المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نماذج من سيرة بعض العلماء المخلصين - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٢

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: ‌نماذج من سيرة بعض العلماء المخلصين

‌نَمَاذِجٌ مِنْ سِيرَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُخْلَصِينَ

وَنُصْحِهِمْ لِوُلاةِ الأُمُورِ

وَبُعْدِهِمْ عَنْ الطَّمَعِ وَالْجَشَعِ عَكْسَ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ هَذَا الزَّمَان

عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَبْد الرَّحْمَنِ بن عَمْرو قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا بِالسَّاحِلِ فَأَتَيْتُهُ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْخِلافَةِ، رَدَّ عَلَيَّ وَاسْتَجْلَسَنِي، ثُمَّ قَالَ لِي: مَا الَّذِي أَبْطَأَ بِكَ عَنَّا يَا أَوْزَاعِيُّ.

قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الَّذِي تُرِيدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: أُرِيدُ الأَخَذَ عَنْكُمْ وَالاقْتِبَاسَ مِنْكُمْ. قَالَ فَقُلْتُ: فَانْظُرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لا تَجْهَلَ شَيْئًا مِمَّا أَقُولُ لَكَ، قَالَ: كَيْفَ أَجْهَلُهُ وَأَنَا أَسْأَلُكَ عَنْهُ وَفِيهِ وَجَّهْتُ إِلَيْكَ وَأَقْدَمْتُكَ لَهُ.

قَالَ: قُلْتُ: أَخَافُ أَنْ تَسْمَعَهُ، ثُمَّ لا تَعْمَلَ بِهِ، قَالَ: فَصَاحَ بِي الرَّبِيعُ وَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى السَّيْفِ، فَانْتَهَرُهُ الْمَنْصُورُ وَقَالَ: هَذَا مَجْلِسُ مَثُوبَةٍ لا مَجْلِسَ عُقُوبَةٍ فَطَابَتْ نَفْسِي، وَانْبَسَطَتُ فِي الْكَلامِ.

فقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ بِشرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا عَبْدٍ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنَ اللهِ فِي دِينِهِ فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ سِيقَتْ إِلَيْهِ، فَإِنَّ قَبِلَهَا بِشُكْرٍ وَإِلا كانَتْ حُجَّةً مِنَ اللهِ عَلَيْهِ لِيَزْدَادَ بِهَا إِثْمًا وَيَزْدَادَ اللهُ بِهَا سَخَطًا عَلَيْهِ» .

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُول عَنْ عَطِيَّةَ بن يَاسِر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" أَيُّمَا وَالٍ مَاتَ غَاشًّا لِرَعِيَّتِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّة» .

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَرِهَ الْحَقَّ فقَدْ كَرِهَ اللهُ، إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، إِنَّ الَّذِي لَيَّنَ قُلُوبَ أُمَّتُكُمْ لَكُمْ حِينَ وَلاكُمْ أُمُورَهُمْ لِقَرَابَتِكُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ كَانَ بِهُمْ رَؤوفًا رَحِيمًا مُوَاسِيًا لَهُمْ بِنَفْسِهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ مَحْمُودًا عِنْدَ اللهِ وَعَنْدَ النَّاسِ، فَحَقِيقٌ بِكَ أَنْ تَقُومَ لَهُ فِيهِمْ بِالْحَقِّ، وَأَنْ تَكُونَ بِالْقِسْطِ لَهُ فِيهِمْ قَائِمًا وَلِعَوْرَاتِهِمْ سَاتِرًا لا تُغْلَقْ عَلَيْكَ دُونَهُمْ الْحِجَابَ، تَبْتَهِجْ بِالنِّعْمَةِ عِنْدَهُمْ وَتَبْتَئِسْ بِمَا أَصَابَهُمْ مِنْ سُوءٍ.

ص: 77

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كُنْتَ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ مِنْ خَاصَّةِ نَفْسِكَ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ الَّذِينَ أَصْبَحْتَ تَمْلِكُهُمْ أَحْمَرَهُمْ وَأَسْوَدَهُمْ مُسْلِمَهُمْ وَكَافِرَهُمْ وَكُلٌّ لَهُ عَلَيْكَ نَصِيبٌ مِنَ الْعَدِلِ، فَكَيْفَ بِكَ إِذَا انَبْعَثَ مِنْهُمْ فِئَامٌ، ولَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا وَهُوَ يَشْكُو بَلِيَّةً أَدْخَلْتَهَا عَلَيْهِ أَوْ ظَلامَةً سُقْتَهَا إِلَيْهِ.

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ عَنْ عُرْوَةَ بن رُوَيْم قَالَ: كَانَ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَرِيدَةٌ يَسْتَاكُ بِهَا وَيُرَوِّعُ بِهَا الْمُنَافِقِينَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدٌ مَا هَذِهِ الْجَرِيدَةُ الَّتِي كَسَرْتَ بِهَا قُلُوبَ أُمَّتِكَ وَمَلأْتَ قُلُوبَهُمْ رُعْبًا؟ فَكَيْفَ بِمَنْ شَقَّقَ أَسْتَارَهُمْ وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ وَخَرَّبَ دِيَارَهُمْ، وَأَجْلاهُمْ عَنْ بِلادِهِمْ وَغَيَّبَهمْ الْخَوْفُ مِنْهُ.

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولُ عَنْ زِيَادةِ عَنْ حَارِثَةَ عَنْ حَبِيبِ بن مَسْلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا إِلَى الْقِصَاصِ مِنْ نَفْسِهُ فِي خَدْشٍ خَدَشَهُ أَعْرَابِيٌّ لَمْ يَتَعَمَّدَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدٌ إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثَكَ جَبَّارًا وَلا مُتَكَبِّرًا. فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الأَعْرَابِيَّ فَقَالَ: «اقْتَص مِنِّي» . فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ قَدْ أَحْلَلْتُكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، وَمَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ أَبَدًا، وَلَوْ أَتَيْتَ عَلَى نَفْسِي. فَدَعَا لَهُ بخَيْرٍ.

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَضِّ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ، وَخُذْ لَهَا الآمَانَ مِنْ رَبِّكَ وَارْغَبْ فِي جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَات وَالأَرْض، الَّتِي يَقُولُ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَقَيْدُ قَوْسِ أَحَدِكمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» .

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْمُلْكَ لَوْ بَقِيَ لِمَنْ قَبْلكَ لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ، وَكَذَا لا يِبْقَى لَكَ كَمَا لَمْ يَبْقَ لِغَيْرِكَ.

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَدْرِي مَا جَاءَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَة عَنْ جَدِّكَ {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}

قَالَ: الصَّغِيرَةُ التَّبَسُّم وَالْكَبِيرةُ

ص: 78

الضَّحِك. فَكَيْفَ بِمَا عَمِلَتْهُ الأَيْدِي وَحَصَدَتْهُ الأَلْسُنُ.

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَوْ مَاتَتْ سِخْلَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ ضُيِّعَتْ لَخَشِيتُ أَنْ أُسْأَلَ عَنْهَا، فَكَيْفَ مِمَّنْ حُرِمَ عَدْلُكَ وَهُوَ عَلَى بُسَاطِكَ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَدْرِي مَا جَاءَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَة عَنْ جَدِّكَ {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الزبور: يَا دَاودُ إِذَا قَعَدَ الْخِصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَكَانَ لَكَ فِي أَحَدِهُمَا هَوَى، فَلا تَتَمَنَّيَنَ فِي نَفْسِكَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لَهُ فَيَفْلَحُ عَلَى صَاحِبِه، فَأَمْحُوكَ عَنْ نُبُوَّتِي ثُمَّ لا تَكُونُ خَلِيفَتِي، وَلا كَرَامَةَ، يَا دَاودُ إِنَّمَا جَعَلْتُ رُسُلِي إِلَى عِبَادِي رُعَاةً كَرُعَاةِ الإِبِلِ، لِعِلْمِهِمْ بِالرِّعَايَةِ وَرِفْقِهِمْ بِالسِّيَاسَةِ لِيَجْبُرُوا الْكَسِيرَ وَيُدَلِّهُوا الْهَزِيلَ عَلَى الْكَلاءِ وَالْمَاءِ.

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ قَدْ بُلِيتَ بِأَمْرٍ لَوْ عُرِضَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ لأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلَنَّهُ وَأَشْفَقْنَ مِنْهُ.

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بن جَابِرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عُمْرَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَرَآهُ بَعْدَ أَيَّامٍ مُقِيمًا فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى عَمَلِكَ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لَكَ مِثْلَ أَجْرِ الْمُجَاهَدِ فِي سِبِيلِ اللهِ. قَالَ: لا. ثُمَّ قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي شَيْئًا مِنْ أُمُورِ النَّاسِ إِلا أُتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيامَة مَغْلُولَةٌ يَدَهْ إِلَى عُنُقِهِ، لا يَفُكَّهَا إِلا عَدْلُهُ، فَيُوقَفُ عَلَى جِسْرٍ مِنَ النَّارِ يَنْتَفِضُ بِهِ ذَلِكَ الْجِسْرِ انْتِفَاضَةً تُزِيلُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ عَنْ مَوْضِعِهِ، ثُمَّ يُعَادُ فَيُحَاسَبُ، فَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَجَا بِإِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا انْحَرَفَ بِهِ ذَلِكَ الْجِسْرُ فَيَهْوَى بِهِ فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه مِمَّنْ سَمِعْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَبِي ذَرٍّ وَسَلْمَانٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا عُمَرُ فَسَأَلَهُمَا فَقَالا: نَعَمْ. سَمِعْنَا

ص: 79

مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُمَرُ: وَاعُمَرَاهُ مَنْ يَتَوَلاهَا بِمَا فِيهَا. فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءُ رضي الله عنه: مَنْ سَلَتَ اللهُ أَنْفَهُ، وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالأَرْضِ. قَالَ. فَأَخَذَ الْمَنْدِيلَ فَوَضَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ بَكَى وَانْتَحَبَ حَتَّى أَبْكَانِي.

ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ سَأَلَ العَبَّاسُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِمَارَةَ مَكَّة أَوْ الطَّائِف أَوْ الْيَمَن، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبَّاسٌ يَا عَمَّ النَّبِيِّ نَفْسٌ تُحْيِيهَا خَيْرٌ مِنْ أَمَارَةٍ لا تُحْصِيهَا» . نَصْيحَةٌ مِنْهُ لِعَمِّهِ وَشَفَقَةٌ عَلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لا يُغْنِي عَنْهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، فَقَالَ:«يَا عَبَّاسُ وَيَا صَفِيَّةُ وَيَا فَاطِمَةُ بِنْت مُحَمَّدٍ إِنِّي لَسْتُ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنَّ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ» . وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه: لا يَقْسِمُ أَمْرَ النَّاسِ إِلا حَصِيفُ الْعَقْلِ أَرِيبُ الْعَقَدِ، لا يَطَّلَعُ مِنْهُ عَلَى عَوْرَةٍ، لا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى حُرَّةٍ، وَلا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. وَقَالَ: الأُمَرَاءُ أَرْبَعَةٌ: فَأَمِيرٌ قَوِي ظَلفَ نَفْسَهُ وَعُمَّالَهُ، فَذَلِكَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ يَدُ اللهِ بَاسِطَةٌ عَلَيْهِ الرَّحْمَة. وَأَمِيرٌ فِيهِ ضَعْفٌ ظَلفَ نَفْسَهُ وَأَرْتَعَ عُمَّالَهُ لِضَعْفِهِ، فَهُوَ عَلَى شَفَاءِ هَلاكٍ إِلا أَنْ يَرْحَمَهُ اللهُ، وَأَمِيرٌ ظَلفَ عُمَّالُهُ لِضَعْفِهِ وَارْتَعَ نَفْسَهُ فذَلِكَ الْحُطَمَة، الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«شَرُّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ» . فَهُوَ الْهَالِكُ وَحْدَهُ، وَأَمِيرٌ أَرْتَعَ نَفْسهُ وَعُمَّالُهُ فَهَلَكُوا جَمِيعًا.

وقَدْ بَلَغَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَتَيْتُكَ حِين أَمَرَ اللهُ بِمُنَافِخِ النَّارِ فَوُضِعَتْ عَلَى النَّارِ تُسَعَّرُ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ لَهُ: «يَا جِبْرِيلُ صِفْ لِيَ النَّارَ» . فَقَالَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهَا فَأَوْقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى اصْفَرَّتْ، ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى اسْوَدَتْ، فَهِيَ سَوْدَاءٌ مٌظْلِمَةٌ، لا يُضِئُ جَمْرُهَا، وَلا يُطْفَأُ لَهَبُهَا، والَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ

ص: 80

أَنَّ ثَوْبًا مِنْ ثِيابِ أَهْلِ النَّارِ أُظْهِرَ لأَهْلِ الأَرْضِ لَمَاتُوا جَمِيعًا وَلَوْ أَنَّ ذَنُوبًا مِنْ شَرَابِهَا صُبَّ فِي مِيَاهِ الأَرْضِ جَمِيعًا قَتَلَ مَنْ ذَاقَهُ، وَلَوْ أَنْ ذِرَاعًا مِنَ السّلْسلَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ وُضِعَ عَلَى جِبَالِ الأَرْضِ جَمِيعًا لَذَابَتْ وَمَا اسْتَقَلَّتْ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً ادْخِلَ النَّارَ ثُمَّ أُخْرِجَ مَنْهَا لَمَاتَ أَهْلُ الأَرْضِ مِنْ نَتَنِ رِيحِهِ وَتَشْوِيهِ خَلْقِهُ وَعِظَامِهِ. فَبَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَبَكَى جِبْرِيلُ عليه السلام لِبُكَائِهِ؟ فَقَالَ: أَتَبْكِي يَا مُحَمَّدٌ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخْرَ، فَقَالَ: «أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، وَلَمْ بَكَيْتَ يَا جِبْرِيلُ وَأَنْتَ الرُّوحُ الأَمِينُ أَمِينُ الله عَلَى وَحْيِهِ. قَالَ: أَخَافُ أَنْ أُبْتَلِي بِمَا ابْتُلِي بِهِ هَارُوتٌ وَمَارُوتُ، فَهُو الَّذِي مَنَعَنِي مِنَ اتِّكَالِي عَلَى مَنْزِلَتِي عِنْدَ رَبِّي، فَأَكُونُ قَدْ أَمِنْتُ مَكْرَهُ، فَلَمْ يَزَالا يَبْكِيانِ حَتَّى نُودِيَا مِنَ السَّمَاءِ، يَا جِبْرِيلُ، وَيَا مُحَمَّدٌ إِنَّ اللهَ قَدْ أَمْكَنَكُمَا أَنْ تَعْصِيَاهُ، فَيُعَذِبَاكُمَا، وَفَضْلُ مُحَمَّدٍ عَلَى سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ كَفَضْلِ جَبْرِيلِ عَلَى سَائِرِ الْمَلائِكَةِ.

وقَدْ بَلَغَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُبَالِي إِذَا قَعَدَ الْخِصْمَانِ بَيْنَ يَدَيّ عَلَى مَنْ مَالَ الْحَقُّ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، فَلا تُمْهِلْنِي طَرْفَةَ عَيْنٍ.

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ أَشَدَّ الشِّدَّةِ الْقِيامُ للهِ بِحَقِّهِ، وَإِنَّ أَكْرَمَ الْكَرَمِ عَنْ الله التَّقْوَى، وَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ الْعِزَّ بِطَاعَةِ اللهِ رَفَعَهُ اللهُ وَأَعَزَّهُ. وَمَنْ طَلَبَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ أَذَلَّهُ، وَوَضَعَهُ، فَهَذِهِ نَصِيحَتِي إِلَيْكَ وَالسَّلامُ عَلَيْكَ، ثُمَّ نَهَضْتُ. فَقَالَ لِي: إِلَى أَيْنَ؟ فَقُلْتُ: إِلَى الْوَلَدِ وَالْوَطَنِ، بِإِذْنِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شَاءَ اللهُ. فَقَالَ: قَدْ أَذِنْتَ لَكَ، وَشَكَرْتُ لَكَ نَصِيحَتُكَ، وَقَبِلْتُهَا، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لِلْخَيْرِ وَالْمُعِينُ عَلَيْهِ، وَبِهِ أَسْتَعِينُ، وَعَلَيْهِ أَتَوَكَلُ، وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيل فَلا تَخْلني بِمُطَالَعَتِكَ إِيَّايَ، بِمِثْلِ هَذَا فَإِنَّكَ الْمَقْبُولُ الْقَوْلَ غَيْرُ الْمُتَهَم فِي النَّصِيحَةِ. قُلْتُ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ص: 81

" فَصْلٌ "

وَلَمَّا اسْتَوْلَى الْمَلِكُ الصَّالِحُ عَلَى دِمَشْقَ اسْتَعَانَ بِالإِفْرِنْجِ، وَاصْطَلَحَ مَعَهُمْ عَلَى أَنْ يُسْعِفُوهُ ضِدَّ أَخِيهِ، مَلْك مِصْرَ وَيُعْطِيهُمْ مُقَابِلَ مَعُونَتِهِمْ صَيْدَا وَقَلْعَةَ الشَّقِيفِ، وَغَيْرِهِا مِنْ حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ.

وَدَخَلَ الصَّلِيبِيُّونَ دِمَشْقَ، لِشِرَاءِ الصَّلاحِ فَاسْتَفْظَعَ الشَّيْخُ الْعِزُّ بن عَبْدِ السَّلامِ لِذَلِكَ، وَغُمَّ غَمَّا شَدِيدًا، فَأَفْتَى بِتَحْرِيمِ بَيْعِ السِّلاحِ لِلإِفْرِنْجِ، وَتَرَكَ الدُّعَاء لِلسُّلْطَانِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ.

وَنَدَّدَ بِخِيَانَةِ السُّلْطَانِ لِلْمُسِلِمِينَ، وَكَانَ مِمَّا دَعَا بِهِ فِي خُطَبِةِ: «اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ تُعِزُّ فِيهِ وَلِيِّكَ، وَتُذِلُّ بِهِ عَدُوَّكَ، وَيُعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَتِكَ، وَيُنْهَى فِيهِ عَنْ مَعْصِيَتِكَ، وَالنَّاسُ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ "، فَبِمِثْلِ لَمْحِ الْبَرْقِ بَلَّغَ الْجَوَاسِيسُ الْمَلِكَ مَا فَعَلَهُ قَاضِى الْقُضَاةِ.

وَمَا أَكْثَرُ الْمُبَلِّغِينَ وَالْمُتَوَدِّدِينَ وَالنَّمَّامِينِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَغَضِبَ السُّلْطَانُ، وَعَزَلَ الشَّيْخُ عَنْ الِقَضَاءِ فَرَحِلَ الشَّيْخُ عَنْ دِمَشْق إِلَى مِصْرَ، وَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطَرِيقِ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ فِي أَثَرِهِ، فَأَدْرَكَتْهُ رُسُلُ الْمَلِكِ الصَّالِحِ. وَطَلَبُوا مِنْهَ الرُّجُوعَ، وقَالُوا لَهُ: أنَّ السُّلْطَانَ عَفَا عَنْكَ وَسَيَرُدَّكَ إِلَى مَنْصِبِكَ عَلَى أَنْ تَنْكَسِرَ لَهُ وَتَعْتَذِرَ، وَتُقَبِّلُ يَدَهُ.

فَقَالَ لَهُمْ الشَّيْخُ: أَنَا مَا أَرْضَى أَنْ يُقَبِّلَ يَدِي، فَضْلاً عَنْ أَنْ أُقَبِّلَ يَدَهُ يَا قَوْمِ أَنْتُمْ فِي وَادِي، وَأنَا فِي وَادِي، ثُمَّ مَضَى فِي طَرِيقِهِ حَتَّى وَصَلَ مِصْرَ. هكَذَا الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ لا تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ.

اللَّهُمَّ قَوِّنَا بِالْيَقِينِ وَامْنَحْنَا التَّوْفِيقَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 82

" فَصْلٌ ": وَلَمَّا عَلِمَ مُنْذِرُ بن سَعِيدٍ قَاضِي الْجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةِ، أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ بَنَى مَدِينَةَ الزَّهْرَاءِ وَوَضَعَ فِيهَا الصَّرْحَ الْمُمَرْدَ، وَاتَّخَذَ لِقُبْتِهِ قَرَامِيدَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضْةِ.

فَغَضِبَ الشَّيْخُ لِذَلِكَ، وَتَأَلَّمَ لِهَذَا الْبَذَخِ فِي مَالِ الدَّوْلَةِ وَعَلِمَ أَنَّهُ الْمَسْؤُولُ الأَوْلُ أَمَامَ بَدِيعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْهِي عَنْ هَذَا السَّرْفِ الْمُضِرِّ بِصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

فَجَاءَ إِلَى النَّاصِر وَقَبَّحَ عَمَلَهُ هَذَا وَانَّبَهَ بِقَوْلِهِ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَخَزَاهُ اللهُ بَلَغَ بِكَ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ قِيَادِكَ هَذَا التَّمْكِين حَتَّى أَنْزَلَكَ اللهُ مَنَازِلَ الْكَافِرِينَ مَعَ مَا آتَاكَ اللهُ وَفَضَّلَكَ عَلَى الْعَالَمِينَ.

فَاقْشَعَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ النَّاصِر مِنْ قَوْلِ الشَّيْخِ وَقَالَ لَهُ: أنْظُرْ مَاذَا تَقُولُُ؟ كَيْفَ أَنْزَلَنِي مَنَازِلَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ ألَيْسَ اللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} .

فَسَكَتَ النَّاصِرُ وَنَكَّسَ رَأْسَهُ سَاعَةً، وَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ مِنَ البُكَاءِ وَصَارَتْ دُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهِ وَلِحْيَتِهِ، خَوْفًا مِنَ اللهِ حَيْثُ وَصَلَتْ الْمَوْعِظَةُ الْخَالِصَةُ إِلَى قَلْبِهُ، وَتَأَثّرًا عَظِيمًا لأَنَّهَا مِنْ قَلْبٍ إِلَى قَلْبٍ.

ثُمَّ قَالَ لِلْشَيْخِ: جَزَاكَ اللهُ عَنَّا وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَأَكْثَرَ فِينَا مِنْ أَمْثَالِكَ، فالَّذِي نَطَقْتَ بِهِ حَقٌّ وَاللهِ وَقَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ يَلْهَجُ بِالاسْتِغْفَارِ ثُمَّ أَمَر بِنَقْصِ سَقْفِ الْقُبَّةِ، وَعَادَ قَرَامِيدُهَا تُرَابًا.

فَتَأَمَّلْ يَا أَخِي كَيْفَ أَنَّ سُلْطَانَ الدُّنْيَا وَالْمَادَةِ وَقَفَ خَاشِعًا أَمَامَ هَذَا العَالِمِ الَّذِي لا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ الَّذِي أَدَّى وَاجِبَهُ عَلَى الْوَجْهِ الأَكْمَلِ مُعْتَمِدًا

ص: 83

عَلَى فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا وَلَوْ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ الْمُظْلِمُ لَسَمِعْتَ غَيْرَ هَذَا فَلا حَوْلَ وَلا قُوَةَ إِلا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلِ.

اللَّهُمَّ أَحْيِي قُلُوبًا أَمَاتَهَا الْبُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذِّبْنَا بِأَلِيمِ عِقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بِالنَّوَالِ وَجَادَ بِالإِفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنَا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ ": وَذُكِرَ أَنَّهُ قَدِمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورُ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللهُ حَاجًّا فَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ دَارِ الْنَدْوَةِ إِلَى الطَّوَافِ فِي آخِرِ الليْلَ، يَطُوفُ وَيُصَلِّي وَلا يُعْلمُ بِهِ، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرَ، رَجَعَ إِلَى دَارِ النَّدْوَةِ، وَجَاءَ الْمُؤَذِنُونَ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةَ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ.

فخَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ حِينَ أَسْحَرَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ إِذْ سَمِعَ رَجُلاً عِنْدَ الْمُلْتَزِمِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ظُهُورَ الْبَغْي وَالْفَسَادَ فِي الأَرْضِ، وَمَا يَحُولُ بَيْنَ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ مِنْ الظُّلْمِ، وَالطَّمَعِ، فَأَسْرَعَ الْمَنْصُورُ فِي مَشْيِهِ، حَتَّى مَلَءَ مَسَامِعَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَفَهِمَ قَوْلُهُ كُلَّهُ.

ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ نَاحِيَةً مِنَ الْمَسْجِدِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَدَعَاهُ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ وَقَالَ لَهُ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ وَأَقْبَلَ مَعَ الرَّسُولِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: مَا هَذَا الَّذِي سَمِعْتُكَ تَقُولُ مِنْ ظُهُورِ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ وَمَا يَحُولُ بَيْنَ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ مَنْ الطَّمَعِ وَالظُّلْمِ، فَوَاللهِ لَقَدْ حَشَوْتُ مَسَامِعِي مَا أَمْرَضَنِي وَأَقْلَقَنِي.

فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَمَّنْتَنِي عَلَى نَفْسِي أَنْبَأْتُكَ بِالأُمُورِ مِنْ أُصُولِهَا

ص: 84

وَإِلا اقْتَصَرْتُ عَلَى نَفْسِي فَفِيهَا لِي شُغْلٌ شَاغِلٌ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ آمِنٌ عَلَى نَفْسِكَ. فَقَالَ الَّذِي دَخَلَهُ الطَّمَعُ حَتَّى حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ وَإِصْلاحِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْبَغْيِ وَالْفَسَاد فِي الأَرْضِ أَنْتَ.

فَقَالَ: وَيْحَكَ يَدْخُلُنِي الطَّمَعُ وَالصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ فِي يَدِي وَالْحُلْوَ وَالْحَامِضَ فِي قَبْضَتِي؟ قَالَ: وَهَلَ دَخَلَ أَحَدًا مِنَ الطَّمَعَ مَا دَخَلَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى اسْتَرْعَاكَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَغْفَلْتَ أُمُورَهُمْ وَاهْتَمَمْتَ بِجَمْعِ أَمْوَالَهُمْ. وَجَعَلْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا مِنْ الْجِصَّ، وَالآجُرِ وَأَبْوابًا مِنَ الْحَدِيدِ وَحَجَبَةً مَعَهُمْ السِّلاحُ ثُمَّ سَجَنْتَ نَفْسَكَ فِيهَا عَنْهُمْ وَبَعَثْتَ عُمْالَكَ فِي جَمْعِ الأَمْوَالِ وَجِبَايَتِهَا. وَاتَّخَذْتَ وُزَرَاءَ وَأَعْوَانًا ظَلَمَةً إِنْ نَسِيتَ لَمْ يُذَكِّرُوكَ وَإِنْ ذَكَرَتَ لَمْ يُعِينُوكَ وَقَوَّيْتَهُمَ عَلَى ظُلْمِ النَّاسِ بِالأَمْوَالِ وَالْكِرَاعِ، وَالسِّلاحِ وَأَمَرْتَ بِأَنْ لا يَدْخُلَ عَلَيْكَ مِنَ النَّاسِ إِلا فُلانٌ وَفُلانٌ سَمَيْتَهُمْ وَلَمْ تَأْمُرْ بِإِيصَالِ الْمَظْلُومِ وَالْمَلْهُوفِ وَلا الْجَائِعِ وَلا الْعَارِي وَلا الضَّعِيفِ وَلا الْفَقِيرِ َوَلا أَحَدٌ إِلا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ.

فَلَمَّا رَآكَ هَؤُلاءِ النَّفَرُ الَّذِينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ وَآثَرْتَهُمْ عَلَى رَعِيَّتِكَ وَأَمَرْتَهُمْ أَنْ لا يُحْجِبُوا عَنْكَ تُجْبِي الأَمْوَال وَلا تُقَسِّمُهَا قَالُوا: هَذَا قَدْ خَانَ اللهَ فَمَا لَنَا لا نَخُونُهُ وَقَدْ سُخِّرَ لَنَا.

فَائْتَمَرُوا عَلَى أَنْ لا يَصِلَ إِلَيْكَ مِنْ عِلْمِ أَخْبَارِ النَّاسِ إِلا مَا أَرَادُوا وَأَنْ لا يَخْرُجُ لَكَ عَامِلٌ فَيُخَالِفُ لَهُمْ أَمْرًا إِلا أَقْصُوهُ حَتَّى تَسْقُطَ مَنْزِلَتهُ وَيَصْغَرُ قَدْرُهُ.

فَلَمَّا انْتَشَرَ ذَلِكَ عَنْكَ وَعَنْهُمْ، أَعْظَمُهُمْ النَّاسَ - وَهَابُوهُمْ وَكَانَ أَوْلُ مَنْ صَانَعَهُمْ عُمَّالَكَ بِالْهَدَايَا وَالأَمْوَالِ لِيَتَقَوُّوا بِهُمْ عَلَى ظُلْمِ رَعِيَّتِكَ.

ص: 85

ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ذَوُو الْقُدْرَةِ وَالثَّرْوَةِ مِنْ رَعِيَّتِكَ لِيَنَالُوا ظُلْمَ مَنْ دُونَهِمْ مِنَ الرَّعِيَّةِ فَامْتَلأَتْ بِلادُ اللهِ بِالطَّمَعِ بَغْيًا وَفَسَادًا وَصَارَ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ شُرَكَاءَكَ فِي سُلْطَانِكَ وأَنْتَ غَافِلٌ.

فَإِنْ جَاءَ مُتَظِّلِمُ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ إِلَيْكَ وَإِنْ أَرَادَ رَفْعَ صَوْتَهُ أَوْ قِصَّتَهُ إِلَيْكَ عِنْدَ ظُهُورِكَ وَجَدَكَ قَدْ نَهِيتَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَّفْتَ لِلنَّاسِ رَجُلاً يَنْظُرُ فِي مَظَالِمِهِمْ، فَإِنَّ جَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَبَلَّغَ بِطَانَتُكَ سَأَلُوا صَاحِبَ الْمَظَالِمِ أَنْ لا يَرْفَعَ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ لِلْمُتَظَلِّمِ بِهِ حُرْمَةٌ وَإِجَابَةٌ لَمْ يُمَكِّنَهُ مِمَّا يُرِيدُ خَوْفًا مِنْهُمْ.

فَلا يَزَالُ الْمَظْلُومُ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ وَيَلُوذُ بِهِ وَيَشْكُو، وَيَسْتَغِيثُ وَهُوَ يَدْفَعُهُ وَيَعْتَلِي عَلَيْهِ، فَإِذَا جَهِدَ، وَأُخْرِجَ وَظَهَرْتَ صَرَخَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَيُضْرَبُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، لِيَكُونَ نَكَالاً بِغَيْرِهِ، وَأَنْتَ تَنْظُرُ، وَلا تُنْكِرُ وَلا تُغْنِي، فَمَا بَقَاءُ الإِسْلامِ وَأَهْلهِ عَلَى هَذَا.

وَلَقَدْ كَانَ بَنُو أُمَيَّة وَكَانَتْ الْعَرَبُ لا يَنْتَهِي إِلَيْهُمْ الْمَظْلُومُ إِلا رُفِعَتْ ظَلامَتُهُ إِلَيْهِمْ، فَيُنْصَفُ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مِنْ أَقْصَى الْبِلادِ حَتَّى يَبْلُغَ بَابَ سُلْطَانِهِمْ، فَيُنَادِي يَا أَهْلِ الإِسْلامِ فَيَبْتَدِرُونَهُ مَا لَكَ؟ فَيَرْفَعُونَ مَظْلَمَتَهُ إَلَى سُلْطَانِهِمْ فَيُنْصِفُ.

ولَقَدْ كُنْتُ أَسَافِرُ إِلَى أَرْضِ الصِّين وَبِهَا مَلِكٌ فَقَدِمْتُهَا مَرَّةٌ وَقَدْ ذَهَبَ سَمْعُ مَلِكِهِمْ، فَجَعَلَ يَبْكِي. فَقَالَ وُزَرَاؤهُ: مَا لَكَ تَبْكِي لا بَكَتْ عَيْنَاكَ.

فَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَبْكِي عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِي، وَلَكْنْ أَبْكِي لِمَظْلُومٍ يَصْرُخُ بِالْبَابِ فَلا أَسْمَعُ صَوْتَهُ.

ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنْ كَانَ ذَهَبَ سَمْعِي فَإِنَّ بَصَرِي لَمْ يَذْهَبْ، نَادُوا فِي النَّاسِ أَلا لا يَلْبِسُ ثَوْبًا أَحْمَرَ إِلا مَظْلُومًا، فكَانَ يَرْكَبُ الْفِيلَ وَيَطُوفُ النَّهَارَ هَلْ يَرَى مَظْلُومًا فَيُنْصِفَهُ.

ص: 86

هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُشْرِكٌ بِاللهِ، قَدْ غَلَبَتْ رَأْفَتُهُ بِالْمُشْرِكِينَ، وَرِقَتُهُ، عَلَى شُحَّ نَفْسِهُ فِي مُلْكِهِ وَأَنْتَ مُؤْمِنٌ بِاللهِ، وَابْنُ عَمِّ نَبِيِّ اللهِ لا تَغْلِبَكَ رَأْفَتُكَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَرَقَّتُكَ عَلَى شُحِّ نَفْسِكَ؛ فَإِنَّكَ لا تَجْمَعُ الأَمْوَالَ إِلا لِوَاحِدٍ مِنْ ثَلاثَةٍ.

إِنْ قُلْتُ أَجْمَعُهَا لِوَلَدِي فَقَدْ أَرَاكَ اللهُ عِبَرًا فِي الطِّفْلِ الصَّغِيرِ يَسْقُطُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَمَا لَهُ عَلَى الأَرْضِ مَالٌ، وَمَا مِنْ مَالِ إِلا وَدُونُهُ يَدٌ شَحِيحَةٌ تَحْوِيهِ، فَمَا يَزَالُ اللهُ تَعَالَى يَلْطُفُ بذَلِكَ الطِّفْلَ حَتَّى تَعْظُمَ رَغْبَةَ النَّاس إِلَيْهِ، وَلَسْتَ الَّذِي تُعْطِي بَلِ اللهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ.

وَإِنْ قُلْتَ: أَجْمَعُ لأُشَيِّدَ سُلْطَانِي فَقَدْ أَرَاكَ اللهُ عِبَرًا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا جَمَعُوهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَا أَعَدُّوا مِنَ الرِّجَالِ وَالسِّلاحِ وَالْكِرَاعِ وَمَا ضَرَّكَ وَوَلَدَ أَبِيكَ مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنْ قِلَّةِ الْجَدَّةِ وَالضَّعْفِ حِينَ أَرَادَ اللهُ بِكُمْ مَا أَرَادَ.

وَإِنْ قُلْتَ: أَجْمَعُ لِطَلَبِ غَايَةٍ هِيَ أَجْسَمُ مِنْ الْغَايَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا. فوَاللهِ مَا فَوْقَ مَا أَنْتَ فِيهِ إِلا مَنْزِلَةُ لا تُدْرَكُ إِلا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ - يُرِيدُ الْجَنَّةَ وَصَدَقَ رحمه الله.

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ تَعَاقِبُ مَنْ عَصَاكَ مِنْ رَعِيَّتِكَ بِأَشَدِّ مِنَ الْقَتْلِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِالْمَلِكِ الَّذِي خَوَّلَكَ، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا.

وَهَوَ تَعَالَى لا يُعَاقِبُ مَنْ عَصَاهُ بِالْقَتْلِ، وَلَكِنْ يُعَاقِبُ مَنْ عَصَاهُ بِالْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ الأَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي يَرَى مِنْكَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُكَ وَأَضْمَرَتْهُ جَوَارِحُكَ فَمَاذَا تَقُولُ إِذَا انْتَزَعَ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ مُلْكَ الدُّنْيَا مِنْ يَدَكَ وَدَعَاكَ إِلَى الْحِسَابِ هَلْ يُغْنِي عَنْكَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِمَّا كُنْتَ فَيهِ مِمَّا شَحِحْتَ عَلَيْهِ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا.

ص: 87

فَبَكَى الْمَنْصُورُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى نَحَبَ وَارْتَفَعَ صَوْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ احْتِيَالِي فِيمَا خُوِّلْتُ فِيهِ وَلَمْ أَرَ مِنَ النَّاسِ إِلا خَائِنًا؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكَ بالأَئِمَّةِ الأَعْلامِ الْمُرْشِدِينَ. قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْعُلَمَاءُ. قَالَ: قَدْ فَرُّوا مِنِّي، قَالَ: هَرَبُوا مِنْكَ مَخَافَةَ أَنْ تَحْمِلَهُمْ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ طَرِيقَتِكَ مِنْ قِبَلِ عُمَّالِكَ.

وَلَكِنْ افْتَحْ الأَبْوَابَ وَسَهِّلِ الْحِجَابَ، وَانْتَصِرْ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، وَامْنَعْ الْمَظَالِمَ وَخُذْ الشَّيْءَ مِمَّا حَلَّ وَطَابَ وَاقْسِمْهُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَأَنَا ضَامِنٌ عَلَى أَنَّ مَنْ هَرَبَ مِنْكَ أَنْ يَأْتِيَكَ، فَيُعَاوِنَكَ عَلَى صَلاحِ أَمْرِكَ، وَرَعِيَّتِكَ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: اللَّهُمَّ وَفِّقَنِي أَنْ أَعْمَلَ بِمَا قَالَ هَذَا الرَّجُلَ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَخَرَجَ فَصَلَّى بِهُمْ.. إلخ.

شِعْرًا:

مَا ضَرَّ مَنْ رَهِبَ الْمُلُوكَ لَوْ أَنَّهُ

رَهِبَ الَّذِي جَعَلَ الْمُلُوكَ مُلُوكًا

وَإِذَا رَجَوْتَ لِنِعْمَةً أَوْ نِقْمَةً

فَارْجُ الْمَلِيكَ وَحَاذِرْ الْمَمْلُوكَا

وَإِذَا دَعَوْتَ سِوَى الإلهِ فِإِنَّمَا

صَيَّرْتُ لِلرَّحْمَنِ فِيكَ شَرِيكًا

آخر:

وَاللهُ بِالْغَيْبِ، وَالتَّقْدِيرِ مُنْفَرِدٌ

وَمَا سِوَى حُكْمِهِ غَيٌّ وَتَضْلِيلٌ

فَلا مُعَجِّلِ للمقضي آجله

ولَيْسَ لِلْعَاجِلِ الْمقضي تَأْجِيلُ

ثِقْ بِالْعَلِيمِ الَّذِي يَقْضِي الأُمُورَ وَلا

يَغْركَ مَا دُونَهُ؛ فَالْكُلُّ تَعْلِيلُ

اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلا مَفْتُونِينَ وَاغْفِرْ لَنَا.

اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكَ

وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرِ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ، وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ، يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيبَ الدَّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

شِعْرًا:

زِيَادَةُ الْمَرِءِ فِي دُنْيَاهُ نُقْصَانٌ

وَرِبْحُهُ غَيْر مَحْضِ الْخَيْرِ خُسْرَانُ

وَكُلُّ وِجْدَانِ حَظ لا ثَبَاتَ لَهُ

فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي التَّحْقِيقِ فُقْدَانِ

ص: 88

يَا عَامِرًا لِخَرَابِ الدَّهْرِ مُجْتَهِدًا

بِاللهِ هَلْ لَخَرَابِ الدَّهْرِ عُمْرَانُ

وَيَا حَرِيصًا عَلَى الأَمْوَالِ تَجْمَعُهَا

أَنَسِيتَ أَنَّ سُرُورَ الْمَالِ أَحْزَانُ

رَاعِي الْفُؤادَ عَنْ الدُّنْيَا وَزُخْرُفُهَا

فَصَفْوُهَا كَدْرٌ وَالْوَصْلُ هُجْرَانُ

وَأَرْعَ سَمْعَكَ أَمْثَالاً أَفْصِلُهَا

كَمَا يُفَصَّلُ يَاقُوتٌ وَمَرْجَانُ

أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمْ

فَطَالَ مَا أَسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ

يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ

أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا فِيهِ خُسْرَانُ

أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا

فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ

وَإِنْ أَسَاءَ مُسِيئ فَلْيَكُنْ لَكَ فِي

عُروضِ زَلَّتِهِ عَفْوٌ وَغُفْرَانُ

وَكُن عَلَى الدَّهْرِ مِعْوَانًا لِذَي أَمَلٍ

يَرْجُوا نَدَاكَ فَإِنَّ الْحُرَّ مِعْوَانُ

وَأشْدُدْ يَدَيْكَ بِحْبِلِ اللهِ مُعْتَصِمًا

فَإِنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خَانَتْكَ أَرْكَانُ

مَنْ يَتَّقِ اللهَ يُحْمَدُ فِي عَوَاقِبِهِ

وَيَكْفِيهِ شَرَّ مَنْ عَزُوا وَمَنْ هَانُوا

مَنِ اسْتَعَانَ بِغَيْرِ اللهِ فِي طَلَبِ

فَإِنَّ نَاصِرَهُ عَجْزُ وَخُذْلانُ

مَنْ كَانَ للخَيْرِ مَنَّاعًا فلَيْسَ لَهُ

عَلَى الحَقِيقَةِ إِخْوَانُ وَأَخْدَانُ

مَنْ جَادَ بِالْمَالِ مَالَ النَّاسُ قَاطِبَةً

إِلَيْهِ وَالْمَالُ لِلإِنْسِانِ فَتَّانُ

مَنْ سَالَمَ النَّاسَ يَسْلَمْ مِنْ غَوَائِلِهِمْ

وَعَاشَ وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ خَذْلانُ

مَنْ كَانَ لِلْعَقْلِ سُلْطَانٌ عَلَيْهِ غَدَا

وَمَا عَلَى نَفْسِهُ لِلْحِرْصِ سُلْطَانُ

مَنْ مَدَّ طَرْفًا بِفَرْطِ الْجَهْلِ نَحْوَ هَوَى

أَغْضَى عَلَى الْحَقِّ يَوْمًا وَهُوَ خَزْيَانُ

مَنِ إِسْتَشَارَ صُرُوفَ الدَّهْرِ قَامَ لَهُ

عَلَى حَقِيقَةِ طَبْعِ الدَّهْرِ بُرْهَانُ

مَنْ يَزَرَعِ الشَّرَّ يَحْصُدُ فِي عَوَاقِبِهِ

نَدَامَةً وَلِحَصْدِ الزَّرْعِ إِبَّانُ

مَنِ اسْتَنَامَ إِلَى الأَشْرَارِ نَامَ وَفِي

قَمِيصِهِ مِنْهُوا صِلْ وَثُعْبَانُ

كُنْ رَيِّقَ الْبِشْرِ إِنَّ الْحرَّ هِمْتُهُ

صَحِيفَةٌ وَعَلَيْهَا الْبشرِ عُنْوَانَ

وَرَافِقِ الرّققَ فِي كُلِّ الأُمُورِ فَلَمْ

يَنْدَمْ رَفِيقٌ وَلَمْ يَذْمُمْهُ إِنْسَانُ

وَلا يَغُرَّنَكَ حَظٌّ جَرَّهُ خَرَقٌ

فَالْخَرْقُ هَدْمٌ وَرِفْقُ الْمَرالأ بُنْيَانُ

ص: 89

.. أَحْسِنْ إِذَا كَانَ إِمْكَانٌ وَمَقْدِرَةٌ

فَلَنْ يَدُومَ عَلَى الإِحْسَانِ إِمْكَانُ

فَالرَّوْضُ يَزْدَانُ بِالأَنْوَارِ فَاغِمُهُ

وَالْحُرُّ بِالْعَدِلِ وَالإِحْسَانِ يَزْدَانُ

دَعْ الْحُرَّ وَجْهِكَ لا تَهْتِكْ غَلالَتَهُ

فَكُلُّ حُرٍّ لِحُرِّ الْوَجْهِ صَوَّانُ

لا ضَلَّ لِلْمَرْءِ يَعْرَى مِنْ نُهًى وَتَقًى

وَإِنْ أَظَلَّلتْهُ أَوْرَاقٌ وَأَفْنَانُ

وَالنَّاسُ أَعْوَانُ مَنْ وَلتْهُ دَوْلَتُهُ

وَهُمْ عَلَيْهِ إِذَا عَادَتْهُ أَعْوَانُ

سَحْبَانُ مِنْ غَيْرِ مَالٍ بَأَقِلٌ حَصْرٌ

بَأَقِلٌ فِي ثَرَاءِ الْمَالِ سَحْبَانُ

ولا تُودِعِ السِّرِّ وَشَّاءً بِهِ مَذِلاً

فَمَا رَعَى غَنَمًا فِي الدَّو سِرْحَانُ

لا تَحسَبِ النَّاسَ طَبْعًا وَاحِدًا فَلَهُمْ

غَرَائِزُ لَسْتَ تُحْصِيهُنَّ أَلْوَانُ

مَا كُلُّ مَاءٍ كَصَدَّاءٍ لِوَارِدِهِ

نَعَمْ وَلا كُلُّ نَبْتٍ فَهُوَ سَعْدَانُ

لا تَخْدِشَنَّ بِمَطْلٍ وَجْهَ عَارِفَةٍ

فَالْبِرُّ يَخْدِشُهُ مَطْلٌ وَلَيَّانُ

لا تَسْتَشِرْ غَيْرَ نَدْبٍ حَازِمٍ يَقِظٍ

قَدْ إسْتَوَى عِنْدَهُ سِرٌّ وَإِعْلانُ

فَلتَدَابِيرِ فُرْسَانٌ إِذَا رَكَضُوا

فِيهَا أَبَرُّوا كَمَا لِلْحَرْبِ فُرْسَانُ

وَلِلأُمُورِ مَوَاقِيتٌ مُقَدَّرَةٌ

وَكُلُّ أَمْرٍٍ لَهُ حَدٌ وَمِيزَانُ

فَلا تكَنْ عَجِلاً فِي الأَمْرِ تَطْلبُهُ

فَلَيْسَ يُحْمَدُ قَبْلَ النُّضْجِ بُحْرَانُ

كَفَى مِن الْعَيْشِ مَا قَدْ سَدَّ مِنْ عَوَزٍ

فَفِيهِ لِلْحُرٍ قُنْيَان وَغُنْيَانُ

وَذُوا القَنَاعَةِ رَاضٍ مِنْ مَعِيشَتِهِ

وَصَاحِبُ الْحِرْصِ إِنْ أَثْرَى فَغَضْبَانُ

حَسْبُ الْفَتَى عَقْلُهُ جِلاً يُعَاشِرُهُ

إِذَا تَحَامَاهُ إِخْوَانٌ وَخِلانُ

هُمَا رَضِيعَا لِبانٍ حَكْمَةٌ وَتُقَى

وَسَاكِنَا وَطَنٍ مَالٌ وَطُغْيَا

إِذَا نَبَا بَكَرِيمٍ مَوْطِنٌ فَلَهُ

وَرَاءَهُ فِي بَسِيطِ الأَرْضِ أَوْطَانُ

يَا ظَالِمًا فَرِحًا بِالْعِزِّ سَاعِدَهُ

إِنْ كُنْتَ فِي سَنَةٍ الدَّهْرُ يَقْضَانُ

مَا إسْتَمْرأ الظُّلُمَ لَوْ أَنْصَفَتَ آكَلَهُ

وَهَلْ يَلَدُّ مَذَاقُ الْمَرْءِ خُطْبَانُ

يَا أَيُّهَا الْعَالِمُ المرضُيُ سِيرَتُهُ

أَبْشِرْ فَأَنْتَ بِغَيْرِ الْمَاءِ رَيَّانُ

وَيَا أَخَا الْجَهْلِ لَوْ أَصْبَحْتَ فِي لُجَجٍ

فَأَنْتَ مَا بَيْنَهَا لا شَكٍّ ضَمْئآنُ

ص: 90

.. وَلا تَحسبنَّ سُرُورًا دَائِمًا أَبَدًا

مَن سَرَّهُ زَمَن سَاءتْهُ أَزْمَانُ

يَا رَفِلاً فِي الشَّبَابِ الْوَجْفِ مُنْتَشِيًا

مِنْ كَأْسِهِ هَلْ أَصابَ الرُّشْدَ نَشْوَانُ

لا تَغْتَرِرْ بِشَبَابٍ زَائِلٍ خَضَلٍ

فَكَمْ تَقَدَّمْ قِبْلَ الشَّيْبَ شُبُّانُ

وَيَا أَخَا الشَّيْبِ لَوْ نَاصَحْتَ نَفْسَكَ لَمْ

يَكُنْ لِمْثِلْكِ فِي الإِسْرَافِ إِمْعَانُ

هَبِ الشَّيْبَةِ تُبْلَى عُذْرَ صَاحِبها

مَا عُذْرُ أَشْيبَ يَسْتَهْوِيهِ شَيْطَانُ

كَلُّ الذُّنُوب فَإِنَّ الله يَغْفِرُهَا

إِنْ شَيَّعَ الْمَرْءِ إِخْلاصٌ وِإِيمَانُ

وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ

وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرنُ

نَصِيحَة أَبِي حَازِمٍ التَّابِعِي لِسُلَيْمَانٌ بن عَبْدِ الْمَلِكِ

رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا حَجَّ سُلَيْمَانٌ بن عَبْد الْمَلِكِ وَدَخَلَ الْمَدِينَةِ زَائِرًا لِقَبْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ ابْن شِهَابٍ الزُّهَرِي وَرَجَاءُ بن حَيْوَة، فَأَقَامَ بِهَا ثَلاثَةَ أَيْامٍ، فَقَالَ: أَمَا هَا هُنَا رَجُلٌ مَمَّنْ أَدْرَكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقِيلَ لَهُ: بَلَى. هَا هُنَا رَجُلٌ يُقَالَ لَهُ أَبُو حَازِمٍ.

فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَجَاءَهُ وَهُوَ أَقْوَرُ أَعْرَجُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانٌ إزْدَرَتْهُ عَيْنُهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا حَازِمٍ: مَا هَذَا الْجَفَاءُ الَّذِي ظَهَرَ مِنْكَ وَأَنْتَ تُوصَفُ بِرُؤْيَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ فَضْلٍ وَدِينٍ تُذْكَرُ بِهِ.

فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: وَأَيُ جَفَاءٌ رَأَيْتَ مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: أَنَّهُ آتَانِي وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعُلَمَاؤهَا وَخِيَارُهَا، وأَنْتَ مَعْدُودٌ فِيهِمْ وَلَمْ تَأْتِنِي. فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: أُعِيذُكَ بِاللهِ أَنْ تَقُولَ مَا لَمْ يَكُنْ مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنِكَ مَعْرِفَةٌ آتِيكَ عَلَيْهَا.

قَالَ سُلَيْمَانٌ: صَدَقَ الشَّيْخُ. فَقَالَ: يَا أَبَا حَازِمٍ مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: لأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمْ آخِرَتَكُمْ، وَعَمَّرْتُمْ دُنْيَاكُمْ، فَأَنْتُمْ تَكْرَهُونَ النَّقْلَةَ مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ!

قَالَ سُلَيْمَانٌ: صَدَقْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ، فَكَيْفَ الْقُدُومُ عَلَى الآخِرَة؟ قَالَ: نَعَمْ: أَمَّا الْمُحْسِنُ فَإِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَى الآخِرَة كَالْغَائِبِ يَقْدُمُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ سَفَرٍ بَعِيدٍ.

ص: 91

وَأَمَّا قُدُومُ الْمُسِيئُ فَكَالْعَبْدِ الآبِقِ يُؤْخَذُ فَيَشُدّ كِتَافُهُ، فَيُؤْتَى بِهِ إِلَى سَيّدٍ فَظٍّ غَلِيظٍ، فَإِنَّ شَاءَ عَفَا وَإِنْ شَاءَ عَذَبَ! فَبَكَى سُلَيْمَانٌ بُكَاءً شَدِيدًا، وَبَكَى مَنْ حَوْلَهُ.

ثُمَّ قَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَا لَنَا عِنْدَ اللهِ يَا أَبَا حَازِمٍ؟ فَقَالَ: اعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ مَا لَكَ عِنْدَ اللهِ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ وَأَيْنَ أُصِيبُ تَلْك الْمَعْرِفَةِ فِي كِتَابِ اللهِ؟ قَالَ: عِنْدَ قوله تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} .

قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ فَأَيْنَ رحمه الله؟ قَالَ: «إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ " قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ: مَنْ أَعْقَلُ النَّاسِ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ: أَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهَا النَّاسَ.

قَالَ سُلَيْمَانٌ: فَمَنْ أَحْمَقُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: مَنْ حَطَّ فِي هَوَى رَجُلٍ وَهُوَ ظَالِمٌ فَبَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنَيا غَيْرِهِ! قَالَ سُلَيْمَانٌ: فَمَا أَسْمَعُ الدُّعَاء؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ: دُعَاءُ الْمُخْبِتِينَ الْخَائِفِينَ.

فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: فَمَا أَزْكَى الصَّدَقَةِ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: جُهْدُ الْمُقِلّ. قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِيمَا ابْتُلِينَا بِهِ؟ قَالَ: اعْفِنَا عَنْ هَذَا وَعَنْ الْكَلامِ فِيهِ أَصْلَحَكَ اللهُ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: نَصِيحَةٌ تُلْقِيهَا. فَقَالَ: مَا أَقُولُ فِي سُلْطَانٍ اسْتَوْلَى عُنْوَةً بِلا مَشُورَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلا إجْتِمَاعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسُفِكَتِ فِيهِ الدِّمَاءُ الْحَرَامُ، وَقُطِعَتْ بِهِ الأَرْحَامُ، وَعُطِّلَتْ بِهِ الْحُدُودَ، وَنُكِّثَتْ بِهِ الْعُهُودَ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَنْفِيذِ الطِّينَة، وَالْجَمْعِ وَمَاذَا يُقَالَ لَكُمْ!

فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا أَقْوَرُ!! أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُسْتَقْبَلُ بِهَذَا؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: أُسْكُتْ يَا كَاذِب، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ فِرْعَونَ هَامَانُ. وَهَامَانُ فَرْعَوْنَ!

ص: 92

إِنَّ اللهَ قَدْ أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ لَيُبِيّنَنُهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ، أَيْ لا يَنْبُذُونَهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ.

قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ: كَيْفَ لَنَا أَنْ نُصْلِحَ مَا فَسَدَ مِنَّا؟ فَقَالَ: الْمَأْخَذُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ يَسِيرٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَاسْتَوى سُلَيْمَانٌ جَالِِسًا مِنَ إتِّكَائِهِ فَقَالَ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: تَأْخُذَ الْمَالِ مِنْ حِلِّهِ، وَتَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ، وَتَكُفُّ الأَكَفَّ عَمَّا نُهِيتَ عَنْهُ وَتُمْضِيهَا فِيمَا أُمِرْتَ بِهِ.

قَالَ سُلَيْمَانٌ: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: مَنْ هَرَبَ مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَنَبَذَ سُوءَ الْعَادَةِ إِلَى خَيْرِ الْعِبَادَةِ. فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: اصْحِبْنَا يَا أَبَا حَازِمٍ، وَتَوَجَّهَ مَعَنَا تُصِبْ مِنَّا وَنُصِبُ مِنْكَ. فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: أَعُوذُ بِاللهِ من ذَلِكَ!.

قَالَ سُلَيْمَانٌ: وَلِمَ يَا أَبَا حَازِمٍ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ أَرْكَنُ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَيُذِيقُنِي اللهُ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ. فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: فَتَزُورُنَا؟

قَالَ أَبُو حَازِمٍ: إِنَّا عَهِدْنَا الْمُلُوكَ يَأْتُونَ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَكُنِ الْعُلَمَاءُ يَأْتُونَ الْمُلُوكَ، فَصَارَ فِي ذَلِكَ صَلاحُ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ صِرْنَا الآنَ فِي زَمَانٍ الْعُلَمَاءُ يَأْتُونَ الْمُلُوكَ، وَالْمُلُوكُ تَقْعُدُ عَنْ الْعُلَمَاءِ، فَصَارَ ذَلِكَ فَسَادُ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا.

اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِمَا وَفَّقْتَ إِلَيْهِ الْقَوْمَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ سِنَّةِ الْغَفْلَةِ وَالنَّوْمِ وَارْزُقَنَا الاسْتِعْدَادَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يَرْبَحُ فِيهِ الْمُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وَعَامِلنَا بِإِحْسَانِكَ وَجُدْ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وَامْتِنَانِكَ وَاجْعَلنَا مِنْ عِبَادِكَ الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ ": قَالَ سُلَيْمَانٌ: فَأَوْصِنَا يَا أَبَا حَازِمٍ وَأَوْجِزْ: قَالَ: اتَّقِ اللهَ أَنْ لا يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ، وَلا يَفْقِدُكَ حَيْثُ أَمَرَكَ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: ادْعُ لَنَا بِخَيْرٍ. فَقَالَ

ص: 93

أَبُو حَازِمٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ سُلَيْمَانٌ وَلِيًّا فَبَشِّرْهُ بِخَيْرِ الدُّنْيَا والآخِرَة، وَإِنْ كَانَ عَدُوُّكَ فَخُذْ إِلَى الْخَيْرِ بِنَاصِيَتِهِ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: زِدْنِي. قَالَ: قَدْ أَوْجَزْتُ، فَإِنَّ كُنْتَ وَلِيَّهُ فَاغْتَبِطْ، وَإِنْ كُنْتَ عَدِوَّهُ فَاتَّعْظْ، فَإِنَّ رَحْمَتَهُ فِي الدُّنْيَا مُبَاحَةٌ وَلا يَكْتُبُهَا فِي الآخِرَة إِلا لِمَنِ اتَّقَي فِي الدُّنْيَا؛ فَلا نَفْعٌ فِي قَوْسٍ يَرْمِي بِلا وَتَرٍ.

فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: هَاتِ يَا غُلامٌ أَلْفَ دِينَارٍ. فَأَتَاهُ بِهَا. فَقَالَ: خُذْهَا يَا أَبَا حَازِمٍ. فَقَالَ: لا حَاجَة لِي بِهَا، لأَنِّي وَغَيْرِي فِي هَذَا الْمَالِ سَوَاءٌ، فَإِنْ سَوَيْتَ بَيْنَنَا وَعَدِلْتَ أَخَذْتُ، وَإِلا فَلا. لأَنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لِمَا سَمِعْتَ مِنْ كَلامِي، وَإِنَّ مُوَسى بن عِمْرَان عليه السلام لَمَّا هَرَبَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ الْجَارِيَتَيْنِ تَذُودَانِ، فَقَالَ: مَا لَكُمَا مُعِينٌ؟ قَالَتَا: لا، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ: «رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقَيرٍ " وَلَمْ يَسْأَلْ أَجْرًا.

فَلَمَّا أَعْجَلَ بِالْجَارِيَتَيْنِ الانْصِرَافَ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُوهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: مَا أَعْجَلُكُمَا الْيَوْم؟ قَالَتَا: وَجَدْنَا رَجُلاً صَالِحًا قَوِيًّا سَقَى لَنَا. قَالَ: مَا سَمِعْتُمَاهُ يَقُولُ؟ قَالَتَا: تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ وَهُوَ يَقُولُ: «رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٍ» .

فَقَالَ: يَنْبَغِي لِهَذَا أَنْ يَكُونَ جَائِعًا. تَنْطَلِقُ إِحْدَاكُمَا لَهُ، فَتَقُولُ لَهُ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا، فَأَتَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى إسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ: قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا.

فَجَزَعَ مُوَسى مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ طَرِيدًا فِي الْفَيَافِي وَالصَّحَارِي، فَقَالَ لَهُا: قُولِي لأَبِيكِ إِنَّ الَّذِي سَقَى يَقُولُ: لا أَقْبَلُ أَجْرًا عَلَى مَعْرُوفٍ إصْطَنَعْتُهُ.

فَانْصَرَفَتْ إِلَى أَبِيهَا فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ: إذْهَبِي فَقُولِي لَهُ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قُبُولِ

ص: 94

مَا يَعْرُضُ عَلَيْكَ أَبِي وَبَيْنَ تَرْكِهِ، فَاقْبِلْ يُحِبُّ فَإِنَّهُ يَرَاكَ وَيَسْمَعَ مِنْكَ. فَأَقْبَلَ وَالْجَارِيَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَبَّتْ الرِّيحُ، فَوَصَفَتْهَا لَهُ وَكَانَتْ ذَاتَ خَلْقٍ كَامِلٍ: فَقَالَ لَهَا كُونِي وَرَائِي وَأَرِينِي سَمْتَ الطَّرِيقِ.

فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ قَالَ: اسْتَأْذِنِي لَنَا. فَدَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهُ مَعَ قُوَتِهِ لأَمِينٌ، فَقَالَ شُعَيْبُ: وَبِمَ عَرِفْتِ ذَلِكَ؟ فَأَخْبَرَتْهُ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحُ عَلَيْهَا. فَقَالَ: ادْخِلِيهِ، فَدَخَلَ فَإِذَا شُعَيْبٌ قَدْ وَضَعَ الطَّعَامَ، فَلَمَّا سَلَّمَ رَحَّبَ بِهِ وَقَالَ: أَصِبْ مِنْ طَعَامِنَا يَا فَتَى. فَقَالَ مُوَسى: أَعُوذُ بِاللهِ. قَالَ شُعَيْبُ: لِمَ؟ قَالَ: لأَنَّي مِنْ بَيْتٍ لا نَبِيعُ دِينَنَا بِمِلْءِ الأَرْضِ ذَهَبًا.

قَالَ شُعَيْبٌ: لا وَاللهِ مَا طَعَامِي كَمَا تَظُنُّ وَلَكِنَّهُ عَادَتِي وَعَادَةُ آبَائِي: نُقْرِي الضَّيْفَ، وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ؛ فَجَلَسَ مُوَسَى فَأَكَلَ. وَهَذِهِ الدَّنَانِيرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانَتْ ثَمَنًا لِمَا سَمِعْتَ مِنْ كَلامِي فَلَئِنَّ آكُلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آخُذُهَا.

فَأَعْجَبَ سُلَيْمَانٌ بِأَمْرِهِ عَجَبًا شَدِيدًا. فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. إِنَّ النَّاسَ كُلُّهُمُ مِثْلَهُ، قَالَ: لا. قَالَ الزُّهَرِيُّ: إِنَّهُ لَجَارِي مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَة مَا كَلَّمْتُهُ قَط.

فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: صَدَقْتَ لأَنَّكَ نَسِيتَ اللهَ فَنَسِيتَنِي وَلَوْ ذَكَرْتَ اللهَ لَذَكَرْتَنِي. قَالَ الزُّهَرِيُّ: أَتَشْتِمُنِي؟ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانٌ: بَلْ أَنْتَ شَتَمْتَ نَفْسَكَ، أَوْ مَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلْجَارِ عَلَى الْجَارِ حَقًّا؟

قَالَ أَبُو حَازِمٍ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا كَانُوا عَلَى الصَّوَابِ كَانَتْ الأُمَرَاءُ تَحْتَاجُ إِلَى الْعُلَمَاءِ، وَكَانَتْ الْعُلَمَاءُ تَفُرُّ بِدِينِهَا مِنَ الأُمَرَاءِ.

فَلَمَّا رُئِي قَوْم مِنْ أَرَاذِلِ النَّاسِ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَأَتَوْا بِهِ الأُمَرَاءَ، اسْتَغْنَتِ

ص: 95

الأُمَرَاءُ عَنْ الْعُلَمَاءِ وَاجْتَمَعَ الْقَوْمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَسَقَطُوا وَهَلَكُوا.

وَلَوْ كَانَ عُلَمَاؤنَا هَؤلاءِ يَصُونُونَ عِلْمَهُمْ لَكَانَتْ الأُمَرَاءُ تَهَابَهُمْ وَتُعَظِّمَهُمْ. فَقَالَ الزُّهَرِيُّ: كَأَنَّكَ إِيَّايَ تُرِيدُ وَبِي تُعَرِّضَ؟ قَالَ: هُوَ مَا تَسْمَعُ.

قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ عِظْنِي وَأَوْجِزْ. قَالَ: الدُّنَيْا حَلالُهَا حِسَاب، وَحَرَامُهَا عَذَابُ، وَإِلَى اللهِ الْمآبُ عَذَابَكَ أَوْ دَعْ.

قالَ: لقد أوجزتَ فَأَخْبَرَنِي مَا مَالُكَ؟ قَالَ: الثِّقَةُ بِعْدِلِهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى كَرَمِهِ وَحُسْنُ الظَّنِ بِهِ، وَالصَّبْرُ إِلَى أَجَلِهِ، وَالْيَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ.

قَالَ: يَا أَبَا حَازِمٍ: ارْفَعْ إِلَيْنَا حَوَائِجَكَ. قَالَ: رَفَعْتُهَا إِلَى مَنْ لا تُخْذَلُ دُونُهُ، فَمَا أَعْطَانِي مِنْهَا قَبِلْتُ، وَمَا أَمْسَكَ عَنِّي رَضِيتُ. مَعَ أَنَّي قَدْ نَظَرْتُ فَوَجَدْتُ أَمْرَ الدُّنْيَا يَؤُولُ إِلَى شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا لِي وَالآخِرِ لِغَيْرِي؛ فَأَمَّا مَا كَانَ لِي فَلَوْ احْتَلْتُ عَلَيْهِ بِكُلِّ حِيلَةٍ مَا وَصَلْتُ إِلَيْهِ قَبْلَ أَوَانِهِ وَحِينِهِ الَّذِي قُدِّرَ لِي.

وَأَمِّا الَّذِي لِغَيْرِي فَذَلِكَ لا أَطْمَعُ فِيهِ، فَكَمَا مَنَعَنِي رَزَقَ غَيْرِي، كَذَلِكَ مَنَعَ غَيْرِي رِزْقِي، فَعَلامَ أَقْتُلُ نَفْسِي فِي الإِقْبَالِ وَالإِدْبَارِ!

قَالَ سُلَيْمَانٌ: لا بُدَّ أَنْ تَرْفَعَ إِلَيْنَا حَاجَةً نَأْمُرُ بِقَضَائِهَا. قَالَ: فَتَقْضِيهَا؟ قَالَ: نَعَم. قَالَ: فَلا تُعْطِنِي شَيْئًا حَتَّى أَسْأَلُكَهُ، وَلا تُرْسِلْ إِلَيَّ حَتَّى آتِيكَ، وَإِنْ مَرِضْتُ فَلا تَعْدِنِي، وَإِنْ مِتُّ فَلا تَشْهَدُنِي. قَالَ سُلَيْمَانٌ: أَبَيْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ. قَالَ: أَتَأْذَنُ لِي أَصْلَحَكَ اللهُ فِي الْقِيَامِ، فَإِنِّي شَيْخٌ قَدْ زَامَنْتُ.

قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ: مَسْأَلَةٌ مَا تَقُولُ فِيهَا. قَالَ: إِنْ كَانَ عِنْدِي عِلْمٌ أَخْبَرْتُكَ بِهِ، وَإِلا فَهَذَا الَّذِي عَنْ يَسَارِك يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْء يُسْأَلُ عَنْهُ إِلا وَعِنْدَهُ عِلْمٌ (يُرِيدُ الزُّهَرِيّ) فَقَالَ لَهُ الزُّهَرِيُّ: عَائِذًا بِاللهِ مِنْ شَرِّكَ أَيًّهَا الْمَرْءُ! قَالَ: أَمَّا مَنْ شَرِّي فقَدْ عَفِيتُ، وَأَمَّا لِسَانِي فَلا.

ص: 96

قَالَ سُلَيْمَانٌ: مَا تَقُولُ فِي سَلامِ الأَئِمَّةِ مِنْ صَلاتِهِمْ: أَوَاحِدَةٌ أَمْ اثْنَتَانِ؟ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ لِدَيْنَا قَدْ اخْتَلَفُوا عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ أَشَدَّ الاخْتِلافِ. قَالَ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ؛ أَرْسِيكَ فِي هَذَا بخَيْرٍ شَافٍ.

حَدَّثَنِي عَامِرُ بن سَعْدٍ بن أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ أَنَّهُ شَهِدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُسَلِّمُ فِي الصَّلاةِ عَنْ يَمِينِه حَتَّى يُرَى بَيَاضَ خَدِّهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضَ خَدِّهِ الأَيْسَرِ، سَلامًا يَجْهَرُ بِهِ. قَالَ عَامِرٌ: كَانَ أَبِي يَفْعَلُ ذَلِكَ.

وَأَخْبَرَنِي سَهْلٌ بن سَعَدٍ السَّاعِدِيّ أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بن الْخَطَّابِ وَابْنَ عُمَرَ يُسَلِّمَانِ مِنَ الصَّلاةِ كَذَلِكَ، فَقَالَ الزُّهَرِيُّ: اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ بِهِ أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَعْبٌ شَدِيدٌ إِلا بِالتَّثْبِيتِ وَالْيَقِينِ.

قَالَ أَبُو حَازِمٍ: قَدْ عَلِمْتُهُ وَرَوَيْتُه قَبْلُ أَنْ تَطْلَعَ أَضْرَاسَكَ فِي رَأْسِكَ. فَالْتَفَتَ الزُّهَرِيُّ إِلَى سُلَيْمَانٌ، قَالَ: أَصْلَحَكَ اللهُ، إن هَذَا الْحَدِيثَ مَا سَمِعْتُ بِهِ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَط، فَضَحِكَ أَبُو حَازِمٍ.

ثُمَّ قَالَ: يَا زُهَرِيُّ أَحَطْتَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُلِّهُ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَثَلاثَةُ أَرْبَاعِهِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَثُلُثُهُ؟ فَقَالَ: أَرَانِي ذَلِكَ، قَدْ رُويتُ وَبَلَغَنِي.

فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَهَذَا مِنَ الثُّلُثِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْكَ وَبَقَى عَلَيْكَ إِسْمَاعِهِ. فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: مَا ظَلَمَكَ مِنْ حَاجَّكَ. ثُمَّ قَامَ مَأْذُونًا لَهُ. فَأَتْبَعَهُ سُلَيْمَانٌ بَصَرَهُ، يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَعْجَبُ بِهِ.

ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى جُلَسَائِهِ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ بَقِيَ فِي الدُّنْيَا مِثْل هَذَا. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّدْ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

ص: 97