الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صفو الدولة، ولا يخلون بنظام السلطة العامة، ثم يرخى لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شئونهم الخاصة بهم، لا رقيب عليهم فيها سوى ضمائرهم» «1» .
وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه: قال السيوطي: استدل بقوله- تعالى- وَهُمْ صاغِرُونَ من قال إنها تؤخذ بإهانة، بأن يجلس الآخذ ويقوم الذمي ويطأطئ رأسه، ويحنى ظهره، ويقبض الآخذ لحيته
…
إلخ.
وقد رد الإمام ابن القيم على هذا القائل بقوله: هذا كله مما لا دليل عليه، ولا هو من مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه.
والصواب في الآية، أن الصغار: هو التزامهم بجريان أحكام الله عليهم، وإعطاء الجزية، فإن ذلك هو الصغار، وبه قال الشافعى» «2» .
والذي نراه أن ما قاله الإمام ابن القيم في رده هو عين الصواب، وأن ما نقله السيوطي عن بعضهم
…
يتنافى مع سماحة الإسلام وعدله ورحمته بالناس.
هذا، وهناك أحكام أخرى تتعلق بالجزية لا مجال لذكرها هنا، فليرجع إليها من شاء في بعض كتب الفقه والتفسير «3» .
وبعد أن بين- سبحانه- بعض رذائل أهل الكتاب على سبيل الإجمال، اتبع ذلك بتفصيل هذه الرذائل، فحكى أقوالهم الباطلة، وأفعالهم الذميمة، ونواياهم السيئة فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 33]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
(1) الإسلام والنصرانية ص 74.
(2)
تفسير القاسمى ج 8 ص 3108. [.....]
(3)
راجع على سبيل المثال تفسير القرطبي ج 8 ص 109. وتفسير المنار ج 10 ص 331 وتفسير القاسمى ج 8 ص 3105.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى. وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف فقالوا: كيف نتبعك- يا محمد- وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله، فأنزل الله في ذلك: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.. الآية «1» .
و «عزير» كاهن يهودي سكن بابل سنة 457 ق م تقريبا، ومن أعماله أنه جمع أسفار التوراة وأدخل الأحرف الكلدانية عوضا عن العبرانية القديمة، وألف أسفار: الأيام، وعزرا، ونحميا.
وقد قدسه اليهود من أجل نشره لكثير من علوم الشريعة، وأطلقوا عليه لقب «ابن الله» .
قال البيضاوي: وإنما قالوا ذلك- أى: عزير ابن الله- لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة «بختنصر» - سنة 586 ق م هـ من يحفظ التوراة. وهو لما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظا فتعجبوا من ذلك وقالوا: ما هذا إلا لأنه ابن الله» «2» .
وقال صاحب المنار ما ملخصه: جاء في دائرة المعارف اليهودية الإنكليزية- طبعة 1903- أن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية الذي تفتحت فيه أزهاره، وعبق شذا
(1) تفسير ابن جرير ج 10 ص 110.
(2)
تفسير البيضاوي ص 223.
ورده. وأنه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة..» «1» .
وقد ذكر المفسرون هنا أقوالا متعددة في الأسباب التي حملت اليهود على أن يقولوا «عزير ابن الله» وأغلب هذه الأقوال لا يؤيدها عقل أو نقل، ولذا فقد ضربنا عنها صفحا «2» .
وقد نسب- سبحانه- القول إلى جميع اليهود مع أن القائل بعضهم، لأن الذين لم يقولوا ذلك لم ينكروا على غيرهم قولهم، فكانوا مشاركين لهم في الإثم والضلال، وفيما يترتب على ذلك من عقاب.
وأما قول النصارى «المسيح ابن الله» فهو شائع مشهور، ومن أسبابه أن الله- تعالى- قد خلق عيسى بدون أب على خلاف ما جرت به سنته في التوالد والتناسل، فقالوا عنه «ابن الله» .
وقد حاجهم- سبحانه- في سورة آل عمران بأن آدم قد خلقه الله من غير أب أو أم، فكان أولى بنسبة البنوة إليه، لكنهم لم ينسبوا إليه ذلك، فينبغي أن يكون عيسى كآدم.
قال- تعالى- إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
وقوله: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ ذم لهم على ما نطقوا به من سوء يمجه العقل السليم، والفكر القويم.
أى: ذلك الذي قالوه في شأن «عزير والمسيح» قول تلوكه ألسنتهم في أفواههم بدون تعقل، ولا مستند لهم فيما زعموه سوى افترائهم واختلاقهم، فهو من الألفاظ الساقطة التي لا وزن لها ولا قيمة، فقد قامت الأدلة السمعية والعقلية على استحالة أن يكون لله ولد أو والد أو صاحبة أو شريك.
قال- تعالى- وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً «3» .
ولقد أنذر، سبحانه، الذين نسبوا إليه الولد بالعقاب الشديد فقال: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً «4» .
(1) راجع تفسير المنار ص 377 وما بعدها ففيه كلام مفيد عن عقيدة اليهود والنصارى.
(2)
راجع- على سبيل المثال- تفسير ابن جرير ج 10 ص 111. وتفسير الآلوسى ج 10 ص 72.
(3)
سورة مريم الآيات: 92- 95.
(4)
سورة الكهف الآيتان 4، 5.
وأسند، سبحانه، القول إلى الأفواه مع أنه لا يكون إلا بها، لاستحضار الصورة الحسية الواقعية، حتى لكأنها مسموعة مرئية ولبيان أن هذا القول لا وجود له في عالم الحقيقة والواقع، وإنما هو قول لغو ساقط وليد الخيالات والأوهام، ولزيادة التأكيد في نسبة هذا القول إليهم، أى: أنه قول صادر منهم وليس محكيا عنهم.
قال صاحب الكشاف، فإن قلت: كل القول يقال بالفم فما معنى قوله ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ؟.
قلت: فيه وجهان: أحدهما- أن يراد أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ يفوهون به، فارغ من أى معنى تحته، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم، لا تدل على معان.
وذلك أن القول الدال على معنى، لفظه مقول بالفم، ومعناه مؤثر في القلب، وما لا معنى له مقول بالفم لا غير.
والثاني- أن يراد بالقول: المذهب، كقولهم «قول أبى حنيفة» يريدون مذهبه وما يقول به، كأنه قيل: ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم، لأنه لا حجة معه ولا شبهة، حتى يؤثر في القلوب، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له لم تبق شبهة في انتفاء الولد» «1» .
وقوله: يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ذم آخر لهم على تقليدهم لمن سبقوهم بدون تعقل أو تدبر.
قال الجمل ما ملخصه: قرأ العامة يُضاهِؤُنَ بضم الهاء بعدها واو-. وقرأ عاصم «يضاهئون» بهاء مكسورة بعدها همزة مضمومة- فقيل هما بمعنى واحد وهو المشابهة، وفيه لغتان: ضاهأت وضاهيت
…
» «2» .
والمراد بالذين كفروا من قبل: قيل، أهل مكة وأمثالهم من المشركين السابقين الذين قالوا، الملائكة بنات الله وقيل، المراد بهم قدماء أهل الكتاب، أى، أن اليهود والنصارى المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم يشابه قولهم في العزير وعيسى قول آبائهم الأقدمين، - أى المعاصرين للعهد النبوي- قد ورثوا الكفر كابرا عن كابر.
والأولى من هذين الوجهين أن يكون المراد بالذين كفروا من قبل. جميع الأمم التي ضلت وانحرفت عن الحق، وأشركت مع الله في العبادة آلهة أخرى.
قال صاحب المنار، وقد علمنا من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 264.
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 277.
الابن لله والحلول والتثليث، كانت معروفة عند البراهمة في الهند وفي الصين واليابان وقدماء المصريين وقدماء الفرس.
وهذه الحقيقة التاريخية- والتي بينها القرآن في هذه الآية- من معجزاته لأنه لم يكن يعرفها أحد من العرب ولا ممن حولهم، بل لم تظهر إلا في هذا الزمان» «1» .
والمعنى. أن هؤلاء الضالين الذين قال بعضهم «عزير ابن الله» وقال البعض الآخر «المسيح ابن الله» ليس لهم على قولهم الباطل هذا دليل ولا برهان، ولكنهم يشابهون ويتابعون فيه قول الذين كفروا من قبلهم من الأمم «فهم على آثارهم يهرعون» «2» .
وقوله. قاتَلَهُمُ اللَّهُ تعجيب من شناعة قولهم، ودعاء عليهم بالهلاك فإن من قاتله الله لا بد أن يقتل، ومن غالبه لا بد أن يغلب.
وعن ابن عباس، أن معنى قاتَلَهُمُ اللَّهُ لعنهم الله وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن «3» .
وقوله: أَنَّى يُؤْفَكُونَ تعجيب آخر من انصرافهم الشديد عن الحق الواضح إلى الباطل المظلم المعقد.
وأَنَّى بمعنى كيف. ويُؤْفَكُونَ من الإفك بمنى الانصراف عن الشيء والابتعاد عنه، يقال، أفكه عن الشيء يأفكه أفكا، أى، صرفه عنه وقلبه. ويقال، أفكت الأرض أفكا، أى: صرف، عنها المطر.
والمعنى: قاتل الله هؤلاء الذين قالوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ والذين قالوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ لأنهم بقولهم هذا محل مقت العقلاء وعجبهم، إذ كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل، بعد وضوح الدليل على استحالة أن يكون له- تعالى- ولد أو والد أو صاحبة أو شريك..؟!.
إن ما قالوه ظاهر البطلان وهو محل عجب العقلاء واستنكارهم وغضبهم.
وقوله- سبحانه اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ بيان للون آخر من ألوان انحراف اليهود والنصارى عن الحق إلى الباطل، وتقرير لما سبقت حكايته عنهم من أقوال فاسدة، وأفعال ذميمة.
(1) تفسير المنار- بتصرف وتلخيص ج 10 ص 399 وراجع تفسير في ظلال القرآن ج 10 ص 200.
(2)
سورة الصافات. الآية 70.
(3)
تفسير ابن جرير ج 10 ص 113.
والضمير في قوله اتَّخَذُوا يعود إلى الفريقين اللذين حكت الآية السابقة ما قالوه من باطل وبهتان.
والأحبار: علماء اليهود جمع حبر، بكسر الحاء وفتحها- وهو الذي يحسن القول ويتقنه، مأخوذ من التحبير بمعنى التحسين والتزيين، ومنه ثوب محبر أى جمع الزينة والحسن، والرهبان: علماء النصارى جمع راهب وهو الزاهد في متع الدنيا، المنعزل عن الناس مأخوذ من الرهبة بمعنى الخشية والخوف من الله- تعالى.
والمراد باتخاذهم لأحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، أنهم أطاعوهم فيها أحلوه لهم، وفيما حرموه عليهم، ولو كان هذا التحليل والتحريم مخالفا لشرع الله.
وهذا التفسير مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدى بن حاتم أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام: وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومها، ثم منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها. فرجعت إلى أخيها، فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عدى المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عنق عدى صليب من فضة، وكان الرسول يقرأ هذه الآية اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ
…
قال عدى: فقلت، إنهم لم يعبدوهم، فقال، بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم.
قال ابن كثير: وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية:
أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا.
وقال السدى: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم «1» .
وقال الآلوسى: وقيل اتخاذهم أربابا بالسجود لهم ونحوه مما لا يصلح إلا لله، تعالى، وحينئذ فلا مجاز، إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله وسنة رسوله، لكلام علمائهم ورؤسائهم، والحق أحق بالاتباع، فمتى ظهر الحق فعلى المسلم اتباعه وإن أخطأه اجتهاد مقلده» «2» .
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 348.
(2)
تفسير الآلوسى ج 1 ص 75. [.....]
وقوله: وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ معطوف على قوله أَحْبارَهُمْ والمفعول الثاني بالنسبة إليه محذوف أى: اتخذوه ربا وإلها.
قال صاحب المنار ما ملخصه: جمع- سبحانه. بين اليهود والنصارى في اتخاذ رجال دينهم أربابا بأن أعطوهم حق التشريع فيهم: وذكر بعد ذلك ما انفرد به النصارى دون اليهود من اتخاذهم المسيح ربا وإلها يعبدونه واليهود لم يعبدوا عزيرا، ولم يؤثر عمن قال منهم إنه ابن الله، أنهم عنوا ما يعنيه النصارى من قولهم في المسيح: إنه هو الله الخالق المدبر لأمور العباد» «1» .
وقوله: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ جملة حالية أى: اتخذ هؤلاء المفترون على الله الكذب من اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، بأن أطاعوهم فيما يحلونه لهم وفيما يحرمونه عليهم ولو كان ذلك مخالفا لشرع الله وكذلك اتخذ النصارى المسيح ابن مريم ربا وإلها.
والحال أنهم جميعا ما أمروا على ألسنة رسلهم إلا بعبادة الله وحده، فهو المعبود الذي لا تعنو الوجوه إلا له، ولا يكون الاعتماد إلا عليه، وكل ما سواه فهو مخلوق له.
وقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية لقوله إِلهاً. أو هو استئناف بيانى لتعليل الأمر بعبادة الله وحده، وأنه- سبحانه- هو المستحق لذلك شرعا وعقلا.
وقوله: سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه له عن الشرك والشركاء إثر الأمر بإخلاص العبادة له.
أى: تنزه الله- عز وجل وتقدس عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد، فهو رب العالمين، وخالق الخلائق أجمعين..
قال صاحب الظلال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: ومن النص القرآنى الواضح الدلالة، ومن تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم للآية وهو فصل الخطاب، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار وهي: أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أربابا بمعنى الاعتقاد في ألوهيتهم، أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم
…
ومع هذا فقد حكم الله، سبحانه، عليهم
(1) تفسير المنار ج 10 ص 426.
بالشرك في هذه الآية، وبالكفر في آية تالية في السياق لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها- فهذا وحده دون الاعتقاد والشعائر يكفى لاعتبار من يفعله مشركا بالله، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين، ويدخله في عداد الكافرين.
إن النص القرآنى يسوى في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقادا وقدموا إليه الشعائر في العبادة «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما يهدف إليه أهل الكتاب من وراء أقاويلهم الكاذبة، ودعاواهم الباطلة فقال: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
والمراد بنور الله: دين الإسلام الذي ارتضاه. سبحانه- لعباده دينا وبعث به رسوله، صلى الله عليه وسلم، وأعطاه من المعجزات والبراهين الدالة على صدقه، وعلى صحته ما جاء به مما يهدى القلوب، ويشفى النفوس، ويجعلها لا تدين بالعبادة والطاعة إلا لله الواحد القهار.
وقيل المراد بنور الله: حججه الدالة على وحدانيته- سبحانه- وقيل المراد به، القرآن، وقيل المراد به: نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكلها معان متقاربة.
والمراد بإطفاء نور الله: محاولة طمسه وإبطاله والقضاء عليه، بكل وسيلة يستطيعها أعداؤه، كإثارتهم للشبهات من حول تعاليمه، وكتحريضهم لأتباعهم وأشياعهم على الوقوف في وجهه، وعلى محاربته.
والمراد بأفواههم. أقوالهم الباطلة الخارجة من تلك الأفواه التي تنطق بما لا وزن له ولا قيمة.
والمعنى: يريد هؤلاء الكافرون بالحق من أهل الكتاب أن يقضوا على دين الإسلام، وأن يطمسوا تعاليمه السامية التي جاء بها نبيه صلى الله عليه وسلم عن طريق أقاويلهم الباطلة الصادرة عن أفواههم من غير أن يكون لها مصداق من الواقع تنطبق عليه، أو أصل تستند إليه، وإنما هي أقوال من قبيل اللغو الساقط المهمل الذي لا وزن له ولا قيمة
…
قال الآلوسى ما ملخصه: في الكلام استعارة تمثيلية، حيث شبه- سبحانه- حال أهل
(1) راجع تفسير «في ظلال القرآن» ج 10 ص 203 للأستاذ سيد قطب. طبعة دار إحياء التراث العربي الطبعة الخامسة.
الكتاب في محاولة إبطال نبوة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق تكذيبهم له، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم مثبت في الآفاق ليطفئه بنفخه..
وروعي في كل من المشبه والمشبه به معنى الإفراط والتفريط، حيث شبه الإبطال والتكذيب بالإطفاء بالفم، ونسب النور إلى الله- تعالى- العظيم الشأن.
ومن شأن النور المضاف إليه- سبحانه- أن يكون عظيما، فكيف يطفأ بنفخ الفم «1» ..؟!!
وقوله: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ بشارة منه- سبحانه- للمؤمنين، وتقرير لسنته التي لا تتغير ولا تتبدل في جعل العاقبة للحق وأتباعه.
والفعل يَأْبَى هنا بمعنى لا يريد أو لا يرضى- أى: أنه جار مجرى النفي، ولذا صح الاستثناء منه.
قال أبو السعود: وإنما صح الاستثناء المفرغ- وهو قوله إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ. من الموجب، وهو قوله وَيَأْبَى اللَّهُ- لكونه بمعنى النفي، ولوقوعه في مقابلة قوله:
يُرِيدُونَ، وفيه من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس في نفى الإرادة، أى: لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه، فضلا عن الإطفاء.
وفي إظهار النور في مقام الإضمار مضافا إلى ضميره- سبحانه- زيادة اعتناء بشأنه، وتشريف له على تشريف، وإشعار بعلة الحكم» «2» .
وجواب لَوْ في قوله وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ محذوف لدلالة ما قبله عليه.
والمعنى: يريد أعداء الله أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والحال أن الله- تعالى- لا يريد إلا إتمام هذا النور، ولو كره الكافرون هذا الإتمام لأتمه- سبحانه- دون أن يقيم لكراهتهم وزنا.
فالآية الكريمة وعد من الله، تعالى للمؤمنين بإظهار دينهم وإعلاء كلمتهم لكي يمضوا قدما إلى تنفيذ ما كلفهم الله به بدون إبطاء أو تثاقل، وهي في الوقت نفسه تتضمن في ثناياها الوعيد لهؤلاء الضالين وأمثالهم.
- ثم أكد- سبحانه- وعده بإتمام نوره، وبين كيفية هذا الإتمام فقال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
(1) تفسير الآلوسى ج 10 ص 76- بتصرف وتلخيص.
(2)
تفسير أبى السعود ج 2 ص 267. طبعة صبيح.
والمراد بالهدى: القرآن الكريم المشتمل على الإرشادات السامية، والتوجيهات القويمة، والأخبار الصادقة، والتشريعات الحكيمة.
والمراد بدين الحق: دين الإسلام الذي هو خاتم الأديان.
وقوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ من الإظهار بمعنى الإعلاء والغلبة بالحجة والبرهان، والسيادة والسلطان.
والجملة تعليلية لبيان سبب هذا الإرسال والغاية منه.
والضمير في لِيُظْهِرَهُ يعود على الدين الحق أو الرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى: هو الله- سبحانه- الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن الهادي للتي هي أقوم، وبالدين الحق الثابت الذي لا ينسخه دين آخر، وكان هذا الإرسال لإظهار هذا الدين الحق على سائر الأديان بالحجة والغلبة، ولإظهار رسوله صلى الله عليه وسلم على أهل الأديان كلها، بما أوحى إليه- سبحانه- من هدايات، وعبادات، وتشريعات، وآداب
…
في اتباعها سعادة الدنيا والآخرة.
وختم- سبحانه- هذه الآية بقوله: وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ وختم التي قبلها بقوله:
وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ للإشعار بأن هؤلاء الذين قالوا: «عزير ابن الله والمسيح ابن الله» قد جمعوا بسبب قولهم الباطل هذا، بين رذيلتي الكفر والشرك، وأنه، سبحانه، سيظهر أهل دينه على جميع أهل الأديان الأخرى.
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير بعض الأحاديث التي تؤيد ذلك، منها: ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله زوى لي الأرض من مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لي منها» .
وروى الإمام أحمد عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول: صلى هذا الحي من محارب الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة» .
وروى أيضا عن تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، يعز عزيزا ويذل ذليلا، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر» . وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الشرف والخير والعز، ولقد أصاب من كان كافرا منهم الذل والصغار والجزية.
وأخرج أيضا عن عدى بن حاتم قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عدى أسلم تسلم» ، فقلت يا رسول الله: إنى من أهل دين. قال: «أنا أعلم بدينك منك، فقلت: أنت أعلم بديني منى؟ قال نعم، ألست من الركوسية «1» ، وأنت تأكل مرباع قومك» «2» .
قلت: بلى. قال: «فإن هذا لا يحل لك في دينك» .
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أما إنى أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له، ومن رمتهم العرب، أتعرف الحيرة» ؟
قلت: لم أرها وقد سمعت بها.
قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: «نعم. كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد» .
قال عدى بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت من غير جوار أحد.
ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها «3» .
وإلى هنا نرى أن هذه الآيات الكريمة قد كذبت أهل الكتاب في قولهم «عزير ابن الله والمسيح ابن الله» ، وأرشدتهم إلى الطريق الحق الواضح المستقيم ليسيروا عليه، ووبختهم على تشبههم في هذه الأقوال الباطلة بمن سبقهم من الضالين، وعلى انقيادهم لأحبارهم ورهبانهم بدون تعقل أو تدبر، وبشرت المؤمنين بظهور دينهم الذي ارتضاه الله لهم على الأديان كلها.
ثم ختم- سبحانه- الحديث عن أهل الكتاب بتوجيه نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض الرذائل التي انغمس فيها الأحبار والرهبان، وكيف جمعوا بين ضلال أنفسهم وإضلال أتباعهم، حيث أمروا هؤلاء الأتباع بالانقياد لهم فيما يأتون ويذرون
…
فقال- تعالى-:
(1) الركوسية «بفتح الراء المشددة» قوم لهم دين بين النصارى والصابئين.
(2)
المرباع بمعنى الربع، كالمعشار بمعن العشر. وكان الناس في الجاهلية يعطون رئيسهم ربع ما يغنمونه خالصا له دون أن يشاركه فيه أحد. وكان عدى رئيسا لقومه.
(3)
تفسير ابن كثير ج 2 ص 349.