الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الطائفة الثانية فهي التي سارعت إلى الاعتذار والاعتراف بالذنب، فقبل الله توبتهم، وقد عبر عنها- سبحانه- بقوله: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً.
وأما الطائفة الثالثة فهي التي لم تجد عذرا تعتذر به، فأوقف الله أمرهم إلى أن حكم بقبول توبتهم بعد خمسين ليلة، وقد عبر عنها- سبحانه- بقوله: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ
…
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها الطويل المتنوع عن النفاق والمنافقين، بالحديث عن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون ليكون مكانا للإضرار بالإسلام والمسلمين، فقال- تعالى-.
[سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 110]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَاّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَاّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
قال الإمام ابن كثير: سبب نزول هذه الآيات الكريمات، أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في
الجاهلية، وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه وصار للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز العداوة، وظاهر بها، وخرج فارا إلى كفار مكة ليمالئهم على حرب المسلمين فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام «أحد» فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله- تعالى- وكانت العاقبة للمتقين.
وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين، فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيب في ذلك اليوم، فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى والسفلى وشج رأسه. وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار، فخاطبهم، واستمالهم إلى نصره وموافقته. فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله لك عينا يا فاسق يا عدو الله، ونالوا منه وسبوه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره- إلى مكة- وقرأ عليه القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد. فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدا طريدا فنالته هذه الدعوة.
وذلك أنه لما فرغ الناس من «أحد» ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم، فوعده ومناه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم، أنه سيقدم بجيش ليقاتل به النبي صلى الله عليه وسلم ويغلبه، ويرده عما هو فيه. وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليه بعد ذلك.
فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوه أن يأتى إليهم فيصلى في مسجدهم، ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم، وأهل العلة في الليلة الشاتية!! فعصمه الله من الصلاة فيه فقال:«إنا على سفر ولكنا إذا رجعنا- إن شاء الله- أتيناكم فصلينا لكم فيه» .
فلما قفل راجعا إلى المدينة من تبوك، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر، والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم. مسجد قباء. الذي أسس من أول يوم على التقوى فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسجد الضرار من هدمه قبل مقدمه إلى المدينة «1» .
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 2 ص 782.
وقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ منصوب على الذم.
أى: وأذم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا.. أو معطوف على ما سبق من أحوال المنافقين، والتقدير: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا.
وقوله «ضرارا» مفعول لأجله أى: اتخذوا هذا المسجد لا من أجل العبادة والطاعة لله تعالى. وإنما اتخذوه من أجل الإضرار بالمؤمنين. وإيقاع الأذى بهم.
وقوله «وكفرا» معطوف على «ضرارا» وهو علة ثانية لاتخاذ هذا المسجد.
أى: اتخذوه للإضرار بالمؤمنين، وللازدياد من الكفر الذي يضمرونه ومن الغل الذي يخفونه.
وقوله: وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ علة ثالثة.
أى: واتخذوه أيضا للتفريق بين جماعة المؤمنين الذين كانوا يصلون في مسجد واحد هو مسجد قباء، فأراد هؤلاء المنافقون من بناء مسجد الضرار إلى جوار مسجد قباء، أن يفرقوا وحدة المؤمنين، بأن يجعلوهم يصلون في أماكن متفرقة. حسدا لهم على نعمة الإخاء والتآلف والاتحاد التي غرسها الإسلام في قلوب أتباعه.
وقوله: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ علة رابعة لاتخاذ هذا المسجد.
أى: واتخذوه ليكون مكانا يرقبون فيه قدوم «من حارب الله ورسوله» وهو أبو عامر الراهب، الذي أعلن عداوته لدعوة الإسلام «من قبل» بناء مسجد الضرار.
فقد سبق أن ذكرنا في أسباب نزول هذه الآيات، أن أبا عامر هذا، كتب إلى جماعة من قومه. وهو عند هرقل. يعدهم ويمنيهم، ويطلب منهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه فشرعوا في بناء هذا المسجد.
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة، قد ذكرت أربعة من الأغراض الخبيثة التي حملت المنافقين على بناء هذا المسجد، وهي: مضارة المؤمنين، وتقوية الكفر، وتفريق كلمة أهل الحق وجعله معقلا لالتقاء المحاربين لله ولرسوله.
وقد خيب الله تعالى مسعاهم وأبطل كيدهم، بأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بهدمه وإزالته.
وقوله: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ذم لهم على أيمانهم الفاجرة، وأقوالهم الكاذبة.
أى: أن هؤلاء المنافقين قد بنوا مسجد الضرار لتلك المقاصد الخبيثة. ومع ذلك فهم يقسمون بأغلظ الأيمان بأنهم ما أرادوا ببنائه إلا الخصلة الحسنى التي عبروا عنها قبل ذلك.
كذبا. بقولهم: «إننا بنيناه للضعفاء، وأهل العلة في الليلة الشاتية» .
وقوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ زيادة في مذمتهم وتحقيرهم.
أى: والله- تعالى- يعلم ويشهد أن هؤلاء المنافقين لكاذبون في أيمانهم بأنهم ما أرادوا من بناء مسجدهم إلا الحسنى، فإنهم في الحقيقة لم يريدوا ذلك، وإنما أرادوا تلك الأغراض القبيحة السابقة، وهي مضارة المؤمنين، وتفريق كلمتهم.
ثم نهى الله- تعالى- رسوله والمؤمنين عن الصلاة في هذا المسجد نهيا مؤكدا فقال- سبحانه-: لا تَقُمْ فِيهِ، أَبَداً.
أى: لا تصل. أيها الرسول الكريم. في هذا المسجد في أى وقت من الأوقات لأنه لمن يبن لعبادة الله، وإنما بنى للشقاق والنفاق.
قال القرطبي: قوله- تعالى- لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً يعنى مسجد الضرار. لا تقم فيه للصلاة، وقد يعبر عن الصلاة بالقيام. يقال: فلان يقوم الليل أى: يصلى، ومنه الحديث الصحيح:«من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» .
وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية كان لا يمر بالطريق التي فيها هذا المسجد، وأمر بموضعه أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف والأقذار
…
» «1» .
وقوله: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ جملة مسوقة لمدح مسجد قباء وتشريفه.
أى: لمسجد بنى أساسه، ووضعت قواعده على تقوى الله وإخلاص العبادة له منذ أول يوم بدئ في بنائه. أحق أن تقوم للصلاة فيه من غيره.
قال الآلوسى ما ملخصه: واللام في قوله «لمسجد» إما للابتداء أو للقسم، أى: والله لمسجد، وعلى التقديرين فمسجد مبتدأ، والجملة بعده صفته، وقوله «أحق أن تقوم فيه» خبر المبتدأ:«وأحق» أفعل تفضيل، والمفضل عليه كل مسجد. أو مسجد الضرار على الفرض والتقدير، أو على زعمهم، وقيل إنه بمعنى حقيق، أى: ذلك المسجد بأن تصلى فيه..» «2» .
وقوله: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ جملة مسوقة لتكريم رواد هذا المسجد ومديحهم.
أى: في هذا المسجد رجال أتقياء الظاهر والباطن، إذ هم يحبون الطهارة من كل رجس
(1) تفسير القرطبي ج 8 ص 258.
(2)
تفسير الآلوسى ج 11 ص 19.
حسى ومعنوي، ومن كان كذلك أحبه الله ورضى عنه.
ثم بين- سبحانه- أنه لا يستوي من أسس بنيانه على الحق، ومن أسس بنيانه على الباطل فقال: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ، فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ
…
قال صاحب الكشاف: قرئ أسّس بنيانه، وأسّس بنيانه على البناء للفاعل والمفعول.
والشفا: الحرف والشفير. وحرف الوادي: جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول، فيبقى واهيا، والهار وهو المتصدع الذي أوشك على التهدم- وهار صفة لجرف، أى جرف موصوف بأنه هائر أى متساقط.
والمعنى: أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه «خير أم من» أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها وأقلها بقاء، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل «شفا جرف هار» في قلة الثبات والاستمساك. وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى، لأنه جعل مجازا عما ينافي التقوى.
فإن قلت: فما معنى قوله: «فانهار به في نار جهنم» .
قلت: لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل، قيل: فانهار به في نار جهنم، على معنى:
فطاح به الباطل في نار جهنم، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف، وليتصور أن المبطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنم. فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها، ولا ترى أبلغ من هذا الكلام، ولا أدل منه على حقيقة الباطل وكنه أمره» «1» .
وقال صاحب المنار ما ملخصه: والمراد بالمثل هنا بيان ثبات الحق الذي هو دين الإسلام وقوته، ودوامه، وسعادة أهله به، وذكره بأثره وثمرته في عمل أهله وجماعها التقوى، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله وقرب زواله، وخيبة صاحبه، وسرعة انقطاع آماله.
وقد ذكر في وصف بنيان الفريق الأول وهم المؤمنون المشبه دون المشبه به لأنه هو المقصود بالذات وذكر من وصف الفريق الثاني- وهم المنافقون- الهيئة المشبه بها دون المشبه، لأنه ذكر قبل ذلك مقاصدهم الخبيثة من بناء مسجد الضرار. وهذا من دقائق إيجاز القرآن» «2» .
وقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أى مضت سنة الله- تعالى- في خلقه أنه- سبحانه- لا يهدى إلى طريق الخير أولئك الذين استحبوا العمى على الهدى وظلموا
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 110- بتصرف وتلخيص.
(2)
تفسير المنار ج 11 ص 45.
أنفسهم بوضعهم الأمور في غير مواضعها.
ثم بين- سبحانه- الآثار التي ترتبت على هدم مسجد الضرار، في نفوس هؤلاء المنافقين الأشرار فقال- تعالى- لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ، إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
الريبة: اسم من الريب بمعنى الشك والقلق والحيرة، وتقطع- بفتح التاء- أصلها تتقطع فحذفت إحدى التاءين، من التقطع بمعنى التمزق. وقرأ بعضهم. «تقطع» - بضم التاء- من التقطيع بمعنى التفريق والتمزيق.
والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات والأحوال، والمستثنى منه محذوف، والتقدير: لا يزال ما بناه هؤلاء المنافقون موضع ريبة وقلق في نفوسهم في كل وقت وحال إلا في وقت واحد وهو وقت أن تتمزق قلوبهم بالموت والهلاك أى: أنهم لا يزالون في قلق وحيرة ما داموا أحياء، أما بعد موتهم فستتكشف لهم الحقائق، ويجدون مصيرهم الأليم.
والسبب في أن هذا البناء كان مثار ريبتهم وقلقهم حتى بعد هدمه، أنهم بنوه بنية سيئة، ولتلك المقاصد الأربعة الخبيثة التي بينتها الآية الأولى
…
فكانوا يخشون أن يطلع الله نبيهم على مقاصدهم الذميمة، فهذه الخشية أورثتهم القلق والريبة، فلما أطلع الله- تعالى- نبيه على أغراضهم، وتم هدم مسجد الضرار، وانهار الجرف المتداعي المتساقط، استمر قلقهم وريبهم لأنهم لا يدرون بعد ذلك ماذا سيفعل المؤمنون بهم.
وهكذا شأن الماكرين في كل زمان ومكان، إنهم يعيشون طول حياتهم في فزع وقلق وخوف من أن ينكشف مكرهم، ويظهر خداعهم.
وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تذييل قصد به تهديدهم وزجرهم.
أى: والله- تعالى- عليم بكل شيء في هذا الكون، وبكل ما يقوله ويفعله هؤلاء المنافقون سرا وجهرا: حكيم في كل تصرفاته وأفعاله وفي صنعه بهم، وسيجازيهم يوم القيام بما يستحقونه من عقاب.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1-
وجوب بناء المساجد على تقوى من الله ورضوان، لأنها إذا بنيت على هذا الأساس، كانت محل القبول والثواب من الله، أما إذا بنيت لأى مقصد يتنافى مع آداب الإسلام وأحكامه وتشريعاته، فإنها تكون بعيدة عن رضا الله- تعالى- وقبوله.
قال بعض العلماء، دلت الآيات على أن كل مسجد بنى على ما بنى عليه مسجد الضرار، أنه لا حكم له ولا حركة، ولا يصح الوقف عليه. وقد حرق الراضي بالله- الخليفة
العباسي- كثيرا من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة «1» .
وقال الزمخشري: قيل كل مسجد بنى مباهاة أو رياء وسمعة، أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب، فهو لاحق بمسجد الضرار.
وعن عطاء: لما فتح الله. تعالى. الأمصار على عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين، يضار أحدهما صاحبه «2» .
2-
أن مسجد قباء هو المقصود بقوله- تعالى-: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ
…
وذلك لأن سياق الآيات في الحديث عنه، وفي بيان أحقية الصلاة فيه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوره راكبا وماشيا ويصلى فيه ركعتين.
ولا منافاة بين كون مسجد قباء هو المقصود هنا، وبين الأحاديث التي وردت في أن المسجد الذي أسس من أول يوم على تقوى من الله ورضوان، هو المسجد النبوي، لأن كليهما قد أسس على ذلك.
قال الإمام ابن كثير: وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف منهم ابن عباس، وعروة بن الزبير، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وقتادة.
وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس على التقوى، وهذا صحيح.
ولا منافاة بين الآية وبين هذا، أنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى» «3» .
3-
أن المحافظة على الطهارة من الصفات التي يحبها الله- تعالى- فقد قال- تعالى-: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث منها: ما جاء عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الآية، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن مساعدة فقال له:«ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به» ؟.
فقال: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه.
فقال صلى الله عليه وسلم: «هو هذا» «4» » .
(1) تفسير القاسمى ج 8 ص 3267.
(2)
تفسير الكشاف ج 2 ص 310.
(3)
تفسير ابن كثير ج 2 ص 379.
(4)
تفسير ابن كثير ج 2 ص 389.