الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 22]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها: ما رواه مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر النبي. صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل: ما أبالى أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج. وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله. تعالى.:
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ.. الآية «1» وأخرج ابن جرير عن عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ..: أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك. فقال العباس: أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام. ونفك العاني، ونحجب البيت، ونسقى الحاج فأنزل الله. تعالى.: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ..
«2» .
وقال صاحب المنار، بعد أن ساق عددا من الروايات في سبب نزول هذه الآيات.:
(1) تفسير الآلوسى ج 10 ص 60.
(2)
تفسير ابن جرير ج 10 ص 96. [.....]
والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده، وموافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجابه. من أعمال البر الهينة المستلذة. وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة وهي أشق العبادات البدنية والمالية «1» .
والسقاية والعمارة: مصدران من سقى وعمر. بتخفيف الميم.
والمراد بسقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان العباس. رضى الله عنه. هو الذي يتولى إدارة هذا العمل.
قال الجمل: السقاية هي المحل الذي يتخذ فيه الشراب في الموسم. كان يشترى الزبيب فينبذ في ماء زمزم ويسقى للناس، وكان يليها العباس جاهلية وإسلاما، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم له.. ويظهر أن المراد بها هنا المصدر. أى: إسقاء الحجاج وإعطاء الماء لهم «2» .
والمراد بعمارة المسجد الحرام: ما يشمل العبادة فيه، وإصلاح بنائه، وخدمته، وتنظيفه.. كما سبق أن بينا.
والهمزة في قوله. أَجَعَلْتُمْ للاستفهام الإنكارى المتضمن معنى النهى.
والكلام على حذف مضاف، لأن العمارة والسقاية مصدران ولا يتصور تشبيههما بالأعيان، فلا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين حتى يتأتى التشبيه والمعنى: أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله؟ ويؤيده قراءة أجعلتم سقاة الحاج بضم السين. جمع ساق. وعمرة المسجد الحرام بفتح العين والميم جمع عامر.
وعلى هذا المعنى يكون التقدير في جانب الصفة، ويجوز أن يكون التقدير في جانب الذات فيكون المعنى. أجعلتموهما، أى السقاية والعمارة. كإيمان من آمن وجهاد من جاهد؟
والخطاب يشمل بعض المؤمنين الذين آثروا السقاية والعمارة على الجهاد كما جاء في حديث النعمان. كما يشمل المشركين الذين كانوا يتفاخرون بأنهم سقاة الحجيج، وعمار المسجد الحرام.
والمقصود من الجملة الكريمة إنكار التسوية بين العملين وبين الفريقين. وقد جاء هذا الإنكار صريحا في قوله تعالى. لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ.
(1) تفسير المنار ج 10 ص 259.
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 271.
أى: لا يساوى الفريق الأول الفريق الثاني في حكم الله، إذ أن الفريق الثاني له بفضل إيمانه الصادق. وجهاده الخالص الأجر الجزيل عند الله.
فالجملة الكريمة مستأنفة لتقرير الإنكار المذكور وتأكيده ثم ختم- سبحانه. الآية الكريمة بقوله. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
أى. والله تعالى. لا يوفق القوم الظالمين إلى معرفة الحق، وتمييزه من الباطل، لأنهم قد آثروا الشر على الخير والضلالة على الهداية.
وقوله. الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ..» استئناف لبيان مراتب فضلهم زيادة في الرد، وتكميلا له.
أى: الَّذِينَ آمَنُوا بالله- تعالى- إيمانا حقا، وَهاجَرُوا من دار الكفر إلى دار الإيمان فرارا بدينهم، وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة الله بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ هؤلاء الذين توفرت فيهم هذه الصفات الجليلة أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ أى: أعلى مقاما وأشرف منزلة في حكم الله وتقديره من أهل سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام ومن كل من لم يتصف بهذه الصفات الأربعة الكريمة وهي: الإيمان، والهجرة، والجهاد بالمال، والجهاد بالنفس.
قال الفخر الرازي. فإن قيل: لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين. كما جاء في بعض روايات أسباب النزول. فكيف قال في وصفهم أعظم درجة مع أنه ليس للكفار درجة.
قلنا. الجواب عنه من وجوه. الأول أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله، ونظيره قوله. سبحانه آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ «1» .
الثاني: أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفا بهذه الصفات، تنبيها على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات، فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى.
الثالث: أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة.
والمراد منه ترجيح تلك الأعمال. ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير، وإنما بطل ثوابها في حق الكفار بسبب كفرهم «2» .
(1) سورة النمل: الآية 59.
(2)
تفسير الفخر الرازي ج 16 ص 14 وتلخيص يسير.
وقوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ أى: وأولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة، هم الفائزون، بثواب الله الأعظم، وبرضائه الأسمى الذي لا يصل إليه، سواهم ممن لم يفعل فعلهم.
ثم فصل- سبحانه- هذا الفوز فقال: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ. خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
أى يبشرهم ربهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم في الدنيا وعلى لسان الملائكة عند الموت بِرَحْمَةٍ مِنْهُ أى: برحمة واسعة منه- سبحانه- وبرضائه التام عنهم، وبجنات عالية لهم فيها نعيم عظيم لا يزول ولا يبيد.
خالِدِينَ فِيها أَبَداً أى: ماكثين في تلك الجنات مكثا أبديا.
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره لهؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
قال الآلوسى: ذكر أبو حيان أنه- تعالى- لما وصف المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة، والجهاد بالنفس والمال، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاث: الرحمة، والرضوان، والجنة.
وبدأ- سبحانه- بالرحمة في مقابلة الإيمان لتوقفها عليه، ولأنها أعم النعم وأسبقها كما أن الإيمان هو السابق.
وثنى- سبحانه- بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة الجهاد الذي هو بذل الأنفس والأموال.
وثلث بالجنات في مقابلة الهجرة وترك الأوطان، إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها- في سبيله أعطاهم بدلها دارا عظيمة دائمة وهي الجنات.
وفي الحديث الصحيح يقول الله- سبحانه-: «يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك؟ فيقول- سبحانه- لكم عندي أفضل من ذلك، فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول جل شأنه: أحل لكم رضائى فلا أسخط عليكم بعده أبدا» «1» .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت أنه لا تصح المساواة بين المؤمنين الصادقين
(1) تفسير الآلوسى ج 60 ص 62.