المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فصل ": في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٢

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: ‌ فصل ": في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

"‌

‌ فَصْلٌ ": فِي الأَمْر بالمَعْرُوْفِ والنَّهْي عَنْ المُنْكَر

اعْلَمْ وفقك الله أن الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر يجبان وجوب كفائي يخاطب به الجميع، ويسقط بمن يقوم به، وإن كَانَ العَالِم به واحدًا تعين عَلَيْهِ، وإن كَانُوا جماعة لكن لا يحصل المقصود إِلا بِهُمْ جميعًا تعين عَلَيْهمْ.

وأما تعريفهما، فالمعروف اسم جامَعَ لكل مَا عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى النَّاس. والْمُنْكَر ضده وعرفه بَعْضهُمْ بقوله: الْمُنْكَر اسم جامَعَ لكل مَا يكرهه الله وينهى عَنْهُ والمعروف اسم جامَعَ لكل مَا يحبه الله من الإِيمَان والْعَمَل الصالح.

وقَدْ حبب الله إلينا الْخَيْر وأمرنا أن ندعو إليه، وكره إلينا الْمُنْكَر ونهانَا عَنْهُ، وأمرنا بمنع غيرنا منه، كما أمرنا بالتعاون على البر والتقوى.

فَقَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .

والأصل فِي وجوبهما: الكتاب والسنة والإجماع قَالَ الله تَعَالَى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

وأبان جَلَّ وَعَلا أننا بهما خَيْر الأمم فَقَالَ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} .

وفي المسند والسُّنَن مِنْ حَدِيثِ عمرو بن مرة عَنْ سالم بن أبي الجعد عَنْ أبي عبيدة بن عَبْد اللهِ بن مسعود عَنْ أبيه قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن من كَانَ قبلكم كَانَ إِذَا عمل العامل الخطيئة جاءه الناهي تعذيرًا فَإِذَا كَانَ الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئة بالأمس فَلَمَّا رأى الله عَزَّ وَجَلَّ

ص: 124

ذَلِكَ مِنْهُمْ ضرب بقُلُوب بَعْضهُمْ على بعض ثُمَّ لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى بن مريم ذَلِكَ بما عصوا وكَانُوا يعتدون. والَّذِي نفس مُحَمَّد بيده لتأمرن بالمعروف وتنهون عَنْ الْمُنْكَر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الْحَقّ أطرا أَوْ ليضربن الله بقُلُوب بعضكم على بعض ثُمَّ ليلعنكم كما لعنهم» .

وذكر ابن أبي الدُّنْيَا عَنْ إبراهيم بن عمرو الصنعاني: وحى الله إلى يوشع بن نون إني مهلك من قومك أربعين ألفًا من خيارهم وستين ألفًا من شرارهم. قَالَ: يَا رب هؤلاء الأَشْرَار فما بال الأخيار؟ قَالَ: إنهم لم يغضبوا لغضبي وكَانُوا يواكلونهم ويشاربونهم.

وذكر أَبُو عُمَر بن عَبْد اللهِ عَنْ أبي عمران قَالَ: بعث لله عز وجل ملكين إلى قرية أن دمراها بمن فيها فوجدوا فيها رجلاً قائمًا يصلي فِي مسجد فقالا: يَا رب إَِنْ فيها عبدك فلانًا يصلي؟ فَقَالَ الله عز وجل: دمراها ودمراه معهم فإنه مَا تمعر وجهه فِيَّ قط.

وذكر الحميدي عَنْ سفيان بن عيينة قَالَ حَدَّثَنِي سفيان بن سعيد عَنْ مسعر أن ملكًا أمر أن يخسف بقرية فَقَالَ: يَا رب إن فيها فلانًا العابد. فأوحى الله عز وجل إليه أن به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه فِيَّ ساعة قط.

وذكر ابن أبي الدُّنْيَا عَنْ وهب بن منبه قَالَ: لما أصاب داود الخطيئة قَالَ يَا رب اغفر لي قَالَ قَدْ غفرت لَكَ وألزمت عارها بَنِي إسرائيل قَالَ: يَا رب كيف وأَنْتَ الحكم العدل لا تظلم أَحَدًا أَنَا اعمل الخطيئة وتلزم عارها غيري.

فأوحى الله إليه إِنَّكَ لما عملت الخطيئة لم يعجلوا عَلَيْكَ بالإنكار.

ص: 125

وأوضح سُبْحَانَهُ أن الأجر بهما عَظِيم فِي قوله تَعَالَى: {لَاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} .

ووصف الْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَات بأن بَعْضهُمْ أَوْلِيَاء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عَنْ الْمُنْكَر ويقيمون الصَّلاة ويُؤْتُونَ الزَّكَاة وَيُطَيعُونَ اللهَ ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم.

وشهد الله بالصلاح للمؤمنين الَّذِينَ أضافوا إلى إيمانهم القيام بهما فَقَالَ تعالى: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} .

وبين جل شأنه أن قَوْمًا من بَنِي إسرائيل استحقوا اللعن بتركهما فَقَالَ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} .

قَالَ القرطبي وبخ سبحانه وتعالى علماؤهم فِي تركهم نهيهم فَقَالَ: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} .

قَالَ: ودلت الآيَة على أن تارك الْمُنْكَر الَّذِي لا ينهى عَنْهُ كمرتكبه. وَذَلِكَ أن الأمة فِي عهد استقامتها وتمسكها بالسُّنَن لا تترك بين أظهرها عاصيًا ولا معصية، فَإِذَا رأت شَيْئًا من ذَلِكَ ثارت ثورة الأسود ولم تسكن حَتَّى تذيقه مَا يستحق على معصيته.

كل ذَلِكَ غيرة على دينها وطلبًا لمرضاة ربها. والعصاة والفسقة يرتدعون عِنْدَمَا يرون ردع إخوانهم.. انتهى كلامه.

ص: 126

شِعْرًا:

وَأَهْوَى من الْفِتْيَان كُلَّ مَوفَّقٍ

لِطَاعَةِ رَبِّ الْخْلِق بَارِي الْبَرِيَّةِ

مُلازِمُ بَيْتِ الله يَتْلُوا كِتَابَهُ

وَيَكْثِرُ ذِكْرَ الله فِي كُلِّ لَحْظَةِ

وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ حَسْبَ اقْتِدَارِهِ

وَعَنْ مُنْكَرٍ يَنْهَى بِلُطْفٍ بِدَعْوَتِي

وفي سورة الأعراف يخبرنا جَلَّ وَعَلا عما كَانَ من بَنِي إسرائيل وَمَا نزل بِهُمْ من الْعَذَاب فيَقُولُ: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} ، فأفادت هَذِهِ الآيات أن بَنِي إسرائيل صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد الأسماك يوم السبت المحرم فيه الصيد، وفرقة نهت عَنْ ذَلِكَ واعتزلتهم، وفرقة سكتت فَلَمْ تفعل ولم تنه ولكنها قَالَتْ للمنكرة: لم تعظون قومًا الله مهلكهم أَوْ معذبهم عذابًا شَدِيدًا، أي لم تنهون هؤلاء وَقَدْ علمتم أنهم قَدْ هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة فِي نهيكم إياهم.

قَالَتْ لَهُمْ المنكرة: معذرة إلى ربكم أن فيما أخذ عَلَيْنَا من الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر ولعلهم يتقون أي ولعل لهَذَا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ويرجعون إِلَى اللهِ تائبين فَإِذَا تابوا تاب الله عَلَيْهمْ ورحمهم.

فَلَمَّا نسوا مَا ذكروا به (أي فَلَمَّا أبى الفاعلون قبول النَّصِيحَة) أنجينا الَّذِينَ ينهون عَنْ السُّوء وأخذنا الَّذِينَ ظلموا

(أي الَّذِينَ ارتكبوا المعصية) بعذاب بئيس، فنصت الآيات على نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكتت عَنْ الساكتين.

ص: 127

قَالَ ابن عَبَّاس رضي الله عنهما: كَانُوا ثلاثة ثلث نهوا وثلث قَالُوا: لم تعظون قومًا الله مهلكهم أَوْ معذبهم عذابًا شَدِيدًا وثلث أصحاب الخطيئة فما نجا إِلا الَّذِينَ نهوا وهلك سائرهم. وَهَذَا إسناده جيد عَنْ ابن عَبَّاس.

وفي الْحَدِيث الثابت عَنْ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أَبِي بَكْرٍ الصديق رصي اله عَنْهُ أَنَّهُ خطب النَّاس على منبر رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أيها النَّاس إنكم تقرءون هَذِهِ الآيَة وتضعونها على غير موضعها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} .

وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" إن النَّاس إِذَا رأوا الْمُنْكَر فَلَمْ يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» . وفي لفظ: «من عنده» . رَوَاهُ أَبُو داود والترمذي وَقَالَ: حديث حسن صحيح. وابن ماجة والنسائي ولفظه: إني سمعت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إن القوم إِذَا رأوا الْمُنْكَر فَلَمْ يغيروه عمهم الله بعقاب» .

وفي رواية لأبي داود سمعت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثُمَّ يقدرون على أن يغيروا ثُمَّ لا يغيروا إِلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب» . وفي رواية: «إن النَّاس إِذَا رأوا الطالم فَلَمْ يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» .

وَقَالَ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّد بن حميد: ولَقَدْ وصلنا إلى حد ماتت فيه الغيرة الدينية عِنْدَ كُلّ أحد ممن يرجى ويظن أنهم حماة الإِسْلام وأبطال الدين مِمَّا جعل العصاة يمرحون فِي ميادين شهواتهم ويفتخرون بعصيانهم بدون حسيب ولا رقيب.

شِعْرًا:

قُلْ لِلَّذِي بِقِرَاعِ السَّيْفِ هَدَّدَنَا

لا قَامَ قَائِمٌ جَنْبِي حِينَ تَصْرَعُهُ

قَامَ الْحَمَامُ إِلَى الْبَازِي يُهَدِّدُهُ

وَاسْتَيْقَضَتْ لأُسُودِ أَصْبُعُهُ

ص: 128

ولو شئتَ لقُلْتُ: ولا أخشى لائمًا نَحْنُ فِي زمن علا فيه واعتز أرباب الرذائل وأصبحت الدولة لَهُمْ وأَهْل الفضيلة المتمسكون بأهداب دينهم عِنْدَمَا ينكرون على المجرمين إجرامهم يكونون كالمضغة فِي الأفواه البذيئة ترميهم بكل نقيصة وأقل مَا يقولون إنهم متأخرون جامدون فِي بقايا قرون الهمجية يستهزؤن ويقهقهون ويغمزون بالحواجب والعيون ويخرجون ألسنتهم سخرية واستهزاء بِهُمْ ويضحكون من عقولهم لما راجت الرذيلة هذا الرواج وَمَا درى هؤلاء أنهم فِي غاية من السقوط والهمجية لفساد عقولهم وبعدهم عن معرفة أوامر دينهم.

وناهيك لو قام كُلّ منا بما عَلَيْهِ من الدعوة للإسلام والأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر وارشاد النَّاس وعظتهم وتذكيرهم بما فيه صلاحهم واستقامتهم لاستقر الْخَيْر والمعروف فينا وامتنع فُشُوُّ الشر والْمُنْكَر بيننا. أهـ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد.

قَالَ بَعْضُهُمْ:

قُمْ يَا مُحَمَّدُ وَاسْتَمِعْ لِي يَا عُمَرْ

وَاسْتَيْقِظَا فَالدِّينِ يَدْعُو لِلنَّصرْ

وَغَدًا بَنُو الإِسْلامِ فِي زَيْغٍ فَمَا

يَسْعَوْنَ إِلا لِلْمَلاهِيَ وَالْبَطَرْ

تَرَكُوا هُدَى الدِّينِ الْحَنِيفِ الْمُعْتَبَرْ

وَاسْتَبْدَلُوا الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ بِالْعَوَرْ

وَنَسُوا أُصُولَ الدِّينِ مِنْ دَهْش وَقَدْ

أَضْحَى نَصِيرُ الشَّرْعِ فِيهِمْ مُحْتَقَرْ

وَالدِّين يَدْعُوهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ

وَقُلُوبُهُمْ ضَلَّتْ وَقَدْ عَمِيَ الْبَصَرْ

حَتَّى تَشَتَّتْ شَمْلَهُ وَاصْدَّعَتْ

أَرْكَانُهُ وَأَسَاءَ مَثْوَاهُ الضّررْ

فَإِلَى مَتَى هَذَا السُّكُوتُ وَقَدْ دَنَا

وَقْتُ الْجِهَادِ وَمَا لَنَا عَنْهُ مَفَرْ

عَارٌ وَأَيْمُ اللهِ أَنْ نَلْهُوَ وَقَدْ

كَادَتْ معَالِمُ دِينِنَا أَنْ تَنْدَثِرْ

فَكَفَاكُمُوا زَيْغًا وَهَجْرًا فَامْدُدُوا

أَيْدِي الْخَلاصِ وَأَيِّدُوا الدِّينِ الأَغَرْ

وَذَرُوا جِدَال الْمُلْحِدِينَ فَإِنَّهُمْ

فَقَدُوا الرَّشَادَ وَكَانَ مَأْوَاهُمْ سَقَرْ

ص: 129

وَتَكَاتَفُوا فِي السَّعْيِ حَوْلَ نَجَاتِهِ

لا يَثْنِ هِمَّتَكُمْ خُمُولٌ أَوْ ضَجَرْ

فَاللهُ فِي عَوْنِ الْعِبَادِ إِذَا هُمُوا

نَصَرُوا الْحَنِيفَ وَحَصَّنُوهُ مِنَ الْغَيْرْ

اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِلزُومِ الطَّرِيق الَّذِي يُقَرِّبنا إِلَيْكَ وَهَبْ لَنَا نُورًا نَهْتَدِي بِهِ إِلَيْكَ وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَاوألهمنا رُشْدَنَا وَاستُرْنَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ عِبَادِكَ الْمُتَّقِينَ وَألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ "

وَقَالَ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّد بن حميد رحمه الله.. وبعد: فلا يخفى مَا أصيب به الإِسْلام والمسلمون من الشرور والفتن والدواهي والمحن.. وأن الإِسْلام قَدْ أدبر وآذان بالوداع. والنفاق قَدْ أشرف وأقبل باطلاع.. والإسلام بدأ يرتحل من عقر داره لتقصير أهله إذ لم يشرحوا للناس محاسنه وفضائله وحكمه وأسراره. ولم يقوموا بالدعوة إليه بغرس محبته فِي الْقُلُوب.. بذكر مَا تقدم فَإِنَّ الآيات القرآنية الدالة على الدعوة أَكْثَر من آيات الصوم والحج الَّذِينَ هما ركنان من أركَانَ الإِسْلام الخمسة.

والاجتماع المأمور به فِي قوله تَعَالَى " {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً}

تهدمت مبانيه والإئتلاف والتعاون ذهب وذهبت معانيه.. فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ.

نرى الأَمْرَ بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر الَّذِي هُوَ ركن من أركَانَ الإِسْلام فِي قول طائفة من الْعُلَمَاء ضعف جانبه وكثر فِي النَّاس وتنوعت مقاصد الخلق وتباينت آرائهم.

فالْمُنْكَر للمنكر فِي هَذِهِ الأزمنة.. يَقُولُ النَّاس فيه مَا أَكْثَر فضوله وَمَا أسفه

ص: 130

رأيه وَرُبَّمَا غمزوه بنقص فِي عقله.. ومن سكت وأخلد قيل: مَا أحسن عقله وَمَا أقوى رأيه فِي معاشرته للناس ومخالطته لَهُمْ.

والله قَدْ جعل الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر فرقًا بين الْمُؤْمِنِينَ والمنافقين.. فأخص أوصاف الْمُؤْمِنِينَ المميزة لَهُمْ من غيرهم هُوَ الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر ورأس الأَمْر بالمعروف الدعوة إلى الإِسْلام وإرشاد النَّاس إلى مَا خُلِقُوا لَهُ وتبصيرهم بما دل عَلَيْهِ كتاب ربهم وسنة ونبيهم وتحذيرهم من مخالفة ذَلِكَ.

قَالَ الإمام الغزالي فِي قوله تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} . وصف الله الْمُؤْمِنِينَ بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عَنْ الْمُنْكَر والَّذِي هجر الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر خارج عَنْ هؤلاء الْمُؤْمِنِينَ.. انتهى.

وفي قوله تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} مَا يدل على أن الناجي هُوَ الَّذِي ينهى عَنْ السُّوء دون الواقع فيه والمداهن عَلَيْهِ.

والأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر هُوَ الأساس الأعظم للدين. والمهم الَّذِي بعث الله لأجله النبيين ولو أهمل لاضمحلت الديانة وفشت الضلالة وعم الفساد وهلك العباد.

إن فِي النهي عَنْ الْمُنْكَر حفاظ الدين وسياج الأداب والكمالات. فَإِذَا أهمل أَوْ تسوهل فيه تجرأ الفساق على إظهار الفسوق والفجور بلا مبالاة ولا خجل.. ومتى صار العامة يرون المنكرات بأعينهم ويسعونها بآذانهم زالت وحشتها وقبحها من نفوسهم ثُمَّ يتجرأ الكثيرون أَوْ الأكثر على ارتكابها. ولكن يَا للأسف استولت على الْقُلُوب مداهنة الخلق وانمحت عَنْهَا مُرَاقَبَة الخالق حيث اندرس من هَذَا الْبَاب عمله وعلمه وانمحى معظمه ورسمه واسترسل النَّاس فِي اتباع الأهواء والشهوات.

ص: 131

ولا شك أن الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر حفظ للشريعة وحماية لأحكامها تدل عَلَيْهِ بعد إجماع الأمة وإرشاد العقول السليمة إليه. الآيات القرآنية وَالأَحَادِيث النَّبَوِيَّة مثل قوله تَعَالَى: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} فدلت الآيَة الكريمة على عدم صلاحهم بمجرد الإِيمَان بِاللهِ والْيَوْم الآخِر حيث لم يشهد لَهُمْ بذَلِكَ إِلا بعد أن أضاف إليها الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر فقد ذم سبحانه وتعالى من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فَقَالَ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} وَهَذَا غاية التشديد ونهاية التهديد. فبين سبحانه وتعالى أن السبب للعنهم هُوَ ترك التناهي عَنْ الْمُنْكَر، وبين أن ذَلِكَ بئس الْفِعْل.

ولا شك أن من رأى أخاه على منكر ولم ينهه عَنْهُ فقَدْ أعانه عَلَيْهِ بالتخلية بينه وبين ذَلِكَ الْمُنْكَر وَهُوَ عدم الجد فِي إبعاد أخيه عَنْ ارتكابه.

قَالَ ابن عَبَّاس رضي الله عنه: لعنوا فِي كُلّ لسان على عهد مُوَسى فِي التوراة ولعنوا على عهد داود فِي الزبور. ولعنوا على عهد عيسى فِي الإنجيل. ولعنوا على عهد نبيكم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فِي الْقُرْآن. {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} .

قَالَ القرطبي: وبخ سبحانه وتعالى علماءهم فِي تركهم نهيهم فَقَالَ:

{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} كما وبخ من سارع فِي الإثُمَّ بقوله:

{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قَالَ: ودلت الآيَة على أن تارك النهي عَنْ الْمُنْكَر كمرتكب الْمُنْكَر أَوْ.. فَإِنَّ الأمة فِي عهد استقامتها وتمسكها بالسُّنَن لا تطيق أن تَرَى بين أظهرها

ص: 132

عاصيًا ولا معصية فَإِذَا رأت شَيْئًا من ذَلِكَ ثارت ثورة الأسد ولم تهدأ إِلا إِذَا أذاقت المجرم مَا يليق به وَمَا يستحق عَلَى قَدْرِ جريمته تفعل ذَلِكَ غيرة على دينها وطلبًا لمرضاة ربها. والمجرمون إِذَا رأوا ذَلِكَ كفوا عَنْ إجرامهم وبالغوا فِي التستر إِذَا أرادوا تلويث أنفسهم بما يرتكبون، فَإِذَا لم تسقهم الأنمة ولم تراع سنن دينها ضعفت غيرتها أَوْ إنعدمت كليًا فِي نفوسها إذ لو شاهدت مَا شاهدت من المعاصي.. إما أن يتحرك بعض أفرادها حركة ضعيفة لا يخاف معها العاصي ولا ينزجر عَنْ معصيته. وأما أن يتفق الجميع على الإغماض عَنْ ذَلِكَ العاصي فيفعل مَا يشاء بدون خوف ولا خجل إِذَا يرفع ذووا الإجرام رؤوسهم غير هيابين ولا خجلين من أحد.

ولَقَدْ وصلنا إلى حد ماتت فيه الغيرة الدينية عِنْدَ كُلّ أحد ممن يرجى ويظن أنهم حماة الإِسْلام وأبطال الدين مِمَّا جعل العصاة يمرحون فِي ميادين شهواتهم ويفتخرون بعصيانهم بدون حسيب ولا رقيب. ولو شئت لقُلْتُ ولا أخشى لائمًا نَحْنُ فِي زمن علا فيه واعتز أرباب الرذائل. وأصبحت الدولة لَهُمْ. وأَهْل الفضيلة المتمسكون بأهداب دينهم عِنْدَمَا ينكرون على المجرمين إجرامهم يكونون كالمضغة فِي الأفواه البذيئة ترميهم بكل نقيصة وأقل مَا يقولون أنهم متأخرون جامدون فِي بقايا قرون الهمجية يبتسمون ويقهقهون ويغمزون بالحواجب والعيون ويخرجون ألسنتهم سخرية وإستهزاء بِهُمْ ويضحكون من عقولهم. لما راجت الرذيلة فِي هَذَا العصر هَذَا الرواج.

وما درى هؤلاء المرذولون أنهم فِي غاية من السقوط والهمجية التي لَيْسَتْ دونها همجية لفساد عقولهم وبعدهم عَنْ معرفة أوامر دينهم.

وناهيك لو قام كُلّ منا بما عَلَيْهِ من الدعوة إلى الإِسْلام والأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر وإرشاد النَّاس وعظتهم وتذكيرهم بما فيه صلاحهم واستقامتهم

ص: 133

لاستقر الْخَيْر والمعروف فينا وامتنع فشو السِّرّ والْمُنْكَر بيننا: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} .

وقَدْ صرح الْعُلَمَاء رحمة الله عَلَيْهمْ بأنه يجب على الإمام أن يولي هَذَا المنصب الجليل والأَمْر الهام الَّذِي هُوَ فِي الحَقِيقَة مقام الرسل. محتسبًا يأمر بالمعروف وينهى عَنْ الْمُنْكَر.. وَيَكُون ذَا رأي وصرامة، وقوة فِي الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة. كما قَالَ تَعَالَى:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

فدلت الآيَة الكريمة على أَنَّهُ يجب على الْمُسْلِمِين أن تَقُوم مِنْهُمْ طائفة بوظيفة الدعوة إلى الْخَيْر وتوجيه النَّاس وعظتهم وتذكيرهم إلى مَا فيه صلاحهم واستقامة دينهم وأن يكونوا على المنهج القويم. والصراط المستقيم. والمخاطب بهَذَا كافة الْمُسْلِمِين فهم المكلفون لا سيما الإمام الأعظم وأن يختاروا طائفة مِنْهُمْ تَقُوم بهذه الفريضة الهامة التي هِيَ أحد أركَانَ الإِسْلام فِي قول طائفة من الْعُلَمَاء.

قِفَا نَبْكِ عَلَى رسوم علوم الدين والإسلام الَّذِي بدأ يرتحل من بلاده. ولكن يَا للأسف على منام الْقُلُوب وقيام الألسنة بالتقول والتأويل على الإِسْلام بما لا حَقِيقَة لَهُ.

لَقَدْ انطمس المعنى وذهب اللب وَمَا بقى إِلا قشور ورسوم واكتفى الكثيرون من الإِسْلام بمجرد الانتساب إليه بدون أن يعملوا به ويقوموا بالدعوة إليه تحذيرًا وإنذارًا وأمرًا ونهيًا وتبصيرًا للناس بدينهم بذكر فضله وعظمته وإيضاح أسراره وحكمه وغرس العقيدة الحقة فِي قُلُوبهمْ. فهَذَا واجب الْمُسْلِمِين بَعْضهُمْ لبعض كُلّ عَلَى قَدْرِ استطاعته ومقدرته.

هَذَا وأسأل الله أن يوفق الْمُسْلِمِين وولاة أمورهم لما فيه صلاحهم وصلاح

ص: 134

دينهم وأن يجمَعَ كلمتهم على الْحَقّ أَنَّهُ ولي ذَلِكَ والقادر عَلَيْهِ وَهُوَ حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم تسَلِيمًا إلى يوم الدين.

" فَصْلٌ "

وَعَنْ أَبِي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ: سمعت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فَإِنَّ لم يستطع فبلِسَانه فَإِنَّ لم يستطع فبقَلْبهُ وَذَلِكَ أضعف الإِيمَان " رَوَاهُ مُسْلِم.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا من نبي بعثه الله فِي أمة قبلي إِلا كَانَ لَهُ من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثُمَّ تخلف من بعدهم خلوف يقولون مَا لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مُؤْمِن، ومن جاهدهم بلِسَانه فهو مُؤْمِن، ومن جاهدهم بقَلْبهُ فهو مُؤْمِن، لَيْسَ وراء ذَلِكَ من الإِيمَان حبة خردل» . رَوَاهُ مُسْلِم.

وعن حذيفة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «والَّذِي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عَنْ الْمُنْكَر أَوْ ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثُمَّ تدعونه فلا يستجاب لكم» . رَوَاهُ الترمذي، وَقَالَ: حديث حسن.

وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فادخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فَقَالَ: «مَا هذا يَا صَاحِب الطعام ""؟ فَقَالَ: أصابته السماء يَا رَسُول اللهِ. قَالَ: «أفلا جعلته فوق الطعام حَتَّى يراه النَّاس من غشنا فلَيْسَ منا» .

فهَذَا نهي منه صلى الله عليه وسلم عَنْ منكر، هُوَ غش النَّاس فِي طعامهم وأجمعت الأمة على وجوب الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر.

وأَخْرَجَ الإمام أحمد فِي المسند أن الوليد بن عقبة أخر الصَّلاة مرة فقام

ص: 135

عبد الله بن مسعود فثوب بالصَّلاة فصلى بِالنَّاسِ فأرسل إليه الوليد: مَا حَمَلَكَ على مَا صنعت أجاءك من أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أمر فيما فعلت أم ابتدعت؟ قَالَ: لم يأتني أمر من أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ولم ابتدع ولكن أبى الله ورسوله عَلَيْنَا أن ننتظرك بصلاتنا وأَنْتَ فِي حاجتك.

قَالَ شيخ الإِسْلام رحمة الله: لابد من العلم بالمعروف والْمُنْكَر والتمييز بينهما. الثاني أَنَّهُ لابد من العلم بحال المأمور والنهي، ومن الصلاح أن يأتي بالأَمْر والنهي بالصراط المستقيم وَهُوَ أقرب الطرق إلى حصول المقصود ولا بد من الرفق ولا بد أن يكون حليمًا صبورًا على الأَذَى فإنه لا بد أن يحصل لَهُ أذى فَإِنَّ لم يحلم ويصبر كَانَ مَا يفسد أَكْثَر مِمَّا يصلح فَلا بُدَّ مِنْ العلم والرفق والصبر، والعلم قبل الأَمْر والنهي، والرفق معه والصبر بعده.

وَقَالَ سفيان: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عَنْ الْمُنْكَر إِلا من كَانَ فيه خِصَال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر عدل، عدل بما ينهى، عَالِم بما يأمر، عَالِم بما ينهى.

وَقَالَ عبد الملك بن عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز لأبيه: يَا أَبَتِ مَا يَمْنَعُك أن تمضي لما تريد من العدل فوَاللهِ مَا كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور فِي ذَلِكَ؟ قَالَ: يَا بَنِي إني إِنَّمَا أروض النَّاس رياضة الصعب إني أريد أن أجئ الأَمْر من العدل فأؤخر ذَلِكَ حَتَّى أُخْرِجَ معه طمعًا من طمع الدُّنْيَا فينفروا من هَذَا ويسكنوا لهذه.

وَيُشْتَرِطُ فِي وُجُوبِ الإِنْكَارِ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَأهله وماله، فَإِنَّ خاف السب أَوْ سماع الكلام السيئ لم يسقط عَنْهُ والحزم أن لا يبالي لما ورد:«أفضل الجهاد كلمة حق عِنْدَ سلطان جائر» . وقوله: «لا يمنعن أحدكم هيبة النَّاس أن يَقُولُ بحق إِذَا عَلِمَهُ» .

ص: 136

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمُ رحمه الله: إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ لَهُ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ:

(الأُولَى) : أَنْ يَزُولَ وَيَخْلفه ضده.

(الثَّانِيَة) : أَنْ يَقِلَّ وَإن لم يزل من جملته.

(الثالثة) : أن يخلفه مَا هُوَ مثله.

(الرابعة) : أن يخلفه مَا هُوَ شر منه.

فالدَّرَجَتَانِ الأوليان مَشْرُوعَتَانِ، وَالثَّالِثَةِ مَوْضِعُ اجْتِهَاد والرابعة محرمة، وليحزر الآمْر والناهي من أن يخالف قوله أَوْ يأمر بما لا يأتمر به.

شِعْرًا:

رَأَيْنَاكَ تَنْهَى وَلا تَنْتَهِي

وَتُسْمِعُ وَعْظًا وَلا تَسْمَعُ

فَيَا حَجَر الشَّحْذِ حَتَّى مَتَى

تَسَنُّ الْحَدِيدَ وَلا تَقْطَعُ

فقَدْ ورد عَنْ أَنَس بن مالك رضي الله عنه قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار: قَالَ: قُلْتُ: من هؤلاء؟ قَالَ: خطباء أمتك من أَهْل الدُّنْيَا ممن كَانُوا يأمرون النَّاس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» . وحتى لا يتعرض لسخرية النَّاس به واستهزائهم به وحتى تَكُون دعوته مقبولة.

شِعْرًا:

يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ

هَلا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ

تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ مِنَ الضَّنَى

كَيْمَا يَصِحُّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ

ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَإنْهَهَا عَنْ غَيِّهَا

فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فأَنْتَ حَكِيمُ

فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى

بِالرَّأْيِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ

آخر:

فَراكَ مِنَ الأَيَّامِ نَابٌ وَمِخْلَبُ

وَخَانَكَ لَوْنُ الرَّأْسِ وَالرَّأْسُ أَشْيَبُ

فَحَتَّامَ لا تَنْفَكُّ جَامِحَ هِمَّةٍ

بَعِيدَ مَرَامِي النَّفْسِ وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ

تُسَرُّ بِعَيْشٍ أَنْتَ فِيهِ مُنَغَّصٌ

وَتَسْتَعْذِبُ الدُّنْيَا وَأَنْتَ مُعَذَّبُ

تُغَذِّيكَ وَالأَوْقَاتُ جسْمَك تَغْتَذِي

وَتَسْقِيكَ وَالسَّاعَاتُ رُوحَكَ تَشْرَبُ

وَتَعْجَبُ مِن آفَاتِهَا مُتَلَفِّتًا

إِلَيْهَا لَعَمْرُ اللهِ فَعْلُكَ أَعْجَبُ

ص: 137

وَتَحْسِبُها بِالْبِشرِ تُبْطِنُ خُلَّةً

فَيَظْهَرْ مِنْهَا غَيْرُ مَا تَتَحَسَّبُ

إِذَا رَضِيتَ أَعْمَتْكَ عَنْ طُرُقِ الْهُدَى

فَمَا ظَنُّ ذِي لُبٍّ بِهَا حِينَ تَغْضَبُ

وَفِي سَلْبِهَا ثَوبَ الشَّبَابِ دَلالَةٌ

عَلَى أَنَّهَا تُعْطِي خِدَاعًا وَتَسْلِبُ

أَتَرْضَى بِأَنْ يَنْهَاكَ شَيْبُكَ وَالْحِجَا

وَأَنْتَ مَعَ الأَيَّامِ تَلْهُو وَتَلْعَبُ

والله أعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

" فَصْلٌ "

قَالَ شيخ الإِسْلام رحمه الله: من لم يكن فِي قَلْبهُ بغض مَا يبغضه الله ورسوله من الْمُنْكَر الَّذِي حرمه من الكفر والفسوق والعصيان، لم يكن فِي قَلْبهُ الإِيمَان الَّذِي أوجبه الله عَلَيْهِ فَإِنَّ لم يكن مبغضًا لشَيْء من المحرمَاتَ أصلاً لم يكن معه إيمان أصلاً.

والحاصل أن الإِنْسَان يأتي من ذَلِكَ بما يستطيع ولا يقصر فِي نصرة دين الله ولا يعتذر فِي إسقاط ذَلِكَ بالأعذار التي لا تصح ولا يسقط بها مَا أوجب الله عَلَيْهِ من أمر الله، وعَلَيْهِ بالأخذ بالرفق واللطف وإظهار الشفقة والرحمة فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ مدار كبير عِنْدَ الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر.

قَالَ الله تَعَالَى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ومن الحكم أن يدعو كُلّ أحد على حسب حاله وفهمه وقبوله وانقياده.

وَمِنَ الْحِكْمَةِ الدَّعْوَةُ بالعلم والبداءة بالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم وبما يكون قبوله أتم، والرفق واللين فَإِنَّ انقاد بالحكمة وإِلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة، وَهُوَ الأَمْر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.

وليحذر من المداهنة فِي الدين، ومعناه أن يسكت الإِنْسَان عَنْ الأَمْر

ص: 138

بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر وعن قول الْحَقّ وَكَلِمَة الْعَدْلِ: طَمَعًا فِي النَّاسِ وَتَوَقُعًا لِمَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ مِنْ جَاهٍ أَوْ مَالٍ أَوْ حُظُوظٍ الدُّنْيَا.

وقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ لِعُمَر بِنْ صَالحٍ: يَا أَبَا حَفْصٍ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَان يَكُونُ الْمُؤْمِنُ فِيِهِ بَيْنَهُمْ مَثْل الْجِيفَةِ وَيَكُونُ الْمُنَافِقُ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ وَكَيْفَ يُشَارُ إِلَى الْمُنَافِقِ بِالأَصَابِعِ. فَقَالَ: يَا أَبَا حَفْصٍ صَيروا أَمْر اللهِ فُضُولاً.

وَقَالَ المُؤْمِن: إِذَا رَأَى أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ نَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ لَمْ يَصْبِرْ حَتَّى يَأْمُرَ وَيَنْهى. قَالُوا: يَعْنِي هَذَا فُضُول. قَالَ: وَالْمُنَافِقِ كُلّ شَيْء يراه قَالَ بيده على فمه: «أي صمت فَلَمْ ينه ولم يأمر. فَقَالُوا: (نعم الرجل لَيْسَ بينه وبين الفضول عمل) .

وقَدْ روي أن الجار يوم القيامة يتعلق بجاره ويَقُولُ: ظلمني. فيرد عَلَيْهِ بأنه مَا ظلمه ولا خانه فِي أَهْل ولا مال فيَقُولُ الجار: صدق إِنَّهُ لم يخني فِي أَهْل ولا مال ولكنه وجدني أعصي الله فَلَمْ ينهني. هَذَا الأثر بالمعنى. وَرُوِيَ حديث آخر: ويل للعَالِم من الجاهل حيث لا يعلمه.

شِعْرًا:

وَقَعْنَا فِي الْخَطَايَا وَالْبَلايَا

وَفِي زَمَنِ انْتِقَاصٍ وَاشْتِبَاهِ

تَفَانَى الْخَيْرُ وَالصُّلَحَاءُ ذَلُّوا

وَعَزَّ بِذُلِّهِمْ أَهْلُ السَّفَاهِ

وَبَاءَ الآمِرُونَ بِكُلِّ عُرْفٍ

فَمَا عَنْ مُنْكَرٍ فِي النَّاسِ نَاهِ

فَصَارَ الْحُرُّ لِلْمَمْلوكِ عَبْدًا

فَمَا لِلْحُرِّ مِنْ قَدْرٍ وَجَاهِ

فهَذَا شَغَلُهُ طَمَعٌ وَجَمَعٌ

وَهَذَا غَافِلٌ سَكْرَانُ لاهِ

آخر:

إِذَا بِالْمَعْرُوفِ لََمْ أُثْنِ صَادِقًا

وَلَمْ أَذْمُمِ الْجُبْسَ اللَّئِيمْ الْمُذَمِمَّا

فَقِيمْ عَرَفْتُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِاسْمِهِ

وَشَقَّ لِيَ اللهُ الْمَسَامِعَ وَالْفَمَا

ص: 139

آخر:

أَرَى الإِحْسَانَ عِنْدَ الْحُرِّ حَمْدًا

وَعَنْدَ النَّذْلِ مَنْقَصَةً وَذَمًّا

كَقَطْرٍ صَارَ فِي الأَصْدَافِ دُرًا

وَفِي نَابِ الأَفَاعِي سُمًّا

آخر:

إِذَا سَبَّنِي نَذْلٌ تَزَايَدْتُ رِفْعَةً

وَمَا الْعَيْب إِلا أَنْ أَكُونَ مُسَابِبُهْ

وَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَفْسِي عَلَيَّ عَزِيزَةٌ

لَمَكَّنْتُهَا مِنْ كُلِّ نَذْل تُجَاوِبُهْ

آخر:

مَتَى تَضَعُ الْكَرَامَةَ فِي لَئِيمٍ

فَإِنَّكَ قَدْ أَسَأْتَ إِلَى الْكَرَامَةْ

آخر:

لا تَلْطَفَنَّ بِذِي لوُمِ فَتُطَّغِيَهُ

أَغْلظْهُ يَأْتِيكَ مِطْوَاعًا وَمِذْعَانَا

إِنَّ الْحَدِيدَ تُلِينُ النَّارُ قَسْوَتَهُ

وَلَوْ صَبَبْتَ عَلَيْهِ الْبَحْرَ مَا لانَا

والله أعْلَمُ. وَصَلَّى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

" فَصْلٌ "

عَنْ عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم على السمَعَ والطاعة فِي العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثره عَلَيْنَا وعلى أن لا ننازع الأَمْر أهله إِلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله تَعَالَى فيه برهان وعلى أن تَقُول بالحق أينما كنا لا نخاف فِي الله لومة لائم. رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وغيره.

وأَخْرَجَ أحمد وغيره مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللهِ بن عمرو بن العاص: إِذَا رَأَيْت أمتي تهاب الظَالِم أن تَقُول لَهُ: إِنَّكَ ظَالِم فقَدْ تودع مِنْهُمْ. ولَقَدْ كَانَ سلفنا الصالح الكرام لَهُمْ مواقف عظيمة شريفة ونوادر طريفة وقصص غريبة وحكايات عجيبة دالة على صدق إيمانهم وقوة يقينهم وشدة ورعهم فكَانُوا لا يخشون فِي الله لومة لائم أَوْ كلمة مداهن أَوْ فرية مفتر أَوْ قوة ظَالِم بل يجاهرون بالحق بكل صراحة وينطقوا بالصدق وإن غضب الخلق ويأمرون بالمعروف وينهون عَنْ الْمُنْكَر فِي أشد المواقف وأحرجها.

وإليك مَا كَانَ من موقف الصحابي الجريء أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مَعَ مروان ابن الحكم أمير من قبل معاوية بن أبي سفيان فمن السنة

ص: 140

المأثورة والطريقة المعروفة من فعله صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شَيْء يبدأ به الصَّلاة. ثُمَّ يَنْصَرِف فَيَقُوم مُقَابِل النَّاس والنَّاس جُلُوس عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهُمْ بتقوى الله ويأمرهم بحلال الله وينهاهم عَنْ حرامه، ثُمَّ ينصرف، قَالَ أَبُو سعيد: فَلَمْ يزل النَّاس على ذَلِكَ حَتَّى خرجتُ مَعَ مروان وَهُوَ أمير الْمَدِينَة فِي عيد الأضحى أَوْ الفطر فَلَمَّا أتينا المصلى إِذَا منبر بناه كثير بن الصلت التابعي الكبير والمولود فِي الزمن النبوي.

فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي وفيه مخالفة للسنة الصحيحة والْعَمَل المأثور عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فجذبت بثوبه ليبدأ بالصَّلاة قبل الخطبة فجذبَنِي فارتفع على المنبر فخطب قبل الصَّلاة. فقُلْتُ لَهُ ولأصحابه: غيرتم وَاللهِ سنة رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده فأنهم كَانُوا يقدمون الصَّلاة على الخطبة فِي العيدين. فَقَالَ مروان: يَا أَبَا سعيد قَدْ ذهب مَا تعلم من تقديم الصَّلاة على الخطبة فِي العيدين. فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ والله خَيْر مِمَّا لا أَعْلَمُ.

لأن الَّذِي أَعْلَمُ طَرِيقَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي أمرنا باتباعه والتأسي به: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فَقَالَ مروان معتذرًا عَنْ ترك السنة: إن النَّاس لم يكونوا يجلسون لَنَا بعد الصَّلاة فجعلتها قبل الصَّلاة.

فتأمل هَذَا الموقف المشرف الَّذِي وقفه أَبُو سعيد الخدري رضي الله عنه وكيف جذب مروان بثوبه وَقَالَ لَهُ غيرتم: وَاللهِ ولم يخف صولة الإمارة وجاه الحكم وجاهر بالحق وأنكر البدعة وأمر بالسنة على رؤوس الأشهاد من النَّاس فحفظه الله ونصره وأيده وأعزه وصدق الله حيث قَالَ: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا:{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} .

ص: 141

وروي أن ضبة بن محصن العنزيّ قَالَ: كَانَ عَلَيْنَا أَبُو مُوَسى الأشعري أميرًا بالبصرة فكَانَ إِذَا خطبنا حمد الله وأثنى عَلَيْهِ وصلى على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأنشأ يدعو لعمر رضي الله عنه قَالَ: فغاظني ذَلِكَ فقمت إليه فَقُلْتُ: أين أَنْتَ من صاحبه تفضله عَلَيْهِ فصنع ذَلِكَ جُمُعًا.

ثُمَّ كتب إلى عُمَر يشكوني يَقُولُ: إن ضبة بن محصن العنزي يتعرض فِي خطبتي فكتب إليه عُمَر: أن أشخصه إِليَّ فأشخصني إليه فقدمت فضربت عَلَيْهِ الْبَاب، فَقَالَ: من أَنْتَ فَقُلْتُ: أَنَا ضبة. فَقَالَ: لا مَرْحَبًا ولا أهلاً. قُلْتُ: أما المرحب فمن الله، وأما الأَهْل فلا أَهْل لي، ولا مال فبما استحللت يَا عُمَر إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبته، ولا شَيْء آتيته، فَقَالَ: مَا الَّذِي شجر بينك وبين عاملي، قَالَ: قُلْتُ: الآن أخبرك به، أَنَّهُ كَانَ إذا خطبنا حمد الله وأثنى عَلَيْهِ وصلى على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أنشأ يدعو لَكَ فغاظني ذَلِكَ منه، فقمت إليه فَقُلْتُ لَهُ: أين أَنْتَ من صاحبه، تفضله عَلَيْهِ، فصنع ذَلِكَ جُمُعًا.

ثُمَّ كتب إليك يشكوني، قَالَ: فاندفع رضي الله عنه باكيًا، وَهُوَ يَقُولُ: أَنْتَ وَاللهِ أوفق منه وأرشد فهل أَنْتَ غافر لي ذنبي يغفر الله لَكَ.

قَالَ: فَقُلْتُ: غفر الله لَكَ. قَالَ: ثُمَّ اندفع بَاكيًا، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لليلة من أَبِي بَكْرٍ ويوم، خَيْر من عُمَر وآل عُمَر.

وبعث الحجاج الظَالِم المشهور إلى الحسن فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَقُول: قاتلهم الله قتلوا عباد الله على الدرهم والدينار. قَالَ: نعم. قَالَ: مَا حَمَلَكَ على هَذَا؟ قَالَ: مَا أخذ الله على الْعُلَمَاء من المواثيق {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} قَالَ: يَا حسن أمسك عَلَيْكَ لسانك وَإِيَّاكَ أن يبلغني عَنْكَ مَا أكره فافرق بين رأسيك وجسدك. نعود بِاللهِ من الظلمة وأعوان الظلمة من أمثال الحجاج.

شِعْرًا:

الظُّلْمُ نَارٌ فَلا تَحْقِرْ صَغِيرَتَهُ

لَعَلَّ جَذْوَةَ نَارٍ أَحْرَقَتْ بَلَدَا

ثُمَّ تطاول الزمن ومضت فترة منه فاندرس هَذَا الواجب وعفت أثاره

ص: 142

وامحت معالمه وانطوت أخباره وداهن النَّاس بَعْضهُمْ بَعْضًا وجبن النَّاس عَنْ المصارحة للولات فِي المخالفات إِلا نوادر مروا خلال القرون الأولى أما نَحْنُ فصَارَت شجاعتنا وصلابتنا وإنكاراتنا حول مَا يتعلق بالدنيا، أما ما يتعلق بالدين فلَيْسَ عندنا من الإنكار إِلا التلاوم فيما بيننا إِذَا أمن بعضنا من بعض فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ العلي العَظِيم.

قَالَ ابن القيم رحمه الله:

قُلْ لِي مَتَى سَلِمَ الرَّسُولُ وَصَحْبُهُ

وَالتَّابِعُون لَهُمْ عَلَى الإِحْسَانِ

مِنْ جَاهِلٍ وَمُعَانِدٍ وَمُنَافِقٍ

وَمُحَارِبٍ بِالْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ

وَتَظُنُّ أَنَّكَ وَارِثًا لَهُمْ وَمَا

نِلْتَ الأَذَى فِي نُصْرَةِ الرَّحْمَنِ

كَلا وَلا جَاهَدْتَ حَقَّ جِهَادِهِ

فِي اللهِ لا بِيَدٍ وَلا بِلِسَانِ

مَنَّتْكَ وَاللهِ الْمَحَالَ النَّفْسُ فَاسْـ

ـتَحْدِثْ سِوَى ذَا الرَّأْيِ وَالْحُسْبَانِ

لَوْ كُنْتَ وَارِثَهُ لآذَاكَ الأَوْلَى

وَرَثُوا عِدَاهُ بِسَائِرِ الأَلْوَانِ

وقَدْ قيل: إن المنكرات أشبه بجراثيم الأمراض فِي تنقلها وانتشارها، والتأثر بها بإذن الله فَإِنَّ وجدت كفاحًا يحجر عَلَيْهَا فِي مكانها حَتَّى يقتلها ويبيدها سلم مَنْهَا موضعها، وسلم مَنْهَا مَا وراءه، وَإِذَا لم تجد كفاحًا وتركت وشأنها اتسعت دائرتها، وتفشت فِي جميع الأرجَاءَ وقضت على عناصر الحياة وعرضها للفناء والدمار.

ومن هنا كَانَ أثر المنكرات غير خاص بمرتكبيها، وكَانَ الساكتون عَلَيْهَا عاملين على نشرها وإذعانها، وبهَذَا الموقف السلبي يكونون أهلاً لحلول العقاب بِهُمْ وإصابتهم بما يصاب به المباشرون لها.

ومِمَّا يدل على هَذَا قوله تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} وَقَالَ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّد بن حميد فِي آخر رسالة لَهُ

ص: 143

تتضمن الحث على الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر: قفا نبك على رسوم علوم الدين والإسلام الَّذِي بدأ يرتحل من بلاده، ولكن يَا للأسف على منام الْقُلُوب وقيام الألسنة بالتقول والتأويل على للإسلام بما لا حقيقة له.

لقد انطمس المعنى وذهب اللب وما بقي إلا قشور ورسوم اكتفى كثيرون من الإسلام بمجرد الانتساب إليه بدون أن يعلموا به ويقوموا بالدعوة إليه تحذيرًا وإنذارًا وأمرًا ونهيًا وتبصيرًا للناس بدينهم بذكر فضله وعظمته وإيضاح أسراره وحكمه وغرس العقيدة الحقة فِي قُلُوبهمْ فهَذَا واجب الْمُسْلِمِين بَعْضهُمْ لبعض كُلّ عَلَى قَدْرِ استطاعته ومقدرته. أ. هـ.

وقوله صلى الله عليه وسلم فِي حديث جابر: «أوحى الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام أن أقلب مدينة كَذَا وَكَذَا بأهلها، قَالَ: يَا رب إن فيهم فلانًا لم يعصك طرفة عين. قَالَ: فَقَالَ: أقلبها عَلَيْهِ وعَلَيْهمْ، فَإِنَّ وجهه لم يتمعر فِي ساعة قط» .

وذكر الإمام أحمد عَنْ مالك بن دينار قَالَ: كَانَ حبر من أحبار بَنِي إسرائيل يغشى منزله الرِّجَال والنساء فيعظهم ويذكرهم بأيام الله فرأى بعض بنيه يغمز النساء فِي يوم فَقَالَ: مهلا يَا بَنِي فسقط من سريره فانقطع نخاعه وأسقطت امرأته وقتل بنوه.

فأوحى الله إلى نبيهم أن أخبر فلانًا الحبر: أني لا أَخْرَجَ من صلبك صديقًا أَبدًا مَا كَانَ غضبك إِلا أن قُلْتَ: مهلا يَا بَنِي.

إذا فهمت ذَلِكَ فاعْلَمْ أن الانتقام إِذَا وقع لَيْسَ هُوَ أخذًا للبرئ بجريمة المذنب كما يظن البعض، وإنما هُوَ أخذًا للمذنب بجريمة ذنبه، فالذنب ذنبان: ذنب يصدر عَنْ شخص، وَهُوَ الْفِعْل نَفْسهُ، وذنب يصدر عَنْ من يعلم هَذَا الذنب، وَهُوَ يقدر على مكافحته.

ثُمَّ هُوَ يبعد نَفْسهُ عَنْ مكافحة هَذَا الذنب طمعًا فِي مال أَوْ مكانة وبذَلِكَ يكون شريكًا فِي الْعَمَل على نشره..أ. هـ.

ص: 144

وفي السُّنَن أن عَبْد اللهِ بن مسعود رضي الله عنه حكم بكفر أَهْل مسجد بالكوفة قَالَ: واحد إِنَّمَا مسيلمة على حق فيما قَالَ: وسكت الباقون فأفتى بكفرهم جميعًا. أ. هـ من الدرر السنية.

قُلْتُ: لأن الواجب عَلَيْهمْ أن يكذبوه ويقولوا لَهُ: كذبت بل هُوَ على باطل فالساكت شريك الفاعل لقدرته على الإنكار باللسان.

وَقَالَ سفيان: إِذَا أمرت بالمعروف شددت ظهر المُؤْمِن وَإِذَا نهيت عَنْ الْمُنْكَر أرغمت أنف المنافق.

شِعْرًا:

لا يُدْرِكَ الْمَجْدَ إِلا مُخْلِصٌ وَرِعٌ

يُرَاقِبُ الله فِي سِرٍّ وَإِعْلانِ

وَلَيْسَ تَأْخُذُه فِي اللهِ لائِمَةٌ

إِذَا رَأَى مُنْكَرًا فِي بَيْتِ إِنْسَانِ

اللَّهُمَّ اجْعَلنَا من حزبك المفلحين، وعبادك الصالحين الَّذِينَ أهلتهم لخدمتك وجعلتهم آمرين بالمعروف فاعلين لَهُ، وناهين عَنْ الْمُنْكَر، ومجتنبين لَهُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ مرضى الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ "

وكتب عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز إلى بعض عماله، أما بعد فإنه لم يظهر الْمُنْكَر فِي قوم قط ثُمَّ لم ينههم أَهْل الصلاح مِنْهُمْ إِلا أصابهم الله بعذاب من عنده أَوْ بأيدي من يشاء من عباده، ولا يزال النَّاس معصومين من العقوبات والنقمَاتَ مَا قُمِعَ أَهْل الْبَاطِل واستخفى فيهم بالمحارم.

فلا يظهر من أحد محرم إِلا انتقموا ممن فعله فَإِذَا ظهرت فيهم المحارم فَلَمْ ينههم أَهْل الصلاح أنزلت العقوبات من السماء إلى الأَرْض ولعل أَهْل

ص: 145

الإدهان أن يهلكوا ومعهم وإن كَانُوا مخالفين لَهُمْ، فإني لم أسمَعَ الله تبارك وتعالى فيما نزل من كتابه عِنْدَ مثلة أهلك بها أَحَدًا نجى أَحَدًا من أولئك أن يكون الناهين عَنْ الْمُنْكَر.

ويسلط الله على أَهْل تلك المحارم إَِنْ هُوَ لم يصبهم بعذاب من عنده أَوْ بأيدي من يشاء من عباده من الخوف والذل والنقم فإنه ربما انتقم بالفاجر من الفاجر وبالظَالِم من الظَالِم ثُمَّ صار كلا الفريقين بأعمالهما إلى النار، فنعوذ بِاللهِ أن يجعلنا ظالمين، أَوْ يجعلنا مداهنين للظالمين.

وأنه قَدْ بلغني أَنَّهُ قَدْ كثر الفجور فيكم وأمن الفساق فِي مدائنكم وجاهروا بالمحارم بأمر لا يحب الله من فعله ولا يرضى المداهنة عَلَيْهِ، كَانَ لا يظهر مثله فِي علانية قوم يرجون لله وقارًا ويخافون منه غُيرًا وهم الأعزون الأكثرون من أَهْل الفجور، أي أَكْثَر من أهل الفجور وأعز مِنْهُمْ.

ولَيْسَ بذَلِكَ مضى أمر سلفكم ولا بذَلِكَ تمت نعمة الله عَلَيْهمْ بل كَانُوا {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء} ، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} .

ولعمري إِنْ من الجهاد الغلظة على محارم الله بالأيدي والألسن والمجاهدة لَهُمْ فيه.

وإن كَانُوا الآباء والأبناء والعشائر، وإنما سبيل الله طاعته.

وَقَدْ بلغني أَنَّهُ بطأ بكثير من النَّاس عَنْ الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر، إتقاء التلاوم أن يُقَالَ فلان حسن الخلق، قليل التكلف، مقبل على نَفْسهُ، وَمَا جعل الله أولئك أحاسنكم أخلاقًا بل أولئك أسؤكم أخلاقًا.

وما أقبل على نَفْسهُ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، بَلْ أَدْبَرَ عَنْهَا، ولسلم من الكلفة

ص: 146

لها بل وقع فيها، وإذ رضي لنفسه من الحال غير مَا أمره الله به أن يكون عَلَيْهِ من الأَمْر بالمعروف، والنهي عَنْ الْمُنْكَر.

وقَدْ دلت ألسنة كثير من النَّاس بآية وضعوها غير موضعها، وتأولوا فيها قول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وصدق الله تبارك وتعالى، ولا يضرنا ضلالة من ضل إِذَا اهتدينا، ولا ينفعنا هدي من اهتدى إِذَا ضللنا {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وإن مِمَّا عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَنْفُسِ أولئك مما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يظهر لله محرمًا إِلا انتقموا ممن فعله مِنْهُمْ، من كنتم، ومن كَانُوا، وقول من قَالَ إن لَنَا فِي أنفسنا شغلاً، ولسنا من النَّاس فِي شَيْء.

ولو أن أَهْل طاعة الله رجع رأيهم إلى ذَلِكَ، مَا عمل لله بطاعة، ولا تناهوا لَهُ عَنْ معصية، ولقهر المبطلون المحقين، فصار النَّاس كالأنعام، أَوْ أضل سبيلاً، فتسلطوا على الفساق من كنتم ومن كَانُوا فادفعوا بحقكم باطلهم، وببصركم عماهم، فَإِنَّ الله جعل للأبرار على الفجار سلطانًا مبينًا، وإن لم يكونوا ولاة ولا أَئِمَّة.

من ضعف عَنْ ذَلِكَ فليرفعه إلى أمامه فَإِنَّ ذَلِكَ من التعاون على البر والتقوى، قَالَ الله لأَهْل المعاصي:{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} .

ولينتهين الفجار أَوْ ليهينهم الله بما قَالَ: {َنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} الآيَة.

وذكر ابن أبي الدُّنْيَا عَنْ أَنَس بن مالك أَنَّهُ دخل على عَائِشَة هُوَ ورجل آخر فَقَالَ لها الرجل: يَا أم الْمُؤْمِنِينَ حدثينا عَنْ الزلزلة، فقَالَتْ: إِذَا استباحوا الزنا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف، غار الله عز وجل فِي سمائه، فَقَالَ للأرض: تزلزلي بِهُمْ، فَإِنَّ تابوا ونزعوا وإِلا هدمها عَلَيْهمْ.

ص: 147

قَالَ: يَا أم الْمُؤْمِنِينَ أعذابا لَهُمْ؟ قَالَتْ: بل موعظة ورحمة للمؤمنين ونكالاً وعذابًا وسخطًا على الكافرين. فَقَالَ أَنَس مَا سمعت حديثًا بعد رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا أشد فرحًا به مني بهَذَا الْحَدِيث.

وذكر ابن أبي الدُّنْيَا حديثًا مرسلاً: أن الأَرْض تزلزلت على عهد رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فوضع يده عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: اسكني فإنه لم يأن لَكَ بعد. ثُمَّ التفت إلى أصحابه، فَقَالَ:«إن ربكم ليستعتبكم فاعتبوه» . ثُمَّ تزلزلت بِالنَّاسِ على عهد عُمَر بن الخطاب، فَقَالَ: أيها النَّاس مَا كَانَتْ هَذِهِ الزلزلة إِلا على شَيْء أحدثتموه، والَّذِي نفسي بيده لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا.

وفي مناقب عُمَر لابن أبي الدُّنْيَا أن الأَرْض على عهد عُمَر تزلزلت فضرب يده عَلَيْهَا، وَقَالَ: ما لك؟ أما إنها لو كَانَتْ القيامة حدثت أخبارك، سمعت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا كَانَ يوم القيامة فلَيْسَ فيها ذراع ولا شبر إِلا وَهُوَ ينطق.

وكتب عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز إلى الأمصار: أما بعد فإن هَذَا الرجف شَيْء يعاقب الله عز وجل به العباد، وَقَدْ كتبت إلى الأمصار أن يخرجوا فِي يوم كَذَا وَكَذَا فِي شهر كَذَا وَكَذَا فمن كَانَ عنده شَيْء فليتصدق به، فَإِنَّ الله عز وجل يَقُولُ:{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} وقولوا كما قَالَ آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقولوا كما قَالَ يونس:{لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} .

شِعْرًا:

إِلَهِي لَكَ الْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ

عَلَى نِعَمٍ تَتْرَى عَلَيْنَا سَوَابِغُ

وَقَدْ عَجِزَتْ عَنْ شُكْرِ فَضْلِكَ قُوَّتِي

وَكُلُّ الْوَرَى عَنْ شُكْرِ جُودِكَ عَاجِزُ

اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات ويا سامَعَ الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يَا خالق الأَرْض والسماوات أَنْتَ الله الأحد

ص: 148

الصمد الَّذِي لم يلد ولا يولد ولم يكن لَهُ كفوًا أَحَد الوهاب الَّذِي لا يبخل والحليم الَّذِي لا يعجل لا رادَّ لأَمْرِكَ ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.

" موعظة "

قَالَ الله تَعَالَى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ، قَالَ:{فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} ، وَقَالَ تَعَالَى:{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} فيا عباد الله لَقَدْ خاطبكم بهَذَا الخطاب الرائع ووصفهم بهَذَا الوصف العَظِيم، بأنهم خَيْر أمة أخرجت للناس، وأن مجتمعهم أعلا وأعز مجتمَعَ فِي العَالِم حاضره وماضيه لما اتصفوا به من الصفات الفاضلة، والأَخْلاق العالية، والغيرة الصادقة، على حدوده.

وَهَذَا الوصف وَقْت أن كَانُوا متمسكين بتعاليم دينهم، وكَانَ الإِسْلام وبهاؤه يلوح فِي أَعْمَالُهُمْ، ومعاملاتهم، وأخلاقهم فلا غش ولا خداع ولا كذب ولا خيانة ولا غدرًا، ولا نميمة، ولا غيبة، ولا قطيعة هدفهم الِقَضَاءِ على المنكرات وإماتتها، وإعزاز المعروف ونشره بين الْمُسْلِمِين، وَهَذَا يدل على قوة إيمانهم، وشدة تمسكهم به ورغبة فِي النجاة التي وعد الله بها الناهي عَنْ السُّوء، قَالَ تَعَالَى:{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} .

فيا عباد الله تأملوا حالتنا الحاضرة، وحالة سلفنا الكرام الَّذِينَ كَانُوا كُلّ مِنْهُمْ يحب لأخيه مَا يحب لنفسه، ويرحم كبيرهم الصغير ويوقر الصغير الكبير، يتآمرون بالمعروف، ويتنأَهْوَن عَنْ الْمُنْكَر، ينصفون حَتَّى الأعداء من أنفسهم وأولادهم.

ص: 149

فالقوي عندهم ضعيف، حَتَّى يستوفي منه الْحَقّ، والضعيف عندهم قوي حَتَّى يؤخذ حقه، إِذَا فقدوا بحثوا عَنْهُ فَإِنَّ كَانَ مريضًا عادوه وَإِذَا مَاتَ شيعوه، وإن احتاج اقرضوه، وواسوه وإن نزل عَلَيْهمْ أكرموه.

عاملين بقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل الْمُؤْمِنِينَ فِي توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إِذَا اشتكى منه عضو تداعى لَهُ سائر الجسد بالسهر والحمى "، وحديث:[المُؤْمِن للمُؤْمِنِ كالبنيان يشد بعضه بَعْضًا] .

أما نَحْنُ فحالتنا حالة مخيفة جدًا لأننا على ضد مَا ذكرنا من حالة سلفنا ولا حَاجَة إلى تكرار، ألق سمعك وقَلِّبْ نظرك، وأحضر قلبك تَرَى ذَلِكَ بعين بصيرتك وتَرَى مَا يخيفك ويقلق راحتك ويقض مضجعك من المنكرات فِي البيوت والأسواق والبر والبحر، ولا أدري هل بيتك خال من المنكرات التي سأذكرها فهنيئا لَكَ إِنْ شَاءَ اللهُ ولا أظنه خال مَنْهَا.

فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِن ذِي عَظِيمَةٍ

وَإِلا فَإِنِّي لا إِخَالُكَ نَاجِيًا

وإن شككت ففتش على نفسك تجد ذَلِكَ، فالْمُنْكَر نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا بل وفي بيوتنا فهل بيتك خال من صورٍ ذوات الأرواح، هل هُوَ خال من المذياع، هل هُوَ خال من التلفزيون، والسينماء والبكمَاتَ ومسجلات الأغاني، هل هُوَ خال من شراب المسكرات، هل مَا يأتي لبيتك إِلا أناس طيبين طاهري الأَخْلاق، هل هُوَ خال من حالقي اللحى هل هُوَ خال من المخنفسين مطيلي أظافرهم تشبهًا باليهود، وهل هُوَ خال من المتشبهين بالمجوس والمتشبهين بالإفرنج، هل هُوَ خال ممن لا يشهدون صلاة الجماعة أَوْ لا يصلون أبدًا، هل هُوَ خال من النساء القاصات لرؤسهن المطيلات لأظفارهن، هل هُوَ خال من شرَّاب أب الخبائث الدخان، ونحوه من المنكرات وأما فِي الأسواق فحدث عَنْ كثرة المنكرات ولا حرج على حد قول المتنبي:

شِعْرًا:

وقَدْ وَجَدَتُ مَكَانَ الْقَوْلِ ذَا سِعَةِ

فَإِنْ وَجَدتَ لِسَانًا قَائِلاً فَقُلِ

ص: 150

آخر:

أَحْذِرْكَ أَحْذِرْكَ لا أَحْذِرْكَ وَاحِدَةَ

عَن الْمِذَايِيعِ وَالتِّلْفَازِ وَالْكُرَةِ

كَذَا الْمَجَلاتِ مَعَ صُحْفٍ وَنَحْوِهما

مَا حَصَّلُوا مِنْهَا إِلا الإثُمَّ وَالْعَنَتِ

كَمْ عِنْدَهَا ضَاعَ مِنْ وَقْتٍ بِلا ثَمَنٍ

لَوْ كَانَ فِي الْبِرِّ نِلْتَ الأَجْرَ وَالصِّلَةِ

ومَعَ ذَلِكَ فلا ألسنة تنطق ولا قُلُوب تتمعر إِلا النوادر، الموجود هُوَ التلاوم والقيل والقَالَ، والمداهنة، والجلوس مع أَهْل المعاصي، ومحادثتهم ومباشرتهم وأظهار البشر لَهُمْ وتعظيمهم وتقليدهم فِي الأقوال والأفعال.

فيا عباد الله اتقوا الله واسلكوا طَرِيق سلفكم واصدعوا بالحق وأمروا بالمعروف وانهوا عَنْ الْمُنْكَر، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، قَبْل أَنْ يَحِلَّ بِكم مَا حَل بمن قبلكم، وتضرب قُلُوب بعضكم على بعض، قبل فتنة لا تصيبن الَّذِينَ ظلموا منكم خاصة، قبل أن تُلعنوا كما لعن الَّذِينَ من قبلكم، بسبب عدم تناهيهم عَنْ الْمُنْكَر.

قَالَ الله تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} .

فَيَا عِبَادَ اللهِ إِنَّ الأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَمِنْ أَعْظَمِ الشَّعَائِرِ الإِسْلاميَّةِ، وَأَقْوَى الأُسُس التي يَقُومُ عَلَيْهَا بِنَاءُ الْمُجْتَمِعَاتِ النَّزِيهَةِ الرَّاقِيَةِ، فَإِذَا لم يكن أمر ولا نهي أَوْ كَانَ ولكن كالمعدوم، فعلى الأَخْلاق والمثل العليا السَّلام، ويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة، وللمتدينين من الفاسقين والمنافقين.

فيا عباد الله تداركوا الأَمْر قبل أن يفوت الأوان وتعضوا على البنان فقَدْ قَالَ لكم سيد ولد عدنان: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فَإِنَّ لم يستطع فبلِسَانه، فَإِنَّ لم يستطع فبقَلْبهُ وَذَلِكَ أضعف الإِيمَان» .

عباد الله بالأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر نأمن بإذن الله على الدين من

ص: 151

الاضمحلال والتلاشي، ونأمن بإذن الله على الأَخْلاق الفاضلة من الذهاب والانحلال، والحذر والحذر من مخالفة القول للفعل، فتأثير الدعوة بالْفِعْل أقوى بكثير من الأقوال المجردة من الأفعال.

وفي المسند وغيره مِنْ حَدِيثِ عروة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ: دخل عليَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ حفزه النفس فعرفت فِي وجهه أن قَدْ حفزه شَيْء، فما تكلم حَتَّى توضأ وخَرَجَ فلصقت بالحجرة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أيها النَّاس إن الله عز وجل يَقُولُ لكم: مروا بالمعروف وانهوا عَنْ الْمُنْكَر، قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم.

وَقَالَ العمري الزاهد: إن من غفلتك عَنْ نفسك وإعراضك عَنْ الله أن تَرَى مَا يسخط الله فتجاوزه، ولا تنهى عَنْهُ، خوفًا ممن لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا. قُلْتُ: وَمَا أَكْثَر المدلسين الساكتين الَّذِينَ يمرون بالجالسين أمام التلفزيون وعَنْدَ المذياع والكورة بل ولا يأمرونهم بالتي هِيَ أحسن ويمرون بأولادهم فِي فرشهم ولا يوقظونهم للصلاة وكَانَ أمرهم أمر مباح إن شَاءَ أنكر وإن شَاءَ ترك، وَقَالَ: من ترك الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر مخافة من المخلوقين نزعت منه الطاعة، ولو أمره ولده أَوْ بعض مواليه لا استخف بحقه.

وذكر الإمام أحمد عَنْ عُمَر بن الخطاب: توشك القرى أن تخرب وهي عامرة. قيل: وكيف تخرب وهي عامرة، قَالَ: إِذَا علا فجارها أبرارها وساد القبيلة منافقوها. قُلْتُ: وَمِمَّا يؤيد ذَلِكَ قوله تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} الآيَة، وإليك هَذَا نظم للأسباب التي بها حياة الْقَلْب فألق لها سمعك وأحضر قلبك تأتيك بعد الدُّعَاء.

اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغَفْلَة والنوم وأرزقنا الاستعداد لِذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي يربح فيه المتقون، اللَّهُمَّ وعاملنا بإحسانك وجد

ص: 152

عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وامتنانك وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، اللَّهُمَّ ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، اللَّهُمَّ اجعل قلوبنا مملؤة وألسنتنا رطبة بِذِكْرِكَ ونُفُوسنَا مطيعة لأَمْرِكَ وارزقنا الزهد فِي الدُّنْيَا والإقبال على الآخِرَة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

شِعْرًا:

حَمِدْتُ الَّذِي أَغْنَى وَأَقْنَى وَعَلّمَا

وَصَيَّرَ شكْرَ الْعَبْدِ لِلْخَيْرِ سُلَّمَا

وَأُهْدِي صَلاةً تَسْتِمَر عَلَى الرِّضَا

وَأَصْحَابِهِ وَالآلِ جَمْعًا مُسَلِّمَا

أَعَادَ لَنَا فِي الْوَحْي وَالسُّنَنِ الَّتِي

أَتَانَا بِهَا نَحْوَ الرَّشَادِ وعَلَّمَا

أَزَالَ بِهَا الأَغْلاف عَنْ قَلْبِ حَائِرٍ

وَفَتَّحَ أَذَانَا أُصِمَّتْ وَأَحْكَمَا

فَيَا أَيُّهَا الْبَاغِي اسْتنَارَةَ عَقْلِهِ

تَدَبَّرْ كِلا الْوَحْيَيْنِ وَانْقَدْ وَسَلِّمَا

فَعُنْوَانُ إسْعَادِ الْفَتَى فِي حَيَاتِهِ

مَعَ اللهِ إِقْبَالاً عَلَيْهِ مُعَظِّمَا

وَفَاقِدْ ذَا لا شَكَّ قَدْ مَاتَ قَلْبُهُ

أَوْ اعْتَلَّ بِالأَمْرَاضِ كَالرِّينِ وَالْعَمَا

وَآيَةُ سُقْمٍ فِي الْجَوَارِحِ مَنْعُهَا

مَنَافِعَهَا أَوْ نَقْصُ ذَلِكَ مِثْلَمَا

وَصِحَّتُهَا تَدْرِي بِإتْيَان نَفْعِهَا

كَنُطْقِ وَبَطْشِ وَالتَّصَرُّفِ وَالنَّمَا

وَعَيْنُ امْتِرَاضِ الْقَلْبِ فقدُ الَّذِي لَهُ

أُرِيدَ مِن الإِخْلاصِ وَالْحُبِّ فَاعْلَمَا

وَمَعْرِفَةٌ وَالشَّوْق إِلَيْهِ إِنَابَةً

بِإِيثَارِهِ دُونَ الْمَحَبَّاتِ فَاحْكمَا

وَمُوثِرُ مَحْبُوبٍ سِوَى اللهِ قَلْبُهُ

مَرِيضٌ عَلَى جُرْفٍ مِنَ الْمَوْتِ وَالْعَمَا

وَأَعْظَمُ مَحْذُورٍ خَفَى مَوْتُ قَلْبِهِ

عَلَيْهِ لِشُغْلِ عَنْ دَوَاهُ بِصَدِمَا

وَآيَةُ ذَا هُونُ الْقَبَائِحِ عِنْدَهُ

وَلَوْلاهُ أَضْحَى نَادِمًا مُتَأَلِّمَا

فَجَامِعَ أَمْرَاضٍ الْقُلُوبِ اتَّبَاعُهَا

هَوَاهَا فَخَالِفَهَا تَصِحَّ وَتَسْلَمَا

وَمِنْ شُؤْمِهِ تَرْكُ إِغْتِذَاءٍ بِنَافِعٍ

وَتَرْكُ الدَّوَا الشَّافِي وَعَجْزٌ كِلاهُمَا

إِذَا صَحَّ قَلْبُ الْعَبْدِ بَانَ ارْتِحَالُهُ

إلى دَارِهِ الأُخْرَى فَرَاحَ مُسَلِّمَا

وَمِنْ ذَاكَ إِحْسَاسُ الْمُحِبِّ لِقَلْبِهِ

بِضَرْبٍ وَتَحْرِيكٍ إِلَى اللهِ دَائِمَا

إلى أَنْ يُهَنَّا بِالإِنَابَةِ مُخْبِتًا

فَيَسْكُنُ فِي ذَا مُطْمَئِنًا مُنَعَّمَا

ص: 153

.. وَيَصْحَبُ حُرًّا دَلَّهُ فِي طَرِيقِهِ

وَكَانَ مُعِينَا نَاصِحًا مُتَيَمِّمَا

وَمِنْهَا إِذَا مَا فَاتَهُ الْوِرْدُ مَرَّةً

تَرَاهُ كَئِيبًا نَادِمًا مُتَأَلِّمَا

وَمِنْهَا اشْتِيَاقُ الْقَلْبِ فِي وَقْت خِدْمَةٍ

إِلَيْهَا كَمُشَتَدٍّ بِهِ الْجُوعُ وَالظَّمَا

وَمِنْهَا ذِهَابُ الْهَمِّ وَقْتَ صَلاتِهِ

بِدُنْيَاهُ مُرتَاحَا بِهَا مُتَنَعِّمَا

وَيَشْتَدُّ عَنْهَا بَعْدَهُ لِخُرُوجِهِ

وَقَدْ زَالَ عَنْهُ الْهَمَّ وَالْغَمُّ فَاسْتَمَا

فَأَكْرِمْ بِهِ قَلْبًا سَلِيمًا مُقَرَّبًا

إِلَى اللهِ قَدْ أَضْحَى مُحِبًّا مُتَيَّمًا

وَمِنْهَا اجْتِمَاعُ الْهَمِّ مِنْهُ بِرَبِّهِ

بِمَرْضَاتِهِ يَسْعَى سَرِيعًا مُعَظَّمَا

وَمِنْهَا اهْتِمَامٌ يُثْمِرُ الْحِرْصَ رَغْبَةً

بِتَصْحِيحِ أَعْمَالٍ يَكُونُ مُتَمِّمَا

بِإِخْلاصِ قَصْدٍ وَالنَّصِيحَةَ مُحْسِنًا

وَتَقْيِيدِهِ بِالاتِّبَاعِ مُلازِمًا

وَيَشْهَدُ مَعْ ذَا مِنَّةَ الله عِِنْدَهُ

وَتَقْصِيرَهُ فِي حَقِّ مَوْلاهُ دَائِمَا

فَسِتٌ بِهَا الْقَلْبُ السَّلِيمُ ارْتِدَاءِهُ

وَيَنْجُو بِهَا مِنْ آفَةِ الْمَوْتِ وَالْعَمَا

فَيَا رَبِّ وَفَّقَنَا إلى مَا نَقُولُهُ

فَمَا زِلْتَ يَا ذَا الطُّولِ بَرًّا وَمُنْعِمَا

فَإِنِّي وَإِنْ بَلَغْتُ قَوْلَ مُحَقِّقٍ

أَقِرُّ بِتَقْصِيرِي وَجَهْلِي لَعَلَّمَا

وَلَمَّا أَتَى مِثْلِي إلى الْجَوِّ خَالِيًا

مِنَ الْعِلْمِ أَضْحَى مُعْلِنًا مُتَكَلِّمَا

كَغَابِ خَلا مِنْ أُسْدِهِ فَتَوَاثَبَتْ

ثَعَالِبُ مَا كَانَتْ تَطَافِي فِنَا الْحِمَا

فَيَا سَامِعَ النَّجْوَى وَيَا عَالِمَ الْخَفَا

سَأَلْتُكَ غُفْرَانًا يَكُونُ مَعَمِّمَا

فَأَجْرَأَنِي إِلا اضْطِرَارٌ رَأَيْتُهُ

تَخَوَّفْتُ كَوْنِي إِنْ تَوَقَّفْتُ كَاتِمَا

فَأَبْدَيْتُ مِنْ جُرَّاهُ مُزْجَى بِضَاعَتِي

وَأَمَّلْتُ عَفْوًا مِنْ إِلَهِي وَمَرْحَمَا

فَمَا خَابَ عَبْدٌ يَسْتَجِيرُ بِرَبِّهِ

أَلَحَّ وَأَمْسَى طَاهِرَ الْقَلْبِ مُسْلِمَا

وَصَلُّوا عَلَى خَيْرِ الآنَامِ مُحَمَّدٍ

كَذَا الآلِ وَالأَصْحَابِ مَا دَامَتْ السَّمَا

والله أعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

ص: 154

" فَصْلٌ "

اعلم وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه وجعلنا وَإِيَّاكَ وإياهم من المصدقين لله فيما أخبروا به وحيث أَنَّهُ قَدْ كثر فِي زمننا المنكرون للجن وغالبهم يستندون فِي إنكارهم بأن طَرِيق معرفة وجودهم هِيَ النظر أَوْ السمَعَ أَوْ اللمس وأنهم لم يروا جنَّا ولم يسمعوهم ولم يمسوهم.

ولكن عدم النظر أَوْ السمَعَ أَوْ اللمس أَوْ عدم وصول أحد الحواس الخمس إلى وجود الجن لا يقوم دليلاً على عدم وجودهم لا نقلاً ولا عقلاً أما العقل فإنه يجوز وجود كائن حي غير مرئي بالعين بدون واسطة المجهر المكتشف أخيرًا فَإِنَّ المكروب كائن حي خلقه الله وَهُوَ كثير فِي طبقات الجو ولا يمكن رؤيته بالعين.

ومن لم يقر ويعتقَدْ مَا غاب عَنْ سمعه ولمسه لزمه إنكار الروح والآلام والعقل والجوع والظماء لأنها لَيْسَتْ مرئية ولا مسموعة ولا ملموسة ولا مذوقة وأما النقل فكثير فمن الأدلة قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، وَقَالَ الله تَعَالَى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه أن الجن استمعوا لقراءة الْقُرْآن فآمنوا به وصدقوا لما قَالَ وتلا وانقادوا لَهُ كما فِي قوله تَعَالَى:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} الآيات.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} .

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} . وَهَذَا من حكمة الله ولطفه بعباده البشر فلو كشف لَنَا عَنْ حقيقتهم وسلط نظرنا المحدود على ذواتهم لما أمكن وَاللهُ أَعْلَمُ أن يعيش الإِنْسَان معهم وَقَالَ تَعَالَى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانٌ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} .

وَقَالَ: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} . وَقَالَ فِي من سخر لسُلَيْمَانٌ: {وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} الآيات، وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ

ص: 155

الْمَسِّ} . قَالَ ابن عَبَّاس: «آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا يخنق» . رَوَاهُ ابْن أَبِي حَاتِم، قَالَ: وروي عَنْ عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أَنَس وقتادة ومقاتل بن حيان نَحْوَ ذَلِكَ إلى غير ذَلِكَ من الآيات.

اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، وَوَفِّقْنَا لقول الْحَقّ واتباعه وخلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتداعه، وكن لَنَا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا واجعل لَنَا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا عِلْمًا نافعًا وعملاً متقبلاً وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفاءً من كل داء. واغفر لنا ولوالديْنا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آل وصحبه أجمعين.

" فَصْلٌ "

أما السنة فورد عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إن عفريتًا من الجن تفلت عليَّ البارحة ليقطع علي الصَّلاة فأمكنني الله منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حَتَّى تصبحوا وتنظروا إليه فذكرت قول أخي سُلَيْمَانٌ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} » .

ورد أن صفية زوج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم جاءت تزوره وَهُوَ معتكف فقام معها مودعًا حَتَّى بلغت باب المسجد فرآه رجلان من الأنصار فسلما عَلَيْهِ فَقَالَ: على رسلكما إِنَّمَا هِيَ صفية بنت حيي» . فقالا: سبحان الله يَا رَسُول اللهِ وكبر عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يبلغ من الإِنْسَان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف فِي قلوبكما شَيئًا» .

ص: 156

وَهَذَا صريح واضح فِي أن الشيطان يخترق الجسم البشري ويسري فيه كما يسري الدم ومَعَ خفائه فقَدْ التزم الشيطان لعنه الله فِي عداوته سبعة أمور: أربعة فِي قوله تَعَالَى: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} وثلاثة مَنْهَا فِي قوله تَعَالَى:

{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} .

وَهَذَا الإلتزام يبين أَنَّهُ عدو متظاهر بالعداوة ولِذَلِكَ فصل الله عداوته باشتمالها على ثلاثة أشياء: (السُّوء) وَهُوَ متنازل جميع المعاصي من الْقَلْب والْجَوَارِح، (والفحشاء) وهي مَا عظم جرمه وذنبه كالكبائر التي بلغت الغاية فِي الفحش وَذَلِكَ كالزنا واللواط. والقول على الله بلا علم فِي أسمائه وصفاته وشرعه.

وروى مُسْلِم أن فتى من الأنصار قتل حية فِي بيته فمَاتَ فِي الحال فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:" إن فِي الْمَدِينَة جنًا قَدْ أسلموا فَإِذَا رأيتم مِنْهُمْ شَيْئًا فآذنوه ثلاثة أيام فَإِنَّ بدا لكم بعد ذَلِكَ فاقتلوه فإنما هُوَ شيطان» .

وهكَذَا تكررت الروايات الصحيحة أن الجن كَانُوا بالْمَدِينَة وَقَدْ أسلم بَعْضهُمْ وروى مُسْلِم فِي صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رضي اله عَنْهُ أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا من مولود يولد إِلا نخسه الشيطان إِلا ابن مريم وأمه» .

وروى مُسْلِم قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «مَا منكم من أحد إِلا وكل الله به قرينه من الجن "، فرأى الصحابة أن قوله صلى الله عليه وسلم عام فَقَالُوا يَا رَسُول اللهِ وَإِيَّاكَ، أي حَتَّى أَنْتَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «وإياي لكن الله قَدْ أعانني عَلَيْهِ فأسلم فلا يأمرني إِلا بالْخَيْر» .

وروى الْبُخَارِيّ فِي صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ قَالَ: وكلني رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم -

ص: 157

بحفظ زكاة رمضان فأتاني أت فجعل يحثو من الطعام فأخفته وقُلْتُ: لأرفعَنْكَ إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: دعني فإني محتاج ولي عيال وبي حَاجَة شديدة.

قَالَ: فخليت عَنْهُ. فأصبحت فَقَالَ رَسُول اللهِ: «يَا أَبَا هريرة مَا فَعَلَ أسيرك البارحة» ؟ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُول اللهِ شكا حَاجَة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قَالَ:«أما أَنَّهُ كذبك وسيعود» . فرصدته فَجَاءَ يحثو من الطعام فعل ذَلِكَ ثلاث ليال كُلّ ذَلِكَ والرَّسُول صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" أما أَنَّهُ قَدْ كذبك وسيعود» .

فَلَمَّا كَانَ فِي الثالثة قُلْتُ: لأرفعَنْكَ إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا آخر ثلاث مرات تزعم إِنَّكَ لا تعود، فَقَالَ: دعني أُعْلَمُك كلمَاتٍ ينفعك الله بها. فَقُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حَتَّى ختم الآيَة فإنه لن يزال عَلَيْكَ من الله حافظ ولا يقربك شيطان حَتَّى تصبح. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أما أَنَّهُ صدقك وَهُوَ كذوب. تعلم من تخاطب مُنْذُ ثلاث ليال يَا أَبَا هريرة» . قُلْتُ: لا. قَالَ: «ذَلِكَ شيطان» .

عن أبي السائب أَنَّهُ دخل على أبي سعيد الخدري فِي بيته قَالَ: فوجدته يصلي فجلست أتنظره حَتَّى يقضي صلاته فسمعت تحريكًا فِي عراجين فِي ناحية البيت فالتفت فَإِذَا حية فوثَبِّتُ لأقتلها فأشار إليَّ أن أجلس فجلست فَلَمَّا انصرف أشار إلى بيت فِي الدار فَقَالَ: أتَرَى هَذَا البيت؟ فَقُلْتُ: نعم. فَقَالَ: كَانَ فيه فتى منَّا حديث عهد بعرس قَالَ: فخرجنا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فكَانَ ذَلِكَ الفتى يستأذن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بأنصاف النَّهَارَ فيرجع إلى أهله.

فاستأذنه يَوْمًا فَقَالَ لَهُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خذ عَلَيْكَ سلاحك؛ فإٍني أخشى عَلَيْكَ قريظة» . فأخذ الرجل سلاحه ثُمَّ رجع فَإِذَا امرأته بين البابين قَائِمَة فأهوى

ص: 158

إليها بالرمح ليطعَنْهَا به فأصابته، فقَالَتْ: اكفف عَلَيْكَ رمحك وادخل البيت حَتَّى تنظر مَا الَّذِي أخرجني فَإِذَا بحية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ثُمَّ خَرَجَ فركزه فِي الدار فاضطربت عَلَيْهِ فما يدري أيهما كَانَ أسرع موتًا الحية أم الفتى قَالَ: فجئنا إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذَلِكَ لَهُ وقلنا: ادع الله يحييه لَنَا فَقَالَ: «استغفروا لصاحبكم» .

ثُمَّ قَالَ: «إن بالْمَدِينَة جنًا قَدْ أسلموا فَإِذَا رأيتم مِنْهُمْ شَيْئًا فآذنوه ثلاثة أيام فَإِنَّ بدا لكم بعد ذَلِكَ فاقتلوه فإنما هُوَ شيطان» . وفي رواية عَنْهُ فَقَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن لهذه البيوت عوامر فَإِذَا رأيتم شَيْئًا مَنْهَا فحرجوا عَلَيْهَا ثلاثة فَإِنَّ ذهب وإِلا فاقتلوه فإنه كافر» . وَقَالَ لَهُمْ: «اذهبوا فادفنوا صاحبكم» .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم:" إِذَا نودي بالصَّلاة أدبر الشيطان وله ضراط حَتَّى لا يسمَعَ التأذين فَإِذَا قضي النداء أقبل حَتَّى إِذَا وثب بالصَّلاة أدبر حَتَّى إِذَا قضي التثويب أقبل حَتَّى يخطر بين المرء ونفسه يَقُولُ: اذكر كَذَا واذكر كَذَا - لما لم يذكر من قبل - حَتَّى يظلّ الرجل مَا يدري كم صلى» . متفق عَلَيْهِ. (التثويب) : الإقامة، يخطر: يوسوس.

وعن ابن مسعود رصي الله عَنْهُ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رجل نام حَتَّى أصبح قَالَ: «يعقَدْ الشيطان على قافية رأس أحدكم إِذَا هُوَ نام ثلاث عقَدْ يضرب على كُلّ عقدة عَلَيْكَ ليل طويل فارقَدْ، فَإِنَّ استيقظ فذكر الله تَعَالَى انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كُلّهَا فأصبح نشيطًا طيب النفس وإِلا أصبح خبيث النفس كسلان» . متفق عَلَيْهِ.

اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، واجْعَلنَا من عبادك المخلصين، وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين

ص: 159

الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ "

وروى مُسْلِم عَنْ ابن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام، فإنه زَادَ إخوانكم من الجن» . وورد فِي السنة الصحيحة باللفظ الصريح: أكل الشيطان، وشربه فقَدْ ورد:«إِذَا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويأخذ بشماله» . وَهَذَا لا يحتاج إلى شرح، ولا تأويل لوضوحه.

وحديث الوادي الَّذِي نام فيه رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ زيد بن أسلم قَالَ: عرس رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلة بطَرِيق مَكَّة، ووكل بلالاً يوقظهم للصلاة، فرقَدْ بلال ورقدوا، حَتَّى استيقظوا وَقَدْ طلعت عَلَيْهمْ الشمس، فاستيقظ القوم قَدْ فزعوا، فأمرهم رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يركبوا، حَتَّى يخرجوا من ذَلِكَ الوادي. وَقَالَ:«هَذَا واد فيه الشيطان» . فركبوا حَتَّى خرجوا من ذَلِكَ الوادي ثُمَّ أمرهم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا، وأن يتوضأوا وأمر بلالاً أن ينادي بالصلاة وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ثم انصرف، وَقَدْ رأى من فزعهم، فَقَالَ:«أيها النَّاس إن الله قبض أرواحنا ولو شَاءَ لردها إلينا فِي حين غير هَذَا، فَإِذَا رقَدْ أحدكم عَنْ الصَّلاة أَوْ نسيها، ثُمَّ فزع إليها فليصلها كما كَانَ يصليها فِي وقتها» .

ثُمَّ التفت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى أَبِي بَكْرٍ الصديق فَقَالَ: «إن الشيطان أتى بلالاً وَهُوَ قائم يصلي فأجمعه، ثُمَّ لم يزل يهديه كما يهدى الصبي حَتَّى نام، ثُمَّ دعا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بلالاً فأخبر بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أشهد إِنَّكَ رَسُول اللهِ. رَوَاهُ مالك فِي الموطأ مرسلاً.

ص: 160

وعن ابن مسعود قَالَ: خَرَجَ رجل من الإنْس فلقيه رجل من الجن فَقَالَ: هل لَكَ أن تصارعني، فَإِنَّ صرعتني علمتك آية إِذَا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان، فصارعه فصرعه، فَقَالَ: إني أراك ضئيلاً، كَانَ ذراعيك ذرعا كلب، أهكَذَا أنتم أيها الجن، أم أَنْتَ من بينهم. قَالَ: إني فيهم لضليع فعاودني. فعاوده فصرعه الإنسي قَالَ: تقرأ آية الكرسي، فإنه لا يقرؤها أحد إِذَا دخل بيته إِلا خَرَجَ الشيطان وله خجيج كخجيج الحمار. فَقِيلَ لابن مسعود: أهو عُمَر؟ قَالَ: من عَسَى أن يكون إِلا عُمَر رضي الله عنه.

ومن ذَلِكَ مَا فِي مجيئ الشيطان فِي صورة شيخ نجدي فِي دار الندوة.

ومن قصتها أنه اجتمع قريش للتشاور فِي أمر رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ أَهْل العلم بالأخبار هاجر أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مثل عُمَر بن الخطاب، وابنه وأخيه زيد بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وحمزة بن عبد المطلب، عم رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة وغيرهم.

وأقام رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بعد أصحابه ينتظر الأذن فِي الهجرة، ولم يتخلف معه بمَكَّة أحد من المهاجرين، إِلا من حبس، أَوْ فتن، إِلا أَبُو بَكْرٍ الصديق، وعلي بن أبي طالب وكَانَ أَبُو بَكْرٍ كثيرًا مَا يستأذن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فيَقُولُ لَهُ: لا تعجل لعل الله أن يجعل لَكَ صاحبًا، فيطمَعَ أَبُو بَكْرٍ أن يكون هُوَ.

ولما رأت قريش أن لرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم شيعة، وأصحابًا من غير بلدهم، ورأوا خروج المهاجرين إليهم، حذروا خروج رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وعلِموا أَنَّهُ قَدْ اجمَعَ لحربهم فاجتمعوا فِي دار الندوة، وهي دار قصي بن كلاب، وكَانَتْ قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها يتشاورون فيما يصنعون برَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حين خافوه.

قَالَ ابن عَبَّاس: لما خرجوا فِي الْيَوْم الَّذِي اتعدوا لَهُ، كَانَ ذَلِكَ الْيَوْم

ص: 161

يسمى يوم الرحمة، فاعترض إبلَيْسَ فِي هيئة شيخ جليل، عَلَيْهِ بتلة أي كساء غليظ، فوقف على باب الدار، فَلَمَّا رأوه قَالُوا: من الشَّيْخ؟ قَالَ: شيخ من أَهْل نجد، سمَعَ بالَّذِي اتعدتم لَهُ، فَجَاءَ ليسمَعَ مَا تقولون، وعَسَى أن لا يعدكم منه رأيًا ونصحًا. قَالُوا: فأدخل.

وقَدْ اجتمَعَ أشراف قريش، فَقَالَ بَعْضهُمْ لبعض: إنْ هَذَا الرجل قَدْ كَانَ من أمره مَا قَدْ رأيتم، وإنَا وَاللهِ مَا نأمنه عَنْ الوثوب عَلَيْنَا، فأجمعوا فيه رأيًا، فَقَالَ قائل: احبسوه فِي الحديد وأغلقوا عَلَيْهِ بابًا، ثُمَّ تربصوا به مَا أصاب أمثاله من الشعراء من الموت. فَقَالَ الشَّيْخ النجدي: لا وَاللهِ مَا هَذَا لكم برأي، وَاللهِ لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره إلى أصحابه فيثبوا عليكم فينزعوه منكم، مَا هَذَا لكم برأي فانظروا فِي غيره.

فتشاوروا، ثُمَّ قَالَ قائل مِنْهُمْ: نخرجه عَنْ بلادنا، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ فوَاللهِ لا نبالي أين ذهب. فَقَالَ الشَّيْخ النجدي: لا وَاللهِ مَا هَذَا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قُلُوب الرِّجَال بما يأتي به، وَاللهِ مَا هُوَ رأي.

فَقَالَ: أَبُو جهل: وَاللهِ لي رأيًا. قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الحكم؟ قَالَ: أرى أن نأخذ من كُلّ قبيلة شابًا، ثُمَّ نعطي كُلّ فتى سيفًا، ثُمَّ يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه فتستريحوا منه فَإِنَّهُمْ إِذَا فعلوا ذَلِكَ تفرق دمه فِي القبائل جميعًا، فَلَمْ يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرضوا بالعقل فعقلنا لَهُمْ.

فَقَالَ الشَّيْخ النجدي: هَذَا هُوَ الرأي الَّذِي لا أرى غيره. فتفرق القوم على ذَلِكَ، فأتى جبريل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: لا تبيت اللَّيْلَة على فراشك، فَلَمَّا كَانَ عتمة من الليل، اجتمعوا على بابه يرقبونه حَتَّى ينام فيثبون عَلَيْهِ.

ص: 162

فَلَمَّا رأى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مكانهم قَالَ لعلي بن أبي طالب نم على فراشي وتسج بردائي الأخضر، فإنه لن يخلص إليك شَيْء تكرهه مِنْهُمْ، فَلَمَّا اجتمعوا على بابه قَالَ أَبُو جهل: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتوه على أمره كنتم ملوك الْعَرَب، والعجم ثُمَّ بعثتم من بعد موتكم وجعلت لكم جنات كجنات الأردن، وإن لم تفعلوا كَانَ فيكم ذبح، ثُمَّ بعثتم من بعد موتكم، ثُمَّ جعلت لكم نار تحرقون فيها.

قَالَ: وخَرَجَ عَلَيْهمْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب ثُمَّ قَالَ: «نعم أَنَا أَقُول ذَلِكَ أَنْتَ أحدهم» . فأخذهم الله على أبصارهم عَنْهُ فلا يرونه وجعل ينثر ذَلِكَ التُّرَاب على رؤوسهم، وَهُوَ يتلوا عَلَيْهمْ {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} إلى قوله:{فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} ، ولم يبق مِنْهُمْ رجلاً إِلا وَقَدْ وضع على رأسه ترابًا، ثم انصرف فأتاهم آتٍ فقال: ما تنتظرون ها هنا؟ قالوا: محمدًا. قال: خيبكم الله، والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً وانطلق لحاجته.

قَالَ: فوضع كُلّ واحد مِنْهُمْ يده على رأسه فَإِذَا عَلَيْهِ تراب، ثُمَّ جعلوا يتطلعون فيرون عليًا على الفراش مُسجَّى ببرد رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيقولون: وَاللهِ إن هَذَا لمُحَمَّد نائمًا فِي برده، فَلَمْ يبرحوا كَذَلِكَ حَتَّى أصبحوا.

فقام علي عَنْ الفراش فَقَالُوا: وَاللهِ لَقَدْ صدقنا الَّذِي كان حدثنا وأنزل الله فِي ذَلِكَ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} والشاهد هُوَ مجيء الشيطان ورؤيته وكلامه وَهُوَ أَبُو الجن لعنه الله.

ومن ذَلِكَ صياح إبلَيْسَ يوم أحد أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قتل، فَلَمْ يشك فِي ذَلِكَ، حَتَّى طلع رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بين السعدين، قَالَ الراوي نعرفه بكتفيه إِذَا

ص: 163

مشى قَالَ: ففرحنا حَتَّى كأنه لم يصبنا مَا أصابنا، فاؤمأ نحونا.. الحديث.

ومن ذَلِكَ مَا ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا استيقظ أحدكم من منامه فليتوضأ وليستنثر ثلاث مرات فَإِنَّ الشيطان يبيت على خياشيمه» . متفق عَلَيْهِ.

ومن ذَلِكَ مَا ورد عَنْ أبي سعيد الخدري أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قام فصلى صلاة الصبح وَهُوَ خلفه فقرأ فالتبست عَلَيْهِ القراءة فَلَمَّا فرغ من صلاته قَالَ: لو رأيتموني وإبلَيْسَ فأهويتُ بيدي فما زلت اخنقه حَتَّى وجدتُ برد لعابه بين إصبعي هاتين الإبهام والتي تليها ولولا دعوة أخي سُلَيْمَانٌ أصبح مربوطًا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان الْمَدِينَة» . وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ ": وَقَالَ شيخ الإِسْلام والجن يتصورون فِي صور الإنس، والبهائم فيتصورون فِي صور الحيات، والعقارب، وغيرها، وفي صور الإبل، والبقر والغنم، والخيل، والبغال، والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بَنِي آدم، كما أتى الشيطان قريشًا فِي صورة سراقة بن مالك بن قشم، لما أرادوا الْخُرُوج إلى بدر، قَالَ تَعَالَى:{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} إلى قوله: {وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .

وذكر ابن أبي الدُّنْيَا فِي كتابه مكائد الشيطان أن رجلاً من أَهْل الشام من أمراء معاوية غضب ذات ليلة على ابنه، فأَخْرَجَهُ من منزله فخَرَجَ الغلام لا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، فَجَلَسَ وَرَاء الْبَابِ مِنْ خَارِج، فَنَامَ سَاعَة ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَبَابه يَخْمِشَهُ هِر أَسْوَدٌ بَرِّيٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْهِّرُ الَّذِي فِي مَنْزِلِهِمْ. فَقَالَ لَهُ البريء: وَيْحَكَ افْتَحْ. فَقَالَ: لا أَسْتَطِيعُ. فَقَالَ: وَيْحَكَ ائْتِنِي بِشَيْء أَتَبَلَّغُ بِهِ، فَإِنِّي جَائِعٌ وَأنَا تَعْبَانٌ، هَذَا أَوَان مَجِيء مِنَ الْكُوفَةِ وَقَدْ حَدَثَ اللَّيْلَة

ص: 164

حَدَثٌ عَظِيم قُتِلَ عَلَيٌ بِن أَبِي طَالِبٌ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْهِّرُ الأَهْلِيُ: وَاللهِ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْء هَا هُنَا، إِلا وَقَدْ ذَكَرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، غَيْر سفود كَانُوا يَشْوُونَ عَلَيْهِ اللَّحْمَ. فَقَالَ: ائْتِنِي بِهِ فَجَاءَهُ فَجَعَلَ يَلْحَسَهُ حَتَّى أَخَذَ حَاجَتَهُ وَانْصَرَفَ وَذَلِكَ بِمَرْأَى مِنَ الْغُلامِ وَسَمِعٍ، فَقَامَ إِلَى الْبَابِ فَطَرَقَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُوهُ، فَقَالَ: مَنْ؟ فَقَالَ: افْتَحْ. فَقَالَ: وَيْحَكَ مَا لَكَ؟ فَقَالَ: افْتَحْ. فَفَتَحَ فَقَصَ عَلَيْهِ خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ: وَيْحَكَ أَمَنَامٌ هَذَا؟ قَالَ: لا وَاللهِ. قَالَ: وَيْحَكَ، فَأَصَابَكَ جُنُونٌ بِعْدِي؟ قَالَ: لا وَاللهِ، وَلَكِنْ الأَمْر كَمَا وَصَفْتَ لَكَ.

فَاذْهَبْ إِلَى مُعَاوِيَة الآن فاتخذ عِنْدَهُ بِمَا قُلْتُ لَكَ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى مُعَاوِيَة فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ مَا ذَكَرَ لَهُ وَلَدُهُ، فَأَرَّخُوا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْبردِ، وَلَمَّا جَاءَتْ الْبردُ وَجَدُوا مَا أَخْبَرهمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْبردِ، ولما جاءت البرد وجدوا مَا أخبروهم بِهِ مُطَابِقًا لِمَا كَانَ خَبَّرَ بِهِ الْغُلامُ.

وَرُوِيَ أَنَّ سَعَدَ بْن عُبَادَة بَالَ بِجحر بِالشَّامِ ثُمَّ اسْتَلْقَى مَيِّتًا فَسُمِعَ مَنْ بِئْرٍ بِالْمَدِينَةِ قَائِلاً يَقُولُ: نَحْنُ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْرَجَ سَعْد بْن عُبَادَة، رَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ فَلَمْ نُخْطِي فُؤَادَهُ، فَحَفِظُوا ذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ سَعْدُ فَوَجَدُوهُ الْيَوْم الَّذِي سُمِعَ فِيهِ الْخَبَرَ. وَاللهُ اعْلَمْ.

اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لتدبر كتابك وإطالة التأمل فيه وجمَعَ الفكر على معاني آياته.

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قواعد الإِيمَان فِي قلوبنا وشيد فيها بنيانه ووطد فيها أركانهوألهمنا ذكرك وشكرك وآتنا فِي الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة، اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتيين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 165

" فَصْلٌ "

وَقَالَ شيخ الإِسْلام ابن تيمية رحمه الله: ولا ريب أن الأوثان يحصل عندها من الشياطين، وخطابهم، وتصرفهم مَا هُوَ من أسباب ضلال بَنِي آدم، وجعل القبور أوثانًا، هُوَ أول الشرك، ولهَذَا يحصل عِنْدَ القبور لبعض النَّاس من خطاب يسمعه، وشخص يراه، وتصرف عجيب، مَا يظن أَنَّهُ من الميت.

وقَدْ يكون من الجن والشياطين، مثل أن يرى القبر قَدْ انشق، وخَرَجَ منه الميت، وكلمه وعانقه وَهَذَا يرى عِنْدَ قبور الأَنْبِيَاء وغيرهم، وإنما هُوَ شيطان فَإِنَّ الشيطان يتصور بصور الإنس، ويدعي أحدهم أَنَّهُ النَّبِيّ فلان أَوْ الشَّيْخ فلان وَيَكُونُ كّاذِبًا فِي ذَلِكَ.

وفي هَذَا الْبَاب من الوقائع مَا يضيق هَذَا الموضع عَنْ ذكره وهي كثيرة جدًا، والجاهل يظن أن ذَلِكَ الَّذِي رآه قَدْ خَرَجَ من القبر وعانقه أَوْ كلمه هُوَ المقبور أَوْ النَّبِيّ، أَوْ الصالح، أَوْ غيرهما، والمُؤْمِن العَظِيم يعلم أَنَّهُ شيطان، ويتبين ذَلِكَ بأمور:

أحدهما أن يقرأ آية الكرسي بصدق، فَإِذَا قرأها تغيب ذَلِكَ الشخص، أَوْ ساخ فِي الأَرْض، أَوْ احتجب، ولو كَانَ رجلاً صالحًا أَوْ ملكًا أَوْ جنيًا مؤمنًا لم تضره آية الكرسي، وإنما تضر الشيطان كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة: اقرأ آية الكرسى إذا أويت فراشك، فإنه لا يزال عَلَيْكَ من الله حافظ ولا يقربك شيطان حَتَّى تصبح، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:«صدقك وَهُوَ كذوب» .

وَمِنْهَا أن يستعيذ بِاللهِ من الشياطين.

وَمِنْهَا أن يستعيذ بالعوذة الشرعية، فَإِنَّ الشياطين كَانَتْ تعرض للأنبياء فِي حياتهم وتريد أن تؤذيهم، وتفسد عبادتهم كما جاءت الجن إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بشعلة من نار تريد أن تحرقه، فأتاه جبريل بالعوذة المعروفة، التي تضمنها

ص: 166

الْحَدِيث المروي عَنْ أبي التياح أَنَّهُ قَالَ: سأل رجل عَبْد الرَّحْمَنِ بن حبيش، وكَانَ شيخًا كبيرًا قَدْ أدرك النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: كيف صنع رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حين كادته الشياطين؟ قَالَ: تحدرت عَلَيْهِ من الشعاب، والأودية، وفيهم شيطان معه شعلة من نار، يريد أن يحرق بها رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ: فرعب رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل عليه السلام، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد قل مَا أَقُول، قَالَ: قل: أعوذ بكلمَاتَ الله التامَاتَ، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر مَا خلق، وذرأ وبرأ ومن شر مَا ينزل من السماء، ومن شر مَا يعرج فيها، ومن شرما يخَرَجَ من الأَرْض، ومن شر مَا ينزل فيها، ومن شر فتن الليل والنَّهَارَ، ومن شر كُلّ طارق يطرق إِلا طارقًا يطرق بخَيْر يَا رحمن.

قَالَ: فطفئت نارهم، وهزمهم الله عز وجل. وفي صحيح مُسْلِم عَنْ أبي الدرداء أَنَّهُ قَالَ: قام رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يصلي، فسمعناه يَقُولُ:«أعوذ بِاللهِ منك» . ثُمَّ قَالَ: أعلنك بلعنة الله ثلاثًا، وبسط يده يتناول شَيْئًا، فَلَمَّا فرغ من صلاته، قلنا: يَا رَسُول اللهِ سمعناك تَقُول شَيْئًا فِي الصَّلاة لم نسمعك تَقُول قبل ذَلِكَ، ورأيناك بسطت يدك.

قَالَ: إن عدو الله إبلَيْسَ جَاءَ بشهاب من نار، ليجعله فِي وجهي، فَقُلْتُ: أعوذ بِاللهِ منك ثلاث مرات، ثُمَّ قُلْتُ: ألعَنْكَ بلعنة الله التامة فاستأخر، ثُمَّ أردت أن آخذه، ولولا دعوة أخينا سُلَيْمَانٌ لأصبح موثقًا يلعب به ولدان الْمَدِينَة.

وكثيرًا من العباد يرى الكعبة تطوف به ويرى عرشًا عظيمًا، وعَلَيْهِ صورة عظيمة، ويرى أشخاصًا تصعد، وتنزل فيظنها الْمَلائِكَة ويظن أن تلك الصورة هِيَ الله، تَعَالَى وتقدس، وَيَكُون ذَلِكَ شيطانًا.

وقَدْ جرت هَذِهِ الْقِصَّة لغير واحد من النَّاس، فمِنْهُمْ من عصمه الله

ص: 167

وعرف أَنَّهُ الشيطان، كالشَّيْخ عبد القادر فِي حكايته المشهورة، حيث قَالَ: كنت مرة فِي العبادة فرَأَيْت عرشًا عظيمًا، وعَلَيْهِ نور، فَقَالَ لي: يَا عبد القادر، أَنَا ربك، وَقَدْ حللت لَكَ مَا حرمت على غيرك. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ الله لا إله إِلا هُوَ، أخسأ يَا عدو الله. قَالَ: فتمزق ذَلِكَ النور، وصار ظلمة، وَقَالَ: يَا عبد القادر نجوت مني بفقهك فِي دينك، وعلمك ومنازلتك، فِي أحوالك، لَقَدْ فتنت بهذه الْقِصَّة سبعين رجلاً.

فَقِيلَ لَهُ: كيف علمت أَنَّهُ الشيطان، قَالَ: بقوله: لي حللت لَكَ مَا حرمت على غيرك، وَقَدْ علمت أن شريعة مُحَمَّد لا تنسخ ولا تبدل، ولأَنَّهُ قَالَ: أَنَا ربك، ولم يقدر أن يَقُولُ أنا الله الَّذِي لا إله إِلا أَنَا. ومن هؤلاء من اعتقَدْ أن المرئي هُوَ الله وصار هُوَ وأصحابه يعتقدون انهم يرون الله تَعَالَى، وفي اليقظة، ومستندهم مَا شاهدوه، وهم صادقون فيما يخبرون به، ولكن لم يعلموا أن ذَلِكَ هُوَ الشيطان.

وَهَذَا قَدْ وقع كثيرًا لطوائف من جهال العباد يظن أحدهم أَنَّهُ يرى الله تَعَالَى بعينه فِي الدُّنْيَا لأن كثيرًا مِنْهُمْ رأى مَا ظن أَنَّهُ الله وإنما هُوَ شيطان.

وكثير مِنْهُمْ من رأى من ظن أَنَّهُ نبي أَوْ رجل صالح أَوْ الخضر وكَانَ شيطانًا قَالَ: وَمِنْهُمْ من يظن أَنَّهُ ملك والملك يتميز عَنْ الجني بأمور كثيرة والجن فيهم الكفار والفساق والجهال وفيهم المؤمنون المتبعون لمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فكثيرًا ممن لم يعرف أن هؤلاء جن وشياطين يعتقدهم ملائكة وإنما هم من الجن والشياطين.

قَالَ: والشياطين يوالون من يفعل مَا يحبونه من الشرك والفسوق والعصيان فتَارَّة يخبرونه ببعض الأمور الغائبة، ليكاشف بها، وتَارَّة يؤذون من يريد أذاه، بقتل، أَوْ تمريض، ونحو ذَلِكَ.

وتَارَّة يجلبون لَهُ مَا يريد، من الإنس وتَارَّة يسرقون لَهُ مَا يسرقونه من

ص: 168

أموال النَّاس من نقَدْ وطعام، وثياب وغير ذَلِكَ، فيعتقَدْ أَنَّهُ من كرامَاتَ الأَوْلِيَاء، وإنما يكون مسروقًا.

وتَارَّة يحملونه فِي الهواء فيذهبون به إلى مكَانَ بعيد، فمِنْهُمْ من يذهبون به إلى مَكَّة عشية عرفة، ويعودون به فيعتقَدْ هَذَا كرامة، مَعَ أَنَّهُ لم يحج حج الْمُسْلِمِين لا أحرم ولا لبى ولا طاف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ومَعَ أن هَذَا من أعظم الضلال. انتهى باختصار.

اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، واجْعَلنَا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" موعظة "

" فِي التَّحْذِيْر عَنْ الانْهِمَاكِ فِي الدُّنْيَا وَلَذَاتِهَا وَشَهَواتِهَا "

عباد الله إن من نظر إلى الدُّنْيَا بعين البصيرة أيقن أن نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء وعيشها نكد، وصفوها كدر وأهلها مَنْهَا على وجل إما بنعمة زائلة، أَوْ بلية نازلة أَوْ مَنيَّة قاضية.

مسكين من اطمأن ورضي بدار حلالها حساب، وحرامها عقاب، إن أخذه من حلال حوسب عَلَيْهِ، وإن أخذه من حرام عذب به، من استغنى فِي الدُّنْيَا فتن، ومن افتقر فيها حزن، من أحبها أذلته، ومن التفت إليها ونظرها أعمته.

شِعْرًا: (لَوْ كُنْتُ رَائِدَ قَوْمٍ ظَاعِنِينَ إلى

دُنْيَاكَ هَذِي لَمَا أُلْفِيتَ كَذَّابَا)

(لَقُلْتُ تِلْكَ بَلاءٌ نَبْتُهَا سَقَمٌ

وَمَاؤُهَا الْعَذْبُ سُمٌ لِلْفَتَى ذَابَا)

ص: 169

وَكَمْ كشف للسامعين عَنْ حَقِيقَة الدُّنْيَا وبين لَهُمْ قصر مدتها وانقضاء لذتها بما يضرب من الأمثال الحسية، قَالَ تَعَالَى:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} . قَالَ بَعْضُهُمْ:

مَيَّزْتَ بَيْنَ جَمَالِهَا وَفِعَالِهَا

فَإِذَا الْمَلاحَةُ بِالْقَبَاحَةِ لا تَفِي

حَلَفَتْ لَنَا أن لا تَخُونَ عُهُودَنَا

فَكَأَنَّهَا لَنَا أَنْ لا تَفِي

آخر:

أَلا إِنَّمَا الدُّنْيَا غَضَارَةٌ أَيْكَةٍ

إِذَا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانِبُ

هِيَ الدَّارُ مَا الآمَالُ إِلا فَجَائِعًا

عَلَيْهَا وَمَا اللَّذَاتُ إِلا مَصَائِبُ

فَكَمْ سَخِنَتْ بِالأَمْسِ عَيْنٌ قَرِيرَةٌ

وَقَرَّتْ عُيُونٌ دَمْعُهَا الآنَ سَاكِبُ

فَلا تَكْتَحِلْ عَيْنَاكَ مِنْهَا بِعبرةٍ

عَلَى ذَاهِب مِنْهَا فَإِنَّكَ ذَاهِبُ

آخر:

لِلْمَوْتِ فِينَا سِهَامٌ غَيْرُ مُخْطِئَةً

مَنْ فَاتَهُ الْيَوْمَ سَهْمٌ لَمْ يَفُتْهُ غَدَا

مَا ضَرَّ مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا وَغَدرَتَها

أَنْ لا يُنَافِسَ فِيهَا أَهْلَهَا أَبَدَا

آخر:

لَحَى الله ذِي الدُّنْيَا مَرَادًا وَمَنْزِلاً

فَمَا أَغْدَرَ الْمَثْوَى وَمَا أَوْبَأ الْمَرْعَى

تَدَلَّلُ كَالْحَسْنَاءِ فِي حُسْنِ وَجْهِهَا

وَلَكِنَّهَا فِي قُبْح أَفْعَالِهَا أَفْعَى

نَرَى أَنَّنَا نَسْعَى لِخَيْرٍ نَنَالُهُ

وَقَدْ وَطِئَتْ أَقْدَامُنَا حَيَّةً تَسْعَى

" فَصْلٌ "

شرح لَنَا العليم الحكيم فِي هَذِهِ الآيَة المتقدمة حال الدُّنْيَا التي إفتتن النَّاس بها الَّذِينَ قصر نظرهم وبين أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلا عَنْ الافتنان بها والانهماك فِي طلبها وقتل الوَقْت فِي تحصيلها بأنها لعب لا ثمرة فيه سِوَى التعب، ولهو تشغل صاحبها وتلهيه عما ينفعه فِي آخرته،

ص: 170

وزينة لا تفيد المفتون بها شرفًا ذاتيًا كالملابس الجميلة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة الواسعة، وتفاخر بالأنساب والعظام البالية ومباهات بكثرة الأموال والأولاد وعظم الجاه.

ثُمَّ أشار جل شأنه إلى أنها مَعَ ذَلِكَ سريعة الزَوَال، قريبة الاضمحلال، كمثل غيث راق الزراع نباته الناشئ به، ثُمَّ يهيج ويتحرك وينمو إلى أقصى مَا قدره الله لَهُ فسرعان مَا تراه مصفرًا متغيرًا ذابلاً بعدما رأيته أخضر ناضرًا، ثُمَّ يصير من اليبس هَشِيمًا متكسرًا، ففيه تشبيه جميع مَا فِي الدُّنْيَا من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى ويضمحل ويتلاشى فِي أقل من سنة.

إشارة إلى سرعة زوالها وقرب فنائها، وبعد مَا بين جَلَّ وَعَلا حقارة الدُّنْيَا وسرعة زوالها تزهيدًا فيها، وتنفيرًا وتحذيرًا من الانهماك فِي طلبها أشار إلى فخامة شأن الآخِرَة وفظاعة مَا فيها من الآلام وعظم مَا فيها من اللذات ترهيبًا من عذابها الأَلِيمِ، وترغيبًا فِي تحصيل النَّعِيم الْمُقِيم والعيش السَّلِيم مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وَالنَّاسُ فِيهَا قسمان فطناء قَدْ وفقهم الله فعلموا أنها ظِلّ زائل ونعيم حائل وأضغاث أحلام، بل فهموا أنها نعم فِي طيها نقم، وعرفوا أنها حياة فانية، وأنها معبر وطَرِيق إلى الحياة الباقية، فرضوا مَنْهَا باليسير، وقنعوا مَنْهَا بالقليل، فاستراحت قُلُوبهمْ من همها وأحزانها واستراحت أبدانهم من نصبها، وعنائها، وسلم لَهُمْ دينهم، وكَانُوا عِنْدَ الله هم المحمودين، فَلَمْ تشغلهم دنياهم عَنْ طاعة مولاهم.

جعلوا النفس الأخَيْر وَمَا وراءه نصب أعينهم، وتدبروا ماذا يكون مصيرهم، وفكروا كيف يخرجون من الدُّنْيَا، وإيمانهم سالم لَهُمْ وَمَا الَّذِي يبقى معهم مَنْهَا فِي قبورهم، وَمَا الَّذِي يتركونه لأعدائهم فِي الدُّنْيَا، ومن لا يغنيهم من الله شَيْئًا {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} ، {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً} ،

ص: 171

{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} ويبقى عَلَيْهمْ وبال مَا جمعوا وَمَا عمروا فِي غير طاعة الله. أدركوا كُلّ هَذَا فتأهبوا للسفر الطويل وأّعدوا الجواب للحساب، وقدموا الزَّاد للمعاد وخَيْر الزَّاد التَّقْوَى، فطُوبَى لَهُمْ خافوا فآمنوا وأحسنوا ففازوا وأفلحوا. وَقَالَ بعض الْعُلَمَاء يذم الدُّنْيَا ويحذر عَنْهَا.

شِعْرًا:

وَلَمْ يَطْلُبْ عُلُوَّ الْقَدْرِ فِيهَا

وَعِزَّ النَّفْسِ إِلا كُلُّ طَاغِ

وَإِنْ نَالَ النُّفُوسَ مِن الْمَعَالِي

فَلَيْسَ لَنَيْلِهَا طَيْبُ الْمَسَاغِ

إِذَا بَلَغَ الْمُرَادَ عُلاً وَعِزًّا

تَوَلَّى وَاضْمَحَلَّ مَعَ الْبَلاغِ

كَقَصْرٍ قَدْ تَهَدَّمَ حَافَتَاهُ

إِذَا صَارَ الْبِنَاءُ إِلى الْفَرَاغِ

أَقُولُ وَقَدْ رَأَيْتُ مُلُوكَ عَصْرِي

أَلا لا يَبْغِيَنَّ الْمُلْكَ بَاغِ

آخر:

هِيَ الدُّنْيَا تَقُولُ بِمِلءِ فِيهَا

حَذَارِ حَذَارِ مِنْ بَطْشِي وَفَتْكِي

فَلا يَغْرُرْكُمُوا مِنِّي ابْتِسَامٌ

فَقَوْلِي مُضْحِكٌ وَالْفِعْلُ مُبْكِي

آخر:

أفّ مِن الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا

كَأَنَّهَا لِلْحُزْنِ مَخْلُوقَةْ

هُمُومُهَا مَا تَنْقَضِي سَاعَةً

عَنْ مَلِكٍ فِيهَا وَلا سُوقَةْ

آخر:

زَهِدْتُ فِي الْخَلْقِ طُرًا بَعْدَ تَجْرِبةً

وَمَا عَليَّ بِزُهْدِي فِيهِمُ دَرَكُ

إِنِّي لا عَجْبُ مِنْ قَوْمٍ يَقُودُهُمُوا

حِرْصٌ إلى بُرَّةٍ مُلْكًا لِمَنْ مَلَكُوا

أَوْ أَنْ يَذِلُّوا لِمَخْلُوقٍ عَلَى طَمَعٍ

وَفِي خَزَائن رَبِّ الْعِزَّةِ إِشْتَرَكوا

أَمَا وَرَبك لَوْ دَانُوا بِمَعْرِفَةٍ

لَقَدْ أَصَابُوا بِهَا الْمَرْغُوبَ لَوْ سَلُكُوا

مَنْ ذَا تُمَدُّ إِلَيْهِ الْكَفُّ فِي طَلَبِ

بِمَا عَلَيْهَا وَأَنْتَ الْمَالِكُ الْمَلِكُ

آخر:

عَجِبْتُ لِمَخْلُوقٍ يُبَالِغُ فِي الثَّنَا

عَلَى بَعْضِ خَلْقِ اللهِ يَرْجُ الدَّرَاهِمَا

وَيَنْسَى الَّذِي مِنْهُ الْغِنَى وَلَهُ الثَّنَا

وَيَأْمُرُ مَنْ يُعْطِي وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَا

آخر:

إِنَّ لله عِبَادًا فُطَنَا

طَلَّقُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الْفِتَنَا

نَظَرُوا فِيهَا فَلَمَّا علمُوا

أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيّ سَكَنَا

جَعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوا

صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيهَا سُفُنَا

ص: 172

آخر:

دَعِ الْحِرْصَ عَلَى الدُّنْيَا

وَفِي الْعَيْشِ فَلا تَطْمَعْ

وَلا تَجْمَعْ مِن الْمَالِ

فَلا تَدْرِي لِمَنْ تَجْمَعْ

فَإِنَّ الرزقَ مَقْسُومٌ

وَسُوءُ الظَّنِّ لا يَنْفَعْ

فَقِيرٌ كُلُّ ذِي حِرْصٍ

غَنِيٌّ كُلُّ مَنْ يَقْنَعْ

آخر:

لا تَبْخَلَنَّ بِدُنْيَا وَهِيَ مُقْبِلَةٌ

فَلا يَضُرُّ بِهَا التَّبْذِيرُ وَالسَّرَفُ

وَإِنْ تَولَّتْ فَأَحْرَى أَنْ تَجُودَ بِهَا

فَالشُّكْرُ مِنْهَا إِذَا مَا أَدْبَرَتْ خَلَفُ

آخر:

إِذَا كُنْتَ ذَا مَالٍ وَلَمْ تَكُ ذََا نَدَى

فَأَنْتَ إِذَا وَالْمُقْتِرِينَ سَوَاءُ

آخر:

وَأَخْسَرُ النَّاسِ سَعْيًا مَنْ قَضَى عُمُرًا

فِي غَيْرِ طَاعَةِ مَنْ أَنْشَاهُ مِنْ عَدَمِ

آخر:

لا تَغْتَرِبْ عَنْ وَطَنٍ

تَزْدَادُ فِيهِ مِنْ تُقَى

رَبٍّ جَوَدٍ مَاجِدٍ

مَا لَهُ شَرِيكٌ يَا فَتَى

أَكْثرْ هُدِيتَ ذِكْرَهُ

تَنَلْ بِهِ الأَجْرَ الْجَسِيمْ

يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَا

تَحْظَى بِجَنَّاتِ النَّعِيمْ

اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الأَبْرَار وأسكنا الْجَنَّة دار الْقَرَار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ ": والقسم الثاني من النَّاس جهال عمي البصائر لم ينظروا فِي أمرها ولم يكشفوا سوء حالها ومآلها، برزت لَهُمْ بزنتها ففتنتنهم، فإليها أخلدوا، وبها رضوا، ولها اطمأنوا، حَتَّى ألهتهم عَنْ الله تَعَالَى، وشغلتهم عَنْ ذكر الله، وطاعته، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .

قَالَ تَعَالَى: {إَنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .

ص: 173

نعم إنهم نسوا الله وأهملوا حقوقه وَمَا قدروه حق قدره، ولم يراعوا لإنهماكهم فِي الدُّنْيَا وتهالكهم عَلَيْهَا مواجب أوامره ونواهيه حق رعايتها، فأنساهم أنفسهم آنساهم مصالحهم وأغفلهم عَنْ منافعها وفوائدها فصار أمرهم فرطًا فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنًا لا يمكن تداركه ولا يجبر كسره، وسيرون يوم القيامة من الأهوال مَا ينسيهم أرواحهم، وجعلهم حيارى ذاهلين يوم تذهل كُلّ مرضعة عَنْ مَا أرضعت وتضع كُلّ ذات حمل حملها وتَرَى النَّاس سكارى وَمَا هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.

وفي مثل هَذَا يَقُولُ أحد الْعُلَمَاء: اجتهادك فيما ضمن لَكَ مَعَ تقصيرك فيما طلب منك دَلِيل على انطماس بصيرتك. أقاموا الدُّنْيَا فهدمتهم، واغتروا بها من دون الله فأذلتهم، أكثروا فيها من الآمال وأحبوا طول الآجال ونسوا الموت وَمَا بعده من الشدائد فِي الدُّنْيَا والآخِرَة، قَالَ تَعَالَى:{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .

شِعْرًا:

إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ الْمَعَاصِي

وَلَمْ تَسْتَحِيي فَاصْنَعَ مَا تَشَاءُ

إِذَا مَا كُنْتَ ذَا قَلْبٍ قَنُوعٍ

فَأَنْتَ وَمَالِكَ الدُّنْيَا سَوَاءُ

وروى الترمذي مِنْ حَدِيثِ أَنَس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من كَانَتْ الآخِرَة همه جعل الله غناه فِي قَلْبهُ وجمَعَ عَلَيْهِ شمله وأتت الدُّنْيَا وهي راغمة، ومن كَانَتْ الدُّنْيَا همه جعل فقره بين عينيه وفرق عَلَيْهِ شمله ولم يأته من الدُّنْيَا إِلا مَا قدر لَهُ، فلا يمسي إِلا فقيرًا ولا يصبح إِلا فقيرًا» .

وما أقبل عبد على الله إِلا جعل الله قُلُوب الْمُؤْمِنِينَ تنقاد إليه بالود والرحمة، وكَانَ الله بكل خَيْر إليه أسرع. أ. هـ.

وَقَالَ فِي عدة الصابرين، وَقَدْ أخبر صلى الله عليه وسلم أنها لو ساوت عِنْدَ الله جناح

ص: 174

بعوضة مَا سقى كافرًا مَنْهَا شربة ماء وأنها أَهْوَن على الله من السخلة الميتة على أهلها.

آخر:

عَجَبًا لأَمْنِكَ وَالْحَيَاةُ قَصِيرَةٌ

وَبِفَقْدِ إِلْفٍ لا تَزَالُ تُرَوَّعُ

أَحْلامُ لليْلٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ

إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لا يُخْدَعُ

فَتَزَوَّدَنَّ لِيَوْمِ فَقْرِكَ دَائِبًا

أَلِغَيْر نَفْسِكَ لا أبالكَ تَجْمَعُ

وأن مثلها فِي الآخِرَة كمثل مَا يعلق بإصبع من أدخل أصبعه فِي البحر وأنها ملعونة ملعون مَا فيها إِلا ذكر الله وَمَا ولاه، وعَالِم ومتعلم وأنها سجن المُؤْمِن وجنة الكافرين.

وأمر الْعَبْد أن يكون فيها كأنه غريب أَوْ عابر سبيل ويعد نَفْسهُ من أَهْل القبور وَإِذَا أصبح فلا ينتظر المساء وَإِذَا أمسى فلا ينتظر الصباح.

ونهى عَنْ اتخاذ مَا يرغب فيها، ولعن عبد الدينار وعبد الدرهم ودعا عَلَيْهِ بالتعس والانتكاس وعدم إقالة العثرة بالانتقاش.

شِعْرًا:

خَلِيلِيَّ إِنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِنَافِعٍ

إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي طَاعَةِ اللهِ يُنْفَقُ

وَمَا خَابَ بَيْنَ الله وَالنَّاسِ عَامِلٌ

لَهُ فِي التُّقَى أَوْفَى الْمَحَامِدِ سُوقُ

وَلا ضَاقَ فَضْلُ اللهِ عَنْ مُتَعَفّفٍ

وَلَكِنَّ أَخْلاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ

وأخبر أنها خضرة حلوة أي تأخذ العيون بحظرتها والقُلُوب بحلاوتها، وأمر باتقائها والحذر مَنْهَا كما يتقى النساء ويحذر منهن وأخبر أن الحرص عَلَيْهَا، وعلى الرياسة والشرف يفسد الدين.

وأخبر أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا كراكب استظِلّ تحت شجرة فِي يوم صائف، ثُمَّ راح وتركها. وَهَذَا فِي الحَقِيقَة حال سكَانَ الدُّنْيَا كلهم، ولكن هُوَ صلى الله عليه وسلم شهد هَذِهِ الحال، وعمي عَنْهَا بنو الدُّنْيَا.

ومر بِهُمْ وهم يعالجون خصًا لهم قَدْ وهي، فَقَالَ: «مَا أرى الأَمْرَ إِلا أعجل

ص: 175

من ذَلِكَ، وأمر بستر على بابه فُنُزِعَ. وَقَالَ:«" إِنَّهُ يذكرني الدُّنْيَا» . وأعْلَمَ النَّاس أَنَّهُ لَيْسَ لأحد مِنْهُمْ حق فِي سِوَى بيت يسكنه، وثوب يواري عورته وقوت يقيم صلبه.

وأخبر أن الميت يتبعه أهله، وماله، وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله، وكَانَ يَقُولُ:«الزهد فِي الدُّنْيَا يريح الْقَلْب والبدن، والرغبة فِي الدُّنْيَا تطيل الهموم والحزن» . وكَانَ يَقُولُ: «من جعل الهموم كُلّهَا همًا واحدًا، كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم فِي أوال الدُّنْيَا لم يبال الله فِي أي أوديتها هلك» .

وأخبر أن بذل الْعَبْد مَا فضل عَنْ حاجته خَيْر لَهُ، وإمساكه شر لَهُ وأنه لا يلام على الكفاف، وأخبر أن عباد الله ليسوا بالمتنعمين فيها فَإِنَّ أمامهم دار النَّعِيم فهم لا يرضون بنعيمهم فِي الدُّنْيَا عوضًا من ذَلِكَ النَّعِيم.

" نصيحة ": إِذَا استغنى النَّاس بالدُّنْيَا، فاستغن أَنْتَ بِاللهِ، وَإِذَا فرحوا بالدُّنْيَا، فأفرح أَنْتَ بِاللهِ، وَإِذَا أُنسوا بأحبابهم فأجعل أنسك بِاللهِ، وَإِذَا تعرفوا إلى كبرائهم لينالوا بِهُمْ العزة والكرامة فتعرف أَنْتَ إِلَى اللهِ، وتودد إليه تنل بذَلِكَ غاية العز والرفعة والكرامة.

وفي حديث مناجاة مُوَسى: ولا تعجبنكما زينته ولا مَا متع به ولا تمدان إلى ذَلِكَ أعينكما، فَإِنَّهَا زهرة الدُّنْيَا، وزينة المترفين وإني لو شئت أن أزينكما من الدُّنْيَا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عَنْ مثل مَا أوتيتما فعلت.

ولكن أرغب بكما عَنْ نعيمها ذَلِكَ، وأزويه عنكما، وكَذَلِكَ أفعل بأوليائي، وقديمًا مَا أخرت لَهُمْ فِي ذَلِكَ فإني لأذودهم عَنْ نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عَنْ مراعي الهلكة وإني لأجنبهم سلوتها،

ص: 176

وعيشها كما يذود الراعي الشفيق إبله عَنْ مبارك العزة.

وما ذَلِكَ لهوانهم عليَّ، ولكن ليستكملوا مصيبهم من كرامتي سالمًا موفرًا لم تكلمه الدُّنْيَا ولم يطغه الهوى.

واعْلَمْ أَنَّهُ لم يتزين لي العباد بزينة هِيَ أبلغ من الزهد فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهَا زينة المتقين عَلَيْهمْ مَنْهَا لباس يعرفون به من السكينة، والخشوع سيماهم فِي وجوههم من أثر السجود.

أولئك أوليائي حقًا فَإِذَا لقيتهم فاخفض لَهُمْ جناحك، وذل لَهُمْ قلبك ولسانك. وَقَالَ الحواريون: يَا عيسى من أَوْلِيَاء الله الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون؟

قَالَ: الَّذِينَ نظروا إلى باطن الدُّنْيَا، حين نظر النافس إلى عاجلها فأماتوا مَنْهَا مَا يخشون أن يميتهم، وتركوا مَا علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم مَنْهَا استقلالاً، وذكرهم إياهًا فواتًا، وَمَا عارضهم من رفعتها بغير الْحَقّ وضعوه.

خلقت الدُّنْيَا عندهم فليسوا يجددونها، وخربت بينهم فليسوا يعمرونها، وماتت فِي صدورهم، فليسوا يحيونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها، فيشترون بها مَا يبقى لَهُمْ.

رفضوها فكَانُوا بها هم الفرحين، ونظروا إلى أهلها صرعى قَدْ حلت بِهُمْ المثلات، فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة.

يحبون لله، ويحبون ذكره، ويستضيئون بنوره، ويضيئون به لَهُمْ خبر عجيب وعندهم الْخَبَر العجيب، بِهُمْ قام الكتاب، وبه قاموا وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب، وبه عملوا ليسوا يرون نائلاً مَعَ مَا نالوا، ولا أمانًا دون مَا يرجون، ولا خوفًا دون مَا يحذرون.

ص: 177

وَقَالَ: يَا بَنِي إسرائيل، اجعلوا بيوتكم كمنازل الأضياف فما لكم فِي العَالِم من منزل إن أنتم إِلا عابري سبيل.

وَقَالَ: يَا معشر الحواريين أيكم يستطيع أن يبَنِي فوق موج البحر دارًا. قَالُوا: يَا روح الله من يقدر على ذَلِكَ؟ قَالَ: إِيَّاكُمْ والدُّنْيَا فلا تتخذوها قَرَارًا.

وَقَالَ: حلاوة الدُّنْيَا مرارة الآخِرَة، ومرارة الدُّنْيَا، حلاوة الآخِرَة.

وَقَالَ: يَا بَنِي إسرائيل تهاونوا بالدُّنْيَا تهن عليكم، وأهينوا الدُّنْيَا تكرم عليكم الآخِرَة، ولا تكرموا الدُّنْيَا تهن عليكم الآخِرَة، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بأَهْل للكرامة، وكل يوم تدعوا إلى الفتنة والخسارة.

قَالُوا: وَقَدْ تواتر عن السَّلَف أن حب الدُّنْيَا رأس الخطايا، وأصلها وقيل: إن عيسى بن مريم عليه السلام قَالَ: رأس الخطيئة حب الدُّنْيَا، والنساء حبالة الشيطان، والخمر جماع كُلّ شر.

شِعْرًا:

النَّارُ آخِرُ دِينَارِ نَطَقْتَ بِهِ

وَالْهَمُّ آخِرُ هَذَا الدَّرهِمُ ْالْجَارِي

وَالْمَرْءُ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ وَرِعًا

مُعَذبُ الْقَلْبِ بَيْنَ الْهَمِّ وَالنَّارِ

شِعْرًا: قَالَ الإمام الشَّافِعِي رحمه الله:

خَبَتْ نَارُ نَفْسِي بِاشْتِعَالِ مَفَارِقِي

وَأَظْلَِمَ لَيْلِي إِذَا أَضَاءَ شِهَابُهَا

أَيَا بُومَةً قَدْ عَشَّشَتْ فَوْقَ هَامَتِي

عَلَى الرَّغْمِ مِنِّي حِينَ طَارَ غُرَابُهَا

رَأَيْتِ خَرَابَ الْعُمْرِ مِنِّي فَزُرْتَنِي

وَمَأْوَاكِ مِنْ كُلِّ الدِّيَارِ خَرَابُهَا

أَأَنْعَم عَيْشًا بَعْدَ مَا حَلَّ عَارِضِي

طَلائِعُ شَيْبٍ لَيْسَ يُغْنِي خِضَابُهَا

إِذَا اصْفَرَ لَوْنُ الْمَرْءِ وَابْيَضَّ شَعْرُهُ

تَنَغَّصَ مِنْ أَيَّامِهِ مُسْتَطَابُهَا

وَعِزَةُ عُمَرِ الْمَرْءِ قَبْلَ مَشِيبِهِ

وَقَدْ فَنِيتَ نَفْسٌ تَوَلَّى شَبَابُهَا

فَدَعْ عَنْكَ سَوْآتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا

حَرَامٌ عَلَى نَفْسِ التَّقِي ارْتِكَابُهَا

وَأَدِّ زَكَاةَ الْجَاهِ وَاعْلَمْ بِأَنَّهَا

كَمِثْلِ زَكَاةِ الْمَالِ تَمَّ نِصَابُهَا

ص: 178

وَأَحْسِنْ إلى الأَحْرَارِ تَمْلِكْ رِقَابِهُمْ

فَخَيْرُ تِجَارَاتِ الرِّجَالِ اكْتِسَابُهَا

وَلا تَمْشِيَن فِي مَنكِبِ الأَرْضِ فَاخِرًا

فَعَمَّا قَلِيلٍ يَحْتَوِيكَ تُرَابُهَا

وَمَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فَإِنِّي طَعمتُهَا

وَسِيقَ إِلَيْنَا عَذْبُهَا وَعَذابُهَا

فَلَمْ أَرَهَا إِلا غُرُورًا وَبَاطِلاً

كَمَا لاحَ فِي ظَهْرِ الْفَلاةِ سَرَابُهَا

وَمَا هِيَ إِلا جِيفَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ

عَلَيْهَا كِلابٌ هَمُّهُنَّ اجْتِذَابُهَا

فَإِنْ تَجْتَنِبْهَا كُنْتَ سِلْمًا لأَهْلِهَا

وَإِنْ تَجْتَذِبْهَا نَازَعَتْكَ كِلابُهَا

إِذَا انْسَدَّ بَابٌ عَنْكَ مِنْ دُونِ حَاجَةٍ

فَدَعْهَا لأُخْرَى يَنْفَتِحْ لَكَ بَابُهَا

فَإِنَّ قُرَابَ الْبَطْنِ يَكْفِيكَ مِلْؤُهُ

وَيَكْفِيكَ سَوآت ِالأُمُورِ اجْتِنَابُهَا

فَطُوبى لِنَفْسٍ أَوْطَنَتْ قَعْرَ بَيْتِهَا

مُغْلَقَةَ الأَبْوَابِ مُرْخَىً حِجَابُهَا

فَيَا رَبِّ هَبْ لِي تَوْبَةً قَبْلَ مَهْلَكٍ

أُبَادِرُهَا مِنْ قَبْلِ إِغْلاقِ بَابِهَا

فَمَا تَخْرَبُ الدُّنْيَا بِمَوْتِ شِرَارِهَا

وَلَكِنْ بِمَوْتِ الأَكْرَمِينَ خَرَابُهَا

اللَّهُمَّ ثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وفي الآخِرَة، اللَّهُمَّ وأيدنا بنصرك وأرزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك، اللَّهُمَّ اسلك بنا مسلك الصادقين الأَبْرَار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار، وآتنا فِي الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة، وقنا عذاب النار. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

" فَصْلٌ "

وعن سفيان قَالَ: كَانَ عيسى بن مريم يَقُولُ: حب الدُّنْيَا أصل كُلّ خطيئة والْمَال فيه داء كثير، قَالُوا: وَمَا دواؤه قَالَ: لا يسلم من الفخر والخيلاء. قَالُوا: فَإِنَّ سلم؟ قَالَ: يشغله إصلاحه عَنْ ذكر الله عز وجل.

قَالُوا: وَذَلِكَ معلوم بالتجربة والمشاهدة، فإن حبها يدعوا إلى خطيئة ظاهرة وباطنة، ولا سيما خطيئة يتوقف تحصيلها عَلَيْهَا، فيسكر عاشقها حبها

ص: 179

عن علمه بتلك الخطيئة، وقبحها وعن كراهتها واجتنابها.

وحبها يوقع فِي الشبهات، ثُمَّ فِي المكروهات، ثُمَّ فِي المحرمَاتَ، وطالما أوقع فِي الكفر، بل جميع الأمم المكذوبة لأنبيائهم إِنَّمَا حملهم على كفرهم وهلاكهم حب الدُّنْيَا، فَإِنَّ الرسل لما نهوهم عَنْ الشرك والمعاصي التي كَانُوا يكتسبون بها الدُّنْيَا، حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم.

فكل خطيئة فِي العَالِم أصلها حب الدُّنْيَا، ولا تنس خطيئة الأبوين قديمًا، فإنما كَانَ سببها حب الخلود فِي الدُّنْيَا، ولا تنس ذنب إبلَيْسَ وسببه حب الرياسة، التي محبتها شر من محبة الدُّنْيَا.

وبسببها كفر فرعون وهامان وجنودهما، وأَبُو جهل وقومه، واليهود، فحب الدُّنْيَا والرياسة هُوَ الَّذِي عَمَرَ النار بأهلها.

والزهد فِي الدُّنْيَا والزهد فِي الرياسة هُوَ الَّذِي عَمَرَ الْجَنَّة بأهلها.

والسكر بحب الدُّنْيَا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير، وصَاحِب هَذَا السكر لا يفيق منه، إِلا فِي ظلمة اللحد، ولو انكشف عَنْهُ غطاؤه فِي الدُّنْيَا لعلم مَا كَانَ فيه من السكر، وأنه أشد من سكر الخمر والدُّنْيَا تسحر العقول أعظم سحر.

قَالَ الإمام أحمد: حدثنا سيار حدثنا جعفر قَالَ سمعت مالك بن دينار يَقُولُ: اتقوا السحارة، اتقوا السحارة، فَإِنَّهَا تسحر قُلُوب الْعُلَمَاء.

شِعْرًا:

أَهْلُ الْمَنَاصِبِ فِي الدُّنْيَا وَرِفْعَتِهَا

أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَرْذُولُونَ عِنْدَهُمُ

قَدْ أَنْزَلُونَ لأَنَّا غَيْرَ جِنْسِهَمُ

مَنَازِلَ الْوَحْشِ فِي الإِهْمَالِ بَيْنَهُمُ

فَمَا لَهُمْ فِي تَوَقِي ضُرِّنَا نَظَرٌ

وَمَا لَهُمْ فِي تَرَقِّي قَدْرِنَا هِمَمُ

فَلَيْتَنَا لَوْ قَدِرْنَا أَنْ نُعَرِّفَهُمْ

مِقْدَارَهُمْ عِنْدَنَا أَوْ لَوْ دَرَوْهُ هُمُوا

لَهُمْ مُريْحَانِ مِنْ جَهْلٍ وَفَرْطِ غِنَى

وَعِنْدَنَا النَّافِعَانِ الْعِلْمُ وَالْهِمَمُ

ص: 180

آخر:

رَأَيْتُ النَّاسُ قَدْ مَالُوا

إلى مَنْ عِنْدَهُ مَالُ

وَمَنْ لا عِنْدَهُ مَالُ

فَعَنْهُ النَّاسُ قَدْ مَالُوا

والله أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.

" فَصْلٌ ": وأقل مَا فِي حبها أَنَّهُ يلهي عَنْ حب الله، وذكره، ومن ألهاه ماله عَنْ ذكر الله فهو من الخاسرين، قَالُوا: وإنما كَانَ حب الدُّنْيَا رأس الخطايا ومفسدًا للدين من وجوه، أحدها أنه يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عِنْدَ الله.

ومن أكبر الذُّنُوب تعَظِيم مَا حقره الله، وثانيها: أن الله لعَنْهَا، ومقتها، وأبغضها إِلا مَا كَانَ لَهُ فيها، ومن أحب مَا لعنه الله، ومقته وأبغضه، فقَدْ تعرض للفتنة، ومقته وغضبه.

وثالثها: أَنَّهُ إِذَا أحبها صيرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه، وإلى الدار الآخِرَة، فعكس الأَمْر وقلب الحكمة فانتكس قَلْبهُ، وانعكس سيره إلى وراء.

فها هنا أمران: أحدهما جعل الوسيلة غاية، والثاني التوسل بأعمال الآخِرَة إلى الدُّنْيَا، وَهَذَا شر معكوس من كُلّ وجه، وقلب منكوس غاية الانتكاس.

وَهَذَا هُوَ الَّذِي ينطبق عَلَيْهِ حذو القذة بالقذة قوله تَعَالَى " {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَة إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .

وقوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} ، وقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ

ص: 181

الآخِرَة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَة مِن نَّصِيبٍ} .

شِعْرًا:

أَصْبَحَتِ الدُّنْيَا لَنَا عِبْرَة

فَالْحَمْدُ للهِ عَلَى ذَلِكَ

قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى ذَمِّهَا

وَمَا أَرَى مِنْهُمْ لَهَا تَارِكَا

آخر:

وَفي النَّفْسِ حَاَجاتٌ وَفي الْمَالِ الْقِلَّةٌ

وَلَنْ يَقْضِي الْحَاجَاتِ إِلا الْمُهَيْمِنُ

فهَذَا ثلاث آيات يشبه بعضها بَعْضًا وتدل على معنى واحد، وَهُوَ أن من أراد بعمله الدُّنْيَا وزينتها دون الله والدار الآخِرَة، فحظه مَا أراد، وَهُوَ نصيبه، لَيْسَ لَهُ نصيب غيره.

وَالأَحَادِيث عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مطابقة لِذَلِكَ مفسرة لَهُ، كحديث أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه فِي الثلاثة الَّذِينَ هم أول من تسعر بِهُمْ النار، الغازي والمتصدق، والقارئ الَّذِينَ أرادوا بذَلِكَ الدُّنْيَا والنصيب وَهُوَ فِي صحيح مُسْلِم.

شِعْرًا:

وَمَا تَحْسُنُ الدُّنْيَا إِذَا هِيَ لَمْ تُعِنْ

بِآخِرَةٍ حَسْنَاءَ يَبْقَى نَعِيمُهَا

آخر:

غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَت

وَيَحْصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا

إِنْ أَحْسَنُوا أَحْسَنُوا لأَنْفُسِهِمْ

وَإِنْ أَسَاءُوا فَبِئْسَ مَا صَنَعُوا

فالعاقل من استعمل الدُّنْيَا فِي طاعة الله وجعلها مطية للآخرة.

شِعْرًا:

لِمَنْ تَطْلُبِ الدُّنْيَا لَمْ تُرَدْ بِهَا

رِضَا الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ رَبِّ الْبَرِيَّةِ

وفي سنن النسائي عَنْ أبي أمامة رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رجل إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ يَا رَسُول اللهِ: رجل غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فَقَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لا شَيْء لَهُ» . فأعادها ثلاث مرات يَقُولُ لَهُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا شَيْء لَهُ» . ثُمَّ قَالَ: «إن الله تَعَالَى لا يقبل إِلا مَا كَانَ خالصًا وابتغى به وجهه» .

فهَذَا قَدْ بطل أجره وحبط عمله مَعَ أَنَّهُ قصد حصول الأجر لما ضم إليه

ص: 182

قصد الذكر بين النَّاس فَلَمْ يخلص عمله فبطل كله، قَالَ: ورابعها: أن محبتها تعترض بين الْعَبْد، وبين فعل مَا يعود عليه نفعه فِي الآخِرَة، لاشتغاله عَنْهُ بمحبوبه وَالنَّاس ها هنا مراتب.

فمِنْهُمْ من يشغله محبوبه عَنْ الإِيمَان، وشرائعه.

وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ الواجبات التي تجب عَلَيْهِ لله ولخلقه فلا يقوم بها ظاهرًا ولا باطنًا.

وَمِنْهُمْ من يشغله حبها عَنْ كثير من الواجبات.

وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ واجب يعارض تحصيلها وإن قام بغيره.

وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ القيام بالواجب فِي الوَقْت الَّذِي ينبغي على الوجه الَّذِي ينبغي فيفرط فِي وقته وفي حقوقه.

وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ عبوديته قَلْبهُ فِي الواجب، وتفريغه لله عِنْدَ أدائه، فيؤذيه ظاهرًا لا باطنًا، وأين هَذَا من عشاق الدُّنْيَا ومحبيها هَذَا من أنذرهم، وأقل درجات حبها أن يشغل عَنْ سعادة الْعَبْد وَهُوَ تفريغ الْقَلْب لحب الله، ولِسَانه لذكره وجمَعَ قَلْبهُ على لِسَانه وجمَعَ لِسَانه وقَلْبهُ على ربه، فعشقها ومحبتها تضر بالآخِرَة، ولا بد، كما أن محبة الآخِرَة تضر بالدُّنْيَا.

وخامسها: أن محبتها تجعلها أَكْثَر هم الْعَبْد.

وسادسها: أن محبتها أشد النَّاس عذابًا بها، وَهُوَ معذب فِي دوره الثلاث، يعذب فِي الدُّنْيَا بتحصيلها، وفي السعي فيها ومنازعة أهلها وفي دار البرزخ أي فِي القبر بفواتها، والحَسْرَة عَلَيْهَا، وكونه قَدْ حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبدًا ولم يحصل لَهُ هناك محبوب يعوضه عَنْهُ.

ص: 183

فهَذَا أشد النَّاس عذابًا فِي قبره، يعمل الهم، والغم، والحزن والحَسْرَة، فِي روحه مَا تعمل الديدان وهوام الأَرْض في جسمه.

وسابعها: أن عاشقها ومحبها الَّذِي يؤثرها على الآخِرَة من أسفه الخلق وأقلهم عقلاً، إذ آثر الخيال على الحَقِيقَة، والمنام على اليقظة والظِلّ الزائل على النَّعِيم الدائم والدار الفانية على الدار الباقية إن اللبيب بمثلها لا يخدع.

ثُمَّ عقَدْ فصلاً وذكر فيه أمثلة تبين حَقِيقَة الدُّنْيَا: المثال الأول: للعبد ثلاثة أحوال، حالة لم يكن فيها شَيْئًا، وهي مَا قبل أن يوَجَدَ، وحالة أخرى وهي من ساعة موته، إلى مَا لا نهاية لَهُ فِي البقاء السرمدي فلنفسه وجود بعد خروجها من البدن، إما فِي الْجَنَّة وإما فِي النار.

ثُمَّ تعاد إلى بدنه، فيجازى بعمله، ويسكن إحدى الدارين فِي خلود دائم بين هاتين الحالتين وهي مَا بعد وجوده وَمَا قبل موته حالة متوسطة، وهي لأيام حَيَاتهُ فلينظر إلى مقدار زمانها، وينسبه إلى الحالتين، يعلم أَنَّهُ أقل من طرفة عين فِي مقدار عُمَر الدُّنْيَا.

ومن رأى الدُّنْيَا بهذه العين لم يركن إليها، ولم يبال كيف تقضت أيامه فيها فِي ضر وضيق أَوْ فِي سعة ورفاهية ولهَذَا لم يضع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، وَقَالَ:«مَا لي وللدنيا، إِنَّمَا مثلي ومثل الدُّنْيَا كراكب قَالَ فِي ظِلّ شجرة، ثُمَّ راح وتركها» .

وإلى هَذَا أشار المسيح بقوله عليه السلام: الدُّنْيَا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. وَهُوَ مثل صحيح فَإِنَّ الحياة معبر إلى الآخِرَة، والمهد هُوَ الركن الأول، على أول القنطرة، واللحد هُوَ الركن الثاني على آخرها.

ومن النَّاس من قطع نصف القنطرة.

وَمِنْهُمْ من قطع ثلثيها، وَمِنْهُمْ من لم يبق لَهُ إِلا خطوة واحدة، وهو

ص: 184

غَافِل عَنْهَا وكيفما كَانَ فَلا بُدَّ مِنْ العبور، فمن وقف يبَنِي على القنطرة، ويزينها بأصناف الزينة، وَهُوَ يستحث على العبور فهو فِي غاية الجهل والحمق. المثال الثاني: شهوات الدُّنْيَا فِي الْقَلْب كشهوات الأطعمة فِي المعدة، وسوف يجد الْعَبْد عِنْدَ الموت لشهوات الدُّنْيَا فِي قَلْبهُ من الكراهة والنتن والقبح مَا يجده للأطعمة اللذيذة إِذَا انتهت فِي المعدة، غايتها، وكما أن الأطعمة كُلَّما كَانَتْ ألذ طعمًا وأكثر دسمًا وأكثر حلاوة كَانَ رجيعها أقذر، فكَذَلِكَ كُلّ شهوة كَانَتْ فِي النفس ألذ وأقوى فالتأذي بها عِنْدَ الموت أشد، كما أن تفجع الإِنْسَان بمحبوبه إِذَا فقده يقوى بقدر محبه المحبوب.

شِعْرًا:

طَالِبُ الدُّنْيَا بِحِرْصٍ وَعَجْل

إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلٍّ مُنْتَقِلْ

نَحْنُ فِيهَا مِثْلُ رَكْبٍ نَازِلٍ

لِمِقِيلٍ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلْ

شِعْرًا: قَالَ بَعْضُهُمْ يخاطب نَفْسهُ:

إلى مَ أَرَى يَا قَلْبُ مِنْكَ التَّرَاخِيَا

وَقَدْ حَلَّ وَخْطُ الشَّيْبِ بِالرَّأْسِ ثَاوِيَا

وَأَخْبَرَ عَنْ قُرْبِ الرَّحِيلِ نَصِيحَةً

فَدُونَكَ طَاعَاتٍ وَخَلِّ الْمَسَاوِيَا

وَعُضَّ عَلَى مَا فَاتَ مِنْكَ أَنَامِلاً

وَفَجِّرْ مِنَ الْعَيْنِ الدُّمُوعَ الْهَوَامِيَا

فَكَمْ مَرَّةٍ وَافَقْتَ نَفْسًا مَرِيدَةً

فَقَدْ حَمَّلَتْ شَرًّا عَلَيْكَ الرَّوَاسِيَا

وَكَمْ مَرَّةٍ أَحْدَثْتَ بِدْعًا لِشَهْوَةٍ

وَغَادَرْتَ هَدْيًا مُسْتَقِيمًا تَوَانِيَا

وَكَمْ مَرَّةٍ أَمْرَ الإِله نَبَذْتَهُ

وَطَاوَعْتَ شَيْطَانًا عَدُوًّا مُدَاجِيَا

وَكَمْ مَرَّةٍ قَدْ خُضْتَ بَحْرَ غِوَايَةٍ

وَأَسْخَطْتَ رَبًّا بِاكْتِسَابِ الْمَعَاصِيَا

وَكَمْ مَرَّةٍ بِرَّ الإِلهِ غَمَضْتَهُ

وَقَدْ صِرْتَ فِي كُفْرَانِهِ مُتَمَادِيَا

وَلا زِلْتَ بِالدُّنْيَا حَرِيصًا وَمُولَعًا

وَقَدْ كُنْتَ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ سَاهِيَا

فَمَا لَكَ فِي بَيْتِ الْبَلا إِذَ نَزَلْتَهُ

عَنْ الأَهْلِ وَالأَحْبَابِ وَالْمَالِ نَائِيًا

فَتُسْأَلَ عَنْ رَبٍّ وَدِين مُحَمَّدٍ

فَإِنْ قُلْتُ هَاهٍ فَادْرِ أَنْ كُنْتَ هَاوِيَا

وَيَأْتِيكَ مِنْ نَارِ سَمُوم أَلِيمَة

وَتُبْصُرُ فِيهَا عَقْرَبًا وَأَفَاعِيَا

ص: 185

وَيَا لَيْتَ شَعْرِي كَيْفَ حَالُكَ إِذْ نُصِبْ

صِرَاطٌ وَمِيزَانٌ يُبينُ الْمَطَاوِيَا

فَمَنْ نَاقَشَ الرَّحْمَنُ نُوقِشَ بَتّهً

وَأُلْقِيَ فِي نَارٍ وَإِنْ كَانَ وَالِيَا

هُنَالِكَ لا تَجْزِيهِ نَفْسُ عَنْ الرَّدَى

فَكُلُّ امْرِئٍ فِي غَمِّهِ كَانَ جَاثِيَا

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قلوبنا على دينكوألهمنا ذكرك وشكرك اختم لَنَا بخاتمة السعادة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ إنَا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللَّهُمَّ أفض عَلَيْنَا من بحر كرمك وعونك حَتَّى نخَرَجَ من الدُّنْيَا على السلامة من وبالها وارأف بنا رافة الْحَبِيب بحبيبه عِنْدَ الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدُّنْيَا وغمومها بالروح والريحان إلى الْجَنَّة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم فِي جنات النَّعِيم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

المثال الثالث: لها ولأهلها فِي اشتغالهم بنعيمها عَنْ الآخِرَة وَمَا يعقبهم من الحسرات مثل أَهْل الدُّنْيَا فِي غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بِهُمْ إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالْخُرُوج لِقَضَاءِ الحاجة وحذرهم الإبطاء، وخوفهم مُرُور السَّفِينَة.

فتفرقوا فِي نواحي الجزيرة، فقضى بَعْضهُمْ حاجته وبادر إلى السَّفِينَة فصادف المكَانَ خَالِيًا، فأخذ أوسع الأماكن وألينها.

ووقف بَعْضهُمْ فِي الجزيرة، ينظر إلى أزهارها وأنوارها العجيبة ويسمَعَ نغمَاتَ طيورها، ويعجبه حسن أحجارها، ثُمَّ حدثته نَفْسهُ بفوات السَّفِينَة، وسرعة مرورها، وخطر ذهابها فَلَمْ يصادف إِلا مَكَانًا ضَيِّقًا فجلس فيه.

ص: 186

وأكب بَعْضهُمْ على تلك الحجارة المستحسنة، والأزهار الفائقة فحمل مَنْهَا حمله فَلَمَّا جَاءَ لم يجد فِي السَّفِينَة إِلا مَكَانًا ضَيِّقًا، وزاده حمله ضيقًا، فصار محموله ثقلاً عَلَيْهِ، ووبالاً ولم يقدر على نبذه بل لم يجد من حمله بدًا ولم يجد لَهُ فِي السَّفِينَة مَوْضِعًا، فحمله على عنقه وندم على أخذه، فَلَمْ تنفعه الندامة، ثُمَّ ذبلت الأزهار، وتغيرت أريحها وآذاه نتنها.

وتولج بَعْضهُمْ فِي تلك الغياض، ونسي السَّفِينَة، وأبعد فِي نزهته، حَتَّى إن الملاح نادى بِالنَّاسِ، عِنْدَ دفع السَّفِينَة، فَلَمْ يبلغه صوته، لاشتغاله بملاهيه، فهو تَارَّة يتناول من الثمر وتَارَّة يشم تلك الأزهار وتَارَّة يعجب من حسن الأشجار.

وهو على ذَلِكَ خائف من سبع يخَرَجَ عَلَيْهِ، غير منفك من شوك يتشبث فِي ثيابه، ويدخل فِي قدميه أَوْ غصن يجرح بدنه أَوْ عوسج يخرق ثيابه، ويهتك عورته، أَوْ صوت هائل يفزعه.

ثُمَّ من هؤلاء من لحق بالسَّفِينَة، ولم يبق فيها موضع، فمَاتَ على الساحل، وَمِنْهُمْ من شغله لهوه، فافترسته السباع ونهشته الحيات وَمِنْهُمْ من تاه فهام على وجهه حَتَّى هلك، فهَذَا مثال أَهْل الدُّنْيَا فِي اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم، وَمَا أقبح بالعاقل أن تغره أحجار ونبات يصير هَشِيمًا.

المثال الرابع: لاغترار النَّاس بالدُّنْيَا، وضعف إيمانهم بالآخِرَة أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأصحابه: «إِنَّمَا مثلي ومثلكم ومثل الدُّنْيَا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حَتَّى إِذَا لم يدروا مَا سلكوا مَنْهَا أَكْثَر أم مَا بقي، أنفذوا الزَّاد، وحسروا الظهر، وبقوا بين ظهراني المفازة، لا زَادَ ولا حمولة، فأيقنوا بِالْهَلَكَةِ.

ص: 187

فبينما هم كَذَلِكَ، إذ خَرَجَ عَلَيْهمْ رجل فِي حلية يقطر رأسه، فَقَالُوا: إن هَذَا قريب عهد بريف، وَمَا جاءكم هَذَا إِلا من قريب، فَلَمَّا انتهى إليهم، قَالَ: يَا هؤلاء علام أنتم؟ قَالُوا: على مَا تَرَى. قَالَ: أرأيتم إن هديتكم على ماء رواء ورياض خضر مَا تجعلون لي؟

قَالُوا: لا نعصيك شَيْئًا. قَالَ: عهودكم ومواثيقكم بِاللهِ. قَالَ: فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بِاللهِ لا يعصونه شَيْئًا. قَالَ: فأوردهم ماء ورياضًا خضرًا قَالَ: فمكث مَا شَاءَ الله.

ثُمَّ قَالَ: يَا هؤلاء الرحيل، قَالُوا إلى أين، قَالَ إلى ماء لَيْسَ كمائكم ورياض لَيْسَتْ كرياضكم، قَالَ: فَقَالَ جل القوم، وهم أكثرهم: وَاللهِ مَا وَجَدْنَا هَذَا حَتَّى ظننا أن لن نجده، وَمَا تصنع بعيش هُوَ خَيْر من هَذَا؟

شِعْرًا:

عَلَى الدُّنْيَا وَمَنْ فِيهَا السَّلامُ

إِذَا مَلَكَتْ خَزَائِنَهَا اللِّئَامُ

قَالَ: وقَالَتْ طائفة: وهم أقلهم: ألم يعطوا هَذَا الرجل عهودكم ومواثيقكم بِاللهِ لا تعصونه شَيْئًا، وقد صدقكم في أول حديثه فوالله ليصدقنكم فِي آخره، فراح بمن اتبعه، وتخلف بقيتهم، فبادرهم عَدُوّهمْ، فأصبحوا بين أسير وقتيل.

شِعْرًا:

إِذَا عَاجِلَ الدُّنْيَا أَلَمْ بِمَفْرَحٍ

فَمَنْ خَلفهُ فَجْعٌ سَيَتْلُوُه آجِلُ

وَكَانَتْ حَيَاةُ الْحَيِّ سَوْقًا إلى الرَّدَى

وَأَيَّامُهُ دُونَ الْمَمَاتِ مَرَاحِلُ

وَمَا لُبْثَ مَنْ يَغْدُو وَفِي كُلِّ لَحْظَةٍ

لَهُ أَجْلٌ فِي مُدَّةِ الْعُمْرِ قَاتِلُ

وَلِلْمَرْءِ يَوْمٌ لا مَحَالَة مَا لَهُ

غَدٌ وَسْطَ عَامٍ مَا لَهُ الدَّهْرَ قَابِلُ

كَفَانَا اعْتِرَافًا بِالْفَنَاءِ وَرُقْبَةً

لِمَكْرُوهِهِ أَنْ لَيْسَ لِلْخُلْدِ آمِلُ

آخر:

أَرَانِي بِِحَمْدِ اللهِ فِي الْمَال زَاهِدًا

وَفِي شَرَفَ الدُّنْيَا وَفِي الْعِزَّ أَزْهَدَا

تَخَلَّيْتُ عَنْ دُنْيَايَ إِلا ثَلَاثَةً

دَفَاتِرَ مِنْ عِلْمٍ وَبَيْتًا وَمَسْجِدَا

ص: 188

غَنَيْتُ بِهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَوَيْتُهُ

وَكُنْتُ بِهَا أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَسْعَدَا

وَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ عَزِيز مُشرَفٍ

يَبِيتُ مَقَرًا بِالضَّلالَةِ مُجْهِدَا

أَتَتْهُ الْمَنَايَا وَهُوَ فِي حِين غَفْلَةٍ

فَأَضْحَى ذَلِيلاً فِي التُّرَابِ مُوَسَّدَا

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وثَبِّتْ إيماننا ونور بصائرنا واهدنا سبل السَّلام وجنبنا الفواحش مَا ظهر مَنْهَا وَمَا بطن،وألهمنا ذكرك وشكرك واعمر أوقاتنا بتلاوة كتابك وأرزقنا التدبر لَهُ والْعَمَل به فِي الدقيق والجليل وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ "

المثال الخامس للدنيا وأهلها، وَمَا مثلها به صلى الله عليه وسلم كظِلّ شجرة، والمرء مسافر فيها إِلَى اللهِ، فاستظِلّ فِي ظِلّ تلك الشجرة فِي يوم صائف، ثُمَّ راح وتركها.

فتأمل حسن هَذَا المثال، ومطابقته للواقع سواء، فَإِنَّهَا فِي خضرتها كشجرة، وفي سرعة انقضائها وقبضها شَيْئًا فشَيْئًا كالظِلّ والْعَبْد مسافر إلى ربه، والمسافر إِذَا رأى شجرة فِي يوم صائف لا يحسن به أن يبَنِي تحتها دارًا، ولا يتخذها قَرَارًا، بل يستظِلّ بها بقدر الحاجة، ومتى زَادَ على ذَلِكَ انقطع عَنْ الرفاق.

المثال السادس تمثيله لها صلى الله عليه وسلم بمدخل إصبعه فِي الْيَمِّ، فالَّذِي يرجع به إصبعه من البحر هُوَ مثل الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إلى الآخِرَة.

المثال السابع مَا مثلها به صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيث المتفق على صحته مِنْ حَدِيثِ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قَالَ إن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم، على المنبر وجلسنا حوله، فَقَالَ: «إن مِمَّا أخاف عليكم من بعدي مَا يفتح عليكم

ص: 189

من زهرة الدُّنْيَا، وزينتها» . فَقَالَ رجل: يَا رَسُول اللهِ! أَوْ يأتي الْخَيْر بالشر؟ فصمت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: كيف قُلْتُ؟ قَالَ: يَا رَسُول اللهِ أَوْ يأتي الْخَيْر بالبشر، فَقَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم::" إن الْخَيْر لا يأتي إِلا بالْخَيْر، وإن مِمَّا ينبت الربيع مَا يقتل حبطًا أَوْ يلم إِلا آكلة الخضر، أكلت حَتَّى إِذَا امتلأت خاصرتاها، استقبلت الشمس فثلطت وبالت، ثُمَّ اجترت فَعَادَتْ فأكلت. فمن أخذ مالاً بحقه بورك لَهُ فيه، ومن أخذ مالاً بغير حق، فمثله كمثل الَّذِي يأكل ولا يشبع» . فأخبر صلى الله عليه وسلم أن مِمَّا يخاف عَلَيْهمْ الدُّنْيَا، وسماها زهرة، فشبهها بالزهر، فِي طيب رائحته وحسن منظره، وقلة بقائه.

فهذه الفقرة اليسيرة، من جوامَعَ كلمه صلى الله عليه وسلم، حوت على إيجازها بشارة الصحابة الكرام بما سيكون على أيديهم، من فتح الْبِلاد، وإخضاع العباد، وجلب الأموال الطائلة، والغنائم الكثيرة، وتحذيرهم من الغرور، والركون إلى هَذِهِ الأَشْيَاءِ الفانية، والأعراض الزائلة.

وضرب صلى الله عليه وسلم مثلين حكيمين أحدهما مثل المفرط فِي جمَعَ الدُّنْيَا، والآخِر مثل المقتصد فيها، أما الأول، فمثله مثل الربيع وَذَلِكَ قوله فَإِنَّ مِمَّا ينبت الربيع مَا يقتل حبطًا أَوْ يلم، بأن يقارب الهلاك.

فهَذَا المطر ماء ينزله الله لإغاثة الخلق وإرواء كُلّ ذي روح فرغم فوائده الكثيرة ومنافعه الغزيرة وَمَا يتسبب عَنْ ذَلِكَ من إنبات العشب والكلاء، يأكل منه الْحَيَوَان فيكثر فينتفخ بطنه، فيهلك أَوْ يقارب الهلاك، وكَذَلِكَ الَّذِي يكثر من جمَعَ الْمَال، يكون عنده من الجشع والشره، والحرص، مَا يتجاوز به الحد، لا سيما إِذَا جمَعَ الْمَال من غير حله، ومنع ذَا الْحَقّ حقه، فَإِنَّ لم يقتله قارب أن يقتله.

شِعْرًا:

تَوَقَّ مَصَارِعَ الْغَفَلاتِ وَاحْذَرْ

فَلَيْسَتْ زِينَةُ الدُّنْيَا بِزِينَةْ

وَقَصْرُكَ عَنْ هَوَاكَ فَكُلُ نَفْسٍ

غَدَاةَ غدٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةْ

ص: 190

هِيَ الدُّنْيَا تَمُوجُ كَمَا تَرَاهَا

بِمَا فِيهَا فَشَأْنَكَ وَالسَّفِينَةْ

آخر:

إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ غُرُورٌ

وَالْجُهُولُ الْجَهُولُ مَنْ يَصْطَفِيهَا

مَا مَضَى فَاتَ وَالْمَؤمَّلُ غَيْبٌ

وَلَكَ السَّاعَةُ الَّتِي فِيهَا

آخر:

وَمَنْ لَمْ يَعْشَقِ الدُّنْيَا قَدِيمًا

وَلَكِنْ لا سَبِيلَ إلى الْوُصُولِ

آخر:

وَمَنْ لَحَظَ الدُّنْيَا بِعَيْنٍ حَقِيرَةٍ

فَقَدْ لَحَظَ الدُّنْيَا بِعَيْنِ الحَقِيقَةِ

ولِذَلِكَ كثير من أَهْل الأموال قتلتهم أموالهم فَإِنَّهُمْ شرهوا فِي جمعها، واحتاج إليها غيرهم، فَلَمْ يصلوا إلى ذَلِكَ إِلا بقتلهم، أَوْ مَا يقارب ذَلِكَ من إذلالهم وقهرهم والضغط عَلَيْهمْ.

وأما المثال الثاني: وَهُوَ مثال المقتصد فِي جمَعَ الدُّنْيَا، الطالب لحلها، فقَدْ مثل لَهُ صلى الله عليه وسلم بقوله:«إِلا آكلة الخضر» . فكأنه قَالَ ألا انظروا آكلة الخضراء، واعتبروا بشأنها " أكلت حَتَّى إِذَا امتدت خاصرتاها " وعظم جنباها، أقلعت سريعًا " استقبلت عين الشمس " تستمرئ بذَلِكَ مَا أكلت وتجتره " فثلطت " ألقت مَا فِي بطنها من أذى سهلاً رقيقًا.

وفي قوله: «استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت» . ثلاث فَوَائِد أحدها أنها لما أخذت حاجتها من المرعى تركته، وبركت مستقبلة عين الشمس، تستمرئ. الفائدة الثَّانِيَة أنها أعرضت عما يضرها من الشره فِي المرعى، وأقبلت على مَا ينفعها، مِنِ استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاج مَا أكلته وإخراجه.

الثالثة: أنها استفرغت بالبول والثلط مَا جمعته من المرعى فِي بطنها، فاستراحت بإخراجه ولو بقي فيها لقتلها، هكَذَا جامَعَ الْمَال مصلحته أن يفعل به كما فعلت هَذِهِ الشاة فتنبه لِذَلِكَ أيها المغفل الجموع المنوع.

شِعْرًا:

وَإِيَّاكَ وَالدُّنْيَا الدَّنِيَّةَ إِنَّهَا

هِيَ السِّحْرُ فِي تَخْيِيلِهِ وَافْتِرَائِهِ

ص: 191

مَتَاعُ غُرُورٍ لا يَدُومُ سُرُورُهَا

وَأَضْغَاثُ حُلْمٍ خَادِعٍ بِبَهَائِهِ

فَمَنْ أَكْرَمَتْ يَوْمًا أَهَانَتْ لَهُ غَدًا

وَمَنْ أَضْحَكَتْ قَدْ آذَنَتْ بِبُكَائِهِ

وَمَنْ تُسْقِهِ كَأْسًا مِنْ الشَّهْدِ غُدْوَةً

تُجَرِّعُهُ كَأْسَ الرَّدَى فِي مَسَائِهِ

وَمَنْ تَكْسُ تَاجَ الْمُلْكِ تَنْزَعُهُ عَاجِلاً

بِأَيْدِي الْمَنَايَا أَوْ بِأَيْدِي عَدَائِهِ

أَلا إِنَّهَا لِلْمَرْءِ مِنْ أَكْبَرِ الْعِدَا

وَيَحْسَبُهَا الْمَغْرُورُ مِنْ أَصْدِقَائِهِ

فَلَذَّاتُهَا مَسْمُومَةٌ وَوَعُودُهَا

سَرَابٌ فَمَا الظَّامِي رَوَى مِنْ عَنَائِهِ

وَكَمْ فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ ذَمِّهَا

وَكَمْ ذَمَّهَا الأَخْيَارُ مِنْ أَصْفِيَائِهِ

فَدُونَكَ آيَاتِ الْكِتَابِ تَجِدْ بِهَا

مِن الْعِلْمِ مَا يَجْلُوا الصَّدَا بِجَلائِهِ

وَمَنْ يَكُ جَمْعُ الْمَالِ مَبْلَغَ عِلْمِهِ

فَمَا قَلْبهُ إِلا مَرِيضًا بِدَائِهِ

فَدَعْهَا فَإِنَّ الزُّهْدَ فِيهَا مُحَتَّمٌ

وَإِنْ لَمْ يَقُمْ جُلُّ الْوَرَى بِأَدَائِهِ

وَمَنْ لَمْ يَذَرْهَا زَاهِدًا فِي حَيَاتِهِ

سَتَزْهَدُ فِيهِ النَّاسُ بَعْدَ فَنَائِهِ

فَتَتْرُكُهُ يَوْمًا صَرِيعًا بِقَبْرِهِ

رَهِينًا أَسِيرًا آيِسًا مِن وَرَائِهِ

وَيَنْسَاهُ أَهْلُوهُ الْمُفَدَّى لَدَيْهِمُ

وَتَكْسُوهُ ثَوْبَ الرُّخْصِ بَعْدَ غَلائِهِ

وَيَنْتَهِبُ الْوُرَّاثُ أَمْوَالَهُ الَّتِي

عَلَى جَمْعِهَا قَاسَى عَظِيمَ شَقَائِهِ

وَتُسْكِنَهُ بَعْدَ الشَّوَاهِقِ حُفْرَةً

يَضِيقُ بِهِ بَعْدَ اتِّسَاعِ فَضَائِهِ

يُقِيمُ بِهَا طولَ الزَّمَانِ وَمَا لَهُ

أَنِيسٌ سِوَى دُودٍ سَعَى فِي حَشَائِهِ

فَوَاهًا لَهَا مِنْ غُرْبَةٍ ثُمَّ كُرْبَةٍ

وَمِنْ تُرْبَةٍ تَحْوِي الْفَتَى لِبَلائِهِ

وَمَنْ بَعْدَ ذَا يَوْمَ الْحِسَابِ وَهَوْلُهُ

فَيُجْزَى بِهِ الإِنْسَانُ أَوْ فِي جَزَائِهِ

وَلا تَنْسَ ذِكْرَ الْمَوْتِ فَالْمَوْتُ غَائِبٌ

وَلا بُدَّ يَوْمًا لِلْفَتَى مِنْ لِقَائِهِ

قَضَى اللهُ مَوْلانَا عَلَى الْخَلْقِ بِالْفَنَا

وَلا بُدَّ فِيهِمْ مِنْ نُفُوذِ قَضَائِهِ

فَخُذْ أُهْبَةً لِلْمَوْتِ مِنْ عَمَلِ التُّقَى

لَتَغْنَمَ وَقْتَ الْعُمْرِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ

وَإِيَّاكَ وَالآمَالَ فَالْعُمْرُ يَنْقَضِي

وَأَسْبَابُهُا مَمْدُودَةٌ مِنْ وَرَائِهِ

وَحَافِظْ عَلَى دِينِ الْهُدَى فَلَعَلَّهُ

يَكُونُ خِتامَ الْعُمْرِ عِنْدَ انْتِهَائِهِ

ص: 192

.. فَدُونَكَ مِنِّي فَاسْتَمِعْهَا نَصِيحَةً

تُضَارِعُ لَوْنَ التِّبْرِ حَالَ صَفَائِهِ

وَصَلَّى عَلَى طُولِ الزَّمَانِ مُسَلِّمًا

سَلامًا يَفُوقُ الْمِسْكَ عَرْفَ شَدَائِهِ

عَلَى خَاتِمِ الرُّسْلِ الْكِرَامِ مُحَمَّدٍ

وَأَصْحَابِهِ وَالآلِ أَهْل كَسَائِهِ

وَاتْبَاعِهِمْ فِي الدِّينِ مَا اهْتَزَّ بِالرُّبَا

رِيَاضُ سَقَاهَا طَلَّهَا بِنَدَائِهِ

اللَّهُمَّ اجعل قلوبنا مملؤة بحبك وألسنتنا رطبة بِذِكْرِكَ ونُفُوسنَا مطيعة لأَمْرِكَ وأرزقنا الزهد فِي الدُّنْيَا والإقبال على الآخِرَة واغفر لَنَا، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لصالح الأَعْمَال، ونجنا مِنْ جَمِيعِ الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ ": اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهَ وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه، أن الألفة ثمرة حسن الخلق، والتفرق ثمرة سوء الخلق، فحسن الخلق يوجب التحاب، والتآلف والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض، والتحاسد، والتدابر.

ومهما كَانَ المثمر محمودًا، كَانَتْ الثمرة محمودة، وحسن الخلق لا تخفى فِي الدين فضيلته، وَقَالَ الله تَعَالَى لنبيه:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَكْثَر مَا يدخل الْجَنَّة تقوىً وحسن الخلق» . وَقَالَ أسامة بن شريك قلنا: يَا رَسُول اللهِ مَا خَيْر مَا أعطى الإِنْسَان؟ فَقَالَ: «حسن الخلق» . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «بعثت لأتمم مكارم الأَخْلاق» .

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ خُلُقٌ حَسَنٌ» . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ أَلِفٌ مَأْلُوفٌ، وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ» . وَلأَبِي عَبْد الرَّحْمَنِ السَّلَمِيّ فِي آدَابِ الصُّحْبَةِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِخْوَان صَالِحِينَ.

وَلِلإِخَاءِ أربع خِصَال: الأُولَى: الْعَقْلُ الْمَوْفُورُ الْهَادِي إِلَى مَرَاشِدِ الأُمُورِ

ص: 193

بِإِذْنِ اللهِ فَإِنَّ الْحَمَقَ لا تَثَبِّتْ مَعَهُ مَوَدَّةٌ وَلا تَدُومُ مَعَهُ صُحْبَةٌ، لِعَدَمِ مُرَاعَاتِهِ حُقُوقِ الإِخَاءِ.

وَالْخُصْلَةِ الثَّانِيَة: الدّيِنِ الْوَاقِفِ بَصَاحِبِهِ عَلَى الْخَيْرَاتِ، فَإِنَّ تَارِكَ الدِّينِ عَدُوٌ لِنَفْسِهِ يُلْقِيهَا فِي الْمَهَالِكِ، فَكَيْفَ يُرْجَى مِنْهُ نَفْعٌ وَمَوَدَّةٌ لِغَيْرِهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: اصْطَحِبْ مِنَ الإِخْوَان صَاحِبَ الدِّينِ، وَالْحَسَبِ، وَالْرَأْيِ وَالأَدَبِ، فَإِنَّهُ عَوْنٌ لَكَ عِنْدَ حَاجَتِكَ، لأَنَّ دِينَهُ يُحَتِّمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ وَيَدٌ عِنْدَ نَائِبَتِكَ، وَذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ رَأْيَهُ، وَحَسَبَهُ، وَأُنْسٌ عِنْدَ وَحْشَتِكَ لأَدَبِهِ.

وَمِنْ كَلامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: الأَخُ الصَّالِحُ خَيْرٌ مِنْ نَفْسِكَ، لأَنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، وَالأَخُ الصَّالِحُ لا يَأْمُرُ إِلا بِالْخَيْرِ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَحْمُودُ الأَخْلاقِ، مَرْضِيّ الأَفْعَالِ، مُؤْثِرًا لِلْخَيْرِ، آمِرًا بِهِ لِخَلِيلِهِ، كَارِهًا لِلشَّرِّ دِيَانِة، وَخُلُقًا، نَاهِيًا عَنْ الشَّرِّ مُرُوءَة وَحَسَبًا، فَإِنَّ مَوَدَّةَ الشَّرِّيرِ تُكْسِبُ الأَعْدَاءَ، وَتُفْسِدُ الأَخْلاقِ، وَلا خَيْرَ فِي مَوَدَّةٍ تَجْلِبُ عَدَاوَة، وَتُورِثْ مَذَّمَةً وَمَلامَة.

وَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَيْنِ لِلْجَلَيْسَ الصَّالِحُ، وَالْجَلَيْسَ السُّوءِ، فَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مِثْلُ الْجَلَيْسَ الصَّالِحِ، وَالْجَلَيْسَ السُّوءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكَيرِ، فَحَامِل الْمِسْك إِمَّا أَنْ يَحْذِيكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعُ مِنْهُ، وَأَمَّا أَنْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخٌ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يَحْرِقَ ثِيَابِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدْ مِنْهُ رِيحةً خَبِيثَةً» . مُتَفَقٌ عَلَيْهِ.

هَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ أَنْ الْجَلَيْسَ الصَّالِحَ جَمِيعَ أَحْوَالِ صِديقه معه خَيْر وبركة ونفع ومغنم مثل حامل المسك الَّذِي تنتفع بما معه منه، إما بهبة، أَوْ ببيع أَوْ أقل شَيْء مدة الجلوس معه، وَأَنْتَ قَرِيرِ النَّفْسِ، مُنْشَرِح الصَّدْرِ، بِرَائِحَةِ المسك

ص: 194

وَهَذَا تَقْرِيبٌ، وَتَشْبِيهٌ لَهُ بِذَلِكَ وَإِلا فَمَا يَحْصُلُ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْعَبْدُ مِنْ جَلِيسِهِ الصَّالِحُ أَبْلَغُ وَأَفْضَلُ مِنْ الْمِسْكِ الأَذْفَرِ، فَإِنَّهِ إِمَّا أَنْ يُعَلِّمُكَ أُمُورًا تَنْفَعُكَ فِي دِينِكَ، وَإِمَّا أَنْ يُعَلِّمُكَ أُمُورًا تَنْفَعُكَ فِي دُنْيَاكَ، أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا، أَوْ يَهْدِي لَكَ نَصِيحَةً تَنْفَعُكَ مُدَّةَ حَيَاتِكَ، وَبَعْدَ وَفَاتِكَ أَوْ يَنْهَاكَ عَمَّا فِيهِ مَضَرَّة لَكَ.

شِعْرًا:

عَاشِرْ أَخَا الدِّينِ كَيْ تَحْظَى بِصُحْبَتِهِ

فالطَّبْعُ مُكْتَسَبٌ مِنْ كُلِّ مَصْحُوبِ

كالرِّيحِ آخِذَةٌ مِمَّا تَمُرُّ بِهِ

نَتْنًا مِن النَّتْنِ أَوْ طِيبًا مِن الطَّيْبِ

فأنت معه دائمًا في منفعة، وربحك مضمون بإذن الله فتجده دائمًا يرى أنك مقصر في طاعة الله فتزداد همتك في الطاعة ويجتهد في الزيادة منها وتراه يبصرك بعيوبك ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها بقوله وفعله وحاله.

فالإنسان مجبول على التلقيد والاقتداء بصاحبه، وجليسه والطباع والأرواح جنود مجندة يقود بعضها بعضًا إلى الخير أو إلى الشر وأقل نفع يحصل من الجليس الصالح انكفاف الإنسان بسببه عن السيئات، والمساوي والمعاصي، رعاية للصحبة ومنافسة في الخير وترفعًا عن الشر والله الموفق.

ومن ما فيستفاد من الجليس الصالح أنه يحمي عرضك في مغيبك، وفي ضرتك يدافع ويذب عنك ومن ذلك أنك تنتفع بدعائه لك حيًّا وميِّتًا.

وأما مصاحبة الأشرار فهي السم الناقع، والبلاء الواقع، فتجدهم يشجعون على فعل المعاصي، والمنكرات، ويرغبون فيها ويفتحون لمن خالطهم وجالسهم أبواب الشرور ويزينون لمجالسيهم أنواع المعاصي.

شِعْرًا:

وَلا تَجْلِسْ إلى أَهْلِ الدَّنَايَا

فَإِنَّ خَلائِقَ السُّفَهَاءِ تُعْدِي

ويحثونهم على أذية الخلق، ويذكرونهم بأمور الفساد التي لم تدر في

ص: 195

خلدهم، وإن همَّ بتوبة وانزجار عن المعاصي حسنوا عنده تأجيل ذَلِكَ، وطول الأمل، وأن ما أَنْتَ فيه أَهْوَن من غيره، وفي إمكانك التوبة، والإنابة إذا كبرت في السن.

وما يقلدهم به ويكسبه من طباعهم أكثر من ما ذكرنا، وَكَمْ قادوا أصحابهم إلى المهالك. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.

شِعْرًا:

وأَهَوَى مِنَ الشُّبَّانِ كُلَّ مُجِيبٍ

عن اللهوِ مِقْدَامًا إلى كُلِّ طَاعَةِ

أَخُو عِفَّةٍ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مُحَرَّمٍ

وَذُر رَغْبَةٍ فِيمَا يَقُودُ لجنّةِ

تَمَسَّكْ بِهِ إِنْ تَلْقَهُ يَا أَخَا التُّقَى

تَمَسُكَ ذِي بُخْلٍ بِتِبْرٍ وَفِضَّةِ

أُحِبُّ مِن الإِخْوَانِ كُلَّ مُواتِي

وَكلّ غضيض الطَّرْفِ عن هَفَوَاتِي

يُوَافِقُنِ فِيمَا بِهِ اللهُ رَاضِيًا

وَيَحْفَظُنِي حَيًّا وَبَعْدَ مَمَاتِي

آخر:

وَلا خَيرَ في الدُّنيا إِذَا لَم تَزَرْ بِهَا

حَبِيبًا وَلَمْ يَطرَبْ إِلَيكَ حَبِيبُ

اللَّهُمَّ امنن عَلَيْنَا يا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ ": وَكَمْ حث صلى الله عليه وسلم على أَهْل الدين فعن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «المرء على دين خليله فلينظر المرء من يخالل» . قَالَ الْعُلَمَاءُ: معناه لا تخالل إِلا من رضيت دينه وأمانته فإنك إذا خاللته قادك إلى دينه، ومذهبه، ولا تغرر بدينك ولا تخاطر بنفسك، فتخالل من لَيْسَ مرضيًا في دنيه ومذهبه.

وَقَالَ سفيان بن عيينة: وقَدْ روي في تفسير هَذَا الْحَدِيث انظروا إلى فرعون معه هامان وانظروا إلى الحجاج معه يزيد بن أبي مسلم شر منه قُلْتُ: وانظروا إلى يزيد بن معاوية معه مسلم بن عقبة المري شر منه، انظروا إلى سُلَيْمَانٌ بن عبد الملك صحبه رجَاءَ بن حيوة الكندي أحد الأعلام الأفاضل فقومه وسدده.

ص: 196

وَعَنْ أَبِي سعيد الخدري عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تصَاحِب إِلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إِلا تقيٌّ» . قَالَ الْعُلَمَاءُ: معنى الْحَدِيث لا تدعوا إلى مؤواكلتك إِلا الأتقياء، لأن المؤاكلة تدعو إلى الأفلة، وتوجبها، وتجمَعَ بين القُلُوب، يَقُولُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:«فتوخ أن يكون خلطاؤك وذوو الاختصاص بك أَهْل التقوى» .

وعن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تلزموا مجالس العشائر فَإِنَّهَا تميت الْقَلْب، ولا يبالي الرجل بما تكلم ناديهم، وتفرقوا في العشائر فإنه أحرى أن تحفظوا في المقالة» .

وَقَالَ بَعْضهمْ: ينبغي للمُؤْمِنِ أن يجانب طلاب الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يدلونه على طلبها ومنعها وَذَلِكَ يبعده عن نجاته ويقضيه عَنْهَا ويحرض ويجتهد في عشرة أَهْل الْخَيْر وطلاب الآخِرَة:

شِعْرًا:

اصْحَبْ مِن الإِخْوَانِ مَنْ أَخْلَصُوا

للهِ فِي أَعْمَالِهِمْ واتَّقَوْا

وَمَنْ إِذَا تَكَاسَلتَّ فِي طَاعَةٍ

للهِ لامُوكَ ولا قَصَّروْا

آخر:

لَجَلْسَتِي مَعْ فَقِيهٍ مُخْلِصٍ وَرَعٍ

أَنْفِي بِهَا الْجَهْلِ أَوْ أَزْدَدْ بِهَا أَدَبَا

أَشْهَى إِلَيَ مِنَ الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا

وَمِلْئِهَا فِضَّةً أَوْ مِلْئهَا ذَهَبًا

آخر:

وَقارِن إِذا قارَنْتَ حُرًّا أَخًا تُقَى

فَإِنَّ الْفَتَى يُزْرِي بِه قُرَنَاؤُهُ

آخر:

وَمَنْ يَكُنِ الْغُرَابَ لَهُ دَلِيلاً

يَمُرُّ بِهِ عَلى جِيفِ الْكِلابِ

كُلُّ مَنْ لا يَؤاخِيكَ فِي الله

فَلا تَرْجُ أَنْ يَدُومَ إِخَاؤُهُ

خَيْرُ خِلٍ أَفْدَتْهُ ذُو إِخَاءٍ

كَانَ للهِ وُدُهُ وَصَفَاؤهُ

وَقَالَ آخر: عَلَيْكَ بصحبة أَهْل الْخَيْر ممن تسلم منه في ظاهرك وتعينك رؤيته على الْخَيْر ويذكرك الله.

قَالَ الْعُلَمَاءُ: قَدْ حَذَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم من مُجَالَسَة من لا يستفيد المرء به فضيلة، ولا يكتسب بصحبته علمًا وأدبًا.

ص: 197

وعن وديعة الأنصاري قال: سمعت عُمَر بن الْخَطَّاب رضي الله عنه يَقُولُ وَهُوَ يعظ رجلاً: لا تتكلم فيما لا يعنيك، واعتزل عَدُوّكَ، واحْذَرْ صَدِيقكَ إِلا الأمين ولا أمين إِلا من يخشى الله ويطيعه، ولا تمش مَعَ الفاجر، فيعلمك من فجوره، ولا تطلعه على سرك ولا تشاور في أمرك إِلا الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللهَ سُبْحَانَهُ.

ووعظ بَعْضهمْ ابنه فَقَالَ له: إياك وإِخْوَان السُّوء، فَإِنَّهُمْ يخونون من رافقهم، ويفسدون من صادقهم، وقربهم أعدى من الجرب، ورفضهم والبعد عنهم من استكمال الأَدَب والدين والمرء يعرف بقرينه، قال: والإِخْوَان اثنان فمحافظ عَلَيْكَ عَنْدَ البَلاء، وصديق لك في الرخاء، فاحفظ صديق البلية، وتجنب صديق العافية فَإِنَّهُمْ أعدى الأعداء وفي هَذَا المعنى يَقُولُ الشاعر:

(أَرَى النَّاسَ إِخْوَانَ الرَّخَاءِ وَإِنَّمَا

أَخُوكَ الَّذِي آخَاكَ عِنْدَ الشَّدَائد)

(وَكُل خليل بالهوْينا ملاطِفٌ

وَلكنَّمَا الإِخْوَانِ عِنْدَ الشَّدائد)

آخر:

إِذَا حَقَّقْتَ وِدًّا فِي صَدِيق

فَزُرْهُ ولا تََخَفْ مِنْهُ مِلالا

وَكُنْ كالشَّمْسِ تَطْلعُ كُلَّ يَوْمٍ

وَلا تَكُ فِي زِيَارَتِهِ هِلالا

آخر:

فَما أَكثَرَ الإِخْوَانَ حِينَ تَعْدُّهُمْ

وَلَكِنَّهُمْ فِي النَّائِبَاتِ قَليلُ

آخر:

وَكُلُّ مُقِلّ حِينَ يَغْدُو لِحَاجَةٍ

إلى كُلّ يَلْقَى مِن النَّاسِ مُذْنِبُ

وكان بَنُوا عَمِّي يَقُولُونَ مَرْحَبَا

فَلمَّا رَأَوْنِي مُعْدِمًا مَاتَ مَرْحَبُ

النَّاسُ أَعْوَانُ مَنْ دَامَتْ لَهُ نِعَمٌ

وَالْوَيْلُ لِلْمَرَءِ إِنْ زَلَّتْ بِهِ قَدَمُ

لمَّا رَأَيْتُ أَخِلائِي وَخَالِصَتِي

وَالْكُلُّ مُنْقَبضٌ عَنِّي وَمُحْتَشِمُ

أَبْدَوْا صُدُودًا وَإِعْرَاضًا فَقُلْتُ لَهُمْ

أَذنَبْتُ ذَنْبًا فَقَالُوا ذَنْبُكَ الْعَدَمُ

آخر:

سَمِعْنَا بالصَّدِيق ولا نَراَهُ

عَلى التَّحْقِيقِ يُوجَدُ فِي الأَنَام

آخر:

فَرِيدٌ مِن الخلانِ فِي كُلِّ بلدةٍ

إِذَا عَظُمَ المطلوبُ قَلَّ الْمُسَاعِدُ

آخر:

وَإِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ إِلا أَقَلَهُمْ

خِفَافَ الْعُهُودِ يُكْثِرونَ التَّنَقُّلا

ص: 198

.. بَنِي أُمِّ ذِي الْمَالِ الْكَثِير يَرَوْنَهُ

وَإِنْ كَانَ عَبْدًا سَيِّدَ الْقَوْمِ جَحْفَلا

وَهُمْ لِمُقلِّ الْمَالِ أَوْلادُ عَلَّةٍ

وَإِنْ كَانَ مَحْضًا فِي الْعُمُومَةِ مُخْولا

آخر:

وَلَيسَ أَخُوكَ الدَّائِمُ الْعَهْدِ بِالَّذِي

يَسُوءُكَ إِنْ وَليَّ وَيُرْضِيكَ مُقْبِلا

وَلَكِنَّه النَّائِي إِذَا كُنْتَ آمِنًا

وَصَاحِبُكَ الأَدْنَى إِذَا الأَمْرُ أَعْضَّلا

آخر:

دَعْوَى الإِخَاءِ مَعَ الرَّخَاءِ كَثِيرَةٌ

وَمَعَ الشَّدَائدِ تُعْرَفُ الإِخْوَانُ

وعن شريك بن عَبْد اللهِ كَانَ يُقَالُ: لا تسافر مَعَ جبان فإنه يفر من أبيه وأمه، ولا تسافر مَعَ أحمق، فإنه يخذَلِكَ أحوج ما تَكُون إليه، ولا تسافر مَعَ فاسق فإنه يبيعك بأكلة وشربة.

وَعَنْ أَبِي مُوَسى الأشعري قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم عليه السلام من قبضة قبضها مِنْ جَمِيعِ أجزاء الأَرْض فَجَاءَ بنوا آدم عَلَى قَدْرِ الأَرْض، مِنْهُمْ الأحمر، والأسود، والأَبْيَض، والسهل، والحزن.

قَالَ الْعُلَمَاء: في هَذَا الْحَدِيث بيان أن النَّاس أصناف، وطبقات، وأنهم متفاوتون في الطباع والأَخْلاق، فمِنْهُمْ الْخَيْر الفاضل، الذي ينتفع بصحبته، وصداقته، ومجاورته، ومشاورته، ومقارنته، ومشاركته، ومصاهرته ولا ينسى ما أسديت إليه من معروف عِنْدَمَا كَانَ مُحْتَاجًا.

شِعْرًا:

وَإِنَّ أَوْلَى الْمَوَالِي أَنْ تُوَالِيهُ

عِنْدَا السُّرُور الَّذِي وَاسَاكَ فِي الْحَزَنِ

إِنَّ الْكِرامَ إِذَا مَا أَيْسَرُوا ذَكَرُوا

مَنْ كَانْ يَأْلَفُهُمْ فِي الْمَنْزِلِ الْخَشِنِ

آخر:

نَسِيبُكَ مَنْ نَاسَبْكَ فِي الدِّينُ والتُّقَى

وَجَارُكَ مَنْ أَحْبَبْتَ فِي اللهِ قُرْبَهُ

آخر:

تَقِيُّ الدِّين يَجْتَنِبُ الْمَخَازِي

وَيَحْمِيهِ عَنْ الْغَدْر الْوَفَاءُ

آخر:

كُلُّ الأَنَامَ بَنُو أَبٍ لَكِنَّمَا

بِالدِّينِ تُعَرْفُ قِيَمةٌ الإِنْسَانِ

آخر:

إِذَا أَرَدْتَ شَرِيفَ النَّاسِ كُلِّهِمُ

فانْظُرُ إلى مُخْلِصِ لله فِي الدِّين

ص: 199

وَمِنْهُمْ الرَّدِيء الناقص العقل الذي يتضرر بقربه، وعشرته، وصداقته وَجَمِيع الاتصالات به ضرر وشر، ونكد، وشبه ما لهَذَا الدلب المسمى الخنيز، وبَعْضهمْ يسميه شباب النار، فهَذَا النبت يمص الماء عن الشجر والزرع ويضيق عَلَيْهِ، ويضر من اتصل به. قال ابن القيم رحمه الله في وصف المنحرفين مشبهًا لَهُمْ به وَهُوَ شبه مطابق:

فَهُمُ لَدَى غَرْسِ الإِلَهِ كَمَثْلِ غَرْ

س الدَّلبُ بَيْنَ مَغَارِسِ الرُّمانِ

يَمْتَصُّ مَاءَ الزَّرْعِ مَعْ تَضْيِيقِهِ

أَبَدًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ ذَا قِنْوَانِ

آخر:

النَّاسُ مِثْلُ ضُرُوفٍ حَشْوُهَا صَبِرٌ

وَفَوْقَ أَفْوَاهِهَا شَيْءٌ مِنْ الْعَسَلِ

تَغُرُّ ذَائِقَهَا حَتَّى إِذَا كُشِفَتْ

لَهُ تَبَيَّنَ مَا تَحْوِيهِ مِنْ دَخَلِ

ومنها السباخ الخبيثة التي يضيع بذورها، ويبيد زرعها وما بين ذَلِكَ على حسب ما يشاهد منها ويوَجَدَ حسًا.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «النَّاس معادن)) . قال الخطابي على هَذَا الْحَدِيث، وفي هَذَا القول أيضًا بيان أن اختلاف النَّاس غرائز فيهم، كما أن المعادن ودائع مركوزة في الأَرْض فمنها الجوهر النفيس، ومنها الفلز الخسيس.

وكَذَلِكَ جواهر النَّاس، وطباعهم، منها الزكي الرضي، ومنها الناقص الدنيء. وإذا كَانُوا كَذَلِكَ، وكَانَ الأَمْر على العيان مِنْهُمْ مشكلاً واستبراء العيب فيهم متعذّرًا فالحزم إذًا الإمساك عنهم، والتوقف عن مداخلتهم إلى أن تكشف المحنة عن أسرارهم وبواطن أمرهم فيكون عَنْدَ ذَلِكَ إقدام على خبرة أو إحجام عن بصيرة.

شِعْرًا:

وَقَلَّ مَنْ ضَمِنَتْ خَيْرًا طِوّيَتُهُ

إِلا وَفي وَجْهِهِ للْخَيْرَ عُنْوَان

ولعلك أسعدك الله إذا خبرتهم، وإذا عرفتهم أنكرتهم، إِلا من يخصهم

ص: 200

الثُّنْيَاءُ وَقَلِيْلٌ مَا هُمْ، وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ جَالِساً ذَاتَ يَوْمٍ وَقُدَامُه قَوْمٌ يَصْنَعُوْنَ شَيْئًا كَرِهَهُ مِن كَلامٍ وِلَغَطٍ، فقِيْل َ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا تَنْهَاهُمْ؟ فَقَالَ: «لَوْ نَهَيْتُهُمْ عَنْ الْحجَون، لأَوَشَكَ بَعْضُهمْ أَنْ يَأَتِيهُ، وَلَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ» .

قَالَ الْخَطَّابِيّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: قَدْ أَنْبَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الشَّرَّ طِبَاعٌ فِي النَّاسِ، وَأَنَّ الْخِلافَ عَادَةٌ لَهُمْ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِصَةُ آدَمَ وَحَوَاءَ حِيْنَمَا نَهَاهُمَا اللهُ عز وجل عَنِ الأَكِلِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَكَلا مِنْهَا.

فَبَعْضُ النَّاسِ نَهْيُهُ عَنْ الشَيْء كَأْنَّهُ إِغْرَاءٌ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا نَهَيْتُه عَنْ شِدَةِ الإقْبَالِ على الدُّنْيَا والإقْلالِ مِنْ مَحَبَّتِهَا، ازْدَادَ وَفَطِنَ لأَشياءِ قَدْ نَسِيَهَا.

قَالَ بَعْضُهُمْ:

وَإِذَا زَخَرَتَ النَّفْسَ عَنْ شَغَفٍ بِهَا

فَكَأنَّ زَجْرَ غَويْهَا إِغْرَاؤُهَا

قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الشَّرُّ فِي طِبَاعِ النَّاسِ، وَحُبِّ الْخِلافِ لَهُمْ عَادَةٌ، وَالْجَورُ فيهم سُنَّةٌ.

وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يُؤْذُونَ مَن لا يُؤْذِيهم، وَيَظْلِمُوْنَ مَنْ لا يَظْلِمُهُمْ، وَيُخَالِفُونَ مَنْ يَنْصَحُهُمْ، وَلا يمَنْعُهُمْ مِنَ الظُّلم إِلا خَوفٌ أَوْ رَجَاءَ.

وَقَدِيمًا قِيْلَ:

والظُّلْمُ مِنْ شِيمِ النُّفُوْسِ فَإِنَّ تَجِدْ

ذَا عِفَّةٍ فَلِعلَّةٍ لا يَظْلِمُ

قِيْلَ لِرَجُلٍ: أَمَا تَسْتَحِي تُؤْذِي جِيرَانَك؟ قَالَ: فَمَنْ أُوْذِيِ، أَأُوذِي مَنْ لا أَعْرَفُ. نَعُوذُ باللهِ مِنْ هَذِهِ الحالِ هَذَا مَطْبُوعٌ على الشَّرِّ والأَذِيَّةِ.

وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

ص: 201

" فَصْلٌ ": إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أَنَّ الإِخَاءَ فِيْمَا مَضَى غَالِبًا بَيْنَ الأَخَوَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمْ يَعْتَمِدُ على الله ثُمَّ عَلَى أَخِيْهِ، وَيَطْمِئِنَ إِلَيْهِ، فِي مَهَامِهِ كُلّ الإطْمِئْنَانِ، كَانَ أَحَدُهُمْ يُؤآخِي أَخَاهُ على الصَّفَاءِ بَيْنَهُمْ وَالْحَنَانِ، كَأنَ الأَخَ نفس أخيه وربما زاد عنه في القيام بشئونه مرات، كان الأخ لا يؤآخي إلا إِذَا أَحَبَّ لأَخِيْهِ مَا يُحِبُ لِنَفْسِهِ.

وكَانَ أَحَدُهُمْ يَدْخُلُ بَيْتَ أَخِيْهِ بِحَضْرَتِهِ وَيَأْخُذُ مِنْ خِزَانَتِه مَا يُرِيْدُ، كَانَ أحدُهم إِذَا سَأَلَ أَخَاهُ مَا هُو محتَاجٌ إِلَيْهِ أَنَبَ نَفْسه إِذْ أَهْمَلَهُ حَتَّى أَفْصَحَ هُوَ عَنْ حَاجَاتِه، كَانَ بَعْضُهُمْ يُلاحِظُ بَعْضًا فَإذَا رَأَى فُرْجَةً سَدَّهَا وَوَجْهُ أَخِيْهِ غَيْرُ مَبْذُولٍ.

كَانَتْ الصُّحْبَةُ أَوْلاً صَافِيةً وَكَانَ الْحُبُ للهِ مَا فِيْهِ شَائبةٌ، أَوْ طَمَعٌ مِن الأطماعِ، وَحَيْثُ أَنَّ الصَّاحِب هُو الْعَضُدَ الأَقْوَى، وَالسَّاعِد الأَيْمَن لِلْمَرْءِ فِي حَيَاتِهِ وَمَا يَنْتَابُهُ فِي مُلِمَّاتِِهِ فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَخْتَارَ أصحابَهُ وَيَنْتَقِيَ جُلَسَاءَهْ وَيَنْتَخِبَهُمْ مِن ذَوِي السِّيْرَةِ الْمَحْمُوْدَةِ والعقل الرَّاجِحِ، وَالرَّأْيُ السَّدِيدِ، والدَِين الْمَتِين، وَلْيَحْذَرْ مِنْ مؤاخاةِ مَن لا يَصْلَحُ للأخوةِ، ولا يُرَاعِي حقَّ الْوِدَادَ وآدابِ الْمُجَالَسَةِ والْمَحَادَثَةِ.

وَأوْصَى بَعْضُهُمْ ابنَهُ لَمَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَقَالَ: يَا بُنِيَ إِذَا أَرْدَتَ صِحْبَةَ إنسانٍ فاصْحَبْ مَن إِذَا خَدَمْتَه صَانَكَ، وإن صَحِبْتَهُ زَانَكَ، اصحبْ مَنْ إِذَا مدَدْتَ يَدَكَ للخَيْرِ مَدَّهَا، وإن رَأى منكَ حَسَنَةً عَدَّهَا، وإن رَأَى منكَ سَيِّئَةً سَدَهَا.

اصْحَب مَن إِذَا حَاوَلْتَ أَمْرًا أَعَانَك، وَنَصَرَكَ، وإن تَنَازَعْتُمَا فِي شَيْء آثَرَكَ، فَإِنْ يَسَّرَ اللهُ لََكَ بِصَاحبٍ مِن هَذَا الطِّرَازِ فاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِه. قَالَ الإِمَامُ الشَّافعي رحمه الله: لَوْلا القِيَامُ بالأسحار، وَصُحْبَةُ الأخيار، ما اخْتَرْتُ البَقَاءَ فِي هَذِهِ الدَّارِ. وَقَالَ بَعْضُ الأُدَبَاءِ: أَفْضَلُ الذَّخَائِرِ أَخٌ صَاحبُ وفَاءٍ.

ص: 202

وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءُ:

(هُمُومُ رِجَالٍ فِي أُمُورٍ كَثِيرةٍ

وَهَمٍيْ مٍن الدُّنْيَا صَدٍيقٌ مُسَاعِدُ)

(نَكُونُ كَرُوحٍ بَيْنَ جِسْمَيْنِ قُسِّمَتْ

فَجَسْمَهُمَا جِسْمَانِ والرُوحُ َواحِدُ)

آخر:

عَلَيْكَ من الإِخْوَانِ كُلَّ ثِقَاتِ

حَمُولٍ لِعَبْءِ النَّائِبَاتِ مُوَاتِي

فذاكَ بِهِ فاشْدُدْ يَدَيكَ وَلَا تُرِدْ

بِهِ بَدَلاً فِي عِيْشَةٍ وَمَمَاتِ

يَحُوْطُكَ فِي غَيْبٍ ويَرْعَاكَ شَاِهداً

ويَسْتُر مَا أَبْديْتَ مِن عَثَرَاتِ

ومَنْ لِيْ بِهَذا لَيْتَ أَنِّي لَقِيْتُهُ

فَقَاسَمْتُهُ مَاليْ مِن الحَسَنَاتِ

آخر:

ثِلاثُ خِصَالِ للصَّدِيقِ َجَعلتُهَا

مُضَارعَةً للصَّوْمِ والصَّلواتِ

مُوَاسَاتُهُ والصَّفحُ عَنْ عَثَراتِهِ

وتَرْكُ ابْتِذَالِ السِّرِّ فِي الخَلَواتِ

آخر:

ومَنْ لَمْ يُغَمِّضْ عَيْنَهُ عَنْ صَدِِيقْهِ

وَعَن بَعْضِ ما فِيْه يَمُتْ وهْوَ عَاتِبُ

ومَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِداً كُلّ عَثْرةٍ

يَجِدْهَا وَلَا يَسْلَمْ لَهُ الدَهْرَ صَاحِبُ

آخر:

هم النَّاس فِي الدُّنْيَا فلا بُدّ مِن قَذَى

يُلمُّ بِعَيْشٍ أَوْ يُكَدِّر مَشْرَبَا

ومِن قِلّةِ الإنِصَافِ أَنَّكَ تَبْتَغِيْ

الْمُهذَابَ فِي الدُّنْيَا ولَسْتَ المُهَدَّبَا

آخر:

وَكَمْ مِنْ أَخٍ لَمْ تَحْتمِلْ مِنْهُ خَلَّةً

قَطَعْتَ وَلَمْ يُمَكنْكَ مِنُه بَدِيلُ

وَمَنْ لَمْ يُرِدْ إِلَاّ خَلِيلاً مُهَذَّبًا

فَلَيْسَ لَهُ فِي العَالِمِيْن خَلِيْلُ

آخر:

إِلْبَسْ عَلَى النَّقْصِ مَنْ تُصَاحِبُه

يَدُمْ لَكَ الْوُدُ عِنْدَهُ أَبَدَا

وَقَارِبْ النَّاسَ عَلَى عُقُولِهِمْ

أَوْ لا فَعِشْ فِي الأَنَامِ مُنْفَرِدَا

آخر:

مَا صَاحِبُ الْمَرْءِ مَنْ إِنْ زَلَّ عَاقَبَهُ

بَلْ صَاحِب الْمَرْءِ مَنْ يَعْفُوا إِذَا قَدِرَا

فَإِنْ أَرَدْتَ وِصَالاً لا يكدِّرُهُ

هَجْرٌ فَكُنْ صَافِيًا لِلْخِلِ إِنْ كَدِرَا

آخر:

إِذَا مَا كُنْتَ مُعْتَقِدًا صَدِيقًا

فجربْهُ بِأَحْوَالٍ ثَلاِث

مُشَارَكَة إِذَا مَا عَنَّ خَطْبٌ

وَإِسْعَافٌ بِعَيْنٍ أَوْ أَثَاثِ

وَسِرُّكَ فَأْتَمِنْهُ عَلَيْهِ وَانْظُرْ

أَيَكْتُمُ أَمْ يُذِيعُ بِلا اكْتِرَاثِ

فَإِنْ صَادَفْتَ مَا تَرْضَى وَإِلا

فَإِنَّ الْمَرْءَ ذَا عُقَدِ رِثَاثِ

ص: 203

آخر:

بِمَنْ يَثِقُ الإِنْسَانُ فِيمَا يَنُوبُهُ

وَمِنْ أَيْنَ لِلْحُرّ الْكَرِيمِ صِحَابُ

وَقَدْ صَارَ هَذَا النَّاسُ إِلا أَقَلَهُمْ

ذِئَابًا عَلَى أَجْسَادِهِنَّ ثِيَابُ

تَغَابَيْتُ عَنْ قَوْم فَظَنُّوا غَبَاوَةً

بِمَفْرق أَغْبَانَا حَصَى وَتُرَابُ

إِلَى اللهِ أَشْكُو أَنَّنَا بِمَنَازِلٍ

تَحَكَّمُ فِي أسَادِهِنَّ كِلابُ

آخر:

لا تَغْتَر ربِبَنِي الزَّمَانِ وَلا تَقُلْ

عِنْدَ الشَّدَائِدِ لِي أَخٌ وَحَمِيمُ

جَرَّبْتُهُمْ فَإِذَا الْمَعَاقِرُ عَاقِرٌ

وَالآلُ آلُ وَالْحَمِيمُ حَمِيمُ

آخر:

وَرُبَّ أَخٍ لَمْ يُدْنِهِ مِنْكَ وَالِدٌ

أَبَرُّ مِن ابْنِ الأُمِّ عِنْدَ النَّوَائِبِ

وَرُبَّ بَعِيدٍ حَاضِرٌ لَكَ نَفْعُهُ

وَرُبَّ قَرِيبٍ شَاهِدٌ مِثْلَ غَائِبِ

ورُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «عليكم بإِخْوَان الصدق فَإِنَّهُمْ زينة فِي الرخاء وعصمة فِي البَلاء» . فإذا عزم الإِنْسَان على اصطفاء الإِخْوَان سبر أحوالهم قبل إخائهم وكشف عَنْ أخلاقهم قبل اصطفائهم. قَالَ بَعْضُهُمْ:

شِعْرًا:

كَمْ مِنْ أَخٍ لَكَ لَسْتَ تُنْكِرُهُ

مَا دُمْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فِي يُسْرِ

مُتَصَنِّعٌ لَكَ فِي مَوَدَّتِهِ

يَلْقَاكَ بِالتَّرْحِيبِ وَالْبِشْرِ

يُطْرِي الْوَفَاءَ وَذَا الْوَفَاء

وَيَلْحِي الْغَدْرَ مُجْتَهِدًا وَذَا الْعَذْرِ

فَارْفُضْ بِإِجْمَالِ مَوَدَّةِ مَنْ

يَقْلِي الْمُقِلَّ وَيَعْشَقُ الْمُثْرِي

وَعَلَيْكَ مَنْ حَالاه وَاحِدَةٌ

فِي الْعُسْرِ مَا كُنْتَ وَبِالْيُسْرِ

آخر:

أَبْلِ الرِّجَالَ إِذَا أَرَدَتَ إِخَاءِهُمْ

وَتَوَسَّمَنَّ أُمُورهُمْ وَتَفَقَّدْ

فَإِذَا ظَفِرْتَ بِذِي الأَمَانَةِ وَالتُّقَى

فَبِهِ الْيَدَيْنِ قَرِيرَ عَيْنٍ فَأشْدُدِ

آخر:

غَايضْ صَدِيقَكَ تَكْشِفْ عَنْ ضَمَائِرِهِ

وَتَهْتَكِ السِّتْر عَنْ مَحْجُوبِ أَسْرَارِ

فَالْعُودُ يُنْبِيكَ عَنْ مَكْنُونِ بَاطِنِهِ

دُخَّانهُ حِينَ تُلْقِيهِ عَلَى النَّارِ

ولا تبعثه الوحدة على الإقدام قبل الخبرة، ولا حُسْن الظَّنِ على الاغترار بالتصنع.

ص: 204

فإن التملق الَّذِي هُوَ القول الحسن مَعَ خبث الْقَلْب، مصائد العقول، والنفاق تدلَيْسَ الفطن، والملق والنفاق سجيتا المتصنع، ولَيْسَ فيمن يكون النفاق والملق سجاياه خَيْر يرجى، ولا صلاح يؤمل بل الشَّر والأَذَى فيه، فليكن اللبيب فطنًا حاذقًا، صَاحِب فراسة لا يُحْسِنُ الظَّنَّ بكل أحد.

شِعْرًا:

فَلا تُلْزِمَنَّ النَّاسَ غَيْرَ طِبَاعِهِمْ

فَتَتْعَبَ مِنْ طُول الْعِتَاب وَيَتْعَبُوا

فَتَارِكْهُمُ مَا تَارَكُوكَ فَإِنَّهُمْ

إلى الشَّرِ مُذْ كَانُوا عَنْ الْخَيْرِ أَقْرَبُ

وَلا تَغْتَررُ مِنْهُمْ بِحُسْنِ بَشَاشَة

فَأَكْثَرُ إِيمَاضِ الْبَوَارق خُلَّبُ

آخر:

وَصَاحِبٌ لِي كَدَّاءِ الْبَطْنِ صُحْبَتُهُ

يَوَدَّنِي كَوِدَادِ الذِّئْبِ لِلرَّاعِي

يُثْنِي عَليَّ جَزَاهُ اللهُ صَالِحَةً

ثَنَاءَ هِنْدٍ عَلَى رَوْحِ بنِ زِنْبَاعِ

شِعْرًا:

إِنِّي لأَعْرِفُ فِي الرِّجَالِ مُخَادِعًا

يُبْدِي الصَّفَاءَ وَوِدُّهُ مَمْذُوقُ

مِثْلُ الْغَدِيرِ يُرِيك قُرْبَ قَرَارِهِ

لِصَفَائِهِ وَالْقَعْرُ مِنْهُ عَمِيقُ

آخر:

رَعَى اللهُ إِخْوَانَ التَّمَلُّقِ إِنَّهُمْ

رَعَى اللهُ إِخْوَانَ التَّمَلُّقِ إِنَّهُمْ

فَلَوْ وَفوا كَنَّا أُسَارَى حُقُوقِهِمْ

تَرَاوحُ مَا بَيْنَ النَّسِيئَةِ وَالنَّقْدِ

وقَالَ الحكماء: اعرف الرجل من فعله، لا من كلامه، وأعرف محبته من عينيه، لا من لِسَانه، وعَلَيْكَ بمن حالاه فِي العسر، واليسر واحدة أي يحبك كُلّ حين، سواء كنت غنيًا أَوْ فقيرًا أما إِخْوَان الرخاء فاتركهم. قَالَ بَعْضُهُمْ:

وَلا خَيْرَ فِي وَدِّ امْرِئٍ مُتَلَوّنٍ

إِذَا الرِّيحُ مَالَتْ مَالَ حَيْثُ تَمِيلُ

جَوَّادٌ إِذَا اسْتَغْنَيْتَ عَنْ أَخْذِ مَالِهِ

وَعِنْدَ احْتِمَالِ الْفَقْرِ عَنْكَ بِخَيْلُ

فَمَا أَكْثَرُ الإِخْوَانِ حِينَ تَعَدُّهُمْ

وَلَكِنَّهُمْ فِي النَّائِبَاتِ قَلِيلُ

على أن الإِنْسَان موسوم بسمَاتَ من قارب، ومنسوب إليه أفاعيل من صَاحِب، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«المرء مَعَ من أحب» . وقَالُوا: ما من شَيْء أدل على شَيْء من الصَاحِب على صاحبه وقديمًا قِيْل:

ص: 205

.. عَنِ الْمَرْءِ لا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ

فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمَقَارِنِ يَقْتَدِي

آخر:

إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ

وَلا تَصْحَب الأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدَى

آخر:

إِذَا بَخِلَ الصَّدِيقُ عَلَيْكَ يَوْمًا

بِشَيْءٍ أَنْتَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ

فَمَثّلْ قَبْرَهُ فِي الأَرْضَ شَخْصًا

وَقُلْ قَدْ مَاتَ لا أَسَفًا عَلَيْهِ

آخر:

النَّاس شِبْهُ ظُرُوف حَشْوِهَا صَبِرٌ

وَفَوْقَ أَفْوَاهِهَا شَيْءٌ مِن الْعَسَلِ

تحلوا لذائقها حَتَّى إِذَا انكشفت

له تبين ما تحويه من دخل

آخر:

وَأَكْثَرْ مَنْ شَاوَرْتَهُ غَيْرُ حَازِمٍ

وَأَكْثَرُ مَنْ صَاحَبْتَ غَيْرُ مُوَافِقِ

إِذَا أَنْتَ فَتَشْتَ الرِّجَالِ وَجَدتَّهُمْ

قُلُوبَ الأَعَادِي فِي جُلُودِ الأَصَادِقِ

آخر:

وَأَعْظم آفَاتِ الرِّجَالِ نِفَاقُهَا

وَأَهْوَنُ مَنْ عَادَيْتَهُ مَن يُدَاهِنُ

آخر:

وَإِنْ قَرَّبَ السُّلْطَانُ أَخْيَارَ قَوْمِهِ

وَاعْرَضَ عَنْ أَشْرَارِهِمْ فَهُوَ صَالِحُ

وَإِنْ قَرَّبَ السُّلْطَانُ أَشْرَارَ قَوْمِهِ

وَاعْرِضَ عَنْ أَخْيَارِهِمْ فَهُوَ طَالِحُ

وَكُلُّ امْرِئٍ يُنْبِيكَ عَنْهُ قَرِينُهُ

وَذَلِكَ أَمْرٌ فِي الْبَرِيَّةِ وَاضِحُ

آخر:

وَإِذَا أَرَدْت تَرَى فَضِيلَة صَاحِبٍ

فَانْظُرْ بِعَيْنِ الْبَحْثِ مَنْ نُدَمَاؤُهُ

فَالْمَرْء مَطْوِيٌ عَلَى عَلاتِهِ

طَيَّ الْكِتَابِ وَصَحْبُهُ عُنْوَانُهُ

آخر:

تَحَرَّ إِذَا صَادَفْتَ مِنْ وِدُّهُ مَحْضُ

يُصَانُ لَدَيْهِ الدِّينُ وَالْمَالُ وَالْعِرْضُ

فَكُلُّ خَلِيلٍ مُنْبِئٌ عَنْ خَلِيلِهِ

كَمَا عَنْ شُؤونِ الْقَلْبِ قَدْ أَنْبَأَ النَّبْضُ

وَبِالصِّدْقِ عَامِلْ مَنْ تُحِبُّ مِن الْوَرَى

وَإِلا فَذَاكَ الْحُبُّ آخِرُهُ الْبُغْضُ

آخر:

تَجَنَّبْ صَدِيقًا مِثْلَ مَا وَاحْذَرْ الَّذِي

يَكُونُ كَعَمَرْوٍ بَيْنَ عُرْبٍ وَأَعْجَمِي

فَإِنَّ قَرِينَ السُّوءِ يُرْدي وَشَاهِدِي

كَمَا شرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنْ الدَّمِ

آخر:

عَلَيْكَ بِأَرْبَابِ الصُّدُورِ فَمَنْ غَدَا

مُضَافًا لأَرْبَابِ الصُّدُورِ تَصَدَّرَا

وَإِيَّاكَ أَنْ تَرْضَى بِصُحْبَة نَاقِصٍ

فَتَنْحَطَّ قَدْرًا مِن عُلاكَ وَتُحْقَرا

فَرَفْعُ أَبُو مَنْ ثُمَّ خَفْضُ مُزَمَّلٍ

يُبَيِّنُ قَوْلِي مُغْرِيًا وَمُحَذِّرَا

والإشارة فِي قوله: «ثُمَّ خفض مزمل " إِلَى قوله امرئ القيس:

ص: 206

.. كَأَنَ أَبَانًا فِي عَرَانِينِ وَبْلِهِ

كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ

وَذَلِكَ أن مزملاً صفةُ لكبير، فكَانَ حقه الرفع ولكن خفض لمجاروته المحفوض.

كَانَ جندب بن عَبْد اللهِ الأنصاري صديقًا لعبد الله بن عباس فقَالَ لَهُ حين ودعه: أوصني يَا ابن عباس فإني لا أدري أنجتمع بعدها أم لا.

فقَالَ: أوصيك يَا جندب ونفسي بِتَوْحِيدِ اللهِ وإخلاص الْعَمَل لله وإقام الصَّلاة وَإِيتَاء الزَّكَاة فَإِنَّ كُلّ خَيْر أتيت بعد هَذِهِ الخصال مقبول وإِلَى اللهِ مرفوع ومن لم يكمل هَذِهِ الأَعْمَال رد عَلَيْهِ ما سواها.

وكن فِي الدُّنْيَا كالغريب المسافر واذكر الموت والْتَهُن الدُّنْيَا عَلَيْكَ فكأنك قَدْ فارقتها وصرت إِلَى غيرها واحتجت إِلَى ما قدمت ولم تنتفع بشَيْء مِمَّا خلفْتَ ثُمَّ افترقا.

كتب عمر إِلَى ابنه عَبْد اللهِ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّ من اتقاه كفاه ومن أقرضه جزاه ومن شكره زاده، فاجعل التَّقْوَى عماد بصرك ونور قلبك.

وأعلم أنه لا عمل لمن لا نية لَهُ، ولا جديد لمن لا خلق لَهُ، ولا إيمان لمن لا أمانة لَهُ، ولا مال لمن لا رفق لَهُ، ولا أجر لمن لا حسُنَّة لَهُ.

اللَّهُمَّ اجعل فِي قلوبنا نورًا فَنَهْتَدِي بِهِ إليك وتولنا بحسن رعايتك حَتَّى نتوكل عَلَيْكَ وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك. فالعزيز من لاذ بعزك والسَّعِيد من التجأ إِلَى حماك وجودك، والذليل من لم تؤيده بعنايتك، والشقي من رضي بالإعراض عَنْ طَاعَتكَ. اللَّهُمَّ نزه قلوبنا عَنْ التعلق بمن دونك وَاجْعَلْنَا مِنْ قوم تحبهم ويحبونك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلكين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 207

" فَصْلٌ "

والمؤاخاة فِي النَّاس على وجهين أحدهما أخوة مكتسبة بالاتفاق الجاري مجرى الاضطرار، وَالثَّانِيَة مكتسبة بالْقَصْد والاختيار، فَأَمَّا المكتسبة بالاتفاق فهي أوكد حالاً، لأنها تنعقَدْ عَنْ أسباب موجودة فِي الْمُتَآخِينَ، تعود المؤاخاة إِلَى تلك الأسباب، وهي موجودة فطرة.

فالمؤاخاة ضرورية لا يمكن دفعًا،كما لا يمكن دفع الإيلام، والمكتسبة بالْقَصْد، تعقَدْ لها أسباب اختيارية، تنقاد إليها، وتعتمد عَلَيْهَا بحسب قوتها وضعفها، وَرُبَّمَا تَكُون تَكَلُّفًا وخديعة، فتصير المؤاخاة معاداة، وما كَانَ جاريًا بِالطَّبْعِ فهو ألزم، مِمَّا هُوَ حادث بالْقَصْد.

إنما كَانَ كَذَلِكَ لأن الإتلاف بالتَّشَاكُلِ والتوافق، والتشاكل بالتجانس فإذا عدم التجانس من وجه، انتفى التشاكل من وجه ومَعَ انتفاء التشاكل يعدم الإئتلاف فثَبِّتْ أن التجانس، وإن تنوع أصل الإخاء وقاعدة الإئتلاف.

وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف فيها ائتلف وما تناكر مَنْهَا اختلف» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، فالظواهر التي تبدو لَنَا ونراها فِي الاجتماعات العامة، ميل كُلّ امرئ إِلَى من يشاكله ويناسبه، روحَا وخلقَا، أَوْ دينَا، وأدبَا أَوْ مبدأ أَوْ مذهبَا أَوْ حرفة وعملاً.

قِيْل: إن إياسًا سافر إِلَى بلد فَلَمَّا وصل وصادف بَعْض أَهْل البلد وجرى بينهم كلام قَالَ إلياس: عرفنا خياركم من شراركم فِي يومين؟ فقِيْل لَهُ: كيف؟ ؟ قَالَ: كَانَ معنا خيارنا وشرارنا فلحق كُلّ بشكله خيارنا لحقوا بخياركم وشرارنا لحقوا بشراركم فألف كُلٌّ شكله. أ.هـ.

شِعْرًا:

وَالأَلْفُ يَنْزِعُ نَحْوَ الآلِفِينَ كَمَا

طَيْرَ السَّمَاءِ عَلَى أُلافِهَا تَقَعُ

ص: 208

آخر:

إِذَا بُلِي اللَّبِيبُ بِقُرْبِ فَدْمِ

تَجَرَّعَ فِيهِ كَاسَاتِ الْحُتُوفِ

فَذُو الطَّبْعِ الْكَثِيفِ بِغَيْرِ قَصْدٍ

يَضُرُّ بِصَاحِبِ الطَّبْعِ اللَّطِيفِ

وَذَلِكَ أَنَّ بَيْنَهُمَا اخْتِلافًا

كَحُمَّى الرّبْعِ فِي فَصْلِ الْخَرِيفِ

آخر:

وَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الْمُزَاحَ فَإِنَّهُ

يُطَمِّعُ فِيكَ الطِّفْلَ وَالرَّجُلَ النَّذْلا

وَيُذَهِّبُ مَاءَ الْوَجْهِ بَعْدَ بَهَائِهِ

وَيُورِثُ بَعْدَ الْعِزِّ صَاحِبَُهُ ذُلا

آخر:

تَوقَّ بَنِي الزَّمَانِ فَكَمْ خَلِيلٍ

مِنْ الْخِلانِ مَذْمُوم الْخَلالِ

وَخَفّفْ مَا اسْتُطَعْتَ فَكُلُّ نَذْلٍ

يَرَى رَدَّ السَّلامِ مِن الثِّقَالِ

وَلا تَنْظُرْ لِجِسْم الْمَرْءِ وَانْظُرْ

دِيَانَتَهُ فَإِنَّ الْجِسْمَ آلِ

وَإِنْ عَايَنْتَ ذَا فِسْقِ وَكُفْرِ

فَخَفْهُ فَذَاكَ أَخْتَلُ مِنْ ذُؤَالِ

آخر:

إِذَا أَنْتَ سَارَرْتَ فِي مَجْلِسٍ

فَإِنَّكَ فِي أَهْلِهِ مُتَّهَمْ

فَهَذَا يَقُولُ قَدْ اغْتَابَنِي

وَذَا يَسْتَرِيبُ وَذَا يَأْثَمُ

آخر:

وَقَدْ تَعَامَى رِجَالٌ لَوْ تَبَيَّنُ لَهُمْ

سَجِيَّةُ النَّاسِ خَافُوا كُلَّ مَنْ أَمِنُوا

ذَمَمْتُ وَقْتَكَ أَنْ نَابَتْكَ نَائِبَةٌ

بِمِثْلِ مَا تَشْتَكِيهِ يُعْرَفُ الزَّمَنُ

خِفْ مِنْ جَلِيسِكَ وَاصْمُتْ إِنْ بُلِيتَ بِهِ

فَالْعِيُّ أَفْضَلُ مِمَّا يَحْبِكُ اللَّسِنُ

آخر:

كَانَ إِجْتِمَاعُ النَّاسِ فِيمَا مَضَى

يُورِثُ لِلْبَهْجَةِ وَالسَّلْوَةْ

فَانْقَلَبَ الأَمْرُ إِلَى ضِدِّهِ

فَصَارَت السَّلْوَةُ فِي الْخَلْوَةْ

شِعْرًا:

مُخَالِطُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا عَلَى خِطَرٍ

وَفِي بَلاءٍ وَصَفْوٍ شِيبَ بِالْكَدَرَ

كَرَاكِبِ الْبَحْرِ إِنْ تَسْلَمْ حُشَاشَتُهُ

فَلَيْسَ يَسْلَمُ مِنْ خَوْفِ وَمِنْ حَذَرِ

فتَرَى المجتمعين بعد مدة وجيزة من بدئ الاجتماع، قَدْ انقسموا جماعات، تتحدث كُلّ جماعة فِي شؤونها الخاصة، وأمورها المشتركة، وتتغير نفوسها إِذَا رأت دخيلاً بين جماعتها لا تربطه بِهُمْ صلة، ولا تجمعهم به جامعة، وعِنْدَمَا تركب فِي قطار، أَوْ سيارة أَوْ سفينة، أَوْ فِي مجلس من المجالس، تَرَى نفسك منجذبة إِلَى بَعْض الحاضرين مشمئزةً ونافرةً من الآخرين، وَرُبَّمَا أنه لم يكن قبل ذَلِكَ اجتماع ولا تعارف، ولا تعاد وتخاصم.

ص: 209

فالسِّرّ فِي هَذَا ما بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم بهَذَا الْحَدِيث فهو يَقُولُ: «إن أرواح العباد ونفوسهم جنود مجتمعة، وجيوش مجيشة فالتي بينها تعارف وتشاكل وتوافق وتناسب، يألف بعضها بَعْضًا، ويسر باجتماعه، ويفرح لقائه، لاتفاق فِي المبدأ وتقارب فِي الروح» .

روى أبو يعلى فِي مسنده عَنْ عمرة بنت عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَتْ: كَانَتْ امرأة بمَكَّة مزاحة، فنزلت على امرأة مثلها فِي الْمَدِينَة، فبلغ ذَلِكَ عَائِشَة رضي الله عنها فقَالَتْ: صدق حبي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف مَنْهَا ائتلف، وما تناكر مَنْهَا اختلف» .

فالأخيار الأَبْرَار الأتقياء الأمجاد الأطهار، إِذَا وجدوا فِي مجتمَعَ جذبوا أشباهم، أَوْ انجذبوا إليهم، وسرى بينهم تيار من المحبة جمَعَ قلوبهم وقوَّى روابطها وثَبّتْ صلتها.

قَالَ بَعْضهمْ:

لَعَمْرُكَ إِنَّ الْقَلْبَ نَحْوَكَ شَيِّقٌ

وَأَنْتَ بِمَا أَلْقَى مِن الشَّوْقِ أَعْلَمُ

فُؤُدُّكَ عَنْ وِدِّي إِلَيْكَ مُبَلِّغٌ

وَقَلْبُكَ عَنْ قَلْبِي إِلَيْكَ يُتَرْجِمُ

وكَذَلِكَ الأَشْرَار والفجار والفسقة والظلمة، إِذَا حضروا بناد بادر إليهم الفسقة، والمجرمون، والسفلل، واللؤماء، وجذبهم قرناؤهم، ونفروا ممن لا يتخلق بأخلاقهم، ولا يسير فِي ركابهم.

قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لو أن مؤمنًا دخل إِلَى مجلس فيه مائة منافق، ومُؤْمِن واحد لجَاءَ حَتَّى يجلس إليه، ولو أن منافقًا دخل إِلَى مجلس فيه مائة مُؤْمِن ومنافق واحد، لجَاءَ حَتَّى يجلس إليه» .

وَهَذَا يدل على أن شبه الشيء منجذب إليه بِالطَّبْعِ، وإن كَانَ هُوَ لا يشعر به، وكَانَ مالك بين دينار يَقُولُ: «لا يتفق إثنان فِي عشرة إِلا وفي أحدهما

ص: 210

وصف عَنْ الآخِر، وأن أجناس الناس كأجناس الطير ولا يتفق نوعان من الطير فِي الطيران إِلا وبينهما مناسبة» .قَالَ: فرأى يَوْمًا غربًا مَعَ حمامة فعجب من ذَلِكَ فقَالَ: اتفقا وليسا من شكل واحد، ثُمَّ طارا فإذا هما أعرجان فقَالَ: من ها هنا اتفقا. وقَالَ بَعْض الحكماء: كُلّ إنسان إِلَى شكله كما أن كُلّ طير يطير مَعَ جنسه. قَالَ بَعْضُهُمْ:

(لِكُلِّ امْرِئٍ شَكْلٌ يَقَرُ بِعَيْنِهِ

وَقُرَّةُ عَيْنِ الْفَسْلِ أَنْ يَصْحَبَ الْفَسْلا)

وَيَقُولُ الآخر:

وَلَيْسَ أَخُوكَ الدَّائِمُ الْعَهْدِ بِالَّذِي

يَذِمُّكَ إِنْ وَلَّى وَيُرْضِيكَ مُقْبِلاً

وَلَكِنَّهُ النَّائِي إِذَا كُنْتَ آمِنًا

وَصَاحِبُكَ الأَدْنَى إِذَا الأَمْر مُعْضِلاً

آخر:

مَنْ خَصَّ بِالشُّكْرِ الصَّدِيقَ فَإِنَّنِي

أَحْبُو بِخَالِصِ شُكْرِيَ الأَعْدَاءَ

نَكِّرُوا عَليَّ مَعَائِبِي فَحَذِرْتُهَا

وَنَفَيْتُ عَنْ أَخْلاقِي الأَقْذَاءَ

وَلَرُبَّمَا انْتَفَعَ الْفَتَى بِعَدُوِّهِ

وَالسُّمُّ أَحْيَانًا يَكُون شِفَاءَ

آخر:

وَكَمْ مِنْ عَدُوّ صَارَ بَعْدَ عَدَاوَةِ

صَدِيقًا مُجِلاً فِي الْمَجَالِسِ مُعَظِّمَا

وَلا غُرْوَ فَالْعَنْقُودُ مِنْ بَعْد كَرْمِهِ

يُرَى عِنَبًا مِنْ بَعْدِ مَا كَانَ حِصْرِمَا

آخر:

لَيْسَ الصَّدِيقُ الَّذِي يَلْقَاكَ مُتْبَسِمًا

وَلا الَّذِي بِالتَّهَانِي وَالسُّرُورِ يُرَى

إِنَّ الصَّدِيقُ الَّذِي يُولِي نَصِيحَتُهُ

وَإِنْ عَرَتْ شِدَّةُ أَغْنَى بِمَا قَدِرَا

آخر:

عَاشِرْ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَبْقَى مَزَدَّتُهُ

فَأَكْثَرُ النَّاسِ جَمْعٌ غَيْرِ مُؤْتَلِفِ

مِنْهُمْ صَدِيقٌ بِلا قَافٍ وَمَعْرِفة

بِغَيْرِ فَاءٍ وَإِخْوَانٌ بِلا أَلِفِ

آخر:

إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يُنْصِفْ أَخَاهُ وَلَمْ يَكُنْ

لَهُ غَائِبًا يَوْمًا كَمَا هُوَ شَاهَدُ

فَلا خَيْرَ فِيهِ فَالْتَمِسْ غَيْرَهُ أَخًا

كَرِيمًا عَلَى صِدْقِ الإِخَاءِ يُسَاعِدُ

آخر:

وَقُلْتُ أَخِي قَالُوا أَخَ مِنْ قَرَابَةً

فَقُلْتُ لَهُمْ إِنَّ الشُّكُولَ أَقَارِبُ

نَسِيبِي فِي رَأْي وَعَزْمِي وَهِمَّتِي

وَإِنْ فَرَّقْتَنَا فِي الأُصُولِ الْمَنَاسِبُ

وإذا عرفت رجالاً بالبر والتقى والاستقامة ونفرت مِنْهُمْ نفسك ونبأ عنهم

ص: 211

قلبك، فاعْلَمْ إِنَّكَ مريض، أما مرض شبهة وإِلا مرض شهوة، وأنك ناقص معيب، دونهم فِي الطهارة، فداو نفسك من عيوبها، وطهرها من أوزارها حَتَّى تتقابر الأرواح وتتشاكل النُّفُوس، فتحل الألفة محل النفرة.

وإذا رَأَيْت نفسك تميل إِلَى من تعرفهم بالشَّر والفجور، والفسق والخلاعة والعهر فإتهم نفسك واستدرك عمرك قبل الفوت، وابتعد عنهم كُلّ البعد، وتب إِلَى الله واسأله أن يعافيك مِمَّا ابتلاهم.

وإذا رَأَيْت نفسك تحدثك بأنك البر الأمين التقي المخلص أَوْ الإِنْسَان المهذب، فكذب نفسك فِي الإعجاب، وفي هَذَا الوهم الكاذب، وأعتقَدْ إِنَّكَ غر مخدوع، وأبله مفتون، ففتش فِي زوايا قلبك، تجد للباطل ركنًا، وللشيطان حظًا، وللفساد جوًا وَهَذَا ما جذب قلبك إِلَى الأَشْرَار.

وإذا رأيتك تميل إِلَى الأخيار، وتحب مجالسهم، وتنجذب نفسك إليهم، مَعَ علمك بسوء سيرتك واعوجاج طريقتك، فاعْلَمْ أن فيك بقبة خَيْر، ولا يزال فيك أمل فَرَبِّ هَذِهِ البقية وَقَوِّ هَذَا الأمل، حَتَّى يرحل عَنْكَ الشَّر، وتدخل فِي حزب الْخَيْر.

وكَذَلِكَ إِذَا رَأَيْت فِي نفسك بَعْض الميل للمجرمين، وأَنْتَ طاهر تقي نقي، فاعرف أن الشيطان قَدْ نفث فيك نفثة، وثغر فِي قلبك يغرة، فتدارك أمرك وتحصن منه واستعذ بِاللهِ قَالَ الله تَعَالَى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} الآيَة، وقَالَ:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إِلَى آخر السورة أ. هـ. من الأَدَب النبوي.

وَعَنْ أَبِي ذر أنَّه قَالَ: الصَاحِب الْخَيِّرُ خَيْر من الوحدة، والوحدة خَيْر من جلَيْسَ السُّوء، ومملي الْخَيْر خَيْر من الساكت، والساكت خَيْر من مملي الشَّر. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.

ص: 212

" فَصْلٌ "

قَالَ بَعْض الحكماء: عداوة العاقل أقل ضررًا من مودة الأحمق لأن الأحمق ربما ضر وَهُوَ يقدر أن ينفع لعدم تمييزه بين النفع والضر فيتجاوز الحد، والعاقل لا يتجاوز الحد فِي مضرته فمضرته لها حد يقف عَلَيْهِ العقل إِذَا انتهى إلى ذَلِكَ الحد.

ومضرة الجاهل لَيْسَتْ بذات حد والمحدود أقل ضررًا مِمَّا هُوَ غير محدود قَالَ بَعْضُهُمْ:

شِعْرًا:

وَلأَنْ يُعَادِي عَاقِلاً خَيْرٌ لَهُ

مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَدِيقٌ أَحْمَقُ

فَارْغَبْ بِنَفْسِكَ أَنْ تُصَادِقَ جَاهِلاً

إِنَّ الصَّدِيقَ عَلَى الصَّدِيقِ مُصَدِّقُ

وقَالَ بَعْض الأدباء من أشار عَلَيْكَ بمصاحبة جاهل لم يخل من أمرين إما أن يكون صديقًا جاهلاً، ما يعرف ولا يميز بَيْنَ مَنْ يَصْلُحُ لِلصُّحْبَةِ وَمَنْ لا يَصْلُحُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُ هَذَا الْمُشِيرُ عَلَيْكَ عَدُوًّا لَكِنَّهُ عَاقِلٌ لأَنَّهُ يُشِيرُ بِمَا يَضُرُكَ وَيَحْتَالُ عَلَيْكَ بِالأَشْيَاءِ الَّتِي تَضُرُكَ، وَقَدِيمًا قِيْل:

وَلا تَصْحَب الحمقى فذو الجهل أن يروا

صلاحًا لأمرٍ يَا أَخَا الْحَزْمِ مُفْسِد

ويقول الآخر:

فعداوة مِنْ عَاقِلٍ مُتَجَمِّلٍ

أَوْلَى وَأَسْلَم مِنْ صَدَاقَةِ أَحْمَقِ

وقَالَ بَعْضهمْ: الأَصْدِقَاءُ ثَلاثَةٌ أَحَدُهُمْ كَالْغِذَاءِ لا بُدَّ مِنْهُ، وَالثَّانِي كَالدَّوَاءِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَالثَّالِثُ كَالدَّاءِ لا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ قَط. وقَدْ قِيْلَ: مِثْل جُمْلَةِ النَّاسِ كَمِثْل الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ فَمِنْهَا مَا لَهُ ظِلّ ولَيْسَ لَهُ ثمر وَهُوَ مثل الَّذِي ينتفع به فِي الدُّنْيَا دون الآخِرَة، فَإِنَّ نفع الدُّنْيَا كالظِلّ السريع الزَوَال، ومنها ما لَهُ ثمر ولَيْسَ لَهُ ظِلّ.

ص: 213

ومنها ما لَيْسَ لَهُ واحد منهما كأم غيلان تمزق الثياب ولا طعم فيها ولا شراب ومثله من الْحَيَوَان الحية والعقرب والفأر ومثله فِي النَّبَات الخنيز فإنه يضيق على الزرع ويضر من لمسه ولا يؤكل ولا لَهُ تمر يؤكل.

وَيَشْرَبُ مَاءَ الزَّرع وَيَعُوقُ نُمُوَّهُ

إِذَا فَلا بُدَّ مِنْ الإِخْتِيَار قَبْلَ الْمُعَامَلَة

شِعْرًا:

لا تَشْكُرَنَّ فَتىً حَتَّى تُعَامِلَهُ

وَتَسْتَبِينَ مِن الْحَالَينِ إِنْصَافَا

فَقَدْ تَرَى رَجُلاً بَادِي الصَّلاحِ فَإِنْ

عَامَلْتَهُ فِي حَقِيرٍ غَشَّ أَوْ حَافَا

آخر:

النَّاسُ شَتَّى إِذَا مَا أَنْتَ ذُقْتَهُمُ

لا يَسْتَوُونَ كَمَا لا تَسْتَوِي الشَّجَرُ

هَذَا لَهُ ثَمَرٌ حُلْوٌ مَذَاقَتُهُ

وَذَاكَ لَيْسَ لَهُ طَعْمٌ وَلا ثَمَرُ

إذا فهمت تفاوت النَّاس فِي العقل والدين فعَلَيْكَ قبل الصداقة أن تفحص عَنْ من تريد صداقته وإخاءه فإذا حصلت على من ترضاه دينًا وعقلاً وأدبًا فألزمه، كما قِيْل:

أَبْلِ الرِّجَالَ إِذَا أَرَدْتَ إِخَاءَهُمْ

وَتَوَسَّمَنَّ أُمُورَهُمْ وَتَفَقَّدِ

فَإِذَا ظَفَرْتَ بِذِي الأَمَانَةِ وَالتُّقَى

فِبهِ الْيَدَيْنِ قَرِيرَ عَيْنٍ فَاشْدُدِ

آخر:

لا تَمْدَحَنَّ امْرأً حَتَّى تُجَرِّبَهُ

وَلا تَذُمَنَّهُ مِنْ غَيْرِ تَجْرِيبِ

فَإِنَّ حَمْدَكَ مَنْ لَمْ تَبْلُهُ سَرَفٌ

وَإِنَّ ذَمَّكَ بَعْدَ الْحَمْدِ تَكْذِيبُ

آخر:

جَامِلْ أَخَاكَ إِذَا اسْتَربْتَ بِوِدِّهِ

وَانْظُرْ بِهِ عُقْبَى الزَّمَانِ يُعَاوِدُ

فَإِنْ اسْتَمَرَّ عَلَى الْفَسَادِ فَخَلَّهِ

فَالْعُضْوُ يُقْطَعُ لِلْفَسَادِ الزَّائِدِ

وقَالَ ابن القيم رحمه الله: ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة، ويجعل النَّاس فيها أربعة أقسام: متى خلط أحد الأقسام بالآخِر ولم يميز بينهما دخل عَلَيْهِ الشَّر.

أحدهما: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عَنْهُ فِي الْيَوْم فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثُمَّ إِذَا احتاج إليه خالطه هكَذَا على الدوام. وَهَذَا الضرب أعز من

ص: 214

الكبريت الأحمر وهم الْعُلَمَاء بِاللهِ وأمره، ومكايد عدوه، وأمراض الْقَلْب وأدويتها الناصحون لله ولرسوله ولخلقه. فهَذَا الضرب فِي مخالطتهم الرِّبْح كُلّ الرِّبْح.

القسم الثاني: من مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عَنْدَ المرض فما دمت صحيحًا فلا حَاجَة لَكَ فِي خلطته، وهم من لا يستغنى عَنْ مخالطتهم فِي مصلحة المعاش، وقيام ما أَنْتَ محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضت حاجتك من مخالطة هَذَا الضرب بقيت مخالطتهم من القسم الثالث: وهم من مخالطتهم كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه.

فمِنْهُمْ من مخالطته كالداء العضال، والمرض المزمن، وَهُوَ من لا تربح عَلَيْهِ فِي دين ولا دنيا، ومَعَ ذَلِكَ فَلا بُدَّ مِنْ أن تخسر عَلَيْهِ الدين والدُّنْيَا أَوْ أحدهما، فهَذَا إِذَا تمكنت منك مخالطته واتصلت، فهي مرض الموت المخوف.

وَمِنْهُمْ من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربه عليك فإذا فارقك سكن الألم.

وَمِنْهُمْ من مخالطته حمى الروح، وَهُوَ الثقِيْل البغيض، الَّذِي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نَفْسهُ فيضعها منزلتها، بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قُلُوب السامعين، مَعَ إعجابه بكلامه وفرحه به.

فهو يحدث من فيه كُلَّما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأَرْض ويذكر عَنْ الشَّافِعِي رحمه الله أنه قَالَ: ما جلس إِلَى جانبي ثقِيْل إِلا وجدت الجانب الَّذِي يليه أنزل من الجانب الآخِر.

ص: 215

قَالَ بَعْضهمْ:

يَا مَنْ تَبَرَّمَتِ الدُّنْيَا بِطَلْعَتِهِ

كَمَا تَبَرَّمَتِ الأَجْفَانُ بِالسُّهُدِ

يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مُخْتَالاً فَأَحْسِبُه

لِثقْل طَلْعَتِهِ يَمْشِي عَلَى كَبِدِي

وقَالَ ابن القيم:

ورَأَيْت يَوْمًا عَنْدَ شيخنا قدس الله روحه رجلاً من هَذَا الضرب، والشَّيْخ يحمله، وقَدْ ضعفت القوى عَنْ حمله، فالتفت إلي وقَالَ: مُجَالَسَة الثقِيْل حمى الربع، ثُمَّ قَالَ: لكن قَدْ أدمنت أرواحنا على الحمى، فصَارَت لها عادة أَوْ كما قَالَ:

قال بعضهم:

مَا حِيلَتِي فِي ثَقِيْلٍ قَدْ بُلِيتَ بِهِ

مِنْ قُبْحِ طَلْعَتِهِ يَسْتَحْسَنُ الرَّمَدُ

قَدْ زَادَ فِي الثِّقْلِ حَتَّى مَا يُقَارِبُه

فِي ثِقْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى وَلا أَحُدُ

ومرض الشعبي فعاده ثقِيْل فأطال الجلوس ثُمَّ قَالَ للشعبي: ما أشد ما مر بك فِي مرضك؟ قَالَ: قعودك عِنْدِي.

ومر به صديق لَهُ وَهُوَ بين ثقِيْلين فقَالَ لَهُ: كيف الروح؟ فقَالَ: فِي النزع يعني فِي شدة عظيمة.

وبالجملة: فمخالطة كُلّ مخالف حمى للروح، فعرضية ولازمة.

ومن نكد الدُّنْيَا على الْعَبْد أن يبتلى بواحد من هَذَا الضرب، ولَيْسَ لَهُ بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف، حَتَّى يجعل الله لَهُ من أمره فرجًا ومخرجًا.

القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلته بمنزلة أكل السم، فَإِنَّ اتفق لآكله ترياق، وإِلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هَذَا الضرب فِي النَّاس لا كثرهم الله.

ص: 216

وهم أَهْل البدع والضلالة، والصادون عَنْ سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعون إِلَى خلافها، الَّذِي يصدون عَنْ سبيل ويبغونها عوجًا، فيجعلون البدعة سُنَّة، والسُنَّة بدعة، والمعروف منكرًا والْمُنْكَر معروفًا.

إن جردت التَّوْحِيد بينهم قَالُوا: تنقصت جناب الأَوْلِيَاء والصالحين.

وإن جردت المتابعة لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: أهدرت الأَئِمَّة المتبوعين.

وإن وصفت الله بما وصف به نَفْسهُ وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير قَالُوا: أَنْتَ من المشبهين.

وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عَنْهُ ورسوله من الْمُنْكَر قَالُوا: أَنْتَ من المفتونين.

وإن تبعت السُنَّة وتركت ما خالفها قَالُوا: أَنْتَ من أَهْل البدع المضلين.

وإن انقطعت إِلَى الله تَعَالَى، وخليت بينهم وبين جيفة الدُّنْيَا قَالُوا: أَنْتَ من المبلسين.

وإن تركت ما أَنْتَ عَلَيْهِ واتبعت أهواءهم فأَنْتَ عَنْدَ الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين.

فالحزم كُلّ الحزم: التماس مرضاة الله تَعَالَى ورسوله بإغضابهم، وأن لا تشتغل باعتابهم، ولا باستعتابهم، ولا تبالي بذمهم ولا بغضهم فإنه عين كمالك كما قَالَ:

وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِص

فَهِيَ الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّي فَاضِل

وَقَالَ آخر:

وَقَدْ زَادَنِي حُبًّا لِنَفْسِي أَنَّنِي

بَغِيضٌ إِلَى كُلِّ امْرِئِ غَيْرِ طَائِلِ

ص: 217

فمن أيقظ بواب قَلْبهُ وحارسه من هَذِهِ المداخل الأربعة التي هِيَ أصل بَلاء العَالِم.

وهي: فضول النظر، والكلام، والطعام، والمخالطة واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحزره من الشيطان فقَدْ أخذ بنصيبه من التَّوْفِيق. وسد عَنْ نَفْسهُ أبواب جهنم، وفتح عَلَيْهَا أبواب الرحمة، وانغمر ظاهره وباطنه.

ويوشك أن يحمد عَنْدَ الْمَمَات عاقبة هَذَا الدواء، فعَنْدَ الْمَمَات يحمد القوم التقي، وفي الصباح يحمد القوم السري، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لا رب غيره ولا إله سواه. أ. هـ.

اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات ويا سامَعَ الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يَا خالق الأَرْض والسماوات أَنْتَ الله الأحد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن لَهُ كفوًا أحد الوهاب الَّذِي لا يبخل والحليم الَّذِي لا يعجل لا رادَّ لأَمْرِكَ ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" موعظة "

عباد الله لا شَيْء أغلى عليكم من أعماركم وأنتم تضيعونها فيما لا فائدة فيه. ولا عدو أعدى لكم من إبلَيْسَ وأنتم تطيعونه، ولا أضر عليكم من موافقة النفس الإمارة بالسُّوء وأنتم تصادقونها، لَقَدْ مضى من أعماركم الأطايب، فما بقي بعد شيب الذوائب.

يا حاضر الجسم والْقَلْب غائب، اجتماع العيب مَعَ الشيب من أعظم المصائب، يمضي زمن الصبا فِي لعب وسهو وغَفْلَة، يَا لها من مصائب، كفى زَاجِرًا وَاعِظاً تشيب منه الذوائب، يَا غافلاً فاته الأرباح وأفضل

ص: 218

المناقب، أين البُكَاء والحزن والقلق لخوف العَظِيم الطالب أين الزمان الَّذِي فرطت فيه ولم تخش العواقب، أين البُكَاء دمًا على أوقات قتلت عَنْدَ التلفزيون والمذياع والكرة والسينماء والفيديو والخمر والدخان والملاعب واللعب بالورق والقِيْل والقَالَ.

كم فِي يوم الحَسْرَة والندامة من دمع ساكب على ذنوب قَدْ حواها كتاب الكاتب، من لَكَ يوم ينكشف عَنْكَ غطاؤك فِي موقف المحاسب، إِذَا قِيْل لَكَ: ما صنعت فِي كُلّ واجب، كيف ترجو النجاة وأَنْتَ تلهو بأسر الملاعب، لَقَدْ ضيعتك الأماني بالظن الكاذب، أما علمت أن الموت صعب شديد المشارب، يلقي شره بكأس صدور الكتائب، وأنه لا مفر منه لهارب فَانْظُرْ لنفسك واتق الله أن تبقى سَلِيمًا من النوائب، فقد بنيت كنسج العنكوت بيتًا، أين الذين علو فوق السفن والمراكب أين الَّذِينَ علو على متون النجائب، هجمت عَلَيْهمْ الْمَنَايَا فأصبحوا تحت النصائب وأَنْتَ فِي أثرهم عَنْ قريب عاطب، فَانْظُرْ وتفكر واعتبر وتدبر قبل هجوم من لا يمنع عَنْهُ حرس ولا باب ولا يفوته هرب هارب.

اللَّهُمَّ يسر لَنَا سبيل الأَعْمَال الصالحات وهيئ لَنَا من أمرنا رشدًا واجعل معونتك العظمى لَنَا سندًا واحشرنا إِذَا توفيتنا مَعَ عبادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

شِعْرًا:

وَكَيْفَ قَرَّتْ لأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْيُنُهُمْ

أَوْ اسْتَلَذَّوْا لَذِيذَ النَّوْمِ أَوْ هَجَعَوا

وَالْمَوْتُ يُنْذِرُهُمْ جَهْرًا عَلانِيَةً

أَوْ كَانَ لِلْقَوْمِ أَسْمَاعٌ لَقَدْ سَمِعُوا

وَالنَّارُ ضَاحِيَةٌ لا بُدَّ مَوْرِدُهُمْ

وَلَيْسَ يَدْرُونَ مَنْ يَنْجُو وَمَنْ يَقَعُ

قَدْ أَمْسَتْ الطَّيْرُ وَالأَنْعَامُ آمِنَةً

وَالنُّونُ فِي الْبَحْرِ لا يُخْشَى لَهَا فَزَعُ

ص: 219

وَالآدَمِيُّ بِهَذَا الْكَسْبِ مُرْتَهِنٌ

لَهُ رَقِيبٌ عَلَى الأَسْرَارِ يَطَّلِعُ

حَتَّى يَرَى فِيهِ يَوْمَ الْجَمْعِ مُنْفَرِدًا

وَخَصْمُهُ الْجِلْدُ وَالأَبْصَارُ وَالسَّمْعُ

وَإِذْ يَقُومُونَ وَالأَشْهَادُ قَائِمَةً

وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ وَالأَمْلاكُ قَدْ خَشعُوا

وَطَارَتْ الصُّحُفُ فِي الأَيْدِي مُنْتَشِرَةً

فِيهَا السَّرَائِرُ وَالأَخْبَارُ تَطَّلِعُ

فَكَيْفَ بِالنَّاسِ وَالأَنْبَاءُ وَاقِعَةٌ

عَمَّا قَلِيلٍ وَمَا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ

أَفِي الْجِنَانِ وَفَوْزٍ لا انْقِطَاعَ لَهُ

أَمْ فِي الْجَحِيمِ فلا تُبْقِي وَلا تَدَعُ

تَهْوِي بُسُكَّانِهَا طَوْرًا وَتَرْفُعُهُمْ

إِذَا رَجَوْا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا

طَالَ الْبُكَاءُ فَلَمْ يَنْفَعْ تَضَرُّعُهُمْ

هَيْهَاتَ لا رِقَّةٌ تُغْنِي وَلا جَزَعُ

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وفي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار، اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك الفائزين برضوانك، وَاجْعَلْنَا مِنْ المتقين الَّذِينَ أعددت لَهُمْ فسيح جنانك، وأدخلنا بِرَحْمَتِكَ فِي دار أمانك، وعافنا يَا مولانَا فِي الدُّنْيَا والآخِرَة مِنْ جَمِيعِ البلايا، وأجزل لَنَا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إِلَى وجهك الكريم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ "

وقَالَ ابن القيم: أصل الْخَيْر والشَّر من قبل الفكر، فَإِنَّ الفكر مبدأ الإرادة والطلب فِي الزهد، والترك، والحب والبغض وأنفع الفكر فِي مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هِيَ أجل الأفكار، ويليها أربعة، فكر فِي مصالح الدُّنْيَا وطرق تحصيلها وفكر فِي مفاسد الدُّنْيَا وطرق احتراز مَنْهَا فعلى هَذِهِ الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء.

ص: 220

ورأس القسم الأول، الفكر فِي آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه وطرق العلم به، وبأسمائه وصفاته من كتابه وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم وما والاهما، وَهَذَا الفكر يثمر لصاحبه المحبة، والمعرفة، فإذا فكر فِي الآخِرَة وشرفها ودوامها وفي الدُّنْيَا وخستها وفنائها أثمر لَهُ ذَلِكَ الرغبة فِي الآخِرَة والزهد فِي الدُّنْيَا.

وكُلَّما فكر فِي قصر الأمل، وضيق الوَقْت، أورثه ذَلِكَ الجد والاجتهاد، وبذل الوسع فِي اغتنام الوقت.

وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها بعد موتها وسفولها وتجعله في واد والناس في واد.

قَالَ بعضهم:

فَكَّرْتُ فِي الْجَنَّةِ الْعُلْيَا فَلَمْ أَرَهَا

تَنَالَ إِلا عَلَى جَسْرٍ مِن التَّعَبِ

آخر:

إِنَّ امْرَأً بَاعَ أُخْرَاهُ بِفَاحِشَةٍ

مِن الْفَوَاحِشَ يَأْتِيهَا لِمَغْبُونُ

وَمَنْ تَشَاغَلَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا

عَنْ جَنَّةِ مَا لَهَا مِثْلٌ لِمَفْتُونُ

وَكُلُّ مَنْ يَدَّعِي عَقْلاً وَهِمَّتُهُ

فِيمَا يُبْعَدُ عَنْ مَوْلاهُ مَجْنُونُ

آخر:

يَا مَنْ يُعَانِقُ دُنْيًا لا بَقَاءَ لَهَا

يُمْسِي وَيُصْبِحُ فِي دُنْيَاهُ سَفَّارَا

هَلا تَرَكْتَ لَدَى الدُّنْيَا مُعَانَقَةً

حَتَّى تُعَانِقَ فِي الْفِرْدَوْسِ أَبْكَارَا

إِنْ كُنْتَ تَبْغِي جِنَانَ الْخُلْدِ تَسْكُنُهَا

فَاطْلُب رِضَى خَالِق الْجَنَّاتِ وَالنَّارَا

وبإزاء هَذِهِ الأفكار الرديئة التي تجول فِي قُلُوب أكثر هَذَا الخلق كالفكر فيما يكلف الفكر فيه، ولا أعطى الإحاطة به من فضول العلم الَّذِي لا ينفع، كالفكر فِي كيفية ذات الله وصفاته مِمَّا لا سبيل للعقول إِلَى إدراكه به.

ومنها الفكر فِي الصناعات الدقيقة التي لا تنفع بل تضر، كالفكر فِي الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال، والتصاوير. قُلْتُ: وكل أنواع الملاهي.

ومنها الفكر فِي العلوم التي لو كَانَتْ صحيحة لم يعطي الفكر فيها النفس كمالاً ولا شرفًا كالفكر فِي دقائق المنطق، والعلم الرياضي، والطبيعي، وأكثر

ص: 221

علوم الفلاسفة التي لو بلغ الإِنْسَان غايتها لم يكمل بذَلِكَ، ولم يزك نَفْسهُ.

ومنها الفكر فِي الشهوات، واللذات وطرق تحصيلها، وَهَذَا وإن كَانَ للنفس فيه لذة لكن لا عاقبة لَهُ ومضرته فِي عاقبة الدنيا قبل الآخِرَة أضعاف مسرته.

ومنها الفكر فيما لم يكن لو كَانَ كيف كَانَ، كالفكر فيما إِذَا صار ملكًا أَوْ وَجَدَ كنزًا أَوْ ملك ضيعة ماذا يصنع وكيف يتصرف، ويأخذ ويعطي وينتقم ونحو ذَلِكَ من أفكار السفل.

ومنها الفكر فِي جزئيات أحوال النَّاس، ومجرياتهم، ومداخلتهم ومخارجهم، وتوابع ذَلِكَ من فكر النُّفُوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخِرَة.

ومنها الفكر فِي دقائق الحيل، والمكر، التي يتوصل بها إِلَى أغراضه وهواه مباحة كَانَتْ أَوْ محرمة.

ومنها الفكر فِي أنواع الشعر، وصروفه وأفانينه فِي المدح والهجَاءَ والغزل والمراثي ونحوها، فإنه يشغل الإِنْسَان عَنْ الفكر فيما فيه سعادته وحَيَاتهُ الدائِمَّة.

ومنها الفكر فِي المقدرات الذهنية التي لا وجود لها فِي الخارج ولا بِالنَّاسِ حَاجَة إليها البتة، وَذَلِكَ موجود فِي كُلّ علم حَتَّى فِي علم الفقه والأصول والطب، فكل هَذِهِ الأفكار مضرتها أرجح من منفعتها ويكفي فِي مضرتها شغلها عَنْ الفكر فيما هُوَ أولى به، وأَعُود عَلَيْهِ بالنفع عاجلاً وآجلاً.أ. هـ.

شِعْرًا:

يَا غَافِلاً عَنْ صُرُوفِ الْوَقْتِ فِي سِنَةٍ

الْوَقْتَ يُوقِظُ الآيَاتِ وَالْعِبَرِ

كَمْ ذَا تَنَامُ وَعَيْنُ الْوَقْتِ سَاهِرَةٌ

لَهُ حَوَادِثُ فِي الْغُدْوَاتِ وَالْبُكَرِ

لا تَأَمن الْوَقْتَ وَأَحْذَرْ مِنْ تَقَلُّبِهِ

فَشِيمَةُ الْوَقْتُ شَوْبُ الصَّفْوِ بِالْكَدَرِ

ص: 222

وَارْغَبْ بِنَفْسِكَ عَمَّا سَوْفَ تُدْرِكُه

فِعْلَ اللَّبِيبِ أَخِي التَّحْقِيقِ وَالنَّظَرِ

مَاذَا يَغُرُّكَ مِنْ دَارِ الْفَنَاءِ وَمِنْ

عُمْر يَمُرُّ كَمَثْلِ اللَّمْحِ بِالْبَصَرِ

فَامْهَدْ لِنَفْسِكَ فَالسَّاعَاتُ فَانِيَةٌ

وَالْعُمْرُ مُنْتَقِصٌ وَالْمَوْتُ فِِي الأَثَرِ

آخر:

يَا مَنْ تَبَجَّحَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا

كُنْ مِنْ صُرُوفِ لَيَالِيهَا عَلَى حَذَرِ

وَلا يَغُرَّنَكَ عَيْشٌ إِنْ صَفَا وَعَفَا

فَالْمَرْءُ مِنْ غُرر الأَيَّامِ فِي غَرَرِ

إِنَّ الزَّمَانَ كَمَا جَرَّبْتَ خِلْقَتَهُ

مُقَسَّمُ الأَمْرِ بَيْنَ الصَّفْوِ وَالْكَدَرِ

اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وَوَفِّقْنَا للقيام بحقك، وخلصنا من حقوق خلقك، وبارك لَنَا فِي الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك، يَا خَيْر من دعاة داع وأفضل من رجاه راج يَا قاضي الحاجات، ومجيب الدعوات، هب لَنَا ما سألناه، وحقق رجاءنا فيما تنميناه، يَا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما فِي صدور الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ "

اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين أن الحب فِي الله والبغض فِي الله، أصل عَظِيم من أصول الإِيمَان يجب مراعاته ولهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيث: «أوثق عرى الإِيمَان الحب فِي الله والبغض فِي الله "، وأكثر الله من ذكره فِي القرآن، قَالَ الله تَعَالَى:{لَاّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ} .

فالمعنى أن لكم أيها المؤمنون فِي موالات الْمُؤْمِنِينَ مندوحة عن موالات الكفار، فلا تؤثرهم عَلَيْهمْ،وقوله:{وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ} المعنى ومن يتولاهم فهو برئ من الله والله برئ منه كقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} .

ص: 223

وقوله: {إِلَاّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} أي إِلا أن تخافوا على أنفسكم فِي إبداء العداوة للكافرين، فلكم فِي هَذِهِ الحال الرخصة فِي المسالمة والمهادنة، ولا فِي التولي الَّذِي هُوَ مَحَبَّة الْقَلْب الَّذِي تتبعه النصرة، بل يكون الْقَلْب مطمئنًا بالعداوة والبغضاء، ينتظر زَوَال المانع.

وقَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ} الآيَة.

ففي هَذِهِ الآيات تحذير من الله لعباده الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ولاية الكفار واتخاذهم بطانة أَوْ خصيصية وأصدقاء، يسرون إليهم، ويفضون لَهُمْ بأسرار الْمُؤْمِنِينَ، أَوَّلاً أنهم لا يقصرون فِي مضرة الْمُؤْمِنِينَ، وإفساد الأَمْر على الْمُؤْمِنِينَ ما استطاعوا إِلَى ذَلِكَ سبيلاً.

ثانيًا: محبتهم ما شق على الْمُؤْمِنِينَ، وتمنيهم ضرر الْمُؤْمِنِينَ فِي دنياهم ودينهم.

ثالثًا: أنهم يبدون العداوة والبغضاء فِي كلامهم وفي فلتات ألسنتهم.

رابعًا: أن ما تخفيه صدورهم من البغضاء والعداوة أكبر مِمَّا ظهر لكم من أقوالهم وأفعالهم، ثُمَّ ذكر نوعًا آخر من التحذير عَنْ مخالطة الكافرين واتخاذهم بطانة.

وفيه تنبيه على خطئهم فِي ذَلِكَ وقَدْ ضمنه أمورًا ثلاثًا كُلّ مَنْهَا يستدعي الكف عَنْ مخالطة الكفار، أَوَّلاً أنكم تحبونهم ولا يحبونكم، ثانيًا أنكم

ص: 224

تؤمنون بالكتاب كله ما نزل على نبيكم وما نزل على نبيهم، ثالثًا أنهم يداهنونكَمْ وينافقونكم فإذا لقوَكَمْ قَالُوا آمنا وَإِذَا خلوا مَعَ بَنِي جنسهم عضو عليكم الأنامل من الغيظ والبغض.

وإنما فعلوا ذَلِكَ لما رأوا من ائتلاف الْمُسْلِمِين، واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم، ونصر الله إياهم، حَتَّى عجز أعداؤهم أن يجدوا إِلَى ذَلِكَ التشفي سبيلاً، فاضطروا إِلَى مداراتهم.

وقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} .

والآيات هَذِهِ تنادي بالنهي المطلق عَنْ الولاء لليهود والنَّصَارَى وعن الاستنصار بِهُمْ، والركون إليهم والثِّقَة بِهُمْ، وبمودتهم والاعتقاد فِي قدرتهم على إيصال خَيْر لِلْمُسِلِمِينَ، أَوْ دفع أذى بل هم على العكس لا يألون جُهْدًا فِي دفع النفع عَنْ الْمُسْلِمِين، وإيصال الضَّرَر والأَذَى لِلْمُسِلِمِينَ فانتبه يَا أخي واحذرهم وحذر عنهم. وَإِيَّاكَ ومدارتهم.

يَقُولُونَ لِي الْعِدَا تَنْجِ مِنْهُمْ

فَقُلْتُ مُدَارَاتُ الْعِدَا لَيْسَ تَنْفَعُ

وَلَوْ أَنَّنِي دَارَيْتُ دَهْرِي حَيَّةً

إِذَا مُكِّنَتْ يَوْمًا مِنَ اللَّسْعِ تَلْسَعُ

آخر:

إِذَا وَتَرْتَ أَمْرًا فَاحْذَرْ عَدَاوَتَهُ

مَنْ يَزْرَعِ الشَّوْكَ لا يَحْصُدْ بِهِ عِنَبَا

إِنَّ الْعَدُوَّ وَإِنْ أَبْدَى مُجَامَلَةً

إِذَا رَأى مِنْكَ يَوْمًا فُرْصَةً وَثَبَا

قَالَ شَّيْخ الإِسْلام: ولهَذَا كَانَ السَّلَف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بِهُمْ فِي الولايات، فروى الإِمَام أحمد بإسناد صحيح عَنْ أبي مُوَسى الأشعري رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ لعمر رضي الله عنه، إن لي كاتبا نَصْرَانِيًّا، قَالَ: ما لك قاتلك الله، أما سمعت الله يَقُولُ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} ألا اتَّخَذْتَ حَنِيْفيًا.

ص: 225

قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لي كتابته وله دينه، قَالَ: لا أكرمهم إِذَا أهانهم الله، ولا أعزهم إِذَا أذلهم الله ولا أدنيهم إِذَا أقصاهم الله» . بلغ يَا أخي من والاهم وولاهم ووثق بِهُمْ، وأحمد الله الَّذِي عَافَاكَ مِمَّا ابتلاهم به.

ولما دل عَلَيْهِ معنى الكتاب وجاءت به سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُنَّة خلفائه الراشدين، التي أجمَعَ الْفُقَهَاء عَلَيْهَا بمخالفتهم، وترك التشبه بِهُمْ، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إن اليهود والنَّصَارَى لا يصبغون، فخالفوهم أمر بمخالفتهم قَالَ.

وقَالَ تَعَالَى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وَذَلِكَ يقتضي تبرؤه مِنْهُمْ فِي جميع الأَشْيَاءِ، وَإِذَا كَانَ الله قَدْ برأ رسوله صلى الله عليه وسلم مِنْ جَمِيعِ أمورهم، فمن كَانَ متبعًا للرسول صلى الله عليه وسلم حَقِيقَة كَانَ مُتَبَرِّئًا مِنْهُمْ، كتبرئه صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ ومن كَانَ موافقًا لَهُمْ كَانَ مُخًالِفًا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقدر موافقته لَهُمْ.

وقَالَ رحمه الله: إن مشابهتهم فِي بعض أعيادهم، توجب سرور قلبوهم بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ، خُصُوصًا إِذَا كَانُوا مقهورين، تحت ذل الْجِزْيَة والصغار، فَإِنَّهُمْ يرون الْمُسْلِمِين قَدْ صاروا فرعًا لَهُمْ فِي خصائص دينهم، فَإِنَّ ذَلِكَ يوجب قَسْوَة قُلُوبِهِمْ وانشراح صدورهم وَرُبَّمَا أطمعهم ذَلِكَ فِي انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء.

وقال رحمه الله: وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل فِي الأَخْلاق والصفات أتم حَتَّى يؤل الأَمْر إِلَى أن لا يميز أحدهما عَنْ الآخِر إِلا بالعين فقط.

ولما كَانَ بين الإِنْسَان مُشَارَكَة فِي الْجِنْس الْخَاص، كان التفاعل فيه أشد، ثُمَّ بينه وبين سائر الْحَيَوَان مُشَارَكَة فِي الْجِنْس، المتوسط، فَلا بُدَّ مِنْ نوع تفاعل بقدره.

ص: 226

ثُمَّ بينه وبين النَّبَات مُشَارَكَة فِي الْجِنْس الْبَعِيد مثلاً، فَلا بُدَّ مِنْ نوع ما من المفاعلة: قَالَ: ولأجل هَذَا الأصل وقع التأثر والتأثير فِي بَنِي آدم، واكتساب بَعْضهمْ أَخْلاق بَعْض بالمُشَارَكَة والمعاشرة، وكَذَلِكَ الآدمي إِذَا عاشر نوعًا من الْحَيَوَان، اكتسب من بَعْض أخلاقه.

ولهَذَا صَارَت الخيلاء والفخر فِي أَهْل الإبل، وصَارَت السكينة فِي أَهْل الغنم، وصار الجمالون والبغالون فيهم أَخْلاق مذمومة، من أَخْلاق الجمال والبغال، وَكَذَا الكلابون.

قُلْتُ: وَهَذَا واضح مشاهد عَنْدَ الَّذِينَ يتأملون بدقة، فالمعاشرون للدجاج والحمام، والأرانب والحمر والبقر يأخذون من أخلاقها.

قَالَ رحمه الله: وصار الْحَيَوَان الإنسي فيه بَعْض أَخْلاق الإنس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة، فالمشابهة والمشاكلة فِي الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة فِي الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي.

قَالَ: وقَدْ رأينا اليهود الَّذِينَ عاشروا الْمُسْلِمِين، هم أقل كفرًا من غيرهم، كما رأينا الْمُسْلِمِين الَّذِينَ أكثروا من معاشرة اليهود والنَّصَارَى هم أقل إيمانًا من غيرهم، والمُشَارَكَة فِي الهدْي الظاهر، توجب أيضًا مناسبة وإتلافًا وإن بعد المكَانَ، والزمان، فهَذَا أيضًا أمر محسوس فمشابهتهم فِي أعيادهم ولو بالقليل، هُوَ سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هِيَ ملعونة.

فنقول: مشابهتهم فِي الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم فِي عين الأَخْلاق والأفعال المذمومة، بل فِي نفس الاعتقاد، وتأثير ذَلِكَ لا يظهر ولا ينضبط ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قَدْ لا يظهر ولا ينضبط وقَدْ يتعسر، أَوْ يتعذر زواله، بعد حصوله لو تفطن لَهُ.

ص: 227

وكل ما كَانَ سببًا إِلَى مثل هَذَا الفساد فَإِنَّ الشارع يحرمه كما دلت عَلَيْهِ الأصول المقررة.

وقَالَ: إن المشابهة فِي الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة فِي الباطن. قَالَ: والمحبة والموالاة لَهُمْ تنافي الإِيمَان، قَالَ الله تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} إِلَى قوله تَعَالَى: {فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} وقَالَ تَعَالَى فيما ذم به أَهْل الكتاب: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الآيات إِلَى قوله: {وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} .

فبين تَعَالَى أن الإِيمَان بِاللهِ والنَّبِيّ وما أنزل مستلزم لعدم ولايتهم فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإِيمَان. انتهى كلامه.

إذا فهمت ذَلِكَ، فاعْلَمْ أن المقصود من كُلّ ما ذكرنا، هُوَ إِنَّكَ تَكُون متيقظًا حَافِظًا لِمَن ولاك الله عَلَيْهمْ حسب قدرتك واستطَاعَتكَ مبعدًا لَهُمْ كُلّ البعد عَنْ الإتصال بالكفار، والسفر إِلَى بلادهم، والإقامة عندهم، لما وضحنا لَكَ سابقًا فَإِنَّ قبلت ذَلِكَ فهو المطلوب، والحمد لله على ذَلِكَ وإن أبيت قبول هَذِهِ النَّصِيحَة فسوف تعلم إِذَا انجلى الغبار، أفرس تحتك أم حمار، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وعَلَيْهِ التكلان.

أَلا رُبَّ نُصْحٍ يُغْلَقُ الْبَابُ دُونَهُ

وَغِشٍ إلى جَنبِ السَّرِيرِ يُقَرَّبُ

وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وسلم.

" فَصْلٌ "

وقَالَ تَعَالَى: {تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} الآيتين. وقال:

ص: 228

{وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء} . الآية. قَالَ ابن عباس: لا تميلوا. وقَالَ عكرمة: أن تطيعوهم أَوْ تودوهم، أَوْ تصطنعوهم، أي تولوهم الأَعْمَال، كمن يولي الفساق والفجار.

وقَالَ الثوري: ومن لاق لَهُمْ دواة أَوْ برى لَهُمْ قلمًا أَوْ ناولهم قرطاسًا دخل فِي هَذَا. قَالَ بَعْض المفسرين فِي الآيَة: فالنهي متناول للانحطاط فِي هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم، ومجالستهم، وزيارتهم ومداهنتهم والرِّضَا بأَعْمَالُهُمْ والتشبه والتزيي بزيهم، ومد العين إِلَى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيمًا لَهُمْ. قُلْتُ: ما أكثر هَذَا فِي زمننا نسأل الله أن يحفظنا عَنْ ذَلِكَ.

وقَالَ آخر: لا تستندوا وتطمئنوا إِلَى الَّذِينَ ظلموا وإلى الجبارين الطغاة الظالمين، أصحاب الجور والظلم الَّذِينَ يقهرون بقوتهم، ويظلمون لا تميلوا إليهم طالبين نصرتهم أَوْ حمايتهم مهما يكن فِي أيديهم من القوة والسُّلْطَان والْمَال، فَإِنَّ ركونكم إليهم على هَذَا النحو يقدح فِي اعتمادكم على الله، وفي إخلاصكم بالتوجه إليه وحده والاتكال عَلَيْهِ وحده والاعتزاز به وحده.

والركون إِلَى الظلمة المتسلطين سواء كَانُوا أفردًا أَوْ كَانُوا دولاً يتمثل فِي صورٍ شتَّى، ومنه التعاون مَعَ الطغاة على الشعوب، الَّذِينَ لا يحكمون بما أنزل الله، ومنه معاهدات الحماية ومعاهدات الدفاع المشترك ومعاهدات الصداقة والتحالف مَعَ الَّذِينَ يؤذون الْمُؤْمِنِينَ فِي ديارهم، وكل صورة يتحقق فيها اعتماد الْمُسْلِمِين على أَهْل الظلم أفرادًا ودولاً والاستناد إِلَى قوتهم وعونهم ومساعدتهم.

وقَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} صدر هَذِهِ السورة نزل فِي حاطب بن أبي بلتعة، لما

ص: 229

كتب إِلَى المشركين، يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بمن يعول على الكفرة ويعتمد عَلَيْهمْ ويتخذهم أَوْلِيَاء نسأل الله العصمة إنه القادر على ذَلِكَ.

فيجب عَلَيْنَا معشر الْمُؤْمِنِينَ أن نتباعد عنهم ولا نقاربهم فِي المنازل ولا نذهب إليهم، ولا نكون معهم، وأن ننصح من كَانَ من الْمُسْلِمِين فِي بلادهم، بأن يهاجر عنهم، وأن نبين لَهُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«لا تستضيئوا بنار المشركين» .

وقَالَ: «من جامَعَ المشرك أَوْ سكن معه فهو مثله» . وحديث: «أَنَا برئ من مُسْلِم بين أظهر المشركين لا ترائي نارهما» . وكَانَ صلى الله عليه وسلم يأخذ على أصحابه عَنْدَ البيعة يأخذ على يد أحدهم: «أن لا تَرَى نارك نار المشركين إلا أن تَكُون حربًا لَهُمْ» .

شِعْرًا:

شَرُّ الْبِلادِ بِلادٌ لا أَذَانَ بِهَا

وَلا يُقَامُ بِهَا فَرْضُ الصَّلَوَاتِ

وَلا زَكَاةٌ وَلا صَوْمٌ يَكُونُ بِهَا

وَلا مَسَاجِدَ فِيهَا لِلْعِبَادَاتِ

إِنِّي لأَعْجَبُ مِنْ شَخْصٍ يُقِيمُ بِهَا

عِنْدَ الْمَعَادِي لِخَلاقِ السَّمَاوَاتِ

آخر:

إِرْحَلْ بِنَفْسِكَ مِنْ أَرْضٍ تُضَامُ بِهَا

وَلا تَكُنْ لِفِرَاقِ الأَهْلِ فِي حَرَقِ

مَنْ ذَلَّ بَيْنَ أَهَالِيهِ بِبَلْدَتِهِ

فَالإغْتِرَابُ لَهُ مِنْ أَحْسَنِ الْخُلْقِ

الْكُحْلُ نُوعٌ مِن الأَحْجَارِ مُنْطَرِحًا

فِي أَرْضِهِ كَالثَّرَى يُرَى عَلَى الطُّرُقِ

لَمَّا تَغَرَّبَ نَالَ الْعِزَّ أَجْمَعَهُ

وَصَارَ يُحْمَلُ بَيْنَ الْجِفْنِ وَالْحَدَقِ

آخر:

إِذَا زِدْتَ فِي أَرْضٍ لِرَبِّكَ طَاعَة

فَلا تَكْثِرَنْ مِنْهَا النُّزُوعَ لِغَيْرِهَا

فَمَا هِيَ إِِلا بَلْدَةٌ مِثْلَ بَلْدَةٍ

وَخَيْرُهُمَا مَا كَانَ عَوْنًا عَلَى التُّقَى

آخر:

إِذَا اغْتَرَبْ الْحُرُّ الْكَرِيمُ بَدَتْ لَهُ

ثَلاثُ خِلالٌ كُلُّهُنَّ صِعَابُ

تَفَرُّقُ أَلافُ وَبَذْلٌ لِهَيَبْةٍ

وَإِنْ حُمَّ لَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهِ صِحَابُ

آخر:

وَكُنْ فِي بَلْدَةٍ تَزْدَادُ فِيهَا

لَدَى الْخَلاقِ مَرْتَبَةً وَقَدْرَا

ص: 230

فَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ أَرْضَى إِلَهًا

تَفَرَّدَ بِالْجَلالِ وَبِالْكَمَالِ

وفي حديث معاوية بن حيدة مرفوعًا: «لا يقبل الله من مُسْلِم عملاً أَوْ يفارق المشركين» . أَخْرَجَهُ النسائي وورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ أنه أقسم لا يظلله سقف، هُوَ وقاطع رحم.

فانتبه يَا من زين لَهُ سوء عمله فأتى بكفار خدامين أَوْ سواقين أَوْ خياطين أَوْ طباخين وأمِنْهُمْ على محارمه وهم أعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِينَ. هَذَا والعياذ بِاللهِ إجرام عَظِيم ومحاربة لله ورسوله الْمُؤْمِنِينَ ونشر للفساد فِي الْبِلاد الإِسْلامية.

فَكَيْفَ بمن يذهب إِلَى بلاد الكفر ويجلس معهم، ويأكل ويشرب ويتبادل معهم الكلام بلين وبشر وينام ويصحو، ويقوم ويقعد وَهُوَ بينهم فِي تقلباته وحركاته وسكناته.

ولَقَدْ وصل الأَمْر فِي هَذَا الزمن إِلَى أناسًا يبعثون أماناتهم أفلاذ أكبادهم إِلَى بلاد الكفر والشرك والحرية والفساد يتعلمون عَنْدَ أولئك الكفرة أعداء الإِسْلام وأهله الَّذِينَ تجب الهجرة من بلادهم وَرُبَّمَا كَانَ عَنْدَ الأولاد المبعوثين للتعلم عَنْدَ الكفرة مبادئ طيبة وأخلاق فاضلة فإذا ذهبوا إلى بلاد الكفر والعياذ بالله ضيعوا دينهم وأخلاقهم واعتادوا عَنْ قصد وعن غير قصد شرورًا وسمومًا يحملونها ثُمَّ يأتون بها فينفثونها بين الْمُسْلِمِين ثُمَّ يعدون أقرانهم ويزينون لَهُمْ طريقتهم فيهلكون ويهلكون ولا أدري ماذا عَنْدَ مضيع هَذِهِ الأمانة من الجواب إِذَا وقف بين يدي الجبار جَلَّ وَعَلا وسأله عَنْ هَذِهِ الأمانة وما أعقبت من شرور وفساد.

هل يدعي أنه لا يعرف أنها بلاد كفر وإلحاد فيكون كاذبًا أَوْ يَقُولُ إنه يدري ولكنه لا يبالي بهذه الأمانة قولوا لَهُ: ألست تقرأ قول الله تَعَالَى: {إِنَّا

ص: 231

عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} الآيَة.

وقوله تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} هَذَا إِذَا كَانَ الباعث راضيًا بذَلِكَ أَوْ آمرًا به.

فهل الكفار أَهْل لوضع هَذِهِ الأمانة عندهم أما تخشى الله هَذَا وَاللهِ جرم عَظِيم. قَالَ تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لَنَا من لدنك رحمة إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب، فَإِنَّهَا لا تعمى الأبصار ولكن تعمى الْقُلُوب التي فِي الصدور {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} .

والشئ الَّذِي يضحك الإِنْسَان من جهه ويبكيه من جهة هُوَ أنه ربما يكون المرسلون من الَّذِينَ يعدون طاهرة قُلُوبهمْ ولكن غفلوا عَنْ هَذِهِ المسألة فلم يسألوا عَنْهَا هل يجوز لَهُمْ أم لا، ثُمَّ الشيء الثاني يأتي أناس آخرون لا يعرفون الولاء والبراء أَوْ يعرفونه ولكن يتساهلون فيأخذون الَّذِي جاءوا من بلاد الكفر يحملون شهاداتهم بالدوائر والولائم وَهَذَا والعياذ بِاللهِ تشجيعًا على المعاصي وحثًا عَلَيْهَا وإغراء بها نسأل الله العافية.

لأن الواجب هجرهم والابتعاد عنهم ولو كَانُوا آباءهم أَوْ أبناءهم أَوْ إخوانهم كما هُوَ المعهود فِي الزمن الْبَعِيد والقريب فيمن جَاءَ من الْبِلاد التي مستعمرة للكفرة يهجر لا يكلم ولا يدعى ولا يجاب دعوته عَنْدَ المتمسكين بالدين تمامًا الصدَّاعين بالحق المخلصين لله الناصحين لله ولكتابه ولرسوله ولولاة الْمُسْلِمِين ولكن يَا للأسف ذهب النَّاس وبقي النسناس الَّذِينَ لا يعرفون الولاء والبراء إِلا فيما يتعلق بحطام الدُّنْيَا.

شِعْرًا:

فَمَا النَّاسُ لِلنَّاسِ الَّذِينَ عَهدْتَهُمْ

وَلا الدَّارُ بِالدَّارِ الَّتِي كُنْتَ تَعْرِفُ

آخر:

أَلا رُبَّ نُصْحٍ يُغْلَقُ الْبَابُ دُونَهُ

وَغِشٍّ إِلَى جَنْبِ الشَّرِيرِ يُقَرَّبُ

آخر:

بَذَلْتُ لَهُمْ نُصْحِي بِمُنْعَرِجِ اللَّوَى

فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إِلا ضُحَى الْغَدِ

ص: 232

ويذكر عَنْ عيسى عليه السلام أنه قَالَ: تحببوا إِلَى الله ببغض أَهْل المعاصي، وتقربوا إِلَى الله بالبعد عنهم واطلبوا رضى الله بسخطهم فإذا كَانَ هَذَا مَعَ أَهْل المعاصي، فَكَيْفَ بالكفرة والمشركين والمنافقين أعداء الله ورسله والْمُؤْمِنِينَ.

وقَدْ أجاب أبناء شيخ الإِسْلام مُحَمَّد بن عبد الوهاب لما سئلوا عَنْ السفر إِلَى بلاد المشركين للتجارة بما حاصله أنه يحرم السفر إِلَى بلاد المشركين إِلا إِذَا كَانَ المسلم قويًا لَهُ منعة يقدر على إظهار دينه وإظهار الدين تكفيرهم وعيب دينهم والطعن عَلَيْهمْ والبراءة مِنْهُمْ والتحفظ من موادتهم والركون إليهم واعتزالهم ولَيْسَ فعل الصلوات فقط للدين. أ. هـ.

نسألُ اللهَ السلامةَ وَالعافية فيها أيها المعافى أحمد ربك حمدًا طيبًا مباركًا وأكثر من قول: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لَنَا من لدنك رحمة إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب، ومن قول يَا مقلب الْقُلُوب والأبصار ثَبِّتْ قلوبنا على دينك، ويا مصرف الْقُلُوب صرف قلوبنا إلى طَاعَتكَ.

اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذاننا عَنْ الاستماع إِلَى ما لا يرضيك وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ وَوَفِّقْنَا لسلوك مناهج المتقين، وخصنا بالتَّوْفِيق المبين، وَاجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ من المقربين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، اللَّهُمَّ ألهمنا ما ألهمت عبادك الصالحين، وأيقظنا من رقدة الغافلين إِنَّكَ أكرم منعم وأعز معين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

شِعْرًا:

أَلا قُلْ لأَهْلِ الْجَهْلِ من كُلِّ مَنْ طَغَى

عَلَى قَلْبِهِ رَيْنٌ مِنَ الرَّيْبِ وَالْعَمَا

لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْطَأْتُمُوا إِذْ سَلَكْتُمُ

طَرِيقَةَ جَهْلٍ غَيُّهَا قَدْ تَجَهَّمَا

أَيَحْسَبُ أَهْلُ الْجَهْلِ لَمَّا تَعَسَّفُوا

وَجَاءُوا مِن الْعُدْوَانِ أَمْرًا مُحَرَّمَا

ص: 233

بِأَنَّ حِمَى التَّوْحِيدِ لَيْسَ بِرَبْعِهِ

وَلا حِصْنِهِ مَنْ يَحْمِهِ أَنْ يُهَدَّمَا

وَظَنُّوا سَفَاهًا أَنْ خَلَى فَتَوَاثَبَتْ

ثَعَالِبُ مَا كَانَتْ تَطَا فِي فِنَا الْحِمَا

أَيَحْسَبُ أَعْمَى الْقَلْبِ أَنَّ حُمَاتَهُ

غُفَاةٌ فَمَا كَانُوا غُفَاةً وَنُوَّمَا

فَإِنْ كَانَ فَدْمٌ جَاهِلٌ ذُو غَبَاوَةٍ

رَأَى سَفَهًا مِنْ رَأْيِهِ أَنْ تَكَلَّمَا

بِقَوْلٍ مِنْ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ خَالَهُ

صَوَابًا وَقَدْ قَالَ الْمقَالَ الْمُذَمَّمَا

سَنَكْشِفُ بِالْبُرْهَانِ غَيْهَبَ جَهْلِهِ

وَيَعْلَمُ حَقًّا أَنَّهُ قَدْ تَوَهَّمَا

وَنُظْهِرُ مِن عَوْرَاتِهِ كُلَّ كَامِنٍ

لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ جَاءَ إِفْكًا وَمَأْثَمَا

رُوَيْدًا فَأَهْلُ الْحَقِّ وَيْحَكَ فِي الْحِمَى

وَقَدْ فَوَّقُوا نَحْوَ الْمُعَادِينَ أَسْهُمَا

وَتِلْكَ مِن الآيَاتِ وَالسُّنَنَ الَّتِي

هِيَ النُّورُ إِنْ جَنَّ الظَّلامُ وَأَجْهَمَا

فَيَا مَنْ رَأَى نَهْجَ الضَّلالَةِ نَيِّرَا

وَمَهْيَعَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالدِّيِن مُظْلِمَا

لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْطَأْتَ رُشْدَكَ فَاتَّئِدْ

وَرَاجِعْ لِمَا قَدْ كَانَ أَقْوَى وَأَقْوَمَا

مِن الْمَنْهَجِ الأَسْنَى الَّذِي ضَاءَ نُورُهُ

وَدَعْ طُرُقًا تُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ وَالْعَمَا

وَمِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فَاسْلُكْ طَرِيقَهَا

وَعَادِ الَّذِي عَادَاهُ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمَا

وَوَالِ الَّذِي وَالَى وَإِيَّاكَ أَنْ تَكُنْ

سَفِيهًا فَتُحْظَى بِالْهَوَانِ وَتَنْدَمَا

أَفِي الدِّينِ يَا هَذَا مُسَاكَنَةُ الْعِدَا

بِدَارِ بِهَا الْكُفْرِ أَدْلَهَمَّ وَأَجْهَمَا

وَأَنْتَ بِدَارِ الْكُفْرِ لَسْتَ بِمُظْهِرٍ

لِدِينِكَ بَيْنَ النَّاسِ جَهْرًا وَمُعْلِمَا

بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِإِيَّةِ آيَةٍ

أَخَذْتَ عَلَى هَذَا دَلِيلاً مُسَلَّمَا

وَإِنَّ الَّذِي لا يُظْهِرُ الدِّينَ جَهْرَةً

أَبْحَتْ لَهُ هَذَا الْمَقَامَ الْمُحَرَّمَا

إِذَا صَامَ أَوْ صَلَّى وَقَدْ كَانَ مُبْغِضًا

وَبِالْقَلْبِ قَدْ عَادَى ذَوِي الْكُفْرِ وَالْعَمَا

ثَكَلَتْكَ هَلْ حَدَّثْتَ نَفْسَكَ مَرَّة

بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيم أَوْ كُنْت مُعْدَما

فَفِي التّرمذي أَنَّ النَّبِيّ مُحَمَّدًا

بَرِئَ مِنَ الْمَرْءِ الَّذِي كَانَ مُسْلِمًا

يُقِيمُ بِدَارٍ أَظْهَرَ الْكُفْرَ أَهْلُهَا

فَيَا وَيْحَ مَنْ قَدْ كَانَ أَعْمَى وَأَبْكَمَا

أَمَا جَاءَ آيَاتٌ تَدُلُّ بِِأَنَّهُ

إِذَا لَمْ يُهَاجِرْ مُسْتَطِيع فَإِنَّمَا

ص: 234

.. جَهَنَّمُ مَأْوَاهُ وَسَاءَتْ مَصِيرُهُ

سِوَى عَاجِزٌ مَسْتَضْعَفٌ كَانَ مُعْدَما

فَهَلْ عِنْدَكُمْ عِلْمٌ وَبُرْهَانَ حُجْة

فَحَيَّا هَلا هَاتُوا الْجَوَابَ الْمُحَتَّما

وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَجِيئُوا بِحُجَّةٍ

لِتَدْفَعْ نَصًّا ثَابِتًا جَاءَ مُحْكَما

وَلَكَنما الأَهْوَاء تَهْوى بِأَهْلِهَا

فَوَيْلٌ لِمَنْ أَلَوْتَ بِهِ مَا تَأَلَّما

أَلا فَأَفِيقُوا وَارْجِعُوا وَتَنْدَمُوا

وَفِيئُوا فَإِنَّ الرَّشُدَ أَوْلَى مِنَ الْعَمَا

وَظَنِّي بِأَنَّ الْحُبَّ للهِ وَالْوَلا

عَلَيْهِ تَوَلَّى عَنْكُمُو بَلْ تَصَرَّما

وَحُبُّكُمْ الدُّنْيَا وَإِيثَارُ جَمِعَهَا

عَلَى الدِِّينَ أَضْحَى أَمْرهُ قَدْ تَحَكُّمَا

لِذَلِكَ دَاهَنْتُمْ وَوَالَيْتُمُوا الَّذِي

بِأَوْضَارِ أَهْلِ الْكُفْرِ قَدْ صَارَ مُظْلِما

وَجَوَّزْتُمُوا مِنْ جَهْلِكُمْ لِمُسَافِرٍ

إِقَامَتُهُ بَيْنَ الْغُوَاة تَحَكُّما

بِغَيْرِ دَلِيلٍ قَاطِعٌ بَلْ بِجَهْلِكُمْ

وَتَلْبِيس أَفَّاكَ أَرَادَ التَّهَكُّمَا

وقَدْ قلْتُمُوا فِي الشَّيْخِ مَنْ شَاعَ فَضْلُهُ

وَأَنْجَدَ فِي كُلِّ الْفُنُونِ وَالتهَمَا

إِمَامِ الْهُدَى عَبْدِ اللَّطِيفِ أَخِي التُّقَى

فَقُلْتُمْ مِنَ الْعُدْوَانِ قَولاً مُحَرَّمَا

مَقَالَةَ فَدْمٍ جَاهِلٍ مُتَكَلِّفٍ

يَرَى أَنَّهُ كُفْرًا فَقَال مِنَ الْعَمَا

يُنَفِّرُ بَلْ قَدْ قلْتُمُوا مِنْ غَبَائِكُمْ

يُشَدِّدُ أَوْ قُلْتُمْ أَشَدَّ وَأَعْظَمَا

وَلَيْسَ يَضُرُّ السُّحْبُ فِي الْجَوِ نَابِحٌ

وَهَلَ كَانَ إِلا بِالإِغَاثَةِ قَدْ هَمَا

فَيَدْعُو لَهُ مَنْ كَانَ يَحْيَى بِصَوْبِهِ

وَيُنَجِّهِ مَنْ كَانَ أَعْمَى وَأَبْكَما

أَيُنْسَبُ لِلتَّنْفِيرِ وَهُوَ الَّذِي لَهُ

رَسَائِلُ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا مَنْ تَوَهَّمَا

يُؤَنِّبُ فِيهَا مَنْ رَأَى غَلْطَةً

وَيَأْمُرُ أَنْ يَدْعُو بِلِينٍ وَيَحْلُمَا

أَيُنْسَبُ لِلتَّشْدِيدِ إِذَا كَانَ قَدْ حَمَا

حِمَى الْمِلَّة السَّمْحَاء أَنْ لا تُهْدَمَا

وَغَارَ عَلَيْهَا مِنْ أُنَاسٌ تَرَخَّصُوا

وقَدْ جَهِلُوا الأَمْرَ الْخَطِيرَ الْمُحَرَّمَا

فَلَوْ كُنْتُمُوا أَعَلَى وَأَفْضَلَ رُتْبَة

وَأَزْكَى وَأَتْقَى أَوْ أَجَلَّ وَأَعْلَمَا

يُشَارُ إِلَيْكُمْ بِالأَصَابِعِ أَوْ لُكُمْ

مِنَ الْعِلْمِ مَا فُقْتُمْ بِهِ مَنْ تَقَدَّمَا

لِكُنَّا عَذَرْنَاكُمْ وَقُلْنَا أَئِمَّة

جَهَابِذَة أَحْرَى وَأَدْرَى وَأَفْهَمَا

ص: 235

.. وَلَكِنَّكُمْ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ مَا لَكُمْ

مِنَ الْعِلْمِ مَا فُقْتُمْ بِهِ مَنْ تعَّلَمَا

وَمِنْ أَصْغَر الطُّلاب لِلْعِلْمِ بَلْ لَكُمْ

مُزْيَة جَهْلٍ غَيُّهَا قَدْ تَجَهَّمَا

لِذَلِكَ أَقْدَمْتُمْ لِفَتْحِ وَسَائِلٍ

وَقَدْ سَدَّهَا مَنْ كَانَ بِاللهِ أَعْلَمَا

ثَكَلْتُمُوا هَلْ حَدَّثَتْكُمْ نُفُوسُكُمْ

بِخْرِقِ سِيَاج الدِّين عَدْوًا وَمَأْثَمَا

وَإِنَّ الْحُمَاةَ النَّاصِرِينَ لِرَبِّهِمْ

بِخْرِقِ سِيَاج الدِّين عَدْوًا وَمَأْثَمَا

عَلَى مَا يَشَأُ مِنْ كُلّ أَمْرٍ مُحَرَّمٍ

وَلَيْسَ لَهُ مِنْ وَازِعٍ أَنْ تَكَلَّمَا

وَإِنَّ حِمَى التَّوْحِيد أَفْقَر رَسْمُهُ

فَقُلْتُمْ وَلَمْ تَخْشُوا عِتَابًا وَمَنْقَمَا

فنَحْنُ إِذَا وَالْحَمْدُ للهِ لَمْ نَزَلْ

عَلَى ثَغْرَةٍ الْمَرْمَى قُعُودًا وَجُثَّمَا

أَلا فَاقْبَلُوا مِنَّا النَّصِيحَةَ وَاحْذَرُوا

وَفِيئُوا إِلَى الأَمْر الَّذِي كَانَ أَسْلَمَا

وَإِلا فَإنَّا لا نُوَافِقُ مَنْ جَفَا

وَيَسْعَى بِأَنْ يُوطي الْحِمَى أَوْ يُهْدَمَا

وَإِلا فَإنَّا لا نُوَافِقُ مَنْ جَفَا

وَيَسْعَى بِأَنْ يُوطي الْحِمَى أَوْ يُهْدَمَا

كَمَا أَنَّنَا لا نَرْتَضِي جُورَ مَنْ غَلا

وَزَادَ عَلَى الْمَشْرُوعِ إِفْكًا وَمَأْثَما

وَيَا مُؤْثَرَ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ إِنَّمَا

عَلَى قَلْبِكَ الرَّانُ الَّذِي قَدْ تَحَكَّمَا

وَعَادَيْتَ بَلْ وَالَيْتَ فِيهَا وَلَمْ تَخَفْ

عَوَاقِبَ مَا تَجْنِي وَمَا كَانَ أَعْظَما

أَغَرَّتْكَ دُنْيَاكَ الدَّنِيَّة رَاضِيًا

بِزَهْرَتِهَا حَتَّى أَبَحْتَ الْمُحَرَّمَا

تَرُوقُ لَكَ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِ أَهْلِهَا

كَأَن لَمْ تَصِرْ يَوْمًا إِلَى الْقَبْرِ مُعْدِمَا

خَلِيًا مِنَ الْمَالِ الَّذِي قَدْ جَمَعْتَهُ

وَفَارَقْتَ أَحْبَابًا وَقَدْ صِرْتَ أَعْظُمَا

وَلَمَّا تَقَدَّمَ مَا يُنَجِّيكَ فِي غَدٍ

مِنَ الدِّينِ مَا قَدْ كَانَ أَهْدَى وَأَسْلَمَا

وَذَلِكَ أَنْ تَأْتِى بِدِينِ مُحَمَّدٍ

وَمِلَّةِ إِبْرِاهِيمَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمَا

تُوَالي َعلَى هَذَا وَتَرْجُو بِحُبِّهِمْ

رِضَى الْمَلِك العْلام إِذَا كَانَ أَعَظْمَا

وَتُبْغِضُ مَنَ عَادَى وَتَرْجُو بِبُغْضِهِمْ

مِنَ اللهِ إِحْسَانًا وَجُودًا وَمَغْنَمَا

فهَذَا الَّذِي نَرْضَى لِكُلِّ مُوَحِّد

وَنَكْرَهُ أَسْبَابًا تُرِدْهُ جَهَنَّمَا

وَصَلِّ إِلَهِي مَا تَأَلَّقَ بَارِقٌ

عَلَى الْمُصْطَفَى مَنْ كَانَ بِاللهِ أعْلَمَا

ص: 236

.. وَآلٍ وَأَصْحَابٍ وَمَنْ كَانَ تَابِعًا

وَتَابِعْهُمْ مَا دَامَتِ الأَرْضُ وَالسَّمَا

" موعظة "

عباد الله كلنا يعلم أن النَّاس قسمان، قسم انحاز إِلَى الله، وهؤلاء حزب الله الَّذِينَ قَالَ الله فيهم:{أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

وقسم انحاز إِلَى عدو الله إبلَيْسَ لعنه الله وهؤلاء حزب الشيطَانَ الَّذِينَ قَالَ الله فيهم: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} فالأولون الَّذِينَ هم حزب الله لا تراهم يطيعون الشيطان أبدًا ولِذَلِكَ لا تجدهم يفسدون فِي الأَرْض، بل هم بركة فِي هَذَا الوجود. فإذا رَأَيْت مَسْجِدًا معمورًا فهم الَّذِينَ وفقهم الله لبنائه، وإن قِيْل لَكَ إنهم لا يظلمون، وينهون عَنْ الظلم والجور فصدق، وإن رَأَيْت مُحْتَاجًا سدت حاجته، فهم الَّذِينَ وفقهم الله لإنعاشه، وسدها وإن رَأَيْتَ عَارِيًا فهم الَّذِينَ وفقهم الله لكسوته، وإن قِيْل إن الْمُنْكَر الفلاني أزيل فهم الَّذِينَ وفقهم الله للتسبب فِي إزالته، وإن قِيْل لَكَ إن إصلاحًا فِي الأَرْض كَانَ صعبًا فسهل بإذن الله، فهم الَّذِينَ وفقهم الله لإزالته أَوْ تسهيله.وإن قِيْل إن أناسًا يدورون على البيوت يتفقدون الفقراء الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ موارد فهم الَّذِينَ وفقهم الله لِذَلِكَ، وإن قِيْل إن أناسًا يتفقدون من عَلَيْهِ دين فيتسببون لوفائه، فهم الَّذِينَ وفقهم الله لِذَلِكَ، وإن قِيْل: إنهم يعبدون الله عبادة من لا يمل ولا يفتر، فصدق بمجرد ما يقَالَ لَكَ.

وإن قِيْل إن بَعْض البيوت وهي القليلة إِنَّكَ تسمَعَ فيها بالليل صوت بُكَاء وأنين وتهجدًا واستغفارًا، فهم أولئك الَّذِينَ وفقهم الله وجعلهم حزبه.

وإن قِيْل لَكَ إن أناسًا عندهم عطف على الفقراء، ورحمة وإيثار وإحسان إِلَى الجار، ومواسات الضعفاء، وغير ذَلِكَ، مِمَّا يكاد فِي زمننا هَذَا أن يكون نادرًا فهم أولئك الَّذِينَ وفقهم العليم الخبير، وهؤلاء هم المهذبون المتنورون المتأدبون.

ص: 237

أما الفريق الثاني عصمنا الله وَإِيَّاكَ عَنْ طَرِيق سلوكهم، فهم حزب الشيطان لا يحصل فساد فِي الأَرْض إِلا مِنْهُمْ، لأنهم حزب الشيطان وإن قِيْل إن مؤمنًا قُتِلَ فهم الَّذِينَ قتلوه، أَوْ تسببوا لقتله، لا يختلف فِي ذَلِكَ اثنان، وإن قِيْل لَكَ أن سيارة سُرِقَتْ فهم الَّذِينَ سرقوها.

وإن قِيْل إن منزلاً هوجم وَسُرِقَ فقل بلا تردد: هم الَّذِينَ هاجموه وسرقوه، وهل حزب الرحمن يعتدون مثل هَذَا العدوان، وإن قِيْل إن إنْسانًًا خطف وغيب ولا يعلم أين كَانَ، فقل هم الَّذِينَ خطفوه وغيبوه، وإن قِيْل إن مسلمًا ذا ثروة نشل وأخذ منه آلاف، فقل وهل ينشل ويخطف ويعبث بأموال النَّاس إِلا أولئك الأَشْرَار حزب الشيطان.

حزب الله الموفقون الكمل بعيدون عَنْ المعاصي جدًا، فلا تَرَى الواحد مِنْهُمْ يتعمد الجلوس فِي الطرق، ويداوم الْمُرُور فيها لمطاردة النساء ومغازلتهن، ولا تراه يركب النساء بلا محرم ولا يدخلها لتشتري أَوْ يفصل عَلَيْهَا، ولَيْسَ معها محرم ولا تجده يبيع صور ذوات الأرواح، ولا يصورها، ولا يبيع البدع المنكرات، ولا يجلس عندها، وهي البدع المحرمة، التي حدثت فِي زمننا مثل التلفزيون والسينماء والمذياع، والكرة، والورق، والبكم والدخان والفديو ونحو هَذِهِ المنكرات التي قضت على الغيرة والمروءة والشيمة. نسأل الله العافية.

ولا يغش الْمُسْلِمِين، ولا يكون ذا وجهين يتكلم عَنْدَ هؤلاء بوجه وعَنْدَ الآخرين بوجه، ولا ينافق ولا يوقع بريئًا فِي مأزق ولا يشهد بالزور، ولا يحظر عَنْدَ المنكرات، بل تراهم فِي مجالس الذكر يدورون حول ما يقربهم إِلَى الله.

ولا تراهم يركنون إِلَى أعداء الله، ولا الفسقة ولا يعظمونهم ولا يتملقون لَهُمْ، ويضحكون معهم، كما يفعله السذج، الَّذِينَ لا يعرفون الولاء والبراء، ولا تنشرح صدورهم، ولا تهتز عواطفهم ولا تستريح قُلُوبهمْ، ولا يهدؤُ

ص: 238

بآلهم، ولا يسكن قلقهم، إِلا إِذَا زاحموهم وجالسوهم، ومازحوهم وعظموهم، ممن نسوا الله فأنساهم أنفسهم والتهوا عما هم إليه صائرون، فلم يحسبوا لَهُ حسابًا، قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} .

وقَالَ تَعَالَى {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} وقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} الآيَة.

فالَّذِي ينبغي أن يتبع ويقتدى به من تمسك بكتاب الله، وامتلأ قَلْبهُ بمحبة الله، وفاض ذَلِكَ على لِسَانه، فلهج بذكر الله، ودعا إِلَى الله واتبع مراضيه، فقدمها على هواه وحفظ وقته فِي طاعة الله بعيدًا عَنْ أذية الْمُسْلِمِين لا يقابل الإساءة بمثلها بل يدفع بالتي هِيَ أحسن وَهَذَا حقًا هُوَ المهذب المتنور:

لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ

أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ

إِنِّي أُُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ

لأَدْفَعَ الشَّرِّ عَنِي بِالتَّحِيَّاتِ

وَأُحْسِنُ الْبَشرَ لِلإِنْسَانِ أُبْغِضُهُ

كَأَنَّهُ قَدْ مَلا قَلْبِي مَوَدَّاتِ

وَلَسْتُ أُسَلِّمُ مِمَّنْ لَسْتُ أَعْرِفُهُ

فَكَيْفَ أَسْلَمُ مِنْ أَهْلِ الْمَوَدَّاتِ

آخر:

يَأْبَى فُؤَادِي أَنْ يَمِيلَ إِلَى الأَذَى

حُبُّ الأَذِيَّةِ مِنْ طِبَاعِ الْعَقْرَبِ

لِي إِنْ أَرَدْتُ مسَاءَةً بِمسَاءَةً

لَوْ أَنَّنِي أَرْضَى بِبَرْقٍ خُلَّبِ

حَسْبُ الْمُسِيءِ شُعُورُهُ وَمَقَالُهُ

فِي سِرِّهِ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُذْنِبِ

اللَّهُمَّ خفف عنا الأوزار وارزقنا عيشة الأَبْرَار واصرف عنا شر الأَشْرَار وأعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار يَا عزيز يَا غفار، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وَوَفِّقْنَا للقيام بحقك وبارك لَنَا فِي الحلال من رزقك ولا تفضحنا بين خلقك يَا خَيْر من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يَا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لَنَا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنياه يَا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما فِي ضمائر الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 239

" فَصْلٌ ": وداء فِي تفسير قوله تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} الآيَة. أنها نزلت فِي أبي عبيدة.

وإليك الْقِصَّة مسوقة بأكملها، أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، كَانَ صحابيًا جليلاً وبطلاً عظيمًا مِنْ أَبْطَالِ الإِسْلامِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، حَرصَ أَبُوهُ عَبْدُ اللهِ عَلَى قَتْلِهِ فِي أَوْلِ لِقَاءٍ، لأَنَّ أَبَا عُبَيْدَة رضي الله عنه تَرَكَ دِينَ أَبِيهِ، وَاعْتَنَقَ الإِسْلامَ، وَتَخَلَّفَ عَنْ قَافِلَةَ قُرَيْش، وَالْتَحَقَ بِقَافِلَةِ مُحَمَّد بن عَبْد اللهِ عليه الصلاة والسلام مُؤْمِنًا بِدِينِهِ مُصَدِّقًا بِرِسَالَتِهِ.

تَصَدَى عَبْد اللهِ لابْنِهِ مُحًاوِلاً قَتْلَهُ، فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَكن الابْن أَبْعَدَ عَنْهُ وَحَوَّلَ سَيْفَهُ عَنْ أَبِيهِ وَانْطَلَقَ إِلَى فِئَةٍ أُخْرَى غَيْرَ التي فِيهَا أَبُوهُ، يُقَاتِلُهَا وَيُجَاهِدُهَا وَافْتَرَقَ الرَّجُلانِ وَلَكن الأَبَّ بَحَثَ عَنْ ابْنِهِ حَتَّى الْتَقَى بِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَرَفَعَ سَيْفَهُ عَلَيْهِ وَوَجَّهَ إِلَيْهِ ضَرْبَةً قَاضِيَةً اسْتَقْبَلَهَا أَبُو عُبَيْدَة بِحَرَكَةٍ خَفِيفَةٍ، جَعَلَتْهَا تهوى فِي الْفَضَاءِ.

وَلَكن الأَبَّ مُصَمِّمٌ عَلَى أَنْ لا يَفْلِتَ الابْن مَهْمَا كَلَّفَهُ ذَلِكَ مِنْ غَالِي الثَّمَنَ فَبَحَثَ عَنْ ابْنِهِ هُنَا وَهُنَاكَ، وَنَقَّبَ عَنْهُ فِي كُلِّ مَكَانَ حَتَّى الْتَقَى بِهِ مَرَّةً ثَالِثَةً، وَرَفَعَ الرَّجُلَ سَيْفَهُ لِيُوَجِّهُ إِلَى ابْنِهِ ضَرْبَةً قَاضِيةً مُمِيتَةً يَشْفِي كلوم قَلْبه وَتَهْدَأَ بِهَا نَفْسُهُ الثَّائِرَةَ عَلَى ابْنِهِ الصَّابِئِ.

وَهُنَا نَظَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ أَبَاهُ يَعْتَرِضُ وَيَتَصَدَّى لَهُ وَفِي اعْتِرَاضِهِ هَذَا

ص: 240

اعْتِرَاضٌ لِلإِسْلامِ، فَمَا أَبُو عُبَيْدَة إِلا جُنْدِيٌّ مِنْ الْجُنُودِ الْقَائِمِينَ بِنَصْرِ الإِسْلامِ، وَأَنَّ فِي تَصّدِّيهِ لَهُ سَدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِقَامَةِ دِينَ الرَّحْمَنِ، وَانْتِشَارِ كَلِمَةِ اللهِ فِي الأَرْضِ فَهَلْ يَصْمُتُ أَبُو عُبَيْدَة عَلَى هَذَا، وَهَلْ يَسْكُتَ عَلَى مَنْ يَحُولَ بَيْنَ دَعْوَةِ اللهِ أَنْ تَقُومَ فِي الأَرْضِ وَأَنْ تُنْشَرَ بَيْنَ النَّاسِ كَلا لَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ نَحْوَ أَبِيهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ.

وَلَكِنَّ مَا دَامَ أَبُوهُ يَحْرِصَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، فَلْيَكُنْ هُوَ أَسْبَقُ مِنْ أَبِيهِ فِي حِرْصِهِ عَلَى قَتْلِهِ، كَذَلِكَ وَالْتَقَى السَّيْفَانِ وَتَقَابَلَ الرَّجُلانِ وَوَقَفَ الْخِصْمَانِ، وَفِي لَمْحَةٍ خَاطِفَة رَفَعَ الرَّجُلانِ سَيْفَهُمَا كُلٌّ يَحْرِصَ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ، وَالانْتِصَارَ لِدِينِهِ.

وَرَفَعَ أَبُو عُبَيْدَة يَدَهُ عَالِيةً خَفَّاقَةً، وَفِي سُرْعَةٍ أَهْوَى بِسَيْفِهِ الْبَتَّارِ عَلَى قَلْبِ وَالِدِهِ الْمُمْتَلِئ حِقْدًا وَغَضَبًا عَلَى الإِسْلامِ، ودعوة الإِسْلامِ، وَمَزَّقَ السَّيْفُ قَلْبَهُ، وَانْفَجَرَ الدَّمُ مِنْهُ بِكَثْرَةٍ وَكَانَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ مِنْ سَاعَاتِ التَّارِيخِ الْفَاصِلَةِ.

هَذَا مِنْ آثَارِ الْحُبِّ فِي اللهِ، وَالْبُغْضِ فِي اللهِ، وَهَذَا الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُ كُلُّهَا مُنْطَبِقَةً عَلَى مَا تَأْمُرُ بِهِ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهْرَةُ فَيُحِبُّ مِنَ النَّاسِ مَنْ نَهَجَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ وَيَبْتَعِدُ عَنْ منْ حَادَ عَنْ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ.

وَمَنِ اتَّبَعَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ انْطَبَعَ فِي قَلْبهُ حبّ الْكَمَالِ وَالإِيمَانِ فَيَكُونَ عَدُوُّ اللهِ فِي نَظَرِهِ عَدُوًّا، وَحِينَئِذٍ يَرَى أَنْ أَعْظَمَ النَّاسِ قِيمَةٍ أَهْلُ الإِخْلاصِ وَالطَّاعَةِ وَأَحَطَّهُمْ مَنْزِلَةً أَهْلُ الْمَعَاصِي والشَّنَاعَةِ وَالْفَسَادُ فِي الأَرْضِ.

وكَذَلِكَ كَانَ شأن المصطفى صلى الله عليه وسلم وشأن أصحابه رضي الله عنهم يحبون فِي الله، ويبغضون فِي الله يوادون الطائعين وإن كَانُوا بعداء ويعادون العاصين

ص: 241

وإن كَانُوا أقرباء فرابطة التَّقْوَى عندهم أشد وأقوى من رابطة النسب والقرابة.

وعن البراء بن عازب: أوثق عرى الإِيمَان الحب فِي الله والبغض فِي الله.

وفي حديث مرفوع: «اللَّهُمَّ لا تجعل لفاجر عِنْدِي يدًا ولا نعمة فيوده قلبي فإني وجدت فيما أوحي إِلَيَّ {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . رَوَاهُ بن مردويه وغيره.

المعنى الآيَة بلفظ الخبر والمراد بها الإنشاء أي لا تجد قومًا يجمعون بين الإِيمَان بِاللهِ والْيَوْم الآخِر، والمحبة والموالاة لأعداء الله ورسوله.

فلا يكون المُؤْمِنُ بِاللهِ والْيَوْم الآخِر حَقِيقَة إِذَا كَانَ عاملاً على مقتضى إيمانه، ولوازمه من محبة من قام بالإِيمَان وبغض من لم يقم به ومعاداته.

وَلَوْ كَانَ أَقْرَب النَّاسِ إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الإِيمَان على الحَقِيقَة الَّذِي وجدت ثمرته ومقصوده فمن أحب أَحَدًا امتنع أن يوالي عدوه.

ولَقَدْ أصاب المسلمون الْيَوْم من الموالاة لأعداء الله بَلاء شديد فتجد كثيرًا من النَّاس الَّذِينَ يدعون الإِيمَان يوالون أعداء الشرائع الدينية ويعظمونهم ويقدرونهم وينصرونهم على أبناء جنسهم ولو كَانَ فِي هَذَا ذل لَهُمْ ولأمتهم ولدينهم فإنَا لله وإنَا إليه راجعون.

قَالَ فِي النونية:

أَتُحِبُ أَعْدَاءَ الْحَبِيبِ وَتَدَّعِي

حُبًّا لَهُ مَا ذَاكَ فِي إِمْكَانِ

وَكَذَا تُعَادِي جَاهِدًا أَحْبَابُهُ

أَيْنَ الْمَحَبَّة يَا أَخَا الشَّيْطَانِ

لَيْسَ الْعِبَادَةُ غَيْرَ تَوْحِيدِ الْمَحَبَّـ

ـةِ مَعَ خُضُوعِ الْقَلْبِ وَالأَرْكَان

آخر:

وَالْحُبُّ نَفْسُ وِفَّاقِهِ فِيمَا يُحِبْ

وَبُغْضُ مَا لا يَرْتَضِي بِجِنَانِ

ص: 242

آخر:

وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِي الله تَبْقَى

عَلَى الْحَالَيْنِ فِي سِعَةٍ وَضِيقِ

وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِيمَا سِوَاهُ

فَكَالْحُلَفَاءِ فِي لَهْبِ الْحَرِيقِ

آخر:

إِذْ أَنْتَ لَمْ تَعْمَلْ بِشَرْعٍ وَلَمْ تُطِعْ

أُولِي الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ التُّقَى وَالتَّسَدُّدِ

وَلَمْ تَجْتَنِبْ أَعْدَا الشَّرِيعة كُلَهُمْ

وَتَدْفَعُ عَنْهَا بِاللِّسَانِ وَبِالْيَدِ

وَتَحْمِهَا عَنْ جُهَّالِهَا وَتَحُوطُهَا

وَتَقْمَعُ عَنْهَا نُخْوَةَ الْمُتَهَدِّدِ

فَلَسْتُ لَوْ عَلَّلْتَ نَفْسَكَ بِالْمُنَى

بِذِي سُؤْدَدٍ بَادٍ وَلا قُرْبَ سُؤْدِدِ

اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذاننا عَنْ الاستماع إِلَى ما لا يرضيك وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ يَا حي يَا قيوم يَا بديع السماوات والأَرْض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانَا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.؟ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ ": وَعَنْ أَبِي ذر مرفوعًا: «أفضل الأَعْمَال الحب فِي الله والبغض فِي الله» . رَوَاهُ أبو داود.

وفي الصحيحين: «المرء مَعَ من أحب» . وعن علي مرفوعًا: «لا يُحِبُّ رَجُلٌ قومًا إِلا حُشِرَ مَعَهُمْ» . رَوَاهُ الطبراني بإسناد جيد.

وقَدْ روى الإِمَام أحمد معناه عَنْ عَائِشَة بإسناد جيد أيضًا عَنْهَا مرفوعًا: «الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفاء فِي اللَّيْلَة الظلماء، وأدناه أن تحب على شَيْء من الجور، أَوْ تبغض على شَيْء من العدل وهل الدين إِلا الحب فِي الله والبغض فِي الله» .

يفتخر بَعْض المتحذلقين أنه لا يكره أي إنسان، ولا يبغض أَحَدًا، وأنه يسلك مَعَ الفجرة والفسقة، ومَعَ أَهْل الدين والصلاح بل ومَعَ الكفرة والمنافقين، ويلقب نَفْسهُ ومن سلك مذهبه بأنه دبلوماسي، ويظن هَذَا فخرًا وكرمًا فِي الأَخْلاق ونبلاً وطيبًا.

ص: 243

ولكن من لا يعرف البغض، فلن يعرف الحب ومن لا يكره إنسانًا عاصيًا هيهات أن يحب عبدًا مطيعًا إن تحب مؤمنًا بسبب إخلاصه وتقواه فَكَيْفَ لا تبغضه إِذَا زال عَنْهُ سبب الحب فانقلب فاجرًا متهتكًا، تعفو عمن ظلمك ولكن ما رأيك فيمن ظلم نَفْسهُ وظلم عباد الله، ما رأيك فِي الزناة هاتكي الأعراض، ومدني الخمر وشارَبِي الدخان وحالقي لحاهم، وأَهْل الخنافس والتشبه بأعداء الله أعداء الإِسْلام ومن يشهدون الزور ولا يشهدون صلاة الجماعة، ويغتصبون الحقوق ويؤذون العباد ويخونون الدين والْبِلاد هل تحبهم أَوْ تبغضهم لله فتش عَنْ قلبك وحاسب نفسك هل تحبهم فتعينهم على الظلم أم تبغضهم وتحقرهم وتنابذهم وتبتعد عنهم عَسَى أن يرجعوا عَنْ غيهم وبغيهم لا مفر من أَنْ يكون لَنَا أعداء نبغضهم فِي الله كما يكون لَنَا أصدقاء نحبهم فِي الله.

فيا عباد الله تقربوا إِلَى الله ببغض أَهْل المعاصي الظلمة والمنافقين كما تتقربون إليه بحب الصالحين، أشعروهم بمقتكم لآثامهم، وسخطكم على إجرامهم، ولا تتسامحوا فيما يمس الدين ولا تصفحون عمن يحارب رب العالمين، ولو كَانَ أقرب قريب.

قَالَ الله جَلَّ وَعَلا لأشرف الخلق {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} ، أي لو ملت إليهم لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الْمَمَات أي ضاعفنا عَلَيْكَ الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا والآخِرَة، لأن الذنب من العَظِيم يكون عقابه أشد من غيره.

ومن ثُمَّ يكون عقاب الْعُلَمَاء على زلاتهم أشد من عقاب غيرهم من العامة، لأنهم يقتدون بالْعُلَمَاء، روي عَنْ قتادة أنه قَالَ: لما نزل قوله تَعَالَى {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} .. إلخ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ لا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين» .

ص: 244

فينبغي للمُؤْمِنِ أن يتدبر هَذِهِ الآيَة ويستشعر الخشية ويسأل الله أن يثبته، ويستمسك بأهداب دينه، ويكثر من قول يَا مقلب الْقُلُوب ثَبِّتْ قلبي على دينك وَيَقُولُ كما قَالَ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ لا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين» . فإذا كَانَ هَذَا الخطاب لأشرف الخلق فَكَيْفَ بغيره.

وقَالَ تَعَالَى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عمن تولى وأعرض عَنْ الذكر الحكيم والقرآن العَظِيم {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} وعلى العكس من أقبل على كتاب الله ووقره وقدره وأحبه واتبعه ودعى إِليه نسأل الله العَظِيم أن يغرس محبته فِي قلوبنا ويرزقنا تلاوته والْعَمَل به. وقَالَ ابن عباس رضي الله عنه: «من أحب فِي الله وعادى فِي الله وأبغض فِي الله ووالى فِي الله فإنما تنال ولاية الله بذَلِكَ. رَوَاهُ ابن أبي شيبة وابْن أَبِي حَاتِم.

وفي حديث رَوَاهُ أبو نعيم وغيره عَنْ ابن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ": أوحى الله إِلَى نبي من الأَنْبِيَاء أن قل لفلان العابد أما زهدك فِي الدُّنْيَا فتعجلت راحة نفسك، وأما انقطاعك إلي فتعززت به، فما عملت لي عَلَيْكَ؟ قَالَ: يَا رب وما لك علي؟ قَالَ: هل واليت لي وليًا، أَوْ عاديت لي عدوًا» .

شِعْرًا:

وَلَيْسَ فَتَى الْفِتْيَانِ مَنْ ضَاعَ وَقْتُهُ

بِصُحْفٍ وَتِلْفَازٍ وَقِيْلَ وَقَالُوا

وَلَكِنْ فَتَى الْفِتْيَانِ مَنْ طَاعَ رَبَّهُ

وَصَارَ بِمَا يُرْضِي الإِلَهَ مِثَالُ

آخر:

لا تَحْسَبَنَّ الْمَوْتَ مَوْتَ الْبَلا

لَكِنَّمَا الْمَوْتُ هُوَ الْكُفْرُ بِاللهِ

كِلاهُمَا مَوْتٌ وَلَكِنْ ذَا

أَشَدُّ مِنْ ذَاكَ لِجُحْدِهِ اللهَ

آخر:

وَحَسْبُكَ مِنْ ذُلٍّ وَسُوءِ صَنِيعِهِ

رُكُوبُكَ مَا لا يَرْتَضِي اللهُ فِعْلَهُ

" فائدة ": أقل النَّاس عقلاً من فرط فِي عمله فصرفه فِي غير طاعة الله، وأقل منه عقلاً من صرف وقته فِي معاصي الله، نسأل الله العافية.

ص: 245

وقَالَ تَعَالَى {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} فعقَدْ تَعَالَى الموالاة بين الْمُؤْمِنِينَ، وقطعهم من ولاية الكافرين وأخبر أن الكفار بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض، وإن لم يفعلوا ذَلِكَ وقع فتنة وفساد كبير، وَكَذَا يقع فهل يتم الدين أَوْ يقام علم الجهاد وعلم الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر إِلا بالحب فِي الله والبغض فِي الله والمعاداة فِي الله والموالاة فِي الله.

ولو كَانَ النَّاس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء لم يكن فرق بين الحق وَالْبَاطِل ولا بين الْمُؤْمِنِينَ والكفار ولا بين أَوْلِيَاء الرحمن وأَوْلِيَاء الشيطان.

ومن موالاة الأعداء ومصادقتهم ما يفعله كثير من ضعفاء الإِيمَان من الذهاب إِلَى أعداء الله فِي أيام أعيادهم فيدخلون فِي كنائسهم وبيوتهم وأنديتهم وينهونهم بأعيادهم، والعياذ بِاللهِ.

وأعظم من ذَلِكَ وأطم الَّذِينَ يدرسون على الكفار ويجلسون بين يَدَيّ الكافر والعياذ بِاللهِ ويأتون بشهادة من أعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِينَ، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ، وقَالَ جَلَّ وَعَلا:{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} فيا أيها المعافي أكثر من حمد الله وشكره وأسأله الثبات حَتَّى الممات.

وقَدْ قِيْل فِي تفسير قوله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أن المراد أعياد المشركين، وقَالَ عمر رضي الله عنه: إِيَّاكُمْ ورطانة الأعاجم وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم فِي كنائسهم.

وقَالَ رضي الله عنه: اجتنبوا أعداء الله فِي عيدهم، ومن الأعياد المحدثة التي لا يجوز للمسلم حضورها لأنها أعياد باطلة ما يسمى بعيد الاستقلال،

ص: 246

وعيد الجلاء وعيد الجلوس، وعيد الثورة، ونحو ذَلِكَ من أعياد الكفرة والمنافقين وأتباعهم.

وقَالَ الشَّيْخ حمد بن عتيق رحمه الله، ومن أعظم الواجبات على المُؤْمِن محبة الله ومحبة ما يحبه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وَكَذَا ما يحبه من الأشخاص كالملائكة، وصالح بَنِي آدم، وموالاتهم وبغض ما يبغضه الله، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وبَعْض من فعل ذَلِكَ فإذا رسخ هَذَا الأصل فِي قلب المُؤْمِن لم يطمئن إِلَى عدو الله، ولم يجالسه ولم يساكنه وساء نظره إليه.

فَلَمَّا ضعف هَذَا الأصل فِي قُلُوب كثير من النَّاس واضمحل صار كثير مِنْهُمْ مَعَ أَوْلِيَاء الله كحاله مَعَ أعداء الله، يلقى كلا مِنْهُمْ بوجه طليق، وصَارَت بلاد الحرب كبلاد الإِسْلام، ولم يخش غضب الله الَّذِي لا تطيق غضبه السماوات والأَرْض والجبال الراسيات قُلْتُ: فَكَيْفَ لو رأى تدفق الكفرة على الْمُسْلِمِين وتدفق الشباب على بلاد الكفر.

ولما عظمت الفتنة فتنة الدُّنْيَا، وصَارَت أكبر همهم ومبلغ علمهم حملهم ذَلِكَ على التماسها وطلبها ولو بما يسخط الله، فسافروا إِلَى أعداء الله فِي بلادهم، وخالطوهم فِي أوطانهم ولبس عَلَيْهمْ الشيطان أمر دينهم فنسوا عهد الله وميثاقه الَّذِي أخذ عَلَيْهمْ، فِي مثل قوله تَعَالَى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} .

اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 247

" فَصْلٌ ": وقَالَ تَعَالَى لما ذكر حال المنافقين {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} ، قَالَ بَعْض المفسرين، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عَنْ المنافقين وإغلاظ القول عَلَيْهمْ وأن لا يلقاهم بوجه طلق، بل يكون وجهه مكفهرًا عابسًا متغيرًا من الغيظ فإذا كَانَ هذا مَعَ المنافقين، الَّذِينَ بين أَظْهُرِ الْمُسْلِمِين، يصلون معهم ويجاهدون معهم ويحجون فَكَيْفَ بمن يسافر إِلَى المشركين وأقام بين أظهرهم أيامًا ولياليا واستأذن عَلَيْهمْ فِي بيوتهم وبدأهم بالسَّلام وأكثر لَهُمْ التحية وألان لَهُمْ الكلام ولَيْسَ لَهُ عذر إِلا طلب العاجلة ولم يجعل الله الدُّنْيَا عذرًا لمن اعتذر بها قَالَ تَعَالَى:

{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ} الآيَة.

وقَالَ الشَّيْخ سُلَيْمَانٌ بن سحمان رحمه الله:

شِعْرًا:

وَاللهُ حَرَّمَ مُكْثَ مَنْ هُوَ مُسْلِمٌ

فِي كُلِّ أَرْضٍ حَلَّهَا الْكُفَّارُ

وَلَهُمْ بِهَا حُكْم الْولايةِ قَاهِرٌ

فَارْبَأَ بِنَفْسِكَ فَالْمَقَامُ شَنَارُ

وَانْظُرْ حَدِيثًا فِي الْبَرَاءَةِ قَدْ أَتَى

نَقَلُ الثِّقَاةِ رُوَاتُهُ الأّخْيَارُ

فِيهِ الْبَرَاءَةُ بِالصَّرَاحَةِ قَدْ أَتَتْ

مِنْ مُسْلِمٍ وَكَذَاكَ الآثَارُ

قَدْ صَرَّحْتَ فِيمَنْ أَقَامَ بِبَلْدَةٍ

مُسْتَوْطِنًا وَوُلاتُهَا الْكُفَّارُ

وقَالَ فِي آخر كلامه: فالواجب على العاقل الناصح لنفسه النظر فِي أمره والفكر فِي ذنوبه ومجاهدة نَفْسهُ على التوبة النصوح، والندم على ما فات، والعزيمة على أن لا يعود، والتبديل بالْعَمَل الصالح وتقديم محبة الله على جميع المحاب وإيثار مرضاته على حظوظ النفس، فَإِنَّ كُلّ شَيْء ضيعه ابن آدم ربما يكون لَهُ منه عوض، فَإِن ضيع حظه من الله لم يكن لَهُ عوض، قُلْتُ: وقَدْ أحسن من قَالَ:

مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتُهُ عِوَضٌ

وَمَا مِنَ اللهِ إِنْ ضَيَّعْتَه عَوَضُ

آخر:

وَإِنَّمَا رَجُلُ الدُّنْيَا وَوَاحِدُهَا

مَنْ لا يُعَوِّلُ عَلَى أَحَدٍ سِوَى اللهِ

ص: 248

وقَدْ خاب من كَانَ حظه من الله دنيا يحتلب درها، والخاسر من خسر دينه وإن أفاد فِي دنياه نسأل الله بأسمائه الحسنى أن يأخذ بنواصيها إليه وأن يلزمنا كلمة التَّقْوَى وأن يجعلنا من أهلها وصلى الله على مُحَمَّد.

شعرًا:

بَكِيتُ فَمَا تَبْكِي شَبَاب صَبَاكَا

كَفَاكَ نَذِيرُ الشَّيْبِ فِيكَ كَفَاكَا

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّيْبَ قَدْ قَامَ نَاعِيًا

مَكَانَ الشَّبَابِ الْغَضِّ ثُمَّ نَعَاكَا

أَلَمْ تَرَ يَوْمًا مَرَّ إِلا كَأَنَّهُ

بِإِهْلاكِهِ لِلْهَالِكِينَ عَنَاكَا

أَلا أَيُّهَا الْفَانِي وَقَدْ حَانَ حِيْنُهُ

أَتَطْمَعُ أَنْ تَبْقَى فَلَسْتَ هُنَاكَا

سَتَمْضِي وَيَبْقَى مَا تَرَاهُ كَمَا تَرَى

فَيَنْسَاكَ مِنْ خَلَّفْتَهُ هُوَ ذَاكَا

تَمُوتُ كَمَا مَاتَ الَّذِينَ نَسيتَهُمْ

وَتَنْسَى وَيَهْوَى الْحَيُّ بَعْدَ هَوَاكَا

كَأَنَّكَ قَدْ أُقْصِيتَ بَعْدَ تَقَرُّبٍ

إِلَيْكَ وَإِنْ بَاكٍ عَلَيْكَ بَكَاكَا

كَانَ الَّذِي يَحْثُو عَلَيْكَ مِن الثَّرَى

يُرِيدُ بِمَا يَحْثُو عَلَيْكَ رِضَاكَا

كَأنَ خُطُوبُ الدَّهْرِ لَمْ تَجْرِ سَاعَة

عَلَيْكَ إِذَا الْخَطْبُ الْجَلِيلُ دَهَاكَا

تَرَى الأَرْضَ كَمْ فِيهَا رُهُون كَثِيرَةٌ

غَلِقْنَ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُنَّ فِكَاكَا

اللَّهُمَّ أَنَا نسألك التَّوْفِيق للهداية والبعد عَنْ أسباب الجهالة والغواية ونسألك الثبات على الإِسْلام والسُنَّة، وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ونعوذ بك من مضلات الفتن، وما ظهر مَنْهَا وما بطن ونسألك أن تنصر دينك، وكتابك ورسولك وعبادك الْمُؤْمِنِينَ وأن تظهر دينك على الدين كله ولو كره الكافرون. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد.

" فَصْلٌ "

وقَالَ ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ومن تمام محبة الله محبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، فمن أحب شَيْئًا مِمَّا كرهه الله، أَوْ كره شَيْئًا مِمَّا يحبه الله، لم يكمل توحيده وصدقه فِي قوله

ص: 249

لا إله إلا الله، وكَانَ فيه من الشرك الخفي بحسب ما كره مِمَّا أحبه الله، وما أحبه مِمَّا يكره الله قَالَ الله تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ، وقَالَ الحسن: اعْلَمْ إِنَّكَ لن تحب الله حَتَّى تحب طاعته. وقَالَ بَعْضهمْ: كُلّ من ادعى محبة الله ولم يوافق الله فِي أمره فدعواه باطلة. وقَالَ يحيى بن معاذ: لَيْسَ بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده، وقَالَ رويم: المحبة الموافقة فِي جميع الأَحْوَال. وأنشد يَقُولُ:

وَلَوْ قُلْتَ لِي مُتْ مُتُّ سَمْعًا وَطَاعَةً

وقُلْتُ لِدَاعِي الْمَوْت أَهْلاً وَمَرْحَبَا

خَصَائِصُ مَنْ تُشَاوِرُهُ ثَلاثٌ

فَخُذْهَا مِنْ كَلامِي بِالْحَقِيقَةْ

وِدَادٌ خَالِصٌ وَوُفُورُ عَقْلٍ

وَمَعْرِفَةٌ بِحَالِكَ بِالْحَقِيقَةْ

فَمَنْ تَمَّتْ لَهُ هَذِي الْمَعَانِي

فَتَابِعْ رَأْيَهُ وِفْقَ الشَّرِيعَةْ

وَإِنْ خَالَفَ كَلامَ اللهِ أَوْ

كَلام الْمُصْطَفَى فَاحْذَرْ تُطِيع

ويشهد لهَذَا المعنى قول تَعَالَى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} وقَالَ الحسن: قَالَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّا نحب ربنا شَدِيدًا، فأحب الله أن يجعل لحبه علامة فأَنْزَلَ هَذِهِ الآيَة.

وَمِنْ هُنَا يعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله الا بشهادة أن محمدًا رسول الله، فإذا علم أنه لا تتم محبة الله الا بمحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه، فلا طَرِيق إِلَى معرفة ما يحبه ويكرهه، إلا بإتباع ما أمر به واجتناب ما نهى عَنْهُ، فصَارَت محبته مستلزمة لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه ومتابعته.

أَخْلِصْ لِمَنْ خَلَقَ الأَشْيَاءِ مِنْ عَدَمٍ

وَاتْبَعْ رَسُولَ الْهُدَى فِيمَا أَتَاكَ بِهِ

ولهَذَا قرن الله محبته ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي قوله تَعَالَى {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} .

ص: 250

إلى قوله {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} كما قرن طاعته وطاعة رسوله فِي مواضع كثيرة.

شِعْرًا:

وَإِنَّمَا يَتَسَامَى لِلْعُلَى رَجُلٌ

فِي طَاعَةِ اللهِ لا تُلْهِيهِ أَمْوَالُ

وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلاوة الإِيمَان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه الا لله، وأن يكره أن يرجع إِلَى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره إن يُلقى فِي النار» . وهذه حالة السحرة لما سكنت المحبة فِي قُلُوبهمْ سمحوا ببذل نفوسهم، وقَالُوا لفرعون: اقض ما أَنْتَ قاض.

شِعْرًا:

وَمَنْ تَكُنْ الْفِرْدَوْسَ هِمَّةُ نَفْسِهِِ

فَكُلُّ الَّذِي يَلْقَاهُ فِيهَا مُجَيَّبُ

ومتى تمكنت المحبة من الْقَلْب لم تنَبْعَث الْجَوَارِح إلا إِلَى طاعة الرب، وَهَذَا معنى الْحَدِيث الإلهي: «ولا يزال عبدى يتقرب إِلَيَّ بالنوافل حَتَّى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمَعَ به، وبصره الذى يبصر به ويده التِي يبطش بها ورجله التِي يمشى بها ". وَفِي بَعْض الروايات فبي يسمَعَ وبي يبصر.

والمعنى أن محبة الله إِذَا استغرق بها الْقَلْب واستولت عَلَيْهِ لم تنَبْعَث الْجَوَارِح إلا إِلَى رضا الرب، وسارت النفس مطمئنة حينئذ بإرادة مولاها عَنْ مرادها وهواها، وَفِي بَعْض الكتب السابقة: من أحب الله لم يكن شَيْء عنده آثر من رضاه

شِعْرًا:

كَفَانِي فَخْرًا أَنْ أَمُوتَ مُجَاهِدًا

وَحُبَّ إِلَهِي قَائِدِي مُنْذُ نَشْأَتِي

وقَالَ: لا ينجو غدًا إلا من أتى الله بقلب سليم، لَيْسَ فيه سواه قَالَ تَعَالَى {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وَهُوَ الطاهر من أَدناس المخالفات.

ص: 251

فأما المتلطخ بشَيْء من المكروهات، فلا يصلح لمجاورة حضرة القدوس إلا بعد أن يطهر بكير الْعَذَاب فإذا أزال عَنْهُ الخبث صلح حينئذ للمجاورة إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، فَأَمَّا الْقُلُوب الطيبة فتصلح للمجاورة من أول الأَمْر {سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ، {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .

من لم يحرق نَفْسهُ الْيَوْم بنار الأسف على ما سلف أَوْ بنار الشوق إِلَى لقاء الْحَبِيب، فنار جهنم أشد حرًا ما يحتاج إِلَى تطهير بنار جهنم إلا من لم يكمل التَّوْحِيد والقيام بحقوقه.

أول من تسعر بِهُمْ النار من الموحدين المراؤون بأَعْمَالِهُمْ وأولهم العَالِم والمتصدق والمجاهد للرياء، ولأن الرياء شرك ما تظاهر المرائى إِلَى الخلق بعمله إلا لجهله بعظمة الخالق، المرائي يزور التوقيع على اسم الملك ليأخذ البراطيل لنفسه، ويوهمهم أنه من خاصة الملك، وَهُوَ ما يعرف الملك بالكلية، نقش المرائي على الدرهم الزائف اسم الملك ليروج والبهرج لا يجوز ألا على غير الناقَدْ.

وقَالَ ابن القيم رحمه الله: من أحب شَيْئًا سِوَى الله ولم تكن محبته لَهُ لله ولا لكونه معينًا لَهُ على طاعة الله، عذب فِي الدُّنْيَا قبل اللقاء كما قِيْل:

شِعْرًا:

أَنْتَ الْقَتِيلُ بِكُلِّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ

فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ فِي الْهَوَى مَنْ تَصْطَفِي

فإذا كَانَ يوم القيامة، ولى الحكم العدل سُبْحَانَهُ كُلّ محب من كَانَ يحبه فِي الدُّنْيَا فكَانَ معه إمَّا منعمًا وإمّا معذبًا، ولهَذَا يمثل لمحب الْمَال ماله شجاعًا أقرع، يأخذ بلهزميته، يقول: أَنَا مالك أَنَا كنْزُك وصفح لَهُ صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبينه وظهره.

وَكَذَا عاشق الصور إِذَا اجتمَعَ هُوَ ومعشوقه على غير طاعة الله، جمَعَ بينهما فِي النار وعذب كُلّ منهما بصاحبه، قَالَ تَعَالَى {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} .

ص: 252

وأخبر سُبْحَانَهُ أن الَّذِينَ توادوا فِي الدُّنْيَا على الشرك يكفر بَعْضهمْ ببَعْض يوم القيامة، ويلعن بَعْضهمْ بَعْضًا ومأواهم النار وما لَهُمْ من ناصرين.

فالمحب مَعَ محبوبه دنيا وأخرى، ولهَذَا يَقُولُ الله تَعَالَى يوم القيامة للخلق ألَيْسَ عدلاً مني أن أولي كُلّ رجل منكم ما كَانَ يتولى فِي دار الدُّنْيَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:«المرء مَعَ من أحب» . وقَالَ تَعَالَى {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً} .

وقَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} قَالَ عُمَر بن الْخَطَّاب رضي الله عنه: أزواجهم أشباهم ونظراؤهم، وقَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} .

فقرن كُلّ شكل إِلَى شكله، وجعل معه قرينًا وزوجًا، البر مَعَ البر والفاجر مَعَ الفاجر.

والمقصود أن من أحب شَيْئًا سِوَى الله فالضَّرَر حاصل لَهُ بمحبوبه إن وَجَدَ وان فقَدْ، فإنه إن فقَدْ عذب بفواته، وتألم عَلَى قَدْرِ تعلق قَلْبهُ به، وإن وجده كَانَ ما يحصل لَهُ من الألم قبل حصوله، ومن النكد فِي حال حصوله، ومن الحَسْرَة عَلَيْهِ بعد فواته، أضعاف ما فِي حصوله لَهُ من اللذة.

وَهَذَا الأَمْر معلوم بالاستقراء والاعتبار والتجارب، ولهَذَا قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيث الذى رَوَاهُ الترمذى وغيره:«الدُّنْيَا ملعونة ملعون ما فيها ألا ذكر الله وما والاه» .

فذكره جميع أنواع طاعته فكل من كَانَ فِي طاعته فهو فِي ذكره، وإن لم يتحرك لِسَانه بالذكر، وكل من والاه فقَدْ أحبه وقربه فاللعنة لا تنال ذَلِكَ بوجه وهي نائلة كُلّ ما عداه.

ص: 253

اللَّهُمَّ ارزقنا العافية فِي أبداننا والعصمة فِي ديننا وأحسن منقلبنا وَوَفِّقْنَا للعمل بِطَاعَتكَ أبدًا ما أبقيتنا واجمَعَ بين خيري الدُّنْيَا والآخرة، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها وارزقنا القيام بِطَاعَتكَ وجنبنا ما يسخطك وأصلح نياتنا وذرياتنا وأعذنا من شر نُفُوسنَا وسيئات أعمالنا وأعذنا من عَدُوّكَ واجعل هوانَا تبعا لما جَاءَ به رسولك صلى الله عليه وسلم وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

(فَصْلٌ)

عباد الله كلمة التَّوْحِيد "لا إله إلا الله "، هِيَ العروة الوثقى وهي التِي فطر الله عَلَيْهَا جميع خلقه.

ولها أركَانَ وشروط، فأركانها اثنان نفي وإثبات. وحد النفي من الإثبات (لا إله) ، أي نَافيًا جميع ما يعبد من دون الله. والأثبات (إلا الله) أي مثبتًا العبادة لله وحده لا شريك لَهُ فِي عبادته كما أنه لا شريك لَهُ فِي ملكه.

وأما شروطها فسبعة لا تصح هَذِهِ الكلمة ولا تنفع قائلها إلا إِذَا استجمعت لَهُ الشروط التِي تلي.

الأول: العلم، بمعناها نفيًا وإثباتًا، قَالَ الله تَعَالَى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إله إلا الله} وقَالَ {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقَالَ صلى الله عليه وسلم:«من مَاتَ وَهُوَ يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الْجَنَّة» .

الثانى: اليقين، أي استيقان الْقَلْب بها قَالَ الله تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} إِلَى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} .

وقال صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الْجَنَّة» . وقَالَ صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: «من لقيت وراء هَذَا

ص: 254

الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قَلْبهُ فبشره بالْجَنَّة» . كلاهما فِي الصحيح.

الثالث: الإخلاص، قَالَ الله تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، وقَالَ {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ، وَعَنْ أَبِي هريرة قَالَ: قُلْتُ يا رسول الله من أسعد النَّاس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ ظننت يَا أبا هريرة أن لا يسألنى عَنْ هَذَا الْحَدِيث أحد أولى منك لما رَأَيْتُ من حرصك على الْحَدِيث. أسعد النَّاس بشفاعتي يوم القيامة من قَالَ لا إله إلا الله خالصًا من قَلْبهُ أَوْ نَفْسهُ» .

وعن أبي هريرة قَالَ: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ الله تَعَالَى أَنَا أغنى الشركاء عَنْ الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» . رَوَاهُ مُسْلِم.

الرابع: الصدق، قَالَ الله تَعَالَى {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، عن ابن عباس قَالَ: من جَاءَ بلا إله إلا الله وقَالَ {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) .

وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّد رسول الله صدقًا من قَلْبهُ إلا حرمه الله عَلَى النَّارِ» . متفق عَلَيْهِ. وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: «يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قَلْبهُ» . الْحَدِيث رَوَاهُ مُسْلِم.

وقَالَ صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي علمه شرائع الإِسْلام: «أفلح إن صدق ".

الخامس: المحبة قَالَ الله تَعَالَى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}

وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلوة الإِيمَان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله» . الْحَدِيث. متفق عَلَيْهِ.

ص: 255

وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حَتَّى أكون أحب اليه من والده وولده والنَّاس أجمعين ". متفق عَلَيْهِ.

السادس: الانقياد لها ظاهرًا وباطنًا، قَالَ تَعَالَى {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، وقَالَ تَعَالَى {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} وقَالَ صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حَتَّى يكون هواه تبعًا لما جئت به» .

السابع: القبول لها، وقَدْ جمَعَ بَعْضهمْ شروط " لا إله إلا الله " في بيت فقال:

علم يقين وإخلاص وصدقك مَعَ

محبة وانقياد والقبول لها

فلا يرد شَيْئًا من لوازمها ومقتضياتها، قَالَ تَعَالَى:{وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} إِلَى قوله: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} وقَالَ أيضًا فِي حق من لم يقبلها " إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إله إلا الله يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} .

وعن أبي مُوَسى رضي الله عنه قال: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فَكَانَتْ مَنْهَا طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكَانَ مَنْهَا أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها النَّاس فشربوا مَنْهَا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هِيَ قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فَذَلِكَ مثل من فقه فِي دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذَلِكَ رأسًا ولم يقبل هدى الله الَّذِي أرسلت به» . متفق عَلَيْهِ.

وقَدْ شهد الله لنفسه بالوحدانية فِي قوله تَعَالَى {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ

ص: 256

هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

فقَدْ تضمنت هَذِهِ الآيَة الكريمة حَقِيقَة التَّوْحِيد والرد على جميع طوائف الضلال فقَدْ تضمنت أجّل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به

وعبارات السَّلَف فِي "شهد" تدور على الحكم والِقَضَاءِ والأعلام والأخبار والبيان وهذه الأقوال كُلّهَا حق لا تنافي بينها

فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه فلها أربع مراتب:

فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته

وثانيها: تكلمه بذَلِكَ وإن لم يعلم به غيره بل يتكلم بها مَعَ نَفْسهُ ويتذكرها ونطق بها أَوْ يكتبها.

وثالثها: أن يعلم غيره بما يشهد ويخبره به ويبينه لَهُ

ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به فشهادة الله سُبْحَانَهُ لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هَذِهِ المراتب الأربع علمه بذَلِكَ وتكلمه وإخباره لخلقه وأمرهم وإلزامهم به. فأما مرتبة العلم فَإِنَّ الشهادة تتضمنها ضرورة وإلا كَانَ الشاهد شاهدًا بما لا علم لَهُ به، قَالَ تَعَالَى {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}

وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «على مثلها فاشهد» . وأشار إِلَى الشمس. وأما مرتبة التكلم والخبر فقَالَ تَعَالَى {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} فجعل ذَلِكَ مِنْهُمْ شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عَنْدَ غيرهم.

ص: 257

وأما مرتبة الإعلام فنوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالْفِعْل، وَهَذَا شأن كُلّ معلم لغيره بأمرٍ، تَارَّة يعلمه به بقول وتَارَّة بفعل ولهَذَا كَانَ من جعل داره مَسْجِدًا وأبرزها وفتح طريقها وأذن للناس بالدخول والصَّلاة فيها معِلْمًا أنها وقف وإن لم يلفظ

وَكَذَا شهادة الرب عز وجل وبيانه وأعلامه يكون بقوله تَارَّة وبفعله أخرى فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه

وأما بيانه وإعلامه بفعله كما قَالَ ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عَنْدَ خلقه أن إلا اله إلا هو، وقَالَ الآخر:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ

تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ

آخر:

لَهُ كُلُّ ذَرَّاهِ الْوُجُودِ شَوَاهِدٌ

عَلَى أَنَّهُ الْبَارِي الإِلَهُ الْمُصَوِّرُ

آخر:

تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الأَرْضِ وَانْظُرْ

إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ

عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنَ شَاخَِصاتٌ

بِأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهِبُ السَّبِيكُ

عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ

بِأَنَّ اللهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ

وَأَنَّ مُحَمَّدًا خَيْرُ الْبَرَايَا

إِلَى الثَّقَلَيْنِ أَرْسَلَهُ الْمَلِيكُ

آخر:

تَأَمُلْ سُطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا

مِنْ الْمَلِكِ الأَعْلَى إِلَيْكَ رَسَائِلُ

وَقَدْ كَانَ فِيهَا لَوْ تَأَمَّلْتَ خَطَّهَا

أَلا كُلَّ شَيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ

ومِمَّا يدل على أن الشهادة تَكُون بالْفِعْل قوله تَعَالَى {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} فهذه شهادة مِنْهُمْ على أنفسهم بما يفعلونه.

وأما مرتبة الأَمْر بذَلِكَ والإلزام به فَإِنَّ مجرد الشهادة لا يستلزمه لكن الشهادة فِي هَذَا الموضع تدل عَلَيْهِ وتتضمنه.

فإنه سُبْحَانَهُ شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده كما قال

ص: 258

تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وقَالَ: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَاّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً} والقرآن كله شاهد بذَلِكَ.

ووجه استلزام شهادته سُبْحَانَهُ لِذَلِكَ أنه إِذَا شهد أنه لا اله إلا هُوَ فقَدْ أخبر ونبَّأ وأعْلَمَ وحكم وقضى أن ما سواه لَيْسَ بإله وأن ألوهية ما سواه باطلة.

فلا يستحق العبادة سواه كما لا تصلح الإلهية لغيره، وَذَلِكَ يستلزم الأَمْر باتخاذه وحده إلهًا والنهى عَنْ إتخاذ غيره معه إلهًا ولا إله إلا الله هِيَ كلمة التَّوْحِيد التِي اتفقت عَلَيْهَا الرسل صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهمْ أجمعين.

وما من رسول إلا جعلها مفتتح أمره وقضب رحاه كما قَالَ نبينا صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل النَّاس حَتَّى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل» .

وحق هَذِهِ الكلمة هُوَ فعل الواجبات وترك المحرمَاتَ.

وأما فائدتها وثمرتها فالسعادة فِي الدُّنْيَا والآخِرَة لمن قالها عارفًا لمعناها عاملاً بمقتضاها، وأما مجرد النطق فلا ينفع لا بد من عمل.

قَالَ شيخ الإِسْلام: من اعتقَدْ أنه بمجرد تلفظه بالشهادة يدخل الْجَنَّة ولا يدخل النار فهو ضال مخالف للكتاب والسُنَّة والإجماع. أ. هـ

اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا واكنَّته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التِي تعلمها منا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الإحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

" موعظة "

عباد الله إن لكلمة التَّوْحِيد فضائل عظيمة لا يمكن استقصاؤها مَنْهَا أنها

ص: 259

كلمة الإِسْلام وإنها مفتاح دار السَّلام فيا ذوي العقول الصحاح ويا ذوي البصائر والفلاح جددوا إيمانكم فِي المساء والصباح بقول لا إله إلا الله من أعماق قلوبكم متأملين لمعناها عاملين بمقتضاها.

عباد الله ما قامت السماوات والأَرْض ولا صحت السُنَّة والفرض ولا نجا أحد يوم العرض إلا بلا إله إلا الله ولا جردت سيوف الجهاد، ولا أرسلت الرسل إِلَى العباد إلا ليعلمهم الْعَمَل بلا إله إلا الله.

تالله إنها كلمة الحق ودعوة الحق وإنها براءة من الشرك ونجاة هَذَا الأَمْر ولأجلها خلق الله الخلق كما قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقَالَ تَعَالَى {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ} .

قَالَ ابن عيينة رحمه الله: ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله، وأن لا إله إلا الله لأَهْل الْجَنَّة كالماء البارد لأَهْل الدُّنْيَا ولأجلها أعدت دار الثواب، ودار العقاب ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد.

فمن قالها عصم ماله ودمه ومن أباها فماله ودمه حلال، وبها كلم الله مُوَسى كفاحًا وَهِيَ أَحْسَن الحسنات كما فِي المسند عَنْ شداد بن أوس وعبادة بن الصامت رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ لأصحابه:«ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله» . فرفعنا أيدينا ساعة فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده. وقَالَ: «الحمد لله اللَّهُمَّ بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها ووعدتني الْجَنَّة وإنك لا تخلف الميعاد» .

ثُمَّ قَالَ: «أبشرو فَإِنَّ الله قَدْ غفر لكم وهي أحسن الحسنات وهي تمحو الذُّنُوب والخطايا.

وفي سنن ابن ماجة عَنْ أم هانئ عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا إله إلا الله لا

ص: 260

تترك ذنبًا ولا يسبقها عمل» . وروي بعض السَّلَف بعد موته فِي المنام فقَالَ: ما أبقت لا إله إلا الله شَيْئًا وهي تجدد ما درس من الإِيمَان فِي الْقَلْب.

آخر:

وَإِنَّ أَصْدَقَ قَوْلٍ أَنْتَ قَائِلُهُ

قَوْلٌ تَضَمَّنَ تَوْحِيدَ الَّذِي خَلَقَا

وَفِي المسند أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأصحابه: «جددوا إيمانكم» . قَالُوا: كيف نجدد إيماننا؟ قَالَ: «قولوا لا إله إلا الله، وهي التِي لا يعدلها شَيْء فِي الوزن فلو وزنت بالسموات والأَرْض لرجحت بهن، كما فِي المسند عَنْ عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن نوحًا عليه السلام قَالَ لابنه عَنْدَ موته " آمرك بلا إله إلا الله فَإِنَّ السموات السبع والأرضين السبع لو وضعن فِي كفة ووضعت لا إله إلا الله لرجحت بهن، ولو أن السموات السبع والأرضين كن فِي حلقه مبهمة فصمتهن لا إله إلا الله.

وأنها ترجح بالسموات والأرض كما فِي حديث عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عنه أن مُوَسى عليه السلام قَالَ: يَا رب علمني شَيْئًا اذكرك وادعوك به. قَالَ: يَا مُوَسى قل لا إله إلا الله. قَالَ مُوَسى: يَا رب كُلّ عبادك يقولون هَذَا؟

قَالَ: يَا مُوَسى قل لا إله لا الله. قَالَ: لا إله إلا الله، إنما أريد شَيْئًا تخصني به؟ قَالَ: يَا مُوَسى لو أن السموات السبع والأرضين السبع وعامرهنَّ غيري فِي كفة ولا إله إلا الله فِي كفة مالت بهنَّ لا إله إلا الله.

كَذَلِكَ ترحج فِي صحائف الذُّنُوب، كما فِي حديث السجلات، والبطاقة، وفي حديث عَبْد اللهِ بن عمرو فيما أَخْرَجَهُ أحمد والنسائي والترمذى عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

اللَّهُمَّ نجنا بِرَحْمَتِكَ من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَّة دار الْقَرَار وعاملنا بكرمك وجودك يَا كريم يَا غفار واغفر لَنَا.

ص: 261

ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه اجمعين.

"فَصْلٌ"

وهي التِي تخرق الحجب حَتَّى تصل إِلَى الله عز وجل وإنها لَيْسَ لها دون الله حجاب، لما تقدم ولما في الترمذي عن عَبْد اللهِ بن عمرو وعن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:«لا إله إلا الله لَيْسَ لها دون الله حجاب وأنها تفتح لها أبواب السماء، كما فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: ما من عبد قَالَ: لا إله إلا الله مخلصًا إلا فتحت لها أبواب السماء حَتَّى تفضي إِلَى العرش» .

ويروى عَنْ ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «ما من شَيْئًا إلا بينه وبين الله حجاب، إله الا الله كما أن شفتيك لا تحجبها كَذَلِكَ لا يحجبها شَيْئًا حَتَّى تنتهي إِلَى الله عز وجل.

وورد عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «من قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شىء قدير مخلصًا بها قَلْبهُ يصدق بها لسانه إلا فتح الله السماء فتقًا حَتَّى ينظر إِلَى قائلها من أهل الأرض، وحق لعبد نظر الله إليه أن يعطيه سؤاله، وهي الكلمة التِي يصدق الله قائلها.

كما فِي حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضى الله عنهما عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قَالَ الْعَبْد لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه وقَالَ لا اله الا أَنَا، وأنَا اكبر. وَإِذَا قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ. قَالَ الله لا إله الا أَنَا وحدي لا شريك لي. وَإِذَا قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، له الملك ولَهُ الحمد. قَالَ الله لا إله إلا أَنَا لي الملك ولي الحمد، وَإِذَا قَالَ العبد لا إله إلا الله ولا

ص: 262

حول ولا قوة الا بِاللهِ، قَالَ الله: لا إله إلا أَنَا ولا حول ولا قوة إلا بي. وكَانَ يَقُولُ من قالها فِي مرضه ثُمَّ مَاتَ لم تطعمه النار، وهي أفضل ما قاله النبيون كما ورد ذَلِكَ فِي دعاء عرفة وهي أفضل الذكر كما فِي حديث جابر المرفوع أفضل الذكر لا إله إلا الله وعن ابن عباس رضى الله عنهما أحب كلمة إِلَى الله لا إله لا الله، لا يقبل الله عملاً إلا بها.

وهي أفضل الأَعْمَال، وأكثرها تضعيفًا وتعدل عتق الرقاب وتَكُون حرزًا من الشيطان، كما فِي الصحيحين عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شىء قدير فِي يوم مائة مرة كَانَتْ لَهُ عدل عشر رقاب، وكتب لَهُ مائة حسنَّة ومحيت عَنْهُ مائة سَيِّئَة ولم يأت أحد بأفضل مِمَّا جَاءَ به، إلا واحد عمل أكثر من ذَلِكَ.

وورد أن من قالها عشر مرات كَانَ كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل، وفي الترمذي عَنْ عمر مرفوعًا:«من قالها إِذَا دخل السوق» . وزَادَ فيها: «يحيى ويميت بيده الْخَيْر وَهُوَ على كُلّ شىء قدير، كتب الله لَهُ ألف ألف حسُنَّة، ومحى عَنْهُ ألف ألف سَيِّئَة، ورفع لَهُ ألف ألف درجة» . وَفِي رواية: «يُبنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة» .

ومن فضائلها أنها آمان من وحشة القبر وهول المحشر كما فِي المسند وغيره عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ على أَهْل لا إله إلا الله وحشة فِي قبورهم ولا فِي نشورهم، وكأني بأَهْل لا إله إلا الله ينفضون التُّرَاب عَنْ رؤوسهم ويقولون: الحمد لله الذى اذهب عنا الحزن» .

وَفِي حديث مرسل: «من قَالَ لا إله إلا الله الملك الحق المبين كُلّ يوم مائة مرة كَانَتْ أمانًا من الفقر، وأنسًا من وحشة القبر، واستجلب به الغنى، واستقرع به باب الْجَنَّة، وهي شعار الْمُؤْمِنِينَ إِذَا قاموا من قبورهم» .

ص: 263

ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الْجَنَّة الثمانية، يدخل من أيها شَاءَ. وفي الصحيحين عَنْ عبادة بن الصامت رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عَبْد اللهِ ورسوله، وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه، وأن الْجَنَّة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من فِي القبور، فتحت لَهُ أبواب الْجَنَّة الثمانية يدخل من أيها شَاءَ» .

وفي حديث عَبْد الرَّحْمَنِ بن سمرة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي قصة منامه الطويل، وفيه قَالَ:«رَأَيْت رجلاً من أمتي انتهى إِلَى أبواب الْجَنَّة فأغلقت دونه، فجأته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت لَهُ الأبواب وأدخلته الْجَنَّة» .

ومن فضائلها أن أهلها وإن دخلوا النار بتقصيرهم فِي حقوقهم، فَإِنَّهُمْ لا بد أن يخرجوا مَنْهَا. وفي الصحيحين عَنْ أَنَس رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:«يَقُولُ الله وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن مَنْهَا من قَالَ لا إله إلا الله» . أ. هـ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وسلم.

" فَصْلٌ "

قَالَ ابن القيم رحمه الله: أصل الأَعْمَال الدينية حب الله ورسوله كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله، وكل إرادة تمنع كمال حب الله ورسوله، وتزحم هَذِهِ المحبة فَإِنَّهَا تمنع كمال التصديق.

فهى معارضة لأصل الإِيمَان أَوْ مضعفة لَهُ. فَإِنَّ قويت حَتَّى عارضت أصل الحب والتصديق كَانَتْ كفرًا أَوْ شركًا أكبر، وإن لم تعارضه قدحت فِي كماله وأثرت فيه ضعفًا وفتورًا فِي العزيمة والطلب، وهي تحجب الواصل وتقطع الطالب وتنكي الراغب.

فلا تصلح الموالاة إلا بالمعاداة كما قَالَ تَعَالَى عَنْ إمام الحنفاء المحبين أنه قَالَ لقومه {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} فلم تصلح لخليل الله هَذِهِ الموالاة والخلة إلا بتحقيق هَذِهِ المعاداة فإن

ص: 264

ولاية الله لا تصلح إلا بالبراءة من كُلّ معبود سواه.

قَالَ تَعَالَى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)) .

وقَالَ تَعَالَى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَهُمْ يَرْجِعُونَ} أَي جعل هَذِهِ الموالاة لله والبراءة من كُلّ معبود سواه كلمة باقية فِي عقبه يتوارثها الأَنْبِيَاء وأتباعهم بَعْضهمْ عَنْ بَعْض. وهي كلمة لا إله إلا الله،وهي التِي وَرَّثَهَا إمام الحنفاء لأتباعه إِلَى يوم القيامة.

وهي الكلمة التِي قامت بها الأَرْض والسموات وفطر الله عَلَيْهَا جميع المخلوقات، وعَلَيْهَا أسست الملة ونصبت القبلة، وجردت سيوف الجهاد.

وهي محض حق الله على جميع العباد.

وهي الكلمة العاصمة للدم والْمَال والذرية فِي هَذِهِ الدار المنجية من عذاب القبر وعذاب النار، وهي المنشود الذى لا يدخل أحد الْجَنَّة إلا به والحبل الذي لا يصل إِلَى الله من لم يتعلق بسببه.

وهي كلمة الإِسْلام ومفتاح دار السَّلام، وبها انقسم النَّاس إِلَى شقي وسعيد ومقبول وطريد.

وبها انفصلت دار الكفر من دار السَّلام وتميزت دار النَّعِيم من دار الشقاء والهوان.

وهي العمود الحامل للفرض والسُنَّة ومن كَانَ آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الْجَنَّة» .

وروح هَذِهِ الكلمة وسرها إفراد الرب جل ثناؤه وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتَعَالَى جده ولا إله غيره بالمحبة والإجلال والتعَظِيم والخوف والرجَاءَ وتوابع ذَلِكَ، من التوكل والإنابة والرغبة والرهبة.

فلا يحب سواه، بل كُلّ ما كَانَ يحب غيره فإنما هُوَ تبعًا لمحبته وكونه وسيلة إِلَى

ص: 265

زيادة محبته ولا يخاف سواه، ولا يرجو سواه ولا يتوكل إلا عَلَيْهِ، ولا يرغب إلا إليه، ولا يرهب إلا منه.

ولا يحلف إلا باسمه، ولا ينذر إلا له، ولا يتأب إلا إليه، ولا يطاع إلا أمره، ولا يحتسب إلا به، ولا يستعان فِي الشدائد إلا به، ولا يلتجأ إلا إليه، ولا يسجد إلا لَهُ، ولا يذبح إلا لَهُ وباسمه. يجتمَعَ ذَلِكَ فِي حرف واحد هُوَ أن: لا يعبد بجميع أنواع العبادة إلا هُوَ.

فهَذَا هُوَ تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، ولهَذَا حرم الله عَلَى النَّارِ أن تأكل من شهد أن لا إله إلا الله حَقِيقَة الشهادة، ومحال أن يدخل النار من تحقق بحَقِيقَة هَذِهِ الشهادة وقام بها كما قَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} فيكون قائمًا بشهادته فِي باطنه وظاهره وَفِي قَلْبهُ وقالبه.

فإن من النَّاس من تَكُون شهادته ميتة.

وَمِنْهُمْ من تَكُون نائِمَّة إِذَا نبهت انتبهت، وَمِنْهُمْ من تَكُون مضطجعة، وَمِنْهُمْ من تَكُون إِلَى القيام أقرب. وهي فِي الْقَلْب بمنزلة الروح فِي البدن. فروح ميتة وروح مريضة إِلَى الموت أقرب.

وروح إِلَى الحياة أقرب، وروح صحيحة قَائِمَة بمصالح البدن. وفي الْحَدِيث الصحيح عَنْهُ صلى الله عليه وسلم:«إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عَنْدَ الموت إلا وجدت روحه لها روحًا» .

فحياة هَذِهِ الروح بهذه الكلمة فكما أن حياة البدن بوجود الروح فيه وكما إن من مَاتَ على هَذِهِ الكلمة فهو فِي الْجَنَّة يتقلب فيها.

فمن عاش على تحقيقها والقيام بها فروحه تتقلب فِي جنة المأوى وعيشها أطيب عيش، قَالَ تَعَالَى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} .

ص: 266

فالْجَنَّة مأواه يوم اللقاء، وجنة المعرفة والمحبة والأُنْس بِاللهِ والشوق إِلَى لقائه والفرح به والرضى عَنْهُ وبه مأوى روحه فِي هَذِهِ الدار.

فمن كَانَتْ هَذِهِ الْجَنَّة مأواه ها هنا كَانَتْ جنة الخلد مأواه يوم الميعاد، ومن حرم هَذِهِ الْجَنَّة فهو لتلك الْجَنَّة أشد حرمانًا.

والأَبْرَار فِي نعيم وإن اشتد بِهُمْ العيش وضاقت بِهُمْ الدُّنْيَا، والفجار فِي جحيم وإن اتسعت عَلَيْهمْ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} .

وطيب الحياة جنة الحياة، قَالَ تَعَالَى {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} ، فأي نعيم أطيب من شرح الصدر، وأي عذاب أشد من ضيق الصدر.

وقَالَ تَعَالَى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .

فالمُؤْمِن المخلص لله من أطيب النَّاس عيشًا وأنعمهم بالاً وأشرحهم صدرًا وأسرهم قلبًا، وهذه جَنَّة عاجلة قبل الْجَنَّة الآجلة؟ قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا مررتم برياض الْجَنَّة فارتعوا» . قَالُوا: وما رياض الْجَنَّة؟ قَالَ: «حلق الذكر» .

ومن هَذَا قوله صلى الله عليه وسلم: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الْجَنَّة» . ومن هَذَا قوله وقَدْ سألوه عَنْ وصاله فِي الصوم وقَالَ: «إني لست كهيئتكم إني أظِلّ عَنْدَ ربى يطعمني ويسقينى» .

فأخبر صلى الله عليه وسلم أن ما يحصل لَهُ من الغذاء عَنْدَ ربه يقوم مقام الطعام والشراب الحسي، وأن ما يحصل لَهُ من ذَلِكَ أمر مختص به لا يشركه فيه غيره، فإذا أمسك عَنْ الطعام والشراب فله عوض عَنْهُ يقوم مقامه وينوب منابه ويغني عَنْهُ كما قِيْل:

ص: 267

لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا

عَنِ الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنْ الزَّاد

لَهَا بِوَجْهِكَ نُورٌ تَسْتَضِئُ بِهِ

وَمِنْ حَدِيثِكَ فِي أَعْقَابِهَا حَادِي

إِذَا اشْتَكَتْ مَنْ كِلالِ السَّيْرِ أَوْعَدَهَا

رُوحُ اللقَاءِ فتحي عَنْدَ ميعَادِ

وكُلَّما كَانَ وجود الشئ أنفع للعبد وَهُوَ إليه أحوج كَانَ تألمه بفقده أشد، وكُلَّما كَانَ عدمه أنفع كَانَ تألمه بوجوده أشد، ولا شَيْء على الإطلاق أنفع للعبد من إقباله على الله، واشتغاله بذكره وتنعمه بحبه، وإيثاره لمرضاته. بل لا حياة ولا نعيم ولا سرور ولا بهجة إلا بذَلِكَ.

فعدمه ألم شَيْء لَهُ وأشد عذابًا عليه، وإنما تغيب الروح عَنْ شهود هَذَا الألم والْعَذَاب لا اشتغالها بغيره واستغراقها فِي ذَلِكَ الغير فتغيب به عَنْ شهود ما هِيَ فيه من ألم العقوبة بفراق أحب شَيْء إليها وأنفعه لها.

وهذا بمنزلة السكران المستغرق فِي سكره الذى احترقت داره وأمواله وأهله وأولاده وَهُوَ لاستغراقه فِي السكر لا يشعر بألم ذَلِكَ الفوات وحسرته.

حتى إِذَا صحا وكشف عَنْهُ غطاء السكر وانتبه من رقدة الخمر فهو اعْلَمْ بحاله حيئنذٍ، وهكَذَا الحال سواء عَنْدَ كشف الغطاء ومعاينة طلائع الآخِرَة والإشراف على مفارقة الدُّنْيَا والانتقَال مَنْهَا إِلَى الله.

بل الألم والحَسْرَة والْعَذَاب هناك أشد بأضعاف أضعاف ذَلِكَ، فَإِنَّ المصاب فِي الدُّنْيَا يرجو جبر مصيبته فِي الدُّنْيَا بالعوض ويعلم أنه قَدْ أصيب بشَيْء زائل لا بقاء له، فَكَيْفَ بمن مصيبته بما لا عوض عَنْهُ ولا بدل منه ولا نسبة بينه وبين الدُّنْيَا جميعها.

فلو قضى الله سُبْحَانَهُ بالموت من هَذِهِ الحَسْرَة والألم لكَانَ الْعَبْد جديرًا به، وأن الموت ليعد أكبر أمنيته وأكبر حسراته هذا لو كان الألم على مجرد الفوات.

ص: 268

كيف وهناك من الْعَذَاب على الروح والبدن أمور أخرى مِمَّا لا يقدر قدره؟

فتبارك من حمل هَذَا الخلق الضعيف هذين الأليمين العظيمين اللذين لا تحملهما الجبال الرواسي. فاعرض على نفسك الآن أعظم محبوب لَكَ فِي الدُّنْيَا، بحيث لا تطيب لَكَ الحياة إلا معه فأصبحت وقَدْ أخذ منك وحيل بينك وبينه أحوج ما كنت اليه، كيف يكون حالك هَذَا ومنه كُلّ عوض؟ فَكَيْفَ بمن لا عوض عَنْهُ؟ كما قِيْل:

وَمَا ضَرَّنِي إِتْلافُ عُمْرِي كُلِّهِ

إِذَا لِمَرَاضِي اللهِ أَصْبَحْتُ حَائِزَا

وَفِي الأثر الإلهي: «ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبَنِي تجدني فَإِنَّ وجدتني وجدت كُلّ شَيْء، وإن فتك فاتك كُلّ شَيْء، وأنَا أحب إليك من كُلّ شَيْء» . انتهى كلامه رحمه الله.

شِعْرًا:

كُلٌّ لَهُ مَطْلَبٌ يَسْعَى لِيُدْرِكَهُ

مُسْتَحْسِنًا لِلَّذِي يرضَى وَيَهْوَاه

وَذُو الدِّيَانَةِ يَسْعَى دَائِمًا أَبَدًا

فِيمَا يَرَى أَنَّهُ يَرْضَى بِهِ الله

اللَّهُمَّ علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ولا تجعل علمنا وبالاً علينا. اللَّهُمَّ قوى معرفتنا بك وبأسمائك وصفاتك ونور بصائرنا ومتعنا بإسماعنا وأبصارنا وقواتنا يا رب العالمين. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين

قَالَ الشَّيْخ سُلَيْمَانٌ بن سحمان رحمه الله:

رَسَائِلُ إِخْوَانِ الصَّفَا وَالتَّوَدُّدِ

إِلى كُلّ ذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ مُوَحِّدِ

وَمِنْ بَعْدِ حَمْدِ اللهِ وَالشُّكْرِ وَالثَّنَا

صَلاةً وَتَسْلِيمًا عَلَى خَيْرِ مُرْشِدِ

وَآلٍ وَصَحْبٍ وَالسَّلامُ عَلَيْكُمُ

بِعَدِّ وَمِيضِ الْبَرْقِ أَهْلَ التَّوَدُّدِ

وَبَعْدُ فَقَدْ طَمَّ الْبَلاءُ وَعَمَّنَا

مِن الْجَهْلِ بِالدِّينِ الْقَوِيمِ الْمُحَمَّدِي

بِمَا لَيْسَ نَشْكُو كَشْفَهُ وَانْتِقَادَنَا

لِغَيْرِ الإِلهِ الْوَاحِدِ الْمُتَفَرِّدِ

وَلَمْ يَبْقَ إِلا النَّزْرُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ

يُعَادِيهُمُ مِنْ أَهْلِهَا كُلُّ مُعْتَدِ

فَهُبُّوا عِبَادَ اللهِ مِنْ نَوْمَةِ الرَّدَى

إِلى الْفِقْهِ فِي أَصْلِ الْهُدَى وَالتَّجَرُّدِ

ص: 269

.. وَقَدْ عَنَّ أَنْ نُهْدِي إِلَى كُلِّ صَاحِبٍ

نَضِيدًا مِن الأَصْلِ الأَصِيلِ الْمُؤَطَّدِ

فَدُونَكَ مَا نُهْدِي فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ

لِذَلِكَ أَمْ قَدْ غِينَ قَلْبُكَ بِالدَّدِ

تَرُوقُ لَكَ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِ أَهْلِهَا

كَأَنْ لَمْ تَصِرْ يَوْمًا إِلَى قَبْرِ مَلْحَدِ

فَإِنْ رُمْتَ أَنْ تَنْجُو مِن النَّارِ سَالِمًا

وَتَحْظَى بِجَنَّاتٍ وَخُلْدٍ مُؤَبَّدِ

وَرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَأَرْفَهِ حِبْرَةٍ

وَحُورٍ حِسَانٍ كَالْيَوَاقِيتِ خُرَّدِ

فَحَقِّقْ لِتَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ مُخْلِصًا

بِأَنْوَاعِهَا للهِ قَصْدًا وَجَرِّدِ

وَأَفْرِدْهُ بِالتَّعْظِيمِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَا

وَبِالْحُبِّ وَالرُّغْبَى إِلَيْهِ وَجَرِّدِ

وَبِالنَّذْرِ وَالذَّبْحِ الذَّي أَنْتَ نَاسِكٌ

وَلا تَسْتَغِثْ إِلا بِرَبِّكَ تَهْتَدِ

وَلا تَسْتَعِنْ إِلا بِهِ وَبِحَوْلِهِ

لَهُ خَاشِيًا بَلْ خَاشِعًا فِي التَّعَبُّدِ

وَلا تَسْتَعِذْ إِلا بِهِ لا بِغَيْرِهِ

وَكُنْ لائِذًا بِاللهِ فِي كُلِّ مَقْصَدِ

إِلَيْهِ مُنِيبًا تَائِبًا مُتَوَكِّلاً

عَلَيْهِ وَثِقْ بِاللهِ ذِي الْعَرْشِ تَرْشُدِ

وَلا تَدْعُ إِلا اللهَ لا شَيْءَ غَيْرَهُ

فَدَاعٍ لِغَيْرِ اللهِ غَاوٍ وَمُعْتَدِ

وَفِي صَرْفِهَا أَوْ بَعْضِهَا الشِّرْكُ قَدْ أَتَى

فَجَانِبْهُ وَاحْذَرْ أَنْ تَجِيءَ بُمؤِيدِ

وَهَذَا الذِّي فِيهِ الْخُصُومَة قَدْ جَرَتْ

عَلَى عَهْدٍ نُوحٍ وَالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ

وَوَحِّدْهُ فِي أَفْعَالِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ

مُقِرًّا بِأَنَّ اللهَ أَكْمَلُ سَيِّدِ

هُوَ الْخَالِقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ مُدَّبِرٌ

هُوَ الْمَالِكُ الرَّزَاقُ فَاسْأَلْهُ وَاجْتَدِ

إِلى غَيْرِ ذَا مِنْ كُلِّ أَفْعَالِهِ الَّتِِي

أَقَرَّ وَلَمْ يَجْحَدْ بِهَا كُلُّ مُلْحِدِ

وَوَحِّدْهُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ

وَلا تَتَأَوَلْهَا كَرَأْي الْمُفَنَّدِ

فلَيْسَ كَمِثْلِ اللهِ شَيْءٌ وَلا لَهُ

سَمِيٌّ وَقُلْ لا كُفْوَ للهِ تَهْتَدِي

وَذَا كُلُّهُ مَعْنَى شَهَادَةِ أَنَّهُ

إِلهَ الْوَرَى حَقًّا بِغَيْرِ تَرَدُّدِ

فَحَقِّقْ لَهَا لَفْظًا وَمَعْنَى فَإِنَّهَا

لَنِعْمَ الرَّجَا يَوْمَ اللقَا لِلْمُوَحِّدِ

وَهِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى فَكُنْ مُتَمَسِّكًا

بِهَا مُسْتَقِيمًا فِي الطَرِيقِ الْمُحَمَّدِي

فَكُنْ وَاحِدًا فِي وَاحِدٍ وَلِوَاحِدٍ

تَعَالَى وَلا تُشْرِكْ بِهِ أَوْ تُنَدِّدِ

ص: 270

.. وَمَنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِكُلِّ شُرُوطِهَا

كَمَا قَالَهُ لأَعْلامُ مِن كُلِّ مُهْتَدِ

فَلَيْسَ عَلَى نَهْجِ الشَّرِيعَةِ سَالِكًا

وَلَكِنْ عَلَى أَرَاءِ كُلِّ ملدّدِ

فَأَوَّلُهَا الْعِلْمُ الْمُنَافِي لِضِدِّهِ

مِن الْجَهْلِ إِنَّ الْجَهْلَ لَيْسَ بِمُسْعِدِ

فَأَوَّلُهَا الْعِلْمُ الْمُنَافِي لِضِدِّهِ

مِن الْجَهْلِ إِنَّ الْجَهْلَ لَيْسَ بِمُسْعِدِ

فَلَوْ كَانَ ذَا عِلْمٍ كَثِيرٍ وَجَاهِلٌ

بِمَدْلُولِهَا يَوْمًا فَبِالْجَهْلِ مُرْتَدِ

وَمِنْ شَرْطِهَا وَهُوَ الْقُبُولُ وَضِدُّهُ

هُوَ الرَّدُ فَافْهَمْ ذَلِكَ الْقَيْدَ تَرْشُدِ

كَحَالِ قُرَيْشٍ حِينَ لَمْ يَقْبَلُوا الْهُدَى

وَرَدُّوهُ لِمَا أَنْ عَتَوْا فِي التَّمَرُّدِ

وَقَدْ عَلِمُوا مِنْهَا الْمُرَادَ وَأَنَّهَا

تَدَلُّ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَالتَّفَرُّدِ

فَقَالُوا كَمَا قَدْ قَالَهُ اللهُ عَنْهُمْ

بِسُورَةِ (ص) فَاعْلَمَنْ ذَاكَ تَهْتَدِ

فَصَارَتْ بِهِ أَمْوَالُهُمْ وَدِمَاءُهُمْ

حَلالاً وَأَغْنَامًا لِكُلِّ مُوَحِّدِ

وَثَالِثُهَا الإِخْلاصُ فَاعْلَمْ وَضِدُّهُ

هُوَ الشِّرْكُ بِالْمَعْبُودِ مِنْ كُلِّ مُلْحِدِ

كَمَا أَمَرَ اللهَ الْكَرِيمُ نَبِيَّهُ

بِسُورَةِ تَنْزِيلِ الْكِتَابِ الْمُمَجَّدِ

وَرَابِعُهَا شَرْطُ الْمَحَبَّةِ فَلْتَكُنْ

مُحِبًّا لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الْهُدِ

وَإِخْلاصُ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ كُلِّهَا

كَذَا النَّفْيُ لِلشِّرْكِ الْمُفَنَّدِ وَالدَّدِ

وَمَنْ كَانَ ذَا حُبٍّ لِمَوْلاهُ إِنَّمَا

يَتِمُّ بِحُبِّ الدِّينِ دِينِ مُحَمَّدِ

فَعَادِ الذِّي عَادَى لِدِينِ مُحَمَّدٍ

وَوَالِ الَّذِي وَالاهُ مِن كُلِّ مُهْتَدِ

وَأَحْبِبْ رَسُولَ اللهِ أَكْمَلَ مَنْ دَعَى

إِلى اللهِ وَالتَّقْوَى وَأَكْمَلَ مُرْشِدِ

أَحَبَّ مِن الأَوْلادِ وَالنَّفْسِ بَلْ وَمِنْ

جَمِيع ِالْوَرَى وَالْمَالِ مِنْ كُلِّ أَتْلَدِ

وَطَارِفِهِ وَالْوَالِدَيْنِ كِلَيْهِمَا

بِآبَائِنَا وَالأُمَّهَاتِ فَنَفْتَدِ

وَأَحْبِبْ لِحُبِّ اللهِ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا

وَأَبْغِضْ لِبُغْضِ اللهِ أَهْلَ التَّمَرُّدِ

وَمَا الدِّينُ إلا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَالْوَلا

كَذَاكَ الْبَرَا مِنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُعْتَدِ

وَخَامِسُهَا فَالإِنْقِيَادُ وَضِدُّهُ

هُوَ التَّرْكُ لِلْمَأْمُورِ أَوْ فِعْلُ مُفْسِدِ

فَتَنْقَادُ حَقُّا بِالْحُقُوقِ جَمِيعَهَا

وَتَعْمَلُ بِالْمَفْرُوضِ حَتْمًا وَتَقْتَدِ

ص: 271

.. وَتَتْرُكَ مَا قَدْ حَرَّمَ اللهُ طَائِعًا

وَمُسْتَسْلِمًا للهِ بالْقَلْبِ تَرْشُدِ

فَمَنْ لَمْ يَكُنْ للهِ بِالْقَلْبِ مُسْلِمًا

وَلَمْ يَكُ طَوْعًا بالْجَوَارِحِ يَنْقَدِ

فَلَيْسَ عَلَى نَهْجِ الشَّرِيعَةِ سَالِكًا

وَإِنْ خَالَ رُشْدًا مَا أَتَى مِنْ تَعَبُّدِ

وَسَادِسُهَا وَهُوَ الْيَقِينُ وَضِدُّهُ

وَهُوَ الشَّكُّ فِي الدِّينِ الْقَوِيمِ الْمُحَمَّدِي

وَمَنْ شَكَّ فَلْيَبْكِي عَلَى رَفْضِ دِينِهِ

وَيَعْلَمْ أَنْ قَدْ جَاءَ يَوْمًا بِمُؤْيِدِ

وَيَعْلَمْ أَنَّ الشَّكَ يَنْفِي يَقِينَهَا

فَلا بُدَّ فِيهَا بِالْيَقِينِ الْمُؤَكَّدِ

بِهَا قَلْبُهُ مُسْتَيْقِنًا جَاءَ ذِكْرُهُ

عَنِ السَّيِّدِ الْمَعْصُومِ أَكْمَلَ مُرْشِدِ

وَلا تَنْفَعُ الْمَرْءَ الشَّهَادَةُ فَاعْلَمَنْ

إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَيِقنًا ذَا تَجَرُّدِ

وَسَابِعُهَا الصِّدْقُ الْمُنَافِي لِضِدِّهِ

مِن الْكَذِبِ الدَّاعِي إِلَى كُلِّ مُفْسِدِ

وَعَارِفُ مَعْنَاهَا إِذَا كَانَ قَابِلاً

لَهَا عَامِلاً بِالْمُقْتَضَى فَهُوَ مُهْتَدِ

وَطَابَقَ فِيهَا قَلْبُهُ لِلِسَانِهِ

وَعَنْ وَاجِبَاتِ الدِّينِ لَمْ يَتَبَلَّدِ

وَمَنْ لَمْ يَقُمْ هَذِهِ الشُّرُوطُ جَمِيعُهَا

بَقَائِلِهَا يَوْمًا فلَيْسَ عَلَى الْهُدِي

إِذَا صَحَّ هَذَا وَاسْتَقَرَّ فَإِنَّمَا

حَقِيقَتُهُ الإِسْلامُ فَاعْلَمْهُ تَرْشُدِ

وَإِنْ لَهُ - فَاحْذَرْ هُدِيتَ - نَوَاقِضًا

فَمَنْ جَاءَ مِنْهَا نَاقِضًا فَلْيُجَدِّدِ

فَقَدْ نَقَضَ الإِسْلامَ وَارْتَدَّ وَاعْتَدَى

وَزَاغَ عَنْ السَّمْحَاءِ فَلْيَتَشَهَّدِ

فَمِنْ ذَاكَ شِرْكٌ فِي الْعِبَادَةِ نَاقِضٌ

وَذَبْحٌ لِغَيْرِ الْوَاحِدِ الْمُتَفَرِّدِ

كَمَنْ كَانَ يَغْدُو لِلْقِبَابِ بِذَبْحِهِ

وَلِلْجِنِّ فِعْلَ الْمُشْرِكِ الْمُتَمَرِّدِ

وَجَاعِلِ بَيْنَ اللهِ - بَغْيًا – وَبَيْنَهُ

وَسَائِطَ يَدْعُوهُمْ فلَيْسَ بِمُهْتَدِ

وَيَطْلُبُ مِنْهُمْ بِالْخُضُوعِ شَفَاعَةً

إِلَى اللهِ وَالزُّلْفَى لَدَيْهِ وَيَجْتَدِ

وَثَالِثُهَا مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِكَافِرِ

وَمَنْ كَانَ فِي تَكْفِيرِهِ ذَا تَرَدُّدِ

وَصَحَّحَ عَمْدًا مَذْهَبَ الْكُفْرِ وَالرَّدَى

وَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ مَن هُدِي

وَرَابِعُهَا فَالإعْتِقَادُ بِأَنَّمَا

سِوَى الْمُصْطَفَى الْهَادِي وَأَكْمَلِ مُرْشِدِ

لأَحْسَنُ حُكْمًا فِي الأُمُوِر جَمِيعِهَا

وَأَكْمَلُ مِنْ هَدْي النَّبِيّ مُحَمَّدِ

ص: 272

.. كَحَالَةِ كَعْبٍ وَابنِ أَخْطَبَ وَالَّذِي

عَلَى هَدْيِهِم مِنُ كُلِّ غَاوٍ وَمُعْتَدِ

وَخَامِسُهَا يَا صَاحِ مَنْ كَانَ مُبْغِضًا

لِشَيْءٍ أَتَى مِن هَدْي أَكْمَلِ سَيِّدِ

فَقَدْ صَارَ مُرْتَدًا وَإِنْ كَانَ عَامِلاً

بِمَا هُوَ ذَا بُغْضٍ لَهُ فَلْيُجَدِّدِ

وَذَلِكَ بِالإِجْمَاعِ مِنْ كُلِّ مُهْتَدٍ

وَقَدْ جَاءَ نَصُّ ذِكْرُهُ فِي (مُحَمَّدِ)

وَسَادِسُهَا مَنْ كَانَ بِالدِّينِ هَازِئًا

وَلَوْ بِعِقَابِ الْوَاحِدِ الْمُتَفَرِّدِ

وَحُسْنُ ثَوَابِ اللهِ لِلْعَبْدِ فَلْتَكُنْ

عَلَى حَذِرٍ مِنْ ذَلِكَ القِيْلِ تَرْشُدِ

وَقَدْ جَاءَ نَصٌّ فِي (بَرَاءةَ) ذِكْرُهُ

فَرَاجِعْهُ فِيهَا عِنْدَ ذِكْرِ التَّهَدُّدِ

وَسَابِعُهَا مَنْ كَانَ لِلسِّحْرِ فَاعِلاً

كَذَلِكَ رَاضٍ فِعْلَهُ لَمْ يُفَنِّدِ

وَفِي سُورَةِ (الزَّهْرَاءِ) نَصٌّ مُصَرِّحٌ

بِتَكْفِيرِهِ فَاطْلُبْه مِنْ ذَاكَ تَهْتَدِ

وَمِنْهُ لَعَمْرِي الصَّرْفُ وَالْعَطْفُ فَاعْلَمَنْ

أَخِي حُكْمَ هَذَا الْمُعْتَدِي الْمُتَمَرِّدِ

وَثَامِنُهَا وَهِيَ الْمُظَاهَرَةُ الَّتِي

يُعَانُ بِهَا الْكُفَّارُ مِنْ كُلِّ مُلْحِدِ

عَلَى الْمُسْلِمِينِ الطَّائِعِينَ لِرَبِّهِمْ

عِيَاذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ كُلِّ مُفْسِدِ

وَمَنْ يَتَوَلَّى كَافِرًا فَهُوَ مِثْلُهُ

وَمِنْهُ بِلا شَكٍّ بِهِ أَوْ تَرَدُّدِ

كَمَا قَالَهُ الرَّحْمَنُ جل جلاله

وَجَاءَ عَنْ الْهَادِي النَّبِيِّ مُحَمَّدِ

وَتَاسِعُهَا وَهُوَ اعْتِقَادُ مُضَلِّلٌ

وَصَاحِبُهُ لا شَكَّ بِالْكُفْرِ مُرْتَدِ

كَمُعْتَقِدِ أَنْ لَيْسَ حَقًّا وَوَاجِبًا

عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْمُصْطَفَى خَيْرِ مُرْشِدِ

فَمَنْ يَعْتَقِدْ هَذَا الضَّلالَ وَأَنَّهُ

يَسَعْهُ خُرُوجٌ عَنْ شَرِيعَةِ أَحْمَدِ

كَمَا كَانَ هَذَا فِي شَرِيعَةِ مَنْ خَلا

كَصَاحِبِ مُوَسَى حَيْثُ لَمْ يَتَقَيَّدِ

هُوَ الْخَضِرُ المَقْصُوصُ في (الْكَهْفِ) ذِكْرُهُ

وَمُوَسَى كَلِيمِ اللهِ فَافْهَمْ لِمَقْصَدِ

وَهَذَا اعْتِقَادُ لِلْمَلاحِدَةِ الأَولَى

مَشَايِخِ أَهْلِ الاتِّحَادِ الْمُفَنَّدِ

كَنَحْوِ ابنِ سِينَا وَابنِ سَبْعِينَ وَالَّذِي

يُسَمَّى ابنَ رُشْدٍ وَالْحَفِيدِ الْمُلَدَّدِ

وَشَيْخٌ كَبِيرٍ فِي الضَّلالَةِ صَاحِبُ الْـ

ـفُصُوصِ وَمَنْ ضَاهَاهُمُ فِي التَّمَرُّدِ

وَعَاشِرُهَا الإِعْرَاضُ عَنْ دِينِ رَبِّنَا

فَلا يَتَعَلَّمْهُ فَلَيْسَ بِمُهْتَدِ

ص: 273

.. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ عَامِلاً

بِهِ فَهُوَ فِي كُفْرَانِهِ ذُو تَعَمُّدِ

وَلا فَرْقَ فِي هَذِي النَّوَاقِضِ كُلِّهَا

إِذَا رُمْتَ أَنْ تَنْجُو وَلِلْحَقِّ تَهْتَدِ

هُنَالِكَ بَيْنَ الْهَزْلِ وَالْجَدِّ فَاعْلَمَنْ

وَلا رَاهِبِ مِنْهُمْ لِخَوْفِ التَّهَدُّدِ

سِوَى الْمُكْرَهِ الْمَضْهُودِ إِنْ كَانَ قَدْ أَتَى

هُنَالِكَ بِالشَّرْطِ الأَصِيدِ الْمُؤَكَّدِ

وَحَاذِرْ هَدَاكَ اللهُ مِنْ كُلِّ نَاقِضٍ

سِوَاهَا وَجَانِبْهَا جَمِيعًا لِتَهْتَدِ

وَكُنْ بَاذِلاً لِلْجَدِّ وَالْجُهْدِ طَالِبًا

وَسَلْ رَبَّكَ التَّثْبِيتَ أَيَّ مُوَحِّدِ

وَإِيَّاهُ فَارْغَبْ فِي الْهِدَايَةِ لِلْهُدَى

لَعَلَّكَ إِنْ تَنْجُو مِن النَّارِ فِي غَدِ

وَصَلِ إِلَهِي مَا تَأَلَّقَ بَارِقٌ

وَمَا وَخَدَتْ قُودٌ بِمَوْرٍ مُعَبَّدِ

تَؤُمُّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَمَا سَرَى

نَسِيمُ الصَّبَا أَوْ شَاقَ صَوْتُ الْمُغَرِّدِ

وَمَا لاحَ نِجْمٌ فِي دُجَى اللَّيْلِ طَافِحٌ

وَمَا انْهَلَّ صَوْبُ فِي عَوَالٍ وَوُهَّدِ

عَلَى السَّيِّدِ الْمَعْصُومِ أَفْضَلَ مُرْسَلٍ

وَأَكْرَمَ خَلْقِ اللهِ طُرًا وَأَجْوَدِ

وَمَا لاحَ نِجْمٌ فِي دُجَى اللَّيْلِ طَافِحٌ

وَمَا انْهَلَّ صَوْبُ فِي عَوَالٍ وَوُهَّدِ

عَلَى السَّيِّدِ الْمَعْصُومِ أَفْضَلَ مُرْسَلٍ

وَأَكْرَمَ خَلْقِ اللهِ طُرًا وَأَجْوَدِ

وَآلِ وَأَصْحَابٍ وَمَنْ كَانَ تَابِعًا

صَلاةً دَوَامًا فِي الرَّوَاحِ وَفِي الْغَدِ

اللَّهُمَّ أحي قلوبًا آماتها البعد عَنْ بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يَا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالأفضال، اللَّهُمَّ أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عَنْ جرائمنا بعفوك وغفرانك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" نبذة من زهده صلى الله عليه وسلم "

كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد النَّاس، ويكفيك فِي تعريف ذَلِكَ أن فقره صلى الله عليه وسلم كَانَ كَانَ فقر اختياري لا فقر اضطراري. لأنه صلى الله عليه وسلم فتحت عَلَيْهِ الفتوح وجلبت إليه الأموال، ومَاتَ

ص: 274

ودرعه مرهونة عَنْدَ يهودى فِي نفقة عياله، وَهُوَ يدعو: اللَّهُمَّ اجعل رزق آل مُحَمَّد قوتًا. وقَالَتْ عَائِشَة رضي الله عنها: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعًا من خَبْزٍ حَتَّى مضى لسبيله، ولو شَاءَ لأعطاه الله ما لا يخطر ببال. وعَنْهَا قَالَتْ: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا ولا شاة ولا درهمًا ولا بعيرًا ولَقَدْ مَاتَ وما فِي بيتي شَيْء يأكله ذو كبد الا شطرشعير في رف لي. وقَالَ لي: «إني عرض عليَّ ربِّي أن يجعل لي بطحاء مَكَّة ذهبًا، فَقُلْتُ: لا يارب أجوع يَوْمًا وأشبع يَوْمًا، فأما الْيَوْم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وادعوك، وأمَّا الْيَوْم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عَلَيْكَ. وعَنْهَا قَالَتْ: إن كنا آل مُحَمَّدٍ لنمكث شهرًا ما نستوقَدْ نارًا، إن هُوَ إلا التمر والماء.

وعَنْهَا قَالَتْ: لم يمتل جوف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم شبعًا قط، ولم يبث إِلَى أحد شكوى.

وكَانَتْ الفاقة أحب إليه من الغنى،وإن كَانَ ليظِلّ جائعًا يلتوي طول ليلته من الجوع، فلا يمنعه من صيام يوم ولو شَاءَ لسأل ربه جميع كنوز الأَرْض وثمارها ورغد عيشها ولَقَدْ كنت أبكي لَهُ رحمة مِمَّا أرى به وامسح بيدي على بطنه مِمَّا به من الجوع،

وأَقُول نفسي لَكَ الفداء، لو تبلغت من الدُّنْيَا بما يقوتك. فَيَقُولُ: «يَا عَائِشَة ما لي وللدنيا، إخواني أولو العزم من الرسل صبروا على ما هُوَ أشد من هَذَا فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم وأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم.

وأجدني أستحي إن ترفهت فِي معيشتي إن يقصرني غدًا دونهم وما من شَيْء أحب إِلَى من اللحوق بإخواني وإخلائي» . قَالَتْ: فما قام بعد إلا شهرًا ثُمَّ توفي صلى الله عليه وسلم.

وعن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قط غداء لعشاء ولا عشاء قط لغداء. ولا اتخذ من شَيْء زوجين لا قميصين ولا ردائين ولا إزارين ومن النعال، ولا رئي قط فارغًا فِي بيته إما يخصف نعلاً لرجل مسكين أَوْ يخيط ثوبًا لأرملة.

ص: 275

وعن أَنَس بن مالك أن فاطمة عليها السلام جاءت بكسرة خبز إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فقَالَ: «ما هَذِهِ الكسرة يَا فاطمة "؟ قَالَتْ: قرص خبزته فلم تطب نفسي حَتَّى أتيك بهذه الكسرة، فقَالَ: «أما إنه أول طعام دخل فم أبيك مُنْذُ ثلاثة أيام.

وروى مُسْلِم عَنْ النعمان قال: ذكر عمر ما أصاب النَّاس من الدُّنْيَا، فقَالَ: لَقَدْ رَأَيْت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظِلّ يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: إن كَانَ ليمر بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأهلة ما يسرج فِي بيت أحد مِنْهُمْ سراج ولا يوقَدْ فيه نار إن وجدوا زيتًا ادهنوا به وإن وجدوًا ودكًا أكلوه. رَوَاهُ أبو يعلى ورواته ثقاة.

وعن عَبْد اللهِ بن مسعود قَالَ: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقَدْ أثر فِي جنبه، قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ لو اتخذنا لَكَ وطاء. فقَالَ: «ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظِلّ تحت شجرة ثُمَّ راح وتركها» . رَوَاهُ ابن ماجة والترمذي وحسنه.

قَالَ عُمَر بن الْخَطَّاب: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ على حصير فجلست فإذا عَلَيْهِ إزاره ولَيْسَ عَلَيْهِ غيره وَإِذَا الحصير قَدْ أثر فِي جنبه. وإذا أَنَا بقبضة من شعير نَحْوَ الصاع وقرظ فِي ناحية الغرفة، وَإِذَا أهاب معلق (الاهاب: الجلد) فابتدرت عيناي.

فقَالَ: «ما يبكيك يَا ابن الخطاب "؟ فَقُلْتُ: يَا نبى الله وما لي لا أبكي وَهَذَا الحصير قَدْ أثر فِي جنبك وهذه خزانتك لا أرى إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر فِي الثمار والأنهار وأَنْتَ نبي الله وصفوته وهذه خزانتك.

قَالَ: «يا ابن الخطاب أما ترضى أن تَكُون لَنَا الآخِرَة ولهم الدُّنْيَا» . رَوَاهُ ابن ماجة بإسناد صحيح والحاكم وقَالَ: على شرط مُسْلِم.

روى مُسْلِم فِي صحيحه عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فِي رفي من شَيْء يأكله إلا شطر شعير فِي رف لي فأكلت منه حَتَّى طال عليَّ فكلته ففنى.

ص: 276

عَنْ ابن عباس أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يبيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون عشاء، وكَانَ عامة خبزهم الشعير.

عن أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يشد صلبه بالحجر من الغرث أي الجوع.

بينما عَائِشَة رضي الله عنها تحدث ذات يوم إذ بكت قِيْل لها: ما يبكيك يَا أم الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَتْ: ما ملأت بطني من طعام فشئت أن أبكي إلا بكيت أذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كَانَ فيه من الجهد.

وعَنْهَا أيضًا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تأتى عَلَيْهِ أربعة أشهر ما يشبع من خبز بر.

وعَنْهَا أيضًا: قَالَتْ ما شبع آل مُحَمَّد ثلاثًا من خبز بر حَتَّى قبض وما رفع عَنْ مائدته كسرة فضلاً حَتَّى قبض.

عن الحسن (البصرى) قَالَ: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: «والله ما أمسى فِي آل مُحَمَّد صاع من طعام» . وأنها لتسعة أبيات (بيوت زوجاته) وَاللهِ ما قالها استقلالاً لرزق الله ولكن أراد أن تتأسى به أمته.

ص: 277

عن ابن عباس قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ كَانَ يأتي على آل مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم الليالي ما يجدون فيها عشاء.

عن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي يوم مرتين حَتَّى لحق بِاللهِ، ولا رفعنا لَهُ فضل طعام عَنْ شبع حَتَّى لحق بِاللهِ إلا أن نرفعه لغائب فقِيْل لها: ما كَانَتْ معيشتكم؟ قَالَتْ: الأسودان: الماء والتمر. وقَالَتْ: وكَانَ لَنَا جيران من الأنصار لَهُمْ ربائب يسقوننا من لبنها، جزاهم الله خيرًا.

عن أَنَس بن مالك أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لم يجمع لَهُ غذاء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف.

اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان وأعنا على أنفسنا والشيطان وآيسه منا كما آيسته من رحمتك يَا رحمان وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وَفِي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

" فَصْلٌ "

عن أَنَس بن مالك قَالَ: شهدت للنبي صلى الله عليه وسلم وليمة ما فيها خبز ولا لحم.

وعن أَنَس بن مالك قَالَ: ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفًا مرفقًا بعينه حَتَّى لحق بربه ولا شاة سميطًا قط.

عن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: ما اجتمَعَ فِي بطن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم طعامان فِي يوم قط، إن أكل لحمًا لم يزد عليه، وإن كان تمرًا لم يزد عَلَيْهِ، وإن أكل خبزًا لم يزد عَلَيْهِ. وكَانَ رجلاً مسقامًا، وكَانَتْ الْعَرَب تنعت لَهُ فيتداوى بما تنعت لَهُ الْعَرَب وكَانَتْ العجم تنعت لَهُ فيتداوى.

عن أبي نضر قَالَ: سمعت عَائِشَة رضي الله عنها تَقُول: إني لجالسة مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي البيت. فأهدى لَنَا أَبُو بَكْرٍ رجل شاة فإني لا قطعها مَعَ

ص: 278

رسول الله فى ظلمة البيت. فقَالَ لها قائل: أما كَانَ لكم سراج؟ فقَالَتْ: لو كَانَ لَنَا ما يسرج به أكلناه.

عَنْ عروة عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: لَقَدْ مَاتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبع من خبز وزيت فِي يوم مرتين.

عن عَائِشَة قَالَتْ: بلغني أن الرجل منكم يأكل من ألوان الطعام حَتَّى يلتمس لِذَلِكَ دواء يمرئه. فذكرت نبيكم صلى الله عليه وسلم فذاك الذي أبكاني، خَرَجَ من الدُّنْيَا ولم يملأ بطنه فِي يوم طعامين: كَانَ إِذَا شبع من التمر لم يشبع من الخبز، وَإِذَا شبع من الخبز لم يشبع من التمر.

عن أَنَس بن مالك قَالَ: ما يرفع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم شَيْء قط ولا حملت معه طنفسة يجلس عَلَيْهَا.

أخبرني الأعرج عَنْ أبي هريرة أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يجوع. قُلْتُ: لأبي هريرة وكيف ذَلِكَ الجوع؟ قَالَ: لكثرة من يغشاه وأضيافه، وقوم يلزمونه لِذَلِكَ، فلا يأكل طعامًا أبدًا إلا ومعه أصحابه، وأَهْل الحاجة يتبعونه من المسجد. فَلَمَّا فتح الله خيبر اتسع النَّاس بَعْض الاتساع، وفي الأَمْر بعد ضيق والمعاش شديد. هِيَ بلاد ظلف لا زرع فيها، إنما طعام أهلها التمر، وعلى ذَلِكَ أقاموا.

ورُوي عَنْ جابر رضي الله عنه قَالَ: حضرنا عرس علي وفاطمة فما كَانَ عرسًا كَانَ أحسن منه حشونا الفراش يعني من الليف

وأوتينا بتمر وزيت فأكلنا وكَانَ فراشها ليلة عرسها إهاب كبش. رَوَاهُ الْبَزَار (الاهاب: الجلد) .

عن عامر الشعبي قَالَ: قَالَ علي رضي الله عنه: لَقَدْ تزوجت فاطمة وما لها ولي فراش غير جلد كبش ننام عَلَيْهِ بالليل ونعلف عَلَيْهِ الناضح بالنَّهَارَ وما لي ولها خادم غيرها.

ص: 279

وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوجه فاطمة بعث معها بخميلة ووسادة أدم حشوها ليف ورحيين وسقاء وجرتين.

فقَالَ علي لفاطمة ذات يوم: وَاللهِ سنوت حَتَّى اشتكيت صدري (المعنى تعبت من إخراج الماء من البئر) وقَدْ جَاءَ الله بسبي فاذهبي فاستخدميه (أي اطلبي منه خادمًا)

فقَالَتْ: وأنَا وَاللهِ لَقَدْ طحنت حَتَّى مجلت يدي من الْعَمَل. فأتت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: «ما جَاءَ بك وما حاجتك أي بنية» . قَالَتْ: جئت لأسلم عَلَيْكَ واستحيت أن تسأله فرجعت.

فقَالَ علي: ما فعلت؟ قَالَتْ: استحيت أن أسأله، فأتياه جميعًا فقَالَ علي: يَا رَسُولَ اللهِ: وَاللهِ لَقَدْ سنوت حَتَّى اشتكيت صدري. وقَالَتْ فاطمة: لَقَدْ طحنت حَتَّى مجلت يداي، وقَدْ جاءك الله عز وجل بسبي وسعة فاخدمنا.

فقَالَ: «وَاللهِ لا أعطيكما وادع أَهْل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عَلَيْهمْ ولكني أبيعهم وأنفق عَلَيْهمْ.

فرجعا وآتاهما النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وقَدْ دخلا فِي قطيفتهما إِذَا غطيا رؤسهما تكشفت أقدامهما، وَإِذَا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما فثارا فقَالَ:: «مكانكما» .

ثُمَّ قَالَ: «ألا أخبركما بخَيْر مِمَّا سألتماني» . قالا: بلى. قَالَ: «كلمَاتَ علمنيهن جبريل تسبحان فِي دبر كُلّ صلاة عشرًا، وتحمدان عشرًا، وتكبران عشرًا.

وإذا أويتما إِلَى فراشكما، فسبحا ثلاثًا وثلاثين وأحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين» . وقَالَ: فو الله ما تركتهن مُنْذُ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 280

عن بريدة قَالَ: سمَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ إني أسألك بأني أشهد أَنَّكَ أَنْتَ الله لا إله إلا أَنْتَ الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن لَهُ كفوًا أحد.

فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لَقَدْ سأل الله باسمه الأعظم الَّذِي إِذَا دعي به أجاب وَإِذَا سئل به أعطى» . أَخْرَجَهُ أبو داود والترمذي.

وعن أَنَس رضي الله عنه قَالَ: دعا رجل فقَالَ: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لَكَ الحمد لا إله إلا أَنْتَ الحنان المنان بديع السموات والأَرْض ذو الجلال والإكرام يَا حي يَا قيوم.

فقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «أتدرون بما دعا "؟ قَالُوا: الله ورسوله أعْلَمُ. قَالَ: «والذي نفسي بيده لَقَدْ دعا الله باسمه الأعظم الذي إِذَا دعي به أجاب وَإِذَا سئل به أعطى» . أَخْرَجَهُ أصحاب السُّنَن.

عن سعد بن أبي وقاص قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون إذ دعى وَهُوَ فِي بطن الحوت لا إله إلا أَنْتَ سبحانك إني كنت من الظالمين» .

فإنه لم يدع بها رجل مُسْلِم فِي شَيْء قط إلا استجاب لَهُ» . رَوَاهُ الترمذي والنسائي والحاكم وقَالَ: صحيح الإسناد.

وعن معاوية بن أبي سفيان قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «من دعا بهؤلاء الكلمَاتَ الخمس لم يسأل الله شَيْئًا إلا أعطاه " لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، له الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شَيْء قدير، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة الا بِاللهِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بإسناد حسن.

وعن معاذ بن جبل قَالَ: سمَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً وَهُوَ يَقُولُ: (يَا ذا الجلال والإكرام) فقَالَ: «قَدْ استجيب لَكَ فسل» . رَوَاهُ الترمذي.

قَالَ أحد الْعُلَمَاء: (إن الذكر باعتباره وسيلة القرب من الله هُوَ دَائِمًا دعاء)

ص: 281

وإن الدُّعَاء وَهُوَ التضرع والخضوع لله تَعَالَى وَهُوَ دَائِمًا ذكر) .

ولَيْسَ بينهما من فرق إلا فِي اللون والشكل.

وقَدْ وردت الآثار بما تَقُول: فقَدْ ورد فِي الأحاديث الشريفة أن الله تَعَالَى يَقُولُ:

" من شغله القران وذكري عَنْ مسألتِي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» .

وقَدْ ورد فِي القران الكريم عَنْ سيدنا يونس أنه حينما التقمه الحوت نجاه تسبيحه: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .

وفي سورة "نون " يندم أصحاب الْجَنَّة - الحديقة - التِي طاف عَلَيْهَا طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم.. على أنهم لم يكونوا من المسبحين، وخاطبهم أوسطهم قائلاً:{أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} .

والاستغفار؟ .

أنه ذكر لا يتضمن دعاء لفظيًا ولكن الثمرات المترتبة عَلَيْهِ هائلة نفسية.

يَقُولُ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} .

إن الاستغفار ثمرته:

(1)

المغفرة

(2)

والغيث (المطر الذي يروي الأَرْض فينبت الزرع ويروي به النَّاس والأنعام ظمأهم)

(3)

وإمداد الله للمستغفر بالأموال.

(4)

إمداده بالبنين.

وأكثر من ذَلِكَ....

ص: 282

يَقُولُ الله تَعَالَى: {اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ، من ثماره إِذًا زيادة القوة.

اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذاننا عَنْ الاستماع إِلَى ما لا يرضك وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بِالصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ "

ولَقَدْ حدث فِي مصر إن أحد الأثرياء الصالحين لم يجد سبيلاً - فِي فترة من الفترات - لري أرضه، وكاد الزرع يصبح حطامًا، فجلس الرجل وسط مزرعته الفسيحة.. وقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتُ.. وقولك الحق: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً} وها أَنَا ذا يَا رب استغفرك راجيًا أن تفيض عَلَيْنَا من رحمتك.

ثُمَّ أخذ فِي الاستغفار.. ومضت ساعات وَهُوَ يتابع الاستغفار فِي همة وَفِي ثقة بموعود الله تعالى، وَإِذَا بالسماء تتلبد بالغيوم.. وَإِذَا بالمطر ينزل فياضًا مدرارًا.

ومن المعروف أن الصالحين حينما يصبهم ضعف يلجؤون إِلَى الله باستغفار فيتحقق لَهُمْ وعده: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} .

ولَيْسَتْ هَذِهِ فحسب ثمار الاستغفار.. وَذَلِكَ أنه أيضًا يمنع أن يصيب الْعَذَاب الإِنْسَان.

(6)

{وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .

(7)

ثُمَّ.. يَقُولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 283

«من لزم الاستغفار جعل الله لَهُ من كُلّ هم فرجًا، ومن كُلّ ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب» .

وثمار الاستغفار أوسع من ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَة.

وألم يقل الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: «أفضل الدُّعَاء: الحمد لله؟» . والحمد لله، ألَيْسَتْ ذكرًا؟

وإذا كَانَ من الذكر ما هُوَ دعاء، أَوْ إِذَا كَانَ الذكر كله دعاء.. فَإِنَّ الدُّعَاء أيضًا يكون بغير الدُّعَاء اللفظي وبغير الذكر:

فلإكثار من التوبة دعاء وذكر، ويترتب على الإكثار منه ما يَقُولُ الله تَعَالَى:{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} .

وإذا أحب الله عبدًا من عباده بسبب الإكثار من التوبة فإنه يترتب على هَذَا الحب آثاره.

«فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمَعَ به، وبصره الذي يبصر به، ويده التِي يبطش بها، ورجله التِي يمشئ بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه» .

وإذا كَانَتْ التوبة ذكرًا أَوْ دعاء فإن التقوى دعاء نفيس.

ألا تَرَى ما يَقُولُ الله تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} ؟

إن الله سُبْحَانَهُ يجعل لَهُ مخرجًا من كُلّ هم وضيق وأزمة بسبب تقواه ويرزقه الله من حيث يدري ولا يدري

وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}

ييسر سُبْحَانَهُ أموره كُلّهَا.

ص: 284

وَيَقُولُ الله تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} (انتهى)

قصيدة: فيها تضرع إِلَى رب العزة والجلال والكبرياء والعظمة:

يَا ذَا الْجَلالِ وَيَا ذَا الْجُودِ وَالْكَرَمِ

قَدْ جِئْتُكَ خَائِفًا مِنْ زَلَّةِ الْقَدَمِ

ذَنْبِي عَظِيمٌ وَأَرْجُو مِنْكَ مَغْفِرَةً

يَا وَاسِعَ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ وَالْكَرَمِ

دَعَوْتُ نَفْسِى إِلَى الْخَيْرَاتِ فَامْتَنَعَتْ

وَأَعْرَضَتْ عَنْ طَرِيقِ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ

خَسِرْتُ عُمْرِي وَقَدْ فَرَّطْتُ فِي زَمَنِي

فِي غَيْرِ طَاعَةِ مَوْلاي فَيَا نَدَمِي

حَمَلْتُ ثِقْلاً مِنْ الأَوْزَارِ فِي صِغَرِي

يَا خَجَلِي فِي غَدٍ مِنْ زَلَّةِ الْقَدَمِ

رَاحَ الشَّبَابُ وَوَلَّى الْعُمْرِ فِي لَعِبٍ

وَمَا تَحَصَّلْتُ مِنْ خَيْرِ وَلَمْ أَقُمِِ

زَمَانَ عَزْمِي قَدْ ضَيَّعْتُهُ كَسَلاً

وَالْعُمْرُ مِنِّي انْقَضَى فِي غَفْلَةِ الْحُلُمِ

قَدْ انْقَضَتْ عَيْشَتِي بِالذُّلِّ وَاأَسَفِي

إِنْ لَمْ تَجِدْ خَالِقِي بِالْعَفْوِ وَالْكَرَمِ

ذِي حَالَتِي وَانْكِسَارِي لا تُخَيِّبُنِي

إِذَا وَقَعْتُ ذَلِيلاً حَافِي الْقَدَمِ

أَتَيْتُ بِالذُّلِ وَالتَّقْصِير وَالنَّدمِ

أَرْجُو الرِّضَا مِنْكَ بِالْغُفْرَانِ وَالْكَرَمِ

سَارَ المجدُّونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَاجْتَهَدُوا

يَا فَوْزَهُم غَنِمُوا الْجَنَّاتِ وَالنَّعَمِ

شِفَاءُ قَلْبِي ذِكْرُ اللهِ خَالِقِنَا

يَا فَوْزَ عَبْدٍ إِلَى الْخَيْرَاتِ يَسْتَقِمِ

صَفَتْ لأَهْلِ التُّقَى أَوْقَاتُهُم سَعِدُوا

نَالُوا الْهَنَا وَالْمُنَى بِالْخَيْرِ وَالْكَرَمِ

ضَيَّعْتُ عُمْرِي وَلا قَدَّمْتُ لِي عَمَلاً

أَنْجُو بِهِ يَوْمَ هَوْلِ الْخَوْفِ وَالزَّحَمِ

طُوبَى لِعَبْدٍ أَطَاعَ اللهَ خَالِقَهُ

وَقَامَ جَنْحَ الدُّجَى بِالدَّمْعِ مُنْسَجِمِ

ظَهْرِي ثَقِيْلٌ بِذَنْبِي آهِ وَاأَسَفِي

يَوْمَ اللِّقَاءِ إِذْ الأَقْدَامُ فِي زَحَمِ

أَرْجُوكَ يَا ذَا الْعُلا كَرْبِي تُفَرِّجُهُ

وَاشْفِ بِفَضْلِكَ لِي لِلْوَايَ مَعَ سَقَمِي

غَفَلْتُ عَنْ ذِكْرِ مَعْبُودِي وَطَاعَتِهِ

وَقَدْ مَشِيتُ إِلَى الْعِصْيَانِ فِي هِمَمِ

فَاغْفِرْ ذُنُوبِي وَكُنْ يَا رَبِّ مُنْقِذَنَا

مِن الشَّدَائِدِ وَالأَهْوَالِ وَالتُّهَمِ

قَدْ اثْقَلَتْنِي ذُنُوبِي مَا لَهَا أَحَدٌ

سِوَاكَ يَا غَافِرَ الزَّلاتِ وَاللِّمَمِ

كُنْ مُنْجِدِي يَا إِلَهِي وَاعْفُ عَنْ زَلَلِي

وَتُبْ عَلَيَّ مِن الآثَامِ وَاللِّمَمِ

ص: 285

.. لاحَ الْمَشِيبُ وَوَلَّى الْعُمْرُ فِي لَعِبٍ

وَصِرْتُ مِنْ كُثْرَةِ الأَوْزَارِ فِي نَدَمِ

مَضَى زَمَانِي وَمَا قَدَّمْتُ مِنْ عَمَلٍ

يَا خَجْلَتِي مِنْ إِلَهِي بَارِيَ النَّسَمِ

نَامَتْ عُيُونِي وَأَهْلُ الْخَيْرِ قَدْ سَهِرُوا

أَجْفَانُهُمْ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ لَمْ تَنَمِ

قَامُوا إِلَى ذِكْرِ مَوْلاهُم فَقَرَّبَهُمْ

وَخَصَّهُمْ بِالرِّضَا وَالْفَضْلِ وَالْكَرَمِ

وَلَيْسَ لِي غَيْرَ الْخالقِ مِنْ سَنَدٍ

أَرْجُوهُ يُولِينِي بِالْغُفْرَانَ وَالْكَرَمِ

لا ارْتَجِي أَحَدًا يَوْمَ الزِّحَامِ سِوَى

رَبِّ الْبَرِيَّةِ مَوْلى الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ

ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرٍ

مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى الْمَخْصُوصِ بِالْكَرَمِ

اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، وَوَفِّقْنَا لقول الحق وإتباعه، وخّلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتداعه، وكن لَنَا مؤيدًا، ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا، واجعل لَنَا عيشًا رغدًا، ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا عِلْمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا صفيًا وشفاء من كُلّ داء، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمين. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

اللَّهُمَّ اجعلنا مكثرين لذكرك مؤدين لحقك حافظين لأَمْرِكَ راجين لوعدك راضين فِي جميع حالاتنا عنك، راغبين فِي كُلّ أمورنا إليك مؤملين لفضلك شاكرين لنعمك، يَا من يحب العفو والإحسان، ويأمر بهما اعف عنا، وأحسن إلينا فإنك بالذي أَنْتَ له أَهْل من عفوك أحق منا بالذي نَحْنُ لَهُ أَهْل من عقوبتك.

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ رجاءك فِي قلوبنا، واقطعه عمن سواك، حَتَّى لا نرجو غيرك ولا نستعين إلا إياك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ويا أكرم الأكرمين.

اللَّهُمَّ أحينا فِي الدُّنْيَا مؤمنين طاعئين وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ تائبين، اللَّهُمَّ أعذنا من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرِّجَال

ص: 286

وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ "

اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه إن السَّلام تحية الْمُؤْمِنِينَ، وشعار الموحدين، وداعية للإخاء والألفة والمحبة بين إخوانهم الْمُسْلِمِين، والسَّلام تحية مباركة، وصفة طيبة كما ذكر الله سُبْحَانَهُ فِي كتابه الكريم قَالَ تَعَالَى:{فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} .

وقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} ، والسَّلام كما أخبر الله تحية أَهْل الْجَنَّة فِي دار النعيم، قَالَ تَعَالَى:{تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} .

وابتداء السَّلام سُنَّة مستحبة، ولَيْسَ بواجب وَهُوَ سُنَّة كفاية فَإِنَّ كَانَ المسلم جماعة كفى عنهم واحد يسلم ولو سلموا كلهم كَانَ أفضل، ورفع الصوت بابتداء السَّلام سُنَّة ليسمعه المسلم عليهم، كلهم سماعًا محققًا لحديث:«افشوا السَّلام بينكم» .

وإن سلم على أيقاظ ونيام أَوْ سلم على من لا يعلم هل هم إيقاظ أَوْ نيام خفض صوته بحيث يسمَعَ الإيقاظ ولا يوقظ النيام، ولو سلم على إنسان ثُمَّ لقيه على قرب سن أن يسلم عَلَيْهِ ثانيًا وثالثًا وأكثر.

ويسن أن يبداء قبل الكلام، لحديث من بدء بالكلام قبل السَّلام فلا تجيبوه. فينبغي لَكَ أيها الأخ أن تنصح كُلّ من ابتدأك بغير السَّلام وتعلمه بالْحَدِيث خُصُوصًا المكلمين لَكَ بالتليفون بقولهم: ألُ ألُ ولا يترك السَّلام إِذَا كَانَ يغلب على ظنه أنه لا يرد عَلَيْهِ.

ص: 287

وإن دخل على جماعة فيهم علماء سلم أَوَّلاً على الجميع، ثُمَّ سلم على الْعُلَمَاء سلامًا ثانيًا تمييزًا لمرتبتهم وَكَذَا لو كَانَ فيهم عَالِم واحد، خصه بالسَّلام ثانيًا.

ولا يسلم على امرأة أجنبية غير زوجة لَهُ، أَوْ ذات محرم، إلا أن تَكُون عجوزًا غير حسناء أَوْ تَكُون برزة، والمراد أنها لا تشتهى لأمن الفتنة ويكره السَّلام فِي الحمام ويكره السَّلام على من يأكل وعلى من يقاتل لا اشتغاله.

ويكره السَّلام على من يبحثون فِي العلم، وعلى من يؤذن، وعلى من يقيم، ومحدّث بتشديد الدال وخطيب وواعظ ومستمع.

ويكره السَّلام على مكرر فقه، ومدرس فِي علم مشروع، أو مباح ويكره السَّلام على من يبحثون فِي العلم.

ويكره السَّلام على من يقضى حاجته، ويكره على من يتمتع بأهله وعلى مشتغل بالقضاء، ونحوهم من كُلّ من لَهُ شغل عَنْ رد السَّلام.ويكره أن يخص بَعْض طائفة لقيهم، ألا أن يكون بَعْضهمْ ممن يجب هجره، أَوْ يستحب.

وإن بدأ بالسَّلام جميعًا، وجب على كُلّ منهما الرد، ولا ينزع يده من يد من يصافحه، حَتَّى ينزع يده من يده، إلا لحاجة كحيائه منه ونحوه وقَدْ نظم بَعْضهمْ المواضع التِي يكره فيه السَّلام فقَالَ:

سَلامُكَ مَكْرُوهٌ عَلَى مَنْ سَتَسْمَعُ

وَمِنْ بَعْدِ مَا أُبْدِي يُسَنُّ وَيُشْرَعُ

مُصَلٍّ وَتَالٍ ذَاكِرٍ وَمُحَدِّثٌ

خَطِيبٌ وَمَنْ يُصْغِي إِلَيْهِم وَيَسْمَعُ

مكرِّرٌ فِقْهٍ جَالِسٌ لِقَضَائِهِ

وَمَنْ بَحَثُوا فِي الْفِقْهِ دَعْهُمْ لِيَنْفَعُوا

مُؤَذِّنٌ أَيْضًا مَعَ مُقِيمٍ مُدَرِّسٍ

كَذَا الأَجْنَبِيَّاتِ الْفَتَيَاتُ أَمْنَعُ

وَلُعَّابُ شِطْرَنْجٍ وَشِبْهٍ بِخَلْقِهِمْ

وَمَنْ هُوَ مَعَ أَهْلٍ لَهُ يَتَمَتَعُ

ص: 288

.. وَدَعْ كَافِرًا أَيْضًا وَكَاشِفَ عَوْرَةٍ

وَمَنْ هُوَ فِي حَالِ التَّغَوُّطِ أَشْنَعُ

وَدَعْ آكِلاً إِلا إِذَا كُنْتَ جَائِعًا

وَتَعَلَّمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ

كَذَلِكَ أُسْتَاذٌ مُغَنٍ مُطَيِّرٌ

فَهَذَا خِتَامٌ وَالزِّيَادَةُ تَنْفَعُ

(وَزِدْتُ عَلَى هَذَا فَقُلْتُ مُتَمِّمًا

بِمَا هُوَ مِثْلٌ أَوْ أَشَدُّ فَيُتْبَعُ)

(وَمَنْ عِنْدَ تِلْفزْيُونِهِمْ سِينَمَائِهِمْ

وَمَنْ لِمُذِيعِ الْمُنْكَرَاتِ تَسَمَّعُوا)

مُصَوِّرٍ ذِي رُوحٍ وَحَالِق لِحْيَةٍ

وَمَحْلُوقِهَا مَعَ ذِي الْخَنَافِسِ يَتْبَعُ

(وَشَارِبُ دُخَّانٍ وَشَارِبُ شِيشَةٍ

مُتَوْلِتُ رَاسٍ والْمَجَاهِرُ أَفْظَعُ)

(وَشَارِبُ ذِى سُكْرٍ وَلاعِبُ كُورَةٍ

وَمُصْلِحُ آلاتِ لِلهوِ فَيَمْنَعُ)

(وَبَائِعُ آلاتٍ لِلَهْوِ وَمُطْربٍ

وَمنْ هُوَ في سَبِّ الْغَوَافِلِ يُقْذِعُ)

(وَبَائِعُ مَا قَدْ سِيقَ فِيمَا سَطَرْتُهُ

مُسَاعَدُهُمْ أَوْ مَنْ لِذَاكَ يُشَجِّعُ)

اللَّهُمَّ أن نواصينا بيدك وأمورنا ترجع إليك وأحوالنا لا تخفى عَلَيْكَ، وأَنْتَ ملجؤنا وملاذنا، وإليك نرفع بثنا وحزننا وشكايتنا، يَا من يعلم سرنا وعلانيتنا نسألك أن تجعلنا ممن توكل عَلَيْكَ فكفيته، واستهداك فهديته، وهب لَنَا من فضلك العَظِيم وَجُدْ عَلَيْنَا بإحسانك العميم يَا خَيْر من دعاه داع، وأفضل من رجاه راج يَا قاضى الحاجات ومجيب الدعوات هب لَنَا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يَا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما فِي صدور الصامتين، أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله وسلم على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين

" فَصْلٌ "

وأما رد السَّلام فَإِنَّ كَانَ المسلم عَلَيْهِ واحدًا، تعين عَلَيْهِ الرد للسلام، وإن كَانُوا جماعة رد السَّلام فرض كفاية عَلَيْهمْ، فَإِنَّ رد واحد مِنْهُمْ سقط

ص: 289

الفرض عَنْ الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم، وإن رد كلهم فهو النهاية فِي الكمال قَالَ اللهُ تَعَالَى:

{وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} والسَّلام تحية من كَانَ قبلنا من الأَنْبِيَاء، وأتباعهم الْمُؤْمِنِينَ وتحية أبينا إبراهيم عليه السلام، وضيفيه المكرمين فيما قصه الله عَلَيْنَا فِي القرآن الكريم بقوله:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} .

ومن السُنَّة المحبوبة البداءة بالسَّلام، لما ورد عَنْ أبي أمامة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن أولى النَّاس بِاللهِ من بدأهم بالسَّلام» . رَوَاهُ أبو داود. وفي الْحَدِيث الآخِر: «وخيرهما الذي يبدأ بالسَّلام» . فاحذر عَافَانَا اللهُ وَإِيَّاكَ مِنْ ال.

ويستحب أن يسلم عَنْدَ الانصراف من المجلس، لما ورد عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا انتهى أحدكم إِلَى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم فلَيْسَتْ الأولى بأحق من الآخِرَة» .

ويستحب أن يسلم على الصبيان لما ورد عَنْ أَنَس أنه مرَّ على صبيان فسلم عَلَيْهمْ. وقَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. متفق عَلَيْهِ.

شِعْرًا:

سَابِقِ النَّاسِ بِالسَّلام فَفِي ذَا

كَ إِذَا مَا اعْتَبَرْتَ خَمْسُ خِصَال

كَاشِفُ الرَّيْبِ قَاطِعُ الْعَيْبِ مُحْيِي الْـ

وِدِ سِتْرُ الأَحْقَادِ وَبَابُ الْوِصَال

" موعظة ": إخواني لَيْسَ الأسف على دنيا آخرها الفوات والخراب ولا على أحوال نهايتها التحول والانقلاب، ولا على حطام حلاله حساب وحرامه عقاب، ولا على أعمار يتمنى المرء طولها فإذا طالت ملت، ولا على أماكن كُلَّما امتلأت بأهلها وازدهرت بِهُمْ أدبرت عنهم وخلت مِنْهُمْ.

ص: 290

وإنما الأسف الَّذِي لا يرجى لَهُ خلف وَقْت قتل على فراش السهو

والغفلات، وعلى ليال وأيام تمضى فِي إتباع الملذات الفانية والشهوات، وعلى صحف تطوى ثُمَّ لا ترجع فيستدرك ما فات، وعلى نفوس يناديها لسان الشتات، وهي لا تقلع عما هِيَ عَلَيْهِ من الهفوات، وعلى ذنوب محصى صغيرها وكبيرها لا تقابل بالحسنات، وعلى قُلُوب غافلة فِي الغمرات، وعلى أعوام سريع مرورها كلمَعَ الجمرات، وعلى السُنَّة لا تشتغل، وتتلذذ بذكر فاطر السموات

ألاترون شهركم كيف يسرع فيه البدار ثُمَّ يعقبه الامحاق فيا خيبة من ضاعت منه الليالى والأَيَّامُ، وغبن فِي ميدان السباق ويا خيبة من ضيع عمره بالقبائح العظام ويا خسارة من كَانَتْ تجارته الذُّنُوب والمعاصى والآثام.

شِعْرًا:

بُكَائِي عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِنْ شَيْبَتِي

وَلَمْ أَحْتَفِظْ فِيهَا عُلُومَ الشَّرِيعَةِ

وَأَفْهَمُ مَا قَالَ الإِلهُ وَمَا أَتَى

عَنْ الْمُصْطَفَى أَعْظمِ بِهَا مِنْ مُصِيبَتِي

قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله، فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربه، ولا يدري متى يستدعى، وأني رَأَيْت خلقًا كثيرًا غرهم الشباب ونسوا فقَدْ الأقران وألهاهم طول الأمل وَرُبَّمَا قَالَ العَالِم المحض لنفسه:«اشتغل بالعلم ثُمَّ اعمل به» . فيتساهل فِي الزهد بحجة الرَّاحَة ويؤخر الرجَاءَ لتحقيق التوبة ولا يتحاشى من غيبة أَوْ سماعها ومن كسب شبهة يأمل إن يمحوها بالورع وينسى إن الموت قَدْ يبغته.

فالعاقل من أعطى كُلّ لحظة حقها من الواجب عَلَيْهِ فَإِنَّ بغته الموت رئي مستعدًا وإن نال الأمل ازداد خيرًا.

قَالَ عمر بن عَبْد الْعَزِيز فِي خطبة لَهُ: إِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بدار قرار دار

ص: 291

كتب الله عَلَى أَهْلِهَا مَنْهَا الظعن، فكم عامر قليل يخرب، وَكَمْ مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله مَنْهَا الرحلة، بأحسن ما يحظركم من النقلة وتزودوا فَإِنَّ خَيْر الزَّاد التَّقْوَى، إنما الدُّنْيَا كفئ ظلال قلص فذهب بين ابن آدم فِي الدُّنْيَا ينافس وبها قرير عين اذ دعاه الله بقدره ورماه بيوم حتفه فسلبه أثاره ودنياه وصير لقوم آخرين مصانعه ومعناه إِنَّ الدُّنْيَا لا تسر بقدر ما تضر أنها تسر قليلاً وتجر حزنًا طويلاً كما قِيْل: من سره زمن سأته أزمان

شِعْرًا:

إِذَا كُنْتَ بِالدُّنْيَا بَصِيرًا فِإِنَّمَا

بَلاغُكَ مِنْهَا مِثْلُ زَادَ الْمُسَافِرِ

إِذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْءِ دِينَهُ

فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فلَيْسَ بِضَائِرِ

آخر:

يَرَى رَاحَةً فِي كَثْرَةِ الْمَالِ رَبُّهُ

وَكَثْرَةُ مَالِ الْمَرْءِ لِلْمَرْءِ مُتْعِبُ

إِذَا قَلَّ مَالَ الْمَرْءِ قَلَّتْ هُمُومُهُ

وَتَشْعَبُهُ الأَمْوَالُ حِينَ تَشَعَّبُ

آخر:

وَمَا أَجْمَعُ الأَمْوَالَ إِلا غَنِيمَةً

لِمَنْ عَاشَ بَعْدِي وَاتِّهَامٌ لِرَازِقِي

آخر:

رَضِيتُ مِنَ الدُّنْيَا بِقُوتٍ يُقِيمُنِي

فَلا ابْتَغِي مِنْ دُونِهِ أَبَدًا فَضْلاً

وَلَسْتُ أَرُومُ الْقُوتَ إِلا لأَنَّهُ

يُعِينُ عَلَى عِلْمٍ أَرُدُّ بِهِ جَهْلا

آخر:

يَا جَامِعًا مَانِعًا وَالْمَوْتُ يَتْبَعُهُ

مُقَدِّرًا أَيِّ نَابَ فِيِه يُعْلقُهُ

الْمَالُ عِنْدَكَ مَخْزُونُ لِوَارِثِهِ

مَا الْمَالُ مَالُكَ إِلا يَوْمَ تَنْفَقُهُ

جَمَعْتَ مَالاً فَفَكِّرْ هَلْ جَمَعْتَ لَهُ

يَا جَامَعَ الْمَالِ أَيَّامًا تُفَرِّقُهُ

لله دَرُّ فَتَىً يَغْدُو عَلَى ثِقَةٍ

إِنَّ الَّذِي قَسَّمَ الأَرْزَاقَ يَرْزقُهُ

فَالْعِرْضُ مِنْهُ مَصُونٌ لا يُدَنِّسُهُ

وَالْوَجْهُ مِنْهُ جَدِيدٌ لَيْسَ يُخْلِقُهُ

إِنَّ الْقَنَاعَةَ مَنْ يَحْلُلْ بِسَاحَتِهَا

لَمْ يَلْقَى فِي ظِلِّهَا هَمًا يُؤرِّقُهُ

آخر:

يَقُولُ الْفَتَى ثَمَّرْتُ مَالِي وَإِنَّمَا

لِوَارِثِهِ مَا ثَمَّرَ الْمَالَ كَاسِبُهُ

يُحَاسِبُ فِيهِ نَفْسَهُ بِحَيَاتِهِ

وَيَتْرُكُهُ نَهْبَا لِمَنْ لا يُحَاسِبُهُ

شِعْرًا:

أَيَا لِلْمَنَايَا وَيْحَهَا مَا أَجَدَّهَا

كَأَنَّكَ يَوْمًا قَدْ تَوَرَدْتَ وِرْدَهَا

ص: 292

.. وَيَا لِلْمَنَايَا مَا لَهَا مِنْ إِقَالَةٍ

إِذَا بَلَغَتْ مِنْ مُدَّةِ الْحَي حَدَّهَا

أَلا يَا أَخَانَا إِنَّ لِلْمَوْتِ طَلْعَةً

وَإِنَّكَ مُذْ صُوِّرْتَ تَقْصُدُ قَصْدَهَا

وَلِلْمَرْءِ عَِنْدَ الْمَوْتِ كَرْبٌ وَغُصَّةٌ

إِذَا مَرَّتِ السَّاعَاتُ قَرَبْنَ بُعْدَهَا

سَتُسْلِمُكَ السَّاعَاتُ فِي بَعْضِ مَرِّهَا

إِلَى سَاعَةٍ لا سَاعَةٌ لَكَ بَعْدَهَا

وَتَحْتَ الثَّرَى مِنِّي وَمِنْكَ وَدَائِعٌ

قَرِيبَةُ عَهْدٍ إِنْ تَذَكَّرْتَ عَهْدَهَا

مَدَدْتَ الْمُنَى طُولاً وَعَرْضًا وَإِنَّهَا

لَتَدْعُوكَ أَنْ تَهدَا وَأَنْ لا تَمُدَّهَا

وَمَالَتْ بِكَ الدُّنْيَا إِلَى اللَّهْوِ وَالصِّبَا

وَمَنْ مَالَتْ الدُّنْيَا بِهِ كَانَ عَبْدَهَا

إِذَا مَا صَدَقْتَ النَّفْسَ أَكْثَرْتَ ذَمَّهَا

وَأَكْثَرْتَ شَكْوَاهَا وَأَقْلَلْتَ حَمْدَهَا

بِنَفْسِكَ قَبْلَ النَّاسِ فَاعْنَ فَإِنَّهَا

تَمُوتُ إِذَا مَاتَتْ وَتُبْعَثُ حَمْدَهَا

وَمَا كُلُّ مَا خَوَّلْتَ إِلا وَدِيعَةٌ

وَلَنْ تَذْهَبِ الأَيَّامَ حَتَّى تَرُدَّهَا

إِذَا أَذْكَرَتْكَ النَّفْسُ دُنْيًا دَنِيَةً

فَلا تَنْسَ رَوْضَاتِ الْجِنَانِ وَخُلْدَهَا

أَلَسْتَ تَرَى الدُّنْيَا وَتَنْغِيصَ عَيْشِهَا

وَأَتْعَابَهَا لِلْمُكْثِرِينَ وَكَدَّهَا

وَأَدْنَى بَنِي الدُّنْيَا إِلَى الْغَيِّ وَالْعَمَى

لِمَنْ يَبْتَغِي مِنْهَا سَنَاهَا وَمَجْدَهَا

هَوَى النَّفْسُ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ تَغُولُهَا

كَمَا غَالَتِ الدُّنْيَا أَبَاهَا وَجَدَّهَا

اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا للزوم الطَرِيق الَّذِي يقربنا إليك وهب لَنَا نورًا نهتد به إليك، ويسر لَنَا ما يسرته لأَهْل محبتك، وأيقظنا من غفلاتنا وألهمنا رشدنا واسترنا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة، واحشرنا فِي زمرة عبادك المتقين، يَا خَيْر من دعاه داع، وأفضل من رجاه راج، يَا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لَنَا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يَا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ما فِي صدور الصامتين، أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

ص: 293

"فَصْلٌ"

والأحق بالبداءة بالسَّلام أن يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي» . لما ورد عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «ليسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير» . متفق عَلَيْهِ. وفي رواية لمسلم "والراكب على الماشي» .

ولَقَدْ ورد فِي إفشاء السَّلام وفضله أحاديث كثيرة، مَنْهَا ما رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم وَأَبُو دَاود وابن ماجة عَنْ عَبْد اللهِ بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإِسْلام خَيْر؟ قَالَ:«تطعم الطعام، وتقرأ السَّلام على من عرفت ولم تعرف» .

وأَخْرَجَهُ مُسْلِم وَأَبُو دَاود والترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا الْجَنَّة حَتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حَتَّى تحابوا، ألا أدلكم على شَيْء إِذَا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السَّلام بينكم» .

وروى ابن حبان فِي صحيحه عَنْ البراء رضي الله عنه عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افشوا السَّلام تسلموا» . وأخَرَجَ الترمذي وقَالَ: حسن صحيح عَنْ أبي يوسف عَبْد اللهِ بن سلام رضي الله عنه قَالَ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَا أيها النَّاس افشوا السَّلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والنَّاس نيام تدخلوا الْجَنَّة بسلام» .

وأخَرَجَ الطبراني بإسناد حسن، عَنْ أَنَس رضي الله عنه قَالَ: كنا إِذَا كنا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفرق بيننا شجرة فإذا التقينا يسلم بعضنا على بَعْض. وأخَرَجَ الطبراني فِي الأوسط بإسناد جيد، وقَالَ: لا يروى إلا بهَذَا الإسناد عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أعجز النَّاس من عجز عَنْ الدُّعَاء، وأبخل النَّاس من بخل بالسَّلام» .

ص: 294

ورُوِيَ أيضًا عَنْ عَبْد اللهِ بن معقل رضي الله عنه فِي معاجمه الثلاثة بإسناد جيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " أسرق النَّاس الَّذِي يسرق صلاته» . قِيْل: يَا رَسُولَ اللهِ وكيف يسرق صلاته. قَالَ: «لا يتم ركوعها ولا سجودها، وأبخل النَّاس من بخل بالسَّلام» .

وأخَرَجَ الإِمَام أحمد والْبَزَار وإسناد الإِمَام أحمد لأ باس به. عَنْ جابر رضي الله عنه أن رجلاً أتى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ لفلان فِي حائطي عذقًا وأنه قَدْ آذاني وشق عليَّ مكَانَ عذقه فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم فقَالَ: بعني عذفك الَّذِي فِي حائط فلان: قَالَ: لا. قَالَ: فهبه لي؟ قَالَ: لا. فقَالَ: بعنيه بعذق فِي الْجَنَّة. قَالَ: لا. فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ما رَأَيْت الَّذِي هُوَ أبخل منك إلا الَّذِي يبخل فِي السَّلام» .

وعن أبي الخطاب قتادة: قَالَ: قُلْتُ لأنس: أكَانَتْ المصافحة فِي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نعم. متفق عَلَيْهِ. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مُسْلِمِينَ يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا» . رَوَاهُ أبو داود.

وعن أَنَس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رجل يَا رَسُولَ اللهِ الرجل منا يلقى أخاه أَوْ صديقه أينحنى لَهُ؟ قَالَ: لا. قَالَ: أفيلتزمه ويقبله؟ قَالَ: لا. قَالَ: فيأخذ بيده ويصافحه. قَالَ: «نعم» . رَوَاهُ الترمذي وقَالَ: حديث حسن إِذَا فهمت ذَلِكَ فاعْلَمْ أن للسلام فَوَائِد عديدة مَنْهَا امتثال سُنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم. وقَدْ قَالَ: «من كَانَ من أمتي فليستن بسنتي» .

ومنها الْخُرُوج من الحرمة على القول بوجوب ابتدائه وإن كَانَ المعتمد عَلَيْهِ أنه مستحب.

ومنها الْخُرُوج من البخل وقَدْ ورد أنه لا يدخل جنة عدن بخيل وقَالَ صلى الله عليه وسلم:

ص: 295

«أي داء أدْوى من البخل» . والبخيل بغيض إِلَى الله بغيض إِلَى النَّاس بعيد من الْجَنَّة حبيب إِلَى الشيطان قريب إِلَى النيران.

ومنها أن السَّلام يكون من الأسباب التِي تدخل صاحبها فِي الْجَنَّة كما مر فِي حديث عَبْد اللهِ بن سلام وأنه يوجب دخولها كما فِي حديث أبي سرح رضي الله عنه أنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أخبرني بشَيْء يوجب الْجَنَّة؟ قَالَ: «طيب الكلام وبذل السَّلام وإطعام الطعام» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وصححه.

ومنها أن بذله من موجبات المغفرة، فقَدْ روى عَنْ أبي سرح بإسناد جيد قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ دلني على عمل يدخلني الْجَنَّة. قَالَ: «إن من موجبات المغفرة بذل السَّلام وحسن الكلام» .

شِعْرًا:

وَكُنْ بَشًّا كَرِيمًا ذَا انْبِسَاطٍ

وَفِيمَنْ يَرْتَجِيكَ جَمِيلَ رَأْي

بَعِيدًا عَنْ سَمَاعِ الشَّرِّ سَمْحًا

نَقِيَّ الْكَفِّ عَنْ عَيْبٍ وَثَأْي

مُعِينًا لِلأَرَامِلِ وَالْيَتَامَى

أَمِين الْجَيْبِ عَنْ قُرْبٍ وَنَأْي

وَصُولاً غَيْرَ مُحْتَشِمٍ زَكِيًّا

حَمِيدَ السَّعْيِ فِي إِنْجَازِ وَأْي

تَلَقَّ مَوَاعِظِي بِقَبُولِ صِدْقٍ

تَفُزْ بِالأَمْنِ عِنْدَ حُلُولِ لأْي

آخر:

أَطِعْ مَوْلاكَ وَاسْأَلْهُ رِضَاهُ

وَطِبْ نَفْسًا إِذَا حَكَم الْقَضَاءُ

وَكُنْ رَجُلاً عَلَى الطَّاعَاتِ جَلْدًا

وَشِيمَتُكَ السَّمَاحَةِ وَالسَّخَاءُ

يُغَطَّى بِالدِّيَانَةِ كُلُّ عَيْبٍ

وَكَمْ عَيْبٍ يُغَطِّيهِ السَّخَاءُ

وَرِزْقُكَ لَيْسَ يَنْقُصُهُ التَأَنِّي

وَلَيْسَ يَزِيدُ فِي الرِّزْقَِ الْعَنَاءُ

إِذَا مَا كُنْتَ ذَا قَلْبٍ قَنُوع

فَأَنْتَ وَمُثْرِيٌّ فِيهَا سَوَاءُ

اللَّهُمَّ اجعلنا من المتقين الأبرار واسكنا معهم فِي دار الْقَرَار، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغاء إليك، وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُن فِي طَاعَتكَ والمبادرة إِلَى

ص: 296

خدمتك وحسن الآداب فِي معاملتك والتسليم لأَمْرِكَ والرِّضَا بقضائك والصبر على بَلائِكَ وَالشُّكْر لنعمائك. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.

" فَصْلٌ "

ومن ذَلِكَ أن إفشاء السَّلام بين الْمُسْلِمِين يوجب المحبة والألفة والعطف والمحبة شأنها عَظِيم وقدرها جسيم.

ومن فَوَائِد السَّلام أداء حق أخيه المسلم ففي صحيح مُسْلِم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «حق المسلم على المسلم ست» . قِيْل: وما هن يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِذَا لقيته فسلم عليه» .. الْحَدِيث.

ومنها أولويته بِاللهِ لما روى أبو داود والترمذي: أن أولى النَّاس بِاللهِ من بدأهم بالسَّلام.

ومنها حوز الفضيلة لما أخَرَجَ الْبَزَار وابن حبان فِي صحيحه عَنْ جابر رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والماشيان أيهما بدأ فهو أفضل» .

وأخَرَجَ الطبراني فِي الكبير والأوسط وأحد إسنادي الكبير محتج بِهُمْ فِي الصحيح عَنْ الأغر أغر مزينة رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لي بجريب من تمر عَنْدَ رجل من الأنصار فمطلني به فكلمت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقَالَ: «اغد يَا أبا بكر فخذ لَهُ من تمره» . فوعدني أَبُو بَكْرٍ المسجد إِذَا صلينا الصبح فوجدته حيث وعدني، فانطلقنا فكُلَّما رأى أبا بكر رجل من بعيد سلم عَلَيْهِ. فقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أما تَرَى ما يصيب القوم عَلَيْكَ

ص: 297

من الفضل لا يسبقك إِلَى السَّلام أحد فكَانَ إِذَا طلع الرجل من بعيد باكرناه بالسَّلام قبل أن يسلم عَلَيْنَا.

ومنها إدراك الفضيلة فِي إفشاء السَّلام الَّذِي هُوَ اسم الله وفضل الدرجة بنشرها لما أخَرَجَ البزاربسند جيد قوي والطبراني عَنْ ابن مسعود رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «السَّلام اسم من أسماء الله تَعَالَى وضعه فِي الأَرْض، فافشوا السَّلام بينكم فَإِنَّ الرجل المسلم إِذَا مر بقوم فسلم فردوا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ عَلَيْهمْ فضل درجة بتذكيره إياهم السَّلام فَإِنَّ لم يردوا عَلَيْهِ رد عَلَيْهِ من هُوَ خَيْر مِنْهُمْ» .

ومن فَوَائِد السَّلام حصول الحسنات التي صحت بها الروايات. فأخَرَجَ أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي وحسنه أيضًا عَنْ عمران بن حصين رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: السَّلام عليكم. فرد عَلَيْهِ ثُمَّ جلس فقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «عشر» .

ثُمَّ جَاءَ آخر فقَالَ: السَّلام عليكم ورحمة الله. فرد عَلَيْهِ فقَالَ: «عشرون» .

ثُمَّ جَاءَ آخر فقَالَ: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فرد فجلس فقَالَ: «ثلاثون» . وَرَوَاهُ أبو داود عَنْ معاذ مرفوعًا بنحوه، وزَادَ ثُمَّ أتى آخر فقَالَ: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته. فقَالَ: «أربعون» . هكَذَا تَكُون الفضائل

ومن فَوَائِد السَّلام حصول السلامة كما فِي حديث البراء المتقدم ويحتمل قوله صلى الله عليه وسلم: «أفشوا السَّلام تسلموا» . يعني فِي الدُّنْيَا من الإثُمَّ والبخل أَوْ من أعم من ذَلِكَ من نكبات الدُّنْيَا ومن أهوال الآخِرَة وفضل الله واسع.

ومنها تصفيته ود أخيك المسلم فقَدْ روى الطبراني فِي الأوسط عَنْ شيبة الحجبي عَنْ عمه مرفوعًا: «ثلاث يصفين لَكَ ود أخيك: تسلم عَلَيْهِ إِذَا لقيته، وتوسع لَهُ فِي المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه» .

ص: 298

ومنها حصول فضيلة الإِسْلام وخيرته كما فِي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتقدم وأيضًا من فوائده إحياء سُنَّة أبينا آدم عليه السلام، فقَدْ روى الْبُخَارِيّ ومسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لما خلق الله آدم» . قَالَ: اذهب فسلم على أولئك - نفر من الملائكة جلوس - فاستمَعَ ما يحيونك فَإِنَّهَا تحيتك وتحية ذريتك قَالَ: السَّلام عليكم. فَقَالُوا: السَّلام عَلَيْكَ ورحمة الله. فزادوا ورحمة الله» .

وقَالَ مجاهد: كَانَ عَبْد اللهِ بن عمر رضي الله عنهما يأخذ بيدي فيخَرَجَ إِلَى السوق يَقُولُ: إني لأخَرَجَ ومالي حَاجَة إلا لأسلم ويسلم عليَّ فأعطي واحدة واحدة وآخذ عشرًا، يَا مجاهد إن السَّلام من أسماء الله تَعَالَى فمن أكثر السَّلام أكثر ذكر الله، ومنها موافقته تحية أَهْل الْجَنَّة فَإِنَّ تحية أَهْل الْجَنَّة فيها سلام كما قَالَ جل شأنه {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} .

والسَّلام كما تقدم تحية الْمُؤْمِنِينَ وشعارهم فلا نبدأ أَهْل الكتاب أَوْ الذمة به. ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا تبدؤا اليهود والنَّصَارَى بالسَّلام فإذا لقيتم أحدهم فِي طَرِيق فاضطروه إِلَى أضيقها» .

رَوَاهُ أحمد ومسلم.

ولما روى أبو نصرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا غادون على يهود فلا تبدوهم بالسَّلام وإن سلموا عليكم فقولوا: وعليكم» . ويحرم بداءتهم بكيف أصبحت أَوْ كيف أمسيت، أَوْ كيف أَنْتَ أَوْ كيف حالك، أَوْ كما يفعله ضعاف العقول والدين بقولهم لَهُمْ صباح النُّور أَوْ مساء الْخَيْر مَعَ رفع أيديهم نسأل الله العافية أَوْ يقولون لَهُمْ والعياذ بِاللهِ أهلاً ومرحبًا.

ولو كتب إِلَى كافر وأراد أن يكتب سلامًا كتب سلام على من اتبع الهدى لما روى الْبُخَارِيّ أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ فِي كتابه إِلَى هرقل عَظِيم الروم، ولأن ذَلِكَ معنى جامَعَ وإن سلم على من ظنه مسلمًا ثُمَّ تبين لَهُ أنه ذمي

ص: 299

استحب للمسلم أن يَقُولُ للذمي: رد عليَّ سلامي لما رُوِي عَنْ ابن عمر أنه مَرَّ على رجل فسلم عَلَيْهِ فقِيْل: إنه كافر. فقَالَ: رد عليَّ ما سلمت عَلَيْكَ. فرد عَلَيْهِ فقَالَ: أكثر الله مالك وولدك. ثُمَّ التفت إِلَى أصحابه. فقَالَ: أكثر للجزية. وإن سلم أحد أَهْل الذمة لزم رده فيقَالَ: وعليكم أَوْ يقَالَ: عليكم بلا واو.

وفي الصحيحين عَنْ عَبْد اللهِ بن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سلم عليكم اليهود فإنما يَقُولُ أحدهم: السام عَلَيْكَ فقل لَهُ: وعَلَيْكَ» . هكَذَا بالواو. وفي لفظ: «عَلَيْكَ» . بلا واو وعن أَنَس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» . رَوَاهُ أحمد. وفي لفظ للإمام أحمد: «فقولوا عليكم بلا واو» .

وعن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السام عليكم. ففهمتها فَقُلْتُ: وعليكم السام واللعنة. فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مهلاً يا عَائِشَة فَإِنَّ الله يحب الرفق فِي الأَمْر كله» . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْ لم تسمَعَ ما قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ قُلْتُ وعليكم» . متفق عَلَيْهِ. وفي لفظ قَدْ قُلْتُ: «عليكم» . لم يذكر مُسْلِم الواو وعَنْدَ الشَّيْخ تقي الدين يرد مثل تحيته فَيَقُولُ: وعَلَيْكَ مثل تحيتك

انتهى.

ومِمَّا يحرم ويجب النهي عَنْهُ ما يفعله كثير من النَّاس من السَّلام عَلَيْهمْ باليد بالإشارة وجعلها حذاء الرأس أَوْ وضعها على صدره احترامًا لأعداء الله وإشعارًا بأنه يحبهم نسأل الله العافية. قَالَ أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل سئل ايبتداء الذمى بالسَّلام إِذَا كَانَتْ لَهُ إليه حَاجَة؟ قَالَ: لا يعجبني.

قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنَّصَارَى، فَإِنَّ تسليم اليهود إشارة الأصابع وتسليم النَّصَارَى إشارة بالأكف» . رَوَاهُ الترمذي عَنْ عَبْد اللهِ بن عمرو بن العاص. ورُوِيَ: لا تسلموا تسليم اليهود

ص: 300

والنَّصَارَى فَإِنَّ تسليمهم إشارة بالكفوف والحواجب. تأمل يَا أخي سلام كثير من النَّاس تجده بالكفوف والحواجب فقط.

اللَّهُمَّ نور قلوبنا بالإيمان وثبتها على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وفي الآخِرَة وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بعبادك الصالحين يَا أكرم الأكرمين ويا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

"فَصْلٌ "

ويجب هجر من كفر أَوْ فسق ببدعة أَوْ دعا إِلَى بدعة مضللة أَوْ مفسقة وهؤلاء هم أهل الأهواء والبدع.

وأما هجر من أظهر المعاصي وأعلنها فقِيْل: يسن. وقِيْل: يجب. قَالَ الإِمَام أحمد رضي الله عنه: إِذَا علم أنه مقيم على معصية وَهُوَ يعلم بذَلِكَ لم يأثُمَّ إن جفاه حَتَّى يرجع وإلا كيف يتبين للناس ما هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لم ير منكر ولا جفوة من صديق.

وقَدْ هجر صلى الله عليه وسلم كعبًا وصاحبيه وأمر أصحابه بهجرهم خمسين يَوْمًا وهجر صلى الله عليه وسلم زوجاته شهرًا.

وهجرت عَائِشَة رضي الله عنها ابن اختها عَبْد اللهِ بن الزبير رضي الله عنهما مدة. وهجر جماعة من الصحابة وماتوا متهاجرين رضوان الله عَلَيْهمْ أجمعين.

قَالَ أبو داود رضي الله عنه: إِذَا كَانَتْ الهجرة لله فلَيْسَ من هَذَا يعني من أحاديث الوعيد بالهجران بشَيْء.

فإن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هجر بَعْض نسائه أربعين يَوْمًا. وابن عمر رضي الله عنه هجر ابنا لَهُ إِلَى أن مَاتَ.

والإمام أحمد رضي الله عنه هجر جماعة ممن أجابوا فِي المحنة مثل يحيي بن معين وعلي ابن المديني وَغَيْرِهمَا مَعَ فخامة شأنهم.

ص: 301

وَكَمْ إمام هجر صديقًا لَهُ كَانَ عزيزًا عَلَيْهِ لولا إنتهاكه لمحارم الله فصار بذَلِكَ كالجماد بل أدنى ويكفي من ذَلِكَ قصة النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَعَ كعب وصاحبيه.

وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد.

" موعظة "

عباد الله لَقَدْ تغير أكثر أهل هَذَا الزمن فِي أحوالهم الدينية تغيرًا يدهش ذوى العقول تغيرًا من أمعن النظر فيهم ظن أنهم ليسوا من فريق الْمُؤْمِنِينَ.

هذه الصَّلاة وهي عمود الإِسْلام آكد أركانه بعد الشهادتين أعرضوا عَنْهَا ولم يبالوا فيها جهلوا ما هِيَ الصَّلاة وأي قيمة قيمتها وما منزلتها بين سائر الطاعات.

أما علموا أنها أول ما ينظر فيه من عمل الْعَبْد يوم القيامة فَإِنَّ وجدت تامة صَالِحَة قبلت منه وسائر عمله، وإن وجدت ناقصة ردت إليه وسائر عمله ثُمَّ تَكُون كالثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها.

عباد الله إن الصَّلاة عبادة ومنجاة وقربى نظامها الركوع والسجود مَعَ التذلل والخضوع وأقولها. القراءة والتسيبح والإبتهال إِلَى الله وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم وروحها الإخلاص لله وسرها إظهار العبودية والإستكانة لعظمة الرب جَلَّ وَعَلا.

إنها خمس صلوات فِي الْيَوْم واللَّيْلَة خمس وقفات يقفها الْعَبْد أمام سيده ومولاه خالقه ومدبر أمره ولها عَنْدَ الله ثواب خمسين صلاة

شرعت لها الجماعة وأمر ببناء المساجد لأجلها وشرع لها الأذان لينتبه الغَافِل ويتذكر الناسي والجاهل إعلامًا لوقتها ليجتمَعَ المسلمون إليها ويؤدوها فِي جو يسوده الإخاء والمحبة والألفة.

ص: 302

وهي خَيْر العبادات وكَانَتْ قرة عين النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كما فِي الْحَدِيث: «وجعلت قرة عينى فِي الصَّلاة» . وكَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أرحنا يَا بلال بالصَّلاة» .

عباد الله إن الصَّلاة كما علمتم عماد الدين ونور اليقين ومصدر البر ومبعث الْخَيْر العميم وعصمة لمن وفقه الله عَنْ الفحشاء والْمُنْكَر ونجاة من خزي الدُّنْيَا وعذاب الآخِرَة.

وقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث: «الصَّلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء» . وذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فقَالَ: «من حافظ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة» .

عباد الله إن الصَّلاة من أجل الشعائر الدينية وأعظم المظاهر الإِسْلامية ومن أشرف العبادات وهي خَيْر ما يتقرب به الْعَبْد إِلَى الله وقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يصلي حَتَّى تورمت قدماه.

عباد الله إِذَا فهمتم ما سبق من عظم شأن الصَّلاة فما بال قوم يهملونها ويتهاونون بها ويتكاسلون عَنْهَا عَنْدَ حلول وقتها، وما بال أقوم يؤدونها على عجل وعلى غير وجهها وينقرونها نقر الغراب كأنهم مكرهون عَلَيْهَا وينسون أنها وقفة أمام بديع السموات والأرض، فمن الْخَيْر أن تطول هَذِهِ الوقفة. قَالَ صلى الله عليه وسلم:«إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه؛ فأطيلوا الصَّلاة وأقصروا الخطبة» .

ومن المؤسف أنَّ أكثر الخطباء الْيَوْم عملوا بخلاف ذَلِكَ فأطالوا الخطبة وقصروا الصَّلاة فلا حول ولا قوة إلا بِاللهِ.

عباد الله إن بَعْض النَّاس يؤدى الصَّلاة تعودًا لا تعبدًا وَهَذَا ما جعلها لا تنهاه عَنْ فحشاءٍ ولا منكر، لسان حالهم يَقُولُ: يَا إمام أرحنا من الصَّلاة.

عباد الله إن الله جَلَّ وَعَلا أنعم عَلَيْنَا بنعم عظيمة لا تعد ولا تحصى جعلنا

ص: 303

من بني آدم وجعل لَنَا سمعًا وأبصارًا وأفئدة ومنحنا النَّشَاط والقوة وشد أسرنا ووهبنا الصحة والعافية والرزق وسهل عَلَيْنَا الحركة والسعى.

هَذَا البعض اليسير من نعمه كله كرمًا منه وتفضلاً ولم يطلب منا إلا دقائق من يوم طويل نشكره فيها ونحمده ونسأله أن يعفو عنا ويرزقنا ويرحمنا ويحفظنا وأولادنا وأهلنا. وهذه لاتخَرَجَ عَنْ كونها لخيرنا فِي الدُّنْيَا والآخِرَة.

فما لَنَا لا نقوم بهذه الدقائق بجد وإجتهاد وإخلاص ورغبة ونشاط ونسعى إِلَى مناجاة مولانَا وسيدنا راغبين ونحافظ على أوقات الصَّلاة ونقيمها على الوجه الأكمل، لا شك أن الْعَبْد عِنْدَمَا يحاسب نَفْسهُ يخجل ويستحي جدًا ويتذكر أن الصَّلاة التِي هِيَ صلة بينه وبين مولاه لا تأخذ من يومه إلا دقائق بينما لَهُ باقي الْيَوْم كله.

اللَّهُمَّ ارزقنا المعرفة على بصيرة بك وبأسمائك وصفاتك وَوَفِّقْنَا لما تحبه وترضاه من الأَعْمَال وجنبنا ما تكرهه ولا ترضاه من الأقوال والأعمال وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وَفِي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار يَا عزيز ويا غفار واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

" فَصْلٌ "

" فيما ورد فِي الأخوة والألفة والصداقة فِي الله "

عن أَنَس رضي الله عنه عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلاوة الإِيمَان من كَانَ الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما ومن أحب عبدًا لا يحبه إلا لله» . الْحَدِيث رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم والترمذي والنسائي.

ص: 304

وَفِي رواية: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلاوة الإِيمَان وطعمه: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما، وأن يحب فِي الله ويبغض فِي الله» . الْحَدِيث رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تَعَالَى يَقُولُ يوم القيامة أين المتحابون بجلالي، الْيَوْم أظلهم فِي ظلي يوم لا ظِلّ إلا ظلي» . رَوَاهُ مُسْلِم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سبعة يظلهم الله فِي ظله يوم لا ظِلّ إلا ظله: الإِمَام العادل، وشاب نشأ فِي عبادة الله، ورجل معلق قَلْبهُ فِي المساجد، ورجلان تحابا فِي الله اجتمعا عَلَيْهِ وتفرقا عَلَيْهِ، ورجل دعته امراة ذات منصب وجمال فقَالَ: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفلها حَتَّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خَالِيًا ففاضت عَيْنَاهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم وَغَيْرِهمَا.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن رجلاً زار أخًا لَهُ فِي قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكًا فَلَمَّا أتى عَلَيْهِ قَالَ: أين تريد؟ قَالَ: أخًا لي فِي هَذِهِ القرية. قَالَ: هل لَكَ عَلَيْهِ من نعمة تربها؟ قَالَ: لا غير أني أحبه لله. قَالَ: فإني رسول الله إليك أن الله قَدْ أحبك كما أحببته فيه» . رَوَاهُ مُسْلِم.

وعن أبي مُسْلِم قَالَ: قُلْتُ لمعاذ: وَاللهِ أني لأحبك لغير دنيا أرجو أن أصيبها منك ولا قرابة بيني وبينك. قال: فبأي شيء؟ قلت: لله. قال: فجذب جبوتي ثم قَالَ: أبشر إن كنت صادقًا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «المتحابون فِي الله فِي ظِلّ العرش يوم لا ظِلّ إلا ظله، يغبطهم بمكانهم النبيون والشهداء» . قَالَ: ولقيت عبادة بن الصامت فحدثته بحديث معاذ.

ص: 305

شِعْرًا:

وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِي اللهِ تَبْقَى

عَلَى الْحَالَيْنِ فِي سِعَةٍ وَضِيقِ

وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِيمَا سِوَاهُ

فَكَالْحَلَفَاءِ فِي لَهَبِ الْحَرِيقِ

آخر:

إِذَا اعْتَذَرَ الصَّدِّيقَ إِلَيْكَ يَوْمًا

مِنَ التَّقْصِير عُذْر فَتَىً مُقِرّ

فَصِنْهُ مِنْ عِتَابِكَ وَاعْفُ عَنْهُ

فَإِنَّ الْعَفْوِ شِيمَةُ كُلَّ حُرّ

شِعْرًا:

لا تَهْجُرَنَّ أَخَاكَ إِنْ أَبْصَرْتَهُ

لَكَ جَافِيًا وَلِمَا تُحِبُّ مُجَافِيَا

فَالْغُصْنُ يَذْبُلُ ثُمَّ يُصْبِحُ مَورِقًا

وَالْمَاء يَكدُّرُ ثُمَّ يُصْبِحُ صَافِيًا

فقَالَ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَنْ ربه تبارك وتعالى: «حقت محبتي على الْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وحقت محبتي على المتناصحين فِيَّ، وحقت محبتي على المتباذلين فِيَّ. هم على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء والصديقون» . رَوَاهُ ابن حبان فِي صحيحه.

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأثر عَنْ ربه تبارك وتعالى يَقُولُ: «حقت محبتي للمتحابين فِيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فِيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فِيَّ، وحقت محبتي للمتباذلين فِيَّ» . رَوَاهُ أحمد بإسناد صحيح.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله عباد ليسوا بأنبياء يغبطهم الأَنْبِيَاء والشهداء» . قِيْل: من هم لعلنا نحبهم. قَالَ: «هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوهم نور على منابر من نور لا يخافون إِذَا خاف النَّاس ولا يحزنون إِذَا حزن النَّاس» .

ثُمَّ قرأ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . رَوَاهُ النسائي فِي صحيحه واللفظ لَهُ وَهُوَ أتم.

وعن عمر رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأَنْبِيَاء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فأخبرنا من هم.

ص: 306

قَالَ: «هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فو الله إن وجوهم لنور وإنهم لعلى نور ولا يخافون إِذَا خاف النَّاس ولا يحزنون إِذَا حزن النَّاس» . وقرأ هَذِهِ الآية

{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} رَوَاهُ أبو داود.

وعن عمار بن ياسر أن أصحابه كَانُوا ينتظرونه فَلَمَّا خَرَجَ قَالُوا: ما أبطاك عنا أيها الأمير قَالَ: أما إني سوف أحدثكم أَنَّ أخًا لكم ممن كَانَ قبلكم وَهُوَ مُوَسى عليه السلام قَالَ: يا رب حدثني بأحب النَّاس إليك قَالَ: ولم. قَالَ: لأحبه بحبك إياه.

قَالَ: «عبد فِي أقصى الأرض أَوْ طرف الأرض سمَعَ به عبد آخر فِي أقصى أَوْ طرف الأرض لا يعرفه فَإِنَّ أصابته مصيبة فكأنما أصابته، وإن شاكته شوكتة فكأنَّما شاكته لا يحبه إلا لي فَذَلِكَ أحب خلقي إِلَي» .

قَالَ: يَا رب خلقت خلقًا تدخلهم النار أَوْ تعذبهم فأوحى الله إليه» . كلهم خلقي. ثُمَّ قَالَ: ازرعْ زرعًا فَزَرَعَهُ فقَالَ: اسقه. فسقاه ثُمَّ قَالَ: قم عَلَيْهِ ما شَاءَ الله من ذَلِكَ فحصده ورفعه

فقَالَ: ما فعل زرعك يَا مُوَسى؟ قَالَ: فرغت منه ورفعته. قَالَ: ما تركت منه شَيْئًا؟ قَالَ: ما لا خَيْر فيه أَوْ ما لا حَاجَة لي فيه. قَالَ: فكَذَلِكَ أَنَا لا أعذب إلا من لا خَيْر فيه» .

قَالَ: ولو لم يكن فِي محبة الله إلا أنها تنجي محبة من عذابه لكَانَ ينبغي للعبد أن لا يتعوض عَنْهَا بشَيْء أبدًا. وسئل بَعْض الْعُلَمَاء: أين تجد فِي القرآن أن الْحَبِيب لا يعذب حبيبه؟ فقَالَ فِي قوله تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} . الآية

ص: 307

اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لتدبر كتابك وإطالة التامل فيه وجمَعَ الفكر على معاني آياته. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قواعد الإِيمَان فِي قلوبنا وشيد فيها بنيانه ووطد فيها أركانه وألهمنا ذكرك وشكرك وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وفي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين

" موعظة "

عباد الله لَقَدْ غفلت الألسُنَّة الْيَوْم عَنْ ذكر الله غَفْلَة تسر إبلَيْسَ وجنوده ولما غفلت الألسُنَّة غفلت الْقُلُوب عَنْ مُرَاقَبَة الله فِي السِّرّ والعلانية، ولما غفلت الْقُلُوب والألسُنَّة عَنْ ذكر الله اندفعت الْجَوَارِح فِي ميدان المعاصى إندفاعًا لا يصدق به إلا من تأمل النَّاس فِي تفننهم فِي الشرور وتسابقهم إليها.

من تقليد للأجانب وشرب لدخان ومعاملات لا تجوز ونفاق وغش ونهش لأعراض الغافلين وخداع ومكر ورياء وربا وكبر وحسد وسماع للملاهي وحضورها وعقوق وشهادة زور ورشاء ومداهنات ونم وكذب ونحو ذَلِكَ.

ولو تحركت الألسُنَّة بذكر الله لاستيقظت الْقُلُوب من غفلاتها القاتلات ولو استيقظت الْقُلُوب والتفتت إِلَى ذكر علام الغيوب ما رأيت جارحة من الْجَوَارِح تلتفت لشئ من المحظورات فَإِنَّ الغَفْلَة عَنْ ذكر الله هي أصل الشرور واليقظة هِيَ أصل الْخَيْر والسعادة فِي الدُّنْيَا والآخِرَة بإذن الله تَعَالَى.

وإليك نماذج من كنوز ذكر الله تَعَالَى أولها كلمة الإخلاص لا إله إلا الله فَإِنَّهَا ترجح بكل ما سواها حَتَّى على الأرض والسماوات، وسبحان الله والحمد لله والله أكبر. فقَدْ رُوِي عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ:«لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إِلَى مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشمس» . رَوَاهُ مُسْلِم والترمذي.

ص: 308

شِعْرًا:

وَمَنْ يُنْفِقُ السَّاعَاتِ فِي الذِّكْرِ رَابِحٌ

يَفُزْ يَوْمَ لا ظِلٌّ سِوَى ظِلِّ رَبِّهِ

آخر:

مَنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُهُ ذِكْرٌ وَقُرْآنُ

فَإِنَّ أَوْقَاتَهُ نَقْصٌ وَخُسْرَانُ

وعن أم هانئ قَالَتْ: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ كبرت سني وضعفت أَوْ كما قَالَتْ: فمرني بعمل أعمله وأنَا جالسة.

قَالَ: «سبحي الله مائة مرة فَإِنَّهَا تعدل مائة رقبة تعتقينها من ولد إسماعيل، واحمدي الله مائة تحميدة فَإِنَّهَا تعدل لَكَ مائة فرس مسرجة ملجمة تحملين عَلَيْهَا فِي سبيل الله، وكبري الله مائة تكبيرة فَإِنَّهَا تعدل لَكَ مائة بدنة متقلبة، وهللي الله مائة تهليلة» .

قَالَ أبو خلف أحسبه قَالَ: تملأ ما بين السماء والأرض ولا يرفع يومئذ لأحد عمل أَفضل مِمَّا يرفع لَكِ إلا أن يأتي بمثل ما أَتيت» . رَوَاهُ أحمد بإسناد حسن واللفظ لَهُ والنسائي ولم يقل ولا يرفع إِلَى آخره ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الْهَّمّ كما فِي الْحَدِيث الذي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ.

ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ كنز من كنوز الْجَنَّة وقول أعوذ بكلمَاتَ الله التامَاتَ من شر ما خلق حفظ لقائلها من العقرب ونحوها. ومن قَالَ: رضيت بِاللهِ ربًا وبالاسلام دينًا وبمُحَمَّد رسولاً فليبشر بأن النبي صلى الله عليه وسلم زعيم لمن قالها: إِذَا أصبح أن يدخل الْجَنَّة.

وقل: إِذَا أصبحت اللَّهُمَّ ما أصبح بي من نعمة أَوْ بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لَكَ، فلك الحمد ولك الشكر لتؤدي شكر يومك وقل مثلها إِذَا أمسيت لتؤدي شكر ليلتك.

شِعْرًا:

إِذَا مَا الْمَرْءُ أَخْطَأه ثَلاثٌ

فَبِعْهُ وَلَوْ بِكَفٍ مِنْ رَمَادٍ

رِضَا الرَّحْمَن مَعَ صِدْقٍ وَزُهْدٍ

فَخُذْهَا وَاحْفَظَنْهَا فِي الْفُؤادِ

ص: 309

شِعْرًا:

وَلوْلا ثَلاثٍ هُنَّ مِنْ لَذَّةِ الْفَتَى

وَرَبُّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي

سِيَاحَةُ قَلْبِي فِي رِيَاضٍ أَرِيضَةً

مِن الْعِلْمِ مُجْتَازًا عَلَى كُلِّ مَوْرِدِ

وَتَسْبِيحُنَا للهِ جل جلاله

عَشِيًّا وَبِالإِبْكَارِ فِي كُلِّ مَسْجِدِ

وَتَرْتلُ آيَاتِ الْكِتَابِ مُنَوِّرًا

بِهَا جَوْفَ لَيْلَ فِي قِيَامِ التَّهَجُّدِ

اللَّهُمَّ يا حي يَا قيوم يَا من لا تأخذه سُنَّة ولا نوم مكن محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وأعنَّا على القيام بِطَاعَتكَ والانتهاء عَنْ معصيتك، اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة فإِنَّا ندعوك دعاء من كثرت ذنوبه وتصرمت آماله وبقيت آثامه وانسبلت دمعته وانقطعت مدته دعاء من لا يرجو لذنبه غافرًا غيرك ولا لما يؤلمه من الخيرات معطيًا سواك يا رب العالمين. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

"فَصْلٌ "

وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَا أيها النَّاس اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عز وجل عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله» .

فجثى رجل من الأعراب من قاصية النَّاس وألوى بيده إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأَنْبِيَاء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله انعتهم لَنَا جلهم لَنَا - يعني صفهم لَنَا -. فسر وجه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بسؤال الأعرابي. فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هم ناس من أفناء النَّاس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا فِي الله وتصافوا يضع الله لَهُمْ يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عَلَيْهَا فيجعل وجوهم وثيابهم نورًا يفزع النَّاس يوم القيامة ولا يفزعون وهم أولياء الله لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون» . رَوَاهُ أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن والحاكم وقَالَ: صحيح الاسناد

ص: 310

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إن فِي الْجَنَّة لعمدًا من ياقوت عَلَيْهَا غرف من زبرجد لها أبواب مفتحة تضيء كما يضيء الكوكب الدري: قَالَ: قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ من يسكنها؟ قَالَ: «المتحابون فِي الله والمتباذلون فِي الله والمتلاقون فِي الله» . رَوَاهُ البزار.

وعن بريدة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إن فِي الْجَنَّة غرفًا تَرَى ظواهرها من بواطنها وبواطنها من ظواهرها أعدها الله للمتحابين فيه والمتزاورين فيه والمتباذلين فيه» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الأوسط.

وعن أَنَس رضي الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قَالَ: «وما أعددت لها» . قَالَ: لا شَيْء إلا إني أُحبُّ الله ورسوله. قَالَ: «أَنْتَ مَعَ من أحببت» . قَالَ أَنَس: فما فرحنا بشَيْء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ مَعَ من أحببت» . قَالَ: أَنَس فأنَا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم» . رَوَاهُ مُسْلِم.

ففي هَذَا الْحَدِيث بشارة لمن أحب الله ورسوله وأصحابه ومن اتبعهم واقتدى بِهُمْ ولهَذَا فرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهَذَا النبأ الحسن واغتبطوا لَهُ اغتباطًا فائقًا وإنما سروا به وفرحوا لأنهم كَانُوا يقيسون أنفسهم على شخص النبي صلى الله عليه وسلم فِي العبادة وكَانَ صلى الله عليه وسلم يأمر بالْقَصْد فيها والرفق بأنفسهم.

ففي حديث الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أمرهم، أمرهم من الأَعْمَال ما يطيقون، ويقولون: إِنَّا لسنا مثلك يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ الله قَدْ غفر لَكَ ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فيغضب حَتَّى يعرف فِي وحهه.

ثُمَّ يَقُولُ: «أما وَاللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم لَهُ» . وكأنهم يقولون أَنْتَ

ص: 311

مغفور لَكَ فلا تحتاج إِلَى كثرة أعمال بخلافنا فرد عَلَيْهمْ صلى الله عليه وسلم بقوله: «أَنَا أولاكم بذَلِكَ لأني أتقاكم وأعلمك بِاللهِ» .

مَنْ كَانَ كَذَلِكَ يكثر أعماله وتعظم عبادته لشدة خوفه من ربه وتمام معرفته بما يليق بجلال الله وعظمته ولأن نعم الله عَلَيْهِ أكثر من غيره قَالَ الله تَعَالَى: {وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} ولهَذَا سر الصحابة بما قاله النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لهَذَا الرجل السائل.

وقَالُوا: فما فرحنا بشَيْء فرحنا بقول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ مَعَ من أحببت لما وفقك الله لَهُ من حسن النِّيْة والْقَصْد من غير اجهاد فِي الْعَمَل وزيادة فِي العبادة.

والحق أنه لا يتم ولا يكتمل إيمان الإنسان إلا بإيثار النبي صلى الله عليه وسلم بالمحبة والتعَظِيم على سائر خلق الله ففي الْحَدِيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حَتَّى أكون أحب إليه من والده وولده» . وفي رواية: «والنَّاس أجمعين» .

ومن علامَاتَ محبته إيثار رضاه والْعَمَل بشريعته ونصر سنته والتآسي به فِي شمائله وسيرته الكريمة المباركة أما من ادَّعَى محبته ولم يؤثر بالْعَمَل شريعته فتلك دعوى باطلة وتبجح كاذب لأن صاحبها لم يقم حجة على صحة دعواه وأحقية ما ادعاه.

اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لمحبتك ومحبة رسلك وأوليائك وعبادك الصالحين واغفر لَنَا اللَّهُمَّ اسلك بنا سبيل الأبرار وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المصطفين الأخيار وامنن عَلَيْنَا بالعفو والعتق من النار واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 312

" فَصْلٌ "

عن الوليد بن أبي مغيث عَنْ مجاهد قَالَ: إِذَا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما. قَالَ: قُلْتُ لمجاهد: بمصاحفة لهما؟ قَالَ مجاهد: أما سمعته يَقُولُ: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} . فقَالَ الوليد لمجاهد: أَنْتَ أعْلَمُ مني.

وعن سلمان الفارسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إن المسلم إِذَا لقى أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تحات الورق عَنْ الشجرة اليابسة فِي يوم ريح عاصف وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار» .

وقَالَ أبو عمرو الأوزعي حدثني عبدة بن لبابة عَنْ مجاهد ولقيته فأخذ بيدي فقَالَ: إِذَا التقا المتحابان فِي الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه تحاتت خطاياهم كما تحات ورق الشجر. قَالَ عبدة: فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا يسير؟ فقَالَ: لا تقل ذَلِكَ فَإِنَّ الله يَقُولُ: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} . قَالَ عبدة: فعرفت أنه أفقه مني.

" مَوْعِظَةٌ مِن كلامِ ابنِ الجَوْزِىْ رحمه الله "

يا من يرجى الثواب بغير عمل ويرجى التوبة بطول الأمل تَقُول فِي الدُّنْيَا قول الزاهدين وتعمل فيها عمل الراغبين لا بقليل مَنْهَا تقنع، ولا بكثير مَنْهَا تشبع تكره الموت لأجل ذنوبك وتقيم على ما تكره الموت لَهُ من عيوبك.

تغلبك نفسك على ما تظن ولا تغلبها على ما تستقين، ما تثق من الرزق بما ضمن لَكَ، ولا تعمل من الْعَمَل ما فرض عَلَيْكَ وتستكثر من معصية غيرك ما تحتقره من نفسك.

أما تعلم إِنَّ الدُّنْيَا كالحية لين ملمسها والسم الناقع فِي جوفها يهوى ألبها.

ص: 313

الصبي الجاهل ويحذرها اللبيب العاقل كيف تقر عين من عرفها وما أبعد أن يفطم عَنْهَا من ألفها فتفكروا إخواني فِي أهل الصلاح والفساد وميزوا بين أهل الْخُسْرَانُ وأهل الأرباح فيا سرعان عمر يفنيه المساء والصباح.

" شِعرٌ لبَعْضِ الصَّالِحِيْنَ فِي مَدْحِ رَبِّ العِزَّةِ تبارك وتعالى "

يَا فَاطِرَ الْخَلْقِ الْبَدِيعِ وَكَافِلاً

رِزْقَ الْجَمِيعِ سِحَابُ جُودِكَ هَاطِلُ

يَا مُسْبِغَ الْبَرِّ الْجَزِيلِ وَمُسْبِلَ السِّـ

ـتْرِ الْجَمِيلِ عَمِيمُ طَوْلِكَ طَائِلُ

يَا عَالِمَ السِّرِّ الْخَفِيّ وَمُنْجِزَ الْـ

وَعْدِ الْوَفِيِّ قَضَاءُ حُكْمِكَ عَادِلُ

عَظُمَتْ صِفَاتُكَ يَا عَظِيمُ فَجَلَّ إِنَّ

يُحْصِي الثَّنَاءَ عَلَيْكَ فِيهَا قَائِلُ

الذَّنْبُ أَنْتَ لَهُ بِمَنِّكَ غَافِرٌ

وَلِتَوْبَةِ الْعَاصِي بِحِلْمِكَ قَابِلُ

رَبٌّ يُرَبِي الْعَالَمِينَ بِبِرِّهِ

وَنَوَالُهُ أَبَدًا إِلَيْهِمْ وَاصِلُ

تَعْصِيهِ وَهُوَ يَسُوقُ نَحْوَكَ دَائِمًا

مَا لا تَكُونُ لِبَعْضِهِ تَسْتَاهِلُ

مُتَفَضِّلٌ أَبَدًا وَأَنْتَ لِجُودِهِ

بِقَبَائِح الْعِصْيَانِ مِنْكَ تُقَابِلُ

وَإِذَا دَجَى لَيْلُ الْخُطُوبِ وَأَظْلَمَتْ

سُبْلُ الْخَلاصِ وَخَابَ فِيهَا الآمِلُ

وَآيَسَتْ مِنْ وَجْهِ النَّجَاةِ فَمَا لَهَا

سَبَبٌ وَلا يَدْنُو لَهَا مُتَناوَلُ

يَأْتِيك مِنْ أَلْطَافِهِ الْفَرَجُ الَّذِي

لَمْ تَحْتَسِبْهُ وَأَنْتَ عَنْهُ غَافِلُ

يَا مُوجِدُ الأَشْيَاءِ مِنَ أَلْقَى إِلَى

أَبْوَابِ غَيْرِكَ فَهُوَ غِرٌّ جَاهِلُ

وَمَنْ اسْتَرَاحَ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ أَوْ رَجَا

أَحَدًا سِوَاكَ فَذَاكَ ظِلٌّ زَائِلُ

عَمَلٌ أُرِيدَ بِهِ سِوَاكَ فَإِنَّهُ

عَمَلُ وَإِنْ زَعَمَ الْمُرَائي بَاطِلُ

وَإَذَا رَضِيتَ فَكُلُّ شَيْءٍ هَيِّنٌ

وَإِذَا حَصَلْتَ فَكُلُّ شَيْءٍ حَاصِلُ

أَنَا عَبْدُ سُوءٍ آبِقٌ كُلٌّ عَلَى

مَوْلاهُ أَوْزَارُ الْكَبَائِرِ حَامِلُ

قَدْ أَثَقَلَتْ ظَهْرِي الذُّنُوبُ وَسَوَّدَتْ

صُحُفِي الْعُيوُبُ وَسِتْرُ غَفْوِكَ شَامِلُ

هَا قَدْ أَتَيْتَ وَحُسْنُ ظَنِّي شَافِعِي

وَوَسَائِلِي نَدَمٌ وَدَمَعٌ سَائِلُ

فَاغْفِرْ لِعَبْدِكَ مَا مَضَى وَارْزُقْهُ تَوْ

فِيقًا لِمَا تَرْضَى فَفَضْلُكَ كَامْلُ

ص: 314