطّبراني، وابن شاهين؛ عن بريح بن سدرة بن علي السّلمي، عن أبيه، عن جدّه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى نزلنا القاح، فنزل بصدر الوادي، فبحث بيده في البطحاء؛ فنديت، فانبعث الماء، فسقى وأسقى كلّ من كان معه؛ وقال:«هذه سقيا سقاكم الله» ؛ فسمّيت «السّقياء» .

قال ابن عبد البر: علي السّلمي صحابيّ من أهل قباء.

قال ابن بطّال: واستعذاب الماء لا ينافي الزّهد، ولا يدخل في الترفه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه، فقد كرهه مالك لما فيه من السّرف، وأما شرب الماء الحلو وطلبه! فمباح كلّ منهما.

وقد فعله الصّالحون، وسيّدهم صلى الله عليه وسلم، وليس في شرب الماء المالح فضيلة حتّى يكون اختياره والإعراض عن العذب مطلوبا؛ بل قد يترتب على استعماله ضرر؛ فيكره، أو يحرم.

(قال) العلامة: محمد بن أبي بكر (ابن القيّم رحمه الله تعالى:

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب على طعامه لئلّا يفسده، ولا سيّما إن كان الماء حارّا أو باردا، فإنّه رديء جدّا) ، وهو حسن إن صحّ.

(و) أخرج أبو نعيم في «الحلية» من حديث الفضل، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب مرسلا. ورواه أيضا كذلك الطّبراني في «الدعاء» !!

قال ابن حجر: وهذا الحديث- مع إرساله- ضعيف. من أجل جابر الجعفي.

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شرب الماء؛ قال: «الحمد لله الّذي سقانا عذبا

ص: 270

فراتا برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا» .

وأمّا قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فقد روي عن ثابت

فراتا) ، قال المناوي: الفرات: العذب، فالجمع بينهما للإطناب، وهو لائق في مقام السّؤال والابتهال.

وقال المحلي؛ في تفسير قوله تعالى هذا عَذْبٌ فُراتٌ [53/ الفرقان] : شديد العذوبة. وقال البيضاوي: قامع للعطش؛ من فرط عذوبته.

وقال البغوي: الفرات: عذب المياه. انتهى «نقله العزيزي» .

(برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا) - بضمّ الهمزة-: مرّا شديد الملوحة (بذنوبنا» )، أي: بسبب ما ارتكبناه من الذّنوب.

(وأمّا قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم

- القدح؛ بفتحتين-: ما يشرب فيه؛ كما في «المغرب» وغيره.

وقال ابن الأثير: هو إناء بين إناءين؛ لا صغير ولا كبير، وربّما وصف بأحدهما. وقال المجد: آنية تروي الرّجلين، أو اسم يجمع الكبار والصّغار؛ جمعه: أقداح. قال في «المصباح» : كسبب وأسباب.

(فقد) جاء فيه ما ذكره بقوله: (روي)، أي: روى التّرمذي بسنده في «الشّمائل» (عن ثابت) البناني بن أسلم أبو محمّد البصري؛

الإمام الحجّة القدوة، كان محدّثا من الثّقات المأمونين، صحيح الحديث.

قال أبو حاتم: أتيت أصحاب أنس بن مالك: الزّهريّ، ثم ثابت البناني، ثمّ قتادة.

روى عن أنس، وعبد الله بن الزبير، وابن عمر، وعبد الله بن مغفّل المزني، وأبي برزة الأسلمي، وعمر بن أبي سلمة، وجماعة.

وروى عنه حمّاد بن زيد، وحماد بن سلمة، وحميد الطّويل، وشعبة بن

ص: 271

قال: أخرج إلينا أنس بن مالك قدح خشب غليظا مضبّبا

بسطام، وهمام بن يحيى، وجعفر بن سليمان، وخلق.

مات سنة: - 127- سبع وعشرين ومائة من الهجرة، وعمره: ست وثمانون سنة- 86-.

قال بكر بن عبد الله: من أراد أن ينظر إلى أعبد أهل زمانه؛ فلينظر إلى ثابت البناني. فما أدركنا الّذي هو أعبد منه.

وكان يقرأ القرآن في كلّ يوم وليلة، ويصوم الدّهر، وبكى حتى كادت عينه تذهب، وكان يصلّي كلّ ليلة ثلثمائة ركعة.

كان يقول له أنس بن مالك: ما أشبه عينيك بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فما زال يبكي حتى عمشت عيناه، وكان يقوم اللّيل ويصوم النّهار.

وكان يقول: ما شيء أجده في قلبي ألذّ عندي من قيام اللّيل!

وكان يقول: كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعّمت بها عشرين سنة.

وكان يقوم الليل خمسين سنة فإذا كان السّحر؛ قال في دعائه «اللهمّ؛ إن كنت أعطيت أحدا من خلقك الصّلاة في قبره فأعطنيها» ، فلما مات وسوي عليه اللبن في قبره سقطت لبنة؛ فإذا به قائم يصلّي في قبره، رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه.

آمين.

(قال: أخرج إلينا أنس بن مالك)، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم (قدح خشب) أي:

قدحا من خشب، فالإضافة بمعنى «من» ، وهو من جملة أقداح خمسة ذكرت في أوّل الفصل الخامس.

واقتصر هنا على الخشب! لأنّه الذي كان عند أنس رضي الله تعالى عنه.

(غليظا مضبّبا) - بالنّصب، على أنّه صفة قدح- والضبّة: ما تشعّب به الإناء، وجمعها ضبّات؛ كجنّة وجنّات، وضبّبته- بالتّشديد-: جعلت له ضبّة، فمعنى مضبّبا: مشعّبا.

ص: 272

بحديد، فقال: يا ثابت؛ هذا قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القدح الشّراب كلّه: الماء والنّبيذ، والعسل واللّبن.

(بحديد) كما في رواية التّرمذي؛ ورواية «الصحيح» : بفضة. وهي أصحّ، اللهمّ إلا أن يكون تجوّز بضبّة الحديد عن الحلقة الّتي كانت فيه، ونهى أبو طلحة أنسا عن تغييرها، أو كانت ضبّة الحديد فيه أوّلا، ثمّ لمّا صدع سلسل بفضّة، فصار فيه الضبّتان؛ قاله الزرقاني.

(فقال)، أي: أنس (يا ثابت، هذا قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم المشار إليه هو القدح بحالته الّتي هو عليها، فالمتبادر من ذلك أنّ التّضبيب كان في زمانه صلى الله عليه وسلم.

وتجويز كون التّضبيب من فعل أنس حفظا للقدح غير مرضيّ؛ قاله الباجوري.

ويؤخذ من الحديث: أنّ حفظ ما ينفع وإصلاحه مستحبّ وإضاعته مكروهة؛ واشتري هذا القدح من ميراث النضر بن أنس بثمانمائة ألف درهم.

وعن البخاري أنّه رآه بالبصرة، وشرب منه، هكذا في «شرح المناوي» .

والذي في «شرح القاري» : أنّ الذي اشتري من ميراث النّضر وشرب منه البخاريّ كان مضبّبا بفضّة، ويمكن الجمع بأنّه كان مضبّبا بكلّ من الفضّة والحديد.

انتهى باجوري على «الشّمائل» .

وأخرج مسلم والتّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القدح) المذكور، أي: فيه؛ وهو الخشب الغليظ المضبّب بحديد، فالتّضبيب من فعله صلى الله عليه وسلم، لما تقرّر أنّ الإشارة ترجع للمذكور بجميع خصوصيّاته.

(الشّراب) وهو: ما يشرب من المائعات. (كلّه) أي: أنواعه كلّها:

(الماء والنّبيذ) : ماء حلو يجعل فيه تمرات ليحلو، (والعسل) النّحل، (واللّبن) الحليب. والأربعة بدل مفصّل من مجمل، أو بدل بعض من كلّ؛

ص: 273

قال الباجوريّ: (قوله: (النّبيذ) - أي: المنبوذ فيه- وهو:

ماء حلو يجعل فيه تمرات ليحلو.

وكان ينبذ له صلى الله عليه وسلم أوّل اللّيل، ويشرب منه إذا أصبح يومه ذلك وليلته الّتي يجيء، والغد إلى العصر، فإن بقي منه شيء.. سقاه الخادم إن لم يخف منه إسكارا، وإلّا.. أمر بصبّه، وهو له نفع عظيم في زيادة القوّة) انتهى.

اهتماما بها؛ لكونها أفضل المشروبات، أو لأنّه إنّما سقاه الأربعة.

وسمّاها كلّ الشراب!! لأنّها أشهر أنواعه، أو لكثرة تناولها.

(قال) العلّامة شيخ الإسلام: إبراهيم (الباجوريّ) في حاشية «الشّمائل» كالمناوي، والقاري، و «المواهب» : (قوله: النّبيذ، أي: المنبوذ فيه.

وهو) : كلّ ما ينبذ من غير العنب؛ من تمر أو زبيب أو قمح، والمراد هنا:

(ماء حلو يجعل) أي: يطرح (فيه تمرات ليحلو)، أي: لتزيد حلاوته.

(و) قد روى مسلم أنّه (كان ينبذ له صلى الله عليه وسلم أوّل اللّيل) التمر في الماء، (ويشرب منه إذا أصبح يومه ذلك، وليلته الّتي يجيء) بعد اليوم، (والغد إلى العصر.

فإن بقي منه شيء؛ سقاه الخادم) لاستغنائه عنه، ورفقا بالخادم على عادته صلى الله عليه وسلم؛ (إن لم يخف منه إسكارا) بأن كان لم يتغيّر، (وإلّا! أمر بصبّه)، أي: إذا ظهر له أنّه وصل إلى حالة لا يشرب معها بعد ذلك الوقت؛ خوف الإسكار أمر بصبّه، لأنّه صار في حكم العدم، فلا يقال:«صبّه إضاعة مال» ؛ وقد نهى عنه!! ولم يكن يشربه صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث خوفا من تغيّره إلى الإسكار.

(وهو) أي: هذا النبيذ الّذي كان يشربه صلى الله عليه وسلم (له نفع عظيم في زيادة القّوّة) .

لملاءمته للمزاج. (انتهى) أي: كلام الباجوري رحمه الله تعالى.

ص: 274

وعند البخاريّ: من حديث عاصم الأحول قال: رأيت قدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك- وكان قد انصدع- فسلسله بفضّة؛

(وعند) الإمام الحافظ أبي عبد الله؛ محمد بن إسماعيل (البخاريّ) في «صحيحه» في «كتاب الأشربة» ، (من حديث عاصم) بن سليمان (الأحول) أبي عبد الرحمن البصري، الحافظ الثّقة، من رجال الجميع، مات سنة: أربعين ومائة. (قال:

رأيت قدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع) أي: انشق (فسلسله) أي: وصل بعضه ببعض (بفضّة) ، وظاهره أنّ الذي وصله أنس، ويحتمل أنّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ظاهر رواية أبي حمزة عند البخاري في الخمس بلفظ:

إنّ قدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم انكسر فاتّخذ مكان الشّعب سلسلة من فضّة. لكن رواه البيهقي من هذا الوجه بلفظ: انصدع فجعلت مكان الشعب سلسلة من فضّة. قال- يعني أنسا-: هو الذي فعل ذلك.

قال البيهقي: كذا في سياق الحديث فلا أدري من قاله من رواته! هل هو موسى بن هارون، أو غيره؟!

وتعقّبه الحافظ بأنّه لم يتعيّن من هذه الرّواية ما قاله، وهو «جعلت» - بضمّ التّاء؛ على أنّه ضمير القائل، وهو أنس-، بل يجوز أن يكون «جعلت» - بضمّ أوّله؛ على البناء للمجهول- فيساوي رواية «الصّحيح» .

ووقع عند أحمد من رواية شريك؛ عن عاصم: رأيت عند أنس قدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه ضبّة من فضّة، وهذا يحتمل أيضا.

والشّعب- بفتح المعجمة وسكون العين-: هو الصدع، وكأنّه سدّ الشّقوق بخيوط من فضّة، فصارت مثل السلسلة. انتهى.

وحاصله تساوي احتمال أنّ المضبّب له النّبيّ صلى الله عليه وسلم، لأنّه ظاهر رواية «الصّحيح» في فرض الخمس، واحتمال أنّه أنس؛ لأنّه ظاهر روايته في «الأشربة» .

ص: 275

قال: وهو قدح جيّد عريض من نضار.

قال أنس: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القدح أكثر من كذا وكذا.

قال: وقال ابن سيرين: إنّه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضّة.. فقال أبو طلحة:

ففيه ردّ على ترجيح ابن الصّلاح أنّه أنس، وقوله ما يوهمه بعض الرّوايات أنّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليس كذلك، وتبعه النّووي، وقال: قد أشار إليه البيهقي وغيره. انتهى «زرقاني» .

(قال) عاصم؛ راويه (: وهو قدح جيّد عريض)، أي: ليس بمتطاول؛ بل يكون طوله أقصر من عمقه؛ كما في «الفتح» وغيره (من نضار) ، سيأتي معناه أنّه الخالص من العود.

(قال أنس: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القدح أكثر من كذا وكذا) .

ولمسلم من طريق ثابت عن أنس: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشّراب كلّه: العسل والنّبيذ والماء واللّبن.

(قال) أي: عاصم (: وقال) محمد (ابن سيرين) العالم، العامل، الزّاهد، العابد- تقدّمت ترجمته- رحمه الله تعالى:

(إنّه كان فيه حلقة) - بسكون اللّام، والفتح لغة فيه؛ حكاها أبو عمرو-.

(من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضّة) بالشكّ من الرّاوي، أو هو تردّد من أنس عند إرادة ذلك؛ قاله القسطلاني.

(فقال) له (أبو طلحة) ؛ زيد بن سهل بن الأسود بن حزام- بالزّاي- ابن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجّار، الأنصاري، المدني؛

شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 276

لا تغيّرنّ شيئا صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتركه.

وهو أحد النّقباء رضي الله تعالى عنهم.

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان وتسعون حديثا، اتّفق البخاريّ ومسلم منها على حديثين، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم باخر.

روى عنه جماعات من الصّحابة؛ منهم: ابن عباس، وأنس وآخرون، وجماعات من التّابعين.

توفّي بالمدينة سنة: ثنتين وثلاثين. وقيل: أربع وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة، وصلّى عليه عثمان بن عفان، وهو زوج أمّ سليم «والدة أنس بن مالك» ، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

(: لا تغيّرنّ) - بفتح الرّاء ونون التأكيد الثّقيلة، وفي رواية: لا تغيّر؛ بالنّهي بلا تأكيد- (شيئا صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم! فتركه) بلا تغيير.

وفي الحديث جواز اتّخاذ ضبّة الفضّة والسلسلة والحلقة!!

واختلف فيه! فمنع ذلك مطلقا جمع من الصّحابة والتّابعين، وبه قال مالك واللّيث.

وعن مالك أيضا: يجوز من الفضّة إذا كان يسيرا، وكرّهه الشّافعي لئلّا يكون شاربا على فضّة. وخصّ أحمد والحنفية الكراهة بما إذا كانت الفضّة موضع الشّرب.

والمقرّر عند الشّافعيّة تحريم ضبّة الفضّة؛ إذا كانت كبيرة للزينة، وجوازها إذا صغرت لحاجة أو زينة، أو كبيرة لحاجة، وتحريم ضبّة الذّهب مطلقا.

والمراد بالحاجة غرض الإصلاح؛ دون التّزيين، لا العجز عن غير الذّهب والفضّة، إذ العجز عن غيرهما يبيح استعمال الإناء الّذي كلّه ذهب أو فضّة؛ فضلا عن المضبّب. قاله القسطلّانيّ في «شرح البخاري» .

ص: 277

ومعنى (النّضار) : الخالص من العود، ومن كلّ شيء، ويقال: أصل ذلك القدح من شجر النّبع، وقيل: من الأثل. ولونه يميل إلى الصّفرة.

وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدح قوارير يشرب فيه.

وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يتوضّأ من

(ومعنى النّضار) - بضمّ النّون أشهر من كسرها، وبالضّاد المعجمة- (: الخالص من العود، ومن كلّ شيء) ؛ تبر أو خشب أو أثل أو غيرهما.

(ويقال: أصل ذلك القدح من شجر النّبع)، - بنون فمهملة-: الشّجر للقسيّ وللسّهام؛ ينبت في الجبال، كما في «القاموس» .

وفي «النهاية» : قيل: إنّه شجر كان يطول ويدلو، فدعا عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:«لا أطالك الله من عود» فلم يطل بعد.

(وقيل: من الأثل) - بمثلّثة- (ولونه يميل إلى الصّفرة) .

وفي «شرح البخاري» للعلّامة القسطلّانيّ: قيل: إنّه عود أصفر يشبه لون الذّهب. وفي «القاموس» : النّضار- بالضمّ-: الجوهر الخالص من التّبر والخشب والأثل، أو: ما كان عذيا، أي: شجرا على غير ماء أو: الطّويل منه المستقيم الغصون، أو: ما نبت منه في الجبل، وخشب للأواني، ويكسر، ومنه كان منبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

(و) أخرج ابن ماجه- وقال في العزيزي: حديث حسن- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ قال: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدح) ، قال بعضهم بالتّنوين.

انتهى. ويحتمل أنّه [قدح] مضاف إلى (قوارير) ؛ أي: زجاج (يشرب فيه) ؛ أهداه إليه النّجاشي.

(و) أخرج ابن سعد في «الطّبقات» ؛ عن زينب بنت جحش، «أم المؤمنين» ، رضي الله تعالى عنها؛ أنّه (كان صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يتوضّأ من

ص: 278

مخضب من صفر. و (المخضب) : إناء. و (الصّفر) : النّحاس الأصفر.

وكان له صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه باللّيل.

(0 مخضب) - بكسر الميم وسكون المعجمة- أي: إجّانة (من صفر) .

وفيه ردّ على من كره الوضوء من إناء النّحاس.

(والمخضب) - بكسر الميم، وسكون الخاء، وفتح الضّاد المعجمتين، بعدها موحّدة- (: إناء) . قال ابن حجر: المشهور أنّه الإناء الّذي يغسل فيه الثياب من أيّ جنس كان، وقد يطلق على الإناء؛ صغر أو كبر، والقدح أكثر ما يكون من الخشب مع ضيق فيه.

(والصّفر) - بضمّ المهملة وسكون الفاء- (: النّحاس) - مثلّث النّون- (الأصفر) . وفي «المناوي» : إن الصّفر صنف من جيد النّحاس. انتهى.

(و) أخرج أبو داود، والنّسائي في «الطهارة» ، والحاكم وصحّحه، وكذا ابن حبّان في «صحيحه» بإسناد حسن؛ عن أميمة بنت رقيقة- بضمّ أوّلهما وفتح ثانيهما وتخفيفهما، ورقيقة: بقافين- بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى، «أخت خديجة؛ أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها» ، قالت:

(كان له صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان) - بفتح العين المهملة، وسكون المثنّاة التّحتيّة، ودال مهملة، قال في «الصّحاح» : العيدان الطّوال من النخل؛ الواحدة عيدانة.

وكان يجعل (تحت سريره) السّرير: مأخوذ من السّرور؛ لأنّه في الغالب لأولي النّعمة، وسرير الميت تشبيه به في الصّورة، وللتّفاؤل بالسرور.

(يبول فيه باللّيل)، تمامه كما عند الطّبراني- بسند؛ قال الهيثمي: رجاله رجال «الصحيح» - فقام وطلبه فلم يجده! فسأل، فقالوا: شربته برة «خادم أمّ سلمة الّتي قدمت معها من أرض الحبشة» !! فقال: «لقد احتظرت من النّار بحظار» انتهى.

ص: 279

.........

قال الشّيخ وليّ الدّين: وهذا الخبر يعارضه ما رواه الطّبراني في «الأوسط» بسند جيّد؛ عن عبد الله بن مرثد؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينقع بول في طست في البيت، فإنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه بول منتقع» .

وروى ابن أبي شيبة؛ عن ابن عمر قال: لا تدخل الملائكة بيتا فيه بول!! قال: ويجاب بأنّ المراد بانتقاعه: طول مكثه، وما يجعل في الإناء لا يطول مكثه، بل تريقه الخدم عن قرب، ثمّ يعاد تحت السّرير لما يحدث.

والظّاهر أنّ هذا كان قبل اتّخاذ الكنف وبيوت الأخلية، فإنّه لا يمكنه التّباعد باللّيل للمشقّة، أمّا بعد اتخاذها! فكان يقضي حاجته فيها ليلا ونهارا.

وأخذ من تخصيص البول أنّه كان لا يفعل الغائط فيه؛ لغلظه بالنّسبة للبول، ولكثافته وكراهة ريحه.

وأخذ من تخصيص اللّيل أنّه كان لا يبول فيه نهارا.

وفيه حلّ اتّخاذ السّرير، وأنّه لا ينافي التّواضع؛ لمسيس الحاجة إليها، سيّما الحجاز؛ لحرارته.

وحلّ القدح من خشب النّخل، ولا ينافيه حديث:«أكرموا عمّاتكم النّخلة» !! لأنّ المراد بإكرامها سقيها وتلقيحها، فإذا انفصل منها شيء وعمل إناء؛ أو غيره؟ زال عنه اسم النّخلة، فلم يؤمر بإكرامه.

وفيه حلّ البول في إناء في البيت الّذي هو فيه ليلا بلا كراهة، حيث لم يطل مكثه فيه، كما تقرّر، وأما نهارا! فهو خلاف الأولى حيث لا عذر، لأنّ اللّيل محلّ الأعذار، بخلاف النّهار.

وفيه حلّ بول الرّجل بقرب أهل بيته للحاجة. انتهى «مناوي» و «عزيزي» .

فائدة: قال ابن قتيبة: كان سريره خشبات مشدودة باللّيف، بيعت في زمن بني أميّة؛ فاشتراها رجل بأربعة آلاف درهم. انتهى «مناوي» .

ص: 280

وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مطهرة من فخّار يتوضّأ ويشرب منها، وكان النّاس يرسلون أولادهم الصّغار الّذين عقلوا فيدخلون عليه صلى الله عليه وسلم فلا يدفعون، فإذا وجدوا في المطهرة ماء شربوا منه، ومسحوا على وجوههم، وأجسامهم، يبتغون بذلك البركة.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلّى الغداة.. [جاءه] خدم أهل المدينة بانيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء.. إلّا غمس يده فيه.

(و) في «كشف الغمة» للشّعراني: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مطهرة) - بكسر الميم وفتحها-: إناء يتطهّر به ويتوضّأ به، كالإبريق ونحوه.

(من فخّار) : الطين المشوي، وقبل الطبخ هو خزف وصلصال؛ (يتوضّأ) منها صلى الله عليه وسلم (ويشرب منها) أي: المطهرة.

(وكان النّاس) أي: أهل المدينة (يرسلون أولادهم الصّغار الّذين عقلوا) ؛ ولم يبلغوا الحلم، (فيدخلون عليه صلى الله عليه وسلم بلا استئذان، (فلا يدفعون) - بضمّ أوّله- أي: لا يردّون عن الدخول عليه صلى الله عليه وسلم، (فإذا وجدوا) ؛ أي: الصّبيان (في المطهرة ماء شربوا منه، ومسحوا على وجوههم، وأجسامهم) من فضل وضوئه؛ (يبتغون بذلك) الشّرب ومسح أجسامهم (البركة)، أي: حصول البركة.

وفيه التبرّك باثاره صلى الله عليه وسلم!

(و) أخرج الإمام أحمد، ومسلم؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى الغداة) أي: الصبح ( [جاءه] خدم أهل المدينة بانيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلّا غمس يده فيه) ؛ للتبرّك بيده الشّريفة.

وفيه: بروزه للنّاس، وقربه منهم ليصل كلّ ذي حقّ لحقّه، وليعلّم الجاهل ويقتدي بأفعاله، وكذا ينبغي للأئمة بعده.

ص: 281

وكان صلى الله عليه وسلم يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه، يرجو بركة أيدي المسلمين.

(و) أخرج الطّبراني في «الأوسط» ، وأبو نعيم في «الحلية» ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلى المطاهر) جمع مطهرة: كل إناء يتطهّر به، والمراد هنا نحو الحياض والفساقي والبرك المعدّة للوضوء.

(فيؤتى) إليه (بالماء) منها، (فيشربه)، وكان يفعل ذلك (يرجو بركة أيدي المسلمين) أي: يؤمل حصول بركة أيدي الّذين تطهّروا من ذلك الماء.

وهذا فضل عظيم، وفخر جسيم للمتطهّرين، فياله من شرف ما أعظمه!!، كيف وقد نصّ الله في التّنزيل على محبتهم صريحا حيث قال إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)[البقرة] !!.

وهذا يحمل من له أدنى عقل على المحافظة على إدامة الوضوء، ومن ثمّ صرّح بعض أجلّاء الشّافعيّة بتأكّد ندبه، وأمّا الصوفية فعندهم إدامة الوضوء واجبة، لأنّه يرى نور على أعضائه، والله أعلم؛ قاله المناوي رحمه الله تعالى.

ص: 282