الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وبين غيرهم ممن لم يفعل فعلهم، ولم يجاهد جهادهم
…
وبعد أن بين- سبحانه- ما أعده من عطاء عظيم للمؤمنين الصادقين، الذين هاجروا وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم
…
أتبع ذلك بتوجيه نداء إليهم، حثهم فيه على أن يجردوا أنفسهم لعقيدتهم، وأن يقاطعوا أعداءهم في الدين مهما بلغت درجة قرابتهم منهم، وأن يؤثروا حب الله ورسوله على كل شيء من زينة الحياة الدنيا فقال- تعالى-:
[سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)
والمعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا حقا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ المشركين أَوْلِياءَ وأصدقاء تفشون إليهم أسراركم، وتطلعونهم على ما لا يجوز اطلاعهم عليه من شئونكم، وتلقون إليهم بالمودة.. فإن ذلك يتنافى مع الإيمان الحق، ومع الإخلاص للعقيدة وإيثارها على كل ما سواها من زينة الحياة.
والمراد النهى لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة أى فرد من أفراد المشركين، لأن الجمع إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد، كما في قوله- تعالى- وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ «1» .
(1) سورة آل عمران الآية 192.
قال القرطبي: وخص- سبحانه- الآباء والإخوة إذ لا قرابة أقرب منها. فنفى الموالاة بينهم ليبين أن القرب قرب الأديان لا قرب الأبدان.
ولم يذكر الأبناء في هذه الآية، إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء. والإحسان والهبة مستثناة من الولاية. قالت أسماء: يا رسول الله إن أمى قدمت على راغبة وهي مشركة أفأصلها؟ قال نعم. «صلى أمك» «1» .
وقوله- سبحانه-: إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ قيد في النهى عن اتخاذهم أولياء. والاستحباب: طلب المحبة: يقال: استحب له بمعنى أحبه كأنه طلب محبته.
أى: لا تتخذوهم أولياء إن اختاروا الكفر على الإيمان وأصروا على شركهم وباطلهم..
أما إذا أقلعوا عن ذلك ودخلوا في دينكم، فلا حرج عليكم من اتخاذهم أولياء وأصفياء.
وقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تذييل قصد به الوعيد والتهديد لمن يفعل ذلك.
أى: ومن يتولهم منكم في حال استحبابهم الكفر على الإيمان، فأولئك الموالون لهم هم الظالمون لأنفسهم، لأنهم وضعوا الموالاة في غير موضعها، وتجاوزوا حدود الله التي نهاهم عن تجاوزها، وسيجازيهم- سبحانه- على ذلك بما يستحقونه من عقاب.
ثم أمر- سبحانه- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن للناس هذه الحقيقة: وهي أن محبة الله ورسوله يجب أن تفوق كل محبة لغيرهما فقال- تعالى-: قُلْ يا محمد لمن اتبعك من المؤمنين: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ الذين أنتم بضعة منهم، وَأَبْناؤُكُمْ الذين هم قطعة منكم وَإِخْوانُكُمْ الذين تربطكم بهم وشيجة الرحم وَأَزْواجُكُمْ اللائي جعل الله بينكم وبينهن مودة ورحمة وَعَشِيرَتُكُمْ أى: أقاربكم الأدنون الذين تربطكم بهم رابطة المعاشرة والعصبة وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها أى: اكتسبتموها فهي عزيزة عليكم.
وأصل القرف والاقتراف قشر اللحاء عن الشجر، والجلدة عن الجرح ثم استعير الاقتراف للاكتساب مطلقا:
وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها أى: تخافون بوارها وعدم رواجها بسبب اشتغالكم بغيرها من متطلبات الإيمان.
يقال: كسد الشيء من باب نصر وكرم. كسادا وكسودا، إذا قل رواجه وربحه.
وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أى: ومنازل تعجبكم الإقامة فيها.
(1) تفسير القرطبي ج 8 الآية 94.
قل لهم يا محمد: إن كان كل ذلك- من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة، والأموال، والتجارة، والمساكن- أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ.
أى: إن كانت هذه الأشياء أحسن في نفوسكم وأقرب إلى قلوبكم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق، فانتظروا حتى يحكم الله فيكم، وهو العذاب العاجل أو العقاب الآجل.
فالجملة الكريمة تهديد وتخويف لمن آثر محبة الآباء والأبناء
…
على محبة الله ورسوله، وعلى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الدين.
وقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تذييل قصد به تأكيد التهديد السابق أى:
والله- تعالى- قد اقتضت حكمته أن لا يوفق القوم الخارجين عن حدود دينه وشريعته إلى ما فيه مثوبته ورضاه.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى:
(1)
تحريم موالاة الكافرين مهما بلغت درجة قرابتهم، واعتبار هذه الموالاة من الكبائر، لوصف فاعلها بالظلم: قال- تعالى-: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
(2)
قوة إيمان الصحابة، وسرعة امتثالهم لأوامر الله، فإنهم في سبيل عقيدتهم قاطعوا أقرب الناس إليهم ممن خالفوهم في الدين، بل وحاربوهم وقتلوهم.
قال ابن كثير: روى الحافظ البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبى عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه. فلما أكثر الجراح، قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله فيه هذه الآية- التي بآخر سورة المجادلة- لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ، أَوْ أَبْناءَهُمْ، أَوْ إِخْوانَهُمْ، أَوْ عَشِيرَتَهُمْ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» .
(3)
إن المؤمن لا يتم إيمانه إلا إذا كانت محبته لله ورسوله مقدمة على كل محبوب، وقد وردت عدة أحاديث في هذه المعنى، ومن ذلك ما أخرجه البخاري والإمام أحمد عن أبى عقيل
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 342.
زهرة بن معبد أنه سمع جده عبد الله بن هشام قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» فقال عمر: فأنت والله أحب إلى من نفسي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الآن يا عمر» «1» .
(4)
في الآية الثانية دليل على أنه إذا تعارضت مصلحة من مصالح الدين مع مهمات الدنيا، وجب ترجيح جانب الدين على الدنيا ليبقى الدين سليما، وهذا عمل لا يستطيعه إلا الأتقياء.. ولذا قال الإمام الزمخشري: وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها. كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين. فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دينه، ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله؟ أم يزوى الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدرى أى طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين، فلا يبالى كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟ «2» .
(5)
قال بعض العلماء: وليس المطلوب. من قوله- تعالى- قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ
…
إلخ. أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة، ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة.. كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يفرغ لها القلب، ويخلص لها الحب، وأن تكون هي المسيطرة الحاكمة، وهي المحركة الدافعة. فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة، على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة.
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع، وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الحياة؟ فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة والعشيرة والزوج.. ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن. ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق. في غير سرف ولا مخيلة.
بل إن المتاع حينئذ لمستحب، باعتباره لونا من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده. وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب.
ثم انتقلت السورة الكريمة من نهى المؤمنين عن موالاة المشركين مهما بلغت درجة قرابتهم، وعن إيثارهم محبة الآباء والأبناء على محبة الله.. انتقلت من ذلك إلى تذكيرهم بجانب من نعم
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 343.
(2)
تفسير الكشاف ج 2 ص 257.