المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الفصل الأول في صفة عيشه صلى الله عليه وسلم وخبزه] - منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول - جـ ٢

[عبد الله عبادى اللحجى]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌[الباب الرّابع في صفة أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وشربه

- ‌[الفصل الأوّل في صفة عيشه صلى الله عليه وسلم وخبزه]

- ‌[الفصل الثّاني في صفة أكله صلى الله عليه وسلم وإدامه]

- ‌[الفصل الثّالث في ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم قبل الطّعام وبعده]

- ‌[الفصل الرّابع في صفة فاكهته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الخامس في صفة شرابه صلى الله عليه وسلم وقدحه]

- ‌[الفصل السّادس في صفة نومه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الباب الخامس في صفة خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه، وعشرته مع نسائه، وأمانته، وصدقه، وحيائه، ومزاحه، وتواضعه، وجلوسه، وكرمه، وشجاعته]

- ‌[الفصل الأوّل في صفة خلقه صلى الله عليه وسلم وحلمه]

- ‌[الفصل الثّاني في صفة عشرته صلى الله عليه وسلم مع نسائه رضي الله تعالى عنهنّ]

- ‌[الفصل الثّالث في صفة أمانته صلى الله عليه وسلم وصدقه]

- ‌[الفصل الرّابع في صفة حيائه صلى الله عليه وسلم ومزاحه]

- ‌[الفصل الخامس في صفة تواضعه صلى الله عليه وسلم وجلوسه واتّكائه]

- ‌[الفصل السّادس في صفة كرمه صلى الله عليه وسلم وشجاعته]

- ‌[فهرسة الجزء الثاني من كتاب منتهى السّول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم]

الفصل: ‌[الفصل الأول في صفة عيشه صلى الله عليه وسلم وخبزه]

[الفصل الأوّل في صفة عيشه صلى الله عليه وسلم وخبزه]

الفصل الأوّل في صفة عيشه صلى الله عليه وسلم وخبزه عن سماك بن حرب [رحمه الله تعالى] قال: سمعت النّعمان بن بشير

(الفصل الأوّل) من (الباب الرابع)(في) بيان ما ورد في (صفة عيشه صلى الله عليه وسلم أي: كيفية معيشته حال حياته، إلى وقت مماته، لأن العيش يطلق على الحياة وعلى ما يكون به الحياة.

والمراد بالعيش هنا الحياة، والمبوّب له هنا بيان صفة حياته صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه وما اشتملت عليه حياتهم من الضيق والفقر.

(و) في بيان ما ورد في صفة (خبزه) الخبز- بضم الخاء المعجمة وإسكان الباء-: الشيء المخبوز أي: اسم ما يؤكل من نحو برّ، وبفتح الخاء المعجمة مع إسكان الباء مصدر، بمعنى اصطناع الخبز بالضمّ.

(عن) أبي المغيرة (سماك) بكسر السين المهملة (ابن حرب) بن أوس بن خالد البكري الذهلي الكوفي، أحد الأعلام التابعين.

أدرك ثمانين صحابيا، وروى عن جابر بن سمرة والنعمان بن بشير وغيرهما، وروى له مسلم وأبو داود والترمذي والنّسائي وابن ماجه والبخاري في «التاريخ» ، وفي المحدثين من يضعّفه، وكان ذهب بصره ثم شفي وعاد إليه، ومات سنة:

ثلاث وعشرين ومائة هجرية رحمه الله تعالى (قال:

سمعت) أبا عبد الله (النّعمان) - بضم النون- (بن بشير) - بالباء الموحدة

ص: 7

رضي الله تعالى عنهما يقول: ألستم في طعام وشراب ما شئتم؟ لقد رأيت نبيّكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدّقل ما يملأ بطنه.

والشين المعجمة- بزنة «نذير» ابن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، هو وأبوه وأمّه صحابيون، اسم أمّه: عمرة بنت رواحة.

وولد النّعمان على رأس أربعة عشر شهرا من الهجرة على الأصح، وهو أوّل مولود من الأنصار بعد الهجرة، استعمله معاوية على حمص ثم على الكوفة، واستعمله عليها بعده يزيد بن معاوية، وكان كريما جوادا شاعرا.

وروي له عن النّبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث وأربعة عشر حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على خمسة، وانفرد البخاري بحديث، وانفرد مسلم بأربعة.

وروى عنه ابناه محمد وبشير، وعروة بن الزّبير والشعبي وآخرون.

قتل بالشام بقرية من قرى حمص في ذي الحجة سنة أربع وستين، وقيل سنة ستين (رضي الله تعالى عنهما؛ يقول:

(ألستم في طعام وشراب ما شئتم) أي: ألستم متنعمين؟! في طعام وشراب الذي شئتموه من التوسعة والإفراط! ف «ما» موصولة، وهي بدل مما قبله، والقصد التقريع والتوبيخ، ولذلك أتبعه بقوله:

(لقد رأيت نبيّكم صلى الله عليه وسلم أضاف النبيّ إلى المخاطبين؛ للإشارة إلى أنّه يلزمهم الاقتداء به والمشي على طريقته، وعدم التطلع إلى الدنيا- أي: إلى نعيم الدّنيا وزخارفها- والرغبة في القناعة، والمعنى: والله لقد رأيت نبيّكم صلى الله عليه وسلم (و) الحال أنه (ما يجد من الدّقل) - بفتحتين- وهو رديء التمر (ما يملأ بطنه) لإعراضه عن الدّنيا وما فيها، وإقباله على الآخرة، وهو مع ذلك نضير الجسم، محفوظ القوة، حتى إن رأيته لا تقول «به جوع» !.

وفي «مسند» الحارث بن أبي أسامة عن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ فاطمة رضي الله تعالى عنها جاءت بكسرة خبز إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقال:«ما هذه؟»

ص: 8

و (الدّقل) : رديء التّمر.

وكان أكثر طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم: التّمر والماء.

قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه. فقال: «أما إنّه أوّل طعم دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيّام» .

وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: لم يشبع صلى الله عليه وسلم قط، وما كان يسأل أهله طعاما ولا يشتهي؛ إن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل، وما سقوه شرب. وذلك كله رفعة في مقامه الشريف، وزيادة في علو قدره المنيف.

واعلم أن فقره صلى الله عليه وسلم كان اختياريا؛ لا كرها واضطراريا!! وقد استمر عليه حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودي، فلا يحتاج إلى ما قاله بعضهم من «أن هذا كان في ابتداء الحال» . والله أعلم.

وقد انقسم النّاس بعده عليه الصلاة والسلام أربعة أقسام:

قسم لم يرد الدّنيا ولم ترده؛ كالصّدّيق الأكبر رضي الله تعالى عنه.

وقسم لم يرد الدّنيا وأرادته؛ كالفاروق.

وقسم أرادها وأرادته؛ كخلفاء بني أمية، وبني العباس؛ إلّا عمر بن عبد العزيز.

وقسم أرادها ولم ترده؛ كمن أفقره الله تعالى، وامتحنه بجمعها وحبّها.

(والدّقل) - بفتح الدال والقاف؛ بوزن «دخل» و «فرس» ، - هو:(رديء التّمر) ويابسه، وما ليس له اسم خاص.

(و) قال حجة الإسلام الغزالي، والشعراني في «كشف الغمة» :

(كان أكثر طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم التّمر والماء) .

قال العراقي: روى البخاري من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شبعنا من الأسودين؛ التّمر والماء» .

ص: 9

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنّا آل محمّد نمكث شهرا ما نستوقد بنار، إن هو إلّا التّمر والماء.

وفي رواية البخاريّ

(و) روى الترمذي وغيره في «الشمائل» وغيرها؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كنّا)، وفي نسخة من «الشمائل» : إن كنا؛ بزيادة «إن» المخفّفة من الثقيلة، والمعنى: إنّا كنّا (آل محمّد) ؛ بالرفع بدل من الضمير في «كنا» ، وبالنصب على تقدير «أعني» أو «أخص» ، وجعله خبر «كنا» بعيد لأنّ القصد ليس كونهم آله، بل المقصود بالإفادة ما بعده، وهو قولها:

(نمكث شهرا) لا يشكل عليه رواية «الصحيحين» الآتية عنها؛ شهرين!! لأن الأكثر لا ينفي الأقل، ولا يشكل عليه اتفاق النحاة على لزوم اللّام في الفعل الواقع في خبر «إن» المخففة؛ لأنّه محمول على الغالب، فعائشة من فصحاء العرب وقد نطقت به بلا لام!!

(ما نستوقد) - حال، وجعله خبرا بعد خبر!! بعيد- (بنار) أي: لا نهيّء شيئا نطبخه بها (إن هو) أي: الذي نتناوله (إلّا التّمر والماء) أي: ما طعامنا إلا التّمر والماء، وفي رواية:«إلّا التّمر والملح» ، وفي أخرى:«إلا الأسودان» ، والجملة مستأنفة جوابا لنحو: ما كنتم تتقوتون.

(وفي رواية) الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي مولاهم (البخاريّ) أمير المؤمنين في الحديث مؤلف «الصحيح» و «التاريخ» وغير ذلك، ولد في ثالث شوال سنة: - 194- أربع وتسعين ومائة.

وألهم حفظ الحديث في الكتّاب وهو ابن عشر سنين، وحفظ «كتب» ابن المبارك ووكيع وهو ابن ست عشرة سنة، وخرج مع أمّه وأخيه أحمد إلى مكّة وتخلّف بها يطلب، وكتب بخراسان والجبال والعراق والشام ومصر.

وروى عن مكّي بن إبراهيم، وأبي نعيم الفضل بن دكين وخلائق من هذه الطّبقة

ص: 10

ومسلم: كانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول لعروة: والله يا ابن أختي؛

ومن بعدهم، حتى كتب عن أقرانه وعن أصغر منه حتى زاد عدد شيوخه على ألف!!.

روى عنه مسلم خارج «الصحيح» والترمذي وأبو زرعة وابن خزيمة وابن حبان ومحمد بن يوسف الفربري وهو آخر من روى «الصّحيح» ، وآخر من زعم أنّه سمع منه عبد الله بن فارس البلخي.

وروى الفربري عنه «ما وضعت في «الصحيح» حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين» . وقال جماعة من المشايخ: حول البخاري تراجم «جامعه» بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره، «وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين» . قال البخاري: صنفت «كتاب الصحيح» لستّ عشرة سنة، خرجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة بيني وبين الله تعالى!.

وتوفي ليلة السبت عند صلاة العشاء ليلة عيد الفطر سنة- 256- ست وخمسين ومائتين، ودفن ب «خرتنك» قرية على فرسخين من سمرقند رحمه الله تعالى رحمة الأبرار آمين.

(و) رواية أبي الحسين (مسلم) بن الحجاج بن مسلم القشيري النّيسابوري الإمام المشهور صاحب «الصحيح» رحمه الله تعالى.

(كانت عائشة) أم المؤمنين الصّدّيقة بنت الصّدّيق (رضي الله تعالى عنها) وعن أبيها (تقول لعروة) بن الزبير ترغيبا للمسلمين، وتذكيرا للنّعم الطارئة عليهم بعده ببركته عليه الصلاة والسلام، وحملا على التأسي به في التقلل من الدنيا.

(والله يا ابن أختي) أسماء ذات النطاقين وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري أنها قالت لعروة: ابن أختي، قال القسطلّاني: بوصل الهمزة وتكسر في الابتداء وفتح النون على النداء وأداته محذوفة.

ص: 11

إن كنّا لننظر إلى الهلال ثمّ الهلال ثمّ الهلال؛ ثلاثة أهلّة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار.

قال: قلت يا خالة؛ فما كان يعيّشكم؟ قالت: الأسودان؛ التّمر والماء، إلّا أنّه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، (إن كنّا) إن مخفّفة من الثّقيلة دخلت على الفعل الماضي الناسخ، واللّام في (لننظر) فارقة بينها وبين «إن» النافية عند البصريين قاله القسطلّانيّ.

(إلى الهلال ثمّ الهلال ثمّ الهلال؛ ثلاثة أهلّة) بجرّ ثلاثة ونصبه بتقدير لننظر (في شهرين) باعتبار رؤية الهلال أول الشهر الأول والثاني وآخره ليلة الثالث، فالمدة ستون يوما والمرئي ثلاثة أهلة، (وما أوقد) بضم الهمزة وكسر القاف (في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار) بالرفع نائب عن الفاعل، لا لطبخ ولا لغيره، فعند ابن جرير عنها: أهدى لنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه رجل شاة فإني لأقطّعها في ظلمة البيت، فقيل لها: أما كان لكم سراج؟! فقالت: لو كان لنا ما نسرج به أكلناه.

(قال) أي: عروة (قلت: يا خالة) بضم التاء منادى مفرد، وفي رواية خالتي (فما كان يعيّشكم) بضم أوله من أعاشه الله يعيشه، وضبطه النّووي بتشديد الياء الثّانية، أي: مع فتح العين؛ قاله الحافظ ابن حجر وغيره، أي: يدفع عنكم ألم الجوع ويكون سببا في الحياة.

(قالت: الأسودان؛ التّمر والماء) هو على التغليب، فالماء لا لون له، وكذا قالوا: الأبيضان اللبن والماء، وإنما أطلق على التمر أسود لأن غالب تمر المدينة أسود.

(إلّا أنّه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران) بكسر الجيم جمع جار؛ وهو المجاور في السكن (من الأنصار) سعد بن عبادة وعبد الله بن عمرو بن حرام وأبو أيوب خالد بن زيد وسعد بن زرارة وغيرهم؛ قاله الحافظ ابن حجر وتبعه القسطلاني في باب الهبة.

ص: 12

وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها، فيسقيناه.

وعن أبي طلحة

(وكانت لهم منائح) بنون ومهملة جمع منيحة وهي العطيّة لفظا ومعنى، أي غنم فيها لبن، وأصلها عطيّة الناقة أو الشّاة. وقيل: لا يقال منيحة إلّا للنّاقة وتستعار للشاة.

قال الحربي: يقولون منحتك الناقة، وأعرتك النخلة، وأعمرتك الدار، وأخدمتك العبد، وكل ذلك هبة منافع؛ لا رقبة! انتهى «زرقاني» .

والمعتمد عند الشافعية: أن أعمرتك الدار كوهبتك الدار في كون كل منهما هبة للرقبة حيث وجد باقي شروط الهبة. والله أعلم.

(فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه) أي: منه لا يخصهم بجميعه، بحيث لا يتناول منه شيئا، ففي رواية الإسماعيلي: فيسقينا منه.

(و) أخرج الترمذي من طريق أنس بن مالك، (عن أبي طلحة) زيد بن سهل بن الأسود بن حزام، - بالزاي- ابن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري المدني.

شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهو أحد النقباء رضي الله عنهم، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان وتسعون حديثا؛ اتّفق البخاري ومسلم منها على حديثين وانفرد البخاري بحديث وانفرد مسلم باخر.

روى عنه جماعة من الصحابة منهم ابن عباس وأنس وآخرون وجماعات من التابعين. توفي بالمدينة المنورة سنة: - 32- اثنتين وثلاثين. وقيل أربع وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة كذا قال الأكثرون بأنّه توفي بالمدينة.

ص: 13

رضي الله تعالى عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه عن حجرين.

وقال الإمام التّرمذيّ: ومعنى قوله (ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر) : وكان أحدهم يشدّ في بطنه الحجر من الجهد والضّعف الّذي به من الجوع.

وصلّى عليه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما وعن سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آمين (رضي الله تعالى عنه) وأرضاه.

(قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، ورفعنا) أي: كشفنا (عن بطوننا عن حجر حجر) بدل اشتمال بإعادة الجار، أي: رفع كل واحد عن حجر مشدود عن بطنه، كعادة العرب أو أهل المدينة إذا خلت أجوافهم لئلا تسترخي، فالتكرير باعتبار تعدد المخبر.

(فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه عن حجرين) ليعلم أصحابه أن ليس عنده ما يستأثر به عليهم، وتسلية لهم؛ لا شكاية أن ما بهم من الجوع أصابه فوقه حتى احتاج إلى حجرين!! (وقال الإمام التّرمذيّ: ومعنى قوله: ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر!! وكان أحدهم يشدّ في بطنه) أي عليه (الحجر من الجهد) أي: من أجله، ف «من» تعليلية، والجهد- بضمّ الجيم وفتحها-: المشقة (والضّعف) - بفتح الضاد، ويجوز ضمها- وهو كالتفسير لما قبله.

وقوله: (الّذي به) صفة للجهد والضعف، وإنما أفرد الموصول!! لما علمت من أن الضعف كالتفسير للجهد.

وقوله (من الجوع) أي: الناشىء من الجوع، وفي تعبيره ب «معنى» تجوّز إذ معنى اللفظ ما دلّ عليه، وإنما هذا بيان لحكمة وضع الحجر!!

ص: 14

وفي كتاب «المواهب» : عن ابن بجير [رضي الله تعالى عنه] قال: أصاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم جوع يوما، فعمد إلى حجر، فوضعه على بطنه، ثمّ قال: «ألا ربّ نفس طاعمة ناعمة في الدّنيا.. جائعة عارية يوم القيامة،

(وفي كتاب «المواهب) اللدنية» للعلامة القسطلّانيّ (عن ابن بجير) :

بموحّدة وجيم، صحابي يعدّ في الشاميين، روى عنه جبير بن نفير هكذا أورده الذهبي في «التجريد فيمن عرف بأبيه ولم يسمّ» تبعا لأبي نعيم، وكذا تبعه الحافظ في «أطراف الفردوس» والمنذري في «الترغيب» .

وأورده الذهبي أيضا في باب الكنى فقال: أبو البجير صحابي روى عنه جبير بن نفير ثم ترجم له أبو بجير، روى عنه ابنه بجير حديثا. وفي «الإصابة» أبو بجير غير منسوب. ذكره ابن منده.

وأخرج من طريق عثمان بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بجير عن أبيه عن جده عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «القرآن كلام ربي» .. الحديث وسنده ضعيف. وترجم عقبه أبو البجير، استدركه ابن الأمين وعزاه لابن العرضي في «المؤتلف» ، ولعله ابن البجير الآتي في المبهمات. انتهى.

فيجوز أن ابن بجير يكنى بأبي البجير فلا خلف، ثم هما شخصان كلّ يكنى بأبي البجير، وراوي هذا الحديث ليس هو الذي روى عنه ابنه، بل الثاني الذي روى عنه جبير بن نفير كما بيّنه في «الجامع الكبير» . وأما الذي روى عنه ابنه فإنما له حديث:«القرآن كلام ربي» انتهى «زرقاني» .

(قال: أصاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم جوع يوما، فعمد) - بفتح الميم- (إلى حجر، فوضعه على بطنه، ثمّ قال: «ألا) - حرف تنبيه تؤكّد بها الجملة المصدرة بها- (ربّ نفس) وفي رواية: «ألا يا ربّ نفس» بأداة النداء وحذف المنادى؛ أي:

ألا يا قوم ربّ. وهي للتقليل، والمقام مقام تخويف وتهويل (طاعمة ناعمة في الدّنيا) ؛ أي: مشغولة بلذات المطاعم والملابس، غافلة عن أعمال الآخرة (جائعة عارية) - بالرفع خبر مبتدأ- أي: هي لأنّه إخبار عن حالها (يوم القيامة)

ص: 15

ألا ربّ مكرم لنفسه.. وهو لها مهين، ألا ربّ مهين لنفسه.. وهو لها مكرم» .

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه

لا في الدّنيا لوصفها فيها بضد ذلك، أي: تحشر وهي كذلك، يوم الموقف الأعظم، زاد في رواية ابن سعد والبيهقي:«ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدّنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة» .

(ألا ربّ مكرم لنفسه) بمتابعة هواها وتبليغها مناها بتبسطه بألوان طعام الدنيا وشهواتها، وتزينه بملابسها ومراكبها، وتقلبه في مبانيها، وزخارفها، (وهو لها مهين) أن ذلك يبعده عن الله، ويوجب حرمانه من مثال حظ المتقين في الآخرة.

(ألا ربّ مهين لنفسه) بمخالفتها وإذلالها، وإلزامها بعدم التطاول، والاقتصار على الأخذ من الدّنيا بقدر الحاجة، (وهو لها مكرم» ) يوم العرض الأكبر لسعيه لها، فيما يوصلها إلى السعادة الأبدية والراحة السرمدية.

رواه ابن أبي الدنيا وضعّفه المنذري، وأخرجه ابن سعد والبيهقي بزيادة:

«ألا يا ربّ متخوض ومتنعم فيما أفاء الله على رسوله!؟ ما له عند الله من خلاق.

ألا وإنّ عمل الجنة حزن بربوة، ألا وإنّ عمل النار سهل بشهوة!! ألا ربّ شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا» .

وروى ابن أبي الدّنيا وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:

دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي جالسا، فقلت: ما أصابك: قال:

«الجوع» . فبكيت، فقال:«لا تبك فإنّ شدّة الجوع لا تصيب الجائع- أي: في يوم القيامة- إذا احتسبت في دار الدّنيا» .

(و) روى مسلم وأصحاب «السنن الأربعة» والترمذي أيضا في «الشمائل» :

كلهم (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) .

ص: 16

قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر، فقال:«ما جاء بك يا أبا بكر؟» ، قال: خرجت ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنظر في وجهه، والتّسليم عليه،

ورواه مالك عنه في «الموطأ» بلاغا والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم؛ عن عمر بن الخطاب، وابن حبان عن ابن عباس، وابن مردويه عن ابن عمر، والطبراني عن عبد الله بن مسعود، وفي سياقهم اختلاف بالزيادة والنقص.

(قال) - أي- أبو هريرة رضي الله تعالى عنه؛ كما «في الشمائل» :

(خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: من بيته إلى المسجد، أو إلى غيره (في ساعة لا يخرج فيها) ؛ أي: لم تكن عادته الخروج فيها، (ولا يلقاه فيها أحد) أي:

باعتبارها عادته.

وهذه الساعة يحتمل أن تكون من الليل وأن تكون من النهار!!

ويعيّن الأول ما في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر؛ فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه السّاعة؟» . قالا: الجوع يا رسول الله.

قال: «وأنا والّذي نفسي بيده أخرجني الّذي أخرجكما!! قوما» . فقاما معه، فأتوا رجلا من الأنصار، وهو أبو الهيثم بن التّيّهان. انتهى.

وفي شرح ملّا علي قاري على «الشمائل» ما يعيّن الثاني، وهو ما روي عن جابر: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جائعا فلم يجد عند أهله شيئا يأكله، وأصبح أبو بكر جائعا

الحديث.

ولعل ذلك تعدّد فمرة كان ليلا ومرة كان نهارا!.

(فأتاه أبو بكر، فقال: «ما جاء بك يا أبا بكر؟!» ) أي: ما حملك على المجيء؟

(قال: خرجت ألقى رسول الله) أي: حال كوني أريد أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنظر في وجهه) أي: وأريد أن أنظر في وجهه الشريف، (والتّسليم عليه)

ص: 17

فلم يلبث أن جاء عمر فقال: «ما جاء بك يا عمر؟» ، قال: الجوع يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم:«وأنا قد وجدت بعض ذلك» .

فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم

- بالنصب- على أن التقدير: وأريد التسليم عليه (فلم يلبث أن جاء عمر) أي:

فلم يلبث مجيء عمر، ف «أن» وما بعدها في تأويل مصدر فاعل، والمعنى لم يتأخّر مجيء عمر، بل حصل سريعا بعد مجيء أبي بكر.

(فقال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم (: «ما جاء بك يا عمر؟!» أي: ما حملك على المجيء؟.

(قال: الجوع يا رسول الله!) كأنه جاء ليتسلّى عنه بالنظر إلى وجهه المكرم، وكان ذلك بعد كثرة الفتوحات، وكثرتها لا تنافي ضيق الحال في بعض الأوقات! لا سيما بعد ما تصدّق أبو بكر بماله.

(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا قد وجدت بعض ذلك» ) الجوع الذي أدركك! قاله تسليا وإيناسا لهما لما علم من شدّة جوعهما، ( [فانطلقوا] ) أي:

ذهبوا وتوجهوا (إلى منزل أبي الهيثم) - بمثلاثة- هكذا صرّح به في «الموطأ» ؛ والترمذي، وكذا البزار، وأبو يعلى، والطبراني؛ عن ابن عباس، والطبراني أيضا عن ابن عمر.

وفي رواية عند الطبراني وابن حبان «في صحيحه» عن ابن عباس أنّه أبو أيوب، والظاهر أن القضية اتفقت مرة مع أبي الهيثم، كما صرّح به في أكثر الروايات، ومرة مع أبي أيوب.

وفي رواية مسلم: رجلا من الأنصار. وهي محتملة لهما، وعلى كل ففيه منقبة عظيمة لكلّ منهما إذ أهّله صلى الله عليه وسلم لذلك، وجعله ممن قال الله فيهم:

أَوْ صَدِيقِكُمْ [61/ النور] . انتهى «زرقاني» .

ص: 18

ابن التّيّهان الأنصاريّ- وكان رجلا كثير النّخل والشّاء، ولم يكن له خدم- فلم يجدوه، فقالوا لامرأته:«أين صاحبك؟» ، فقالت:

انطلق يستعذب لنا الماء.

واسم أبي الهيثم: مالك (بن التّيّهان) - بفتح التاء المثناة فوق، وتشديد الياء المثناة، تحت مكسورة- وهو لقب، واسمه عامر بن الحارث، وقيل: عتيك بن عمرو (الأنصاريّ) أي: المنسوب للأنصار لأنه حليفهم، وإلّا! فهو قضاعي ترهّب قبل الهجرة، وأسلم وحسن إسلامه.

وانطلاقهم إلى منزله لا ينافي كمال شرفهم، فقد استطعم موسى والخضر عليهما الصلاة والسلام قبلهم، وكان للمصطفى مندوحة عن ذلك؛ ولو شاء لكانت جبال تهامة تمشي معه ذهبا؛ لكن الله سبحانه وتعالى، أراد أن يهتدي الخلائق بهم، وأن يستنّ بهم السنن، ففعلوا ذلك تشريعا للأمة.

وهل خرج صلى الله عليه وسلم قاصدا من أوّل خروجه إنسانا معينا، أو جاء التعيين بالاتفاق؟! احتمالان، قال بعضهم: الأصحّ أن أوّل خاطر حركه للخروج لم يكن إلى جهة معينة، لأن الكمّل لا يعتمدون إلّا على الله تعالى.

(وكان) أي: أبو الهيثم (رجلا) من أشراف الصحابة وأكابرهم، (كثير النّخل) ؛ واحده نخلة، (والشّاء) بالهمز؛ جمع شاة بالتاء، وتجمع أيضا على شياه.

(ولم يكن له خدم) - بفتحتين- جمع خادم، يقع على الذكر والأنثى.

وليس المراد نفي الجمع، بل نفي جميع الأفراد، إذ لم يكن له خادم لا ذكر ولا أنثى، والمقصود من ذكر ذلك بيان سبب خروجه بنفسه لحاجته، فهو توطئة لقوله:

(فلم يجدوه) أي: في البيت لاحتياجه إلى خروجه، بسبب خدمة عياله (فقالوا لامرأته:«أين صاحبك؟» ) ؛ وهو أحسن عبارة من «زوجك» .

(فقالت: انطلق) أي: ذهب (يستعذب لنا الماء) ؛ أي: يأتي لنا بماء عذب، من بئر، وكان أكثر مياه المدينة مالحة.

ص: 19

فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها- أي: يملؤها- فوضعها، ثمّ جاء يلتزم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويفدّيه بأبيه وأمّه.

ثم إن هذه المرأة تلقّتهم أحسن التلقّي، وأنزلتهم أكرم الإنزال، وفعلت ما يليق بذلك الجناب الأفخم، والملاذ الأعظم.

ويؤخذ من ذلك حلّ تكليم الأجنبيّة، وسماع كلامها مع أمن الفتنة؛ وإن وقعت فيه مراجعة.

ويؤخذ منه جواز إذن المرأة في دخول منزل زوجها؛ إذا علمت رضاه، وجواز دخول الضيف منزل الشخص، بإذن زوجته؛ مع علم رضاه، حيث لا خلوة محرّمة.

ويؤخذ منه حلّ استعذاب الماء، وجواز الميل إلى المستطاب طبعا من ماء وغيره وأن ذلك لا ينافي الزهد.

(فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم) أي: فلم يمكثوا زمنا طويلا، إلى أن جاء أبو الهيثم، بل مكثوا يسيرا لقرب مجيئه لهم، والمعنى أنه لم يكن لهم انتظار كثير إلى مجيئه (بقربة) أي: متلبسا بقربة، وحاملا لها (يزعبها) - بتحتية مفتوحة، فزاي ساكنة، فمهملة، فموحّدة-؛ من زعب القربة كنفخ إذا ملأها فلذلك قال المصنف:

(أي: يملؤها) وقيل: حملها ممتلئة.

ويؤخذ منه أن خدمة الإنسان بنفسه لأهله، لا تنافي المروءة، بل هي من التواضع، وكمال الخلق،

(فوضعها) أي: القربة

(ثمّ جاء يلتزم النّبيّ صلى الله عليه وسلم : يعانقه، ويلصق صدره به؛ تبركا به.

(ويفدّيه) - بضم ففتح فتشديد- (بأبيه وأمّه) أي: يقول: فداك أبي وأمي.

ص: 20

ثمّ انطلق بهم إلى حديقته، فبسط لهم بساطا، ثمّ انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«أفلا تنقّيت لنا من رطبه؟!» ، فقال: يا رسول الله؛ إنّي أردت أن تختاروا (ثمّ انطلق بهم إلى حديقته) أي: ثمّ انطلق مصاحبا لهم إلى بستانه، فالباء للمصاحبة، والحديقة: البستان، سمي بذلك! لأنهم في الغالب يجعلون عليه حائطا؛ يحدق به، أي: يحيط به، يقال: أحدق القوم بالبلد، إذا أحاطوا به.

(فبسط لهم بساطا) - بكسر أوّله-؛ أي: مدّ لهم فراشا، ونشره للجلوس عليه، وهو فعال بمعنى مفعول، كفراش بمعنى مفروش.

(ثمّ انطلق إلى نخلة) من نخيله (فجاء بقنو) - بكسر القاف وسكون النون-؛ بوزن حمل، - أي: عذق، كما في مسلم وهو: الغصن من النخلة المسمّى بالعرجون؛ فيه بسر وتمر ورطب؛ بمنزلة العنقود من الكرم.

(فوضعه) أي: بين أيديهم، ليتفكّهوا منه قبل الطعام، لأن الابتداء بما يتفكّه من الحلاوة أولى، فإنّه مقوّ للمعدة لأنه أسرع هضما.

وقال القرطبي: إنما قدّم لهم هذا العرجون!! لأنّه الذي تيسر فورا، من غير كلفة، ولأن فيه أنواعا من التمر والبسر والرطب.

(فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أفلا تنقّيت) من التنقّي، بمعنى التخيّر، أي: أفلا تخيرات؟ (لنا من رطبه» ) وتركت باقيه! حتى يترطّب فينتفعون به.

فالتنقّي: التخيّر، والتنقية: التنظيف، والرّطب- بضم الراء وفتح الطّاء-:

تمر النّخل؛ إذا أدرك ونضج، الواحدة رطبة.

وهو نوعان: نوع لا يتتمّر، بل إذا تأخر أكله أسرع إليه الفساد، ونوع يتتمر؛ أي: يصير تمرا.

ويؤخذ من الحديث أنه ينبغي للمضيف أن يقدّم إلى الضيف أحسن ما عنده.

(فقال: يا رسول الله؛ إنّي أردت أن تختاروا) أي: تتخيروا أنتم بأنفسكم،

ص: 21

من رطبه وبسره. فأكلوا وشربوا من ذلك الماء.

فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «هذا- والّذي نفسي بيده- من النّعيم الّذي تسألون عنه يوم القيامة؛

فتأخذوا الخيّر (من رطبه وبسره) أي: تارة من رطبه، وأخرى من بسره، بحسب اشتهاء الطبع، أو بحسب اختلاف الأمزجة في الميل إلى أحدهما، أو إليهما جميعا.

(فأكلوا) أي من ذلك القنو، (وشربوا من ذلك الماء) . زاد في رواية مسلم:«حتى شبعوا» ، وهو دليل على جواز الشبع، ومحلّ كراهته في الشبع المثقّل للمعدة، المبطّئ بصاحبه عن العبادة.

(فقال) أي: (النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «هذا) أي المقدّم لنا (و) الله (الّذي نفسي بيده) أي: بقدرته فيتصرّف فيها كيف يشاء، ووسّط القسم بين المبتدأ والخبر!! لتأكيد الحكم (من النّعيم) ؛ أي: التنعم (الّذي تسألون عنه) - بالبناء للمجهول-، وهذا ناظر لقوله عليه الصلاة والسلام في موضع آخر:«حلالها حساب، وحرامها عقاب» (يوم القيامة)، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) [التكاثر] أي: عن القيام بحقّ شكره، أو تعداد النّعم والامتنان بها، وإظهار الكرامة بإسباغها، لا سؤال تقريع وتوبيخ ومحاسبة.

والمراد أن كلّ أحد ليسأل عن نعيمه الذي كان فيه: هل ناله من حلّه ووجهه أم لا؟! فإذا خلص من هذا سئل: هل قام بواجب الشّكر، فاستعان به على الطّاعة أم لا؟. فالأول سؤال عن سبب استخراجه، والثاني عن محل صرفه؛ ذكره ابن القيم.

وإنما ذكر صلى الله عليه وسلم ذلك في ذلك المقام!! إرشادا للآكلين والشاربين، إلى حفظ أنفسهم في الشبع من الغافلة؛ باشتغال أحدهم بحديقته، ونعيمه عن تدبّر الآخرة، والنعيم: كلّ ما يتنعّم به؛ أي: يستطاب ويتلذذ به.

ص: 22

ظلّ بارد، ورطب طيّب، وماء بارد» .

فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاما، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«لا تذبحنّ لنا ذات درّ» ، فذبح لهم عناقا؛ أو جديا،..

ثم عدد صلى الله عليه وسلم أوجه النّعيم الذي هم فيه بقوله: (ظلّ بارد، ورطب طيّب، وماء بارد» ) . وهو خبر لمبتدأ محذوف، والجملة بيان لكون ذلك من النّعيم.

(فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاما) ؛ أي: مطبوخا، على ما هو معروف في العرف العام؛ وإن كان قد يطلق الطّعام على الفاكهة لغة.

وبهذا الحديث استدلّ الشافعي على أن نحو الرطب فاكهة؛ لا طعام.

وقال أبو حنيفة: إنّ الرّطب والرّمّان ليسا بفاكهة، بل الرطب غذاء، والرمان دواء، وأما الفاكهة، فهو ما يتفكه به تلذّذا.

(فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحنّ لنا) شاة (ذات درّ» ) - بفتح الدال وتشديد الراء المهملتين- أي: لبن، وفي المستقبل بأن تكون حاملا.

ولعله صلى الله عليه وسلم فهم من قرائن الأحوال أنّه أراد أن يذبح لهم شاة؛ فقال له ذلك، وهذا نهي إرشاد، وملاطفة، لا كراهة في مخالفته، فالمقصود الشفقة عليه؛ وعلى أهله، لأنهم ينتفعون باللبن مع حصول المقصود بغيرها.

وفي رواية مسلم: أنّه أخذ المدية، فقال له صلى الله عليه وسلم:«إيّاك والحلوب» .

(فذبح لهم عناقا) - بفتح العين كسحاب-: أنثى المعز لها أربعة أشهر.

(أو) شك (جديا) - بفتح فسكون- كفلس: ذكر المعز ما لم يبلغ سنة، وهذا ليس من التكلف للضيف؛ المكروه عند السّلف، لأنّ محلّ الكراهة إذا شقّ ذلك على المضيف، وأما إذا لم يشقّ عليه! فهو مطلوب، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» لا سيما هؤلاء الأضياف، الذين فيهم سيد ولد عدنان!! صلى الله عليه وسلم.

ص: 23

فأتاهم بها فأكلوا.

فقال صلى الله عليه وسلم: «هل لك خادم؟»

قال: لا. قال: «فإذا أتانا سبي.. فأتنا» .

فأتي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«اختر منهما» .

قال: يا رسول الله؛ اختر لي.

(فأتاهم بها) أي: بالعناق، وهذا ظاهر على الشق الأول من الشك.

(فأكلوا) أي: منها، وفي رواية: فشوى نصفه، وطبخ نصفه، وأتاهم به، فلما وضع بين يديه صلى الله عليه وسلم أخذ من الجدي؛ فجعله في رغيف، وقال للأنصاري:

«أبلغ بهذا فاطمة، لم تصب مثله منذ أيّام» فذهب به إليها.

(فقال) : أي النّبي صلى الله عليه وسلم لما رآه يتولى خدمة بيته بنفسه، (:«هل لك خادم؟» ) يقع على الذكر والأنثى، لإجرائه مجرى الأسماء غير المأخوذة من الأفعال؛ كحائض.

(قال: لا) أي: ليس لي خادم، (قال:«فإذا أتانا سبي) - بفتح السين المهملة فسكون الموحدة-؛ أي: سبي من الأسارى عبد أو جارية (فأتنا» ) لنعطيك خادما، مكافأة على إحسانك إلينا.

وفي هذا إشارة إلى كمال جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم (فأتي) - بصيغة المجهول- أي:

فجيء النبي صلى الله عليه وسلم برأسين) أي: بأسيرين اثنين، (ليس معهما ثالث) تأكيدا لما قبله، (فأتاه أبو الهيثم) امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم:«فأتنا» .

(فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم «اختر» ) واحدا (منهما» .

قال) ؛ أي أبو الهيثم: (يا رسول الله؛ اختر لي) أي: أنت، فإن اختيارك لي خير من اختياري لنفسي، وهذا من كمال عقله، وحسن أدبه وفضله.

ص: 24

فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ المستشار مؤتمن، خذ هذا فإنّي رأيته يصلّي،

(فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ المستشار مؤتمن» ) - بصيغة المفعول-.

وهو حديث صحيح كاد أن يكون متواترا. ففي «الجامع الصغير» «المستشار مؤتمن» رواه الأربعة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، والترمذي عن أم سلمة، وابن ماجه عن ابن مسعود، والطبرانيّ في «الكبير» عن سمرة، وزاد:«إن شاء أشار، وإن شاء لم يشر» .

وفي «الأوسط» عن عليّ كرّم الله وجهه؛ وزاد: «فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه» .

ثمّ الاستشارة: استخراج الرأي، من قولهم شرت العسل إذا أخرجتها من خلاياها، والاسم المشورة. وفيها لغتان:[مشورة] سكون الشّين وفتح الواو، والثانية [مشورة] ضم الشين وسكون الواو، وزان معونة.

ومعنى الحديث: أن من استشار ذا رأي في أمر اشتبه عليه وجه صلاحه فقد ائتمنه واستشفى برأيه، فعليه أن يشير عليه بما يرى النّصح فيه، ولو أشار عليه بغيره! فقد خانه ويبتلى بخلل في عقله.

والحاصل: أن المستشار أمين فيما يسأل من الأمور، فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته، وامتناع نصيحته. وسيأتي الكلام على ذلك مطولا في «الفصل الثالث» ؛ من «الباب السابع في جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم» .

وإنما قال عليه الصلاة والسلام ذلك! إعلاما أو تعليما لأبي الهيثم ( «خذ هذا) إشارة إلى أحد الرأسين، (فإنّي) تعليل لاختياره (رأيته يصلّي) .

ويؤخذ منه أنّه يستدل على خيريّة الإنسان بصلاته، قال تعالى إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [45/ العنكبوت] .

ويؤخذ منه أيضا أنه ينبغي للمستشار أن يبيّن سبب إشارته بأحد الأمرين؛ ليكون أعون للمستشير على الامتثال.

ص: 25

واستوص به معروفا» . فانطلق أبو الهيثم إلى امرأته فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالت امرأته: ما أنت ببالغ حقّ ما قال فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. إلّا أن تعتقه. قال: فهو عتيق.

فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لم يبعث نبيّا ولا خليفة..

إلّا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر،

(واستوص به معروفا» ) ؛ أي: اقبل وصيتي به، وكافئه بالمعروف، ف «معروفا» ليس منصوبا ب «استوص» ، بل مفعولا لمحذوف، أو افعل في حقه معروفا؛ وصية مني، فهو منصوب ب «استوص» بتضمين «افعل» .

(فانطلق أبو الهيثم) أي: فذهب به (إلى امرأته فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأته: ما أنت) أي: لو صنعت ما صنعت من المعروف به ما أنت (ببالغ) أي: بواصل (حقّ ما قال فيه) ؛ أي: في حقه (النّبيّ صلى الله عليه وسلم أي من المعروف (إلّا أن تعتقه) أي: ما أنت ببالغ حق المعروف الذي وصّاك به النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلّا بعتقه، فلو فعلت به ما فعلت ما عدا العتق لم تبلغ ذلك المعروف؟.

(قال) أي: أبو الهيثم: (فهو) أي: فبسبب ما قلت الذي هو الحق؛ هو (عتيق) أي: معتوق؛ فعيل بمعنى مفعول، فتسبّبت في عتقه ليحصل لها ثوابه، فقد صحّ في الحديث:«إنّ الدّالّ على الخير كفاعله» .

(فقال) أي: فأخبره أبو الهيثم بمقالة امرأته التي تسبّب عنها العتق؛ فقال صلى الله عليه وسلم:

«إنّ الله لم يبعث نبيّا ولا خليفة) ؛ فضلا عن غيرهما؛ (إلّا وله بطانتان) - بكسر أوله، تثنية بطانة- وهو المحب الخالص للرجل؛ مستعار من بطانة الثوب وهي خلاف الظّهارة، ومنه قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [118/ آل عمران] . وبطانة الرجل: صاحب سره، الذي يستشيره في أموره، ويطلعه على خفايا أحواله؛ ثقة به.

(بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر) ، يعلم منه أن بطانة الخير لا تكتفي

ص: 26

وبطانة لا تألوه خبالا، ومن يوق بطانة السّوء فقد وقي، والمعصوم من عصمه الله تعالى» .

بالسكوت، بل لا بد من الأمر بالمعروف والحثّ عليه، والنّهي عن المنكر والزجر عنه، وقد علم أن زوجة أبي الهيثم من هذا القسم الّذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فهي بطانة خير.

(وبطانة لا تألوه) أي: لا تمنعه (خبالا) - بخاء معجمة، فموحدة مفتوحتين-: أي: فسادا، أي: لا تقصر في فساد حاله ولا تمنعه منه.

فالألو: التقصير، وقد تضمن معنى المنع فلذلك تعدّى إلى مفعولين.

وعبّر هنا بهذا!! تنبيها على أن بطانة السوء يكفي فيها السكوت على الشر، وعدم النّهي عن الفساد. وهذا ظاهر في الخليفة، ولا يجيء في الأنبياء.

فالمراد ببطانة الخير في حق النبي الملك، وببطانة السّوء الشيطان، بل هذا عامّ في كلّ أحد كما يصرح به قوله صلى الله عليه وسلم:«ما منكم من أحد، إلّا وقد وكّل به قرينه من الجنّ، وقرينه من الملائكة» قالوا: وإياك؛ يا رسول الله؟ قال: «وإيّاي إلّا أنّ الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلّا بخير» .

(ومن يوق) - بصيغة المجهول-؛ من وقى يقي- أي يحفظ (بطانة السّوء) - بفتح السين، ويجوز ضمّه، ففيه لغتان؛ قرئ بهما في السبع «1» ، كما في الكره والضّعف، إلا أن المفتوحة غلبت في أن يضاف إليها ما يراد ذمّه من كلّ شيء.

(فقد وقي) ماض مجهول، أي: من يحفظ من بطانة السوء وأتباعها فقد حفظ من الفساد، أي من جميع الأسواء والمكاره؛ في الدنيا والآخرة.

وجاء في رواية: (والمعصوم من عصمه الله تعالى» ) وفيه الإحسان للضيف بالفعل إن وجد، وإلّا فالوعد، وأنه لا بأس أن يطالبه بما وعد به؛ وتخيير الموعود

(1) قرأ ابن كثير المكي وأبو عمرو البصري: بضمّ السين. وقرأ الباقون: بفتحها.

ص: 27

وعن عتبة بن غزوان رضي الله تعالى عنه

له حين الوفاء بين أشياء متعدّدة؛ زيادة في إكرامه وتأكّد النّصح لا سيما للمستشير، والوصيّة بالضّعفاء، وجواز مشي الصّاحب إلى صاحبه الموسر من غير طلب وغير ذلك.

(و) أخرج مسلم والتّرمذي وغيرهما (عن عتبة) - بضمّ العين المهملة، وإسكان المثناة الفوقية، وموحدة- (بن غزوان) - بفتح المعجمة وسكون الزاي- ابن جابر بن وهب المازني «حليف بني عبد شمس؛ أو بني نوفل» .

من السابقين الأولين، وهاجر إلى الحبشة، ثم رجع مهاجرا إلى المدينة.

وشهد بدرا وما بعدها، وروى له مسلم وأصحاب السنن، وولاه عمر في الفتوح؛ فاختط البصرة وفتح فتوحا، وكان طوالا جميلا.

قال ابن سعد وغيره: قدم على عمر يستعفيه من الإمارة فأبى، فرجع في الطريق ب «معدن بني سليم» فدعا الله فمات سنة: - 17- سبع عشرة، وقيل: ستّ وعشرين، وقيل قبل ذلك. وعاش سبعا وخمسين- 57- سنة (رضي الله تعالى عنه) .

لمّا بعثه عمر بن الخطاب وقال: انطلق أنت ومن معك حتى إذا كنتم في أقصى بلاد العرب، وأدنى بلاد العجم- أي: للمرابطة هنالك لحفظ بلاد العرب من العجم-.

فأقبلوا، حتى إذا كان بالمربد، وجدوا هذا الكذّان؛ فقالوا: ما هذه؟ قال بعضهم: هذه البصرة، فساروا حتى بلغوا حيال الجسر الصغير، فقالوا: ها هنا أمرتم.

فنزلوا، ولما حلّوا هناك استمد عتبة من بعض الدهاقين من أهل خوزستان، فجاؤوا فوافوا ضعفه وقلة رجاله؛ وكان معه ثلثمائة رجل فنقضوا العهد وقاتلوه، فنصره الله عليهم.

ثم شرع عتبة في بناء البصرة لمشقّة الإقامة من غير بناء.

ص: 28

قال: لقد رأيتني وإنّي لسابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لنا طعام إلّا ورق الشّجر، حتّى تقرّحت أشداقنا، فالتقطت بردة فقسمتها بيني وبين سعد بن مالك؛ فأتزرت بنصفها وأتزر سعد بنصفها،

(قال) أي عتبة (: لقد رأيتني) أي: والله لقد أبصرت نفسي (وإنّي) - بكسر الهمزة- أي: والحال أنّي (لسابع سبعة) أي: في الإسلام (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه أسلم مع ستة فصار متمّما لهم سبعة، فهو من السّابقين الأولين.

واعلم أن سابع ونحوه له استعمالان:

أحدهما: أن يضاف إلى العدد الذي أخذ منه؛ فيقال «سابع سبعة» كما هنا، وهو حينئذ بمعنى الواحد من السبعة، ومثله في التنزيل ثانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة: 40] .

وثانيهما: أن يضاف إلى العدد الذي أخذ منه؛ فيقال «سابع ستة» وهو حينئذ بمعنى مصيّر الستة سبعة.

(ما لنا طعام إلّا ورق الشّجر) بالرفع على البدل، جعله طعاما لقيامه مقام الطّعام في حقّهم (حتّى تقرّحت) - بالقاف وتشديد الرّاء بعدها حاء مهملة- (أشداقنا) جمع شدق- بالكسر- وهو جانب الفم، أي: ظهر في جوانب أفواهنا قروح من خشونة ذلك الورق وحرارته.

(فالتقطت بردة) أي: عثرت عليها بغير قصد وطلب، والبردة: شملة مخطّطة، أو كساء أسود مربّع فيه خطوط يلبسه الأعراب، واللّقط أخذ الشيء من الأرض، وقيل: أخذ الشيء بغير طلب.

(فقسمتها) - بتخفيف السين؛ ويجوز تشديدها- (بيني وبين سعد بن مالك) هو سعد بن أبي وقّاص القرشي الزّهري المكّي المدني، أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنّة، وتوفي وهو عنهم راض، - وقد مرت ترجمته، وترجمة ولده عامر-.

(فأتزرت بنصفها وأتزر سعد بنصفها) دليل لضيق عيشهم؛ وعيش

ص: 29

فما منّا من أولئك السّبعة أحد.. إلّا وهو أمير مصر من الأمصار، وستجرّبون الأمراء بعدنا.

المصطفى صلى الله عليه وسلم، وذلك أنّ أهل المدينة كانوا في شظف من العيش، عندما قدم عليهم المصطفى صلى الله عليه وسلم مع المهاجرين، وكان المهاجرون فرّوا بدينهم، وتركوا أموالهم وديارهم، فقدموا فقراء على أهل شدّة وحاجة، مع أن الأنصار واسوهم، وأشركوهم فيما بيدهم، غير أن ذلك ما سدّ خلّتهم ولا دفع فاقتهم، مع إيثارهم الضراء على السراء؛ والفقر على الغنى، ولم يزل ذلك دأبهم حتى فتح عليهم الفتوح كخيبر وغيرها، ومع ذلك لم يزل عيشهم شديدا، وجهدهم جهيدا، حتى لقوا الله صابرين على شدّة العيش؛ معرضين عن الدنيا وزهرتها ولذّتها، مقبلين على الآخرة ونعيمها، فحماهم الله ما رغبوا عنه، وأوصلهم إلى ما رغبوا فيه، حشرنا الله في زمرتهم. آمين.

(فما منّا من أولئك السّبعة أحد؛ إلّا وهو أمير مصر) بالتنوين (من الأمصار) ، وهذا جزاء الأبرار في هذه الدار، وهو خير وأبقى في دار القرار.

(وستجرّبون الأمراء بعدنا!) إخبار بأن من بعدهم من الأمراء، ليسوا مثل الصّحابة في العدالة والديانة والإعراض عن الدنيا الدنية والأغراض النفسية، وكان الأمر كذلك. فهو من الكرامات بالخبر عن الأمور الغيبية، وذلك لأنهم رأوا منه صلى الله عليه وسلم ما كان سببا لرياضتهم ومجاهدتهم وتقلّلهم في أمر معيشتهم، فمضوا بعده على ذلك واستمروا على ما هنالك، وأما غيرهم ممن بعدهم! فليسوا كذلك، فلا يكونون إلا على قضية طباعهم المجبولة على الأخلاق القبيحة، فلا يستقيمون مع الحق على الصدق، ولا مع الخلق على حسن الخلق.

وهذا الّذي ذكره المصنف بعض من خطبة عتبة بن غزوان العظيمة التي رواها مسلم في أواخر «صحيحه» .

ورواها الترمذي في «جامعه» و «شمائله» ؛ مقتصرا منها على ما ذكره المصنف هنا.

ص: 30

وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أخفت في الله وما يخاف أحد،

ورواها النسائي في «الرقاق» ، وابن ماجه في «الزهد» مختصرة.

وذكرها الإمام النووي في «رياض الصالحين» منقولة عن «صحيح مسلم» ولفظها- كما في مسلم-: عن خالد بن عمير العدوي قال:

خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد؛ فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولّت حذّاء، ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء يتصابّها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذكر لنا أنّ الحجر يلقى من شقّة جهنّم، فيهوي فيها سبعين عاما لا يدرك لها قعرا، وو الله لتملأنّ. أفعجبتم؟! ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزّحام!.

ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما لنا طعام إلّا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتّزرت بنصفها واتّزر سعد بنصفها؛ فما أصبح اليوم منا أحد إلّا أصبح أميرا على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما؛ وعند الله صغيرا، وإنّها لم تكن نبوّة إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملكا، فستخبرون وتجرّبون الأمراء بعدنا. انتهى.

(و) روى الإمام أحمد، والترمذي في «الزهد» من «جامعه» وفي «شمائله» - وقال: حسن صحيح- وصححه ابن حبان، ورواه ابن ماجه أيضا:

كلهم (عن أنس) بن مالك (رضي الله تعالى عنه؛ قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد أخفت) - ماض مجهول؛ من الإخافة- (في) إظهار دين (الله) أي: أخافني المشركون بالتهديد والإيذاء الشديد، في أمر الله؛ أو لله، كما في حديث «دخلت امرأة النّار في هرّة» ؛ أي: بهرة

(وما يخاف) - بضمّ أوّله- أي: والحال أنّه لا يخاف (أحد) غيري مثل

ص: 31

ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين ليلة ويوم ما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلّا شيء يواريه إبط بلال» .

ما أخفت، لأنهم في حال الأمن، وكنت وحيدا في إظهار ديني، ولم يكن أحد يوافقني في تحمل أذيّة الكفار، أو هو دعاء، أي: حفظ الله المسلمين عن الإخافة، أو مبالغة في الإخافة، وذلك معروف لغة، يقال: لي بليّة لا يبلى بها أحد.

(ولقد أوذيت) - ماض مجهول؛ من الإيذاء- (في الله) بقولهم ساحر، شاعر، مجنون، وغير ذلك، (وما يؤذى أحد) غيري بشيء من ذلك، بل كنت المخصوص بالإيذاء، لنهيي إيّاهم عن عبادة الأوثان، وأمري لهم بعبادة الرحمن.

وقال ابن القيّم: قوله في كثير من الأحاديث «في الله» يحتمل معنيين:

أحدهما أن ذلك في مرضاة الله وطاعته، وهذا فيما يصيبه باختياره.

والثاني: أنّه بسببه ومن جهته حصل ذلك، وهذا فيما يصيبه بغير اختياره، وغالب ما يجيء من الثاني، وليست «في» للظرفية، ولا لمجرّد السببية؛ وإن كانت السببية أصلها.

ألا ترى إلى خبر: «دخلت النّار امرأة في هرّة» ، فإن فيه معنى زائدا على السببية، فقولك «فعلت كذا في مرضاتك» فيه معنى زائد على فعلته لرضاك. وإن قلت: أوذيت في الله لا تقوم مقامه بسببه. انتهى.

(ولقد أتت) أي: مرّت، ومضت (عليّ) - بتشديد الياء- (ثلاثون من بين ليلة ويوم) أي: ثلاثون متواليات غير متفرقات لا ينقص منها شيء.

قال الطيبي: وهو للتأكيد الشمولي. ووجه إفادة الشّمول أنّه يفيد أنه لم يتكلم بالتسامح والتساهل، بل ضبط أول الثلاثين وآخرها، وأحصى أيامها ولياليها.

(ما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد) ؛ أي: حيوان عاقل أو دابة (إلّا شيء) أي: قليل، ولقلّته جدّا كان (يواريه) ؛ أي: يستره (إبط بلال» ) - بالكسر-:

ما تحت الجناح يذكّر ويؤنّث، يعني كان ذلك الوقت بلال رفيقي، ولم يكن لنا من

ص: 32

قال المصنّف في «جامعه» : معنى هذا الحديث: أنّه إنّما كان مع بلال حين خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة هاربا؛ ومع بلال من الطّعام ما يواريه تحت إبطه.

وعن أنس أيضا: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يجتمع عنده غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلّا على ضفف.

و (الضّفف) : كثرة أيدي الأضياف.

الطّعام إلّا شيء قليل بقدر ما يأخذه بلال تحت إبطه، ولم يكن لنا ظرف نضع الطعام فيه؛ كناية عن كمال القلّة.

(قال المصنّف) يعني الترمذي (في «جامعه» ) :

الذي قيل فيه: من كان عنده «جامع» الترمذي؛ فكأنما في بيته نبي يتكلّم

(معنى هذا الحديث: أنّه إنّما كان مع بلال حين خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة هاربا؛ ومع بلال من الطّعام ما يواريه تحت إبطه) واعترضه العصام؛ بأن بلالا لم يكن معه حين الهجرة.

وردّ بأن الترمذي لم يرد خروجه مهاجرا، بل خروجه قبل الهجرة إلى الطائف وغيره.

(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» (عن أنس أيضا) رضي الله تعالى عنه (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يجتمع عنده غداء) - بفتح المعجمة فمهملة- وهو الذي يؤكل أوّل النّهار، ويسمّى السّحور غداء، لأنه بمنزلة غداء المفطر. (ولا عشاء) - بفتح العين المهملة- هو: ما يؤكل آخر النهار (من خبز ولحم) ؛ أي: من هذين الجنسين (إلّا على ضفف) - بفتح الضاد المعجمة والفاء الأولى- أي: حال نادر وهو تناوله مع الضيف.

(و) قال المصنف كما في «الشمائل» نقلا عن بعضهم:

(الضّفف) - ك: فرس- (: كثرة أيدي الأضياف) . وهذا المعنى هو المراد

ص: 33

فكان صلى الله عليه وسلم لا يجتمع عنده الخبز واللّحم في الغداء والعشاء؛ إلّا إذا كان عنده الأضياف فيجمعهما لأجلهم.

وعن نوفل بن إياس الهذليّ قال: كان عبد الرّحمن ابن عوف هنا، وإن كان الضّفف له معان أخر أكثرها لا يناسب هنا.

وفي «النهاية» : الضفف الضيق والشدّة، ومنه ما يشبع منها إلّا عن ضيق وقلة.

وقيل: هو اجتماع النّاس، أي: لم يأكلهما وحده؛ ولكن مع النّاس.

وقيل: الضّفف أن تكون الأكلة أكثر من مقدار الطّعام، والحفف أن يكونوا بمقداره. انتهى.

قال الباجوري في «حاشية الشمائل» : (فكان صلى الله عليه وسلم لا يجتمع عنده الخبز واللّحم في الغداء والعشاء؛ إلّا إذا كان عنده الأضياف فيجمعهما) ولو يتكلف (لأجلهم) .

(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» (عن نوفل) - بفتح الفاء- (بن إياس) - بكسر الهمزة- (الهذليّ) - بضمّ الهاء وفتح الذال المعجمة- المدني، يروي عن عبد الرحمن بن عوف، وعنه مسلم بن جندب؛ وثّقه ابن حبّان. (قال:

كان) أبو محمد (عبد الرّحمن بن عوف) القرشي الزهري المدني، أحد الثّمانية السّابقين إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر، وأحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأحد الستة الّذين هم أهل الشّورى.

وكان من المهاجرين الأولين، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع.

وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، وأحدا، والخندق، وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد.

ومن مناقبه التي لا توجد لغيره من الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى وراءه في غزوة تبوك!! حين أدركه وقد صلى بالنّاس ركعة، وحديثه هذا في «صحيح مسلم» وغيره.

ص: 34

رضي الله تعالى عنه لنا جليسا، وكان نعم الجليس، وإنّه انقلب بنا ذات يوم حتّى إذا دخلنا بيته.. دخل فاغتسل، ثمّ خرج وأتينا بصحفة فيها خبز ولحم، فلمّا وضعت.. بكى عبد الرّحمن.

فقلت: يا أبا محمّد؛ ما يبكيك؟.

قال بعضهم:

ولم يصلّ المصطفى خلف أحد

إلّا ابن عوف فله الفضل أبد

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وستون حديثا؛ اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بخمسة. وتوفي سنة: - 32- اثنتين وثلاثين. وقيل: إحدى وثلاثين. وعمره اثنان وسبعون سنة، ودفن بالبقيع (رضي الله تعالى عنه

لنا جليسا) أي: مجالسا؛ (وكان) مقولا في حقه: (نعم الجليس) هو، (وإنّه) بكسر الهمزة (انقلب) أي: رجع (بنا) ؛ أي: انقلب معنا من السوق، أو غيرها فالباء بمعنى «مع» ، ويحتمل أنها للتعدية؛ أي: قلبنا وردّنا من الجهة الّتي كنّا ذاهبين إليها إلى بيته (ذات يوم) ؛ أي: ساعة ذات يوم؛ أي: في ساعة من يوم، ويحتمل أن «ذات» مقحمة، والمعنى: في يوم.

(حتّى إذا دخلنا بيته دخل) يغتسل (فاغتسل) لكونه محتاجا للغسل، ولم يكن ليأكل طعاما بدون الغسل؛ لأنه خلاف الكمال، وهذا من مؤكّدات أنّه «نعم الجليس» .

(ثمّ خرج) أي: من مغتسله إلينا، (وأتينا) - بالبناء للمجهول- أي: أتانا غلامه أو خادمه (بصحفة) هي إناء كالقصعة، وقيل: إناء مبسوط كالصّحيفة؛ (فيها) أي: في تلك الصّحفة (خبز ولحم، فلمّا وضعت) ؛ أي: الصّحفة الّتي فيها خبز ولحم (بكى عبد الرّحمن) بن عوف؛ خوفا مما يترتب على السّعة في الدّنيا.

(فقلت) له (: يا أبا محمّد) هذه كنية عبد الرحمن (ما يبكيك؟) أي أيّ شيء يجعلك باكيا؟.

ص: 35

فقال: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشّعير، فلا أرانا أخّرنا لما هو خير لنا.

وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّه أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر؛ فرأيته يأكل وهو مقع من الجوع.

ومعنى (الإقعاء) : التّساند إلى وراء.

(فقال: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع) أي يومين متواليين!! في خبر عائشة رضي الله تعالى عنها (هو وأهل بيته من خبز الشّعير) .

وفي رواية عن أبي هريرة أنه قال: خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الدّنيا؛ ولم يشبع من خبز الشّعير» رواه البخاري. ولعل ما في الصّحفة كان مشبعا لهم؛ فلذلك بكى.

(فلا أرانا) - بضمّ الهمزة- أي: لا أظنّنا (أخّرنا) - بصيغة المجهول- أي:

أبقينا بعده موسّعا علينا وقد ضيّق عليه (لما هو خير لنا!) ، لأنّه إذا كان خير النّاس حاله كذلك؛ فما صرنا إليه من السّعة يخاف عاقبته، ومن ثمّ كان الصدر الأول يخافون على من هو كذلك أنّه إنّما عجّلت له طيباته في حياته الدنيا.

(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» (عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ أنّه أتي) أي: جيء. ولفظ «الشمائل» : حدثنا أحمد بن منيع قال: حدثنا الفضل بن دكين قال: حدثنا مصعب بن سليم قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه يقول: أتي (رسول الله صلى الله عليه وسلم [بتمر فرأيته يأكل] ) حال من مفعول «رأيت» ؛ (وهو مقع) ؛ أي: متساند إلى ما وراءه (من) الضّعف الحاصل له بسبب (الجوع)، فلذلك قال المصنف:

(ومعنى الإقعاء) هنا (: التّساند إلى وراء) وجملة «وهو مقع» حال من فاعل «يأكل» .

وفي «القاموس» : أقعى في جلوسه تساند إلى ما وراءه، وليس في هذا

ص: 36

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ ممّا آتاه الله تعالى إلّا قوت عامه فقط، من أيسر ما يجد من التّمر والشّعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله عز وجل.

وروى البخاريّ ومسلم:

ما يفيد أن الاستناد من آداب الأكل، لأنّه إنّما فعله لضرورة الضعف، وليس المراد بالإقعاء هنا النّوع المسنون في الجلوس بين السجدتين؛ وهو أن يبسط ساقيه ويجلس على عقبيه، ولا النّوع المكروه في الصّلاة؛ وهو أن يجلس على ألييه ناصبا ساقيه. قاله الباجوري كالمناوي.

(و) في «الإحياء» : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ ممّا آتاه الله تعالى إلّا قوت عامه فقط؛ من أيسر ما يجد من التّمر والشّعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله عز وجل

قال العراقي: متفق عليه، بنحوه من حديث عمر بن الخطاب، وقد تقدّم في «الزّكاة» ، وقال في «الزّكاة» : أخرجاه من حديث عمر: كان يعزل نفقة أهله سنة.

وللطبراني في «الأوسط» من حديث أنس: كان إذا ادّخر لأهله قوت سنة تصدّق بما بقي. قال الذّهبي: حديث منكر. انتهى.

قلت: وفي حديث عمر بن الخطاب ومخاصمة علي بن أبي طالب والعباس في أموال بني النضير ما نصه: قال: فإنّي سأخبركم عن هذا الفيء. ثم ساق، وفيه:

ولقد قسّمها بينكم وبثّها فيكم حتّى بقي منها هذا المال، فكان ينفق منه على أهله رزق سنة، ثمّ يجمع ما بقي منه مجمع مال الله عز وجل.. الحديث.

وفي رواية: وكان ينفق منها على أهله

فهذا يؤيّد ما أخرجه الطبراني.

فتأمل. انتهى. «شرح الإحياء» .

(وروى) الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (البخاريّ) - وقد تقدمت ترجمته- (و) الإمام أبو الحسين (مسلم) بن الحجّاج القشيري النيسابوري في

ص: 37

أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعزل نفقة أهله سنة.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء.

وروى التّرمذيّ عن أنس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدّخر شيئا لغد.

«صحيحيهما» ؛ من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما تقدم آنفا (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعزل نفقة أهله سنة) .

ولا تعارض بينه وبين ما روي عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدّخر قوت غد، كما سيأتي فإنّ معناه لا يدخر لنفسه، وأمّا لعياله فقد كان يدخر لهم قوت سنة، على أنّه مع ذلك كان تنوبه أشياء يخرج فيها ما ادّخره لهم، فلا تنافي بين ادخاره ومضي الزمن الطويل عليه؛ وليس عنده شيء له ولا لهم. انتهى (شرح «الإحياء» ) .

(وعن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء) لمزيد ثقته بربّه.

(وروى) الإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة (التّرمذيّ) في «جامعه» في «كتاب الزهد» ؛ من حديث قطن بن بشير عن جعفر بن سليمان عن ثابت (عن أنس) رضي الله تعالى عنه (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدّخر شيئا لغد) أي: لا يدّخره ملكا؛ بل تمليكا، فلا ينافي أنه ادّخر قوت سنة لعياله، فإنّه كان خازنا، فلما وقع المال بيده قسم لعياله؛ كما قسم لغيرهم، فإن لهم حقّا في الفيء.

قال بعض الصوفية: ولا بأس بادخار القوت لأمثالنا، لأن النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت.

وحقق بعضهم فقال: من كانت نفسه مطمئنة بربّها كانت عيناه وسكونه إليه،

ص: 38

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تغدّى.. لم يتعشّ، وإذا تعشّى.. لم يتغدّ.

قال القسطلّانيّ في «المواهب اللّدنّيّة» : (قد استشكل كونه عليه الصلاة والسلام وأصحابه كانوا يطوون الأيّام جوعا؛ مع ما ثبت: فلا يلتفت لذلك. انتهى «عزيزي» . قال الشيخ: حديث صحيح. انتهى «منه» .

(و) أخرج أبو نعيم في «الحلية» بإسناد ضعيف؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال:

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تغدّى) - بالدال المهملة- بدليل مقابلته بالعشاء، إذ هو بالذال المعجمة شامل للغداء والعشاء، والغداء- بالمهملة-: من طلوع الشمس إلى الزوال، وبعد الزوال يسمّى عشاء؛ قاله الحفني على «الجامع الصغير» .

(لم يتعشّ، وإذا تعشّى لم يتغدّ) أي: لا يأكل في يوم مرتين؛ تنزّها عن الدنيا، وتقوّيا على العبادة، وتقديما للمحتاج على نفسه.

وفي قلة الأكل فوائد. منها: رقة القلب، وقوة الفهم والإدراك، وصحّة البدن ودفع الأمراض؛ فإن سببها كثرة الأكل.

ومنها: خفّة المؤونة، فإن من تعوّد قلّة الأكل كفاه من المال قدر يسير.

ومنها: التمكّن من التصدق بما فضل من الأطعمة على الفقراء والمساكين. وليس للعبد من ماله إلّا ما تصدق فأبقى أو أكل فأفنى أو لبس فأبلى. انتهى «عزيزي» .

(قال) العلامة الحافظ شهاب الدين: أبو العباس أحمد بن محمد (القسطلّانيّ) رحمه الله تعالى (في) كتاب ( «المواهب اللّدنّيّة» ) ؛ في النّوع الأول من «الفصل الثالث» ، الكائن في المقصد الثالث:

(قد استشكل كونه عليه الصلاة والسلام و) كون (أصحابه) - فهو بالجر؛ عطفا على الضمير، ويجوز نصبه مفعولا معه- (كانوا يطوون الأيّام جوعا؛ مع ما ثبت:

ص: 39

أنّه كان يرفع لأهله قوت سنة. وأنّه قسم بين أربعة أنفس من أصحابه ألف بعير ممّا أفاء الله عليه. وأنّه ساق في عمرته مئة بدنة؛ فنحرها وأطعمها المساكين. وأنّه أمر لأعرابيّ بقطيع من الغنم..

وغير ذلك. مع من كان معه من أصحاب الأموال؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة وغيرهم، مع بذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه.

وقد أمر بالصّدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله، وعمر بنصفه.

وحثّ على تجهيز جيش العسرة؛ فجهّزهم عثمان بألف بعير

إلى غير ذلك؟. وأجاب عنه الطّبريّ

1-

أنّه كان يرفع) أي يدّخر (لأهله قوت سنة) وسماه «رفعا» تجوّزا.

(و 2- أنّه قسم بين أربعة أنفس من أصحابه ألف بعير ممّا أفاء الله عليه.

و3- أنّه ساق في عمرته مائة بدنة؛ فنحرها وأطعمها المساكين.

و4- أنّه أمر لأعرابيّ بقطيع من الغنم

وغير ذلك) ؛ كإعطائه جماعة كثيرة من أموال خيبر، وفدك، وقريظة، والنضير، وكانت خالصة له!!

(مع) وجود (من كان معه من أصحاب الأموال؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة) بن عبيد الله (وغيرهم) ؛ كالزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن عبادة (مع بذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه!

وقد أمر بالصّدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله) ؛ وقال: أبقيت الله ورسوله لعيالي.

(و) جاء (عمر بنصفه، وحثّ على تجهيز جيش العسرة)[في] غزوة تبوك، حين أراد السير إليها (فجهّزهم عثمان بألف بعير) ، وجاء بعشرة آلاف درهم، إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فوضعها بين يديه (إلى غير ذلك!؟

وأجاب عنه) أي: عن هذا الإشكال؟! الإمام البارع في أنواع العلوم:

أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب (الطّبريّ) .

ص: 40

- كما حكاه في «فتح الباري» -: بأنّ ذلك كان منهم في حالة دون حالة؛ لا لعوز

كان أحد أئمة الدنيا يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله.

وكان قد جمع من العلوم؛ ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره.

وكان حافظا لكتاب الله تعالى؛ عارفا بالقراآت؛ بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها؛ صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين فمن بعدهم في الأحكام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم.

قال محمد بن إسحاق بن خزيمة: ما أعلم تحت أديم السّماء أعلم من محمد بن جرير. وتفرّد بمسائل حفظت عنه.

قال الرافعي: تفرّد ابن جرير لا يعدّ وجها في مذهبنا؛ وإن كان معدودا من طبقات أصحاب الشافعي!! وأخذ فقه الشافعي عن الربيع المرادي، والحسن الزعفرانيّ.

وهو في طبقة الترمذي والنّسائي، سمع أحمد بن منيع، وأبا كريب:

محمد بن العلاء، ومحمد بن المثنى وغيرهم من شيوخ البخاري ومسلم.

وحدّث عنه خلائق؛ منهم أحمد بن كامل ومخلد بن جعفر،

وتوفي ابن جرير وقت المغرب؛ ليلة الاثنين ليومين بقيا من شهر شوال، سنة: - 310- عشر وثلثمائة هجرية. ودفن ضحوة يوم الاثنين في داره، وكان مولده في آخر سنة- 224- أربع- أو أول سنة: - 225- خمس- وعشرين ومائتين. فعمره يقارب: خمسا وثمانين- 85- سنة رحمه الله تعالى. آمين.

(كما حكاه) أي الحافظ الحجة شهاب الملة والدين: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى (في «فتح الباري» ) شرح «صحيح البخاري» (بأنّ ذلك كان منهم في حالة دون حالة؛ لا لعوز) - بفتح العين المهملة، وفتح الواو

ص: 41

وضيق، بل تارة للإيثار، وتارة لكراهة الشّبع وكثرة الأكل.

قال الحافظ ابن حجر: والحقّ أنّ الكثير منهم كانوا في حال ضيق قبل الهجرة حيث كانوا بمكّة، ثمّ لمّا هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك، فواساهم الأنصار بالمنازل

وإسكانها-؛ يقال عوز؛ من باب تعب: عزّ فلم يوجد؛ وعزت الشّيء أعوزه؛ من باب قال: احتجت إليه فلم أجده، كما في «المصباح» . فإن أخذ من الأول فتحت الواو، أي لا لعدم وجدان، أو من الثاني سكّنت؛ أي لا للاحتياج (وضيق) تفسير.

ولا يرد على ذا الجواب أنه لم يعرج على قول الإشكال «كان يرفع لأهله قوت سنة» ! لأنه أشار للجواب عنه بقوله: (بل تارة للإيثار) ؛ فقد كان يدّخر قوت عام، ثمّ يجد المحاويج فيدفعه إليهم؛ ويترك أهله، (وتارة لكراهة الشّبع) لأنهم لم يكونوا يشبعون، إذ الشبع بدعة ظهرت بعد القرن الأول.

قال بعضهم: الشّبع نهر في النفس يرده الشيطان، والجوع نهر في الروح ترده الملائكة.

(و) لكراهة (كثرة الأكل) . انتهى جواب الطبري..

وتعقّب بأنّ ما نفاه مطلقا في قوله «لا لعوز وضيق» فيه نظر؛ لما تقدم من الأحاديث الدالة على أنه للعوز.

وأخرج ابن حبان في «صحيحه» عن عائشة رضي الله تعالى عنها:

من حدّثكم أنّا كنّا نشبع من التّمر؛ فقد كذبكم، فلما افتتحت قريظة أصبنا شيئا من التّمر والودك. إلى غير ذلك.

(قال الحافظ ابن حجر) العسقلاني رحمه الله تعالى

(: والحقّ أنّ الكثير منهم كانوا في حال ضيق قبل الهجرة؛ حيث كانوا بمكّة، ثمّ لمّا هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك؛ فواساهم الأنصار بالمنازل

ص: 42

والمنائح، فلمّا فتحت لهم النّضير وما بعدها.. ردّوا عليهم منائحهم.

نعم.. كان صلى الله عليه وسلم يختار ذلك مع إمكان حصول التّوسّع والتّبسّط في الدّنيا له؛ كما أخرج التّرمذيّ من حديث أبي أمامة: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكّة ذهبا،

والمنائح) تمليكا للمنافع، لا للرقاب.

وذكر البيضاوي: أنّ من كان عنده امرأتان نزل عن واحدة؛ وزوّجها من أحدهم، (فلمّا فتحت لهم النّضير وما بعدها؛ ردّوا عليهم منائحهم) ومنازلهم.

(نعم؛ كان صلى الله عليه وسلم يختار ذلك مع إمكان حصول التّوسّع والتّبسّط في الدّنيا له، كما أخرج) الإمام أحمد و (التّرمذيّ) وحسّنه ونوزع؛ (من حديث أبي أمامة) الباهلي: صديّ- بضمّ الصاد وفتح الدال المهملتين وتشديد الياء- ابن عجلان بن والبة- بالموحدة- ابن رياح- بكسر الراء- ابن الحارث بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان- بالمهملة- ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

وقيل غير ذلك في نسبه، وهو من مشهوري الصّحابة رضوان الله عليهم.

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتا حديث وخمسون حديثا؛ انفرد البخاري بخمسة، ومسلم بثلاثة.

سكن مصر، ثم حمص؛ وبها توفي، سنة: - 81- إحدى وثمانين هجرية، وقيل: سنة ست وثمانين. قيل: هو آخر الصحابة موتا بالشام، رضي الله تعالى عنه وعامّة حديثه عند الشاميين (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:

«عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكّة) ؛ أي: حصباءها.

قال الطيبي: تنازع فيه «عرض» و «ليجعل» ؛ أي: عرض علي بطحاء مكّة ليجعلها لي (ذهبا) ، فلا حاجة لتقدير مفعول «عرض» محذوفا، أي: أسباب الغنى؛ كما قاله بعضهم.

ص: 43

فقلت: لا يا ربّ، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جعت..

تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت.. شكرتك وحمدتك» .

وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وجبريل على الصّفا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا جبريل؛ والّذي بعثك بالحقّ ما أمسى لآل محمّد سفّة من دقيق، ولا كفّ من سويق» .

فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدّة

فقلت: لا) أريدها (يا ربّ؛ ولكن أشبع يوما وأجوع يوما) .

هذا ورد على منهج التقسيم، وهو ذكر متعدد، ثم إضافة ما لكلّ على التعيين، فذكر أولا الشّبع والجوع في أيامهما، ثم أضاف لكلّ ما يناسبه بقوله:

(فإذا جعت تضرّعت إليك) بذلّة وخضوع، (وذكرتك) في نفسي، وبلساني، (وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» ) عطفه على سابقه!! لما بينهما من عموم الحمد موردا، وخصوصه متعلّقا، وخصوص الشّكر موردا وعمومه متعلقا.

وحكمة هذا التفصيل: الاستلذاذ بالخطاب، وإلا فالله تعالى أعلم بالأشياء جملة وتفصيلا.

(وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وجبريل على الصّفا) بمكّة؛ (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جبريل؛ والّذي بعثك بالحقّ) رسولا إلى أنبيائه، (ما أمسى لآل محمّد سفّة) - بضم السين المهملة-: قبضة (من دقيق، ولا كفّ من سويق» ) كأمير هو دقيق الشعير المقلو، ويكون من القمح، والأكثر جعله من الشعير. قال أعرابي يصفه: هو عدة المسافر، وطعام العجلان، وبلغة المريض.

(فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدّة) - بفتح الهاء وتشديد الدال المهملة-

ص: 44

من السّماء أفزعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمر الله القيامة أن تقوم؟» .

قال: لا، ولكن أمر إسرافيل فنزل إليك حين سمع كلامك.

فأتاه إسرافيل، فقال: إنّ الله تعالى قد سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرني أن أعرض عليك: إن أردت أن أسيّر معك جبال تهامة زمرّذا

أي: صوتا قويا (من السّماء أفزعته) : خوّفته.

(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل مستفهما. - بحذف همزته- (: «أمر الله القيامة أن تقوم» ؟! قال: لا، ولكن أمر إسرافيل فنزل إليك حين سمع كلامك) لي!

ولعل حكمة نزوله بتلك الهدة، الإشارة إلى قدرته على فعل ما يعرضه عليه!!

(فأتاه إسرافيل، فقال) : (إنّ الله تعالى قد سمع ما ذكرت) لجبريل، (فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض) المعادن، أو البلاد التي فيها، أو الممالك التي فتحت لأمته بعده، وظاهر الحديث أنّها مفاتيح وخزائن حقيقية، وهو الأصل.

وذكر الزمخشري فيه وما أشبهه أنه من قبيل التمثيل والاستعارة حيث قال في قوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [21/ الحجر] . ذكر الخزائن تمثيل، والمعنى:

وما من شيء ينتفع به العباد إلّا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به؛ فضرب الخزائن مثلا.

(وأمرني أن أعرض عليك؛ إن أردت أن أسيّر معك جبال تهامة زمرّذا) - بزاي أوله وذال معجمة آخره وراء قبل آخره مشدّدة؛ مضمومات الأوائل.

هو أربعة أضرب: الأول: الذّبابيّ.

الثّاني: الرّيحاني؛ وهو أخضر مفتوح اللون شبيه بلون ورق الرّيحان.

ص: 45

.........

الثالث: السّلقي؛ وخضرته أشبه شيء بلون السّلق.

الرابع: الصّابوني؛ ولونه كلون الصابون الأخضر.

وأفضل أنواعه وأشرفها الذّبابيّ، وهو شديد الخضرة لا يشوب خضرته شيء آخر من الألوان؛ من صفرة ولا سواد ولا غيرهما، حسن الصبغ، جيد المائية، شديد الشعاع؛ ويسمى ذبابيا!! لمشابهة لونه في الخضرة لون كبار الذباب الأخضر الربيعي، وهو من أحسن الألوان خضرة وبصيصا، ويزداد حسنه بكبر الجرم، واستواء القصبة، وعدم الاعوجاج فيها.

ومن عيوب الذبابي اختلاف الصبغ، بحيث يكون موضع منه مخالفا للموضع الآخر، وعدم الاستواء في الشكل، والتشعير وهو شبه شقوق خفية؛ إلّا أنه لا يكاد يخلو منه.

ومن عيوبه: الرخاوة، وخفة الوزن، وشدة الملاسة، والصقال، والنعومة، وزيادة الخضرة، والمائية، إذا ركّب على البطانة.

ومن خاصّيّة الذبابي التي امتاز بها عن سائر الأحجار: أنّ الأفاعي إذا نظرت إليه، ووقع بصرها عليه؛ انفقأت عيونها. وبهذه الخاصّية يمتحن الزمرّذ الخالص من غيره، كما يمتحن الياقوت بالصبر على النار.

ومن منافع الزمرّذ الذبابي: أنّ من أدمن نظره أذهب عن بصره الكلال، ومن تختّم به دفع عنه داء الصرع؛ إذا كان قد لبسه قبل ذلك.

وإذا كان في موضع لم تقربه ذوات السموم، وإذا سحل منه وزن ثمان شعيرات وسقيته شارب السّمّ قبل أن يعمل السّم فيه خلّصته منه.

وإذا تختّم به من به نفث الدّم؛ أو إسهاله! منع من ذلك، وإذا علق على المعدة من خارج نفع من وجعها، وشرب حكاكته ينفع من الجذام.

وهذه الخواصّ توجد في الصغير منه والكبير والمعوجّ والمستقيم.

ص: 46

وياقوتا،

أما بقية أصناف الزمرذ! فإنّه لا قيمة لها يعتدّ بها، لعدم المنافع الموجودة في الذبابي، انتهى ملخصا من «صبح الأعشى» .

(وياقوتا) هو ثلاثة أضرب:

الضرب الأول: الأحمر ومنه البهرمان، ولونه كلون العصفر الشّديد الحمرة؛ النّاصع في القوّة الذي لا يشوب حمرته شائبة، ويسمّى «الرّمّاني» لمشابهته حب الرمان الرائق الحب، وهو أعلى أصناف الياقوت، وأفضلها، وأغلاها ثمنا.

وأردأ ألوانه الوردي الذي يضرب إلى البياض.

الضرب الثاني: الأصفر، وأعلاه الجلّناري، وهو أشدّه صفرة، وأكثره شعاعا، ومائية. ودونه الخلوقي؛ وهو أقلّ صفرة منه؛ ودونه الرّقيق؛ وهو قليل الصفرة كثير الماء ساطع الشعاع. وأردأ الأصفر ما نقص لونه؛ ومال إلى البياض.

الضرب الثالث: الأبيض، ومنه المهاني وهو أشدّها وأكثرها ماء، وأقواها شعاعا، وأصلب حجرا، وهو أدون أصناف الياقوت وأقلها ثمنا.

وأجود الياقوت الأحمر: البهرماني والرّمّاني والوردي النيّر المشرق اللّون الشفّاف الذي لا ينفذه البصر بسرعة.

وعيوب الياقوت: الشعرة؛ وهي شبه تشقيق يرى فيه. والسوس؛ وهو خروق توجد في باطنه، ويعلوها شيء من ترابية المعدن.

ومن خواصّ الياقوت بأنواعه: أنه يقطع كل الحجارة كما يقطعها الماس.

وليس يقطعه هو- على أي لون كان- غير الماس.

ومن خواصّه: أنه ليس لشيء من الأحجار المشعة شعاع مثله، وأنه أثقل من سائر الأحجار المساوية له في المقدار، وأنه يصبر على النار؛ فلا يتكلّس بها كما يتكلس غيره من الحجارة النفيسة، وإذا أخرج من النار برد بسرعة؛ حتى أن الإنسان يضعه في فيه عقب إخراجه من النار فلا يتأثّر به، إلّا أن لون غير الأحمر منه؛

ص: 47

وذهبا وفضة.. فعلت، فإن شئت: نبيّا ملكا، وإن شئت نبيّا عبدا؟

فأومأ إليه جبريل أن تواضع.

فقال: «بل نبيّا عبدا» (ثلاثا) . رواه الطّبرانيّ بإسناد حسن.

كالصفرة وغيرها يتحول إلى البياض، أما الحمرة فإنها تقوى بالنار، فما ذهبت حمرته بالنار، فليس بياقوت أحمر بل ياقوت أبيض مصبوغ، أو حجر يشبه الياقوت.

ومن منافعه: أنّ التختّم به يمنع صاحبه أن يصيبه الطّاعون؛ إذا ظهر في بلد هو فيه، وأنّه يعظّم لابسه في عيون الناس، ويسهل عليه قضاء الحوائج، وتتيسر له أسباب المعاش، ويقوّي قلبه ويشجعه، وأن الصاعقة لا تقع على من تختم به.

وإذا وضع تحت اللسان قطع العطش؛ قاله أرسطاطاليس.

قال: وامتحانه أن يحك به ما يشبهه من الأحجار فإنه يجرحها بأسرها ولا تؤثر هي فيه. انتهى ملخصا من «صبح الأعشى» .

(وذهبا وفضّة) لفظ «المواهب» : وأمرني أن أعرض عليك؛ أسيّر معك جبال تهامة زمرّذا وياقوتا وذهبا وفضة (فعلت، فإن شئت نبيّا ملكا، وإن شئت نبيّا عبدا!! فأومأ إليه جبريل) لما استشاره (أن تواضع.

فقال: «بل نبيّا عبدا» . قالها (ثلاثا. رواه الطّبرانيّ بإسناد حسن)

كما قال المنذري وغيره، ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم أتيت بمقاليد الدّنيا على فرس أبلق جاءني به جبريل» رواه الإمام أحمد برجال الصحيح، وصححه ابن حبّان عن جابر رضي الله تعالى عنه! لأنّ هذا بعد ذاك للإشارة إلى ما ستملكه أمته من بعده.

فانظر إلى همته العلية صلى الله عليه وسلم كيف عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأباها؟!

ومعلوم أنّه لو أخذها لأنفقها في طاعة ربه، فأبى ذلك مع أن النّبوة معطاة له على كلا التقديرين. فيا لها من همّة شريفة رفيعة ما أسناها! ونفس زكيّة ما أبهاها! وقد عوّضه الله تعالى بالتصرف في خزائن السماء: ردّ الشمس بعد غروبها، وشقّ

ص: 48

ولله درّ الأبوصيريّ حيث قال:

وراودته الجبال الشّمّ من ذهب

عن نفسه فأراها أيّما شمم)

القمر، ورجم النجوم، واختراق السموات، وحبس المطر وإرساله، وإرسال الريح وإمساكها وغير ذلك

(ولله درّ الأبو صيريّ حيث قال) في «بردة المديح» :

(وراودته) أي: طلبت منه (الجبال الشّمّ) - بضم الشين-: المرتفعة (من ذهب

عن نفسه) ونسبة المراودة إليها مجاز، (فأراها) - بفتحتين- (أيّما شمم)

بفتح المعجمة والميم، وبعد هذا البيت قوله:

فأكّدت زهده فيها ضرورته

إنّ الضّرورة لا تعدو على العصم

وكيف تدعو إلى الدّنيا ضرورة من

لولاه لم تخرج الدّنيا من العدم

ولعل المصنف حذف هذين البيتين من كلام القسطلّاني، لمّا أورده في «المواهب» ؛ من أنّ في البيتين شيئا! قال: لأنه في مقام المدح فلا يليق منه الوصف بالزهد ولا بالضرورة. قال الزرقاني: لأن الزهد يقتضي رغبته فيما زهد فيه والضرورة تقتضي الحاجة. انتهى.

قال الحليمي في «شعب الإيمان» : من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ألايوصف بما هو عند النّاس من أوصاف الضّعة، فلا يقال كان فقيرا. وأنكر بعضهم إطلاق الزهد في حقّه صلى الله عليه وسلم. إذ لا قدر للدّنيا عنده. وقد حكى صاحب كتاب «نثر الدر» ؛ وهو أبو سعيد منصور بن الحسين الآبي- بالمد- عن محمد بن واسع، أنّه قيل له: فلان زاهد. فقال: وما قدر الدنيا حتى يزهد فيها!!. فإذا قيل هذا في حقّ غير المصطفى صلى الله عليه وسلم فما بالك به؟!.

وقد ذكر القاضي عياض في «الشفاء» ؛ ونقله عنه الشيخ تقي الدين السبكي في كتابه «السيف المسلول» : أن فقهاء الأندلس أفتوا بقتل حاتم المتفقه الطليطليّ

ص: 49

وأمّا خبز رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت اللّيالي المتتابعة طاويا هو وأهله؛ لا يجدون

وصلبه لاستخفافه بحق النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وتسميته إياه أثناء مناظرته ب «اليتيم» ، وزعمه أنّ زهده لم يكن قصدا!! ولو قدر على الطيبات أكلها!. انتهى.

وكلّ واحدة من هذه الثلاث كافية في القتل؛ بلا استتابة عند مالك رحمه الله تعالى.

وذكر الشيخ بدر الدين الزركشي عن بعض الفقهاء المتأخرين؛ أنّه كان يقول:

لم يكن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقيرا من المال، ولا حاله حال فقير، بل كان أغنى النّاس، فقد كفي أمر دنياه في نفسه وعياله.

وكان يقول في قوله صلى الله عليه وسلم «اللهم أحيني مسكينا» أنّ المراد به استكانة القلب، لا المسكنة الّتي هي ألايجد ما يقع موقعا من كفايته. وكان يشدّد النكير على من يعتقد خلاف ذلك. انتهى. وهو حسن نفيس. انتهى كلام «المواهب» ؛ مع شيء من «شرح الزرقاني» رحمهما الله تعالى.

(وأمّا خبز رسول الله صلى الله عليه وسلم!) والخبز- بالضمّ-: الشّيء المخبوز من نحو برّ.

وهو المراد هنا، فقد جاء بيانه في أحاديث كثيرة.

أخرج الإمام أحمد والتّرمذيّ في «جامعه» و «شمائله» وصححه، وابن سعد في «طبقاته» - واللفظ ل «الشمائل» - (فعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت اللّيالي المتتابعة) أي المتوالية، يعني كان في تلك الليالي على الاتصال (طاويا) أي: خالي البطن جائعا (هو) تأكيد فاعل «طاويا» ، لتصحيح عطف (وأهله) عليه، (لا يجدون) أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأهله فأفرد «طاويا» نظرا لمطابقة الفاعل، وجمع «لا يجدون» ! نظرا لمشاركتهم له في

ص: 50

عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشّعير.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع آل محمّد صلى الله عليه وسلم من خبز الشّعير يومين متتابعين

عدم وجدانهم، (عشاء) - بفتح العين المهملة والشين المعجمة والمدّ- هو:

ما يؤكل آخر النّهار الصادق؛ بما بعد الزوال.

والمراد بأهله عياله الذين في نفقته.

وفي «المغرب» : أهل الرّجل؛ امرأته وولده، والذين في عياله، ونفقته، وكذا كل أخ وأخت، وعمّ وابن عمّ وصبيّ يقوته في منزله. انتهى.

وكان صلى الله عليه وسلم لشرف نفسه، وفخامة منصبه؛ يبالغ في ستر ذلك عن أصحابه؛ وإلّا فكيف يظنّ عاقل أنه يبلغهم أنه يبيت طاويا، هو وأهل بيته اللّيالي المتتابعة، مع ما عليه طائفة منهم من الغنى؛ بل لو علم فقراؤهم- فضلا عن أغنيائهم- ذلك لبذلوا الجهد في تقديمه، هو وأهل بيته، على أنفسهم واستبقوا على إيثاره!!؟

وهذا يدلّ على فضل الفقر والتجنّب عن السؤال مع الجوع.

(وكان أكثر خبزهم خبز الشّعير) أي: وقد يكون خبزهم خبز البرّ مثلا.

(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عن) أمّ المؤمنين (عائشة رضي الله تعالى عنها؛ أنّها قالت: ما شبع آل محمّد صلى الله عليه وسلم - هم هنا: عياله الّذين في مؤونته، لا من تحرم عليهم الصّدقة. وما يأكله عياله يسمّى خبزه، ومنسوب له؛ فالخبر مطابق للترجمة.

ويحتمل أن لفظ «آل» مقحم، والمراد هو!! ويؤيده الرواية الآتية: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ (من خبز الشّعير يومين متتابعين) . خرج بقوله «خبز الشعير» خبز البر. ففي رواية البخاري عن عائشة: ما شبع آل محمّد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة، من طعام برّ ثلاث ليال تباعا حتّى قبض!!

ص: 51

حتّى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن سليم بن عامر [رحمه الله تعالى] قال: سمعت أبا أمامة [الباهليّ] رضي الله تعالى عنه يقول: ما كان يفضل عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خبز الشّعير.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: ما رفع عن مائدته صلى الله عليه وسلم كسرة خبز حتّى قبض.

وقد ورد عنها أيضا أنّها

وأخذ منه أن المراد هنا اليومان بلياليهما، كما أنّ المراد اللّيالي بأيامهما.

وقولها (حتّى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى استمرار تلك الحالة مدة إقامته بالمدينة، وهي عشر سنين؛ بما فيها من أيام حجّه وغزوه.

(و) أخرج التّرمذي في «الشمائل» (عن سليم) - بالتصغير- (بن عامر) الرّحبي المشرفي الحمصي- ورحبة: بطن من حمير-.

له نحو مائتي حديث، وكان ثبتا ناصبيا. مات سنة ثلاث وستين ومائة. وغلا من قال (له رؤية) . خرّج له مسلم والأربعة

(قال: سمعت أبا أمامة) - بضم الهمزة- ( [الباهليّ] ) اسمه: صدي بن عجلان- تقدمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه؛ يقول:

(ما كان يفضل) - بضم الضاد المعجمة؛ أي: يزيد- (عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خبز الشّعير) . أي: ما كان يزيد عن كفايتهم، بل كان ما يجدونه لا يشبعهم في الأكثر، كما تدلّ عليه الرواية السابقة.

(و) في الباجوري على «الشمائل» : روي (عن عائشة رضي الله تعالى عنها) أنها قالت: (ما رفع عن مائدته صلى الله عليه وسلم كسرة خبز حتّى قبض.

وقد ورد عنها) أي: عائشة (أيضا) ؛ فيما رواه البخاري ومسلم؛ (أنّها

ص: 52

قالت: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عندي شيء يأكله ذو كبد إلّا شطر شعير في رفّ لي- أي: نصف وسق- فأكلت منه حتّى طال عليّ فكلته ففني.

قالت: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وليس عندي شيء يأكله ذو كبد) شامل لكل حيوان، (إلّا شطر شعير) قال التّرمذي: أي: شيء من شعير.

وقال ابن الأثير: قيل: نصف مكوك، وقيل: نصف وسق. ويقال: شطر وشطير؛ مثل نصف ونصيف؛ انتهى ذكره الشّمنّي في «حواشي الشفاء»

( [في رفّ لي] ) - بفتح الراء وشد الفاء مكسورة-: خشب يرفع عن الأرض في البيت، يوضع فيه ما يراد حفظه؛ قاله القاضي عياض.

وفي «الصّحاح» : الرفّ شبه الطاق في الحائط. قيل: وهو أقرب هاهنا، لأن الخشب لا يحتمل وضع هذا المقدار عليه، وفيه نظر لقلّته؛ ذكره الزرقاني.

وقال المصنف تبعا للباجوري؛ في تفسير قوله شطر شعير: (أي: نصف وسق) .

قالت عائشة: (فأكلت منه حتّى طال عليّ) - بتشديد الياء- (فكلته) - بكسر الكاف- (ففني) . زادت في رواية: «فياليتني لم أكله» .

فإن قيل: مقتضى هذا أنّ الكيل سبب لعدم البركة، فيعارض قوله صلى الله عليه وسلم:

«كيلوا طعامكم؛ يبارك لكم فيه» رواه البخاري وأحمد عن المقدام بن معدي كرب؟ وفي الباب غيره!؟

أجيب: بأن البركة عند البيع، ودخوله البيت، وعدمها عند النفقة، وبأن المراد أن يكيله بشرط بقاء الباقي مجهولا، أو لأن الكيل عند الشراء مطلوب لتعلّق حق المتبايعين؛ فلذا ندب، وحصلت البركة فيه!! لامتثال أمر الشارع، بخلاف كيله عند الإنفاق للاختبار، فقد يبعث عليه الشح؛ فلذا كره وذهبت بركته.

والحاصل: أنّ مجرد الكيل إنما يحصّل البركة بقصد الامتثال فيما شرع كيله،

ص: 53

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل خبز الشّعير غير منخول، وربّما وقف في حلقه فلا يسيغه إلّا بجرعة من ماء.

وعن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما أنّه قيل له: أكل

ومجرد عدمه إنما ينزعها إذا انضم إليه الاختبار والمعارضة، ولذا قال القرطبي:

سبب رفع النّما الالتفات بعين الحرص مع معاينة إدرار نعم الله ومواهب كراماته وكثرة بركاته، والغافلة عن الشّكر عليها، والثّقة بالذي وهبها، والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادة. انتهى «زرقاني على «المواهب» » .

(و) في «الإحياء» مع الشرح: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل خبز الشّعير غير منخول) من نخالته.

وفي هذا تركه صلى الله عليه وسلم التكلّف والاعتناء بشأن الطّعام، فإنّه لا يعتني به إلّا أهل البطالة والغافلة.

قال العراقي: رواه البخاري من حديث سهل بن سعد. انتهى.

قلت: ورواه مسلم والترمذي نحوه. انتهى كلام «شرح الإحياء» .

(وربّما وقف في حلقه؛ فلا يسيغه إلّا بجرعة من ماء) .

هذه الزيادة غير موجودة في «الإحياء» !.

(و) أخرج البخاري والترمذي في «الشمائل» - واللفظ لهما-.

(عن سهل) - بفتح السين المهملة وسكون الهاء- (بن سعد) بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي: أبي العباس.

له ولأبيه صحبة وهو آخر من مات من الصحب بالمدينة المنورة، مات سنة:

- 88- ثمان وثمانين أو إحدى وتسعين وعمره جاوز المائة (رضي الله تعالى عنهما أنّه) أي: الشأن (قيل له) أي لسهل (: أكل) هو استفهام بحذف الهمزة،

ص: 54

رسول الله صلى الله عليه وسلم النّقيّ يعني: الحوّارى؟

فقال سهل: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النّقيّ حتّى لقي الله عز وجل.

فقيل له: هل كانت لكم مناخل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما كانت لنا مناخل.

أي: قال بعضهم له على وجه الإستفهام: أأكل (رسول الله صلى الله عليه وسلم النّقيّ؟) - بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء- أي: الخبز المنقّى من النّخالة، أي: المنخول دقيقه.

وأما النّفي بالفاء: فهو ما ترامت به الرحى؛ كما قاله الزمخشري.

(يعني) أي: يريد سهل بالنقي (الحوّارى) تفسير من الراوي أدرجه في الخبر. وهو- بضمّ الحاء المهملة وتشديد الواو وفتح الراء، وفي آخره ألف تأنيث مقصور-: ما حوّر من الدّقيق بنخله مرارا، فهو خلاصة الدقيق وأبيضه، وكل ما بيض من الطعام كالأرز. وقصره على الأول تقصير.

(فقال سهل: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النّقيّ)، أجابه بنفي الرؤية مع أن السؤال عن الأكل! لأنّه يلزم من نفي رؤيته نفي أكله. وإنما عدل عن نفي الأكل!! لأن نفي الرؤية أبلغ. أي: ما رآه فضلا عن أكله (حتّى لقي الله عز وجل أي: حتى فارق الدّنيا، لأن الميت بمجرّد خروج روحه تأهّل للقاء ربه، إذ الحائل بين الله وبين العبد هو التعلقات الجسمانية، فبعد قطعها يلاقيه؛ إمّا بصفاته الجلالية، أو الجمالية.

(فقيل له) أي لسهل (: هل كانت لكم) معشر الصحابة من المهاجرين والأنصار (مناخل) جمع منخل- بضم الميم والخاء المعجمة- وهو: اسم آلة على غير قياس، إذ القياس كسر الميم وفتح الخاء (على عهد) أي: في زمن (رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)

(قال) أي سهل (: ما كانت لنا مناخل) أي: في عهده صلى الله عليه وسلم وزمانه ليطابق

ص: 55

قيل: كيف كنتم تصنعون بالشّعير؟

قال: كنّا ننفخه فيطير منه ما طار، ثمّ نعجنه.

وفي رواية له: هل كانت لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مناخل؟ فقال: ما رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم منخلا من حين ابتعثه الله تعالى حتّى قبضه الله تعالى.

الجواب السؤال، وليوافق ما في الواقع. إذ بعده صلى الله عليه وسلم كانت لهم ولغيرهم مناخل ممن لم يثبت على حاله. ولذا قيل: المنخل أوّل بدعة في الإسلام.

وفي «صحيح مسلم» عن الحسن أنّ عائذ بن عمرو- وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عبيد الله بن زياد الأمير الظالم. فقال: - أي: عائذ بن عمرو-:

أي بني؛ إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ شرّ الرّعاء الحطمة فإيّاك أن تكون منهم» .

فقال له: اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم.

فقال: هل كانت لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم!!.

(قيل: كيف كنتم تصنعون بالشّعير؟) أي: بدقيقه مع ما فيه من النخالة، ولا بد من نخلها ليسهل بلعه!!. (قال: كنّا ننفخه) بضمّ الفاء أي: نطيّره، والاستعمال الأشيع: ننفخ فيه (فيطير منه ما طار) من القشر، (ثمّ نعجنه) - بفتح النون وكسر الجيم؛ من باب ضرب-.

(وفي رواية له) أي: لسهل في البخاري؛ بعد «باب الأطعمة» : (هل كانت لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مناخل؟ فقال: ما رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم منخلا من حين ابتعثه الله تعالى حتّى قبضه الله تعالى) .

وبقية الحديث: قلت: كيف كنتم تأكلون الشّعير غير منخول؟ قال: كنّا نطحنه وننفخه فيطير ما طار، وما بقي ثرّيناه فأكلناه.

ص: 56

وقال أنس رضي الله تعالى عنه: ما أعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرقّقا حتّى لحق بالله،

وقوله ثرّيناه- بمثلاثة وراء ثقيلة مفتوحتين- أي: ندّيناه وليّنّاه بالماء.

قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : قوله «من حين ابتعثه الله» أظنّه احتراز عما قبل البعثة، لأنه صلى الله عليه وسلم توجّه في أيام الفترة مرتين، إلى جانب الشام تاجرا، ووصل إلى بصرى، وحضر في ضيافة بحيرا الراهب، وكانت الشام إذ ذاك مع الروم، والخبز النقي عندهم كثير، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك عندهم.

وأما بعد ظهور النّبوة! فلا شك أنّه في مكة والطائف والمدينة المنورة.

وقد اشتهر أنّ سبيل العيش صار مضيّقا عليه وعلى أكثر أصحابه؛ اضطرارا أو اختيارا. انتهى؛ ذكره في «جمع الوسائل» .

وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: والله الذي بعث محمدا بالحق؛ ما رأى منخلا ولا أكل خبزا منخولا منذ بعثه الله تعالى إلى أن قبض.

قلت: كيف كنتم تصنعون بالشعير؟ قالت: كنا نقول: أف.

قال الغزالي: وهذا لا يقتضي أنّ اتّخاذ المناخل لنخل الطعام منهيّ عنه، وإن كان أبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم!! لأنّ المنهي عنه بدعة تضادّ سنة، وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علّته، وليس نخل الطعام كذلك!! لأن القصد منه تطييب الطّعام، وذلك مباح ما لم ينته إلى التّنعّم المفرط. انتهى.

(وقال أنس رضي الله تعالى عنه: ما أعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرقّقا) - براء مهملة فقافين- وهو: المليّن المحسّن كخبز الحوّارى وشبهه. والترقيق:

التليين.

وفي رواية في «الأطعمة» ؛ عن أنس: ما أكل خبزا مرقّقا (حتّى لحق بالله) عز وجل.

ص: 57

ولا رأى شاة سميطا بعينه حتّى لحق بالله. رواه البخاريّ.

و (الشّاة السّميط) : هي الّتي أزيل شعرها بالماء المسخّن، وشويت والمعنى لم يأكل خبزا مليّنا؛ أي: متّخذا من دقيق ناعم، بحيث إذا عجن يلين عجينه، بل كان أكله من نحو الشّعير، الذي يغلب على عجينه اليبس، ولم يكن عندهم مناخل، وذلك سبب لعدم لين خبزهم.

(ولا رأى شاة سميطا) - بمهملتين- من سمط الشاة إذا نتف صوفه؛ بعد إدخاله في الماء الحار.

فإن قلت: القياس سميطة.

قلت: لا؛ إذ الفرق في الشاة ونحوها بين المذكر والمؤنث بالصّفة نحو شاة وحشي ووحشية. أو أن الفعيل بمعنى المفعول؛ يستوي فيه المذكر والمؤنث.

وغرضه أنّه صلى الله عليه وسلم ما كان متنعّما في المأكولات؛ قاله الكرماني.

(بعينه) - بالإفراد قاله القسطلّانيّ- (حتّى لحق بالله) تعالى.

وفي رواية: حتّى لقي الله تعالى.

قال القسطلّانيّ: وهذا يعارضه ما ثبت أنّه صلى الله عليه وسلم أكل الكراع؛ وهو لا يؤكل إلّا مسموطا. انتهى.

ولا معارضة، إذ نفي رؤية الشاة بتمامها سميطا؛ لا ينفي رؤية الأكارع؛ كما هو بيّن!!

(رواه البخاريّ) في «الرقاق» بلفظه، و «الأطعمة» بنحوه؛

عن قتادة قال: «كنّا عند أنس وعنده خبّاز له، فقال: كلوا، ما أعلم

»

الحديث. ولم يعرف الحافظ ابن حجر اسم الخباز.

وفي الطّبراني: «كان لأنس غلام يخبز له الحوّارى ويعجنه بالسمن، فقال:

كلوا

» الحديث.

(والشّاة السّميط: هي الّتي أزيل شعرها بالماء المسخّن؛ وشويت

ص: 58

بجلدها، وهو من فعل المترفّهين.

وعن قتادة، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ما أكل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم على خوان، ولا في سكرّجة،

بجلدها) وإنما يصنع ذلك في الصغير السّن، (وهو من فعل المترفّهين) ، أي الأغنياء المتنعّمين. وإنما كان هذا من فعلهم! لأنهم لا يفوت غرضهم لزيادة ثمن مثل هذا، ولأن المسلوخ ينتفع بجلده في اللّبس وغيره، والسّمط يفسده. والمترفّه لا يبالي بفوات ذلك.

(و) أخرج البخاري والنسائي وابن ماجه والترمذي في «الشمائل» - واللفظ له- (عن قتادة) بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى

(عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قال: ما أكل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم على خوان) لما فيه من الترفّه والتكبّر، والخوان- بكسر أوله المعجم ويضم-: وهو مرتفع يهيّأ ليؤكل الطّعام عليه كالكراسي المعتادة عند أهل الأمصار، وهو فارسيّ معرّب. يعتاد المتكبرون من العجم الأكل عليه كيلا تنخفض رؤوسهم. فالأكل عليه بدعة، لكنه جائز؛ إن خلا عن قصد التكبر.

(ولا في سكرّجة) - بضمّ السين المهملة والكاف والراء مع التشديد-، وهي كما قال ابن العربي: إناء صغير يوضع فيه الشيء القليل المشهّي للطّعام الهاضم له؛ كالسّلطة والمخلّل.

وإنما لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم في السّكرّجة!! لأنّه لم يأكل حتّى يشبع فيحتاج لاستعمال الهاضم والمشهّي، بل كان لا يأكل إلّا لشدّة الجوع، ولأنها أوعية الألوان؛ ولم تكن الألوان من شأن العرب، إنما كان طعامهم الثّريد عليه مقطّعات اللّحم. قاله الباجوري.

قال في «جمع الوسائل» : والأكل في السّكرّجة من دأب المترفين، وعادة الحريصين على الأكل المفرطين. انتهى.

ص: 59

ولا خبز له مرقّق. قال قتادة: كانوا يأكلون على هذه السّفر.

و (الخوان) : هو مرتفع يهيّأ ليؤكل الطّعام عليه.

(ولا خبز) - ماض مجهول- (له) أي: لأجله صلى الله عليه وسلم (مرقّق) - بصيغة اسم المفعول؛ مرفوع على أنه نائب الفاعل، وهو بتشديد القاف الأولى-:

ما رقّقه الصانع أي جعله رقيقا، وهو الرّقاق- بالضم- يعني لم يكن يخبز له خبز مليّن محسّن مبيّض كالحوّارى، لأنّ عامة خبزهم إنّما كان من الشّعير، والرّقاق إنما يتّخذ من دقيق البرّ، وليس ذا من شأن العرب.

وهذا الحديث إنما يفيد نفي خبزه له، وحديث البخاري يفيد نفي رؤيته له؛ سواء خبز له أو لغيره.

(قال قتادة:) لسائله؛ وهو يونس بن أبي الفرات عبيد البصري- ولفظ الترمذي في «الشمائل» فقلت لقتادة-: فعلام (كانوا يأكلون؟) .

قال: (على هذه السّفر) أي: كانوا يأكلون على هذه السّفر- بضمّ السين المهملة المشددة وفتح الفاء؛ جمع سفرة- وهي: ما يتّخذ من جلد مستدير ليؤكل عليه الطعام كما سيأتي.

والسفرة أخصّ من المائدة؛ وهي ما يمد ويبسط ليؤكل عليه؛ سواء كان من الجلد، أو من الثياب. وممّا يحقّق أنّ المائدة ما يمدّ ويبسط ما جاء في تفسير المائدة حيث قالوا: نزلت سفرة حمراء مدورة.

وقال ابن العربي: رفع الطّعام على الخوان من الترفّه، ووضعه على الأرض إفساد له، فتوسّط الشارع حيث طلب أن يكون على السفرة والمائدة.

وقال الحسن البصري: الأكل على الخوان فعل الملوك، وعلى المنديل فعل العجم، وعلى السفرة فعل العرب، وهو سنة. انتهى (باجوري؛ على «الشمائل» ) .

(والخوان) - المشهور فيه كسر الخاء المعجمة، ويجوز ضمها- و (هو مرتفع) عن الأرض (يهيّأ ليؤكل الطّعام عليه) ، واستعماله لم يزل دأب المترفين،

ص: 60

و (السّكرّجة) : إناء صغير يوضع فيه الشّيء القليل المشهّي للطّعام؛ كالسّلطة.

و (السّفر) - جمع سفرة- وهي: ما يتّخذ من جلد مستدير ليؤكل عليه الطّعام.

وعن مسروق

وفيه لغة ثالثة، وهي: إخوان؛ بكسر الهمزة وسكون الخاء المعجمة، ولعله سمي بذلك! لاجتماع الإخوان والأصحاب عنده وحوله. والصحيح أنّه اسم أعجميّ معرب.

(والسّكرّجة) - بضم أحرفه الثلاثة مع تشديد الراء وقد تفتح الراء-

(: إناء صغير يوضع فيه الشّيء القليل المشهّي للطّعام) الهاضم له؛ حول الطعام على المائدة (كالسّلطة) - بفتحات، ويقال لها الزلطة؛ بالزّاي- وكالمخلل وما أشبههما من الجوارش.

(والسّفر) - بضمّ السين المهملة وفتح الفاء- (جمع سفرة؛ وهي: ما يتّخذ من جلد مستدير ليؤكل عليه الطّعام) .

وأصل السّفرة: طعام يتّخذ للمسافر، والغالب حمله في جلد مستدير. فنقل اسمه لذلك الجلد؛ فسمّي به لذلك، كما سميت المزادة راوية. فهو مجاز مرسل علاقته المجاورة.

ولأن للجلد المذكور معاليق تنضمّ وتنفرج، فللانفراج سمّي سفرة، لأنها إذا حلّت معاليقها انفرجت فأسفرت عما فيها. وسمي السّفر سفرا!! لإسفاره عن أخلاق الرّجال.

(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» (عن) أبي عائشة (مسروق) بن الأجدع- بالجيم والدّال المهملة- ابن مالك بن أميّة بن عبد الله الهمذاني الكوفي التابعي المخضرم، يقال أنه سرق صغيرا ثم وجد؛ فسمي مسروقا.

ص: 61

قال: دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها، فدعت لي بطعام، وقالت: ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكي إلّا بكيت.

قال: قلت: لم؟

قالت: أذكر الحال الّتي فارق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الدّنيا،

أسلم قبل وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأدرك الصدر الأول من الصحابة؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود. وروى عنهم؛ وعن خبّاب بن الأرتّ، وزيد بن ثابت، وابن عمرو، والمغيرة، وعائشة، رضي الله تعالى عنهم.

روى عنه أبو وائل؛ وهو أكبر منه، وسليم بن أسود والشّعبي والنّخعي والسّبيعي وعبد الله بن مرّة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة «أحد الفقهاء السبعة» وآخرون.

اتفقوا على جلالته، وتوثيقه، وفضيلته، وإمامته. وكان يصلّي حتى تورّمت قدماه. وتوفي سنة: - 62- اثنتين وستين. وقيل سنة: - 63- ثلاث وستين هجرية كما في «تهذيب الأسماء واللغات» للنّووي.

(قال: دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها؛ فدعت لي بطعام) أي:

طلبت من خادمها طعاما لأجلي، (وقالت: ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكي إلّا بكيت) أي: ما أشبع من مطلق الطعام، فأريد البكاء؛ إلّا بكيت تأسّفا وحزنا على فوات تلك الحالة العليّة، والمرتبة المرضيّة، وهي ما كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنها ذكرت هذا اعتذارا، عن عدم اهتمامها بالأكل، كما هو سنة المضياف! ليأكل الضيف بلا خجل.

ومرادها أنه ما يحصل من شبع، إلّا تسبب عنه مشيئتي للبكاء؛ فيوجد مني فورا.

(قال) أي مسروق (: قلت: لم؟) أي: لم تسبّب عن الشبع تلك المشيئة المسبب عنها وجود البكاء فورا.

(قالت: أذكر الحال الّتي فارق) مستقرا (عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الدّنيا) .

ص: 62

والله ما شبع من خبز ولا لحم مرّتين في يوم.

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ما شبع آل محمّد صلى الله عليه وسلم من طعام ثلاثة أيّام تباعا حتّى قبض. رواه البخاريّ ومسلم. وروى مسلم: ما شبع آل محمّد يومين من خبز البرّ إلّا وأحدهما تمر.

وحاصله أنّها قالت: كلما شبعت بكيت لتذكّر الحال الّتي فارقت عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيّنت تلك الحالة بقولها:

(والله ما شبع من خبز؛ ولا لحم؛ مرّتين في يوم) واحد من أيام عمره، فلم يوجد [يوم] قط شبع فيه مرتين منهما؛ ولا من أحدهما.

قال ابن العربي: الاتساع في الشهوات من المكروهات، وقد نهى الله تعالى قوما عن ذلك في كتابه العزيز فقال أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا [20/ الأحقاف] ، وكذا التبسّط في المأكول والموائد والتّجمّع بالألوان، والفواكه، والتقلّل هو المحبوب، والتّواضع هو المحمود المطلوب.

(وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ قال: ما شبع آل محمّد صلى الله عليه وسلم والمراد ب «آله» : هو وآله. ففي رواية لمسلم «ما شبع محمد وأهله» (من طعام ثلاثة أيّام) .

ولمسلم «ثلاث ليال» ، فالمراد هنا الأيام بلياليها، كما أنّ المراد اللّيالي بأيّامها؛ كما في «الفتح» (تباعا) - بكسر الفوقية وخفّة الموحدة- أي: متتابعة متتالية، (حتّى قبض. رواه البخاريّ ومسلم) في «الأطعمة» وغيرها.

(وروى مسلم) في «صحيحه» من حديث مسعر بن كدام الهلالي، عن هلال بن حميد، عن عروة، عن عائشة، رضي الله تعالى عنها قالت:

(ما شبع آل محمّد يومين من خبز البرّ) القمح (إلّا وأحدهما) أي اليومين (تمر) لقلة خبز البرّ. وأخرجه البخاري من هذا الطريق عنها بلفظ «ما أكل آل

ص: 63

وروى مسلم أيضا: عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرّتين. وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشّعير يومين متتابعين حتّى قبض.

وفي رواية عنها أيضا: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متواليين، ولو شاء.. لأعطاه الله عز وجل ما لا يخطر ببال.

محمّد أكلتين في يوم إلّا وإحداهما تمر» . ولأبي ذر «تمرا» بالنصب. إما على تقدير إلّا كانت إحداهما تمرا؛ وإما جعل إحداهما تمرا!!

(وروى مسلم أيضا عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرّتين) . خصّت الزيت! لأنهم كانوا يأتدمونه كثيرا، ومع ذلك لم يأكله في اليوم إلّا مرة زهدا في الدنيا.

(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عنها) أي: عائشة (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشّعير يومين متتابعين حتّى قبض) ، لاجتنابه الشّبع وإيثاره الجوع.

ولا يناقضه خبر أبي الهيثم «فلمّا أن شبعوا» ! لأن ذلك الشّبع كان من الشاة.

ولا قوله في خبر آخر حين عرضت عليه الدّنيا واختار الفاقة؛ وقال: «أريد أن أجوع يوما فأصبر، وأشبع يوما فأشكر» ! لأنها بيّنت جنس ما لم يشبع منه؛ وهو خبز الشعير.

(وفي رواية عنها أيضا) رواها البخاري (: ما شبع) - بكسر الموحدة- أي ما أكل حتى شبع (رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متواليين، ولو شاء) الدنيا وترفها ونعيمها (لأعطاه الله عز وجل ما لا يخطر) - بضم الطاء المهملة وكسرها- يقال خطر يخطر خطورا: إذا ذكر وتصوّر- (ببال) البال: القلب والعقل والفكر،

ص: 64

قال القسطلّاني في «المواهب» : (وقد تتبّعت هل كانت أقراص خبزه صلى الله عليه وسلم صغارا أم كبارا؟ فلم أجد في ذلك شيئا بعد التّفتيش. نعم.. روي أمره بتصغيرها في حديث عن عائشة رضي الله تعالى عنها، رفعته بلفظ:«صغّروا الخبز، وأكثروا عدده.. يبارك لكم فيه» .

وكان شيخي العارف الرّبّانيّ

أي: يعطيه منها كل أمر نفيس لم يتصوّره أحد من الناس، لجلالته وعظمته، وكونه لم يعهد مثله حتى يعرف قدره.

(قال) العلامة أبو العباس أحمد بن محمد شهاب الدين (القسطلّاني) رحمه الله تعالى (في) كتابه ( «المواهب) اللّدنيّة» في النوع الأول؛ من الفصل الثالث في المقصد الثالث:

(وقد تتبّعت! هل كانت أقراص خبزه صلى الله عليه وسلم صغارا؛ أم كبارا؟ فلم أجد في ذلك شيئا بعد التّفتيش.

نعم؛ روي أمره بتصغيرها في حديث) عند الديلمي، من طريق عبد الله بن إبراهيم قال: حدثنا جابر بن سليم الأنصاري عن يحيى بن سعيد عن عمرة (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ رفعته بلفظ: «صغّروا الخبز، وأكثروا عدده؛ يبارك لكم فيه» ) وهو واه جدا بحيث ذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» . وقال: إنّ المتّهم بوضعه جابر بن سليم الأنصاري.

(وكان شيخي) وقدوتي (العارف الرّبّاني) هو العالم المعلّم، الذي يغذو النّاس بصغار العلوم قبل كبارها. وقال محمد بن الحنفية- لما مات عبد الله بن عبّاس- اليوم مات ربانيّ هذه الأمّة.

وروي عن علي أنّه قال: الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلم على سبيل نجاة،

ص: 65

إبراهيم المتبوليّ

وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق. والربّاني، العالم الرّاسخ في العلم والدّين، أو العالم العامل المعلّم، أو العالي الدّرجة في العلم.

وقيل: الرّباني المتألّه العارف بالله تعالى برهان العارفين: أبو إسحاق (إبراهيم) بن علي بن عمر (المتبوليّ) الأنصاري الأحمدي.

والمتبولي نسبة إلى محلة «متبول» : قرية بالجيزة؛ من مصر. وكان إمام الأولياء في عصره، وهو أحد شيوخ سيدي علي الخوّاص.

وله كرامات كثيرة؛ منها أنّه كان يرى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام، فيخبر بذلك أمه؛ فتقول له: يا ولدي؛ إنّما الرجل من يجتمع به في اليقظة. فلمّا صار يجتمع به في اليقظة، ويشاوره في أموره؛ قالت له: الآن قد شرعت في مقام الرّجولية.

وكان إذا جاءه رجل يطلب تسكين شهوته؛ يقول: تطلب مرة أو دائما؟ فإن قال مرة، شدّ وسطه بخيط فما دام كذلك لا تتحرك شهوته، وإن قال أبدا، مسح ظهره فلا يشتهي النّساء حتى يموت. وكراماته كثيرة؛ ذكرها المصنف في «جامع كرامات الأولياء» .

وكان متعبّده في بركة الحاج مشهور، وخرج إلى القدس؛ فمات في الطريق، فدفن بقرية سدود من أرض فلسطين؛ عند سلمان الفارسي سنة: نيف وثمانين وثمانمائة هجرية.

وذكر الشعراني في «الأخلاق المتبولية» أنه عاش مائة وتسع سنين- بتقديم المثنّاة على المهملة-. قال المناوي: وذكر «شارح القاموس» : أنّ من ولده الإمام الحافظ شهاب الدين أحمد بن محمد المتبولي «1» . أخذ عن السيوطي وابن حجر المكي وشرح «الجامع الصغير» . انتهى كلام شارح القاموس.

(1) توفي سنة: ألف وثلاث، رحمه الله تعالى «هامش الأصل» .

ص: 66

يصغّر أرغفة سماطه، كالشيخ أبي العبّاس أحمد البدويّ

وفيه نظر؟ فإن الشّعراني صرّح في «الطّبقات» بأنّ إبراهيم المتبولي لم يتزوّج. وكان يقول: ما في ظهري أولاد! حتى أتزوّج بقصدهم! فالظاهر أنّ أحمد المتبولي شارح «الجامع الصغير» رجل منسوب إلى «متبولة» ، المحلّة المذكورة، وليس هو من ذرية القطب البرهان المتبولي. والله أعلم!؟

(يصغّر أرغفة) - جمع رغيف- من الخبز؛ مشتق من الرّغف كالمنع جمعك العجين تكتله بيدك. أي: يأمر بجعل أقراص الخبز صغارا يقدّمها على (سماطه) يمدّ عليه الطعام.

(كالشّيخ) أي: مثل فعل الشيخ العارف بالله تعالى السيد الشريف الحسيب النسيب سيدي (أبي العبّاس أحمد) بن علي (البدويّ) الغوث الكبير، والقطب الشهير.

أحد أركان الولاية الذين اجتمعت الأمة على اعتقادهم ومحبتهم. وشهرته في جميع الأقطار تغني عن تعريفه، ولقب ب «البدوي» لكثرة ما كان يتلثّم.

وكانت ولادته بمدينة فاس؛ من أرض المغرب، فلما بلغ سبع سنين انتقل والده بعائلته إلى مكّة المشرّفة، وكان ذلك سنة: ثلاث وستمائة.

فقرأ القرآن بمكّة وحفظه غيبا، ثم انتقل إلى مصر، واشتغل بالعلم على مذهب الإمام الشّافعي مدة، حتى حدث له حادث الوله، فترك ذلك.

وله كرامات كثيرة؛

منها قصة المرأة التي أسر ابنها الفرنج فلاذت به، فأحضره في قيوده.

ومرّ به رجل يحمل قربة لبن، فأشار بإصبعه إليها، فانفذت فخرجت منها حية انتفخت. وكراماته تتجاوز العدّ والحدّ. وهو إمام الأولياء وأحد أفراد العالم.

قال المتبولي: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما في أولياء مصر بعد محمد بن إدريس [الشافعي] ؟! أكبر فتوّة من أحمد البدوي! ثم نفيسة، ثم شرف الدين الكردي، ثم المنوفي.

ص: 67

والسّادات بني الوفاء. أعاد الله تعالى علينا من بركاتهم) .

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرج- تعني النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الدّنيا ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين، كان إذا شبع من التّمر.. لم يشبع من الشّعير، وإذا شبع من الشّعير.. لم يشبع من التّمر.

وكانت وفاة صاحب الترجمة سنة: - 675- خمس وسبعين وستمائة هجرية رحمه الله تعالى.

(والسّادات) إكسير معارف السعادات، أولي المواهب العليّة والحقائق المحمّديّة (بني الوفاء) الذين لم يشتهر ب «السّادات» في مصر أحد سواهم؛ كسيدي محمد بن محمد وفاء السكندري الأصل، ثم المغربي ثم المصري؛ الشاذلي المالكي الصّوفي الكبير الشهير، وولده سيدي علي بن محمد وفاء الصّوفي الولي الكبير الشّهير أحد أفراد الزّمان، وبحور العرفان.

قال الإمام الشعراني في حقه: طالعت كثيرا وقليلا من كلام الأولياء! فما رأيت أكثر علما؛ ولا أرقى مشهدا من كلام سيدي علي وفاء!!

قال الشعراني: وسمي والده «وفاء» !! لأن بحر النيل توقف، فلم يزد إلى أوان الوفاء، فعزم أهل مصر على الرحيل، فجاء إلى البحر وقال: اطلع بإذن الله تعالى. فطلع ذلك اليوم سبعة عشر ذراعا، وأوفى فسمّوه «وفاء» . انتهى.

وتراجمهم مذكورة في «طبقات» الشّعراني والمناوي، «وجامع كرامات الأولياء» . (أعاد الله تعالى علينا من بركاتهم) وواصل إمداداتهم إلينا. آمين

(و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» من طريق عمران بن زيد المدني قال:

حدثني والدي (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت:

خرج- تعني) أي: تريد (النّبي- صلى الله عليه وسلم من الدّنيا) أي: مات (ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين؛ كان إذا شبع من التّمر لم يشبع من الشّعير، وإذا شبع من الشّعير لم يشبع من التّمر)

ص: 68

قال القسطلّاني: (واعلم أنّ الشّبع بدعة ظهرت بعد القرن الأوّل.

وقد روى النّسائيّ

وليس في هذا ما يدلّ على ترك الجمع بين نوعين من الطّعام، إذ صريحه عدم امتلائه منهما، أما الجمع فقدر آخر، فقد جمع صلى الله عليه وسلم القثاء بالرّطب.

ثم هذه الأحاديث السابقة لا تنافي أنّه كان في آخر حياته يدّخر قوت عياله سنة، لأنّه كان يعرض له حاجة المحتاج فيخرج فيها ما كان ادّخره؛ ولا يبقي منه بقية.

فصدق أنّه لم يشبع، وأنّ أصحابه لم يشبعوا، وأنّه ادّخر قوت سنة. كذا قاله المناوي وغيره؛ أخذا من كلام النووي في «شرح مسلم» .

وقال في «جمع الوسائل» : وفيه أنّه يلزم منه أنّ تضييق الحال كان في أواخر السنة، والحال أن الأحاديث تعمّ الأحوال، فالأحسن في الجواب أن يقال: إنّما كان يدّخر قوتهم؛ لا على وجه الشّبع، أو أنّه كان لا يدّخر لنفسه. فما كانوا يشبعون معه صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات، مع أنّه لا تصريح في الحديث أنّهم كانوا لا يشبعون من القلة، وإنما كان عادتهم عدم الشّبع. نعم؛ ما كانوا يجدون من لذيذ الأطعمة المؤدية إلى الشّبع غالبا. والله أعلم. انتهى.

(قال) العلامة الشهاب (القسطلّانيّ) في «المواهب» :

(واعلم أنّ الشّبع بدعة ظهرت بعد القرن الأوّل) . قال بعضهم: الشّبع نهر في النفس يرده الشيطان، والجوع نهر في الروح ترده الملائكة.

(وقد روى) الترمذي و (النّسائيّ) - بفتح النّون والسّين المهملة المخففة بعدها ألف ممدودة؛ منسوب إلى «نسا» مدينة بخراسان، ويقال في النسب إليها نسوي أيضا. انتهى. وقال بعضهم:

والنّسئيّ نسبة لنسأ

مدينة في الوزن مثل سبأ

والنّسائي هو: أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار.

أبو عبد الرحمن، الحافظ مصنف السنن، وأحد الأئمة المبرزين.

ص: 69

وابن ماجه

قال الدارقطني: كان النّسائي أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح والسّقيم، وأعلمهم بالرّجال ولم يكن مثله، ولا أقدّم عليه أحدا!. ولم يكن في الورع مثله، يقدّم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره.

وقال ابن يونس: كان إماما في الحديث ثقة، ثبتا حافظا، وكان مولده سنة:

- 214- أربع عشرة ومائتين، وكان خروجه من مصر في ذي القعدة سنة: - 302- اثنتين وثلثمائة إلى دمشق فوقعت له بها كائنة، ثم حمل إلى مكّة ومات بها في شعبان سنة: - 303- ثلاث وثلثمائة؛ قاله الدارقطني، وابن منده. رحمهم الله تعالى.

آمين

(و) الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد (ابن ماجه) القزويني- بفتح القاف وسكون الزاي المعجمة وكسر الواو وسكون التحتية ثم نون- نسبة لقزوين: أشهر مدن عراق العجم

قال العراقي: الربعي نسبة إلى ربيعة «مولاهم» ، و «ماجه» بالهاء وصلا ووقفا، وهو لقب لأبيه يزيد.

وابن ماجه: الحافظ إمام كبير من أئمة المسلمين، متقن مقبول بالاتفاق، صنف «التفسير» ، و «التاريخ» ، و «السنن» وتقرن سننه بالكتب الخمسة.

وأوّل من قرنه بها الحافظ أبو الفضل بن طاهر، وتبعه عليه من بعده، فصار أحد الكتب الستّة، وجرى على ذلك أصحاب الأطراف، وأسماء الرجال.

ومن نظر في كتابه علم منزلته من حسن الترتيب وغزارة الأبواب وقلّة الأحاديث الزائدة على القصد، بالتبويب وترك التكرار- إلا نادرا جدا- والمقاطيع والمراسيل والموقوفات، ونحو ذلك.

وكانت ولادة ابن ماجه سنة: - 209- تسع ومائتين، ورحل إلى البلدان، وسمع بمكة، والمدينة، ومصر، والشام، والعراق، والرّي، ونيسابور، والبصرة.

ص: 70

وصحّحه الحاكم

قال السخاوي: ولم أر أحدا ذكره في طبقات الشافعية، وإن كان الميل في غالب أئمة الحديث لعدم التقليد.

وكانت وفاته سنة: - 273- ثلاث وسبعين ومائتين، فعمره: أربع وستون سنة تقريبا رحمه الله تعالى.

(وصحّحه الحاكم)، قال في «الفتح» : وإسناده حسن.

والحاكم هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري المعروف ب «ابن البيع» .

ولد بنيسابور في شهر ربيع الأول سنة: - 321- إحدى وعشرين وثلثمائة.

وتوفي بها في يوم الأربعاء ثالث صفر سنة: - 405- خمس وأربعمائة.

طلب العلم من الصغر باعتناء والده وخاله، وأول سماعه سنة ثلاثين، وأكثر من الشيوخ أكثرهم من نيسابور، وله فيها نحو ألف شيخ وفي غيرها نحو ألف شيخ أيضا.

روى عنه خلق كثير؛ من أجلّهم البيهقي والدارقطني؛ وهو من شيوخه، ورحل إليه من البلاد الشاسعة لسعة علمه وروايته واتفاق العلماء على أنّه من أعلام الأمّة الذين حفظ الله بهم هذا الدين، وحدّث عنه في حياته، وكان يرجع إلى قوله حفاظ عصره.

وكتابه «المستدرك» - بفتح الراء- سمي به! لأنه استدرك فيه الزائد على «الصحيحين» من الصحيح مما هو على شرطهما؛ أو شرط أحدهما؛ أو ما ليس على شرط واحد منهما، وربّما أورد فيه ما هو فيهما؛ أو في أحدهما سهوا، وربما أورد فيه ما لم يصحّ عنده منبّها على ذلك. وهو متساهل في التصحيح.

قال النووي في «شرح المهذب» : اتفق الحفاظ على أن تلميذه البيهقي أشدّ تحرّيا منه. وقد لخّص الذهبي «المستدرك» وتعقب كثيرا منه بالضعف والنكارة،

ص: 71

من حديث المقدام بن معدي كرب: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرّا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات

وجمع جزآ فيه الأحاديث التي هي فيه وهي موضوعة؛ فذكر نحو مائة حديث.

قال أبو موسى المديني: إنّ الحاكم اغتسل في الحمام وخرج؛ وقال: آه.

وقبضت روحه وهو متّزر لم يلبس قميصه بعد رحمه الله تعالى.

(من حديث المقدام) - بالميم أوله وآخره- (بن معدي كرب) - بفتح الكاف وكسر الراء، أما الباء الموحدة! فيجوز كسرها مع التنوين، ويجوز فتحها على البناء- وهو أبو كريمة المقدام بن معدي كرب بن عمرو بن يزيد بن معدي كرب الكندي.

وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة، عداده في أهل الشّام سكن حمص.

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة وأربعون حديثا.

وتوفي بالشّام سنة: سبع وثمانين؛ وهو ابن إحدى وتسعين سنة رضي الله تعالى عنه.

(أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما ملأ ابن آدم) - وفي رواية: آدمي- (وعاء شرّا من بطنه) لما فاته من الخير الكثير، حيث جعل بطنه كالأوعية، التي تجعل ظروفا، وتوهينا لشأنه، ثم جعله شرّ الأوعية، لأنها تستعمل في غير ما هي له، والبطن خلق ليتقوّم به الصلب بالطّعام، وامتلاؤه يفضي إلى إفساد الدين والدنيا؛ فيكون شرّا منها.

ووجه ثبوت الوصف في المفضّل عليه!! أنّ ملء الأوعية لا يخلو عن طمع أو حرص، وكلاهما شرّ، والشّبع يوقع في مداحض فيزيغ عن الحق، ويغلب عليه الكسل، فيمنعه التعبّد، وتكثر فيه موادّ الفضول؛ فيكثر غضبه، وشهوته، ويزيد حرصه، فيطلب الزائد عن الحاجة.

(حسب ابن آدم) أي: يكفيه (لقيمات) جمع قلة؛ فهو لما دون العشرة.

ص: 72

يقمن صلبه، فإن غلبت الآدميّ نفسه.. فثلث للطّعام، وثلث للشّراب، وثلث للنّفس» .

قال القرطبيّ:

قاله الغزالي. وفي رواية: «أكلات» بفتح الهمزة والكاف؛ جمع أكلة- بالضمّ- وهي: اللّقمة. أي: يكفيه هذا القدر في سدّ الرّمق، وإمساك القوّة، ولذا قال:

(يقمن صلبه) أي: ظهره! تسمية للكلّ باسم جزئه، إذ كلّ شيء من الظهر فيه فقار، فهو صلب كناية عن أنّه لا يتجاوز ما يحفظه من السقوط، ويتقوّى به على الطّاعة.

(فإن غلبت الآدميّ نفسه) وفي رواية «فإن كان لا محالة» ؛ (فثلث للطّعام، وثلث) يجعله (للشّراب) ؛ أي: المشروب (وثلث للنّفس» ) - بفتحتين- وفي رواية: لطعامه.. لشرابه.. لنفسه. بالضمير في الثلاثة، وهذا غاية ما اختير للأكل، وهو أنفع للبدن والقلب، فإن البدن إذا امتلأ طعاما؛ ضاق عن الشّراب، فإذا ورد عليه الشّراب ضاق عن النّفس، وعرض الكرب والثّقل.

وقسم إلى الثلاثة!! لأن الإنسان فيه أرضي، ومائي، وهوائي، وترك الناري! لأنّه ليس في البدن جزء ناري، كما قاله جمع من الأطباء؛ قاله ابن القيّم الحنبلي رحمه الله تعالى.

(قال) العلامة الإمام الشّيخ محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح- بإسكان الراء والحاء المهملة- الأنصاري الأندلسي أبو عبد الله (القرطبيّ) المفسّر:

كان من عباد الله الصّالحين، والعلماء العارفين الورعين؛ الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجّه، وعبادة، وتصنيف؛

جمع في تفسير القرآن كتابا كبيرا في اثني عشر مجلدا؛ سماه كتاب «جامع أحكام القرآن المبيّن لما تضمن من السنّة وآي القرآن» وهو من أجلّ التفاسير!

ص: 73

لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة)

وأعظمها نفعا! أسقط منه القصص والتواريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن، واستنباط الأدلّة، وذكر القراآت والإعراب، والناسخ والمنسوخ.

وله كتاب «شرح أسماء الله الحسنى» ، وكتاب «التذكار في أفضل الأذكار» وضعه على طريقة «التبيان» للنووي؛ لكن هذا أتمّ منه، وأكثر علما.

وكتاب «التذكرة بأمور الآخرة» مجلدين، وكتاب «شرح التقصّي» ، وكتاب «قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذلّ السؤال بالكتب والشفاعة» . وله أرجوزة؛ جمع فيها أسماء النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وله تاليف وتعاليق مفيدة غير هذه.

وكان قد طرح التكلّف، يمشي بثوب واحد؛ وعلى رأسه طاقية.

سمع من الشيخ أبي العباس: أحمد بن عمر القرطبي، مؤلف كتاب «المفهم شرح صحيح مسلم» بعض هذا الشرح، وحدّث عن أبي علي: الحسن بن محمد بن محمد البكري وغيرهما.

وكان مستقرا بمصر، ب «منية بني خصيب» ، وتوفي بها ودفن بها؛ في شوال سنة: - 671- إحدى وسبعين وستمائة رحمه الله تعالى.

قال في كتابه «شرح أسماء الله الحسنى» كما نقله عنه شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : (لو سمع بقراط) - بضم الباء- (هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة!!) ، لأنها أرجح وأتمّ ممّا يتخيّلونه في نفوسهم، إذ هو بالحدس والتخمين، وهذا ممّن لا ينطق عن الهوى.

وقال الغزالي: ذكر هذا الحديث لبعض الفلاسفة؛ فقال: ما سمعت كلاما في قلة الأكل أحكم منه. وإنّما خصّ الثلاثة: الطّعام والشّراب والنّفس بالذكر!! لأنها أسباب حياة الحيوان، إذ لا بدّ له من الثلاثة، ولأنه لا يدخل البطن سواها.

وهل المراد بالثلث المساوي حقيقة على ظاهر الخبر؟ والطريق إليه غلبة الظّن!! أو المراد التقسيم إلى ثلاثة أقسام متقاربة؟؛ وإن لم يغلب ظنّه بالثلث

ص: 74

وعن الحسن رضي الله تعالى عنه

الحقيقي!؟ محلّ احتمال. قال الحافظ ابن حجر: والأول أولى.

ويحتمل أنّه لمّح بذكر الثّلث إلى قوله في الحديث الآخر «والثّلث كثير» .

انتهى.

وقال غيره: أرجح الاحتمالين الأول، إذ هو المتبادر، والثّاني يحتاج لدليل.

(و) روى الدمياطي في السيرة له- كما في «المواهب» - (عن الحسن رضي الله تعالى عنه) أي: البصري، لأنّه المراد عند الإطلاق مرسلا.

وهو الإمام المشهور، المجمع على جلالته في كلّ فنّ، أبو سعيد الحسن بن [أبي الحسن] يسار التابعي، البصري- بفتح الباء وكسرها- الأنصاري «مولاهم» ، مولى زيد بن ثابت. وقيل: مولى جميل بن قطبة.

وأمّه اسمها خيرة، مولاة لأم المؤمنين أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها.

ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قالوا: فربما خرجت أمّه في شغل فيبكي؛ فتعطيه أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها ثديها فيدر عليه، فيرون أن تلك الفصاحة والحكم من ذلك.

ونشأ الحسن بوادي القرى، وكان فصيحا، رأى طلحة بن عبيد الله وعائشة رضي الله تعالى عنها، ولم يصح له سماع منها!! وقيل: إنّه لقي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. ولم يصح!

وسمع ابن عمر، وأنسا، وسمرة، وأبا بكرة، وقيس بن عاصم، وجندب بن عبد الله، ومعقل بن يسار، وعمرو بن تغلب- بالمثناة والغين المعجمة- وعبد الرحمن بن سمرة، وأبا برزة الأسلمي، وعمران بن الحصين، وعبد الله بن المغافل، وأحمد بن جزء، وعائذ بن عمرو المزني الصحابيين رضي الله تعالى عنهم. وسمع خلائق من كبار التابعين وغيرهم.

قال ابن سعد: كان الحسن جامعا، عالما، رفيعا، فقيها، ثقة، مأمونا،

ص: 75

قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«والله ما أمسى في آل محمّد صاع من طعام، وإنّها لتسعة أبيات» . والله ما قالها استقلالا لرزق الله سبحانه وتعالى، ولكن أراد أن تتأسّى به أمّته.

وفي «الشّفا» للقاضي عياض رحمه الله تعالى:

عابدا، ناسكا، كثير العلم، فصيحا، جميلا، وسيما.

قدم مكّة، فأجلسوه على سرير واجتمع النّاس إليه؛ فيهم طاووس، وعطاء، ومجاهد، وعمرو بن شعيب، فحدّثهم فقالوا- أو قال بعضهم-: لم ير مثل هذا قط.

وتوفي سنة: - 110- عشر ومائة رحمه الله تعالى عليه. آمين. (قال:

خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «والله؛ ما أمسى في آل محمّد صاع من طعام، وإنّها) أي: آل محمد (لتسعة) أي: أهل تسعة (أبيات» ) هي أبيات زوجاته.

(والله ما قالها) أي: هذه الكلمة (استقلالا لرزق الله سبحانه وتعالى ، إذ لا يتأتّى ذلك منه، (ولكن أراد أن تتأسّى) : تقتدي (به أمّته) في القناعة، والرّضا بالمقسوم.

قال الزرقاني: جزم شيخنا بأن القسم من الحسن راوي الحديث، والأصل أنّه من المرفوع، لأن الإدراج إنما يكون بورود رواية تبيّن القدر المدرج، أو استحالة أنّ المصطفى يقوله!! ولا استحالة هنا، فقد يكون قال ذلك خوفا على بعض أمّته اعتقاد أنّه قاله استقلالا فيهلك بذلك؛ كما قال لرجل مرّ عليه ومعه زوجته صفية:

«إنّها صفيّة؟!» . فقال الرّجل: أفيك يا رسول الله؟! فقال: «خشيت عليك الشّيطان» .

(وفي) كتاب ( «الشّفا) بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» (للقاضي) أبي الفضل (عياض) بن موسى اليحصبي- وقد تقدمت ترجمته في أول الكتاب- (رحمه الله تعالى) في (الباب الثاني) في فصل زهده صلى الله عليه وسلم «1» :

(1) بل وردت في بداية الكتاب، عند ذكر المصنف للكتب التي جمع منها كتابه.

ص: 76

عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لم يمتلئ جوف النّبيّ صلى الله عليه وسلم شبعا قطّ، ولم يبثّ شكوى إلى أحد، وكانت الفاقة أحبّ إليه من الغنى،

و: (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: لم يمتلئ) - بهمز- وهو الصحيح (جوف النّبيّ صلى الله عليه وسلم شبعا) - بكسر الشّين المعجمة وفتح الموحدة- (قطّ) ؛ أي: أبدا، ولعلّ مرادها غالب أحواله، أو شبعا مفرطا غير مناسب لكماله، فإنّ المطلوب تقليل الطّعام، والاقتصار على ما يقوم به الأود، ثم ملء ثلث البطن، فإنّ ثلثا للزاد، وثلثا للماء، وثلثا للنفس- كما مرّ- فإن زاد! فنصفها، وما زاد على ذلك حرص وبطنة غير ممدوحة، وقد يحرم، إن وصّله للضرورة، والتّخمة قصدا، كما أنّ أول مراتبه واجب.

(ولم يبثّ) - بفتح الياء التحتية؛ وضمّ الباء الموحدة وتشديد المثلّثة- أي:

لم يذكر ولم يظهر (شكوى) ؛ أي: شكايته، ولا بطريق حكايته، في جميع حالاته (إلى أحد) من أصحابه وزوجاته، لقوله تعالى في ضمن آياته؛ حكاية عن يعقوب، في شدة ما ابتلاه قال نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ

[86/ يوسف] .

فالشكوى إلى الخلق مذمومة، والّذي يليق بمقام العارفين الصبر وكتم ما بهم؛ لا سيما والنّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسرّ بكلّ ما يأتيه من الله، ولا يعدّه مؤلما؛ بل يتلذّذ به، فكيف يتصور شكواه؟!.

وإلى هذا أشار بقوله: (وكانت الفاقة) : وهي الحاجة الملازمة، المقتضية للصبر (أحبّ إليه من الغنى) المقتضي للشّكر.

وهذا صريح في تفضيل الصبر على الشكر؛ كما ذهب إليه أجلّاء الصوفية، وأكثر علماء الفقه وقد ورد:«لو تعلمون ما لكم عند الله؛ لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة» على ما رواه الترمذي؛ عن فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه. كذا قاله القاري رحمه الله تعالى.

ص: 77

وإن كان ليظلّ جائعا يلتوي طول ليلته من الجوع

وقد اختلف هل الغنيّ الشّاكر خير أم الفقير الصابر؟!

فذهب إلى كلّ منهما قوم من العلماء، ولكلّ منهم أدلّة مبسوطة في محلّها.

وللعلامة الحافظ محمد بن أبي بكر بن قيّم الجوزية الحنبلي رحمه الله تعالى كتاب «عدة الصابرين» ذكر فيه هذه المسألة بأدلّتها من الجانبين. فليراجع.

وقال الإمام حجّة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى: قد انكشف أنّ الفقر هو الأفضل لكافّة الخلق؛ إلا في موضعين:

1-

: غنى يستوي فيه الوجود والعدم، ويستفاد به دعاء المساكين وقضاء حوائجهم، كغنى بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

و2- فقر يكون مع الضرورة حتى يكاد يكون كفرا؛ فالأول خير محض، وهذا لا خير فيه بوجه من الوجوه.

والممدوح غنى النّفس؛ لا غنى المال من حيث هو، والفضل كلّه في الكفاف، والاقتصار على مقدار الحاجة، ولذا طلبه صلى الله عليه وسلم له ولآله. انتهى. نقله الخفاجيّ رحمه الله تعالى.

(وإن) مخفّفة من الثقيلة، أي: وإنّه (كان ليظلّ) - بفتح الظاء المعجمة وتشديد اللام- أي: يكون في طول النّهار (جائعا) - بهمزة مكسورة- (يلتوي) - بتقديم اللّام على التاء الفوقية، وواو مخففة مكسورة- وفي نسخة من «الشّفاء» :

ويتلوّى- بياء مثنّاة مفتوحة وفوقية مفتوحة، ولام كذلك، وواو مشددة مفتوحة، يليها ألف- أي: حال كونه يتقلب ويضطرب (طول ليلته من الجوع) ؛ أي: من أجل حرارة لذعته، ولذا ورد «اللهم؛ إنّي أعوذ بك من الجوع، فإنّه بئس الضّجيع» كما رواه الحاكم في «مستدركه» عن ابن مسعود مرفوعا، وهذا كله لكمال زهده في الدّنيا، وصبره على مشاقّها، وإقبال قلبه على الآخرى؛ لرضى المولى وليرشد أمّته لذلك.

ص: 78

فلا يمنعه صيام يومه، ولو شاء.. سأل ربّه جميع كنوز الأرض وثمارها، ورغد عيشها، ولقد كنت أبكي رحمة له ممّا أرى به وأمسح بيدي على بطنه ممّا به من الجوع، وأقول: نفسي لك الفداء؛

(فلا يمنعه) أي: جوعه (صيام يومه) ؛ أي: الذي فيه، ولو كان نفلا، أو صيام يوم عادته في مستقبله. وهذا بيان بعض شدّة حاله.

(ولو شاء) صلى الله عليه وسلم الغنى، وما يترتب عليه من التنعّم وحصول المنى.

و «شاء» كثيرا ما يحذف مفعولها بعد «لو» لدلالة جوابها عليه.

(سأل ربّه جميع كنوز الأرض) ؛ لا سيما وقد عرضها عليه مولاه (وثمارها) يجوز نصبه عطفا على «جميع» ، وجرّه عطفا على «كنوز» ، ومثله ما بعده، والثّمار جمع ثمرة، وهي ما يحصل من الأشجار ونحوها؛ وقد يراد به كلّ ما يستفاد من غيره؛ كما يقال ثمرة العلم العمل.

(ورغد) - بفتحتين؛ وقد يسكن ثانيه-، وأصل معنى الرغد: الواسع، يقال: أرغد فلان إذا أصاب رغدا؛ أي: سعة وخصبا وغيره.

(عيشها) أي: سعة معيشتها وطيب منفعتها.

(ولقد كنت أبكي رحمة له ممّا أرى به)، أي: ممّا أشاهده به، أو ممّا أعلمه به، (وأمسح بيدي على بطنه) كأنه بمسحه يستريح بذلك، كما كان يضع الحجر عليه ليبرّده، ويشدّ صلبه؛

وهذا للشفقة (ممّا به من الجوع)، أي: من ألمه.

ثم بينت أنّ ذلك شفقة؛ بقولها: (وأقول: نفسي لك الفداء) . الفداء- بالكسر والفتح؛ والقصر والمد-: هو ما يفدى به الأسير ونحوه، فيجعل عوضا عنه، ويقال: أفديه بنفسي، وبأمي، وبأبي، وبمالي، وقد يقال: بنفسي؛ من

ص: 79

لو تبلّغت من الدّنيا بما يقوتك؟ فيقول: «يا عائشة؛ ما لي وللدّنيا؟!

غير ذكر للفداء، وتسمّى الباء باء التفدية- بالفاء-.

وهذا جائز بل مستحبّ لصدوره منه صلى الله عليه وسلم، فيقال لمن شرف؛ كالحكام، والعلماء، والصلحاء، وأعزة الإخوان، قصدا لتوقيره واستعطافه، ولو كان محظورا- كما قيل- لما قاله صلى الله عليه وسلم، ولكان نهى عنه من قاله له، وقد قال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فديناك بابائنا وأمهاتنا. وقال صلى الله عليه وسلم لسعد: «إرم فداك أبي وأمّي» .

ومنعه قوم، لحديث مالك بن فضالة؛ أنّ الزبير رضي الله تعالى عنه دخل عليه صلى الله عليه وسلم وهو شاك؛ فقال: كيف تجدك جعلني الله فداك؟، فقال له صلى الله عليه وسلم «ما زلت على أعرابيّتك بعد» ؟! قيل: ولا حجّة فيه لما ادّعوه، لأن الحديث الواحد لا يقاوم الأحاديث الصحيحة الكثيرة الواردة بخلافه، ولاحتمال أنّه إنّما نهاه عنه لوروده في غير محلّه، لأنّه لا ينبغي أن يقال ذلك للمريض، بل يتوجّع له، ويقال «لا بأس عليك» ، و «عافاك الله وشفاك» ونحوه، ولكل مقام مقال، لا لأن القائل له كان أبواه مشركين، ولا لأنه من خصوصياته، لأنّ من قائليه من ليس كذلك، والأصل عدم الخصوصية.

(لو تبلّغت) التبلغ من البلاغ؛ وهو مقدار الكفاية، يقال: تزود من دنياك بالبلاغ؛ مأخوذ من الزّاد الّذي يبلغ به المسافر منزله، وضمّنه هنا معنى «اكتفيت» (من الدّنيا بما يقوتك) - بضم القاف- أي: لو اكتفيت منها بالكفاف من القوت، من غير ضرورة ومخمصة، و «لو» للتمني.

(فيقول) صلى الله عليه وسلم (: «يا عائشة ما لي وللدّنيا؟!) قيل: «ما» نافية، أي:

ليس لي ألفة ومحبة مع الدنيا، حتى أرغب فيها، أو استفهامية أي: أيّ ألفة ومحبّة ورغبة لي في الدنيا؟.

ص: 80

إخواني من أولي العزم من الرّسل صبروا على ما هو أشدّ من هذا، فمضوا على حالهم، فقدموا على ربّهم، فأكرم مابهم، وأجزل ثوابهم، فأجدني أستحيي إن ترفّهت في معيشتي أن يقصّربي

وهذا من إيثاره صلى الله عليه وسلم الزّهد، وإظهاره لغنى القلب، ومحبّة تركه لها.

ثم بيّن أنّه مقام عظيم سبق به الرسل عليهم الصّلاة والسّلام، فجرى على طريقهم، فقال:(إخواني من أولي العزم من الرّسل) ؛ وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، عليهم الصّلاة والسّلام، على خلاف فيهم. وقد نظم هؤلاء الخمسة بعضهم فقال:

محمّد إبراهيم موسى كليمه

فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم

(صبروا على ما هو أشدّ من هذا) ؛ أي: ممّا أنا صابر عليه، لما روي أنّ بعضهم مات من الجوع، وبعضهم من شدّة أذى القمل، وبعضهم من كثرة الجراحات، وشدة الأمراض والعاهات، وقد خصّني الله تعالى فيما حثّني وحضّني على الاقتداء بهم، بقوله سبحانه وتعالى فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [35/ الأحقاف] ؛ كذا قال القاري في «شرح الشفا» .

(فمضوا) أي: استمرّوا (على حالهم) الّتي كانوا عليها، راضين بقضاء الله تعالى لهم، صابرين على بلائه، شاكرين على نعمائه؛ إلى أن ماتوا، ولم يطلبوا من ربّهم السّعة، ولا دفع المضرّة؛ نظرا إلى كمال حسن مالهم.

(فقدموا على ربّهم) لاقوه (فأكرم مابهم) أي: أكرمهم الله تعالى في مرجعهم إليه، يقال: آب يؤوب إذا رجع، فهو اسم مكان أو مصدر ميمي (وأجزل ثوابهم) ؛ أي: كثّر لهم العطاء والجزاء في دار المقام، (فأجدني أستحيي) - بيائين، وفي نسخة من «الشفاء» بياء واحدة؛ أي: من الله تعالى عند لقائه، (إن ترفّهت) أي: إن تنعّمت (في معيشتي) ، وقد كان الله تعالى خيّره صلى الله عليه وسلم قبيل موته؛ بين الخلد في الدنيا ولقائه؟ فاختار لقاءه (أن يقصّر بي) - بتشديد الصاد

ص: 81

غدا دونهم، وما من شيء هو أحبّ إليّ من اللّحوق بإخواني وأخلّائي» .

قالت: فما أقام بعد شهرا حتى توفّي صلوات الله وسلامه عليه.

ثمّ قال رحمه الله تعالى بعد ثلاث ورقات:

المفتوحة؛ مبنيا للمجهول- (غدا) بالمعجمة؛ اليوم الذي بعد يومك، والمراد به الآخرة، جعل الدنيا بمنزلة اليوم الحاضر، والآخرة لكونها بعدها بمنزلة غد.

(دونهم) أي: دون مرتبتهم، وتحت درجتهم، فيكون مقامي دون مقامهم، وهمّتي أن أكون فوق جملتهم. (وما من شيء هو أحبّ إليّ من اللّحوق بإخواني) أي: في الجملة، (وأخلّائي» ) أي: أحبائي في الملّة؛ والمراد بالإخوان والأخلّاء الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، واللّحوق بهم كونه معهم.

(قالت) ؛ أي: عائشة رضي الله تعالى عنها: (فما أقام بعد) - بالبناء على الضمّ- أي: بعد مقالته هذه (شهرا حتّى توفّي صلوات الله وسلامه عليه) غاية لاقامته أي: إلى أن مات وانتقل إلى رحمة ربه واستوفى أيام عمره، وهذا يدل على اختياره الفقر في جميع أمره إلى آخر عمره.

قال الدلجي رحمه الله تعالى: لم أدر من روى هذا الحديث!! لكن روى ابن أبي حاتم؛ في تفسيره عنها قالت: ظلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما ثم طواه، ثم ظلّ صائما ثمّ طواه، ثم ظل صائما!! قال:«يا عائشة؛ إنّ الدّنيا لا تنبغي لمحمّد ولا لآل محمّد، يا عائشة؛ إنّ الله تعالى لم يرض من أولى العزم من الرّسل إلّا بالصّبر على مكروهها، والصّبر عن محبوبها، ولم يرض منّي إلّا أن يكلّفني ما كلّفهم فقال فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [35/ الأحقاف] ، وإنّي والله لأصبرنّ كما صبروا جهدي ولا قوّة إلّا بالله» . انتهى.

(ثمّ قال) ؛ أي: القاضي عياض (رحمه الله تعالى) في «الشفاء» (بعد) نحو (ثلاث ورقات) من الكلام السابق، وذلك قبل فصلين من «الباب الثالث» :

ص: 82

كان داود عليه الصلاة والسلام يلبس الصّوف، ويفترش الشّعر، ويأكل خبز الشّعير بالملح والرّماد، ويمزج شرابه بالدّموع.

وقيل لعيسى عليه الصلاة والسلام: لو اتّخذت حمارا؟

فقال: أنا أكرم على الله من أن يشغلني بحمار.

وكان يلبس الشّعر

(كان داود) على نبينا و (عليه) الصّلاة و (السّلام يلبس الصّوف، ويفترش الشّعر) أي: ما نسج منه، لأنه خشن يمنعه لذة النّوم والاستغراق فيه، المانع له عن ورده، وهذا شعار الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام والصّلحاء، ولذا اختاره السّادة الصّوفية.

(ويأكل خبز الشّعير بالملح) لأنّه إدام، (والرّماد) قال ملا علي قاري: لعله أراد به ما اختلط بالخبز واستهلك فيه! وإلّا فأكل الرّماد حرام لما فيه من الضرر.

( [ويمزج شرابه بالدّموع] ) لكثرة بكائه وعدم خلوّه منه.

وهذا رواه ابن أبي حاتم عن أنس مرفوعا، وعن مجاهد وغيره موقوفا.

(وقيل لعيسى) على نبيّنا و (عليه) الصّلاة و (السّلام) - كما أخرجه الإمام أحمد في «الزهد» ، وابن أبي شيبة في «مصنفه» عن ثابت- (لو اتّخذت حمارا) لتركبه لتستريح من المشي؟!

(فقال: أنا أكرم على الله من أن يشغلني بحمار!!) أي: بأن يتعلّق قلبي به وبكلفته وخدمته. ويشغلني- بفتح الغين- من شغله يشغله؛ كسأله يسأله، وأشغله لغة رديئة.

(وكان) كما روى أحمد في «الزهد» ؛ عن عبيد بن عمير، ومجاهد والشعبي وابن عساكر في «تاريخه» أنّه كان (يلبس الشّعر) أي: ما نسج منه؛ زيادة في تقشفه.

وإنما كره مالك لبس الصوف لمن يتخذه شعارا له؛ إظهارا لزهده، فإن إخفاءه

ص: 83

ويأكل الشّجر؛ ولم يكن له بيت، أينما أدركه النّوم.. نام. وكان أحبّ الأسامي إليه أن يقال له:(يا مسكين) .

وقيل: إنّ موسى لمّا ورد ماء مدين كانت ترى خضرة البقل في بطنه من الهزال.

وقال صلى الله عليه وسلم:

أفضل، لما فيه من الرّياء (ويأكل الشّجر) أي: ورقه، (ولم يكن له بيت) يأوي إليه؛ (أينما أدركه النّوم) أي: وقت (نام) . أي: ينام في أيّ مكان يجنّ عليه اللّيل فيه.

(وكان أحبّ الأسامي) جمع الأسماء (إليه) أي: الألفاظ التي ينادى بها (أن يقال له «يا مسكين» ) رغبة في التواضع لعظمة الله عز وجل.

وقد رواه أحمد في «الزهد» عن سعيد بن عبد العزيز بلفظ: بلغني أنه ما من كلمة كانت تقال لعيسى بن مريم أحبّ إليه من أن يقال «هذا المسكين» .

(وقيل) - كما رواه الإمام أحمد أيضا في «الزهد» ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، موقوفا-:

(إنّ موسى) على نبينا وعليه الصّلاة والسّلام (لمّا ورد ماء مدين) ، سمي باسم مدين بن إبراهيم الخليل، وكان ورود موسى صلى الله عليه وسلم لماء مدين لمّا فرّ من قبط مصر؛ فلقي ابنتي شعيب على ذلك الماء، وبينه وبين مصر ثماني مراحل أو أكثر؛ في قصته المذكورة في القرآن، وكان موسى صلى الله عليه وسلم حافيا؛ من غير زاد وبه جوع شديد، حتّى كانت ترى أمعاؤه،

و (كانت ترى خضرة البقل) الذي كان يأكله موسى صلى الله عليه وسلم إذ لم يجد غيره.

والبقل: ما ليس بشجر؛ من النّبات الّذي لا تبقى أرومته وأصوله بعد أخذه، وهو معروف (في بطنه من الهزال) - بضم الهاء وزاي معجمة- ضدّ السّمن.

(وقال صلى الله عليه وسلم كما رواه الحاكم وصححه؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله

ص: 84

«لقد كان الأنبياء قبلي يبتلى أحدهم بالفقر والقمل، وكان ذلك أحبّ إليهم من العطاء إليكم» .

تعالى عنه مرفوعا:

( «لقد كان الأنبياء قبلي يبتلى) - بالبناء للمفعول ونائبه- (أحدهم بالفقر) أي: بشدة الحاجة في مطعمه، (والقمل) ؛ أي بكثرته في ثوبه وبدنه.

(وكان ذلك) الابتلاء (أحبّ إليهم من العطاء إليكم» ) ؛ رضا بقضاء المولى، وعلما بأنّ ما أعده الله لهم خير وأبقى، ولفظ الحديث ليس كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى.

وهو ما قاله أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه:

قلت: يا رسول الله؛ من أشدّ النّاس بلاء؟ قال: «الأنبياء» . قلت: ثمّ من؟ قال: «العلماء» . قلت: ثمّ من؟ قال: «الصّالحون؛ كان أحدهم يبتلى بالقمل حتّى يقتله، ويبتلى بالفقر حتّى لا يجد إلّا العباءة يلبسها، ولأحدهم أشدّ فرحا بالبلاء من أحدنا بالعطاء» . وهو صحيح على شرط مسلم.

قيل: وهو يدلّ على أنّ الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام يتسلّط عليهم القمل، ويعرض لهم، لأنه من الأعراض البشرية، إلّا أنّ ابن الملقن رحمه الله تعالى نقل عن ابن سبع أنّ القمل لم يكن يؤذيه صلى الله عليه وسلم؛ تكريما له.

ونقل ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى في «التمهيد» أنّ نعيم بن حماد ذكر عن ابن المبارك [عن مبارك] بن فضالة عن الحسن رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقتل القمل في الصّلاة

والظّاهر أن جسده الشّريف لا يتولّد منه القمل، لاعتدال مزاجه الشّريف، وإنّما كان يوجد في ثيابه؛ من الفقراء المجالسين له، وكذا سائر الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، ولو قيل:«إنّ ضمير «يبتلى» في حديث الحاكم للصّالحين» ! كان أقرب. انتهى.

ص: 85

وقال مجاهد: كان طعام يحيى: العشب، وكان يبكي من خشية الله تعالى عز وجل، حتّى اتّخذ الدّمع مجرى في خدّه.

وحكى الطّبريّ عن وهب:

وهذا ينافيه ما نقله عن «التمهيد» ؛ وقد تقدّم. وفيما قاله دليل على صبر الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، وعلو همّتهم في النّظر للآخرة. انتهى؛ من شرح الخفاجي على «الشفاء» .

(وقال مجاهد:) رواه الإمام أحمد في «الزهد» ، وابن أبي حاتم عنه:

(كان طعام) النّبيّ (يحيى) على نبينا وعليه الصّلاة والسّلام (العشب) - بضمّ العين المهملة- هو النبت الذي يخرج بغير زرع.

(وكان) مع ذلك (يبكي من خشية الله تعالى عز وجل . والخشية: خوف مع تعظيم؛ مع أنّه ما همّ بمعصية (حتّى اتّخذ الدّمع مجرى في خدّه) ؛ أي: صار محلّ جريانه منخفضا متميزا عن غيره، لتأثيره بدوام جريانه فيه وذلك لشدة معرفته بربه، لقوله سبحانه وتعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [28/ فاطر] .

(وحكى) الإمام الحافظ المجتهد المطلق محمد بن جرير (الطّبري) رحمه الله تعالى- وتقدمت ترجمته- (عن) أبي عبد الله (وهب) بن منبّه التابعي الأنباوي اليماني؛ أخو همام بن منبّه.

وهو تابعي جليل، من المشهورين بمعرفة الكتب الماضية.

سمع جابر بن عبد الله وابن عباس وابن عمرو بن العاصي وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة وأنسا والنّعمان بن بشير.

روى عنه عمرو بن دينار وعوف الأعرابي والمغيرة بن حكيم وآخرون.

واتفقوا على توثيقه، توفي سنة: - 114- أربع عشرة ومائة.

وقال ابن سعد: سنة عشر ومائة رحمه الله تعالى؛ قاله النّووي رحمه الله تعالى.

ص: 86

أنّ موسى عليه الصلاة والسلام كان يستظلّ بعريش، ويأكل في نقرة من حجر، ويكرع فيها إذا أراد أن يشرب كما تكرع الدّابّة؛ تواضعا لله تعالى بما أكرمه من كلامه) انتهى.

(أنّ موسى) على نبينا و (عليه) الصّلاة و (السّلام كان يستظلّ بعريش) هو:

كلّ ما يستظلّ به؛ خيمة كان أو خشبا أو نباتا مثلا.

(ويأكل في نقرة) - بضمّ النّون وسكون القاف- أي: حفرة (من حجر) بدلا من ظرف خشب أو خزف، ولا يأكل في آنية، ويضع طعامه في الأرض.

(ويكرع) - بفتح الراء- (فيها) أي: النقرة؛ أي: يأخذ الماء بفيه بأن يكب عليها ويشرب منها بفيه من غير كف ولا إناء؛ (إذا أراد أن يشرب كما تكرع الدّابّة) أي: تشرب بفمها بلا آنية؛ (تواضعا لله تعالى بما أكرمه من كلامه) إذ كلّمه بلا واسطة، كما قال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164)[النساء] وأخبارهم في هذا المعنى مسطورة، وصفاتهم في الكمال وحسن الأخلاق، وحسن الصورة؛ والشمائل معروفة مشهورة، (انتهى) . أي: كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى في «الشفاء» .

ص: 87