المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35] - التفسير الوسيط لطنطاوي - جـ ٦

[محمد سيد طنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد السادس]

- ‌سورة الأنفال

- ‌تمهيد بين يدي تفسير السورة

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 4]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 8]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 14]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 19]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 23]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 24 الى 26]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 29]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 30 الى 40]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 41]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 42 الى 44]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 46]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 47 الى 49]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 51]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 52 الى 54]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 59]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 60]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 61 الى 63]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 64 الى 66]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 69]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 72 الى 75]

- ‌تفسير سورة التّوبة

- ‌مقدّمة

- ‌تمهيد بين يدي تفسير سورة التوبة

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 4]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 5]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 6]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 7 الى 12]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 13 الى 15]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 16]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 18]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 22]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 28]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 29]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 33]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 36 الى 37]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 41]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 42]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 43]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 44 الى 45]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 46 الى 48]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 49 الى 52]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 53 الى 55]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 56 الى 57]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 58 الى 59]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 60]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 61]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 62 الى 63]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 64 الى 66]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 68]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 69 الى 70]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 73]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 74]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 78]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 79]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 80]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 83]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 84]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 85]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 89]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 90]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 92]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 96]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 97 الى 99]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 100]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 101 الى 106]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 110]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 111]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 112]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 116]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 117]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 118]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 119 الى 121]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 122]

- ‌[سورة التوبة (9) : آية 123]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 127]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129]

- ‌فهرس إجمالى لتفسير سورة الأنفال

- ‌فهرس إجمالى لتفسير آيات سورة التوبة

الفصل: ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35]

[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق، وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس، تنبيها على أن المقصود من إظهار تلك الربوبية والتجبر والفخر، أخذ أموال الناس بالباطل.

ولعمري من تأمل أحوال أهل الناموس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم، وفي شرح أحوالهم، فترى الواحد منهم يدعى أنه لا يلتفت إلى الدنيا، ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات، وأنه في الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويتحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله «1» .

والمراد بالأكل في قوله لَيَأْكُلُونَ مطلق الأخذ والانتفاع.

وعبر عن ذلك بالأكل، لأنه المقصود الأعظم من جمع الأموال، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده، على سبيل المجاز المرسل، بعلاقة العلية والمعلولية. وأكلهم أموال الناس بالباطل، يتناول ما كانوا يأخذونه من سفلتهم عن طريق الرشوة والتدليس أو التحايل أو الفتاوى الباطلة. كما يتناول ما سوى ذلك مما كانوا يأخذونه بغير وجه حق.

(1) تفسير الفخر الرازي ج 16 ص 41.

ص: 267

وأسند- سبحانه- هذه الجريمة- وهي أكل أموال الناس بالباطل- إلى كثير من الأحبار والرهبان ولم يسندها إلى جميعهم، إنصافا للعدد القليل منهم الذي لم يفعل ذلك، فإن كل طائفة أو جماعة لا تخلو من وجود أفراد من بينها يتعففون عن الحرام، ويقيدون أنفسهم بالحلال.

قال صاحب المنار: وإسناد هذه الجريمة المزرية إلى الكثيرين منهم دون جميعهم من دقائق تحرى الحق في عبارات الكتاب العزيز، فهو لا يحكم على الأمة الكبيرة بفساد جميع أفرادها أو فسقهم أو ظلمهم، بل يسند ذلك إلى الكثير أو الأكثر، أو يطلق اللفظ العام ثم يستثنى منه.

فمن الأول قوله- تعالى- في اليهود: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ «1» .

ومن الثاني قوله- تعالى- في اليهود أيضا: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ «2» .

ومن الثالث قوله- سبحانه- في شأن المحرفين للكلم الطاعنين في الإسلام من اليهود- أيضا-: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا «3» .

وقد نبهنا في تفسير هذه الآيات وأمثالها على العدل الدقيق في أحكام القرآن على البشر وإنما نكرره لعظيم شأنه

» «4» .

وقوله: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ جريمة من جرائمهم الكثيرة.

والصد: المنع والصرف عن الشيء.. وسبيل الله: دينه وشريعته.

أى، أن هؤلاء الكثيرين من الأحبار والرهبان لا يكتفون بأكل أموال الناس بالباطل، بل إنهم يضيفون إلى ذلك جريمة ثانية من جرائمهم المتعددة وهي أنهم ينصرفون عن الدين الحق وهو دين الإسلام انقيادا لأحقادهم وشهواتهم، ويصرفون أتباعهم عنه بشتى الوسائل، كأن

(1) سورة المائدة الآيتان 62، 63.

(2)

سورة المائدة الآية 59.

(3)

سورة النساء الآية 46.

(4)

تفسير المنار ج 10 ص 462- بتصرف يسير.

ص: 268

يصفوه لهم بأنه دين باطل، أو بأن رسوله صلى الله عليه وسلم ليس هو الرسول الذي بشرت به الكتب السماوية السابقة

إلى غير ذلك من وسائلهم المتنوعة في صرف الناس عن الحق.

والاسم الموصول في قوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. يرى بعضهم أن المراد به أولئك الأحبار والرهبان، لأن الكلام مسوق في ذمهم، وتكون هذه الجملة ذما لهم على رذيلة ثالثة هي الحرص والبخل، بعد ذمهم على رذيلتي أكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله.

ويرى آخرون أن المراد بهم البخلاء من المسلمين، وأن الجملة مستأنفة لذم مانعي الزكاة بقرينة قوله: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ويكون نظمهم مع أهل السوء من الأحبار والرهبان من باب التحذير والوعيد والإشارة إلى أن الأشحاء المانعين لحقوق الله، مصيرهم كمصير الأحبار والرهبان في استحقاق البشارة بالعذاب.

وترى طائفة ثالثة من العلماء أن المراد به كل من كنز المال، ولم يخرج الحقوق الواجبة فيه، سواء أكان من المسلمين أم من غيرهم، لأن اللفظ مطلق، فيجب إجراؤه على إطلاقه وعمومه، إذ لم يرد ما يقيده أو يخصصه.

وقوله: يَكْنِزُونَ من الكنز، وأصله في اللغة العربية: الضم والجمع.

يقال: كنزت التمر في الوعاء إذا جمعته فيه. وكل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض أو على ظهرها فهو كنز، وجمعه كنوز.

وخص الذهب والفضة بالذكر، لأنهما الأصل الغالب في الأموال ولأنهما اللذان يقصدان بالكنز أكثر من غيرهما.

وقال الفخر الرازي ما ملخصه: ذكر- سبحانه- شيئين هما الذهب والفضة ثم قال:

وَلا يُنْفِقُونَها- وكان الظاهر أن يقول «ولا ينفقونهما» والجواب من وجهين:

الأول: أن الضمير عائد إلى المعنى دون اللفظ، لأن كل واحد منهما جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم فهو كقوله- تعالى- وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا..

أو أن يكون التقدير: والذين يكنزون الكنوز ولا ينفقونها في سبيل الله، فيكون الضمير عائد إلى الكنوز المدلول عليها بالفعل يَكْنِزُونَ.

الثاني: أن يكون الضمير عائد إلى اللفظ، ويكون ذكر أحدهما يغنى عن ذكر الآخر،

ص: 269

كقوله- تعالى- وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «1» جعل الضمير للتجارة

«2» .

وقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ خبر الموصول.

والتعبير بالبشارة من باب التهكم بهم، والسخرية منهم، فهو كقولهم: تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم.

وقوله: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ..

تفصيل لهذا العذاب الأليم، وبيان لميقاته، حتى يقلع البخلاء عن بخلهم، والأشحاء عن شحهم

والظرف يَوْمَ منصوب بقوله: بِعَذابٍ أَلِيمٍ أو بفعل محذوف يدل عليه هذا القول.

أى: يعذبون يوم يحمى عليها، أو بفعل مقدر أى: اذكر يوم يحمى عليها.

وقوله يُحْمى يجوز أن يكون من حميت وأحميت- ثلاثيا ورباعيا- يقال: حميت الحديدة وأحميتها، أى: أوقدت عليها لتحمى.

وقوله: عَلَيْها جار ومجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل. ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل مضمرا، أى: يحمى الوقود أو الجمر عليها.

قال الآلوسى: وأصله تحمى بالنار من قولك: حميت الميسم وأحميته فجعل الإحماء للنار مبالغة لأن النار في ذاتها ذات حمى، فإذا وصفت بأنها تحمى دل على شدة توقدها. ثم حذفت النار، وحول الإسناد إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود بأتم وجه فانتقل من صيغة التأنيث إلى التذكير كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير. فإذا طرحت القصة وأسند الفعل إلى الجار والمجرور قلت: رفع إلى الأمير، وقرأ ابن عامر تحمى بالتاء بإسناده إلى النار كأصله» «3» . والمعنى: بشر- يا محمد- أولئك الذين يكنزون الأموال في الدنيا ولا ينفقونها في سبيل الله، بالعذاب الأليم يوم الحساب يوم تحمى النار المشتعلة على تلك الأموال التي لم يؤدوا حق الله فيها فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ أى: فتحرق بها جباههم التي كانوا يستقبلون بها الناس، والتي طالما ارتفعت غرورا بالمال المكنوز، وتحرق بها- أيضا- «جنوبهم» التي كثيرا ما انتفخت من شدة الشبع وغيرها جائع، وتحرق بها كذلك «ظهورهم» التي نبذت وراءها حقوق الله بجحود وبطر

(1) سورة الجمعة الآية 11.

(2)

تفسير الفخر الرازي ج 16 ص 47- بتصرف وتلخيص. [.....]

(3)

تفسير الآلوسى: ج 10 ص 78.

ص: 270

قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم خصت هذه الأعضاء بالكي؟

قلت: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم- حيث لم ينفقوها في سبيل الله- إلا الأغراض الدنيوية، من وجاهة عند الناس، وتقدم، وأن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم، يتلقون بالجميل ويحيون بالإكرام، ويبجلون ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك، هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم، لا يخطر ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذهب أهل الدثور بالأجر كله» .

وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه، وتولوا بأركانهم، وولوه ظهورهم..» «1» .

وقوله: هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ مقول لقول محذوف.

والتفسير: تقول لهم ملائكة العذاب على سبيل التبكيت والتوبيخ، وهي تتولى حرق جباههم وجنوبهم وظهورهم: هذا العذاب الأليم النازل بكم في الآخرة هو جزاء ما كنتم تكنزونه في الدنيا من مال لمنفعة أنفسكم دون أن تؤدوا حق الله فيه. فذوقوا وحدكم وبال كنزكم. وتجرعوا غصصه، وتحملوا سوء عاقبته فأنتم الذين جنيتم على أنفسكم، لأنكم لم تشكروا الله على هذه الأموال. بل استعملتموها في غير ما خلقت له.

هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى.

1-

التحذير من الانقياد لدعاة السوء، ومن تقليدهم في رذائلهم وقبائحهم ووجوب السير على حسب ما جاء به الإسلام من تعاليم وتشريعات

ولذا قال ابن كثير عند تفسيره للآية الأولى: والمقصود التحذير من علماء السوء، وعباد الضلال، كما قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من أحبار اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من رهبان النصارى.

وفي الحديث الصحيح: «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة» قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» ؟ وفي رواية: فارس والروم؟ قال: «فمن الناس إلا هؤلاء» والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم «2» .

هذا، ونص الحديث الصحيح الذي ذكره الإمام ابن كثير- كما رواه الشيخان- هكذا

(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 268.

(2)

تفسير ابن كثير ج 2 ص 250.

ص: 271

عن أبى سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟

قال: فمن؟ «1» .

أما الحديث الذي جاء فيه حذو القذة بالقذة، فقد أخرجه الإمام أحمد عن شداد بن أوس ونصه:«ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم. أهل الكتاب، حذو القذة بالقذة» «2» .

2-

يرى جمهور العلماء أن المقصود بالكنز في قوله، تعالى، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها.. ألخ المال الذي لم تؤد زكاته، أما إذا أديت زكاته فلا يسمى كنزا، ولا يدخل صاحبه تحت الوعيد الذي اشتملت عليه الآية.

وقد وضح الإمام القرطبي هذه المسألة فقال: واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أولا؟.

فقال قوم: نعم. رواه أبو الضحى عن جعدة بن هبيرة عن على قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كثر فهو كنز وإن أديت زكاته،،،، ولا يصح.

وقال قوم: ما أديت زكاته منه أو من غيره عنه فليس بكنز، قال ابن عمر: ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض.

ومثله عن جابر، وهو الصحيح.

وروى البخاري عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه- يعنى شدقيه- ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك..» .

وفيه أيضا عن أبى ذر قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «والذي نفسي بيده، ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم، لا يؤدى حقها، إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه، تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس» .

فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا. وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا المعنى. قال له أعرابى: أخبرنى عن قول الله. تعالى- وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ..

(1) أخرجه الترمذي في باب ما ذكر عن بنى إسرائيل، ج 4 ص 206 طبعة مصطفى الحلبي سنة 1345 هـ.

(2)

راجع المسند ج 4 ص 125، طبعة عيسى الحلبي. تحقيق الأستاذ أحمد شاكر.

ص: 272

الآية فقال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال.

وروى أبو داود عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ.. كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق فقال: يا نبي الله، إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال صلى الله عليه وسلم «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم» قال: فكبر عمر. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته» «1» .

3-

أخذ بعض الصحابة من هذه الآية تحريم اكتناز الأموال التي تفيض عن حاجات الإنسان الضرورية.

قال ابن كثير: كان من مذهب أبى ذر- رضى الله عنه- تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك، ويحثهم عليه ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه، فنهاه معاوية فلم ينته، فخشي أن يضر بالناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان، وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأنزله بالربذة- وهي بلدة قريبة من المدينة- وبها مات- رضى الله عنه- في خلافة عثمان.

وروى البخاري في تفسير هذه الآية عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة، فإذا بأبى ذر، فقلت له: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنا بالشام فقرأت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. فقال معاوية: ما هذه فينا ما هذه إلا في أهل الكتاب. قال: قلت: إنها لفينا وفيهم.

ثم قال ابن كثير: وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبى ذر: «ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر على ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين» فهذا- والله أعلم- هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا» «2» .

وقال الشيخ القاسمى: قال ابن عبد البر: وردت عن أبى ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش، فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك.

(1) تفسير القرطبي ج 8 ص 125.

(2)

تفسير ابن كثير ج 2 ص 352- بتصرف وتلخيص.

ص: 273

وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابى حيث قال: هل على غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع» «1» .

وحديث طلحة الذي أشار إليه ابن عبد البر، قد جاء في صحيح البخاري ونصه: عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوى صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل على غيرها؟:

قال: «لا.. إلا أن تطوع» ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وصيام رمضان» قال: هل على غيره؟

قال: «لا إلا أن تطوع» ، قال. وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال. هل على غيرها؟ قال «لا إلا أن تطوع» .

قال، فأدبر الرجل وهو يقول. والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص. فقال، رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفلح إن صدق» «2» .

هذا ومما استدل به جمهور الصحابة ومن بعدهم من العلماء، على عدم حرمة اقتناء الأموال التي تفيض عن الحاجة- مادام قد أدى حق الله فيها- ما يأتى:

(أ) أن قواعد الشرع لا تحرم ذلك، وإلا لما شرع الله المواريث لأنه لو وجب إنفاق كل ما زاد عن الحاجة، لما كان لمشروعية المواريث فائدة.

(ب) ثبت في الحديث الصحيح أن سعد بن أبى وقاص عند ما كان مريضا، وزاره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا رسول الله: أأوصى بمالي كله؟ قال: «لا. قال سعد: فالشطر؟

قال: لا. قال سعد: فالثلث؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: فالثلث والثلث كثير. إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس

» «3» .

ولو كان جمع المال واقتناؤه محرما، لأقر النبي صلى الله عليه وسلم سعدا على التصدق بجميع ماله، ولأمر المسلمين أن يحذوا حذو سعد، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، بل قال لسعد:«إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس..» .

وقد كان في عهده صلى الله عليه وسلم من الصحابة من يملكون الكثير من الأموال- كعثمان بن

(1) تفسير القاسمى ج 8 ص 3137.

(2)

صحيح البخاري ج 1 ص 18 باب: الزكاة من الإسلام. من كتاب الإيمان.

(3)

صحيح البخاري ج 4 ص 3 باب «أن يترك ورثته أغنياء» . من كتاب الوصايا.

ص: 274

عفان، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما- ومع هذا فلم يأمرهم بإنفاق كل ما زاد عن حاجتهم الضرورية.

قال القرطبي: قرر الشرع ضبط الأموال وأداء حقها، ولو كان ضبط المال ممنوعا، لكان حقه أن يخرج كله، وليس في الأمة من يلزم هذا. وحسبك حال الصحابة وأموالهم- رضوان الله عليهم- وأما ما ذكر عن أبى ذر فهو مذهب له «1» .

(ج) ما ورد من آثار في ذم الكنز والكانزين كان قبل أن تفرض الزكاة أو هو في حق من امتنع عن أداء حق الله في ماله.

قال صاحب الكشاف. فإن قلت فما تصنع في قوله صلى الله عليه وسلم «من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها» .

قلت. كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأما بعد فرضيتها، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه، ويؤدى عنه ما أوجب عليه فيه، ثم يعاقبه.

ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله يقتنون الأموال ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإعراض اختيار للأفضل، والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه، ولكل شيء حد «2» » .

4-

أن الإسلام وإن كان قد أباح للمسلم اقتناء المال- بعد أداء حق الله فيه- إلا أنه أمر أتباعه أن يكونوا متوسطين في حبهم لهذا الاقتناء، حتى لا يشغلهم حب المال عن طاعة الله.

ورحم الله الإمام الرازي، فقد قال عند تفسيره لهذه الآيات ما ملخصه، اعلم أن الطريق الحق أن يقال، الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير، إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع. فالأول محمول على التقوى والثاني على ظاهر الفتوى.

أما بيان أن الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فلوجوه منها:

أن كثرة المال سبب لكثرة الحرص في الطلب، والحرص متعب للروح والنفس والقلب..

والعاقل هو الذي يحترز عما يتعب روحه ونفسه وقلبه. وأن كسب المال شاق شديد وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب، فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل وأخرى

(1) تفسير القرطبي ج 8 ص 131.

(2)

تفسير الكشاف ج 2 ص 268.

ص: 275