الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللهم أينا أقطع للرحم.. فأحنه الغداة. قال ابن جرير: فكان ذلك استفتاحه، فأنزل الله في ذلك إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ.. «1» .
ولعل مما يرجح أن الخطاب في قوله- تعالى- إِنْ تَسْتَفْتِحُوا
…
للكافرين، أن بعض المفسرين- كابن جرير وابن كثير- ساروا في تفسيرهم للآية على ذلك، وأهملوا الرأى القائل بأن الخطاب للمؤمنين فلم يذكروه أصلا.
أما صاحب الكشاف فقد ذكره بصيغة «وقيل» وصدر كلامه بكون الخطاب للكافرين فقال: قوله- تعالى-: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا.. خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم، وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أقرانا للضيف، وأوصلنا للرحم، وأفكنا للعانى
…
» «2» .
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة التي افتتحت بنداء المؤمنين، قد أمرتهم بالثبات عند لقاء الأعداء.. وبينت لهم جوانب من مظاهر فضل الله عليهم، ورعايته لهم.. ورغبت المشركين في الانتهاء عن شركهم وعن محاربتهم للحق، وحذرتهم من التمادي في باطلهم وطغيانهم..
وأخبرتهم في ختامها بأن الله- تعالى- مع المؤمنين بتأييده ونصره.
ثم وجهت السورة الكريمة نداء ثانيا إلى المؤمنين، أمرتهم بطاعة الله ورسوله، ونهتهم عن التشبه بالكافرين وأمثالهم من المنافقين.
فقال- تعالى-:
[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 23]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
(1) تفسير ابن جرير ج 9 ص 208.
(2)
تفسير الكشاف ج 2 ص 208.
والمعنى يا أيها الذين آمنوا حق الإيمان، أطيعوا الله ورسوله في كل أحوالكم، وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ أى ولا تعرضوا عنه، فإن في إعراضكم عنه خسارة عظيمة لكم في دنياكم وآخرتكم.
وقوله: وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ جملة حالية مسوقة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي مطلقا، لا لتقييد النهى عنه بحال السماع.
أى أطيعوا الله ورسوله- أيها المؤمنون- ولا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته وقوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ تأكيد لما قبله، ونهى لهم عن التشبه بالضالين.
أى أطيعوا الله ورسوله في كل أحوالكم عن إخلاص وإذعان، ولا تقصروا في ذلك في وقت من الأوقات، وإياكم أن تتشبهوا بأولئك الكافرين والمنافقين الذين ادعوا السماع فقالوا سمعنا، والحال أنهم لم يسمعوا سماع تدبر واتعاظ، لأنهم لم يصدقوا ما سمعوه، ولم يتأثروا به. بل نبذوه وراء ظهورهم.
فالمنفى في قوله- تعالى- وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع خاص، وهو سماع التدبر والاتعاظ، لكنه جيء به على سبيل الإطلاق، للإشعار بأنهم قد نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا، بجعل سماعهم بمنزلة العدم، حيث إنه سماع لا وزن له، ولا فائدة لهم من ورائه، مع أنهم لو فتحوا آذانهم وقلوبهم للحق لاستفادوا، ولكنهم آثروا الغي على الرشد.
ثم وصف- سبحانه- الكفار والمنافقين وأشباههم وصفا يحمل العقلاء على النفور منهم، فقال- تعالى-: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ
…
والدواب: جمع دابة وهي كل ما يدب على الأرض. قال- تعالى-: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ.. «2» .
قال الجمل: «وإطلاق الدابة على الإنسان لما ذكروه في كتب اللغة من أنها تطلق على كل حيوان ولو آدميا، وفي المصباح: الدابة كل حيوان في الأرض مميزا أو غير مميز» «3» .
وقد روى أن هذه الآية نزلت في نفر من بنى عبد الدار، كانوا يقولون: نحن صم بكم عما
(1) تفسير الآلوسى ج 9 ص 178.
(2)
سورة النور الآية 45.
(3)
حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 236.
جاء به محمد، فقتلوا جميعا يوم بدر.
وهذا لا يمنع أن الآية الكريمة يشمل حكمها جميع المشركين والمنافقين، إذ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
والمعنى: إن شر ما يدب على الأرض عِنْدَ اللَّهِ أى: في حكمه وقضائه، هم أولئك الصُّمُّ عن سماع الحق الْبُكْمُ عن النطق به الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أى لا يعقلون التمييز بينه وبين الباطل.
ووصفهم- سبحانه- بذلك مع أنهم يسمعون وينطقون، لأنهم لم ينتفعوا بهذه الحواس، بل استعملوها فيما يضر ويؤذى، فكان وجودها فيهم كعدمها.
وقدم الصمم على البكم، لأن صممهم عن سماع الحق متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له، كما أن النطق به من فروع سماعه.
وقوله الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ تحقيق لكمال سوء حالهم، لأن الأصم الأبكم إذا كان له عقل ربما فهم بعض الأمور.. أما إذا كان بجانب صممه وبكمه فاقد العقل، فإنه في هذه الحالة يكون قد بلغ الغاية في سوء الحال..
قال صاحب المنار: وقوله: الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أى: فقدوا فضيلة العقل الذي يميز بين الحق والباطل والخير والشر، إذ لو عقلوا لطلبوا، ولو طلبوا لسمعوا وميزوا، ولو سمعوا لنطقوا وبينوا، وتذكروا وذكروا.. فهم لفقدهم منفعة العقل والسمع والنطق صاروا كالفاقدين لهذه المشاعر والقوى.. بل هم شر من ذلك لأنهم أعطيت لهم المشاعر والقوى فأفسدوها على أنفسهم لعدم استعمالها فيما خلقها الله لأجله، فهم كما قال الشاعر:
خلقوا، وما خلقوا لمكرمة
…
فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رزقوا وما رزقوا سماح يد
…
فكأنهم رزقوا وما رزقوا
ولم يصفهم هنا بالعمى كما وصفهم في آية الأعراف وآيتي البقرة، لأن المقام هنا مقام تعريض بالذين ردوا دعوة الإسلام، ولم يهتدوا بسماع آيات القرآن» «1» .
وقوله- تعالى- وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ
…
بيان لما جبلوا عليه من إيثار الغي على الرشد، والضلالة على الهداية.
أى: ولو علم الله- تعالى- في هؤلاء الصم البكم خَيْراً أى: استعدادا للإيمان ورغبة فيما يصلح نفوسهم وقلوبهم لَأَسْمَعَهُمْ سماع تفهم وتدبر، أى: لجعلهم سامعين للحق، ومستجيبين له، ولكنه- سبحانه- لم يعلم فيهم شيئا من ذلك، فحجب خيره عنهم بسبب سوء استعدادهم.
(1) تفسير المنار ج 9 ص 578.