الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.. وَافْعَلْ بِهِ مَا أَنْتَ أَهْلُ جَمِيلِهِ
…
وَالظَّنُّ كُلَّ الظَّنِّ أَنَّكَ فَاعِلُ
اللَّهُمَّ إِنَا ظلمنا أنفسنا فاغفر لَنَا ذنوبنا وهب لَنَا تقواك واهدنا بهداك ولا تلكنا إِلَى أحد سواك. واجعل لَنَا من كُلّ هم فرجًا ومن كُلّ ضيق مخرجًا. اللَّهُمَّ أعذنا بمعافتك من عقوبتك وبرضاك من سخطك. اللَّهُمَّ إِنَا نسالك التَّوْفِيق للهداية والبعد عَنْ أسباب الجهالة والغواية ونسألك الثبات على الإِسْلام والسُنَّة وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ونعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر مَنْهَا وما بطن ونسألك أن تنصر دينك وكتابك ورسولك وعبادك الْمُؤْمِنِينَ وأن تظهر دينك على الدين كله ولو كره الكافرون. وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآلِهِ وسلم.
" فَصْلٌ "
قَالَ ابن القيم رحمه الله:
لذة كُلّ أحد على حسب قدره وهمته وشرف نَفْسهُ
فأشرف النَّاس نفسًا وأعلاهم همة وأرفعهم قدرًا من لذته فِي معرفة الله ومحبته والشوق إِلَى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه فلذته فِي إقباله عَلَيْهِ وعكوف همته عَلَيْهِ.
ودون ذَلِكَ مراتب لا يحصيها إلا الله حَتَّى تنتهي إِلَى من لذته فِي أخس الأَشْيَاءِ من القاذورات والفواحش فِي كُلّ شَيْء من الكلام والأفعال والأشغال فلو عرض عَلَيْهِ ما يلتذ به الأول لم تسمح نَفْسهُ بقبوله ولا الالتفات إليه، وَرُبَّمَا تألمت من ذَلِكَ كما أن الاول إِذَا عرض عَلَيْهِ ما يلتذ به هَذَا لم تسمح نَفْسهُ به ولم تلتفت إليه ونفرت نَفْسهُ منه، وأكمل النَّاس لذة من جمَعَ لَهُ بين لذة الْقَلْب والروح ولذة البدن فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخِرَة ولا يقطع عَلَيْهِ لذة المعرفة والمحبة والأنس بربه فهَذَا ممن قَالَ تَعَالَى فيه {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
وأبخسهم حظًا من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخِرَة فيكون ممن يقَالَ لَهُمْ يوم استيفاء اللذات {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} . فهؤلاء تمتعوا بالطيبات وأولئك تمتعوا وافترقوا فِي وجه التمتع فأولئك تمتعوا بها على الوجه الذي أذن فيه فجمَعَ لَهُمْ بين لذة الدُّنْيَا والآخِرَة وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة، وسواء أذن لَهُمْ فيه أم لا انقطعت عنهم لذة الدُّنْيَا وفاتهم لذة الآخِرَة. فلا لذة الدُّنْيَا دامت ولا لذة الآخِرَة حصلت لَهُمْ فمن أحب اللذة ودوامها والعيش الطيب فليجعل لذة الدُّنْيَا موصلة إِلَى لذة الآخِرَة بأن يستعين على فراغ قَلْبهُ لله إرادته وعبادته فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه لا بحكم مجرد الشهوة والهوى وإن كَانَ ممن زويت عَنْهُ لذات الدُّنْيَا فليجعل ما نقص مَنْهَا زيادة فِي لذة الآخِرَة ويجم نَفْسهُ ها هنا. بالترك ليستوفيها كاملة هناك. فطيبات الدُّنْيَا ولذاتها نعم العون لمن صح طلبه لله والدار الآخِرَة وكَانَتْ همته لما هناك. وبئس القاطع لمن كَانَتْ هِيَ مقصوده وهمته وحولها يدندن وفواتها فِي الدُّنْيَا نعم العون لطالب الله والدار الآخِرَة، وبئس القاطع النازع من الله والدار الآخِرَة فمن أخذ منافع الدُّنْيَا على وجه لا ينقص حظه من الآخِرَة ظفر بهما جميعًا وإلا خسرهما جميعًا.
وَقَالَ رحمه الله:
سبحان الله رب العالمين لو لم يكن فِي ترك الذُّنُوب والمعاصي إلا إقامة المروءة وصون العرض وحفظ الجاه وصيانة الْمَال الَّذِي جعله الله قوامًا لمصالح الدُّنْيَا والآخِرَة ومحبة الخلق وجواز القول بينهم.
وصلاح المعاش وراحة البدن وقوة الْقَلْب وطيب النفس ونعيم الْقَلْب وانشراح الصدر والأمن من مخاوف الفساق والفجار وقلة الهم والغم والحزن وعز النفس عَنْ احتمال الذل وصون نور الْقَلْب أن تطفئه ظلمة المعصية وحصول المخَرَجَ لَهُ مِمَّا ضاق على الفساق والفجار.
وتيسير الرزق عَلَيْهِ من حيث لا يحتسب وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي وتسهيل الطاعات عَلَيْهِ وتيسير العلم والثناء الحسن فِي النَّاس وكثرة الدُّعَاء لَهُ والحلاوة التِي يكتسبها وجهه والمهابة التِي تلقى لَهُ فِي قُلُوب النَّاس.
شِعْرًا:
…
يَشْقَى رِجَالُ وَيَشْقَى آخَرُونَ بِهُمْ
…
وَيُسْعِدُ الله أَقْوَامًا بِأَقْوَامِ
وَلَيْسَ رِزْقُ الْفَتَى مِنْ حُسْنِ حِيلَتِهِ
…
لَكِنْ حُظُوظُ مِنَ اللهِ لأَقْوَامِ
كَالصَّيْدِ يُحْرمُهُ الرَّامِي الْمُجِيدُ وَقَدْ
…
يَرْمِي فَيَرْزُقُهَ مَنْ لَيْسَ بِالرَّامِي
وَانْتِصَارُهُمْ لَهُ وحميتهم لَهُ إِذَا أوذي أَوْ ظلم وذبهم عَنْ عرضه إِذَا اغتابه مغتاب وسرعة إجابة دعائه وزَوَال الوحشة التِي بينه وبين الله وقرب الملائكة منه. وبعد شياطين الإنس والجن منه وتنافس النَّاس على خدمته.
وخطبهم لمودته وصحبته وعدم خوفه من الموت بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه لَهُ ومصيره إليه وصغر الدُّنْيَا فِي قَلْبهُ وكبر الآخِرَة عنده وحرصه على الملك الكبير والفوز العَظِيم فيها وذوق حلاوة الطاعة ووَجَدَ حلاوة الإِيمَان ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة لَهُ وفرح الكرام الكاتبين به ودعاءهم لَهُ كُلّ وَقْت والزيادة فِي عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته وحصول محبة الله لَهُ وإقباله عَلَيْهِ وفرحه بتوبته.
فهَذَا بَعْض آثار ترك المعاصي فِي الدُّنْيَا فإذا مَاتَ تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالْجَنَّة وبأنه لا خوف عَلَيْهِ ولا يحزن وينتقل من سجن الدُّنْيَا وضيقها إِلَى روضة من رياض الْجَنَّة ينعم فيها إِلَى يوم القيامة
فإذا كَانَ يوم القيامة كَانَ النَّاس فِي الحر والعرق وَهُوَ فِي ظِلّ العرش فاذا انصرفوا بين يدي الله أخذ به ذات اليمين مَعَ أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العَظِيم وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم
"فَصْلٌ "
وقَالَ رحمه الله: وَمِمَّا ينبغي أن يعلم: أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إِلَى الْعَبْد وإن كرهتها نَفْسهُ وشقت عَلَيْهَا فهذه هِيَ الرحمة الحقيقية. فارحم النَّاس بك من شق عَلَيْكَ فِي إيصال مصالحك ودفع المضار عَنْكَ.
فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأديب بالعلم والْعَمَل ويشق عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بالضرب وغيره ويمنعه شهواته التِي تعود بضرره ومتى أهمل ذَلِكَ من ولده كَانَ لقلة رحمته به. وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه ويريحه فهذه رحمة مقرونة بجهل كرحمة الأم لهَذَا كَانَ من تمام رحمة أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ تسليط أنواع البَلاء على الْعَبْد فإنَّه أَعْلَمُ بمصلحته فابتلاؤه لَهُ وامتحانه ومنعه من أغراضه وشهواته: من رحمته به ولكن الْعَبْد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلاءه ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه.
وقَدْ جَاءَ فِي الأثر: أن المبتلى إِذَا دُعِيَ لَهُ: اللَّهُمَّ ارحمه يَقُولُ الله سُبْحَانَهُ: كيف أرحمه من شَيْء به أرحمه. وفي أثر آخر: إن الله تَعَالَى إِذَا أحب عبده حماه الدُّنْيَا وطيباتها وشهواتها كما يحمى أحدكم مريضه.
فهَذَا من تمام رحمته به لا من بخله عَلَيْهِ. كيف وَهُوَ الجواد الماجد الَّذِي لَهُ الجود كله وجود الخلائق فِي جنب جوده أقل من ذرة فِي جبال الدُّنْيَا ورمالها.
فمن رحمته سُبْحَانَهُ بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة وحمية لا حَاجَة منه إليهم بما أمرهم به فهو الغني الحميد ولا بخلاً منه عَلَيْهمْ بما نهاهم عَنْهُ فهو الجواد الكريم.
ومن رحمته أن نغص عَلَيْهمْ الدُّنْيَا وكدرها لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا فِي النَّعِيم الْمُقِيم فِي داره وجواره فساقهم إِلَى ذَلِكَ بسياط الابتلاء والامتحان فمنعهم ليعطيهم وابتلاهم ليعاقبهم وأماتهم ليحييهم.
ومن رحمته بِهُمْ: أن حذرهم نَفْسهُ لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به كما قَالَ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} . قَالَ غير واحد من السَّلَف: من رأفته بالعباد حذرهم من نَفْسهُ لئلا يغتروا به.
اللَّهُمَّ قابل سيئاتنا بإحسانك واستر خطئتنا بغفرانك وأذهب ظلمة ظلمنا بنور رضوانك واقهر عدونا بعز سلطانك فما تعوذها منك إلا الجميل، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
شِعْرًا:
…
أَتَأَمَلُ فِي الدُّنْيَا تُجِدُ وَتَعْمُرُ
…
وَأَنْتَ غَدًا فِيهَا تَمُوتُ وَتُقْبَرُ
تُلَقِّحُ آمَالاً وَتَرْجُو نِتَاجَهَا
…
وَعُمْرُكَ مِمَّا قَدْ تَرْجِيهِ قَصرُ
تَحُومُ عَلَى إِدْرَاكِ مَا قَدْ كُفِيتَهُ
…
وَتَقْبَل فِي الآمَالِ فِيهَا وَتُدْبِر
وَهَذَا صَبَاحُ الْيَوْم يَنْعَاكَ ضُوءه
…
وَلَيْلَتِهِ تَنْعَاكَ إِنْ كَنْتَ تَشْعُر
وَرِزْقَكَ لا يَعَدُوكَ إِمَّا مُعَجّل
…
عَلَى حَالِهِ يَوْمًا وَإِمّا مؤخر
فَلا تَأَمَنِ الدُّنْيَا وَإِنْ هِيَ أَقْبَلَتْ
…
عَلَيْكَ فَمَا زَالَتْ تَخُونُ وَتَغْدُرُ
فَمَا تَمَّ فِيهَا الصَّفْو يَوْمًا لأَهْلِهِ
…
وَلا الرَّنْقَ إِلا رَيْثَمَا يَتَغَيّرُ
شِعْرًا:
…
وَمَا لاحَ نِجْمٌ لا وَلا ذَرَّ شَارِق
…
عَلَى الْخَلْقِ إِلا بِحَبْلِ عُمْرِكَ يَقْصُرُ
تَطَهَّرْ وَالْحِقْ ذَنْبَكَ الْيَوْم تَوْبَة
…
لَعَلَّكَ مَنْهَا إِنْ تَطَهَّرَتْ تَطْهُرْ
وَشَمِّرْ فَقَدْ أَبَدَى لَكَ الْمَوْتُ وَجْهَهُ
…
وَلَيْسَ يَنَالُ الْفَوْز إِلا مُشَمِّر
فَهَذِه الليَالِي مُؤْذِنَاتِكَ بِالْبَلَى
…
تَرُوحُ وَأَيْامِ كَذَلِكَ تُبَكَّر
وَاخْلِصْ لِدِينِ الله صَدْرًا وَنِيَّةً
…
فَإِنَّ الَّذِي تُخْفِيهِ يَوْمًا سَيَظْهَرُ
تَذَكَّرْ وَفَكَّرْ بِالَّذِي أَنْتَ صَائِرٌ
…
إِلَيْهِ غَدًا إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يُفَكِّر
فَلابُدَّ يَوْمًا إِنْ تَصِيرَ لِحُفْرَةٍ
…
بِأَثْنَائِهَا تُطْوَى إِلَى يَوْمِ تُنْشَرُ
اللَّهُمَّ اسلك بنا سبيل عبادك الأبرار وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المصطفين الأخيار وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِالْعَفْوِ وَالْعِتْقِ مِنْ النَّار واحفظنا من المعاصي فيما بَقي من الأعمار وأحسن بكرمك قصدنا واحشرنا فِي زمرة عبادك المتقين وألحقنا بعبادك الصالحين يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وإياك وَجَمِيع المسلمبن لما يحبه الله ويرضاه أن الصبر من أجل صفات النفس وأعلاها قدرًا وَهُوَ لغة حبس النفس عَنْ الجزع أي منعها من الاستسلام للجزع كى لا يترتب عَلَيْهِ فعل ما لا ينبغى فعله وبعبارة أخرى الصبر ثبات القوة المضادة للشهوة فِي مقاومتها.
وما شرعًا فهو أعَمّ من ذَلِكَ لأنه حبس النفس عَنْ الجزع ومنعها عَنْ محارم الله، وإلزامها بأداء فرائض الله يدل عَلَيْهِ ما رُوِيَ عَنْ ابن عباس رضي الله عنهما أنه قَالَ: الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه صبر على أداء فرائض الله وصبر عَنْ محارم الله، وصبر على المصيبة عَنْدَ الصدمة الأولى.
شِعْرًا:
…
وَعَاقِبَةُ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ حَمِيدَةٌ
…
وَأَفْضَلُ أَخْلاقِ الرِّجَالِ التَّدَيُّنُ
وَلا عَارَ إِنْ زَالَتْ عَنْ الْمَرْءِ نَعْمَةٌ
…
وَلَكِنْ عَارًا أَنْ يَزُولَ التَّدَيُّنُ
آخر:
…
إِذَا قُدِّرَ عَلَيْكَ أُخَّيَّ أَمْرًا
…
بِمَكْرُوهٍ تَعَاظَمَ أَوْ بَلِيَّهْ
فَلا تَعْجَلْ وَثِقْ بِاللهِ وَاصْبِرْ
…
فَلِلرَّحْمَنِ أَلْطَافٌ خَفِيَّهَ
وَإِيَّاكَ الْمَطَامِعَ وَالأَمَانِي
…
فَكَمْ أُمْنِيَّةِ جَلَبَتْ مَنِيَّهْ
وَقَالَ ابن القيم: الصبر حبس النفس عَنْ التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عَنْ الشكوى، وحبس الْجَوَارِح عَنْ المعصية. فمدار الصبر على هَذِهِ الأركَانَ الثلاثة فإذا قام بها الْعَبْد كما ينبغي انقلبت المحنة فِي حقه منحة واستحالة البلية عطية وصار المكروه محبوبًا.
فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه لميتحن صبره وعبوديته، فَإِنَّ لله تَعَالَى على الْعَبْد عبودية فِي الضراء كما لَهُ عَلَيْهِ عبودية فِي السراء، وله عبودية عَلَيْهِ فيما يكره كما لَهُ عَلَيْهِ عبودية فيما يحب. أ. هـ.
شِعْرًا:
…
اذا اشتد عسر فارج يسرًا فإنه
…
قضى الله أن العسر يتبعه اليسر
وعرف الصبر بَعْضهمْ بأنه باعث الدين أمام باعث الهوى، فَأَمَّا باعث الدين فهو قدرة العقل على قهر الشهوة والْغَضَب، لأنهما بطغيانهما يقودان المرء إِلَى ما لا يقره الدين ولا يرضاه العقل، فإذا ثَبِّتْ العقل أمام الشهوة والْغَضَب وقام بوظيفته على الوجه المطلوب فلا يجعل لهما عَلَيْهِ سلطانًا.
ولا يسمح لهما بالطغيان، فينقاد لهما صاغرًا بل يكون هُوَ الآمْر الناهي فيسلك بهما سبيل الاعتدال، بلا إفراط ولا تفريط فإنه بذَلِكَ يستطيع بإذن الله أن يظفر بالصبر، عَنْ ما حرم الله والصبر على طاعته، وأن يحبس نَفْسهُ عَنْ الجزع عَنْدَ المصيبة، فلا يستفزه الجزع إِلَى قوله، أَوْ عمل ما لا يرضاه الله مهما كَانَ لنفسه فيه لذة.
ومن ذَلِكَ الصبر على ايذاء النَّاس إياه، فإنه إِذَا اغضبه أحد بقول أَوْ
عمل، فَإِنَّ غضبه لا يطغى عَلَيْهِ، فيحمله على تعدى حُدُود اللهِ بل يكفيكهم غضبه حَتَّى يجرى على سنن الدين من القصاص العادل، أَوْ العفو إن كَانَ فيه مصلحة.
وقِيْل فِي تعريفه هُوَ الثبات على الكتاب والسُنَّة، والتمشى مَعَ إرشاداتهما، لأن من ثَبِّتْ عَلَيْهِمَا فقَدْ صبر على المصائب، وعلى أداء العبادات، وعلى اجتناب المحرمَاتَ.
ثُمَّ ان الصبر يسمى بأسماء مختلفة فمثلاً الصبر عَنْ شهوة الفرج والبطن أَوْ الْمَال الحرام يسمى عفة وورعًا ومنعها عن الجزع والفرار عَنْدَ لقاء الْعَدُوّ يسمى شجاعة ويقابله الجبن، ومنعها عَنْ التعدي على الغير عَنْدَ ثورة الْغَضَب يسمى حلمًا، وشجاعة، ويقابله التذمر والطيش.
وعن إفشاء السِّرّ يسمى كتمان السِّرّ، وعن الإسراف فِي المآكل والمشارب يسمى زهدًا، وعن الغرور بالثروة والْمَال يسمى ضبط النفس، ويقابله البطر والخلاصة أن الصبر فضيلة يحتاجها المسلم فِي دينه ودنياه.
فيجب على الإنسان أن يوطن نَفْسهُ على احتمال الشدائد والمكاره دون ضجر وانتظار النتائج مهما بعدت فكل ما هُوَ آت قريب، وعَلَيْهِ أن يوطنها على مواجة الأعباء مهما ثقُلْتُ بقلب لم تعلق به ريبة وعقل لا تطيش به كربة.
وقَدْ أكد الله جَلَّ وَعَلا أن ابتلاء النَّاس أمر لا محيص عَنْهُ حَتَّى يأخذوا الأهبة، والاستعداد للنوازل، فلا تذهلهم المفاجاة، قَالَ تَعَالَى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} . وقَالَ {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} وقَالَ:{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}
وقَالَ تَعَالَى إخبارًا عما قاله سُلَيْمَانٌ عليه السلام {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} وقَالَ تَعَالَى {آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} . الآية
اصبر على مضض الادلاج فِي السحر
…
وَفِي الرواح إِلَى الطاعات والبكر
إني رأيت وَفِي الأَيَّام تجربة
…
للصبر عاقبة محمودة الأثر
وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي أَمْرٍ تَطَلَّبَهُ
…
وَاسْتَصْحَبَ الصَّبْرَ إِلا فَازَ بِالظَّفَرِ
آخر:
…
يَقُولُ لَكَ الإِثْبِات أَهْلُ التَّجَارِبِ
…
تَصَبَّرْ فَعُقْبَى الصَّبْرِ نَيْلُ الْمَآرِبِ
وَنَصُّ - كِتَابِ - اللهِ بِالصَّبْرِ - آمِرٌ
…
وقَدْ وَعَدَ الصُّبَّارَ حُسْنَ الْعَوَاقِبِ
وَيَقُولُ آخر:
وَالصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌّ مَذَاقَتُهُ
…
لَكِنْ عَوَاقِبُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ
وَيَقُولُ آخَر:
بَنَى اللهُ لِلأَخْيَارِ بَيْتًا سَمَاؤهُ
…
هُمُومٌ وَأَحْزَانٌ وَجُدْرِانُهُ الضُّرُّ
وَادْخَلَهُمْ فِيهِ وَأَغْلَقَ بَابَهُ
…
وقَالَ لَهُمْ مِفْتَاحُ بَابِكِمْ الصَّبْرُ
آخر:
…
فَكَّرْتُ فِي الْجَنَّة الْعُلْيِا فَلَمْ أَرَهَا
…
تُنَال إِلا عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ
فِي الصَّالِحَاتِ بِإِخَلاصٍ لِخَالِقنَا
…
اجْهَدْ زَمَانَكَ إِنَّ الْوَقْتَ مِنْ ذَهَبِ
آخر:
…
أَيَطْمَعُ فِي الْعَلْيِاءِ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا
…
وَلَنْ يَبْلُغَ الْعَلْيَاءَ إِلا الْمُوحِّدُ
آخر:
…
يُرِيدُ الْمَعَالِي عَاطِلٌ مِنْ أَدَاتِهَا
…
وَهَيْهَاتَ مِنْ مَقْصُوصَةٍ طَيَرَانُهَا
وَلَوْ خَلالٌ سَنَّهَا الشَّرْعُ مَا دَرَى
…
بُغَاةُ الْعُلَى مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْمَكَارِمُ
آخر:
…
دَبُّوا إِلَى الْمَجْدِ وَالسَّاعُونَ قَدْ بَلَغُوا
…
جُهْدَ النُّفُوسِ وِشَدُّوا نَحْوَهُ الأُزَرَا
وَسَارُوا الْمّجْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُمْ
…
وَعَانَقَ الْمَجْدَ مَنْ وَافَى وَمَنْ صَبَرَا
لا تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكله
…
لَنْ تَبْلُغُ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَ
آخر:
…
مُسْتِشْعِرُ الصَّبْرِ مَقْرُونٌ بِهِ الْفَرَجُ
…
يُبْلَى وَيَصْبِرُ وَالأَشْيَاءِ تُنْتَهَجُ
حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مَقْدُورَ غَايَتِهَا
…
جَاءَتْكَ تَضْحَكُ عَنْ ظَلمَائِهَا السُّرُجُ
يُقَدر اللهُ فَارْجُ اللهَ وَارضَ بِهِ
…
فَفِي إِرَادَتِهِ الْغَمَاءُ تَنْفَرِجُ
آخر:
…
قُلِ الله مَنْ يَطْلُبْ رِضَاهُ يَنَلْ أَجْرَا
…
وَيَسْتَسْهِلُ الأَخْطَارَ وَالْمَرَكَبَ الْوَعْرَا
وَيُرْخِصُ فِي إِدْرَاكِهِ كُلَّ مَا غَلا
…
وَيُنْفِقُ فِي أَدْنَى رَغَائِبِهِ الْعُمْرَا
آخر:
…
فَلا تَيْأَس إِذَا مَا سُدَّ بَابٌ
…
فَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةُ الْمَسَالِكْ
وَلا تَجْزَعْ إِذَا مَا اعْتَاصَ أَمْرٌ
…
لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكْ
آخر:
…
بِقَدْرِ الْجِدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِي
…
وَمَنْ طَلَبَ الْعُلا سَهِرَ اللَّيَالِي
تَرُومُ الْعزِّ ثُمَّ تَنَامُ عَنْهُ
…
يَغُوصُ الْبَحْرَ مَنْ طَلَبَ اللآلِي
آخر:
…
إِنَّ الأُمُورَ إِذَا انْسَدَّتْ مَسَالِكُهَا
…
فَالصَّبْرُ يَفْتَحُ مِنْهَا كُلَّ مَارَتَجَا
لا تَيْأَسَنَّ وَإِنْ طَالَتْ مَطَالِبُهُ
…
إِذَا اسْتَعَنْتَ بَصَبْرِ أَنْ تَرَى فَرَجَا
أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يُحْظَى بِحَاجَتِهِ
…
وَمُدْ مِن الْقَرْعِ لِلأَبْوَابِ أَنْ يَلِجَا
اللَّهُمَّ انظمنا فِي سلك حزبك المفلحين وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المخلصين وأمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللَّهُمَّ اعطنا من الْخَيْر فوق ما نرجوه واصرف عنا من السُّوء فوق ما نحذر فإنك تمحو ما تشاء وتثَبِّتْ وعندك أم الكتاب. اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنَا ممن يأخذ الكتاب باليمين، وَاجْعَلْنَا يوم الفزع الأكبر آمنين وأوصلنا بِرَحْمَتِكَ وكرمك إِلَى جنات النَّعِيم، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى آله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
" فَصْلٌ " وقَالَ تَعَالَى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} . وقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} .
فمن ابتلاه الله بنقص فِي ماله أَوْ منعه شَيئًا من شهوات الدُّنْيَا ولذاتها الفانية وعجز عَنْ تحصيله بالوسائل المشروعة أَوْ قبض لَهُ نفسًا أَبًا أَوْ أَخًا أَوْ أُمًا أَوْ ولد أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ أَوْ خاف من عدو فإنه لا دواء لَهُ إلا الصبر على ما أصابه.
فإذا صبر المبتلى وعمل بقول ربه عز وجل فقَدْ هانت عَلَيْهِ البلوى وضاع أثرها فاستراح من عذابها فِي الدُّنْيَا وفاز بالآخِرَة بالجزاء الحسن، فالفقير الَّذِي لا يذهب بلبه متاع الحياة وزينتها ولا يحزنه ما لا يستطيع الوصول إليه من المتاع الفاني سائر على ضوء إرشادات القرآن الكريم، مثل قوله تَعَالَى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . وقوله: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ} بل مطمئن إِلَى ما قدره الله لَهُ فِي هَذِهِ الحياة من تعب ونصب، ويرضى بما قسم لَهُ فلا يسخط، ولا يفعل محرمًا فإنه لا بد أن يجعل الله لَهُ من أمره فرجًا فِي حَيَاتهُ الدُّنْيَا كما قَالَ تَعَالَى {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وإذا اشتهت نَفْسهُ شَيْئًا وعدها بالْخَيْر وصبرها ومشى أموره عَلَى قَدْرِ حاله، ولا يكلف نَفْسهُ بالدين والقرض، قَالَ الله تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} . وقَالَ بَعْضهمْ:
إِذَا رُمْتَ أَنْ تَسْتَقْرِضَ الْمَالَ مُنْفِقًا
…
عَلَى شَهَوَاتِ النَّفْسِ فِي زَمَنِ الْعُسْرِ
فَسَلْ نَفْسَكَ الانْفَاقَ مِنْ كَنْزِ صَبْرِهَا
…
عَلَيْكَ وَإِنْضَارًا إِلَى زَمَنِ الْيُسْرِ
فَإِنَّ فَعَلْتَ كُنْتَ الْغَنِيَّ وَإِنْ أَبَتْ
…
فَكُلُّ مَنُوع بَعْدَهَا وَاسِعُ الْعُذْرِ
آخر:
…
أَفَادَتْنِي الْقَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍ
…
وَأَيُّ غِنىً أَعَزُّ مِن الْقَنَاعَةِ
فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِكَ رَأَسَ مَالٍ
…
وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَةْ
تَحُزْرِ بِحِينِ تَغْنَى عَنْ بَخِيلٍ
…
وَتَنْعَمُ بِالْجِنَانِ بَصَبْرِ سَاعَةْ
آخر:
…
عَزِيزُ النَّفْسِ مَنْ رُزِقَ الْقَنَاعَة
…
وَلَمْ يَكْشِفْ لِمَخْلُوقٍ قِنَاعَهْ
وَقَدْ عَلِمُوا بِأَنِّي حِينَ شَدُّوا
…
عُرَى الأَطْمَاعِ فَارَقْتُ الْجَمَاعَهْ
إِذَا مَا فَاقَةٌ قرنت بِعِزٍّ
…
وَكَانَتْ فِي التبذل لي ضراعَهْ
نَفَضْتُ يَدَيَّ عَنْ طَمْعِي وَحِرْصِي
…
وَقُلْتُ لِفَاقَتِي سَمْعًا وَطَاعَهْ
آخر:
…
أَلا إِنَّ رِزْقَ الله لَيْسَ يَفُوتُ
…
فَلا تُرَعَنْ إِنَّ الْقَلِيلَ يَفُوتُ
رَضِيتُ بِقَسِم اللهِ حَظًّا لأَنَّهُ
…
تَكَفَّلَ رِزْقِي مِنْ لَهُ الْمَلَكُوتُ
سَأَقْنَعُ بِالْمَالِ الْقَلِيلِ لأَنَّنِي
…
رَأَيْتُ أَخَا الْمَالِ الْكَثِيرِ يَمُوتُ
آخر:
…
أَبَا مَالِكٍ لا تَسْأَل النَّاسَ وَالْتَمِسْ
…
بَكَفيكَ فَضْل اللهِ وَاللهُ مُوسعُ
وَلَوْ سُئِلَ النَّاسُ التُّرَابَ لأوَشَكُوا
…
إِذَا قِيْل هَاتُوا أَنْ يَمِلُّوا وَيَمْنَعُوا
آخر:
…
لا تَقُولَنَّ إِذَا مَا لَمْ تَرُدْ
…
أَنْ تَتِمّ الْوَعِدُ فِي شَيْء نَعَمْ
حَسَنٌ قَوْلُ نَعَمْ مِنْ بَعْدِ لا
…
وَقَبِيحُ قَوْلٌ لا بَعْدَ نَعَمْ
إِنَّ لا بَعْدَ نَعَمْ فَاحِشَةٌ
…
فَبِلا فَابْدَأ إِذَا خِفْتَ النَّدَمْ
وَإِذَا قُلْتَ نَعَمْ فَاصْبِرْ لَهَا
…
بِنَجَاحِ الْوَعْدِ إِنَّ الْخُلْفَ ذَمْ
قَنُوعُ النَّفْسِ يَعْقُبهُ رَوَاح
…
وَحِرْصُ النَّفْسِ لِلذُّلِّ الْهَوَانِ
وَلَيْسَ بِزَائِدٍ فِي الرِّزْقِ حِرْصٌ
…
وَلَيْسَ بِنَاقِصٍ مَعَهُ التَّوَانِ
إِذَا الرَّحْمَنُ سَبَّبَ رِزْقُ عَبْدٍ
…
أَتَاهُ فِي التَّنَائِي وَالتَّدَانِ
أما الفقير الَّذِي يزين لَهُ الشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء ما فِي أيدي النَّاس، فيفسد عَلَيْهِ قَلْبهُ بالوساوس الضارة، والأماني الكاذبة، والأحلام الباطلة، فيحسد النَّاس على ما أتاهم الله من فضله، مبعدًا عَنْ الصبر على الحالة المرضية لا يبالي بأي وسيلة يتمسك بها من الوسائل المحرمة، فِي الوصول إِلَى لذة محرمة لا تغني عَنْهُ شَيْئًا ولا تسد فقره فهو من
أشقى خلق الله لأنه بعمله هَذَا يكون قَدْ خسر دنياه وآخرته، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المبين.
وكَذَلِكَ الغني يحتاج إِلَى الصبر على غناه لأنه مكلف بحقوق وواجبات لا يسهل على النفس فعلها من زكاة مال وإنفاق على من يُمُونُه وإغاثة ملهوف
…
إلخ.
ثُمَّ اعْلَمْ أن إظهار البلوى سواء كَانَتْ مرضًا أَوْ فقرًا أَوْ غيرهما إما أن يكون لله تَعَالَى كما قَالَ أيوب عليه السلام {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وكما قَالَ يعقوب {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} فهَذَا لا ينافي الصبر.
وإما أن يكون لغير الله فَإِنَّ كَانَ لحاجة كشرح العلة للطبيب أَوْ بيان المظلمة لمن يقدر على رفعها فإنه لا ينافي الصبر أيضًا ما دام راضيًا بقضاء الله وقدره، فلا يضجر ولا يتبرم مِمَّا ينْزِل به من البَلاء فَإِنِ اشتكى لغير الله من دون فائدة تبرمًا وتضجرًا لم يكن من الصابرين، ولم يستفد من مصيبته سِوَى عذاب الدُّنْيَا.
شِعْرًا:
…
ثَلاثٌ يَغُورُ الصَّبْرُ عِنْدَ حُلُولِهَا
…
وَيَذْهَلُ عَنْهَا عَقْلُ كُلِّ لَبِيب
خُرُوجُكَ قَهْرًا مِنْ بِلادٍ تَحُبُّهَا
…
وَفِرْقَةُ إِخْوَان وَفَقْدُ حَبِيبِ
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وقوله {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} وقوله {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} .
وَكُلُّ مُصِيبَاتٍ أَتَتْنِي وَجَدْتُهَا
…
سِوَى غَضَبِ الرَّحْمَنِ هَيِّنَةَ الْخَطْبِ
فالمراتب ثلاث أخسها أن تشكو الله إِلَى خلقه وأعلاها أن تشكو نفسك إليه وأوسطها أن تشكو خلقه إليه. انتهى. قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَيَمْنَعُنِي شَكْوَاي لِلنَّاسِ أَنَّنِي
…
عَلِيلٌ وَمَنْ أَشْكُو إِلَيْهِ عَلِيلُ
وَيَمْنَعُنِي شَكْوَاي لله إِنَّهُ
…
عَلِيمٌ بِمَا أَشْكُوهُ قَبْلَ أَقُولُ
آخر:
…
لا تَشْكُونَّ إِلَى صَدِيقٍ حَالَةً
…
فَاتَتْكَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
فَلِرَحْمَةِ الْمُتَوَجَّعِينَ مَضَاضَةٌ
…
فِي الْقَلْبِ مِثْلُ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ
وقَدْ أمر الله بالصبر فقَالَ جَلَّ وَعَلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} وقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ} وقَالَ {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} وأثنى الله على الصابرين فقَالَ: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} .
وأخبر تَعَالَى أَنَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فقَالَ {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وهذه معية خاصة تقتضي الحفظ والنصر والتأييد، وأخبر جَلَّ وَعَلا أن الصبر خَيْر لأصحابه، قَالَ تَعَالَى:{وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} وقَالَ: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} ، وإيجاب الجزاء لَهُمْ بأحسن أعمالهم فقَالَ:{وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وأخبر جَلَّ وَعَلا أن جزاءهم بغير حساب، فقَالَ:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}
شِعْرًا:
…
اصْبِرْا أُخَيَّ إِذَا نَابَتْكَ نَائِبَةٌ
…
وَلا تَقُولَنَّ ذَرْعِي مِنْهَا قَدْ ضَاقَا
فَبِالنَّوَائِبِ مَعَ صَبْرٍ يَجِدْ شَرَفًا
…
كَالْبَدْرِ يَزْدَادُ فِي الظَّلْمَاءِ إِشْرَاقَا
فَإِنَّ كَانَ للتسلي أَوْ المواساة فلا بأس
شِعْرًا:
…
وَأَبْثَثْتُ عُمْرا بَعْضَ مَا فِي جَوَانِحِي
…
وَجَرَّعْتُهُ مِنْ مُرِّ مَا أَتَجَرَّعُ
وَلا بُدَّ مِنْ شَكْوَى إِلَى ذِي حَفِيظَةٍ
…
يُوَاسِيكَ أَوْ يُسْلِيكَ أَوْ يَتَوَجَّعُ
وسيسأل عَنْ ضجره يوم القيامة خُصُوصًا إِذَا كانت شكواه مصحوبة ببَعْض العبارات التِي فيها جراءة على الله لأنه يشكو الإله القادر على المسكين.
الضعيف العاجز الَّذِي لا يغني عَنْهُ شَيْئًا كما قِيْل:
(وَإِذَا شَكَوْتَ إِلَى ابنِ آدَمَ إِنَّمَا
…
تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لا يَرْحَمُ)
فتجد بعض الناس كثير التشكي إلى الناس يستأنس بالشكوى ويتلذذ بها كما قِيْل:
تَلَذُّ لَهُ الشَّكْوَى وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِهَا
…
صَلاحًا كَمَا يَلْتَذُّ بِإِلْحَكِّ أَجْرَبُ
فالجاهل يشكو الله إِلَى النَّاس وَهَذَا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه فإنه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف النَّاس لما شكا إليهم لأنهم مساكين عاجزون. وَرُبَّمَا كَانُوا من المتشمتين الَّذِينَ يفرحون عليه ويفرحون بموته.
وَلا تَشَكُّ إِلَى خَلْقٍ لِتُشْمِتَهُ
…
شَكْوَى الْجَرِيحِ إِلَى الْغُرْبَانِ وَالرَّخَمِ
آخر:
…
كَمْ عَائِد رَجُلاً وَلَيْسَ يَعُودُهُ
…
إِلا لِيَنْظُرَ هَلْ يَرَاهُ يَمُوتُ
ورأى بَعْض السَّلَف رجلاً يشكو إِلَى رجل فاقته وضرورته فقَالَ: يَا هَذَا وَاللهِ ما زدت على أن شكوت من يرحمك إِلَى من لا يرحمك والعارف إنما يشكو إِلَى الله وحده.
وأعرف العارفين من جعل شكواه إِلَى الله من نَفْسهُ لا من النَّاس فهو يشكو من موجبات تسليط النَّاس عَلَيْهِ فهو ناظر إِلَى قوله، وأخبر جَلَّ وَعَلا أنه ما يلقى الأَعْمَال الصَّالِحَة وجزاءها والحظوظ عَلَيْهَا إلا الصابرون فقَالَ عَنْ ما قَالَهُ أهل العلم والإيمان {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} . وأخبر جَلَّ وَعَلا أنه ما يلقى الخصلة التِي هِيَ دفع السئة بالحسُنَّة إلا الَّذِينَ صبروا فقَالَ {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} الآية.
والصبر أنواع صبر على طاعة الله بالمحافظة عَلَيْهَا دومًا وبرعايتها
إخلاصًا. ومن الصبر على طاعة الله وبر الوالدين ما داما موجودين وعدم التضجر والتأفف منهما واحتمال الأذى من القريب والجار والصديق والزميل، ومنه صبر الأستاذة على الطلبة وإحتمال التعب فِي ذَلِكَ، وكَذَلِكَ الأطباء المستقيمين المخلصين فِي معالجة المرضى، وصبر الغني على إخراج زكاته بدقة وصبر المريض والمسافر على الصَّلاة والطهارة لها، وصبر المجاهد والمتعلم والصادق فِي طلبه للعلم والحاج والساعي على الأرَامِل والمساكين.
ومن مشقة السفر وعناء الطلب ومكافحة الأعداء والصبر على الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر وقول الحق وإن كَانَ مرًا ومساعدة الضعيف والعاجز والعدل فِي الحكم وحفظ الأمانة والإنصاف من النفس والأقارب ومواصلة السعي فِي ما يرضي الله عز وجل وحسن الخلق وإيناس المسلم الغريب والصمت عَنْ الكلام إلا فيما يعود إليك نفعه ومُرَاقَبَة الله فيما يقوله ويفعله.
ودوام الشكر لله وصرف نعمه فِي طاعته، وإحترام أهل الدين وتقديرهم والذب عَنْ إعراضهم إِذَا إنتهكت، والصبر على الأولاد والأهل وحثهم على الصَّلاة والزَّكَاة وسائر الطاعات. وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
" فَصْلٌ "
النوع الثانى: الصبر عَنْ معصية الله خوفًا من الله ورجَاءَ ثوابه وحياء من الرب جَلَّ وَعَلا أن يستعان بنعمه على معاصيه، فالصبر عَنْ المعاصي لازم لسعادة الإنسان فِي دنياه وآخرته، فَإِنَّ الله نهى عباده عَنْ الفحشاء والْمُنْكَر ليعيشوا فِي هَذِهِ الحياة الدُّنْيَا مطمئنين، لا ينال أحدهم من عرض أخيه بالقول والْفِعْل ولا يتعدى أحدهم على غيره فِي ماله وبدنه، ولا تغرهم الحياة الدُّنْيَا.
وزينتها فيسعون فِي الأرض فسادًا من أجل الحصول على لذاتها المضمخلة الفانية وشهواتها الخداعة الفاسدة.
فمن يصبر على ضبط لِسَانه عَنْ الكلام المحرم فلا يغتاب ولا ينم ولا ينافق بالقول، ولا يكذب ولا يساعد بقوله ظالمًا، ولا يجادل بالْبَاطِل ولا يسخر بالمسلمين ولا يحلف إلا بِاللهِ صادقًا ولا يقذف مسلمًا ولا يخاصم ليقطع حق مُسْلِم ولا يشهد الزور ولا يؤذي مسلمًا بالفحش والبذاء، فإنه بذَلِكَ يتقى آفات لِسَانه التِي تفضي بالمرء إِلَى الهلاك.
ومن صبر على حفظ فرجه فلا يستعمله إلا فيما أحله الله عملاً بقوله تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فإنه بذَلِكَ ينجو من شر غوائل الزنا واللواط وكَانَ أمينًا على سلامة عرضه وحفظه من الضياع.
ومن صبر وربط عقله عَنْدَ غضبه فلا يبطش بيده ولا يحقَدْ بقَلْبهُ، وقَدْ ضبط لِسَانه فقَدْ سلم من مظَالِم خلق الله، وكَانَ مسلمًا حقاً كما قَالَ صلى الله عليه وسلم:«المسلم من سلم المسلمون من لِسَانه ويده» . قصة يوسف مَعَ امرأة العزيز وهي تتعلق فِي الصبر، وَمَمْلُوكًا وَالْمَمْلُوك أَيْضًا لَيْسَ وَازِعَهُ كَوَازِعِ الْحُرَّ وَالْمَرْأَة جميلة، وذات منصب وهي سيدة وقَدْ غاب الرقيب وهي الداعية إِلَى نفسها، والحريصة على ذَلِكَ أشد الحرص ومَعَ توعدته بالسجن إن لم يفعل والصغار ومَعَ هَذِهِ الدواعي كُلّهَا صبر اختيارًا وَإيثَارًا لِمَا عَنْدَ الله وَأَيْنَ هَذَا مِنْ صَبْرِهِ فِي الجب على ما كسبه وكَانَ يَقُولُ: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمَاتَ. وأفضل فَإِنَّ مصلحة فعل الطاعة أحب إِلَى الشارع من مصلحة ترك المعصية ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية. انتهى.
قَالَ الإِمَام أحمد رحمه الله: ذكر الله سُبْحَانَهُ الصبر فِي القرآن فِي تسعين مَوْضِعًا. انتهى. وهي أنواع: مَنْهَا تعليق الإمامة فِي الدين به وباليقين، قَالَ الله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} . فبالصبر واليقين، تنال الإمامة فِي الدين. ومنها ظفرهم بمعية الله سُبْحَانَهُ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
قَالَ أبو علي الدَّقَّاق: فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته ومنها: أنه جمَعَ للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم وهي الصَّلاة منه عَلَيْهمْ ورحمته لَهُمْ، وهدايته إياهم، قَالَ تَعَالَى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} . وقَالَ بَعْض السَّلَف: وقَدْ عُزِيَ على مصيبة نالته فقَالَ: ما لي لا أصبر وقَدْ وعدني الله على الصبر ثلاث خِصَال، كُلّ خصلة مَنْهَا خَيْر من الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا ومنها: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ لَهُمْ أن يعاقبوا على ما عوقبوا به ثُمَّ أقسم قسمًا مؤكدًا غاية التأكيد أن صبرهم خَيْر لَهُ فقَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} .
فتأمل هَذَا التأكيد بالقسم المدلول عليه بالواو ثُمَّ باللام بعده ثم باللام التِي فِي الجواب. ومنها: أنه سُبْحَانَهُ حكم بالْخُسْرَانُ حكمًا عامًا على كُلّ من لم يؤمن ولم يكن من أهل الحق والصبر وَهَذَا يدل على أنه لا رابح سواهم فقَالَ تَعَالَى {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} .
ولهَذَا قَالَ الشافعى: لو فكر النَّاس كلهم فِي هَذِهِ السورة لوسعتهم وَذَلِكَ أن الْعَبْد كما لَهُ فِي تكميل قوتية، قوة العلم وقوة الْعَمَل وهما الإِيمَان والْعَمَل الصالح وكما هُوَ محتاج إِلَى تكميل نَفْسهُ فهو محتاج إِلَى تكميل غيره وَهُوَ التواصي.
بالحق والتواصي بالصبر وَأَخِيَّة ذَلِكَ وقاعدته وساقه الَّذِينَ يقوم عَلَيْهِ إنما هُوَ الصبر.
ومنها: أنه سُبْحَانَهُ خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة الَّذِينَ قامت بِهُمْ هاتان الخصلتان ووصوا بها غيرهم فقَالَ تَعَالَى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} .
وقَالَ: الإنسان لا يستغنى عَنْ الصبر فِي حال من الأحوال فإنه بين أمر يجب عَلَيْهِ امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عَلَيْهِ اجتنابه وتركه، وقَدْ يجري عَلَيْهِ اتفاقًا، ونعمة يجب شكر المنعم عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الأحوال لا تفارقه، فالصبر لازم إِلَى الْمَمَات.
شِعْرًا:
…
كُلُّ الْمَصَائِبِ قَدْ تَمُرُّ عَلَى الْفَتَى
…
فَتَهُونُ غَيْرَ مُصِيبَةٍ فِي الدِّينِ
آخر:
…
هَوِّنْ عَلَيْكَ فَكُلُّ الأَمْرِ يَنْقَطِعُ
…
وَخَلِّ عَنْكَ عِنَانَ الْهَمِّ يَنْدَفِعُ
فَكُلُّ هَمٍّ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجٌ
…
وَكَلُّ أَمْرٍ إِذَا ما ضَاقَ يِتَّسِعُ
إنَّ الْبَلاءَ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ
…
فَالْمَوْتُ يَقْطَعُهُ أَوْ سَوْفَ يَنْقَطِعُ
اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان وثبتها على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة وَاجْعَلْنَا هداة مهدتين وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بعبادك الصالحين يَا أكرم الأكرمين ويا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين
" فَصْلٌ "
وكَانَ ما يلقى الْعَبْد فِي هَذِهِ الدار لا يخلو من نوعين: أحدهما يوافق هواه ومراده، والآخر مخالفه وَهُوَ محتاج إِلَى الصبر فِي كُلّ منهما، أما النوع الموافق لغرضه: فكالصحة والسلامة والجاه والْمَال وأنواع الملاذ المباحة وَهُوَ أحوج شَيْء إِلَى الصبر فيها من وجوه:
أحدهما: أن لا يركن إليها ولا يغتر بها ولا تحمله على البطر والأشر والفرح المذموم الَّذِي لا يحبه الله وأهله.
الثانى: أن لا ينهمك فِي نيلها ويبالغ فِي استقصائها فَإِنَّهَا تنقلب إِلَى أضدادها. فمن بالغ فِي الأكل والشرب والجماع انقلب ذَلِكَ إِلَى ضده وحرم الأكل والشرب والجماع.
الثالث: أن يصبر على أداء حق الله فيها ولا يضيعه فيسلبها.
الرابع: أن يصبر عَنْ صرفها فِي الحرام، فلا يمكن نَفْسهُ من كُلّ ما تريده مَنْهَا فَإِنَّهَا توقعه فِي الحرام، فَإِنَّ احترز كُلّ الاحتراز أوقعته فِي المكروه، ولا يصبر على السراء إلا الصديقون. وقَالَ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
ولِذَلِكَ حذر الله عباده من فتنة الْمَال والأزواج والأولاد فقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} وقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} .
ولَيْسَ المراد من هَذِهِ العداوة ما يفهمه كثير من النَّاس، إنها عداوة البغضاء والمحادة بل، إنما هِيَ عداوة المحبة الصادة للأباء عَنْ الهجرة والجهاد وتعلم العلم والصداقة وغير ذَلِكَ من أمور الدين وأعمال البر.
كما فِي جامَعَ الترمذى، مِنْ حَدِيثِ إسرائيل حدثنا سماك عَنْ عكرمة عن ابن عباس وسأله رجل عَنْ هَذِهِ الآية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} قَالَ: هؤلاء رِجَال أسلموا من أهل مَكَّة فأرادوا أن يأتوا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فَلَمَّا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا النَّاس قَدْ فقهوا فِي الدين هموا أن يعاقبوهم فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} الآية. قَالَ الترمذى: هَذَا حديث حسن صحيح.
وما أكثر ما فات الْعَبْد من الكمال والفلاح بسبب زوجته وولده وَفِي
الْحَدِيث: «الولد مبخلة مجبنة» . وقَالَ الإِمَام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب قَالَ حدثني زيد بن واقَدْ قَالَ حدثني عَبْد اللهِ بن بريدة قَالَ سمعت أبي يَقُولُ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا فَجَاءَ الحسن والحسين عَلَيْهِمَا قميصان أحمران يمشيان ويعثران. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثُمَّ قَالَ: «صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرت إِلَى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حَتَّى قطعت حديثي ورفعتهما» . وهذ من كمال رحمته صلى الله عليه وسلم ولطفه بالصغار وشفقته عَلَيْهمْ، وَهُوَ تعليم منه للأمة الرحمة والشفقة واللطف بالصغار.
وإنما كَانَ الصبر على السراء شديد لأنه مقرون بالقدرة والجائع عَنْدَ غيبة الطعام أقدر منه على الصبر عَنْدَ حضوره، وكَذَلِكَ الشبق عَنْدَ غيبة المرأة أصبر منه عَنْدَ حضورها
مشقة الصبر بحسب قوة الداعي إِلَى الْفِعْل وسهولته على الْعَبْد، فإذا اجتمَعَ فِي الْفِعْل هَذَا الأمران كَانَ الصبر عَنْهُ أشق شَيْء على الصابر وإن فقدا معًا سهل الصبر عَنْهُ، وإن وَجَدَ أحدهما وفقَدْ الآخر سهل الصبر من وجه وصعب من وجه، فمن لا داعي إِلَى القتل والسرقة وشرب المسكر وأنواع الفواحش ولا هُوَ مسهل.
فصبره عَنْهُ أيسر شَيْء وأسهله، ومن أشتد داعيه إِلَى ذَلِكَ وسهل عَلَيْهِ فعله فصبره عَنْهُ أشق شَيْء ولهَذَا كَانَ صبر السُّلْطَان عَنْ الظلم، وصبر الشاب عَنْ الفاحشة، وصبر الغنى عَنْ تناول اللذات والشهوات عَنْدَ الله بمكَانَ.
وَفِي المسند وغيره عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «عجب ربك من شاب لَيْسَتْ لَهُ صبوة» . ولِذَلِكَ استحق السبعة المذكورون فِي الْحَدِيث الَّذِينَ يظلهم الله في ظِلّ عرشه لكمال صبره ومشقته، فَإِنَّ صبر الإِمَام المتسلط على العدل فِي قسمه وحكمه.
ورضاه وغضبه وصبر الشاب على عبادة الله ومخالفة هواه.
وصبر الرجل على ملازمة المسجد وصبر المتصدق على إخفاء الصدقة حَتَّى عَنْ بعضه وصبر المدعو إِلَى الفاحشة مَعَ كمال جمال الداعي ومنصبه، وصبر الْمُتَحَابِّينَ فِي الله على ذَلِكَ فِي حال اجتماعهما وافتراقهما، وصبر الباكي من خشية الله على كتمان ذَلِكَ وإظهاره للناس من أشق الصبر.
شِعْرًا:
…
أَمَا وَالَّذِي لا يَمْلُكُ الأَمْرَ غَيْرُهُ
…
وَمَنْ هُوَ بِالسِّرِّ الْمُكَتَّمِ أعْلَمُ
لَئِنْ كَانَ كِتْمَانُ الْمَصَائِبِ مُؤْلِمًا
…
لإِعْلانِهَا عِنْدِي أَشَدُّ وَأَعْظَمُ
وَبِي كُلُّ مَا يُبْكِي الْعُيُونَ أَقَلَّهُ
…
وَإِنْ كُنْتَ مِنْهُ دَائِمًا أَتَبَسَّمُ
آخر:
…
وَقَدْ يَلْبَسُ الْمَرْءُ خَزَّ الثِّيَابْ
…
وَمِنْ دُونِهَا حَالَةٌ مُضِنيَهْ
كَمَنْ يَكْتَسِي خَدَّهُ حُمْرَةٌ
…
وَعَلَّتُهَا وَرَمٌ فِي الرِّيَهْ
ولهَذَا كَانَتْ عقوبة الشَّيْخ الزاني والملك الكذاب والفقير المحتال أشد العقوبات لسهولة الصبر عَنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ المحرمَاتَ عَلَيْهمْ لضعف دواعيها فِي حقهم، فكَانَ تركهم الصبر عَنْهَا مَعَ سهولته عَلَيْهمْ دليلاً على تمردهم على الله وعتوهم عَلَيْهِ، ولهَذَا كَانَ الصبر عَنْ معاصى اللسان والفرج من أصعب أنواع الصبر لشدة الداعي إليهما وسهولتها.
فإن معاصي اللسان فاكهة الإنسان كالنميمة والغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضًا وتصريحًا، وحكاية كلام النَّاس والطعن على من يبغضه ومدح من يحبه ونحو ذَلِكَ.
فتتفق قوة الداعي وتيسر حركة اللسان فيضعف الصبر ولهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «أمسك عَلَيْكَ لسانك» . فقَالَ: وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقَالَ: «وهل يكب النَّاس فِي النار على مناخرهم إلا حصاد أَلْسِنَتِهِمْ» .
ولا سيما إِذَا صَارَت المعاصي اللسانية معتادة للعبد، فإنه يعز عَلَيْهِ الصبر
عَنْهَا ولهَذَا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النَّهَارَ ويتورع من استناده إِلَى وسادة حرير لحظة واحدة ويطلق لِسَانه فِي الغيبة والنميمة والتفكه فِي أغراض الخلق.
وَرُبَّمَا خص أهل الصلاح والعلم بِاللهِ والدين والقول على الله ما لا يعلم وكثير ممن تجده يتورع عَنْ الدقائق من الحرام والقطرة من الخمر ومثل رأس الإبرة من النجاسة، ولا يبالي بارتكاب الفرج الحرام وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد.
" فَصْلٌ "
وقَالَ رحمه الله: يندفع شر الحاسد عَنْ المحسود بعشرة أسباب: أحدهما: التعوذ بِاللهِ من شره والتحصن به واللجأ إليه، والله تَعَالَى سميع لإستعاذته، عليم بما يستعيذ منه. والسمَعَ هنا المراد به سمَعَ الإجابة لا السمَعَ العام فهو مثل قوله:(سمَعَ الله لمن حمده) .
وقول الخليل صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} ومرة يُقْرِنَهُ بِالعلم ومرة بالصبر لإقتضاء حال المستعيذ ذَلِكَ.
فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله يراه ويعلم كيده وشره فأخبر الله تَعَالَى هَذَا المستعيذ أنه سميع لإستعاذته أي مجيب عليم بكيد عدوه، يراه ويبصره ليبسط أمل المستعيذ ويقبل بقَلْبهُ على الدُّعَاء.
السبب الثانى: تقوى الله وحفظه عَنْدَ أمره ونهيه فمن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يكله إِلَى غيره. قَالَ تَعَالَى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} . وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: «احفظ الله يحفظك، واحفظ الله تجده تجاهك» . فمن حفظ الله حفظه الله، ووجده أمامه أينما توجه، ومن كَانَ الله حافظه وأمامه فمن يخاف ومن يحذر.
السبب الثالث: الصبر على عدوه، وأن لا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدث
نَفْسهُ بأذاه أصلاً. فما نصر على حساده وعدوه بمثل الصبر عَلَيْهِ، ولا يستطل تأخيره وبغيه. فإنه كلما بغى عَلَيْهِ كَانَ بغيه جندًا وقوة للمبغي عَلَيْهِ المحسود يقاتل به الباغى نَفْسهُ، وَهُوَ لا يشعر فبغيه سهام يرميها من نَفْسهُ إِلَى نَفْسهُ.
ولو رأى المبغي عَلَيْهِ ذَلِكَ لسره بغيه عَلَيْهِ، ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي دون آخره وماله. وقَدْ قَالَ تَعَالَى:{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} فإذا كَانَ الله قَدْ ضمن لَهُ النصر مَعَ أنه قَدْ استوفى حقه أولاً.
فَكَيْفَ بمن لم يستوف شَيْئًا من حقه بل بغى عَلَيْهِ وَهُوَ صابر، وما من الذُّنُوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم وقَدْ سبقت سُنَّة الله:«أنه لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكًا» .
السبب الرابع: التوكل على الله فمن يتوكل على الله فهو حسبه والتوكل من أقوى الأسباب التِي يدفع بها الْعَبْد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وَهُوَ أقوى الأسباب فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الله حسبه أي كافيه.
ومن كَانَ الله كافيه وواقيه فلا مطمَعَ فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش. وإما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدًا. وفرق بين الأذى الذي هُوَ فِي الظاهر إيذاء لَهُ وَهُوَ فِي الحَقِيقَة إحسان إليه وإضرار بنفسه وبين الضَّرَر الذي يتشفى به منه.
قَالَ بَعْض السَّلَف: جعل الله لكل عمل جزاء من جنسه، وجعل جزاء التوكل عَلَيْهِ نفس كفايته لعبده فقَالَ:{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ولم يقل نؤته كَذَا وَكَذَا من الأجر كما قَالَ فِي الأَعْمَال، بل جعل نَفْسهُ سُبْحَانَهُ كافي عبده المتوكل عَلَيْهِ وحسبه وواقيه، فلو توكل الْعَبْد على الله حق توكله وكادته السماوات والأرض ومن فيهن لجعل لَهُ ربه مخرجًا من ذَلِكَ وكفاه ونصره
السبب الخامس: فراغ الْقَلْب من الإنشغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كُلَّما خطر لَهُ، فلا يلتفت إليه، ولا يخافه ولا يملأ قَلْبهُ بالفكر فيه، وَهَذَا من أنفع الأدوية، وأقوى الأسباب المعينة على على إندفاع شره فَإِنَّ هَذَا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه.
فإذا لم يتعرض لَهُ ولا تماسك هُوَ وإياه بل إنعزل عَنْهُ لم يقدر عَلَيْهِ. فإذا تماسكا وتعلق كُلّ منهما بصاحبه حصل الشَّر، وهكَذَا الأرواح سواء. فإذا علق روحه وشبثها به وروح الحاسد الباغي متعلقة به يقظة ومنامًا، لا يفتر عَنْهُ، وَهُوَ يتمنى أن تماسك الروحان ويتشبثا.
فإذا تعلقت روح كُلّ منهما بالأخرى عدم الْقَرَار، ودام الشَّر حَتَّى يهلك أحداهما، فإذا جبذ روحه منه وصانها عَنْ الفكر فيه والتعلق به، وأن لا يخطره بباله. فإذا خطر بباله بادر إِلَى محو ذَلِكَ الخاطر، والإنشغال بما هُوَ أنفع لَهُ وأولى به، وبقى الحاسد الباغي يأكل بعضه بَعْضًا.
فإن الحاسد كالنار، فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بَعْضًا، وَهَذَا باب عَظِيم النفع لا يلقاه إلا أصحاب النُّفُوس الشريفة والهمم العلية، وبين الكيس والفطن وبينه حَتَّى يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه كأنه يرى من أعظم عذاب الْقَلْب والروح إشتغاله بعدوه، وتعلق روحه به، ولا يرى شَيْئًا ألم لروحه من ذَلِكَ.
ولا يصدق بهذا إلا النُّفُوس المطمئنة الوادعة اللينة، التي رضيت بوكالة الله لها، وسكنت إليه، واطمأَنْتَ به، وعلمت أن ضمانه حق، ووعده صدق، وأنه لا أوفى بعهده من الله، ولا أصدق منه قِيلاً، فعلمت إن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم، وأعظم فائدة من نصرها هِيَ لنفسها، أَوْ نصر مخلوق مثلها، ولا يقوى على هَذَا السبب إلا بالسبب السادس.
وهو الإقبال على الله، والإِخْلاص لَهُ، وجعل محبته ورضاه والإنابة إليه فِي
محل خواطر نَفْسهُ، وأمانيها تدب فيها دبيب تلك الخواطر شَيْئًا فشَيْئًا حَتَّى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية.
فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كُلّهَا فِي محاب الرب، والتقرب إليه وتمليقه وترضيه، وإستعطافه وذكره، كما يذكر المحب التام المحبة محبوبه المحسن إليه الَّذِي قَدْ امتلأت جوانحه من حبه، فلا يستطيع قَلْبهُ إنصرافًا عَنْ ذكره ولا روحه إنصرافًا عَنْ محبته.
فإذا صَارَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يرضى لنفسه أن يجعل بيت أفكاره وقَلْبهُ معمورًا بالفكر فِي حاسده والباغي عَلَيْهِ، والطَرِيق إِلَى الإنتقام منه، والتدبير عَلَيْهِ، هَذَا ما لا يتسع لَهُ إلا قلب خراب لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله وطلب مرضاته.
بل إِذَا مسه طيف من ذَلِكَ واجتاز ببابه من خارجه ناداه حرس قَلْبهُ: إياك وحمى الملك، اذهب إِلَى بيوت الخانات التِي كُلّ من جَاءَ حل فيها، ونزل بها، مالك ولبيت السُّلْطَان الَّذِي أقام عَلَيْهِ اليزك وأدار عَلَيْهِ الحرس، وأحاطه بالسور.
قَالَ تَعَالَى حكاية عَنْ عدوه إبلَيْسَ، أنه قَالَ:{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ، فقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}
وقَالَ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} ، وقَالَ فِي حق الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} .
فأعظم سعادة من دخل هَذَا الحصن، وصار داخل اليزك، لقد آوى إِلَى حصن لا خوف على من تحصن به ولا ضيعة على من آوى إليه، ولا مطمَعَ للعدو فِي الدنو إليه منه. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فصل ": السبب السابع: تجريد التوبة إِلَى الله مِنَ الذُّنُوب التي سلطت عَلَيْهِ أعداءه، فَإِنَّ الله تَعَالَى يَقُولُ:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ، وقَالَ لخَيْر الخلق وهم أصحاب نبيه دونه صلى الله عليه وسلم {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} .
فما سلط على الْعَبْد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أَوْ لا يعلمه، وما لا يعلمه الْعَبْد من ذنوب أضعاف ما يعلمه مَنْهَا، وما ينساه مِمَّا عمله أضعاف ما يذكره، وَفِي الدُّعَاء المشهور:«اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنَا أعْلَمُ، واستغفرك مِمَّا لا أعْلَمُ» .
فما يحتاج الْعَبْد إِلَى الاستغفار منه مِمَّا لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه، فما سلط عَلَيْهِ مؤذ إلا بذنب. ولقى بَعْض السَّلَف رجل فأغلظ لَهُ ونال منه، فقَالَ لَهُ: قف حَتَّى أدخل البيت، ثُمَّ أخَرَجَ إليك، ودخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب وأناب إِلَى ربه.
ثُمَّ خَرَجَ إليه فقَالَ لَهُ: ما صنعت؟ فقَالَ: تبت إِلَى الله من الذنب الَّذِي سلطك به عليَّ. فلَيْسَ للعبد إِذَا بغى عَلَيْهِ وأوذي وتسلط عَلَيْهِ خصومه شَيْء أنفع لَهُ من التوبة النصوح. وعلامة سعادته: أن يعكس فكره ونظره على نَفْسهُ وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة مَنْهَا، فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما أنزل به، بل يتولى هُوَ التوبة وإصلاح عيوبه، والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عَنْهُ ولا بد.
فما أسعده من عبد، وما أبركها من نازلة نزلت به، وما أحسن آثارها عَلَيْهِ، ولكن التَّوْفِيق والرشد بيد الله، لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع. فما كُلّ أحد يوفق لهَذَا، لا معرفة به، ولا إرادة لَهُ، ولا قدرة عَلَيْهِ، ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فصل ": السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه، فَإِنَّ لِذَلِكَ تأثيرًا عجيبًا فِي دفع البَلاء، ودفع العين، وشر الحاسد، ولو لم يكن فِي هَذَا إلا بتجارب الأمم قديمًا وحديثًا لكفى به. فما تكاد العين والحسد والأَذَى يتسلط على محسن متصدق.
وَإِذَا أصابه شي من ذَلِكَ كَانَ معاملاً فيه باللطف والمعونة والتأييد وكَانَتْ لَهُ فيه العافية الحميدة. فالمحسن المتصدق فِي خفارة إحسانه وصدقته، عَلَيْهِ من الله جنة واقية وحصن حصين.
والجملة: فالشكر حارس النعمة من كُلّ ما يكون سببًا لزوالها. ومن أقوى الأسباب: حسد الحاسد والعائن، فإنه لا يفتر ولا يني ولا يبرد قَلْبهُ حَتَّى تزول النعمة عَنْ المحسود فحينئذ يبرد أنينه، وتنطفئ ناره، لا أطفأها الله.
فما حرس الْعَبْد نعمة الله عَلَيْهِ بمثل شكرها، ولا عرضها للزَوَال بمثل الْعَمَل فيها بمعاصي الله، وَهُوَ كفران النعمة، وَهُوَ باب إِلَى كفران المنعم.
فالمحسن المتصدق يستخدم جندًا وعسكرًا يقاتلون عَنْهُ وَهُوَ نائم على فراشه، فمن لم يكن لَهُ جند ولا عسكر، وله عدو، فإنه يوشك أن يظفر به عدوه، وإن تأخرت مدة الظفر، والله المستعان.
السبب التاسع: وَهُوَ من أصعب الأسباب على النفس وشقها عَلَيْهَا، ولا يوفق لها إلا من عظم حظه من الله وَهُوَ إطفاء نار الحسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكُلَّما ازداد أذى وشرًا وبغيًا وحسدًا، ازدادت إليه إحسانًا، وله نصيحة، وعَلَيْهِ شفقة.
وما أظنك تصدق بأن هَذَا يكون، فضلاً عَنْ أن تتعاطاه، فاسمَعَ الآن قوله عز وجل: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
قَالَ: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} . وتأمل حال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إذ ضربه قومه حَتَّى أدموه، فجعل يسلت الدم عَنْهُ وَيَقُولُ:«اللهم اغفر لقومي فَإِنَّهُمْ لا يعلمون» . كيف جمَعَ فِي هَذِهِ الكلمَاتَ أربع مقامَاتَ من الإحسان، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه
أحدها: عفوه عنهم، والثاني: استغفاره لَهُمْ، والثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون، والرابع: استعطافه لَهُمْ بإضافتهم إليه " اغفر لقومي "، كما يَقُولُ الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به، هَذَا ولدي، هَذَا غلامي، هَذَا صاحبي، فهبه لي. واسمَعَ الآن ما الَّذِي يسهل هَذَا على النفس، ويطيبه إليها وينعمها به.
اعْلَمْ إن لَكَ ذنوبًا بينك وبين الله، تخاف عواقبها، وترجوه أن يعفو عَنْهَا ويغفرها لَكَ ويهبها لَكَ، ومَعَ هَذَا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حَتَّى ينعم عَلَيْكَ ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله.
فإذا كنت ترجو هَذَا من ربك، وتحب أن يقابل به إساءتك فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه، وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله تلك المعاملة.
فإن الجزاء من حسن الْعَمَل، فكما تعمل مَعَ النَّاس فِي إساءتهم فِي حقك، يفعل معك فِي ذنوبك وإساءتك جزاءً وفاقًا، فانتقم بعد ذَلِكَ أَوْ اعف، وأحسن أَوْ اترك، فكما تدين تدان وكما تفعل معه يفعل معك.
فمن تصور هَذَا المعنى، وشغل به فكره، هان عَلَيْهِ الإحسان إِلَى من أساء إليه، وَهَذَا مَعَ ما يحصل لَهُ بذَلِكَ من نصر الله ومعيته الخاصة، كما قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم للذي شكي إليه قرابته، وأنه يحسن إليهم، وهم يسيئون إليه فقَالَ:«لا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذَلِكَ» .
هَذَا مَعَ ما يتعجله من ثناء النَّاس عَلَيْهِ ويصيرون كلهم معه على خصمه فَإِنَّ كُلّ من سمَعَ إنه محسن إِلَى ذَلِكَ الغير، وَهُوَ مسيء إليه وَجَدَ قَلْبهُ ودعاءه وهمته مَعَ المحسن على المسيء وَذَلِكَ أمر فطري، فطر الله عَلَيْهِ عباده، فهو بذَلِكَ الإحسان قَدْ استخدم عسكرًا لا يعرفهم ولا يعرفونه ولا يريدون منه أقطاعًا ولا خيرًا.
هَذَا مَعَ أنه لا بد له من عدوه وحاسده من إحدى حالتين: أما أن يملكه بإحسانه، فيستعبده وينقاد لَهُ ويذل لَهُ ويبقى النَّاس إليه، وأما يفتت كبده ويقطع دابره، وإن أقام على إساءته إليه، فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه.
ومن جرب هَذَا عرفه حق المعرفة، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ والمعين، بيده الْخَيْر كله، لا إله غيره، وَهُوَ المسئول أن يستعملنا وإخواننا فِي ذَلِكَ بمنه وكرمه وَفِي الجملة ففي هَذَا المقام من الفَوَائِد ما يزيد على مائة منفعة للعبد عاجلة وآجلة.
السبب العاشر: وَهُوَ الجامَعَ لِذَلِكَ كله، وعَلَيْهِ مدار هَذِهِ الأسباب وَهُوَ تجريد التَّوْحِيد، والترحل بالفكر فِي الأسباب إِلَى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بإن هَذِهِ الآيات بمنزلة حركات الرياح وهي بيد محركها، وفاطرها وبارئها، ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه.
فهو الَّذِي يحسن عبده بها، وَهُوَ الَّذِي يصرفها عَنْهُ وحده لا أحد سواه، قَالَ تَعَالَى:{وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَآدَّ لِفَضْلِهِ} .
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنه: «واعْلَمْ أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشَيْء لم ينفعوك إلا بشَيْء كتبه الله لَكَ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشَيْء لم يضروك إلا بشَيْء كتبه الله عَلَيْكَ» .
فيرى أن أعماله فكرة فِي أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص
توحيده، وإلا فلو جرد توحيده لكَانَ لَهُ فيه شغل شاغل والله يتولى حفظه والدفع عَنْهُ، ولا بد وإن مزج لَهُ وإن كَانَ مرة ومرة فالله لَهُ مرة ومرة.
كما قَالَ بَعْض السَّلَف: من أقبل على الله بكليته أقبل الله عَلَيْهِ جملة ومن أعرض عَنْ الله بكليته أعرض الله عَنْهُ جملة ومن كَانَ مرة ومرة فالله مرة ومرة، فالتَّوْحِيد حصن الله الأعظم الَّذِي من دخله كَانَ من الآمنين.
قَالَ بَعْض السَّلَف: من خاف الله خافه كُلّ شَيْء، ومن لم يخف الله أخافه من كُلّ شَيْء.
هذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر، ولَيْسَ لَهُ أنفع من التوجه إِلَى الله وإقباله عَلَيْهِ، وتوكله عَلَيْهِ، وثقته به، وأن لا يخاف معه غيره، بل يكون خوفه منه وحده، ولا يرجو سواه، بل يرجوه وحده.
فلا يعلق قَلْبهُ بغيره، ولا يستغيث بسواه، ولا يرجو إلا إياه، ومتى علق قَلْبهُ بغيره ورجاه وخافه وكل إليه وخذل من جهته، فمن خاف شَيْئًا غير الله سلط عَلَيْهِ، ومن رجا شَيْئًا سِوَى الله خذل من جهته وحرم غيره، وهذه سُنَّة الله فِي خلقه، ولن تجد لسُنَّة الله تبديلاً.
شِعْرًا:
…
وَإِذَا اعْتَمَدْتَ عَلَى الإِلَهِ حَقِيقَةً
…
نَمْ فَالْمَخَاوِف كُلّهُنَّ أَمَان
اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا الاستقامة طوع أمرك وتفضل عَلَيْنَا بعافيتك وجزيل عفوك. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا:
…
أَرَى الصَّبْرَ مَحْمُودًا وعنَّهُ مُذَاهِبٌ فَكَيْفَ
…
إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ مَذْهَب
هُنَاكَ يَحِقّ الصَّبْرَ وَالصَّبْر وَاجِب
…
وَمَا كَانَ مِنه لِلضَّرُورَة أَوْجَب
هُوَ الْمَهْرَبُ الْمُنْجِي لَمَنْ أَحْدَقَتْ بِه
…
مَكَارِه دَهْر لَيْسَ مِنْهُنَّ مَهْرَب
اعد خِلالاً فَليه لَيْسَ لِعَاقِلٍ
…
مِنَ النَّاس إِنْ انْصَفَن عَنْهُنّ مَرْغَب
لَبُوسُ جَمَالٍ جُنَّةٌ مِنْ شَمَاتَةٍ
…
شِفَاءُ آسُّى يُثْنَى بِهِ وَيُثَوَّبُ
فَيَا عَجَبًا لِشَيءٍ هَذِي خِلاله
…
وَتَارِكْ مَا فِيهِ مِنْ الْحَظِّ أَعْجَبُ
آخر:
…
كُنْ حَلِيمًا إِذَا بُلِيتَ بغَيْضٍ
…
وَصَبُورًا إِذَا أَتَتْكَ مُصِيبة
فَاللَّيَالِي كَأَنَّهُنْ حُبَالَى
…
مُثْقلات يَلِدْنّ كُلّ عَجِيب
آخر:
…
اصْبِرْ فَفِي الصَّبْرِ خَيْر لَوْ عَلِمْتَ بِهِ
…
لَكُنْتَ بَارَكْتَ شُكْرَ أَصْحَابِ النِّعَمِ
آخر:
…
إِنِّي رَأَيْتُ الصَّبْرَ خَيْر مُعَوَّل
…
فِي النَّائِبَاتِ لَمَنْ أَرَادَ مُعَوَّلا
فَإِذَا نَبَا بي مَنْزِلٌ جَاوَزْتُهُ
…
وَجَعَلْتَ مِنْهُ غَيْرَهُ لي مَنْزِلا
وَإِذَا غَلا شَيْء عَلَيَّ تَرَكْتُهُ
…
فَيَكُونُ أَرْخَصُ مَا يَكُونُ إِذَا غلا
آخر:
…
صَبِرْتُ عَلَى بَعْضِ الأَذَى خَوْف كله
…
وَأَلْزَمْتُ نِفْسِي صَبْرَهَا فَاسْتَقَرَّت
وَجَرَّعْتُهَا الْمَكْرُوهَ حَتَّى تَدَرَّبَتْ
…
وَلَوْ حُمِّلْتَهُ جَمْلَةً لاشْمَأَزَّتْ
فَيَا رَبِّ عِزّ جر لِلنَّفَسِ ذلةً
…
وَيَا رَبّ نَفس بِالتَّذَلُل عَزَّتْ
وَمَا الْعِزّ إِلا خِيفَة الله وَحْدَهُ
…
وَمَنْ خَافَ مِنْهُ خَافَهُ مَا أقُلْتُ
وَمَا صِدْقُ نَفْسِي إِنَّ فِي الصِّدْقِ حَاجَتِي
…
فَارْضي بِدُنْيَايَ وِإِنْ هِيَ قَلَّت
وَاهْجُرْ أَبْوَابِ الْمُلُوكَ فَإِنَّنِي
…
أَرَى الْحِرْصَ جَلابَا لِكُلّ مَذَلّة
إِذَا مَا مَدَدْتَ الْكَفَّ الْتَمْس الْغنى
…
إِلَى غَيْرَ مَنْ قَالَ اسْأَلُونِي فَشُلَتْ
إِذَا طَرَقَتْنِى الْحَادِثَاتِ بِنَكْبَةِ
…
تَذَكَّرْتُ مَا عُوفِيت مِنْه فَقَلَّتْ
وَمَا نَكْبَة إِلا وَللهِ مِنَّةٌ
…
إِذَا قَابَلْتَهَا أَدْبَرْتَ وَاضْمَحَلْت
اللَّهُمَّ باعد بيننا وبين خطايانَا كما باعدت بين المشرق والمغرب ونقنا من الخطايا كما ينقى الثوب الأَبْيَض من الدنس، اللَّهُمَّ ظلمنا أنفسنا فاغفر لَنَا ذنوبنا وهب لَنَا تقواك واهدنا بهداك ولا تكلنا إِلَى أحد سواك واجعل لَنَا من كُلّ هم فرجًا، ومن كُلّ ضيق مخرجًا، اللَّهُمَّ أعذنا بمعافاتك من عقوبتك وبرضاك من سخطك، واحفظ جوارحنا من مخالفة أمرك واغفر لَنَا
ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
"فَصْلٌ "
وكما ورد فِي مدح الصبر والحث عَلَيْهِ آيات، ذكرنا طرفًا مَنْهَا فكَذَلِكَ وردت أحاديث نذكر إن شاء الله طرفًا مَنْهَا من ذَلِكَ ما ورد عَنْ صهيب بن سنان رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المُؤْمِن إن أمره كله خَيْر ولَيْسَ ذَلِكَ لأحد إلا للمُؤْمِنِ إن أصابته سراء شكر فكَانَ خيرا لَهُ وإن إصابته ضراء صبر فكَانَ خيرًا لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر» . متفق عَلَيْهِ.
وعن أبي مالك الحارث بن عاصم الاشعرى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإِيمَان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السموات والأَرْض، والصَّلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلّ النَّاس يغدو فبائع نَفْسهُ فمعتقها أَوْ موبقها» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
" ما يصيب المُؤْمِن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حَتَّى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» . متفق عَلَيْهِ.
وعن أَنَس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أراد الله بعبده الْخَيْر عجل لَهُ العقوبة فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أراد الله بعبده الشَّر أمسك عَنْهُ بذنبه حَتَّى يوافى به يوم القيامة» . وَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مَعَ عظم البَلاء، وإن
الله إِذَا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرِّضَا ومن سخط فله السخط» . رَوَاهُ الترمذي وقَالَ: حديث حسن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الَّذِي يملك نَفْسهُ عَنْدَ الْغَضَب» . متفق عَلَيْهِ. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البَلاء بالمُؤْمِن والمؤمنة فِي نَفْسهُ وولده وماله حَتَّى يلقى الله وما عَلَيْهِ خطيئة» . رَوَاهُ الترمذي. وقَالَ: حديث حسن صحيح.
وعن مصعب بن سعد عَنْ أبيه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أي النَّاس أشد بَلاء، قَالَ:«الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل حسب دينه فَإِنَّ كَانَ فِي دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كَانَ فِي دينه رقة ابتلاه الله حسب دينه، فما يبرح البَلاء فِي الْعَبْد حَتَّى يمشي على الأَرْض وما عَلَيْهِ خطيئة» . رَوَاهُ ابن ماجة وابن أبي الدُّنْيَا والترمذي وقَالَ: حديث حسن صحيح.
عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يزال البَلاء بالمُؤْمِن والمؤمنة فِي جسده وَفِي ماله وَفِي ولده حَتَّى يلقى الله وما عَلَيْهِ خطيئة» . وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةِ: دخل أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ لَهُ رسول الله: «أخذتك أم ملدم "؟ قَالَ: وما أم ملدم؟ قَالَ: «حر يكون بين الجلد واللحم» . قَالَ: ما وجدت هَذَا قط. قَالَ: «فهل أخذك الصداع» . قَالَ: وما الصداع. قَالَ: «عرق يضرب على الإِنْسَان فِي رأسه» . قَالَ: ما وجدت هَذَا قط فَلَمَّا ولى قَالَ: «من أحب أن ينظر إِلَى رجل من أهل النار فلينظر إِلَى هَذَا» . رَوَاهُ أحمد.
وعن جابر قَالَ: استأذنت الحمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: «من هَذِهِ» قَالَتْ: أم ملدم فأمر بها إِلَى أَهْل قباء فلقوا مَنْهَا ما يعلم الله فأتوه فشكو ذَلِكَ إليه قَالَ: «ما شئتم إن شئتم أن أدعو الله فيكشفها عنكم وإن شئتم أن تَكُون لكم طهورًا» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْ يفعل. قَالَ: «نعم» قَالُوا: فدعها يَا رَسُولَ اللهِ.
شِعْرًا:
…
تَطْرُقُ أَهْلُ الْفَضْلِ دَونَ الْوَرَى
…
مَصَائِب الدُّنْيَا وَآفَاتِهَا
كَالطَّيْرِ لا يُسْجَنُ مِنْ بِيْنَهَا
…
إِلا الَّتِي تُطْرَبُ أَصْوَاتُهَا
ولابن حبان فِي صحيحه من رواية العلاء بن المسيب عَنْ أبيه عَنْ سعد قَالَ: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي النَّاس أشد بَلاء قَالَ: «الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل يبتلى النَّاس على حسب دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بَلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البَلاء حَتَّى يمشي فِي النَّاس وما عَلَيْهِ خطيئة» .
وعن أبي سعيد أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ موعوك عَلَيْهِ قطيفة فوضع يده فوق القطيفة، فقَالَ: ما أشد حُمَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«إِنَّا كَذَلِكَ يُشَدَّدُ عَلَيْنَا البَلاء ويضاعف لَنَا الأجر» .
ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ من أشد النَّاس بَلاء؟ قَالَ " الأَنْبِيَاء "، قَالَ: ثُمَّ من؟ قَالَ: «الْعُلَمَاء» . قَالَ: ثُمَّ من؟ قَالَ: «الصالحون كَانَ أحدهم يُبْتَلى بِالْقَمْلِ حَتَّى يَقْتُله وَيُبْتَلى أَحدهم بالفقر حَتَّى ما يجد إلا العباءة يلبسها، ولا أحدهم كَانَ أَشد فَرَحًا بالبَلاء من أحدكم بالعطاء» . رَوَاهُ ابن ماجة وابن أبي الدُّنْيَا والحاكم واللفظ لَهُ وقَالَ: صحيح على شرط مُسْلِم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليكون لَهُ عَنْدَ الله المنزلة فما يبلغها بعمل فما يزال يبتليه بما يكره حَتَّى يبلغه إياها» . رَوَاهُ أبو يعلى وابن حبان فِي صحيحه من طريقه وَغَيْرِهمَا.
وعن مُحَمَّد بن خالد عَنْ أبيه عَنْ جده وكَانَتْ لَهُ صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إن الْعَبْد إِذَا سبقت لَهُ من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله فِي جسده، أَوْ ماله، أَوْ فِي ولده، ثُمَّ صبر على ذَلِكَ حَتَّى يبلغه المنزلة التي سبقت لَهُ من الله عز وجل» . رَوَاهُ أحمد وَأَبُو دَاود وأبو يعلى والطبراني فِي الكبير والأوسط.
وَرُوِيَ فيه أيضًا عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليجرب أحدكم بالبَلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار، فمنه ما يخَرَجَ كالذهب الإبريز فذاك الَّذِي حماه الله من الشبهات ومنه ما يخَرَجَ دون ذَلِكَ فَذَلِكَ الَّذِي يشك بَعْض الشك ومنه ما يخَرَجَ كالذهب الأسود فَذَلِكَ الَّذِي افتتن» . وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
"موعظة "
عباد الله كلنا ولله الحمد قَدْ رضي بِاللهِ ربًا وبالإسلام دينًا، وبمُحَمَّد نبيًا ورسولاً، وبالقرآن إمامًا، والكعبة قبلة، وبالْمُؤْمِنِينَ إِخوانًا وتبرأنَا من كُلّ دين يخالف دين الإِسْلام، وآمنا بكل كتاب أَنزله الله وبكل رسول أرسله الله، وبملائكة الله وبالقدر خيره وشره وبالْيَوْم الآخِر وبكل ما جَاءَ به مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم عَنْ الله، على ذَلِكَ نحيا وعَلَيْهِ نموت، وعَلَيْهِ نَبْعَث إنشاء الله من الآمنين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون بفضله وكرمه.
ثُمَّ اعلموا معاشر الإِخْوَان أنَّه من رضي بِاللهِ ربًا لزمه أن يرضى بتدبيره، واختياره لَهُ، وبمر قضائه، وأَن يقنع بما قسم لَهُ من الرزق، وأن يداوم على طاعته، ويحافظ على فرائضه، ويجتنب محارمه، ويكون صابرًا عَنْدَ بلائه، موطنًا نَفْسهُ على ما يصيبه من الشدائد، بعيدًا كل البعد عَنْ نار الجزع، التي تتأجج فِي قلب كُلّ امرئ يجهل بارئه ومولاه.
فإن رَأَيْت نفسك أيها الأخ تريد أن تجزع عَنْدَ ملمة، فقف أمامها موقف الناصح القدير، أفهمها أنها هِيَ السبب فيما أنزل الله بها من بَلاء صغير أَوْ كبير.
وإن لم تصدقك فاقرأ عَلَيْهَا قول الله تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} فإنها إِذَا سمعت ذَلِكَ وجهت اللوم
إلى نفسها على معاصيها، وهدأت الثورة الثقِيْلة.
وأفهمها أن لَيْسَ بينها ولا بين ربها عداوة، فإنه بعباده الرءوف الرحيم، وأفهمها أن البلايا قَدْ تلزم الْعَبْد حَتَّى يصبح مغفورة ذنوبه كُلّهَا، صغيرها، والكبير، وأفهمها أن نتيجة ذَلِكَ أن صَاحِب البلايا يأتي يوم القيامة فِي أمن مولاه الكريم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يصب منه» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ. وَفِي حديث أَنَس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «إِذَا أراد الله بعبده الْخَيْر عجل لَهُ العقوبة فِي الدُّنْيَا» .
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مَعَ عظم البَلاء وإن الله إِذَا أحب قومًا ابتلاهم» . الْحَدِيث.
وفي حديث أبي هريرة قَالَ: قَالَ: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يزل البَلاء بالمُؤْمِن والمؤمنة فِي نَفْسهُ وولده وماله حَتَّى يلقى الله تَعَالَى وما عَلَيْهِ خطيئة» . رَوَاهُ الترمذي، وقَالَ: حديث حسن صحيح، أَفْهِمْ نفسك كُلّ ذَلِكَ فإنه يخفف عَنْهَا آلام البلايا، وَرُبَّمَا جعلها من المحبوبات.
وأفهمها أن الله وعد الصابرين أن يجزيهم أجرهم بغير حساب وأفهمها أن الله حكيم فِي كُلّ تصرفاته، وقل لها أن الجزع لا يرد ما نزل من البلاء أبدًا، بل ما دبره الحكيم العليم لا بد من وقوعه فلا فائدة فِي الجزع والحزن، وقل إن عاقبة الجزع والتسخط النار، وعاقبة الصبر والرِّضَا بما قضاه الله الْجَنَّة، وقل أن شماتة الأعداء فِي الجزع، وغيظهم فِي الصبر، الَّذِي يتأكد لزومه على الرِّجَال والنساء.
وتأكد واطمئن أنها إِذَا سمعت منك كُلّ ذَلِكَ رضيت بإذن الله كُلّ الرِّضَا، ولزمت الآداب، فتعيش كُلّ حياتها تروح وتغتدي فِي جنة رضاها،
مهما برحت بها البلايا والأوصاب، وبذَلِكَ مَعَ توفيق الله تَعَالَى تجمَعَ بين سعادة الدُّنْيَا والآخِرَة وهكَذَا تَكُون عواقب الصابرين الأبطال.
شِعْرًا:
…
وَأَصْبَحْتُ فِيمَا كُنْتُ أَبْغِي مِنَ الْغِنَا
…
إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ أَحْوَجَا
وَحَسِبْتُ نَفْسِي بَيْنَ وَبَيْتِي وَمَسْجِدِي
…
وقَدْ صِرْتُ مِثْل النِّسْرِ أَهْوَى التَّعَرّجَا
آخر:
…
مَا أَحْسَنَ الصَّبْر فِي الدُّنْيَا وَأَجْمَلَهُ
…
عَنْدَ الإِلَهِ وَأنْجَاهْ مِنْ الْجَزَعِ
مَنْ شَدَّ بِالصَّبْرِ كَفًا عِنْدَ مُؤْلِمَةٍ
…
أَلْوَتْ يَدَاهُ بِحَبْلٍ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ
اللَّهُمَّ نور قلوبنا واشرح صدورنا ويسر أمورنا وأحسن منقلبنا وأيدنا بروح منك وَوَفِّقْنَا لما تحبه وترضاه وثبتنا بالقول الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة واغفر لَنَا ذنوبنا واستر عيوبنا واكشف كروبنا وأصلح ذات بينا وألف فِي طَاعَتكَ وطاعة رسولك بين قلوبنا واغفر لَنَا ولوالدين وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فَصْلٌ "
ويكفي فِي مدح الصبر وشرفه وعلو مكانته وأَنَّه لا يناله إلا من وفقه الله، أن الصبر طريقة الرسل عَلَيْهمْ أفضل الصَّلاة والسَّلام، فقَدْ قَالَ الله تَعَالَى لنبيه صلى الله عليه وسلم وصفوة خلقه:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} ، وقَالَ:{فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} .
فبين تَعَالَى أن كُلَّ رسول أرسله إِلَى أمة من الأمم لاقى أذىً وألمًا من قومه وتكذيبًا، وقَالَ لرسوله صلى الله عليه وسلم: آمرًا ومسليًا {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} الآية.
ألا وإن من حكمة الله فِي تعريض صفوة خلقه لهذه المكاره والأذايا
وفي أمرهم بالصبر عَلَيْهَا إفهامًا لخلقه أَنَّ الدُّنْيَا دار بَلاءٍ واختبارٍ، لا دار مقامٍ ولذةٍ، واستقرارٍ، وأنها محدودة الأجل، مقصود مَنْهَا صالح الْعَمَل.
فَانْظُرْ إِلَى آدم عليه السلام وما نزل به الآلام والأحزان أَخْرَجَهُ الله بفتنة إبلَيْسَ من جنته وأهبطه إِلَى الأَرْض ليعمرها هُوَ وأبناؤه، وهي دار العناء والفناء وذاق ثكل ولده هابيل باعتداء أخيه عَلَيْهِ قابيل.
وانظر أول رسول أرسل إِلَى أَهْل الأَرْض نوح عَلَيْهِ وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام وقَدْ مكث يدعو قومه ألف سُنَّة إلا خمسين عامًا (950) وهم يهزؤون ويسخرون منه يدعوهم ليلاً ونهارًا سرًا وجهارًا ولم يتوانَا ولم يضجر ولم يمل بل واصل الجهود النبيلة الْخَالِصَة الكريمة بلا مصلحة لَهُ ولا منفعة مِنْهُمْ.
ويحتمل فِي سبيل هَذِهِ الدعوة الاستكبار والإعراض، هَذِهِ المدة الطويلة والمستجيبون لا يزيدون، والمعرضون فِي زيادة، ولما أيس من إيمانهم أمر أن يصنع الفلك فكَانُوا إِذَا مروا عَلَيْهِ ضحكوا منه وسخروا وقَالُوا كَانَ بالأمس نبيًا والْيَوْم نجارًا ولا يزيد من جوابه على أن يَقُولُ:{إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحَِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} .
وزَادَ بلاؤه أن أُغْرِقَ ابنه ينظر إليه ولا يستطيع لَهُ إنقاذًا إذ قَدْ غلب على الابن الشقاء فناجى ربه نوح فقَالَ لَهُ ربه: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} .
ثُمَّ انظر إِلَى شيخ المرسلين وَجَدَ الْمُسْلِمِين خليل الرحمن عليه السلام وما تجرع من الغصص والآلام فقَدْ جد فِي دعوة أبيه إِلَى التَّوْحِيد حَتَّى هدده أبوه بالرجم والتعذيب وقومه قَالُوا: اقتلوه أَوْ احرقوه ثُمَّ ما جرى عَلَيْهِ حين أمر بذبح ابنه فأقَدِمَ عَلَى ذلك.
ثُمَّ انظر إِلَى مُوَسى وما جرى عَلَيْهِ وما لا قى فِي أول أمره وآخره مَعَ فرعون لعنه الله وقومه ثُمَّ انظر إِلَى عيسى عليه السلام وما لقيه من قذف أمه وقذفه رضي الله عنهما واضطهاد بنى إسرائيل قومه حَتَّى ائتمروا على صلبه.
ثُمَّ انظر إِلَى لوط عليه السلام وما جرى لَهُ مَعَ قومه المنحرفين الشاذين المستهترين بالنذر، قَالَ تَعَالَى:{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} الآية، فصبر إِلَى أن نصره الله وأرسل على قومه حاصبًا وجعل عاليها سافلها واللهُ على كُلّ شَيْء قدير وَهُوَ نعم المولى ونعم النصير.
شِعْرًا:
…
ثَمَانِيَةٌ حَتْمٌ عَلَى سَائِرِ الْوَرَى
…
فَكُلّ امْرِئٍ لا بُدَّهُ مِنْ ثَمَانِيَهْ
سُرُورٌ وَاجْتِمَاعٌ وَفُرْقَة
…
وَعُسْر وَيُسْر ثُمَّ سِقَم وَعَافِيَهْ
آخر:
…
إِنَّ الْحَيَاةَ مَنَامٌ وَالْمَآل بِنَا
…
إِلَى انْتِبَاه وَآتٍ مِثْل مُنْعَدِمِ
وَنَحْنُ فِي سَفَرٍ نَمْضِي إِلَى حُفَرٍ
…
فَكُلُّ آنٍ لَنَا قُرْبٌ مِنْ عَدَمِ
وَالْمَوْتُ يَشْمُلُنَا وَالْحَشْرُ يَجْمَعُنَا
…
وَبِالتُّقَى الْفَخْرُ لا بِالْمَالِ وَالْحَشَمِ
صُنْ بِالتَّعَفُّفِ عِزَّ النَّفْسَ مُجْتَهِدًا
…
فَالنَّفْس أَعْلَى مِن الدُّنْيَا لِذِي الْهِمَم
وَاغْضُضْ عُيُونَكَ عَنْ عَيْب الأَنَام وَكُنْ
…
بِعَيْبِ نَفْسِكَ مَشْغُولاً عَنْ الأُمَمِ
فَإِنَّ عَيْبَكَ تَبْدُو فِيكَ وَصَمْتُهُ
…
وَأَنْتَ مِنْ عَيْبِهِمْ خَال مِنَ الوَصْم
جَازِي الْمُسِيء بِإِحْسِانٍ لِتَمْلِكَهُ
…
وَكُنْ كَعَوْدٍ يِفُوحُ الطِّيب فِي الضَّرْمِ
وَمَنْ تَطَلَّبَ خِلا غَيْرَ ذَي عِوَجٍ
…
يَكُنْ كَطَالِبِ مَاءٍ مِنْ لَظَى الْفَحْمِ
وقَدْ سَمِعْنَا حِكَايَاتِ الصِّدْيِق وِلَمْ
…
نَخُلْهُ إِلا خَيَالاً كَانَ فِي الْحِلْمِ
إِنَّ الإقَامَةِ فِي أَرْضٍ تُظَام بِهَا
…
وَالأَرْضُ وَاسِعَةٌ ذُلٌّ فَلا تُقِمِ
وَلا كَمِال بِدَارٍ لا بَقَاءَ لَهَا
…
فَيَا لَهَا قِسْمَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْقِسَمِ
دَارٌ حَلاوَتُهَا لِلْجَاهِلِينَ بِهَا
…
وَمُرُّهَا لِذَوِي الأَلْبَاب وَالْهِمَمِ
أَبْغِي الْخَلاصِ وَمَا أَخْلَصْتَ فِي عَمَلٍ
…
أَرْجُو النّجَاة وَمَا نَاجَيْتَ فِي الظُّلْمِ
لَكِنْ لِي أَملاً فِي الله يُؤْنِسُنِي
…
وَحُسْنُ ظَنِّ بِهِ ذَا الْجُود وَالْكَرَمِ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكْ فِي قلوبنا وقوها، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا محبة أوليائك وبغض أعدائك وهجرانهم والابتعاد عنهم واغفر لَنَا، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنَا مِنْ المتقين الأَبْرَار واسكنا معهم فِي دار الْقَرَار، اللهم وَفَّقَنَا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغاء إليك وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُن فِي طَاعَتكَ والمبادرة إِلَى خدمتك وحسن الآدَاب فِي معاملتك والتسليم لأَمْرِكَ والرِّضَا بقضائك والصبر على بَلائِكَ وَالشُّكْر لنعمائك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأحياء مِنْهُمْ والميتينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله صحبه أجمعين.
" فَصْلٌ "
ثُمَّ انظر إِلَى خطيب الأَنْبِيَاء عليه السلام، وما لا قى من قومه المتمردين على الحق والعدل، المفسدين فِي الأَرْض قطاع الطرق، والظلمة الَّذِينَ يفتنون النَّاس عَنْ دينهم، ويصدونهم، المقاتلين لمن يدعوهم إِلَى الأَعْمَال الصَّالِحَة والأَخْلاق الفاضلة بالقَسْوَة والغلظة، حيث يقولون:{لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ} الآية.
ثُمَّ انظر إِلَى صالح عليه السلام حين دعاء قومه وما قابلوه به حين جَاءَ بالبينة الدالة على صدقه، فيعتدون عَلَيْهَا ويتحدونه باستعجال الْعَذَاب.
ثُمَّ انظر إِلَى هود عليه السلام، واتهام قومه لَهُ بالسفاهة والكذب بلا ترو مِنْهُمْ ولا تدبر ولا دَلِيل، وأخيرًا يتحدونه بالْعَذَاب.
وانظر إِلَى يونس وما لقي من قومه حَتَّى ضاق صدره بتكذيب قومه فأنذرهم بعذاب قريب، وغادرهم مغضبًا آبقًا فقاده الْغَضَب إِلَى شاطئ
البحر، حيث ركب سفينةً مشحونةً وَفِي وسط لجة البحر ناوأتها الرياح والأمواج وأشرفت على الغرق، فساهموا على أن من تقع القرعة عَلَيْهِ يلقى فِي
البحر لتخف السَّفِينَة فوقعت القرعة على يونس نَبِيّ اللهِ ثلاث مرات وهم يبخلون به أن يلقى من بينهم.
فتجرد من ثيابه ليلقي نَفْسهُ وهم يأبون عَلَيْهِ ذَلِكَ، وأمر الله تَعَالَى حوتًا من البحر الأخضر أن يشق البحار وأن يلتقم يونس عليه السلام، ولا يهشم لَهُ لحمًا ولا يكسر لَهُ عظمًا فَجَاءَ ذَلِكَ الحوت وألقى يونس نَفْسهُ فالتقمه الحوت وذهب به.
ولما استقر يونس فِي بطن الحوت حسب أنه قَدْ مَاتَ، ثُمَّ حرك رأسه ورجليه، وأطرافه، فإذا هُوَ حي فقام فصلى فِي بطن الحوت، وكَانَ من جملة دعائه يَا رب اتخذت لَكَ مَسْجِدًا فِي موضع لم يبلغه أحد من النَّاس، فهَذَا ما لقيه يونس عليه السلام، ذكر ذَلِكَ بَعْض الْعُلَمَاء رحمهم الله.
ثُمَّ إِلَى ما لقيه صفوة الخلق مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من قومه، من التكذيب والاستهزاء، والإيذاء في نَفْسهُ، وفيمن يتبعه من المستضعفين، حَتَّى ائتمروا على قتله، فهاجر إِلَى الْمَدِينَة تاركًا وطنه وعشيرته، وانظر ما لقيه فِي حروبهم، وقَدْ جرحوه، وكسروا رباعيته حَتَّى سال دمه.
إذا نظرت إِلَى ذَلِكَ وإلى غيره علمت أنَّ الدُّنْيَا مشحونة بالمصائب والانكاد، وأنها دار ممر لا دار مقر، ولو كَانَتْ دار مقر واطمئنان، لكَانَ أولى بذَلِكَ رسل الله، وأنبياؤه، وأصفياؤه فالعاقل من يحرص على عقيدته الدينية كما يحرص على روحه فيحصنها من الزيغ والضلال، ويقوم بما فرض الله عَلَيْهِ، ويجتنب ما نهى الله عَنْهُ صابرًا على ما قدره الله عَلَيْهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.
" فَصْلٌ "
اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه، أن لتسهيل
المصائب والشدائد البدنية والمالية أسباب إِذَا قارنت حزمًا وصادقت عزمًا هان وقعها، وقل تأثيرها على الدين والْقَلْب والبدن، بأذن الله تَعَالَى.
فأَوَّلاً الآيات وَالأَحَادِيث المتقدمة التي فيها مدح الصابرين وبشارتهم ووعدهم بالجزاء الحسن ومن ذَلِكَ أن يعلم أن مرارة الدُّنْيَا هِيَ بعينها حلاوة فِي الآخِرَة وحلاوة الدُّنْيَا هِيَ بعينها مرارة الآخِرَة، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إِلَى حلاوة دائِمَّة خَيْر من عكس ذَلِكَ.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «حفت الْجَنَّة بالمكاره وحفت النار بالشهوات "، وكَذَلِكَ قوله فِي الصحيح: «يؤتى يوم القيامة بأنعم أَهْل الدُّنْيَا من أَهْل النار فيصبغ فِي النار صبغة، ثُمَّ يقَالَ: يَا ابن آدم هل رَأَيْت خيرًا قط هل مر بك نعيم قط؟ فَيَقُولُ: لا وَاللهِ يَا رب، ويؤتى بأشد النَّاس بؤسًا فِي الدُّنْيَا من أَهْل الْجَنَّة فيصبغ فِي الْجَنَّة صبغة فيقَالَ لَهُ: يَا ابن آدم هل رَأَيْت بؤسًا قط هل مر بك شدة قط؟ فَيَقُولُ: لا وَاللهِ يَا رب " الْحَدِيث.
ومن ذَلِكَ استشعار النفس بما تعلمه من نزول الْفَنَاء وتقضي المسار، وأن لها آجالاً منصرمةٌ ومددًا منقضيةً، إذ لَيْسَ للدنيا حالٌ تدوم ولا لمخلوق عَلَيْهَا بقاء كما قَالَ تَعَالَى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} .
شِعْرًا:
…
بَنُو الوَقْتِ مِنْ فَجَعَاتِهِ فِي تَمَزُّقٍ
…
فَكُلَهُمْ يَغْدُو بِشَلْوٍ مُقَدَّدِ
وَإِنَّي رَأَيْتُ الوَقْتَ جَمًّا خُطُوبُهُ
…
وَإِنْ لَمْ يُرَوْعْ حَادِث فكَأَنْ قَدِ
وروى ابن مسعود رضي الله عنه أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ما مثلي ومثل الدُّنْيَا إلا كمثل راكب مال إِلَى ظِلّ شجرة فِي يوم صائف ثُمَّ راح وتركها» .
ومنها أن يتصور انحلال الشدائد وانكشاف الهموم وأن الله قدرها فأوقات لا تنصرم قبلها ولا تستديم بعدها فلا تقصر تلك الأوقات بجزع
ولا تطول بصبر، وأن كُلّ يوم يمر بها يذهب مَنْهَا بشطر ويأخذ مَنْهَا بنصيب حَتَّى تنجلي وتنفرج ويزول ما كَانَ من المكاره والخطوب.
وقَدْ قص الله عَلَيْنَا فِي كتابه قصصًا تتضمن وقوع الفرج بعد الكرب والشدة كما قص نجاة نوح ومن معه في الفلك من الكرب العظيم مع إغراق سائر أهل الأرض.
وكما قص نجاة إبراهيم عليه السلام من النار حين ألقاه المشركون فِي النار وأنه جعلها بردًا وسلامًا، وكما قص قصة إبراهيم عليه السلام مَعَ ولده الَّذِي أمر بذبحة، ثُمَّ فداه الله بذبح عَظِيم.
وكما قص قصة مُوَسى عليه السلام مَعَ أمه لما ألقته فِي اليم حَتَّى التقطه آل فرعون، وقصته مَعَ فرعون لما نجى الله سُبْحَانَهُ مُوَسى وأغرق عدوه فرعون وقَوْمه.
وكما قص قصة أيوب ويونس ويعقوب، ويوسف عليهم السلام قصة قوم يونس لما آمنوا، وكما قص قصص مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ونصره على أعدائه بإنجائه مِنْهُمْ فِي عدة مواطن، مثل قصته فِي الغار، وقصة يوم بدر، ويوم أحد، ويوم حنين.
وكما قص الله قصة عَائِشَة رضي الله عنها وأرضاها فِي حديث الإفك وبرأها الله مِمَّا رميت به، وقصة الثلاثة الَّذِينَ خلفوا حَتَّى إِذَا ضاقت عَلَيْهمْ الأَرْض بما رحبت، وضاقت عَلَيْهمْ أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثُمَّ تاب عَلَيْهمْ ليتوبوا.
وَفِي السُنَّة من هَذَا المعنى شَيْءٌ كثير مثل قصة الثلاثة الَّذِينَ دخلوا الغار فانطبقت عَلَيْهمْ الصخرة، فدعوا الله بأَعْمَالُهُمْ الصَّالِحَة، ففرج الله عنهم، ومثل قصة إبراهيم وسارة مَعَ الجبار الَّذِي طلبها من إبراهيم ورد الله كيد الفاجر.
وَإِذَا اشتد الكرب وعظم الخطب كَانَ الفرج قريبًا فِي الغالب بإذن الله قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا} ، وقَالَ تَعَالَى:{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} .
وأخبر عَنْ يعقوب أنه لم ييأس من لقاء يوسف وقَالَ لإخوته: اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله، وقَالَ: عَسَى الله إن يأتيني بِهُمْ جميعًا، ومن لطائف اقتران الفرج باشتداد الكرب، أن الكرب إِذَا اشتد، وعظم وتناهى، وُجِدَ الإياس من كشفه من جهة المخلوق، ووقع التعلق بالخالق.
كما قَالَ الإِمَام أحمد واستدل عَلَيْهِ بقول إبراهيم عليه السلام لما عرض لَهُ جبريل عليه السلام فِي الهواء، وقَالَ: ألك حَاجَة، فقَالَ: أما أليك فلا وإما إِلَى الله فبلَى والتوكل من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج.
فإن الله يكفي من توكل عَلَيْهِ كما قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، ومنها أن الْعَبْد إِذَا اشتد عَلَيْهِ الكرب فإنه يحتاج حينئذ إِلَى مجاهدة الشيطان لأنه يأتيه فيقنطه ويسخطه ومنها أن المُؤْمِن إِذَا استبطأ الفرج وآيس منه ولاسيما بعد كثرة دعائه وتضرعه ولم يظهر لَهُ أثر الإجابة رجع على نَفْسهُ باللأَئِمَّة وَيَقُولُ لها إنما أتيت من قبلك ولو كَانَ فيك خيرًا لأجبت وَهَذَا اللوم أحب إِلَى الله من كثير من الطاعات. أ. هـ.
شِعْرًا:
…
وَهَوِّنْ عَلَيْكَ فَكُلُّ الأَمْرِ تَنْقَطِعُ
…
وَخَلّ عَنْكَ عَنَانَ يَنْدَفِعُ
فَكُلّ هَمٍّ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجُ
…
وَكُلُّ أَمْرٍ إِذَا مَا ضَاق يَتَّسِعُ
إِنَّ البَلاءَ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ
…
فَاللهُ يُفَرِّجَهُ وَسَوْفَ يَنْقَطِعُ
آخر:
…
إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ الْقُلُوبُ
…
وَضَاقَ بِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ
وَأَوْطَأَتْ الْمَكَارِهْ وَاطْمَأَنَّتْ
…
وَأَرْسَتْ فِي أَمَاكِنِهَا الْخُطُوبِ
وَلَمْ تَرَ لانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا
…
وَلا أَغْنَى بِحِيلَتِهِ الأَرِيبُ
أَتَاكَ عَلَى قُنُوطٍ مِنْكَ غَوْثٍ
…
يَمُنُّ بِهِ اللطِيفُ الْمُسْتَجِيبُ
وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ
…
فَمَوْصُولٌ بِهَا فَرَجٌ قَرِيبُ
آخر:
…
إِنَّ الأُمُورَ إِذَا مَا اللهُ يَسَّرَهَا
…
أَتَتْكَ مِنْ حَيْثُ لا تَرْجُو وَتَحْتَسِب
وَكُلُّ مَا لَمْ يُقَدِّرَهُ الإِلَهُ فَمَا
…
يُفِيدُ حِرْصُ الْفَتَى فِيهِ وَلا النَّصَبُ
ثِقْ بِالإِلَهِ وَلا تَرْكَنُ إِلَى أَحَدٍ
…
فَاللهُ أَكْرَمُ مَنْ يُرْجَ وَيُرْتَقَبُ
آخر:
…
وَكَمْ للهِ مِنْ لُطْفٍ خَفِيٍّ
…
يَدِقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ
وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ
…
وَفَرَّجَ لَوْعَةَ الْقَلْبِ الشَّجِيِّ
وَكَمْ هَمٍّ تُسَاءُ بِهِ صَبَاحًا
…
فَتَعْقُبُهُ الْمَسَرَّةُ بِالْعَشِي
إِذَا ضَاقَتْ بِكَ الأَسْبَابُ يَوْمًا
…
فَثِقْ بِالْوَاحِدِ الأَحَدِ الْعَلِيِّ
وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.
" فَصْلٌ "
ومنها أن يتسلَّى بذوِي الغير، ويتسلَّى بأولى العبر، ويعلم أنهم الأكثرون عددًا والأسرعون مددًا، فيستجد من سلوة الأسى وحسن العزاء إِلَى ما يخفف حزنه ويقلل هلعه. وقَالَ عمر رضي الله عنه: الصقوا بذوي الغير تتسع قلوبكم. أي الَّذِينَ تنتقل أحوالهم إذ يتسلى مرقع الخف بالَّذِي مخرق خفه، ويتسلى مخرق الخف بالحاسر الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء، وتسلى الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء بالأعرج، والأعرج بالأقطع، وهكَذَا كُلّ يتسلى بمن هُوَ أعظم منه فِي المصيبة.
والدُّنْيَا إِذَا تأملها اللبيب وجدها كُلّهَا متاعب وبلايا ومصائب، وقَدْ أحاطت بِالنَّاسِ من رؤوسهم إِلَى أقدامهم، فتَرَى مصابًا بالعلل والأسقام كُلَّما برئ من علة أصابته علة أخرى، كُلَّما شفاه الله من مرض جاءه مرض
آخر، وتجد هَذَا مصابًا بعقوق الأبناء لأنهم خرجوا عَنْ الصراط المستقيم، وسلكوا طَرِيق الشيطان، وتجد الآخر مصابًا بسوء خلق زوجته فهو معها دَائِمًا فِي شقاق وعناء ونشوز ولجاج.
وتجد مصابًا بالفقر المدقع وَهَذَا تجده مصابًا بالعقم، وَهَذَا تجده مصابًا بكساد تجارته، وَهَذَا مصابًا ببوار زراعته، أَوْ صناعته، وَهَذَا مصابًا بجيران سوء يذيعون ما يسوءُ ويكتمون الْخَيْر، وتجده معهم دَائِمًا فِي لجاج، وَهَذَا تجده مَعَ أقربائه فِي شقاق وقطيعة، وشكاوى وتردد بين المحاكم والمناطق، وَهَذَا تجدع مَعَ شركائه أَوْ مَعَ أرحامه كَذَلِكَ فِي نكد.
وتَرَى هَذَا لا حظ لَهُ فِي الحياة يجد ويجتهد ولا ينال مناه ويشقى ويتعب ولا يحصل على مبتغاه، وَهَذَا تجده مسلطين عَلَيْهِ والديه أَوْ أحدهما وَهَذَا تجده مظلومًا وَهَذَا مسجونًا، وهكَذَا إِلَى نهاية سلسلة الآلام التي لا تقف عَنْدَ حد ولا يحصيها عد، ولَقَدْ صدق من قَالَ:
شِعْرًا:
…
كُلُّ مَنْ لاقَيْتُ يَشْكُو دَهْرَهُ
…
لَيْتَ شِعْرِي هَذِهِ الدُّنْيَا لِمَنْ
آخر:
…
أَلَحَّ عَلَيَّ السُّقْمُ حَتَّى أَلِفْتُهُ
…
وَمَلَّ طَبِيبِي جَانِبِي وَالْعَوَائِدُ
آخر:
…
تَعَوَّدْتُ مَسَّ الشَّرَّ حَتَّى أَلِفْتُهُ
…
وَأَسْلَمَنِي طُولُ البَلاءِ إِلَى الصَّبْرِ
وَوَسَّعَ صَدْرِي لَلأَذَى كَثْرَةُ الأَذَى
…
وَكَانَ قَدِيمًا قَدْ يضيق به صَدْرِي
إِذَا أَنَا لِمْ أَقْبَلْ مِنَ الدَّهْرِ كُلَّمَا
…
تَكَرَّهْتُهُ قَدْ طَالَ عُتْبِي عَلَى الدَّهْرِ
آخر:
…
رُوِّعْتُ بَالْبَيْنِ حَتَّى مَا أَرَاعَ لَهُ
…
وَبِالْمَصَائِبِ فِي أَهْلِي وَجِيرَانِ
آخر:
…
تَعَزَّ بِحِسْنِ الصَّبْرِ عَنْ كُلِّ هَالِكِ
…
فَفِي الصَّبْرِ مَسْلاةُ الْهُمُوم اللوَازِمِ
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَصْبِرْ عَزَاءً وَحِسْبَةً
…
سَلَوْتَ كَمَا تَسْلُو قُلُوبُ الْبَهَائِمِ
آخر:
…
ولما رَأَيْتُ الوَقْتَ يُؤْذِنُ صَرْفُهُ
…
بِتَفْرِيقِ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَبَائِبِ
رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي فَوَطَّنْتُهَا عَلَى
…
رُكُوبِ جَمِيل الصَّبْرِ عَنْدَ النَّوَائِبِ
وَمَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا عَلَى سُوءِ فِعْلِهَا
…
فَأَيَّامُهُ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَصَائِبِ
وَمَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا عَلَى سُوءِ فِعْلِهَا
…
فَأَيَّامُهُ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَصَائِبِ
فَخُذْ خِلْسَةً مِنْ كُلِّ يَوْمٍ تَعِيشُهُ
…
وَكُنْ حَذِرًا مِنْ كَآمِنَاتِ الْعَوَاقِبِ
آخر:
…
وَمَا خَيْرَ عَيْشُ نِصْفُهُ سِنَةُ الْكَرَى
…
وَنِصَفٌ بِهِ نَعْتَلُ أَوْ نَتَوَجَّعُ
مَعَ الوَقْتِ يَمْضِي بُؤْسُهُ وَنَعِيمُهُ
…
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَالوَقْتُ عُمْرُكَ أَجْمَعُ
آخر:
…
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تَرُومُهَا
…
صَفْوًا مِنَ الأَقْذَارِ وَالأَكْدَارِ
وَمُكَلِّفُ الأَيَّامِ ضَدَّ طِبَاعِهَا
…
مُتَطَلِّبُ فِي النَّارِ جَذْوَةَ نَارِ
وَإِذَا رَجَوْتَ الْمُسْتَحِيلَ فَإِنَّمَا
…
تَبْني الرَّجَاءَ عَلَى شَفِِيرٍ هَارٍ
آخر:
…
وَمَا اسْتَغْرَبَتْ عَيْنِي فِرَاقًا رَأَيْتُهُ
…
وَلا أَعْلَمَتْنِي غَيْرَ مَا الْقَلْبِ عَالِمُهُ
آخر:
…
وَهَبْنِي مَلَكْتُ الأَرْضَ طُرَّا وَنِلْتُ مَا
…
أُنِيلَ ابْنُ دَاودٍ مِنَ الْمَالِ وَالْمُلْكِ
أَلَسْتُ أَخَلِّيهِ وَأُمْسِي مُسَلَّمًا
…
بِرَغْمِي إِلَى الأَهْوَالِ فِي مَنْزِلٍ ضَنْكِ
آخر:
…
مَتَى تَسْتَزِدْ فَضْلاً مِنَ الْعُمْرِ تَغْتَرِفْ
…
بِسِجِلَّيْكَ مِنْ أَرْيِ الْخُطُوبِ وَصَابِهَا
يُسَرُّ بِعُمْرَانِ الدِّيَارِ مُظَلَّلٌ
…
وَعُمْرَانُهَا يَدْنُوهُ بِهَا مِنْ خَرَابِهَا
وَلَمْ ارْتَضِ الدُّنْيَا أَوَانَ مَجِيئَهَا
…
فَكَيْفَ أَرْتَضِائيها أَوْانَ ذَهَابِهَا
آخر:
…
لَمْ يَبْقَ فِى الْعَيْشِ غَيْرَ الْبُؤْسِ وَالنَّكَدِ
…
فَاهْرَبْ إِلَى الْمَوْتِ مِنْ هَمٍّ وَمِنْ كَمَدِ
مَلأَتَ يَا دَهْرُ عَيْنِي مِنْ مَكَارِهِهَا
…
يَا دَهْرُ حَسْبُكَ قَدْ أَسْرَفْتَ فَاقْتَصِدْ
قَالَ ابن الجوزى: ولولا الدُّنْيَا دارُ ابتلاء لم تعتور فيها الأمراض والأكدار ولم يضق العيش فيها على الأَنْبِيَاء والأخيار فآدم يعاني المحن إِلَى أن خَرَجَ من الدُّنْيَا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب بكى حَتَّى ذهب بصره، ومُوَسى يقاسى فرعون ويلقى من قومه المحن. وعيسى بن مريم لا مأوى لَهُ إلا البراري فِي العيش الضنك ومُحَمَّد صلى الله عليه وسلم يصابر الفقر وقتل عمه حمزة، وَهُوَ من أحب أقاربه إليه، ونفور قومه عَنْهُ، وقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«الدُّنْيَا سجن المُؤْمِن وجنة الكافر» . فإذا بان بأنها دار ابتلاء وسجن ومحن فلا ينبغي إنكار وقوع المصائب فيها وقَالَ: رَأَيْتُ جمهور النَّاس إِذَا طرقهم المرض أَوْ غيره من المصائب اشتغلوا تَارَّة بالجزع والشكوى، وتَارَّة بالتداوي، إِلَى أن يشتد عَلَيْهمْ فيشغلهم اشتداده عَنْ الالتفات إِلَى
المصالح، من وصية أَوْ فعل خَيْر أَوْ تأهب للموت. فكم ممن لَهُ ذنوب لا يتوب مَنْهَا أَوْ عنده ودائع لا يردها، أَوْ عَلَيْهِ دين أَوْ زكاة أَوْ فِي ذمته ظلامة لا يخطر لَهُ تداركها، وإنما حزنه على فراق الدُّنْيَا إِذَا لا هم لَهُ سواها وَرُبَّمَا أفاق وأوصى بجور
…
انتهى كلامه.
شِعْرًا:
…
لَحَى اللهُ دُنْيَا لا تَكُونُ مَطِيَّةً
…
إِلَى دَارِكَ الأُخْرَى تَزُمَّ وَتَرْكَبُ
عَجِبْتُ لَمَنْ يَرْجو الرِّضَا وَهُوَ مُهْمِلٌ
…
وَتَسْوِِيفُنَا مَعَ ذَلِكَ الْعِلْمُ أَعْجَبُ
وَمَا هَذِهِ الأَيَّام إِلا مَرَاحِلُ
…
وَأَجْدَر أبِهَا تُقْضَى قَرِيبًا وَتَنضِبُ
إِذَا كانَا الأَنْفَاسُ لِلْعُمْرِ كَالْخُطَا
…
فَإِنَّ الْمَدَى أَدْنَى مَنَالاً وَأَقْرَبُ
وقَالَ بَعْضهمْ: إن المرء إِذَا طرقه عما يتحيف صبره ويضيق صدره يعود إِلَى علمه بالدُّنْيَا كيف نصبت على النقلة، وجنبت طول المهلة وابتدأت للنفاد وشفع كونها للخراب، وأن الثاوي فيها راحل، والأَيَّامُ فيها مراحل موهوبها مسلوب وان أرخى إِلَى مهل، وممنوحها محروم وإن أرخى إِلَى أجل ولو خلد من سبق لما وسعت الأَرْض ولِذَلِكَ جعلت الدُّنْيَا دار قلعة ومحل نجعة.
شِعْرًا:
…
كم رأينا من أناس هلكوا
…
وبكى أحبابهم ثُمَّ بُكُوا
تَرَكُوا الدُّنْيَا لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ
…
وَدَّهُمْ لَوْ قَدَّمُوا مَا تَرَكُوا
كَمْ رَأَيْنَا مِنْ مُلُوكٍ سَوَقَةَ
…
وَرَأَيْنَا سَوَقَةً قّدْ مَلَكُوا
هَذَا حُكْمٌ مِنْ حَكِيمٍ قَادِرٍ
…
سَلَّمَ الأَمْرِ لِمَنْ أَجَرْى الْفَلَكُ
لا تَكُنْ مِمَّنْ يُقَلِّدُ مُلْحِدًا
…
كَمْ جَهُولٍ بِاعْتِرَاضَاتٍ هَلَكَ
آخر:
…
اطِل جَفْوَةَ الدُّنْيَا وَدَعْ عَنْكَ شَأْنَهَا
…
فَمَا الغَافِلُ الْمَغْرُورُ فِيهَا بِعَاقِلٍ
وَلَيْسَ الأَمَانِي لِلْبَقَاءِ وَإِنْ جَرَتْ
…
بِهَا عَادَةٌ إِلا تَعَالِيلُ بِاطِلِ
يُسَارُ بِنَا نَحْوَ الْمَنُونِ وَإِنَّنَا
…
لَنُسْعَفُ فِي الدُّنْيَا بِطَيِّ الْمَرَاحِلِ
غَفَلْنَا عَنْ الأَيَّامِ أَطْوَلَ غَفْلَةٍ
…
وَمَا حُوبُهَا الْمَجْنِيُّ مِنَا بغَافِلِ
آخر:
…
بِرُوحِي أُنَاسًا قَبْلَنَا قَدْ تَقَدَّمُوا
…
وَنَادُوا بِنَا لَوْ أَنَّنَا نَسْمَعُ النِّدَا
وَسَارَتْ بِهِمْ سَيْرَ المَطِيِّ نُعُوشُهمْ
…
وَبَعْضُ َأِنينِ الْقَادِمِينَ لَهُمْ حُدَا
وَأَمْسُوا عَلَى الْبِيْدَاءِ يَنْتَظِرُونَنَا
…
إِلَى سَفَر يَقْضِي بَأَنْ نَتَزَوَّدَا
فَرِيدُونَ فِي أَجْدَاثِهِمْ بِفِعَالِهِمْ
…
وَكَمْ مِنْهُمْ مَنْ سَاقَ جُنْدًا مُجَنَّدَا
تَسَاوَوْا عِدىً تَحْتَ الثُّرَى وَأَحِبَّةً
…
فَلا فَرْقَ مَا بَينَ الأَحِبَّةِ وَالْعِدَى
سَلِ الدَّهْرَ هَلْ أَعْفَى مِنَ الْمَوْتِ شَائِبًا
…
غَدَاةَ أَدَارَ الْكَأْسَ أَمْ رَدَّ أَمْرَدَا
آخر
…
إِذَا مَا مَضَى الْقَرْنُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِمْ
…
وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنٍ فأَنْتَ غَرِيبُ
وَإِنْ امْرأً قَدْ سَارَ خَمْسِينَ حَجَّةً
…
إِلَى مَنْهَلٍ مِنْ وِرْدِهِ لَقَرِيبُ
آخر
…
وَإِذَا حَمَلْتَ إِلَى الْقُبُورِ جَنَازَةً
…
فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ بَعْدَهَا مَحْمُولُ
آخر
…
قِفْ بِالْمَقَابِرِ وَاذْكُرْ إِنْ وَقَفْتَ بِهَا
…
للهِ دُرُّكَ مَاذَا تَسْتُرُ الْحُفَرُ
فَفِيهِمْ لَكَ يَا مَغْرُورُ مَوْعِظَةٌ
…
وَفِيهِمْ لَكَ يَا مَغْرُورُ مُعْتَبَرُ
كَانُوا مُلُوكًا تُوَارِيهِمْ قُصُورُهُمْ
…
دَهْرًا فَوَارَتْهُمُ مِنْ بَعْدِهَا الْحُفَرُ
اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
وَمِمَّا يسلِي ويسهل المصائب أن يعلم الْعَبْد أنه لولا ما قدره الحكيم العليم على عباده من محن الدُّنْيَا ومصائبها لأصاب الإِنْسَان من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقَسْوَة الْقَلْب ما هُوَ سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمة أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ أن يتفقده فِي الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تَكُون
حمية لَهُ من هَذِهِ الأدوية، وتَكُون حفظًا لصحة عبوديته، فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلى بنعائمه كما قِيْل:
شِعْرًا:
…
(قَدْ يَنْعِمُ اللهُ بِالبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ
…
وَيَبْتَلِي اللهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ)
آخر:
…
أَرَى بَصَرِي قَدْ رَابَنِي بَعْدَ حِدَّةٍ
…
وَحَسْيُكَ دَاءً أَنْ تَصِحَّ وَتَسْلَمَا
وَلَنْ يَلْبَثِ الْعَصْرَ إِنْ يَوْمًا وَلَيْلَةً
…
إِذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا مَا تَيَمَّمَا
آخر:
…
يَا سَائِلِي عَنْ حَالَتِي
…
خُذْ شَرْحَهَا مُلَخَّصَا
قَدْ صِرْتُ بَعْدَ قُوَّةٍ
…
تَقُصُّ أَصْلادَ الْحَصَا
أَمْشِي عَلَى ثَلاثَةٍ
…
أَجْوَدُ مَا فِيهَا الْعَصَا
آخر:
…
قَدْ أَمْشِي عَلَى ثِنْتَيْنِ مُعْتَدِلاً
…
فَصِرْتُ أَمْشِي عَلَى أُخْْرَى مِنَ الشَّجَرِ
آخر:
…
إِذَا اشْتَدَّتِ الْبَلْوَى تُخَفَّفُ بِالرِّضَا
…
عَنْ اللهِ قَدْ فَازَ الرَّضِيُّ الْمُرَاقِبُ
وَكَمْ نِعْمَةٍ مَقْرُونَةٍ بِبَلِيَّةٍ
…
عَلَى النَّاسِ تَخْفَى وَالْبَلايَا مَوَاهِبُ
فلولا أَنه سُبْحَانَهُ يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا وتجبروا فدى الأَرْض. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} ، فَإِنَّ من شيم النُّفُوس إِذَا حصل لها صحة وفراغ وأمر ونهي وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها تمردت وظلمت وسعت فِي الأَرْض فسادًا كما قِيْل:
(وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ
…
ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ)
ومِمَّا يسلي ويسهل المصائب ويكون سببًا للصبر على المصيبة أن يعلم الإِنْسَان أن الجزع لا يرد المصيبة، بل يضاعفها، فتزيد المصيبة وأن الجزع يشمت الْعَدُوّ ويسؤ الصديق، وينهك الجسم، ويسر شيطانه ويضعف النفس، وقَدْ يحبط الْعَمَل، وَإِذَا صبر واحتسب أخزى الشيطان وأرضى الرب، وسر الصديق، وساء الْعَدُوّ، وَهَذَا من الثبات فِي الأَمْر الديني. وَمِمَّا يسلي ويسهل المصائب أن يوطن الإِنْسَان نَفْسهُ أن كُلّ مصيبة تأتيه
هي من عَنْدَ الله وأنها بقضائه وقدره وأنه سُبْحَانَهُ لم يقدرها عَلَيْهِ ليهلكه بها ولا ليعذبه وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه وشكواه إليه وابتهاله ودعاءه.
شِعْرًا:
…
وَكُلُّ مُصِيبَات أَتَتْنِي فَإِنَّهَا
…
سِوَى غَضَبِ الرَّحْمَنِ هَيِّنَةُ الْخَطْبِ
فإِن وفق للرضا وَالشُّكْر فقَدْ أفلح، وإن تسخط ولم يرض فقَدْ خاب وخسر. قَالَ أبو الفرج بن الجوزي: علاج المصائب بسبعة أشياء. الأول: أن يعلم بأن الدُّنْيَا دار ابَتلاء وكرب لا يرجى منه راحة فِي الدُّنْيَا مهما طال العمر ومهما اجتمَعَ للإنسان فيها من أسباب الغنى والثروة وسواء فِي ذَلِكَ الصعاليك والمماليك والملوك فلَقَدْ أودع الله فِي كُلّ نفس ما شغلها.
ولو أن الإِنْسَان عرف قدر الدُّنْيَا وما طبعت عَلَيْهِ من الكدر والانكاد والمصائب والأحزان وعرف أن ما فيها محض خداع وسراب، بقيعة يحسبه الظمآن ماء حَتَّى إِذَا جاءه لم يجده شيئًا واستعان بما وهبه الله من نور الدين وقصر أمله لما آثرت فيه المصائب بإذن الله لأن قوة الإِيمَان بِاللهِ وقضائه وقدره يثمران الهدى وَالطُّمَأْنِينَة والرضي بما قسم وقدر.
الثاني: أن يعلم أن المصيبة ثابتة.
الثالث: أن يقدر وجود ما هُوَ أكثر من تلك المصيبة.
الرابع: النظر فِي حال من ابتلي بمثل هَذَا البَلاء فَإِنَّ التأسي راحة عظيمة يخفف الحزن أَوْ يزيله بالكلية.
قَالَتْ الخنساء:
وَلَوْلا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي
…
عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ
…
أَعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأسِي
آخر:
…
حَاسِبْ زَمَانَكَ فِي حَالِي تَصَرُّفِهِ
…
تَجِدْهُ أَعْطَاكَ أَضْعَافَ الَّذِي سَلَبَا
نَفْسِي الَّتِي تَمْلِكُ الأَشْيَاءِ ذَاهِبَةً
…
فَكَيْفَ أَبْكِي عَلَى شَيْء إِذَا ذَهَبَا
آخر:
…
لا تَعْتِبْ الدَّهْرَ فِي خَطْبٍ رَمَاكَ بِهِ
…
إِذَا اسْتَرَدَّ فَقِدْمًا طَالَ مَا وَهَبَا
وَرَأْسُ مَالِكَ وَهِيَ الرَّوُحُ إِنْ سَلِمَتْ
…
لا تَأْسَفَنَّ لِشَيْءٍ بَعْدَهَا ذَهَبَا
آخر:
…
وَلَوْلا الأَسَى مَا عِشْتَ فِي النَّاسِ سَاعَةً
…
وَلَكِنْ مَتَى نَادَيْتُ جَاوَبَنِي مِثْلِي
الخامس: مِمَّا يهون المصائب ويخففها ويبعث الإِنْسَان على حمد الله وشكره وينفي هموم الدُّنْيَا وغمومها النظر والتفكر والاعتبار فيمن هم أعظم مصيبة منك وانظر حالتك بعد زيارتك للمقبرة، وانظر فيمن قبر ومن سيقبر وحالتك بعد ما تمر بالسجن وتَرَى المعذبين فيه بأنواع الْعَذَاب كما قَالَ بَعْضُهُمْ واصفا للسجن ببغداد:
مَحَلُّ بِهِ تَهْفُو الْقُلُوبُ مِن الأَسَى
…
فَإِنْ زُرْتَهُ فَارْبُطْ عَلَى الْقَلْبِ بَالْيَدِ
وانظر حالتك إِذَا دخلت المستشفيات ورَأَيْت الباكين والَّذِي يئن والَّذِي تحت العملية لقطع عضو أَوْ نحوه، وسائر أنواع البلايا تجدك إن كنت ممن وفقه الله مكثرًا لحمد الله وشكره حيث عَافَاكَ مِمَّا تَرَى وتسمَعَ.
وَكَمْ من إنسان أتى لعلاج بسيط فَلَمَّا رأى ما فِي الإسعاف، ومن تحت العمليات ومن يئن ومن يجر ليغسل ومن قَدْ مَاتَ، ومن يعمل لكسوره الجبس، خَرَجَ يحمد الله ورأى أنه ما فيه شَيْء يوجب العلاج.
السادس: رجَاءَ الخلف إن كَانَ من مضى يصح عَنْهُ الخلف كالولد والزوجة قِيْل للقمان: ماتت زوجتك. قَالَ: تجدد فراشي. وقَالَ الشاعر:
هَلْ وَصْلُ عَزَّةَ إِلا وَصْلُ غَانِيَةٍ
…
فِي وَصْلِ غَانِيَةٍ مِنْ وَصْلِهَا خَلَفُ
آخر:
…
قَدْ نَرْكَبُ الْكُرْه أَحْيَانًا فَيُفرِجُهُ
…
رَبٌّ نرجِّيهِ فِي الضَّرَاء وَسَرَّائي
السابع: طلب الأجر بالصبر فِي فضائله وثواب الصابرين وسرورهم فِي صبرهم فَإِنَّ ترقى إِلَى مقام الرِّضَا فهو الغاية. انتهى كلامه بتصرف.
ومِمَّا يسلى ويسهل المصائب ويجلب الصبر بإذن الله أن يعلم أن تشديد
البَلاء يخص الأخيار، ولهَذَا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي النَّاس أشد بَلاء؟
قَالَ: «الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل يبتلى النَّاس عَلَى قَدْرِ دينهم فمن ثَخُنَ دينه اشتد بلاءه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصبه البَلاء حَتَّى يمشى على الأَرْض ما عَلَيْهِ خطيئة» . رَوَاهُ ابن حبان، ومنها أن يعلم أنه مملوك لله ولَيْسَ للملوك فِي نَفْسهُ شَيْء، ومنها أن يعلم أن هَذَا الواقع وقع برضى السيد فيرضى بما رَضِيَ به سيده ومولاه وَهُوَ الله جَلَّ وَعَلا رضينا به ربًا وبالإسلام دينا وبمُحَمَّدٍ رسولاً.
قَالَ بَعْضهمْ:
اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ
…
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرَ مُخَلَّدِ
فَإِذَا ذَكَرْتَ مُصِيبَةً تَسْلُو بِهَا
…
فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيّ مُحَمَّدِ
آخر:
…
لا تَيْأَسَنَّ إِذَا مَا الأَمْرُ ضِقْتَ به
…
ذَرْعاً ونَمْ مُسْتَريحاً خَالِي الْبَالِ
مَا بَيْنَ رَقْدَةِ عَيْن وانتبَاهَتِهَا
…
يُقَلَّبُ الدَّهْرُ مِنْ حَالٍ إِلى حَالِ
ومن فَوَائِد المصائب والصبر عَلَيْهَا ما أجراه الله على الإِنْسَان مِمَّا يكرهه ما يعتاضه من الارتياض بنوائب عصره ويستفيده من استحكام الرأي والعقل بالتجارب ببَلاء دهره فيقوى عقله ويحصف رأيه بأذن الله ويكمل بأدنى شدته ورخائه ويتعظ بحالتي عفوه وبلائه.
شِعْرًا:
…
إِنِّي أَقُولُ لِنَفْسِي وَهِيَ ضَيَّقَةٌ
…
وَقَدْ أَنَاخَ عَلَيْهَا الضُّرُّ بِالْعَجَبِ
صَبْرًا عَلَى شِدَّةِ آلامِ إِنَّ لَهَا
…
عُقْبَى وَمَا الصَّبْرُ إِلا عِنْدَ ذِي الْحَسَبِ
سَيَفْتَحُ اللهُ عَنْ قُرْبٍ بِنَافِعَةٍ
…
فِيهَا لِمِثْلِكِ رَاحَاتٌ مِنَ التَّعَبِ
وأقل ما يؤتاه المُؤْمِن فِي المصائب الصبر الَّذِي يخفف وقعها على النفس وأكثره رحمة الله التي بها تتحول النقمة إِلَى نعمة بما يستفيد منه الاختبار والتمحيص وكمال العبرة والتهذيب.
وقَدْ يبتلي الله المُؤْمِن ويمتحن صبره فتعطيه قوة إيمانه من الرجَاءَ ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حَتَّى تغلبها وقَدْ يأنس بالمصيبة لعظم رجائه وصبره وذا وإن كَانَ نادرًا فهو واقع حاصل.
قَالَ بَعْضهمْ:
تَعَوَّدْتُ مَسَّ الضُّرِّ حَتَّى أَلِفْتُهُ
…
وَمَلَّ طَبِيبِي جَانِبِي وَالْعَوَائِدُ
آخر:
…
وَوَسَّعَ صَدْرِي للأَذَى كَثْرَةَ الأَذَى
…
وَكَانَ قَدِيمًا قَدْ يَضِيقُ بِهِ صَدْرِي
ومنها أن يختبر أمور زمانه وينتبه على إصلاح شأنه فلا يغتر برخاء ولا يطمَعَ فِي استواء ولا يؤمل بقاء الدُّنْيَا على حالة فَإِنَّ من عرف الدُّنْيَا وخبر أحوالها هان عَلَيْهِ بؤسها ونعيمها، ولولا ما قدره الله من الحوادث والنوائب لم يعرف صبر الكرام ولا جزع للئام.
فإذا ظفر المصاب بأحد هَذِهِ الأسباب تخففت بإذن الله عَنْهُ أحزانه، وتسهلت عَلَيْهِ أشجانه فصار سريع النسيان للمصائب، قليل الجزع حسن الصبر والتجمل عَنْدَ المصائب.
شِعْرًا فِي ذَمِّ الدُّنْيَا:
سَلامٌ عَلَى دَارِ الْغُرُورِ فَإِنَّهَا
…
مُنَغَّصَّةٌ لَذَّاتُهَا بِالْفَجَائِعِ
فَإِنْ جَمَعَتْ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ سَاعَةً
…
فَعَمَّا قَلِيلٍ أَرْدَفَتْ بِالْمَوَانِعِ
آخر:
…
وَمَا الْمَوْتُ إِلا رِحْلَةٌ غَيْرَ أَنَّهَا
…
مِن الْمَنْزِلِ الْفَانِي إِلَى الْمَنْزِلِ الْبَاقِي
آخر:
…
رَأَيْت بَني الدُّنْيَا كَوَفْدَيْنِ كُلَّمَا
…
تَرَحَّلَ وَفْدٌ حَطَّ فِي إِثْرِهِ وَفْدُ
وَكُلِّ يَحُث السَّيْرَ عَنْهَا وَنَحْوَهَا
…
فَيَمْضِي بِذَا نَعْشٌ وَيَأْتِي بِذَا مَهْدُ
آخر:
…
وَكُلِّ أَبٍ وَابْنٍ وَإِنْ مُتِّعَا مَعَا
…
مُقِيمَيْنِ مَفْقُودٌ لِوَقْتٍ وَفَاقِدُ
آخر:
…
فَلا تَجْزَ عَنْ لِلْبَيْنِ كُلُّ جَمَاعَةٍ
…
وَرَبِّكَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا التَّفَرُّقُ
وَخُذْ بِالتَّعَزِّي كُلَّ مَا أَنْتَ لابِسُ
…
جَدِيدًا عَلَى الأَيَّامِ يَبْلَى وَيَخْلَقُ
فَصَبْرُ الْفَتَى عَمَّا تَوَلَّى فَفَاتَهُ
…
مِنْ الأَمْرِ أَوْلَى بِالسَّدَادِ وَأَوْفَقُ
وَإِنَّكَ بِالإِشْفَاقِ لا تَدْفَعُ الرَّدَى
…
وَلا الْخَيْرُ مَجْلُوبٌ فَمَا لَكَ تُشْفِقُ
كَأَنْ لَمْ يَرُعْكَ الدَّهْرُ أَوْ أَنْتَ آمِنٌ
…
لأَحْدَاثِهِ فِيمَا يُغَادِي وَيَطْرُقُ
إخواني أين الأمم الماضية، أين القرون الخالية أين من نصبت على مفارقهم التيجان، أين الَّذِينَ قهروا الأبطال والشجعان، أين الَّذِينَ دانَتْ لَهُمْ المشارق والمغارب، أين الَّذِينَ تمتعوا باللذات من المطاعم والمشارب، أين الَّذِينَ اغتروا بالأجناد والسُّلْطَان.
أين أصحاب السطوة والأعوان، أين أصحاب الأسرة والولايات، أين الَّذِينَ خفقت على رؤوسهم الألوية والرايات، أين الَّذِينَ قادوا العساكر، أين الَّذِينَ عمروا القصور الشامخات والفلل الفسيحات، أين الَّذِينَ غرسوا النخيل والأشجار المثمرات.
أين الَّذِينَ ملؤوا ما بين الخافقين فخرًا وعزًا، أين الَّذِينَ فرشوا القصور خزَّا وقَزًّا، أفناهم الله مفنِي الأمم، وأبادهم مبيد الرمم، وأخرجهم من سعة المساكن، والقصور، وأسكنهم فِي ضيق اللحود وتحت الجنادل والصخور.
قَدْ خلت من كثرتهم أماكنهم ولم ينفعهم ما جمعوا من الحطام، ولا أغنى عنهم ما كسبوا من حلال أَوْ حرام أسلمهم الأحبة والأَوْلِيَاء، وهجرهم الإِخْوَان والأصفياء ونسيهم الأقرباء والبعداء.
شِعْرًا:
…
مَنْ ذَا الَّذِي قَدْ نَالَ رَاحَةَ فِكْرِهِ
…
فِي عُسْرِهِ مِنْ عُمْرِهِ أَوْ يُسْرِهِ
يَلْقَى الْغَنِيُّ لِحِفْظِهِ مَا قَدْ حَوَى
…
أَضْعَافَ مَا يَلْقَى الْفَقِيرُ لِفَقْرِهِ
فَيَظَلُّ هَذَا سَاخِطًا فِي قِلِّهِ
…
وَيَظَلُّ هَذَا تَاعِبًا فِي كُثْرِهِ
عَمَّ الْبَلاءُ لِكُلِّ شَمْلٍ فُرْقَةٌ
…
يُرْمَى بِهَا فِي يَوْمِهِ أَوْ شَهْرِهِ
وَالْجِنُّ مِثْلُ الإِنْسِ يَجْرِي فِيهِمُوا
…
حُكْمُ الْقَضَاءِ بِحُلْوِهِ وَبِمُرِّهِ
فَإِذَا الْمَرِيدُ أَتَى لِيَخْطِفَ خَطْفَةً
…
جَاءَ الشِّهَابُ بِحَرْقِهِ وَبِزَجْرِهِ
وَنَبِيُّ صِدْقٍ لا يَزَالُ مُكَذِّبًا
…
يُرْمَى بِبَاطِلِ قَوْلِهِمْ وَبِسِحْرِهِ
وَمُحَقِّقٌ فِي دِينِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ
…
ضِدٍّ يُوَاجِهُهُ بِتُهْمَةِ كُفْرِهِ
وَالْعَالِمْ الْمُفْتِي يَظَلُّ مُنَازَعًا
…
بِالْمُشْكِلاتِ لَدَى مَجَالِسِ ذِكْرِهِ
وَالْوَيْلُ إِنْ زَلَّ اللِّسَانُ فَلا يَرَى
…
أَحَدًا يُسَاعِدُ فِي إِقَامَةِ عُذْرِهِ
وَأَخُو الدِّيَانَةِ دَهْرُهُ مُتَنَغِّصٌ
…
يَبْغِي التَّخَلُّصَ مِنْ مَخَاوِفِ قَبْرِهِ
أَوْ مَا تَرَى الْمَلِكَ الْعَزِيزَ بِجُنْدِهِ
…
رَهْنَ الْهُمُومِ عَلَى جَلالَةِ قَدْرِهِ
فَيَسُّرُّهُ خَبَرٌ وَفِي أَعْقَابِهِ
…
هَمٌّ تَضِيقُ بِهِ جَوَانِبُ قَصْرِهِ
وَأَخُو التِّجَارَةِ حَائِرٌ مُتَفِكِّرٌ
…
مِمَّا يُلاقِي مِنْ خَسَارَةِ سِعْرِهِ
وَأَبُو الْعِيَالِ أَبُو الْهُمُومِ وَحَسْرَة الرَّ
…
جُلِ الْعَقِيمِ كَمِينَةٌ فِي صَدْرِهِ
وَتَرَى الْقَرِين مُضْمِّرًا لِقَرِينِهِ
…
حَسَدًا وَحِقْدًا فِي غِنَاهُ وَفَقْرِهِ
وَلَرُبَّ طَالِبُ رَاحَةٍ فِي نَوْمِهِ
…
جَاءَتْهُ أَحْلامٌ فَهَامَ بِأَمْرِهِ
وَالطِّفْلُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَخْرُجْ إِلَى
…
غُصَصِ الْفِطَامِ تَرُوعُهُ فِي صِغْرِهِ
وَلَقَدْ حَسَدْتَ الطَّيْرَ فِي أَوْكَارِهَا
د
…
فَوَجَدْتُ مِنْهَا مَا يُصَادُ بِوَكْرِهِ
وَالْوَحْشُ يَأْتِيهِ الرَّدَى فِي بَرِّهِ
…
وَالْحُوتُ يَأْتِي حَتْفُهُ فِي بَحْرِهِ
وَلَرُبَّمَا تَأْتِي السِّبَاعُ لِمَيِّتٍ
…
فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ قَرَارهِ قَبْرِهِ
كَيْفَ الْتِذَاذُ أَخِي الْحَيَاةَ بِعَيْشِهِ
…
مَا زَالَ وَهُوَ مُرَوَّعٌ فِي أَمْرِهِ
تَاللهِ لَوْ عَاشَ الْفَتَى فِي أَهْلِهِ
…
أَلْفًا مِن الأَعْوَامِ مَالِكَ أَمْرِهِ
مُتَلَذِّذًا مَعَهُمْ بِكُلِّ لَذِيذَةٍ
…
مُتَنَعِّمًا بِالْعَيْشِ مُدَّةَ عُمْرِهِ
لا يَعْتَرِيهِ النَّقْصُ فِي أَحْوَالِهِ
…
كَلا وَلا تَجْرِي الْهُمُومُ بِفِكْرِهِ
مَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يَفِي
…
بِنُزُولِ أَوِّلِ لَيْلَةٍ فِي قَبْرِهِ
كَيْفَ التَّخَلُّصُ يَا أَخِي مِمَّا تَرَى
…
صَبْرًا عَلَى حُلْو الْقَضَاءِ وَمُرِّهِ