الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومعتب بن قشير، وأصحابهما من المنافقين، وكانوا ثمانين رجلا، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة ألا يجالسوهم ولا يكلموهم فامتثلوا» «1» .
وقال- سبحانه- فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ولم يقل فإن الله لا يرضى عنهم، لتسجيل الفسق عليهم، وللإيذان بشمول هذا الحكم لكل من كان مثلهم في الفسوق وفي الخروج عن طاعة الله، تعالى.
وجواب الشرط في قوله: فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ محذوف، والتقدير: فإن ترضوا عنهم على سبيل الفرض، فإن رضاكم عنهم لن ينفعهم، لأن الله تعالى. لا يرضى عن القوم الذين خرجوا عن طاعته.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت جانبا آخر من الأحوال القبيحة للمنافقين، وردت على معاذيرهم الكاذبة، وأيمانهم الفاجرة بما يفضحهم ويخزيهم، وتوعدتهم بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
ثم بعد الحديث الطويل عن النفاق والمنافقين، أخذت السورة الكريمة. في الحديث عن طوائف أخرى منها الصالح، ومنها غير الصالح، وقد بدأت بالحديث عن الأعراب سكان البادية، فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (9) : الآيات 97 الى 99]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
(1) تفسير الآلوسى ج 11 ص 4.
قال صاحب المنار: قوله، سبحانه: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً. بيان مستأنف لحال سكان البادية من المنافقين، لأنه مما يسأل عنه بعد ما تقدم في منافقي الحضر من سكان المدينة وغيرها من القرى.
والأعراب: اسم جنس لبدو العرب، واحده: أعرابى، والأنثى أعرابية، والجمع أعاريب، والعرب: اسم جنس لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة، بدوه وحضره، واحده:
عربي..» «1» .
والمراد بالأعراب هنا: جنسهم لا كل واحد منهم، بدليل أن الله. تعالى. قد ذم من يستحق الذم منهم، ومدح من يستحق المدح منهم، فالآية الكريمة من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده.
وقد بدأ، سبحانه، بذكر المنافقين من الأعراب قبل المؤمنين منهم، إلحاقا لهم بمنافقى المدينة الذين تحدثت السورة عنهم قبل ذلك مباشرة حديثا مستفيضا، وبهذا الترتيب الحكيم تكون السورة الكريمة قد واصلت الحديث عن منافقي الحضر والبدو.
والمعنى: «الأعراب» سكان البادية «أشد كفرا ونفاقا» من الكفار والمنافقين الذين يسكنون الحضر والقرى.
وذلك، لأن ظروف حياتهم البدوية، وما يصاحبها من عزلة وكر وفر في الصحراء، وخشونة في الحياة
…
كل ذلك جعلهم أقسى قلوبا، وأجفى قولا، وأغلظ طبعا، وأبعد عن سماع ما يهدى نفوسهم إلى الخير من غيرهم سكان المدن.
وقوله: وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ معطوف على ما قبله لتعديد صفاتهم الذميمة.
قال القرطبي: قوله: «وأجدر» عطف على «أشد» ومعناه: أخلق، وأحق، يقال:
فلان جدير بكذا، أى: خليق به. وأنت جدير أن تفعل كذا، والجمع جدراء وجديرون، وأصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء فقوله: هو أجدر بكذا، أى: أقرب إليه وأحق به «2» .
والمعنى: الأعراب أشد كفرا ونفاقا من أهل الحضر الكفار والمنافقين، وهم كذلك أحق وأخلق من أهل الحضر بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، بسبب ابتعادهم عن مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم مشاهدتهم لما ينزل عليه صلى الله عليه وسلم من شرائع وآداب وأحكام.
(1) تفسير المنار ج 11 ص 8.
(2)
تفسير القرطبي ج 8 ص 233.
وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أى: «عليم» بأحوال عباده الظاهرة والباطنة لا يخفى عليه شيء من صفاتهم وطباعهم «وحكيم» في صنعه بهم، وفي حكمه عليهم، وفيما يشرعه لهم من أحكام، وفيما يجازيهم به من ثواب أو عقاب.
هذا، وقد ذكر المفسرون هنا أمثلة متعددة لجفاء الأعراب وجهلهم، ومن ذلك قول الإمام ابن كثير:
قال الأعمش عن إبراهيم قال: جلس أعرابى إلى زيد بن صوهان، وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم «نهاوند» فقال الأعرابى: والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبنى!! فقال زيد: وما يريبك من يدي؟ إنها الشمال!! فقال الأعرابى: والله ما أدرى اليمين يقطعون أو الشمال!! فقال زيد: صدق الله إذ يقول: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ
…
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن» .
وروى الإمام مسلم عن عائشة قال: قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقال صلى الله عليه وسلم نعم. فقالوا: لكنا والله ما نقبل!! فقال صلى الله عليه وسلم «وما أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة» «1» .
ثم بين- سبحانه- حال فريق آخر من منافقي الأعراب فقال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً.
أى: ومن الأعراب قوم آخرون يعتبرون ما ينفقونه في سبيل الله غرامة وخسارة عليهم لأنهم لا ينفقون ما ينفقونه طمعا في ثواب، أو خوفا من عقاب وإنما ينفقونه تقية ورياء ومداراة للمسلمين، لا مساعدة للغزاة والمجاهدين، ولا حبا في انتصار المؤمنين.
قال الجمل: وقوله: «من يتخذ ما ينفق مغرما» «من» مبتدأ، وهي موصولة أو موصوفة، و «مغرما» . مفعول ثان، لأن «اتخذ» هنا بمعنى صير، والمفعول الأول قوله:«ما ينفق» .
والمغرم: الخسران، مشتق من الغرم وهو الهلاك لأنه سببه، وقيل أصله الملازمة، ومنه الغريم للزومه من يطالبه» «2» .
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 283 بتصرف وتلخيص.
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 2 ص 211.
وقوله: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ معطوف على ما قبله، والتربص: الانتظار والترقب والدوائر: جمع دائرة. وهو ما يحيط بالإنسان من مصائب ونكبات، كما تحيط الدائرة بالشيء الذي بداخلها.
أى: أنهم بجانب اعتبارهم ما ينفقونه غرامة وخسارة، ينتظرون بكم- أيها المؤمنون- صروف الدهر ونوائبه التي تبدل حالكم من الخير إلى الشر ومن النصر إلى الهزيمة، ومن الصحة إلى المرض والأسقام، ومن الأمان والاطمئنان إلى القلق والاضطراب..
وقوله: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ جملة معترضة، جيء بها للدعاء عليهم.
أى: عليهم لا عليكم- أيها المؤمنون- تدور دائرة السوء، التي يتبدل بها حالهم إلى الهلاك والفساد.
والسوء- بفتح السين- مصدر ساءه يسوءه سوءا، إذا فعل به ما يكره، والسوء- بالضم- اسم منه. وقيل المفتوح بمعنى الذم، والمضموم بمعنى العذاب والضرر.
وإضافة الدائرة إلى السوء من إضافة الموصوف إلى صفته للمبالغة، كما في قولهم: رجل صدق.
وفي هذا التعبير ما فيه من الذم لهؤلاء المنافقين، لأنه- سبحانه- جعل السوء كأنه دائرة تطبق عليهم فلا تفلتهم، وتدور بهم فلا تدع لهم مهربا أو منجاة من عذابها وضررها.
وقوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تذييل قصد به تهديدهم وتحذيرهم بما ارتكسوا فيه من نفاق وكفر وشقاق.
والله تعالى- «سميع» لكل ما يتفوهون به من أقوال، «عليم» بكل ما يظهرونه وما يبطنونه من أحوال، وسيحاسبهم على ما صدر منهم حسابا عسيرا يوم القيامة: وينزل بهم العقاب الذي يناسب جرائمهم..
وبعد أن ذكر- سبحانه- حال هؤلاء الأعراب المنافقين، أتبعه ببيان حال المؤمنين الصادقين منهم فقال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
أى: ومن الأعراب قوم آخرون من صفاتهم أنهم يؤمنون بالله إيمانا صادقا، ويؤمنون باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب.
وقوله: وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ مدح لهم على إخلاصهم وسخائهم وطاعتهم
…
والقربات: جمع قربة وهي ما يتقرب به الإنسان إلى خالقه من أعمال الخير، والمراد
بصلوات الرسول: دعواته للمتقربين إلى الله بالطاعة.
أى: ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا حقا، ويعتبر كل ما ينفقه في سبيل الله وسيلة للتقرب إليه- سبحانه- وتعالى بالطاعة، ووسيلة للحصول على دعوات الرسول صلى الله عليه وسلم له بالرحمة والمغفرة، وبحسنات الدنيا والآخرة.
ولقد كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، فقد ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لآل أبى أوفى عند ما تقدموا إليه بصدقاتهم فقال:«اللهم صل على آل أبى أوفى» أى: ارحمهم وبارك لهم في أموالهم..
وقوله: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ شهادة لهم منه سبحانه- بصدق إيمانهم، وخلوص نياتهم، وقبول صدقاتهم.
والضمير في قوله إِنَّها يعود على النفقة التي أنفقوها في سبيل الله وأَلا أداة استفتاح جيء بها لتأكيد الخبر والاهتمام به. أى: ألا إن هذه النفقات التي تقربوا بها إلى الله، مقبولة عنده- سبحانه- قبولا مؤكدا، وسيجازيهم عليها بما يستحقون من أجر جزيل
…
وقوله سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ وعد لهم بإحاطة رحمته بهم. والسين للتحقيق والتأكيد.
أى: أن هؤلاء المؤمنين بالله واليوم الآخر، والمتقربين إليه سبحانه بالطاعات، سيغمرهم الله تعالى برحمته التي لا شقاء معها.
قال صاحب الكشاف: وقوله: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات، وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفى التنبيه والتحقيق المؤذنتين بثبات الأمر وتمكنه، وكذلك قوله:
سَيُدْخِلُهُمُ وما في السين من تحقيق الوعد. وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأن الصدقة منه بمكان، إذا خلصت النية من صاحبها «1» .
وقوله: «إن الله غفور رحيم» تذييل مقرر لما قبله على سبيل التعليل.
أى: إن الله تعالى- واسع المغفرة، كثير الرحمة للمخلصين الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ذمت من يستحق الذم من الأعراب ومدحت من يستحق المدح منهم، وبينت مصير كل فريق ليكون عبرة للمعتبرين وذكرى للمتذكرين.
(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 314. [.....]