الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللهم انظمنا في سلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
" فَصْلٌ " في هديه صلى الله عليه وسلم في
علاج حر المصيبة
وحزنها
وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها» .
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عاجلته وآجلته. فإنها تتضمن أصلين عظيمين - إذا تحقق العبد بمعرفتها تسلى عن مصيبته - (أحدهما) : أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقةً.
وقد جعله عند العبد عاريةً فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير وأيضًا فإنه محفوف بعدمين: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير. وأيضًا فإنه ليس هو الذي أوجده من عدمه حتى يكون ملكه حقيقة؛ ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ولا يبقى عليه وجوده.
فليس له في تأثير ولا ملك حقيقي. وأيضًا فإنه متصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف الملاك. ولهذا لا يباح من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.
وقال ابن سرين: (ما كان ضحكٌ قط، إلا كان من بعده بكاءٌ) .
وقالت هند بنت النعمان: (لقد رأينا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكًا، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتُنَا ونحن أقل الناس، وإنه حقٌ على الله أن لا يملأ دارًا خيرةً إلا ملأها عبرةً) .
وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها فقالت: (أصبحنا ذات صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا) .
وبكت أختها حرقة بنت النعمان يومًا - وهي في عزها - فقيل لها: ما يبكيك؟ لعل أحد آذاك؟ قالت: (لا؛ ولكن رأيت غضارة في أهلي، وقلما امتلأت دار سرورًا إلا امتلأت حزنًا) .
قال إسحاق بن طلحة: (دخلت عليها يومًا فقلت لها: كيف رأيت عبرات الملوك؟ فقالت: ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه بالأمس؛ إنا نجد في الكنب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة، إلا سيعقبون بعدها عبرةً، وإن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه) . ثم قالت:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا
…
إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لا يَدُومُ نَعِيمُهَا
…
تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ
ومن علاجها: أن يعلم أن الجزع لا يردها، بل يضافعها، وهو في الحقيقة من تزايد المرض.
ومن علاجها: أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم - وهو من الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع - أعظم من المصيبة في الحقيقة.
ومن علاجها: أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه، ويسيء صديقه،
ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نَفْسهُ. وَإِذَا صبر واحتسب أقصى شيطانه، ورده خاسئًا، وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عَنْ إخوانه، وعزَّاهم هُوَ قبل أن يعزوه. فهَذَا هُوَ الثبات والكمال الأعظم؛ لا لطم الخدود، وشق الجيوب والدُّعَاء بالويل والثبور، والسخط على المقدور.
ومن علاجها: أن يعلم ما يعقبه الصبر والاحتساب - من اللذة والمسرة - أضعاف ما كَانَ يحصل لَهُ ببقاء ما أصيب به، لو بقي عَلَيْهِ. ويكفيه من ذَلِكَ بيت الحمد الَّذِي يبنى لَهُ فِي الْجَنَّة، على حمده لربه واسترجاعه. فلينظر أي المصيبتين أعظم: مصيبة العاجلة؟ أَوْ مصيبة فوات بيت الحمد فِي جنة الخلد؟
وَفِي الترمذي مرفوعا: «يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كَانَتْ تقرض بالمقاريض فِي الدُّنْيَا، لما يرون من ثواب أَهْل البَلاء» .
وقَالَ بَعْض السَّلَف: (لولا مصائب الدُّنْيَا، لوردنا القيامة مفالَيْسَ) .
شِعْرًا:
…
وَعُوِّضْتَ أَجْرًا مِنْ فَقِيدٍ فَلا يَكُنْ
…
فَقِيدُكَ لا يَأْتِي وَأَجْرُكَ يَذْهَبُ
ومن علاجها: أن يروح قَلْبهُ بروح رجَاءَ الخلف من الله، فإنه من كُلّ شَيْء عوض، إلا الله فما منه عوض. كما قِيْل:
شِعْرًا:
…
لَعَمْرِي مَا الرَّزِيَّةُ فُقْدَ قَصْرٍ
…
فَسِيحٍ مُنَيةٌ لِلسَّاكِتِينَا
وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةِ فَقْدُ دِينٍ
…
يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِن كَافِرِينَا
آخر:
…
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ
…
وَمَا مِنَ الله إِنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ
ومن علاجها: أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه لَهُ، فمن رضي فله الرِّضَا، ومن سخط فله السخط. فحظك مَنْهَا ما أحدثته لَكَ، فاختر أما خَيْر الحظوظ، أَوْ شرها. فَإِنَّ أحدثت لَهُ سخطًا وكفرًا كتب فِي ديوان
الهالكين، وإن أحدثت لَهُ جزعًا وتفريطًا فِي ترك واجب، أَوْ فِي فعل محرم كتب فِي ديوان الهالكين، وإن حدثت لَهُ شكاية وعدم صبر كتب فِي ديوان المغبونين.
وإن أحدثت لَهُ اعتراضًا على الله وقدحًا فِي حكمته فقَدْ قرع باب الزندقة أَوْ ولجه، وان أحدثت لَهُ صبرًا وثباتًا لله: كتب فِي (ديوان الصابرين) . وان أحدثت لَهُ الرِّضَا: كتب فِي (ديوان الراضين) . وان أحدثت لَهُ الحمد وَالشُّكْر: كتب فدى (ديوان الشاكرين) ، وكَانَ تحت لواء الحمد مَعَ الحمَّادين، وإن أحدثت لَهُ محبةً واشتياقًا إِلَى لقاء ربه: كتب فِي (ديوان المحبين المخلصين) .
وَفِي مسند الإِمَام أحمد والترمذي - مِنْ حَدِيثِ محمود بن لبيد يرفعه -:
«إن الله إِذَا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرِّضَا، ومن سخط فله السخط» . زَادَ أحمد: «ومن جزع فله الجزع» .
ومن علاجها: أن يعلم أنه وإن بلغ فِي الجزع غايته فآخر أمره إِلَى صبر الاضطرار. وَهُوَ غيره محمود ولا مثاب.
قَالَ بَعْض الحكماء: (العاقل يفعل فِي أول من المصيبة، ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام، سلا سُلُوَّ البهائم) وَفِي الصحيح مرفوعًا: «الصبر عَنْدَ الصدمة الأولى» . وقَالَ الأشعث بن قيس: (إِنَّكَ إن صبرت إيمانًا واحتسابًا؛ وإلا سلوت سُلُوَّ البهائم) .
ومن علاجها: أن يعلم أن أنفع الأدوية لَهُ موافقة ربه وإلهه، فيما أحبه ورضيه لَهُ، وان خاصية المحبة موافقة المحبوب، فمن ادعى محبة محبوب، ثُمَّ سخط ما يحبه وأحب ما يسخطه فقَدْ شهد على نَفْسهُ بكذبه، وتمقت إِلَى محبوبه.
وقَالَ أبو الدرداء: (إن الله إِذَا قضى قضاء، أحب أن يرضى به) . وكَانَ عمران ابن الحصين يَقُولُ فِي علته: (أحبه إِلَيَّ أحبه إليه) . وكَذَلِكَ قَالَ أَبُو العالية.
وَهَذَا دواء وعلاج لا يعمل إلا مَعَ المحبين، ولا يمكن كُلّ أحد أن يتعالج به..
ومن علاجها: أن يوازن بين أعظم اللذتين والتمتعين وأدومها: لذة تمتعه بما أصيب به، ولذة تمتعه بثواب الله لَهُ فَإِنْ ظهر لَهُ الرجحان، فآثر الراجح فليحمد الله على توفيقه، وإن آثر المرجوح من كُلّ وجه فليعلم أن مصيبته فِي عقله وقَلْبهُ ودينه، وأعظم من مصيبته التي أصيب بها فِي دنياه.
شِعْرًا:
…
وَإِذَا تَصِبْكَ مُصِيبَة فَاصْبِرْ لَهَا
…
عَظُمَتُ مُصِيبَةُ مُبْتَلَى لا يَصْبِرُ
ومن علاجها: أن يعلم أن الَّذِي ابتلاه بها أحكم الحاكمين، وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وأنه سُبْحَانَهُ لم يرسل إليه البَلاء ليهلكه ولا ليعذبه به، ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عَنْهُ وإيمانه، وليسمَعَ تضرعه وابتهاله، وليراه طريحًا ببابه، لائذًا بجنابه، مكسور الْقَلْب بين يديه رافعًا قصص الشكوى إليه.
قَالَ الشَّيْخ عبد القادر: (يَا بني إن المصيبة ما جاءت لتهلكك، وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك: يَا بني القدر سبع، والسبع لا يأكل الميتة) .
والمقصود: أن المصيبة كير الْعَبْد الَّذِي يسبك به حاصله، فَإِمَّا أن يخَرَجَ ذهبًا أحمر، وإما أن يخَرَجَ خبثًا كله. كما قِيْل:
سَبَكْبَاهُ وَنَحْسِبُهُ لُجَيْنًا
…
فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ
فَإِنَّ لم ينفعه هَذَا الكير فِي الدُّنْيَا فبين يديه الكير الأعظم. فإذا علم الْعَبْد أن إدخاله كير الدُّنْيَا ومسبكها خَيْر لَهُ من ذَلِكَ الكير والمسبك، وأنه لابد من أحد الكيرين فليعلم قدر نعمة الله عَلَيْهِ فِي الكير العاجل.
فلولا أنه سُبْحَانَهُ يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء، لطغوا وبغوا وعتوا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ إِذَا أراد بعبد خيرًا سقاه دواء - من الابتلاء والامتحان - عَلَى قَدْرِ حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة؛ حَتَّى إِذَا هذبه وصفاه أهلَّه لأشرف مرا تب الدُّنْيَا - وهي عبوديته - وأرفع ثواب الآخِرَة، وَهُوَ رؤيته وقربه.
ومن علاجها: أن يعلم أن مرارة الدُّنْيَا هِيَ بعينها حلاوة الآخِرَة، يقابلها الله سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ؛ وحلاوة الدُّنْيَا هِيَ بعينها مرارة الآخِرَة ولأن ينتقل من مرارة منقطعة، إِلَى حلاوة دائِمَّة خَيْر لَهُ من عكس ذَلِكَ.
فَإِنَّ خفى عَلَيْكَ هَذَا فَانْظُرْ إِلَى قول الصادق المصدوق: «حفت الْجَنَّة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» .
وَفِي هَذَا المقام تفاوتت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرِّجَال فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة، على الحلاوة الدائِمَّة التي لا تزول، ولم يحتمل مرارة ساعة بحلاوة الأبد، ولا ذل ساعة لعز الأبد، ولا محنة ساعة لعافية الأبد. فَإِنَّ الحاضر عنده شهادةٌ، والمنتظر غيبٌ، والإِيمَان ضعيفٌ، وسلطان الشهوة حاكم. فتولد مَعَ ذَلِكَ إيثار العاجلة، ورفض الآخِرَة.
وَهَذَا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور وأوائلها ومبادئها، وأما النظر الثاقب الَّذِي يخرق حجب العاجلة، ويجاوزه إِلَى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخر.
فادع نفسك إِلَى ما أعد الله لأوليائه وأَهْل طاعته من النَّعِيم المقيم، والسعادة الأبدية، والفوز الأكبر، وما أعد لأَهْل البطالة والإضاعة من الخزي والعقاب، والحسرات الدائِمَّة، ثُمَّ اختر أي القسمين أليق بك. و {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} ، وكل أحد يصبو إِلَى ما يناسبه وما هُوَ الأولى به. ولا تستطل هَذَا العلاج فشدة الحاجة إليه - من الطبيب العليل - دعت إِلَى بسطه. وبِاللهِ التَّوْفِيق.
شِعْرًا:
…
نُعَلِّلُ بِالدَّوَاءِ إِذَا مَرَضْنَا
…
وَهَلْ يَشْفِِِِي مِنَ الْمَوْتِ الدَّوَاءُ
وَنَخْتَارُ الطَّبِيبَ وَهَلْ طَبِيبٌ
…
يُؤخِّرُ مَا يُقَدِّمُهُ الِْقَضَاءُ
آخر:
…
اصْبِرْ عَلَى حُلْوِ الِْقَضَاءِ وَمُرِّهِ
…
وَاعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ بَالِغْ أَمْرِهَ
فَالصَّدْرُ مَنْ يَلْقَى الْخُطُوبَ بِصَدْرِهِ
…
وَبِصَبْرِهِ وَبِحَمْدِهِ وَبِشُكْرِهِ
الْحُرُّ سَيْفٌ وَالذُّنُوبُ لِصَفْوِهِ
…
صَدَأ وَصَيْقَلُهُ نَوَائِبُ دَهْرِهِ
لَيْسَ الْحَوَادِثُ غَيْرَ أَعْمَالِ امْرِئٍ
…
يُجْزَى بِهَا مِنْ خَيْرِهِ أَوْ شَرِّهِ
فَإِذَا أُصِبْتَ بِمَا أُصِبْتَ فَلا تَقُلْ
…
أُوذِيتُ مِنْ زَيْدِ الزَّمَانِ وَعَمْرِهِ
وَاثْبُتْ فَكَمْ أَمْرٍ أَمَضَّكَ عُسْرُهُ
…
لَيْلاً فَبَشَّرَكَ الصَّبَاحُ بِيُسْرِهِ
وَلَكُمْ عَلَى نَاسٍ أَتَى فَرَجُ الْفَتَى
…
مِن سِرِّ غَيْبٍ لا يَمُرُّ بِفِكْرِهِ
فَاضْرَعْ إِلَى اللهِ الْكَرِيمِ وَلا تَسِلْ
…
بَشَرًا فَلَيْسَ سِوَاهُ كَاشِفَ سِرِّهِ
وَأَعْجَبْ لِنَظْمِي وَالْهُمُومُ شَوَاغِلٌ
…
يُلْهِينَ عَنْ نَظْمِ الْكَلامِ وَنَثْرِهِ
لا تَخْشَ مِنْ غَمٍّ كَغَيْمٍ عَارِضٍ
…
فَلَسَوْفَ يُسْفِرُ عَنْ إِضَاءَةِ بَدْرِهِ
إِنْ تُمْسِ عَنْ عَبَّاسِ حَالِكَ رَاوِيًا
…
فَكَأَنَّنِي بِكَ رَاوِيًا عَنْ بِشْرِهِ
وَلَقَدْ تَمُرُّ الْحَادِثَاتُ عَلَى الْفَتَى
…
وَتَزُولُ حَتَّى مَا تَمُرُّ بِفِكْرِهِ
هَوِّنْ عَلَيْكَ فَرُبَّ أَمْرٍ هَائِلٍ
…
دُفِعَتْ قُوَاهُ بِدَافِعٍ لَمْ تَدْرِهِ
وَلَرُبَّ لَيْلٍ بِالْهُمُومِ كَدُمَّلٍ
…
صَابَرْتَهُ حَتَّى ظَفِرْتَ بِفَجْرِهِ
ثُمَّ الصَّلاةُ على النَّبِيّ وَآلِهِ
…
مَعَ صَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ لأَمْرِهِ
اللَّهُمَّ اجعلنا من المتقين الأَبْرَار وأسكنا معهم فِي دار الْقَرَار، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغاء إليك وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُن فِي طَاعَتكَ،، اللَّهُمَّ يَا من خلق الإِنْسَان فِي أحسن تقويم وبقدرته التي لا يعجزها شَيْء يحيي العظام وهي رميم نسألك أن تهدينا إِلَى صراطك المستقيم صراط الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وأن تغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ فِي الخَوْفِ "
اعْلَمْ وَفَّقَنَا وَإِيَّاكَ لما يحبه ويرضاه أن الخوف عبارة عَنْ تألم الْقَلْب واحتراقه بسبب توقع مكروه فِي المستقبل وقِيْل الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام وقِيْل هرب الْقَلْب من حلول المكروه عَنْدَ استشعاره.
فالخوف لعام الْمُؤْمِنِينَ والخشية للعلماء العارفين والهيبة للمحبين والإجلال للمقربين، وعَلَى قَدْرِ العلم بِاللهِ ومعرفة الْعَبْد بنفسه يكون الخوف والخشية كما قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:«إني لأعلمكم بِاللهِ وأشدكم لَهُ خشية» . وَفِي رواية: «خوفًا» .
وَإِذَا أكملت المعرفة أثرت الخوف ففاض أثره على الْقَلْب، ثُمَّ ظهر على الْجَوَارِح، والصفات النحول والاصفرار والبُكَاء والغشي، وقَدْ يفضي إِلَى الموت.
وأما ظهور أثره على الْجَوَارِح فبكفها عَنْ المعاصي، وإلزامها الطاعات تلافيًا، واستدراكًا لما فرط، واستعدادًا للمستقبل.
ومن ثمرات الخوف أنه يقمَعَ الشهوات، ويكدر اللذات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العسل واللبن مكروهًا إِذَا علم أن فيه سُمًّا، فتحترق الشهوات بالخوف، وتتأدب الْجَوَارِح، ويذل الْقَلْب، ويستكين ويفارقه الكبر والحسد والحقَدْ، ويصير مستوعبًا الهم لخوفه والنظر فِي خطر عاقبته.
فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون لَهُ شغل ‘لا الْمُرَاقَبَة، والمحاسبة والمجاهدة، والبخل فِي الأنفاس، واللحظات، أن يصرفها فيما لا فائدة فيه، ومؤاخذة النفس فِي الخطرات، والخطوات، والكلمَاتَ، وقوة الخوف
بحسب قوة المعرفة بجلال الله تعالى، وصفاته وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال.
ومقدمَاتَ الخوف أربع. الأولى: ذكر الذُّنُوب الكثيرة العظيمة التي سلفت فيما مضى وكثرة ذكر الخصوم الَّذِينَ مضوا وأَنْتَ مرتهن لم يتبين لَكَ الخلاص حَتَّى الآن. وَالثَّانِيَة: ذكر شدة العقوبة. والثالثة: ذكر قدرة الله عَلَيْكَ متى شَاءَ وكيف شَاءَ. والرابعة: ذكر ضعفك عَنْ احتمال العقوبة.
شِعْرًا:
…
حَقِيق بِالتَّوَاضُعِ مَنْ يَمُوتُ
…
وَيَكْفِي الْمَرْءُ مِنْ دُنْيَاهُ قُوتُ
فَمَا لِلْمَرْءِ يُصْبِحَ ذَا هُمُومٍ
…
وَحِرْصٍ لَيْسَ يُدْرِكُهُ النُّعُوتُ
فَيَا هَذَا سَتَرْحَلُ عَنْ قَرِيبٍ
…
إِلَى قَوْمٍ كَلامُهُمُ السُّكُوتُ
آخر:
…
النَّفْسُ تَبْكِي عَلَى الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ
…
أَنَّ السَّلامَةَ مِنْهَا تَرْكُ مَا فِيهَا
لا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ الْمَوْتِ يَسْكُنُهَا
…
إِلا الَّتِي كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ بَانِيهَا
فَإِنْ بَنَاهَا بِخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهُ
…
وَإِنْ بَنَاهَا بِشَرٍّ خَابَ بَانِيهَا
آخر:
…
وَمَا مَنْ يَخَافُ الْمَوْتَ وَالنَّارَ آمِنُ
…
وَلَكِنْ حَزِينُ مُوجَعُ الْقَلْبِ خَائِفُ
إِذَا عَنْ ذِكْرُ الْمَوْتِ أَوْجَعَ قَلْبَهُ
…
وَهَيَّجَ أَحْزَانًا ذُنُوبٌ سَوَالِفُ
ثُمَّ اعْلَمْ أن الخوف يحث على العلم، والْعَمَل، قَالَ أبو حفص: الخوف سوط الله، يقوم به الشاردين عَنْ بابه. وقَالَ: الخوف سراج فِي الْقَلْب، به يبصر ما فيه من الْخَيْر والشَّر، وكل أحد إِذَا خفته هربت منه إِلا الله عز وجل فإنك إِذَا خفته هربت إليه فالخائف هارب من ربه إِلَى ربه.
وقَالَ أبو سُلَيْمَانٌ: ما فارق الخوف قلبًا إلا خرب. وقَالَ إبراهيم بن سفيان: إِذَا سكن الخوف الْقُلُوب أحرق مواضع الشهوات مِنْهَا وطرد الدُّنْيَا عَنْهَا. قَالَ فِي مختصر مناهج القاصدين: والخوف لَهُ إفراط وله اعتدال، وله قصور والمحمود من ذَلِكَ الاعتدال.
وهو بمنزلة السوط للبهيمة، فَإِنَّ الأصلح للبهيمة أن لا تخلو عَنْ سوط ولَيْسَ المبالغة فِي الضرب محمودة، ولا المتقاصر عَنْ الخوف أيضا محمودًا، وَهُوَ كالَّذِي يخطر بالبال عَنْدَ سماع آية، أَوْ سبب هائل فيورث البُكَاء، فإذا غاب ذَلِكَ السبب عَنْ الحس رجع الْقَلْب إِلَى الغَفْلَة، فهو خوف قاصر قليل الجدوى ضعيف النفع، وَهُوَ كالقضيب الضعيف، الَّذِي يضرب به دابة قوية فلا يؤلمها ألمًا مبرحًا، فلا يسوقها إِلَى المقصد ولا يصلح لرياضتها.
وَهَذَا هُوَ الغالب على النَّاس كلهم إلا العارفين والْعُلَمَاء أعنِي الْعُلَمَاء بِاللهِ وبآياته وقَدْ عز وجودهم، وأما المرتسمون برسوم العلم فَإِنَّهُمْ أبعد النَّاس عَنْ الخوف، وهل الْعُلَمَاء حَقِيقَة يأخذون من الدُّنْيَا إلا بقدر البلاغ.
وأما القسم الأول وَهُوَ الخوف المفرط فهو كالَّذِي يقوى ويجاوز حد الاعتدال، حَتَّى يخَرَجَ إِلَى اليأس والقنوط، فهو أيضًا مذموم لأنه يمنع من الْعَمَل، وقَدْ يخَرَجَ إِلَى المرض والوله والموت، ولَيْسَ ذَلِكَ محمودًا.
وكل ما يراد لأمر فالمحمود منه ما يفضِي إِلَى المراد المقصود منه، وما يقصر عَنْهُ أَوْ يجاوزه فهو مذموم وفائدة الخوف الحذر والورع والتقوى والمجاهدة والفكر والذكر والتعبد وسائر الأسباب التي توصل إِلَى الله تَعَالَى وكل ذَلِكَ يستدعى الحياة مَعَ صحة البدن وسلامة العقل فإذا قدح فِي ذَلِكَ شَيْء كَانَ مذمومًا وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
" فَصْلٌ "
وقَالَ ابن رجب رحمه الله: والقدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم فَإِنَّ زَادَ على ذَلِكَ بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير فِي نوافل الطاعات، والانكفاف عَنْ دقائق المكروهات، والتبسط فِي فضول المباحات، كَانَ ذَلِكَ فضلاً محمودًا.
شِعْرًا:
…
خَفِ الله وَارْجُوهُ لِكُلِّ عَظِيمَةٍ
…
وَلا تُطِعِ النَّفْسَ اللَّجُوجَ فَتَنْدَمَا
وَكُنْ بَيْنَ هَاتَيْنِ مِن الْخَوْفِ وَالرَّجَاءَ
…
وَأَبْشِرْ بِعَفْوِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمَا
فإن تزايد على ذَلِكَ بأن أورث مرضًا أَوْ موتًا أَوْ همًا لازمًا بحيث يقطع عَنْ السعي فِي اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل لم يكن ذَلِكَ محمودًا.
ولهَذَا كَانَ السَّلَف يخافون على عطاء السلمي من شدة خوفه الَّذِي أنساه القرآن وصار صَاحِب فراش، وَهَذَا لأن خوف العقاب لَيْسَ مقصودًا لذاته، إنما هُوَ سوط يساق به المتوانِي عَنْ الطاعة إليها ومن هنا كَانَتْ النار من جملة نِعَمِ الله على عباده الَّذِينَ خافوه واتقوه.
ولهَذَا المعنى عدها الله سبحانه وتعالى من جملة آلائه على الثقلين فِي سورة الرحمان، وقَالَ سفيان بن عيينة:(خلق الله النار رحمةً يخوف بها عباده لينتهوا) . أَخْرَجَهُ أبو نعيم.
والمقصود الأصلي هُوَ طاعة الله عز وجل وفعل مراضيه ومحبوباته وترك مناهيه ومكروهاته، ولا ننكر أن خشية الله وهيبته وعظمته فِي الصدور وإجلاله مقصود أيضًا، ولكن القدر النافع من ذَلِكَ ما كَانَ عونًا على التقرب إِلَى الله، بفعل ما يحبه وترك ما يكرهه.
ومتى صار الخوف مانعًا من ذَلِكَ وقاطعًا عَنْهُ فقد انعكس المقصود منه، ولكن إِذَا حصل ذَلِكَ عَنْ غلبةٍ كَانَ صاحبه معذورًا، وقَدْ كَانَ فِي السَّلَف من حصل لَهُ من خوف النار أهوال شتى لغلبة حال شهادة قُلُوبهمْ للنار، فمِنْهُمْ من كَانَ يلازمه القلق والبُكَاء وَرُبَّمَا اضطرب أَوْ غُشِيَ عَلَيْهِ إِذَا سمَعَ ذكر النار، مثل قوله تَعَالَى:{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} .
شِعْرًا:
…
لَوْ يَعْلَمُ الرَّاقِدُ مَا فَاتَهْ
…
وَأَيَّ مَجْدٍ هَدَّ أَبْيَاتَهُ
لَقَلَّلَ النَّوْمَ عَلَى فُرْشِهِ
…
وَسَدَّ بِالْخِدْمَةِ أَوْقَاتَهُ
وَأَرْسَلَ الدَّمْعَةَ مَمْزُوجَةً
…
عَلَى مَبِيتٍ طَالَ مَابَاتَهُ
ضَيَّعَ فِيهِ الْحَظَّ مِنْ قُرْبِهِ
…
وَلَمْ يُبَالِ بِالَّذِي فَاتَهُ
آخر:
…
فَبَادِرْ إِلَى الْخَيْرَاتِ قَبْلَ فَوَاتِهَا
…
وَخَالِفْ مُرَادَ النَّفْسِ قَبْلَ مَمَاتِهَا
سَتَبْكِي نُفُوسٌ فِي الْقِيَامَةٍ حَسْرَةً
…
عَلَى فَوْتِ أَوْقَاتٍ زَمَانَ حَيَاتِهَا
فَلا تَغْتَرِرْ بِالْعِزِّ وَالْمَالِ وَالْمُنَى
…
فَكَمْ قَدْ بُلِينَا بِانْقِلابِ صِفَاتِهَا
آخر:
…
تَزَوَّدْ مِن الدُّنْيَا بِسَاعَتَكَ الَّتِي
…
ظَفَرْتَ بِهَا مَا لَمْ تَعُقْكِ الْعَوَائِقُ
فَلا يَوْمُكَ الْمَاضِي عَلَيْكَ بِعَائِدٍ
…
وَلا يَوْمُكَ الآتِي بِهِ أَنْتَ وَاثِقٌ
" فَصْلٌ ": وَمِمَّا ورد فِي الخوف من الآيات وَالأَحَادِيث ما يلي قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} ، وقَالَ:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَاّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} ، وقَالَ تَعَالَى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} .
وقَالَ تَعَالَى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} . وقَالَ: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} الآيات، وقَالَ:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} .
وقَالَ: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} ، وقَالَ:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} .
وَقَالَ: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً * يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً} الآيات، وقَالَ:{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
وقَالَ: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} وقَالَ: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَهُمْ يَتَّقُونَ} .
وقَالَ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} وقَالَ: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً} .
وقَالَ جَلَّ وَعَلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} ، ولو لم يكن إلا هَذِهِ الآية لكَانَتْ كافية للتخويف، إذ شرط للمبالغة فِي مغفرته أربعة أمور، يعجز الْعَبْد عَنْ الواحد مهنا إن لم يعنه الله فأَوَّلاً: التوبة. والثاني: الإِيمَان. والثالث: الْعَمَل الصالح. والرابع: سلوك سبيل المهتدين
شِعْرًا:
…
يَا نَاظِرًا يَرْنُو بِعَيْنَيْ رَاقِدِ
…
وَمُشَاهِدٌ لِلأَمْرِ غَيْرَ مُشَاهِدِ
مَنَّيْتُ نَفْسَكَ ضِلَّةً وَأَبَحْتَهَا
…
طُرْقَ الرَّجَاءَ وَهُنَّ غَيْرُ قَوَاصِدِ
تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَتَرْتَجِي
…
سُكْنَى الْجِنَانِ بِهَا وَفَوْزَ الْعَابِدِ
وَنَسِيتَ أَنَّ اللهَ أخَرَجَ آدَمًا
…
مِنْهَا إِلَى الدُّنْيَا بِذَنْبٍ وَاحِدِ
وقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}
وقَالَ: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} ، وقَالَ:{هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} الآية، ومن المخوفات قوله تَعَالَى:{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ثُمَّ ذكر أربعة شروط بها يقع الخلاص من الْخُسْرَانُ.
وهذه الآيات ونحوها هِيَ التي أقضت مضاجع السَّلَف، فلم يهنئوا بنوم ولم يستلذوا طعامًا وانحلت أجسامهم، وأضرت بعيونهم من كثرة البُكَاء على حد قوله تَعَالَى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ، وقوله:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} .
شِعْرًا:
…
إِذَا مَا اللَّيْلُ أَظْلَمَ كَابَدُوهُ
…
فَيُسْفِرُ عَنْهُمُوا وَهُمُوا رُكُوعُ
طَارَ الْخَوْفُ نَوْمَهُمُوا فَقَامُوا
…
وَأَهْلُ الأَمْنِ فِي الدُّنْيَا هُجُوعُ
لَهُمْ تَحْتَ الظَّلامِ وَهُمْ سُجُودٌ
…
أَنِينٌ مِنْهُ تَنْفَرِجُ الضُّلُوعُ
وَخُرْسٌ فِي النَّهَارِ لِطُولِ صَمْتٍ
…
عَلَيْهِمْ مِنْ سَكِينَتِهِمْ خُشُوعُ
آخر:
…
أَهْلُ الْخُصُوص مِن الصُّوَامِ صَوْمُهُمُوا
…
صَوْنُ اللِّسَانِ عَنْ الْبُهْتَانِ وَالْكَذِبِ
وَالْعَارِفُونَ وَأَهْلِ الإُنْسِ صَوْمُهُمُوا
…
صَوْنُ الْقُلُوبِ عَنْ الأَغْيَارِ وَالْحُجُبِ
آخر:
…
لَوْ يَعْلَمُ الرَّاقِدُونَ إِذْ رَقَدُوا
…
مَا فَاتَهُمْ وَيْحَهُمْ وَمَا فَقَدُوا
مَا طَعَمَتْ فِي الظَّلامِ أَعْيُنهمْ
…
غَمْضًا وَلا فِي النَّهَارِ مَا قَعَدُوا
وَلا ثَنَى عَزْمَهُمْ إِذْ عَزَمُوا
…
أَهْلٌ وَلا صَاحِبٌ وَلا وَلَدُ
وَلَوْ دَرَوْا وَيْلَهُمْ نَدَامَتَهُمْ
…
عَلَى زَمَانٍ ضَيَاعَهُ قَصَدُوا
إِلا انْصَدَعَتْ حَسْرَةً قُلُوبُهُمْ
…
وَخَانَهُمْ عَنْ ذَاكُمُ الْجُلَدُ
آخر:
…
يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى مَالٍ أَجُودُ بِهِ
…
عَلَى الْمُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ
إِنَّ اعْتِذَارِي إِلَى مَنْ جَاءَ يَسْأَلُنِي
…
مَا لَيْسَ يُمْكِنُنِي إِحْدَى الْمُصِيبَاتِ
آخر:
…
اجْعَلْ شِعَارَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ التُقَى
…
قَدْ فَازَ مَنْ جَعَلَ التُقَى إِشْعَارَهُ
وَاسْلُكْ طَرِيقَ الْحَقِّ مُصْطَحِبًا بِهِ
…
إِخْلاصَ قَلْبَكَ حَارِسًا أَسْرَارَهُ
وَإِذَا أَرَدْتُ الْقُرْبَ مِنْ خَيْرِ الْوَرَى
…
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَاتَّبِعْ آثَارُهُ
والآيات وَالأَحَادِيث فِي باب الخوف كثيرةٌ جدًا مَنْهَا ما ورد عَنْ أبي مسعود رضي الله عنه قَالَ: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمَعَ خلقه فِي بطن أمه أربعين يَوْمًا نطفةً ثُمَّ يكون علقةً مثل ذَلِكَ ثُمَّ يكون مضغةً مثل ذَلِكَ ثُمَّ يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمَاتَ بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أَوْ سعيد» .
وعنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يؤتى يومئذ جهنم لها سبعون ألف زمام مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها» . رَوَاهُ مُسْلِم. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إن أَهْوَن أَهْل النار عذابًا يوم القيامة لرجل يوضع فِي أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا وإنه لأهونهم عذابًا» . متفق عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
…
أَمَا سَمِعْتَ بِأَكْبَادٍ لَهُمْ صَعَدَتْ
…
خَوْفًا مِن النَّارِ فَانْحَطَّتْ إِلَى النَّارِ
أَمَا سَمِعْتَ بِضِيقٍ فِي مَكَانِهِمُوا
…
وَلا فِرَارَ لَهُمْ مِنْ صَالِي النَّارِ
أَمَا سَمِعْتَ بِحَيَّاتٍ تَدِبُّ بِهَا
…
إِلَيْهِمُوا خُلِقَتْ مِنْ مَارِجِ النَّارِ
فَيَا إِلَهِي بِأَحْكَامٍ وَمَا سَبَقَتْ
…
بِهِ قَدِيمًا مِنْ الْجَنَّاتِ وَالنَّارِ
أَدْعُوكَ أَنْ تَحْمِي الْعَبْدَ الضَّعِيفَ فَمَا
…
لِلْعَبْدِ مِنْ جَسَدٍ يَقْوَى عَلَى النَّارِ
وَالشَّمْسُ مَا لِي عَلَيْهَا قَطُّ مِنْ جَلَدٍ
…
فَكَيْفَ يَصْبُرُ ذُو ضَعْفٍ عَلَى النَّارِ
" موعظة "
عباد الله سيجيء يوم يتغير فيه هَذَا العَالِم ينفطر فيه السماء وينتثر فيه الكوكب وتطوى السماء كطي الصحيفة يزيلها الله ويطويها جَلَّ وَعَلا وتبدل الأَرْض غير الأَرْض وينفح فِي الصور فيقوم النَّاس من قبورهم أحياء كما كَانُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حفاةً عراةً غرلَا.
وحينئذ يحشر الكافر أعمى لا يرى أصم لا يسمَعَ أخرس لا يتكلم يمشي على وجه ليعلم من أول أنه أَهْل للإهانة ويكون أسود الوجه أزرق العينين فِي منتهى العطش فِي يوم مقداره خمسين ألف سَنة لَيْسَ بينه وبين الشمس إلا مقدار ميل إذ ذاك يقف ذاهل العقل شاخص البصر لا يرتد إليه طرفه وفؤاده هواء ويعطى كتابه بشماله أَوْ من وراء ظهره فيتمنى أنه لم يعطه.
ثُمَّ يؤمر به إِلَى النار ويسلك فِي سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا وبعد دخولها لا يخَرَجَ أبدًا ولا يزيده إلا عذابًا إِذَا استغاث من العطش يغاث بماء كالمهل يشوي الوجوه ويذيب الأمعاء والجلود تحيط بِهُمْ جهنم من كُلّ ناحية وكُلَّما نضج جلده بدل غيره.
وله مقامَعَ من حديد، كُلّ هَذَا الْعَذَاب يعانيه ولا يموت ويأتيه الموت من كُلّ مكَانَ وما هُوَ بميت ومن ورائه عذاب غليظ كما قَالَ تَعَالَى:{لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى} وسواء صبر أَوْ لم يصبر هُوَ خالد فِي هَذَا الْعَذَاب خلودًا لا نهاية لَهُ هَذَا أقصى عذاب يتصور لأنه جزاء أقصى جريمة هِيَ الكفر بِاللهِ هَذَا عذاب مجرد تصوره يطيش العقول ويذهل النُّفُوس ويفتت الأكباد فاستعذ بِاللهِ منه أيها المُؤْمِن وأسال الله التثبيت على الإِسْلام وحسن الاعتقاد.
شِعْرًا:
…
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا تَقُلْ
…
خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَليَّ رَقِيبُ
وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً
…
وَلا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ
لَهَوْنَا لَعَمْرُ اللهِ حَتَّى تَتَابَعَتْ
…
ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوبُ
فَيَا لَيْتَ أَنَّ اللهَ يَغْفِرُ مَا مَضَى
…
وَيَأْذَنَ فِي تَوْبَاتِنَا فَنَتُوبُ
أَقُولُ إِذَا ضَاقَتْ عَليَّ مَذَاهِبِي
…
وَحَلَّ بِقَلْبِي لِلْهُمُومِ نَدُوبُ
لِطُولِ جَنَايَاتِي وَعُظمِ خَطِيئَتِي
…
هَلَكْتُ وَمَا لِي فِي الْمَتَابِ نَصِيبُ
وَيُذْكِرُنِي عَفْوُ الْكَرِيمِ عَنْ الْوَرَى
…
فَأَحْيَا وَأَرْجُو عَفْوَهُ وَأُنِيبُ
آخر:
…
الْحَمْدُ للهِ ثُمَّ الْحَمْدُ للهِ
…
كَمْ ذَاعَنِ الْمَوْتِ مِنْ سَاهٍ وَمِن لاهٍ
يَا ذَا الَّذِي هُوَ فِي لَهْوٍ وَفِي لِعبٍ
…
طُوبَى لِعَبْدٍ حَقِيبِ الْقَلْبِ أَوَّاهِ
مَاذَا تُعَايُنُ هَذي الْعَيْنُ مِنْ عَجَبٍ
…
عِنْدَ الْخُرُوجِ مِن الدُّنْيَا إِلَى الله
فَاخْضَعْ فِي قَوْلِي وَأَرْغَبُ سَائِلاً
…
عَسَى كَاشِفُ الْبَلْوَى عَليَّ يَتُوبُ
اللَّهُمَّ انظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين، اللَّهُمَّ أهدنا لصالح الأَعْمَال والأَخْلاق لا يهدي لأحسنها إلا أَنْتَ واصرف عنا سَيِّءَ الأَعْمَال والأَخْلاق لا يصرف عنا سَيِّئَهَا إلا أَنْتَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وعلى وصحبه أجمعين.
" فَصْلٌ "
عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يعرق النَّاس يوم القيامة حَتَّى يذهب عرقهم فِي الأَرْض سبعين ذراعًا ويلجمهم حَتَّى يبلغ آذانهم» . متفق عَلَيْهِ. وعنه قَالَ: كنا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمَعَ وجبة فقَالَ: «هل تدرون ما هَذَا» ؟ قلنا: الله ورسوله أعْلَمْ. قَالَ: «هَذَا حجر رمِيَ به في النار مُنْذُ سبعين خريفًا فهو يهوى فِي النار الآن انتهى إِلَى قعرها فسمعتم وجبتها» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يحشر النَّاس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلا» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ الرِّجَال والنساء جميعًا ينظر بَعْضهمْ إِلَى بَعْض، قَالَ:«يَا عَائِشَة الأَمْر أشد من أن يهمهم ذَلِكَ» . وقَدْ مدح الله الخائفين منه وأثنى عَلَيْهمْ فِي كتابه فقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} إِلَى قوله: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} .
شِعْرًا:
…
مَا قِيمَةُ اللَّيْلِ لَمْ تَذْكُرْ بِظُلْمَتِهِ
…
بِوَحْشَةِ الْقَبْرِ يَا مَنْ كَانَ يَعْتَبِرُ
اسْتَغْفِرِ اللهَ يَا مَنْ قَدْ ظَفِرْتَ بِهَا
…
فِي هَجْعَةِ النَّاسِ إِذَا يَغْشَاهُمُ السُّحُرُ
إِذْ يَنْزِلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى
…
دُنْيَا السَّمَاءِ لِكَيْ يَدْعُونَهُ الْبَشَرُ
وَفِي المسند والترمذي عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ قول الله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} . أهو الَّذِي يزني ويشرب الخمر ويسرق، قَالَ:«لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه» . قَالَ الحسن: عملوا وَاللهِ بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عَلَيْهمْ إن المُؤْمِن جمَعَ إحسانَا وخشية والمنافق جمَعَ إساءة وأمنا.
وَمِمَّا ورد فِي فضائل الخوف ما فِي الصحيحين عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «سبعة يظلهم الله فِي ظله يوم لا ظِلّ إلا ظله الإِمَام العادل وشاب نشأ فِي عبادة الله عز وجل ورجل قَلْبهُ معلق بالمساجد ورجلان تحابا فِي الله اجتمعا على ذَلِكَ وتفرقا عَلَيْهِ ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقَالَ: إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حَتَّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خَالِيًا ففاضت عَيْنَاهُ» .
ومِمَّا ورد فِي فضيلة الخوف ما فِي الْحَدِيث الأخر عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا اقشعر جلد الْعَبْد من مخافة الله عز وجل تحات ذنوبه كما يتحات
عن الشَّجَرَة اليابسة ورقها» . وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حَتَّى يعود اللبن فِي الضرع ولا يجتمَعَ غبار فِي سبيل الله ودخان جهنم فِي مِنْخَرَى مُسْلِم» . رَوَاهُ الترمذي.
وروى ابن حبان فِي صحيحة والبيهقي فِي الشعب مِنْ حَدِيثِ أبي هريرة أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فيما يرويه عَنْ ربه قَالَ الله سبحانه وتعالى: «وعزتي وجلالي لا أجمَعَ على عبدي خوفين، ولا أجمَعَ لَهُ أمنين إن أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أخفته يوم القيامة وأنى خافني فِي الدُّنْيَا أمنته يوم القيامة» .
ومقامَاتَ الخوف تختلف فمِنْهُمْ من يغلب على قَلْبِهِ خوف الموت قبل التوبة والْخُرُوج من المظَالِم، وَمِنْهُمْ من يغلب عَلَيْهِ خوف الاستدراج بالنعم أَوْ خوف الميل عَنْ الاستقامة على ما يرضي الله، وقسم يغلب عَلَيْهِ خوف خاتمة السُّوء والعياذ بِاللهِ من ذَلِكَ، وأعلى من هَذَا خوف السابقة لأن الخاتمة فرع السابقة، وقَدْ قَالَ: هؤلاء فِي الْجَنَّة ولا أبالي وهؤلاء فِي النار ولا أبالي.
ومن أقسام الخائفين من يخاف سكرات الموت، وشدته لاسيما إِذَا كَانَ قَدْ عاين من يعاني سكرات الموت، وَمِنْهُمْ من يخاف عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، وَمِنْهُمْ من يخاف هيبة الوقوف بين يدي الله عز وجل، والخوف من مناقشة الحساب، والعبور على الصراط والخوف من النار وأنكالها وأهوالها أَوْ حرمان الْجَنَّة أَوْ الحجاب عَنْ الله تَعَالَى وَهُوَ خوف العارفين.
وما قبل ذَلِكَ هُوَ خوف الزاهدين والعابدين، وخوف عموم الخلق يحصل بأصل الإِيمَان بالْجَنَّة والنار وكونهما دارَى جزاء على الطاعة والمعصية وضعف هَذَا الخوف بسبب الغَفْلَة والركون إِلَى الدنيا، والانهماك فيها، وضعف الإيمان، وتزول تلك الغَفْلَة بالتذكر والوعظ وَالإِرْشَاد وملازمة الفكر
فِي أهوال يوم القيامة، وشدائدها، والْعَذَاب فِي الآخِرَة وبالنظر إِلَى الخائفين ومجالستهم ومشاهدة أحوالهم فَإِنَّ فاتت المشاهدة فالنظر فِي سيرة الصالحين الَّذِينَ غلب عَلَيْهمْ الخوف، قَالَ الله تَعَالَى:{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} .
وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وقال: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} وأخبر عما يقولونه بعد دخولهم الْجَنَّة، {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} .
شِعْرًا:
…
يَا نَفْسُ كُفِي فَطُولُ الْعُمْرِ فِي قِصَرٍ
…
وَمَا أَرَى فِيكِ لِلتَّوْبِيخِ مِنْ أَثَرِ
يَا نَفْسُ قَضَيْتُ عُمْرِي فِي الذُّنُوبِ وَقَدْ
…
دَنَا الْمَمَاتُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ الْوَطَرِ
يَا نَفْسُ غَرَّكَ مِنْ دُنْيَاكِ زُخْرُفُهَا
…
وَلَمْ تَكُونِي بِهَوْلِ الْمَوْتِ تَعْتَبِرِي
يَا نَفْسُ بالَغْتِ بِالْعِصْيَانِ غَاوِيَةً
…
وَلَمْ تُبَالِي بِتَحْذِيرٍ وَمُزْدَجَرِ
آخر
…
يَا مَنْ يُجِيبُ دُعَا الْمُضْطَرِّ فِي الظُّلَمِ
…
يَا كَاشِفَ الضُّرِّ وَالْبَلْوَى مَعَ السِّقَمِ
قَدْ نَامَ وَفْدُكَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَانْتَبِهُوا
…
وَأَنْتَ عَيْنُكَ يَا قَيُّومُ لَمْ تَنَمِ
هَبْ لِي بِجُودِكَ فَضْلَ الْعَفْوِ عَنْ جُرَمِي
…
يَا مَنْ إِلَيْهِ أَشَارَ الْخَلْقُ فِي الْحَرَمِ
إِنْ كَانَ عَفْوُكَ لا يُدْرِكْهُ ذُو سَرَفٍ
…
فَمَنْ يَجُودُ عَلَى الْعَاصِينَ بِالْكَرَمِ
اللَّهُمَّ قو محبتك فِي قلوبنا وثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين سِلْمًا لأوليائك حربًا لأعدائك، اللَّهُمَّ حبب إلينا كتابك وارزقنا الْعَمَل بما أودعته فيه واجعله لقلوبنا ضياءً ولأسقامنا دواءً ولأبصارنا جلاءً ولذنوبنا ممحصًا وعن النار مخلصًا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
وعلى العاقل الناصح لنفسه أن يحذر من مُجَالَسَة الظلمة الأطغياء والجهلة ممن غلب عَلَيْهمْ الأمن من مكر الله حَتَّى كأنهم حوسبوا وفرغ منهم، فلم يخشوا بطش الله، وسطوته ولا نار الْعَذَاب ولا بعد الحجاب، قَالَ الله تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
وقَالَ تَعَالَى {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} فهَذَا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين كَانَ أشد النَّاس خوفًا ففي الصحيح: «أَنَا أعلمكم بِاللهِ وأشدكم لَهُ خشية» .
وَفِي صحيح الْبُخَارِيّ عَنْ أم العلاء امرأة من الأنصار أنهم اقتسموا المهاجرين أول ما قدموا عَلَيْهمْ بالقرعة، قَالَتْ فطار لَنَا - أي وقع - فِي سهمنا عثمان بن مظعون من أفضل المهاجرين وأكابرهم ومتعبديهم وممن شهد بدرًا.
فاشتكى فمرضناه حَتَّى إِذَا توفي وجعلناه فِي ثيابه دخل عَلَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: رحمة الله عَلَيْكَ أبا السائب، فشهادتي عَلَيْكَ لَقَدْ أكرمك الله تَعَالَى، فقَالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وما يدريك أن الله أكرمه» . فَقُلْتُ: لا أدري بأبي أَنْتَ وأمي يَا رَسُولَ اللهِ.
فقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما عثمان فقَدْ جاءه اليقين، وَاللهِ إني لأرجو لَهُ الْخَيْر» . أي فالإنكار عَلَيْهَا من حيث جزمها بتلك الشهادة من غير مستند قطعي، فكَانَ اللائق بها أن تأتي بها فِي صيغة الرجَاءَ لا الجزم كما فعل صلى الله عليه وسلم.
قُلْتُ: وكثيرًا ما أسمَعَ وأرى فِي الكتب قول بَعْض النَّاس (المرحوم) أَوْ (المغفور لَهُ) ولا أدري ما هُوَ مستندهم بإيرادها بصيغة الجزم والأولى أن يقَالَ المرجو لَهُ الرحمة والغفران. أهـ.
ثُمَّ قال: صلى الله عليه وسلم «ما أدري، وأنَا رسول الله ما يفعل بي» . قَالَتْ: فوالله لا أزكي أَحَدًا بعده. أي على جهة الجزم وأما على جهة الرجَاءَ وحُسْن الظَّنِ بِاللهِ فجائز، قَالَتْ: وأحزنني فنمت فرَأَيْت لعثمان عينا تجري فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: «ذَلِكَ عمله» .
ولما توفي عثمان هَذَا قَبَّلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خَدَّهُ وبكى حَتَّى سالت دموعه الكريمة على خد عثمان، وبكى القوم فقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:«اذهب عَنْهَا أي الدُّنْيَا أبا السائب لَقَدْ خرجت عَنْهَا ولم تلبس بشَيْء» . وسماه صلى الله عليه وسلم السَّلَف الصالح وَهُوَ أول من قُبِرَ بالبقيع رضي الله عنه.
فتأمل زجره صلى الله عليه وسلم عَنْ الجزم بالشهادة على عثمان هَذَا مَعَ كونه شهد بدرًا وما يدريك لعل الله أطلع على أَهْل بدر فقَالَ: (اعملوا ما شَئتم فقَدْ غفرت لكم) وكونه قَبَّلَهُ وبكى ووصفه لَهُ بأعظم الأوصاف وَهُوَ أنه لم يتلبس من الدُّنْيَا بشَيْء وبأنه السَّلَف الصالح، تعلم أنه ينبغي للعبد وإن عمل من الطاعات وما عمل أن يكون على حيز الخوف والخشية من الله تَعَالَى.
شِعْرًا:
…
يَا رَبِّ هَيِءْ لَنَا أَمْرَنَا رَشَدَا
…
وَاجْعَلْ مَعُونَتَكَ الْعُظْمَى لَنَا سَنَدَا
وَلا تَكِلْنَا إِلَى تَدْبِيرِ أَنْفُسَنَا
…
فَالْعَبْدُ يَعْجَزُ عَنْ إصْلاحِ مَا فَسَدَا
أَنْتَ الْعَلِيمُ وَقَدْ وَجَّهْتُ يَا أَمَلِى
…
إِلَى رَجَائِكَ وَجْهًا سَائِلاً أَبَدَا
وَلِلرَّجَاءَ ثَوَابٌ أَنْتَ تَعْلَمُه
…
فَاجْعَلْ ثَوَابِي دَوَامَ السَّتْرِ لِي أَبَدَ
وروى شداد بن أوس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الكَيِّسُ من دان نَفْسهُ وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نَفْسهُ هواها، وتمنى على الله الأماني» .
وقَالَ علي بن أبي طالب: وقَدْ سلم من صلاة الفجر وقَدْ علته كآبة وَهُوَ يقلب يده، لَقَدْ رَأَيْت أصحاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فلم أرى شَيْئًا يشبهم اليوم،
لَقَدْ كَانُوا يصبحون شعثًا صفرًا غبرًا، بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قَدْ باتوا لله سجدًا، وقيامًا يتلون كتاب الله ويراوحون بين جباههم وأقدامهم.
فإذا أصبحوا ذكروا الله، فما دوا كما يميد الشجر فِي يوم الريح وهمت أعينهم بالدموع حَتَّى تبل ثيابهم، وَاللهِ كأني بالقوم غافلين.
ثُمَّ قام فما رُؤْيَ بعد ذَلِكَ ضاحكَا حَتَّى مَاتَ رحمة الله عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
…
لله دَرَّ رِجَالٍ وَاصَلُوا السَّهَرَا
…
وَاسْتَعْذَبُوا الْوَجْدَ وَالتَّبْرِيحَ وَالْفِكَرَا
فَهُمْ نُجُومُ الْهُدَى وَاللَّيْلُ يَعْرِفُهُمْ
…
إِذَا نَظَرْتَهُمُوا هُمْ سَادَةُ بُرَرَا
كُلٌّ غَدَا وَقْتُهُ بِالذِّكْرِ مُشْتَغِلاً
…
عَمَّا سِوَاهُ وَلِلَّذَاتِ قَدْ هَجَرَا
يُمْسِي وَيُصْبَحُ فِي وجْدٍ وَفِي قَلَقٍ
…
مِمَّا جَنَاهُ مِن الْعِصْيَانِ مُنْذَعِرَا
يَقُولُ يَا سَيِّدِي قَدْ جِئْتُ مُعْتَرِفًا
…
بِالذَّنْبِ فَاغْفِرْ لِي يَا خَيْرَ مَنْ غَفَرَا
حَمَلْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا لا أَطِيقُ لَهُ
…
وَلَمْ أَطِعْ سَيِّدِي فِي كُلِّ أَمْرَا
عَصَيْتُهُ وَهُوَ يُرْخِي سِتْرَهُ كَرَمًا
…
يَا طَالمَا قَدْ عَفَا عَنِّي وَقَدْ سَتَرَا
وَطَالمَا كَانَ لِي فِي كُلَّ نَائِبَةٍ
…
إِذَا اسْتَغَثْتُ بِهِ مِنْ كُرْبَةٍ نَصَرَا
وَإِنَّنِي تَائِبٌ مِمَّا جَنَيْتُ وَقَدْ
…
وَافَيْتُ بَابَكَ يَا مَوْلايَ مُعْتَذِرَا
لَعَلَّ تَقْبَلُ عُذْرِي ثُمَّ تَجْبُرُنِي
…
يَوْمَ الْحِسَابِ إِذَا قُدِّمْتَ مُنْكَسِرَا
وَقَدْ أَتَيْتُ بِذُلٍّ رَاجِيًا كَرَمًا
…
إِلَيْكَ يَا سَيِّدِي قَدْ جِئْتُ مُفْتَقِرَا
ثُمَّ الصَّلاة عَلَى الْمُخْتَارِ سَيِّدِنَا
…
عِدَادَ مَا غَابَ مِنْ نَجْمٍ وَمَا ظَهَرَا
وقَالَ معاوية لضرار بن حمزة الصدائي: صف عليًا. قَالَ: ألا تعفيني. قَالَ: بل صفه. قَالَ ألا تعفيني. قَالَ: لا أعفيك. قَالَ: أما إنه لابد. فإنه كَانَ بعيد المدى، واسع العلوم والمعارف، لا تدرك غايته فيهما شديد الْقُوَى فِي ذات الله، ونصرة دينه، يَقُولُ فضلاً، ويحكم عدلاً، ينفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدُّنْيَا، وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته.
كَانَ والله غزير الدمعة، طويل الفكر، يقلب كفه، تأسفًا وحزنًا، إذ هَذَا فعل المتأسف الحزين، ويخاطب نَفْسهُ، بالمزعجات، والمقلقات، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما حضر.
كَانَ والله كأحدنا إِذَا سألناه، ويأتينا إِذَا دعوناه، وَنَحْنُ وَاللهِ مَعَ تقربه لَنَا وقربه منا لا نكلمه هيبة لَهُ، فَإِنَّ تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أَهْل الدين ويحب المساكين، ولا يطمَعَ القوي فِي باطله ولا ييأس الضعيف من عدله.
واشهد الله لَقَدْ رأيته فِي بَعْض مواقفه، وقَدْ أرخى الليل ستوره، وغارت نجومه، وقَدْ تمثل فِي محرابه، قابضًا على لحيته، يتململ تململ اللديغ، ويبكى بُكَاء الحزين، وكأني سمعته يَقُولُ: يَا ربنا يَا ربنا. يضرع إليه.
ثُمَّ يَقُولُ: يَا دنيا يَا دنيا إِلَيَّ تعرضت أم تشوقتي هيهات هَيهات غري غيري، وقَدْ بَتَتْتُكِ ثلاثًا لا رجعة لي فيك فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزَّاد، وبعد السفر، ووحشة الطَرِيق، فذرفت عين معاوية على لحيته، فما ملكها وَهُوَ ينشفها بكمه، وقَدْ اختنق القوم بالبكاء.
قَالَ معاوية: رحم الله أبا الحسن كَانَ وَاللهِ كذلك، فَكَيْفَ حزنك عَلَيْهِ يَا ضرار؟ قَالَ: حزن من واحدها فِي حجرها فلا ترقا عبرتها ولا يسكن حزنها.
وقَالَ أبو ذر وددت لو أني شجرة تُعْضَدُ وَكَذَا قَالَ طلحة ابن عبيد الله أحد العشرة.
وقَالَ عمران بن حصين: وددت أن أكون رمادًا تنسفه الرياح.
وكَانَ علي بن الحسين إِذَا توضأ أصفر لونه، فَيَقُولُ لَهُ أهله: ما هَذَا الَّذِي يعتادك عَنْدَ الوضوء، فَيَقُولُ: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم. وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عَنْ الخائفين، فقَالَ: قُلُوبهمْ، بالخوف قرحة، وأعينهم باكية، يقولون كيف نفرح والموت من ورائنا، والقبر أمامنا والقيامة
موعدنا، وعلى جهنم طريقنا وبين يدي الله موقفنا، وَهَذَا منه بيانٌ عَنْ الخائفين بحسب حاله رحمه الله.
شِعْرًا:
وَمَا مَن يَخَافُ الْبَعْثَ وَالنَّارَ آمِنٌ
…
وَلَكِنْ حَزِينٌ مُوجَعُ الْقَلْبِ خَائِفُ
إِذَا مَرَّ ذِكْرُ الْمَوْتِ أَوْجَعَ قَلْبَهُ
…
وَهَيَّجَ أَحْزَانًا ذُنُوبٌ سَوَالِفُ
ومر الحسن البصري رحمه الله بشاب وَهُوَ مستغرق فِي ضحكه جالس مَعَ قوم فقَالَ لَهُ الحسن: يَا فتى هل مررت بالصراط؟ قَالَ: لا. فقَالَ: فهل تدري إِلَى الْجَنَّة تصير أم إِلَى النار؟ قَالَ: لا. قَالَ: فما هَذَا الضحك. قَالَ: فما رُؤِيَ ذَلِكَ الفتى بعدها ضاحكًا.
وَرُوِيَ عَنْ ميسرة ابن أبي ميسرة أنه كَانَ إِذَا أوى إِلَى فراشه يَقُولُ: يَا ليتني لم تلدني أمي. فقَالَتْ لَهُ أمه حين سمعته: يَا ميسرة إن الله قَدْ أحسن إليك، هداك للإسلام. قَالَ: أجل ولكن الله قَدْ بين لَنَا أَنَا واردون عَلَى النَّارِ، ولم يبين لَنَا أَنَّا صادرون عَنْهَا. أي لا جزم عنده أنه من المتقين الناجين فلذا اشتد خوفه مَنْهَا.
وكَانَ عطاء السلمي من الخائفين، وقِيْل لَهُ فِي مرضه: ألا تشتهى شَيْئًا. فقَالَ: إن خوف جهنم لم يدع فِي قلبي مَوْضِعًا للشهوة.
وقِيْل لبَعْضهمْ: لماذا إِذَا وعظ بَعْض النَّاس خَوَّفَ وأبكى، وبَعْضهمْ يتكلم ويبكي ويخوف ولا يبكون، فقَالَ: لَيْسَتْ النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.
وحكى أن قومًا وقفوا بعابدٍ وَهُوَ يبكي فَقَالُوا: ما الَّذِي يبكيك يرَحِمَكَ اللهُ قَالَ: قرحة يجدها الخائفون فِي قُلُوبهمْ قَالُوا: وما هي؟ قَالَ: روعة النداء بالعرض على الله عز وجل.
وقَالَ معاذ بن جبل رضي الله عنه: إن المُؤْمِن لا يسكن روعه، حَتَّى يترك جسر جهنم وراءه. هَذِهِ نماذج من مخاوف السَّلَف، وَنَحْنُ أجدر بالخوف مِنْهُمْ، لكن لَيْسَ بكثرة الذُّنُوب بل بصفاء الْقُلُوب وكمال المعرفة.
وإلا فلَيْسَ أمننا وعدم خشوعنا لقلة ذنوبنا، وكثرة طاعاتنا، بل قادتنا شهواتنا وغلبت عَلَيْنَا شقوتنا وإنهما كنا فِي الدُّنْيَا وزينتها وصدتنا عَنْ ملاحظة أحوالنا غفلتنا وقسوتنا فلا بقرب الرحيل ننتبه، ولا بكثرة الذُّنُوب تتحرك، ولا بمشاهدة أحوال الخائفين تخوفنا ولا بخطر الخاتمة انزعجنا، فنسأل الله أن يتداركنا بلطفه وإحسانه وأن يجود عَلَيْنَا بفضله ورحمته إنه على كُلّ شَيْء قدير.
شِعْرًا:
…
فَوَحَقِّ مَنْ سَمَّكَ السَّمَاءَ بِقُدْرَةٍ
…
وَالأَرْضَ صَيَّرَ لِلْعِبَادِ مِهَادَا
إِن الْمُطرَّ على الذُّنُوبِ لَهَالِكٌ
…
صَدَّقْتَ قَوْلِي أَوْ أَرَدْتَ عِنَادَا
شِعْرًا:
…
أَجَلُّ ذُنُوبِي عِنْدَ عَفْوِكَ سَيِّدِي
…
حَقِيرٌ وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبِي عَظَائِمَا
وَمَا زِلْتَ غَفَّارًا وَمَا زِلْتَ رَاحِمَا
…
وَمَا زِلْتَ سَتَّارًا عَلَى الْجَرَائِمَا
لَئِنْ كُنْتُ قَدْ تَابَعْتُ جَهْلِي فِي الْهَوَى
…
وَقَضَيْتُ أَوْطَارَ الْبَطَالَةِ هَائِمَا
فَهَا أَنَا قَدْ أَقْرَرْتُ يَا رَبُّ بِالَّذِي
…
جَنَيْتُ وَقَدْ أَصْبَحْتُ حَيْرَانَ نَادِمَا
آخر:
…
أَتَذْهَلُ بَعْدَ إِنْذَارِ الْمَنَايَا
…
وَقَبْلَ النَّزْعِ أَنْبَضَتِ الْحَنَايَا؟
رُوَيْدَكَ لا يَغُرُّكَ كَيْدُ دُنْيَا
…
هِيَ الْمِرْنَانُ مُصْمِيَةُ الرَّمَايَا
أَتَرْجُو الْخُلْدَ فِي دَارِ التَّفَانِي
…
وَأَمْنَ السِّرْبِ فِي خُطَطِ الْبَلايَا؟
وَتُغْلِقُ دُونَ رَيْبِ الدَّهْرِ بَابَا
…
كَأَنَّكَ آمِنٌ قَرْعَ الرَّزَايَا
وَأَنَّ الْمَوْتَ لازَمَةٌ قِرَاهُ
…
لُزُومَ الْعَهْدِ أَعْنَاقَ الْبَرَايَا
لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ غَاز
…
لَهُ الْمِرْبَاعُ مِنَّا وَالصَّفَايَا
اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لصالح الأَعْمَال وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وَفِي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ نجنا بِرَحْمَتِكَ من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَّة دار الْقَرَار وعاملنا بكرمك وجودك يَا كريم يَا غفار
واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فائدةٌ جليلةٌ من كلام ابن القيم وشيخ الإِسْلام رحمهما الله "
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وقوله عز وجل: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} .
فالآية الأولى فِي الجهاد الَّذِي هُوَ كمال القوة الغضبية، وَالثَّانِيَة فِي النكاح الَّذِي هُوَ كمال القوة الشهوانية فالْعَبْد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نَفْسهُ منه، وَهَذَا المكروه خَيْر لَهُ فِي معاشه ومعاده، ويجب الموادعة والمتاركة وَهَذَا المحبوب شر لَهُ فِي معاشه ومعاده.
وَكَذَا يكره المرأة لوصف من أوصافها وله فِي إمساكها خَيْر كثير لا يعرفه ويحب المرأة لوصف من أوصافها وله فِي إمساكها شر كثير لا يعرفه فالإِنْسَان كما وصفه خالقه ظلوم جهول. قُلْتُ: ولَقَدْ أجاد القائل:
شِعْرًا:
…
إِذَا كَانَ غَيْرُ اللهِ لِلْمَرْءِ عُدَّةً
…
أَتَتْهُ الرَّزَايَا مِنْ وُجُوهِ الْمَكَاسِبِ
وَقَدْ جَرَّتْ الْحُنَفَاءُ حَتْفَ حُذَيْفَةٍ
…
وَكَانَ يَرَاهَا عُدَّةً لِلشَّدَائِدِ
آخر:
…
إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِن اللهِ لِلْفَتَى
…
فَأَكْثَرُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ
فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه، بل المعيار على ذَلِكَ ما اختاره الله لَهُ بأمره ونهيه، فانفع الأَشْيَاءِ لَهُ على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه.
وأضر الأَشْيَاءِ عَلَيْهِ على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه فإذا قام بطاعته
وعبوديته مخلصًا لَهُ، فكل ما يجري عَلَيْهِ مِمَّا يكرهه يكون خيرا لَهُ وَإِذَا تخلى عَنْ طاعته وعبوديته فكل ما هُوَ فيه محبوب هُوَ شر لَهُ.
فمن صحت لَهُ معرفة ربه والفقه فِي أسمائه وصفاته علم يقينًا أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته بل مصلحة الْعَبْد فيما يكره أعظم مَنْهَا فيما يحب.
فعامة مصالح النُّفُوس فِي مكروهاتها، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها فِي محبوباتها، انظر إِلَى غارس جنة من الجنات خبير بالفلاحة غرس جنة وتعهدها بالسقي والإصلاح حَتَّى أثمرت أشجارها فاقبل عَلَيْهَا يفصل أوصالها ويقطع أغصانها لعلمه أنها لو خليت على حالها لم تطب ثمرتها فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة.
حتى إِذَا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها، أقبل يقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها، لتصلح ثمرتها أن تَكُون بحضرة الملوك، ثُمَّ لا يدعها ودواعي طبعها من الشراب كُلّ وَقْت، بل يعطشها وقتًا ويسقيها وقتًا، ولا يترك عَلَيْهَا دَائِمًا وإن كَانَ ذَلِكَ أنضر لورقها وأسرع لنباتها.
ثُمَّ يعد إِلَى تلك الزينة التي تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها، كما فِي شجرة العنب ونحوه، فهو يقطع أعضائها، بالحديد، ويلقي عَنْهَا كثيرًا من زينتها وَذَلِكَ عين مصلحتها فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالْحَيَوَان لتوهمت أن ذَلِكَ إفسادٌ لها وأضرارٌ بها، وإنما هُوَ عين مصلحتها.
وكَذَلِكَ الأب الشفيق على ولده العَالِم بمصلحته، إِذَا رأى مصلحته فِي أن يمسك عَنْهُ العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه، لعلمه أن ذَلِكَ أكبر الأسباب إِلَى فساده وهلاكه.
وكَذَلِكَ يَمْنَعُهُ كَثِيرًا مِنْ شَهَوَاتِهِ حُمْيَةً لَهُ وَمَصْلَحَةً لا بُخْلاً عَلَيْهِ، فَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَأَعْلَمُ الْعَالَمِينَ الَّذِي هُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَمِن آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، إِذَا أَنْزَلَ بِهِمْ مَا يَكْرَهُونَ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَنْ لا يُنْزِلَهُ بِهِمْ، نَظَرًا مِنْهُ لَهُمْ وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ وَلُطْفًا بِهِمْ.
وَلَوْ مُكِّنُوا مِنْ الاخْتِيَارِ لأَنْفُسِهِمْ لَعَجِزُوا عَنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِم عِلْمًا وَإِرَادَةً وَعَمَلاً، لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ تَوَلَّى تَدْبِيرَ أُمُورِهِمْ بِمُوجِبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَحَبُّوا أَمْ كَرِهُوا، فَعَرَفَ ذَلِكَ الْمُوقِنُونَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَلَمْ يَتَّهِمُوهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى الْجُهَّالِ بِهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَنَازَعُوهُ تَدْبِيرَهُ وَقَدْ حُوا فِي حِكْمَتِهِ، وَلَمْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِهِ، وَعَارَضُوا حُكْمَهُ بِعُقُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَآرَائِهِمْ الْبَاطِلَةِ وَسِيَاسَاتِهِمْ الْجَائِرَةِ فَلا لِرَبِّهِمْ عَرَفُوا وَلا لِمَصَالِحِهِمْ حَصَّلُوا. وَاللهُ الْمُوَفِّقُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُ الدِّينِ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مِن الضُّرِّ وَالشِّدَّةِ مَا يُلْجِئُهُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَيَرْجُونَهُ وَلا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ فَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ بِهِ لا بِغَيْرِهِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِن التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالإِنَابَةِ وَحَلاوَةِ الإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ.
وَالْبَرَاءَةِ مِن الشِّرْكِ مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ أَوْ الْجُدْبِ وَالضُّرِّ وَمَا يَحْصُلُ لأَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمُخْلِصِينَ للهِ فَأَعْظَمُ مِن أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ مَقَالٌ وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ بِقَدَرِ إِيمَانِهِ وَلِهَذَا قِيْلَ: يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ بُورِكَ لَكَ فِي حَاجَةٍ أَكْثَرْتَ فِيهَا مِنْ قَرْعِ بَابِ سَيِّدِكَ.
وَطَوْرًا تَكُونُ الْمَصَائِبُ انْتِقَامًا مِن اللهِ تَعَالَى لِمُخَالَفَةِ الْعَبْدِ أَمْرَ رَبِّهِ كَمَعْصِيَةِ آدَمَ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ اللهُ عَنْ الأَكْلِ مَنْهَا فَأَكْلُهُ مِنْ الشَّجَرَةِ مَعْصِيَةٌ جَزَاءَ عِصْيَانِهِ كَمَا أَنَّهَا تَكُونُ لِمَحْوِ الذُّنُوبِ وَتَطْهِيرِ الْقُلُوبِ مِنْ رِجْسِ الْمَعَاصِي.
وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِن مِن نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حَزَنٍ وَلا أَذَى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» . أ. هـ.
وَالْحِكْمَةُ وَاللهُ أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا مُرَبِيَة لِلنُّفُوس وَتُمُرِّنُهَا عَلَى احْتِمَالِ الشَّدَائِدِ وَالصَّبْرِ الْجَمِيلِ عَلَى الإِنَاءَاتِ وَالرَّزَانَة وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ فَتَبْلُغُ بِصَاحِبِهَا إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ وَبُلُوغِ الْغَايَاتِ لِذَلِكَ تَجِدُ الرِّجَالَ الأَمَجَادَ الَّذِينَ هُمْ أُشَدُّ مُعَانَاةً لِلشَّدَائِدِ فِي حَيَاتِهِمْ وَصَبَرُوا عَلَى الْمَصَائِبِ وَالآلامِ الَّتِي تَنَالُهُمْ عِنْدَ قِيَامِهِمْ بِالدَّعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ ذِكْرُهُمْ بَاق عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ وَأَجْرُهُمْ عِنْدَ اللهِ تَام.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيَامَ بِطَاعَتِكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوِّكَ وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ صلى الله عليه وسلم وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ الْمَنْزِلَةِ، قَالَ تَعَالَى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} .
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُطَمِّنَةٌ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ تُصِيبُهُمْ الْمَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مِثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِن الزَّرْعِ تَفِيئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأرْزَةِ الْمُجَذِّبَةَ عَلَى أَصْلِهَا لا يَفِيئُهَا شَيْءٌ يَكُونُ انْجَعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيهِ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ فِمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَنْ جَابِرِ مَرْفُوعًا: «يَوَدُّ نَاسٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ فِي الدُّنْيَا لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ البَلاءِ» .
وَعَنْ سَعْدِ بن أبِي وَقَّاصِ رضي الله عنه: قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنْ النَّاسِ يُبْتَلِيَ الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ، زِيدَ فِي بَلائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةً خُفِّفَ عَنْهُ وَمَا يَزَالُ البَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِي عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ ولَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَة» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة: (يُبْتَلى الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُؤْمِنَةُ فِِي جَسَدِهِ وَفِي مَالِهِ وَفِي وَلَدِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) . صَحَّحَهُمَا التِّرْمِذِيّ وَرَوَى الثَّانِي مَالِكٌ وَأحمد.
وَوَرَدَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ سَقَمٌ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللهُ مِنْهُ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ وَمَوْعِظَة لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِي كَانَ كَالْبَعِيرِ عَقْلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ وَلِمَ أَرْسَلُوهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ثُمَّ اعْلَمْ أن إبلَيْسَ لَعَنَهُ اللهُ قَدْ يَعْرِضُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُحْتَضَرِ فيؤذيه فِي دِينِهِ ودُنْيَاهُ وَقَدْ روي عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه كَانَ يدعو: «اللَّهُمَّ إني أعوذ مِن بك الغَرقِ والحَرَقِ والهَدْمِ وأعُوذُ بكَ أن يَتَخَبَّطَنِي الشيطانُ عِنْدَ الموتِ» . أَخْرَجَهُ الطبراني.
وَفِي حديث آخر أن إبليس لا يكون في حالِ أشدَّ منه على ابن آدم عند الموتِ يقول لأَعْوَانِهِ: دُونكُمُوه فإنه إن فَاتكم اليوم لم تَلْحَقُوه.
وقَدْ يَسْتَوْلى عَلَى الإِنْسَان حِينَئِذٍ فَيُضِلَّهُ فِي اعْتِقَادِهِ وَرُبَّمَا حَالَ بينه وبينَ التوبة وَرُبَّمَا مَنَعَهُ مِن الْخُرُوجِ من مَظْلَمَةٍ أَوْ أَيَّسَهُ مِن رَحْمَةِ الله.
وَيَقُولُ لَهُ: قَدْ أَقْبَلَتْ إِلَيْكَ سَكَرَاتُ الموت التي لا تطيقها الجبال وَنَزْعُ الموت شديد وَرُبَّمَا خَوَّفَهُ وأقلَقَهُ وَأَوْقَعَهُ فِي الوَسَاوِسَ والاعتراضِ على القدرِ والعياذُ بِاللهِ.
فينبغي لِلْمُؤْمِنِ أن يعلم أن هَذَا الساعة ساعةَ خُروجِ الروحُ حِينَ يحمى الوطِيس فَيَتَجَلَّد وَيَتَصَبَّر وَيَسْتَعِينُ بِاللهِ الحي القيوم على هَذَا الْعَدُوّ المرصد ليرجع هَذَا الْعَدُوّ خائبًا.
عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ لِيُنْضِي شَيْطَانَهُ كَمَا يُنْضِي أَحَدُكم بعيره فِي السفر» .
ويعلم أن الجزع لا يفيد شَيْئًا وعن عمر بن عَبْد الْعَزِيز رحمه الله أنه قَالَ: ما أحب أن تُهَوَّنَ عَليَّ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ إنه آخر ما يكفر به عَنْ المسلم.
وعن إبراهيم قَالَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِلْمَرِيض أن يَحْمَدَ اللهَ عِنْدَ الموت، وعن ابن عباس أَنه قَالَ آخِرُ شِدَّةٍ يَلْقَاهَا الْمُؤْمِنُ الموت.
واعْلَمْ أنَّ المرضَ يُذْهِبُ الخَطَايا وكُلَّمَا اشْتَدَّ المرضُ كَانَ أَذْهَبَ لها عن عَبْد اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فَمَسَسْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فقَالَ:«أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ َرُجلانِ مِنْكُمْ» . قُلْتُ: ذَلِكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. قَالَ: «أَجَلْ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذَى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إِلا حَطَّ اللهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَها» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم.
وعن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ما مِن مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المسلم إلا كفر الله عز وجل بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشوكة يشاكها» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يَزَالُ البَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي جَسَدِهِ وفي ماله وفي ولده» .
وعن صهيب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عَجِبْتُ مِن قَضَاءِ اللهِ عز وجل لِلْمُؤْمِنِ إِن أمره كله خَيْر ولَيْسَ ذَلِكَ إلا لِلْمُؤْمِنِ إن أصابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا وإن أصابته ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
وعن أبي سعيد الخدري قَالَ: دَخَلْتُ على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ فوجَدتُ حَرَّهُ بَيْنَ يَدَيَّ (فَوق اللحاف) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أشدَّهَا عَلَيْكَ، قَالَ:«إِنَا كَذَلِكَ يُضَعَّفُ لَنَا البَلاء وَيُضَعَّفُ لَنَا الأجْر» .
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءُ؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاء» . قُلْتُ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «الصَّالِحُونَ إِنْ كَانَ لَيُبْتَلِي بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلا الْعَبَاءَةَ يُحَوِّيهَا وَإِنْ كَانَ أحَدهم لَيَفْرَحُ بِالبَلاءُ كَما يَفْرَحُ أَحَدُكم بالرَّخَاء.» . رَوَاهُ ابن ماجه.
وعن عَبْد اللهِ بن أحمد قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: حدثنا وكيع عَنْ أبي حيان عَنْ أبيه قَالَ: دَخَلُوا على سُوَيْدِ بن شُعْبَةَ اليَربُوعِي وقَدْ صَارَ على فراشِهِ كَأنَ فَرْخٌ وامرأتُه تُنَادِيهِ مَا نُطْعِمُكَ ما نَسْقِيكَ، فأجابها بِصوتٍ خِفَى دَبَرَتِ الْحَرَاقِفُ وَطَالَتِ الضَّجْعَةُ وَمَا أَحِبُّ أَن اللهَ عز وجل نَقَصَنِي مِنْهُ قُلامَةَ ظُفرُ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها مَا رَأَيْتُ الْوَجَعَ عَلَى أَحَدٍ أَشَدَّ مِنْهُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكَانَ جماعة من السَّلَف يجعلون مكَانَ الأنين والتأوه من شدة المرض ذِكْرَ الله سُبْحَانَهُ والاستغفار والتعبد وَذَلِكَ لان الأنين ونحوه شكوى فَمَتَى أمكن التصبر عَنْهُ فينبغي أن يصبر.
شِعْرًا:
…
وَمَا هِيَ إلا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي
…
وَيَذْهَبُ هَذَا كُلُّهُ وَيَزُولُ
فإن غلب عَلَيْهِ المرض عذر، وقَالَ الإِمَام أحمد لابْنِهِ: أقرا عليَّ حديث طاووس أنه كره الأنين فِي المرض فقرأ عَلَيْهِ فَمَا أَنَّ حَتَّى مَاتَ رحمه الله.
وَلَمَّا احْتُضِرَ صَفْوانُ بنُ سُلَيْمِ وحضره أخوه فجعل يَتَقَلَّبُ قَالُوا: كَانَ لَهُ حاجة. قال: نَعَم.
فَقَالَتْ ابْنَتُهُ: مَا لَهُ مِنْ حَاجَةٍ إِلا أنه يُرِيدُ أَنْ تَقُومُوا عَنْهُ فَيَقُومُ فَيُصَلِّي، وَمَا ذَاكَ فِيهِ.
فقامَ القَومُ عَنْهُ وقامَ إِلَى مَسْجِدِه يُصَلِّي فصاحت ابنته بِهِمْ فدخلوا عَلَيْهِ فحملوه فمَاتَ.
ودخلوا على أحد السَّلَف وَهُوَ يعاني سكرات الموت فجعل يكبر ويُهَلل ويذكر الله عز وجل وجعل النَّاس يدخلون عَلَيْهِ أرسالاً يسلمون عَلَيْهِ فيرد عَلَيْهمْ ويخرجون.
فَلَمَّا كثروا عَلَيْهِ أقبل على ولده فقَالَ: يَا بُنَيَّ أَعْفِنِي رُدَّ السَّلام على هؤلاء لا يشغلوني عَنْ ربي عز وجل.
وقَالَ أبو مُحَمَّد الحريري: حَضَرْتُ عِنْدَ الْجُنَيْدِ قَبْلِ وَفَاتِهِ بِسَاعَتَيْنَ فَلَمْ يَزَلْ تَالِيًا وَسَاجِدًا فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِم قَدْ بلَغَ بِكَ مَا أَرَى مِنْ الْجُهْدِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد أَحْوَجُ مَا كُنْتُ إِلَيْهِ هَذِهِ السَّاعَة فَلَمْ يَزَلْ تَالِيًا وَسَاجِدًا حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا وَخَرَجَ مَنْهَا عَارِيًا كَمَا دَخَلَهَا عَارِيًا.
وَهَكَذَا كُلُّ بَنِي آدم يدخل الإِنْسَان مُجَرَّدًا مِن اللباس وَيَخْرُجُ مِنْهَا عَارِيًا إِلا مِنْ كَفَنِهِ كَمَا قِيْلُ:
شِعْرًا:
…
نَصِيبُكَ مِمَّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلَّهُ
…
رِدَاءآنِ تُلْوَى فِيهِمَا وَحَنُوطُ
آخر:
…
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُه
…
سِوَى حَنُوط غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ
وَغَيْرَ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ
…
وَقَلَّ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ
أَوْجَدَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا لِيَتَعَلَّمَ وَيَعْمل بِطاعة الله وَيَتَمَتَّعَ بِخَيْرَاتِ الدُّنْيَا مُسْتَعِينًا فِيهَا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ حَتَّى إِذَا انْقَضَى أَجَلُهُ أَخْرَجَهُ اللهُ لِدَارِ الْجَزَاءِ وَالْمُحَاسَبَةِ عَلَى عَمَلِهِ.
فإنْ أَحْسَنَ التَّصَرُّفَ وَأَطَاعَ رَبَّهُ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ لِيَسْعَد فِيهَا لِلأَبَد، وإِنْ أساء التَّصَرُف وَعَصَى رَبَّهُ أَدْخَلَهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَتَعَذَّبُ فِيهَا لِلأَبَد.
وكل ما فِي الدُّنْيَا من أَمْتِعَةٍ وَلَذَائِدَ قليلة وضئيلة ومحدودة بِالنِّسْبَةِ لِلَذَائِد الْجَنَّة بل موضع السوط فِي الْجَنَّة خَيْر من الدُّنْيَا وما فيها.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
والمكث فِي الدُّنْيَا قليل فهو سنوات تمر كالبرق الخاطف لا يشعر الإِنْسَان إلا وقَدْ انْتَهَتْ كأنها سَاعة مِن نهار حَيَاتهُ كُلّهَا.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلَاّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} ومِن النَّاس مَن رَآها دَارَ قَرَار، وقَالَ: لا دَارَ لِيَ سِوَاهَا واعْتَنَى بِهَا وَبِزَخَارِفَِِها وَغَرَّهُ إِبْلَيْسَ لَعَنَهُ اللهُ وَزِيَّنَهَا لَهُ فَانْغَمَسَ فِيهَا، وَعَمِلَ لَهَا لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَتَعِبَ فِيهَا مُسْتَمْتِعًا بِخَيْرَاتِهَا الْفَانِيَةِ وَمُلاقٍ بَلاءَهَا وَأَنْكَادَهَا وَأَكْدَارَهَا، وَبَعْدَ قَلِيل هَجَم عَلَيْهِ هَادِمُ اللَّذاتِ وَأَيْقَظَهُ من غَفْلَتِه بَعْدَ فَوَاتِ الأَوَانِ فَنَدَمَ حَيْثُ لا يَنْفَعُ النَّدَمِ وَعَرَفَ بَعْدَ الْفَوْت أَنَّ الدُّنْيَا دَارَ مَنْ لا دَارَ لَهُ وَلَهَا يَجْمَعُ من لا عَقْلَ لَهُ.
(فَصْلٌ) : وَقِسْمٌ مِن النَّاس وَفَّقَهُم اللهُ وَهُوَ أَعْلَمْ بالمهتدين فأسْعَدهم بالإسلام وَوَفَّقَهُمْ لِلْعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ.
قَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَة وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} وَهؤلاء تَمَشَّوْا مَعَ الْكِتَابِ وَالسُنَّةِ أَصْلَحُوا دُنْيَاهُم وَجَدُّوا وَاجْتَهِدُوا وَعَمِلُوا لِلآخِرَةِ.
فَالدُّنْيَا نِعْمَ الْمطيةُ لِلْمُؤْمِنِ يَسْتَعْمِلُهَا لِلْخَيْر وَيَنْجُو عَلَيْهَا مِن الشَّر فَاتَّخَذَهَا مَطِيَّةً فَعَمَرَهَا كَمَا أَمَرَهُ خَالِقُهُ وَأَخَذَ مِنْهَا مَا يَلْزَمُهُ بِاعْتِدَالِ وَتَوَازُنٍ وَلَمْ يُعْلق قَلْبهُ بِهَا.
فَأطَاعَ رَبَّهُ وَاسْتَعَدَّ لآخِرَتَهُ فَلَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ وَجَدَهُ عَلَى أَتَمِّ الاِسْتِعْدَادِ ومن النَّاس من رأى الدُّنْيَا تافهة وأيامها قليلة وعلم ما فِي الآخِرَة من نَعِيم مُقيم وَعَيْشٍ سَلِيم وعلم أنَّ الدُّنْيَا والآخِرَة ملك {اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} {الَّذِي لَهُ} {الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
فأحب ربه واشتغل بعبادته وبالتقرب إليه بالعلم وفعل الْخَيْر وترك الدُّنْيَا وزينتها وزهد فيها.
وَهَذَا القسم نادر كندرة الماس والجوهر الثمين فسعدوا بطاعة الله والتقرب إليه وصرف الوَقْت فيما يرضيه. ومن النَّاس من جهل الدُّنْيَا والآخِرَة فعاش فيها عيش البهائم يعمل ليله ونهاره.
ويأكل كما تأكل الأنعام فلم يستفد من الدُّنْيَا ولم يستعد للآخرة هؤلاء هم الأكثرية الساحقة. وأسوء النَّاس من شغل عمره فِي خدمة مخلوق وضيع وقته فِي القِيْل والقَالَ والجلوس عَنْدَ الملاهي والمنكرات.
وروي أن شر النَّاس منزلة عَنْدَ الله يوم القيامة عبد أذهب آخرته بدنيا غيره.
شِعْرًا:
…
وَأَسْوء النَّاس تدبيرًا لِعَافِيَةٍ
…
مَن أَنفقَ العُمر فيما لَيْسَ يَنْفَعُهُ
أما الاعِتدال والتوسط بين الاستمتاع بالدُّنْيَا بلا إسراف ولا إِضَاعَةِ وَقْتٍ
ولا يَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِهَا وَيَكُونُ مُسْتَعِدًا للآخِرَةِ فهَذَا سِمَةُ الْعُقَلاءِ وَالسُّعَدَاء الَّذِينَ يُحْسِنُونَ تَصْرِيفَ أَوْقَاتِهِمْ وَأَعْمَارِهِمْ.
وَلِيَعْلَم الْمُؤْمِنُ أن الله جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّسَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِن الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ كَمَا يَحْمِي الْمَرِيضَ أَهْلَهُ مِن الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَخَافُونَ عَلَيْهِ.
وَعَلَى الإِنْسَان الْعَاقل أَنْ يَفْهَمْ الدُّنْيَا على حَقِيقَتِهَا فَيَنْظُرَ أَوَّلاً كَيْفَ وُلِدَ يَجِدُ أَنَّهُ وُلِدَ عَارِيًا مِنْ كُلّ شَيْءٍ حَتَّى مِن الثِّيَابِ ثُمَّ رَزَقَهُ اللهُ الْكِسْوَةَ مِن الْمَلابِسِ وَالْمَتَاعِ وَالسَّكَنِ وَالْمَالِ عَلَى أَنَّهَا عَارِيَّةٌ مُرَجَعَةُ.
فَإِذَا فَقَدْ مِنْهَا شَيْئًا فَلا يَحْزَنْ لأَنَّ مَنْ أَعَارَهُ شَيْئًا اسْتَرَدَّهُ وَسَوْفَ يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلَّ مَا أُعْطِي وَيَخْرُجُ مِن الدُّنْيَا تَارِكًا كُلَّ شَيْءٍ.
شِعْرًا:
…
وَمَا الْمَالُ وَالأَهْلُونَ إلا وَدَائِعٌ
…
وَلا بُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرَدَّ الْوَدَائِعُ
آخر:
…
تَجَرَّدْ مِن الدُّنْيَا فَإِنَّكَ إِنَّمَا
…
خَرَجْتَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنْتَ مُجَرَّدً
آخر:
…
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ تَجْمَعُهُ
…
سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ
وَغَيْرَ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ
…
وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلَق
(حِكَمْ وَمَوَاعِظُ وَآدَاب)
قَالَ بَعْضُهُمْ يُوصِي ابْنه: يَا بُنَيَّ لا تدخل فِي الدُّنْيَا دُخُولاً يَضُر بِآخِرَتِكَ وَلا تَتْرُكْهَا تَرْكًا تَكُونُ بِهِ كلاً عَلَى النَّاسِ.
وقَالَ: أُتْرُكْ الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ تَتْرُكَكَ، وَاسْتَرْض رَبَّكَ قَبْل لِقَائِهِ، وَأعْمُرْ بَيْتَكَ الَّذِي سَوْفَ تَسْكُنُه قَبْلَ انْتِقَالِكَ إِلَيْهِ.
قَالَ أَحَدُ الصَّالِحِينَ لِمَنْ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ: كَيْفَ يَتْرُكُ الدُّنْيَا مَنْ تَأَمُرونَهُ بِتَرْكِ الدِّينَارِ وَالدِّرهِم وَهُم إِنْ الْقَوهَا أَخَذْتُمُوهَا أَنْتُمْ.
وَقَالَ آخر الْوَقْت آلة الرِّزْقِ إن اسْتُعْمِلَ، وآفةُ الرِّزْقِ إِذَا أُهْمِلْ.
لا تَسْتَغْرِبْ وُقُوعَ الأَكْدَارِ، مَا دُمْتَ فِي هَذِهِ الدَّارَ، فَإِنَّهَا مَا أَبْرَزَتْ إِلا مَا هُوَ مُسْتَحَقُّ وَصْفِهَا وَوَاجِبُ نَعْتِهَا فَاحْذَرْهَا.
شِعْرًا:
…
طُبِعَتْ على كَدَرٍ وَأَنْتَ تَرُومُهَا
…
صَفْوًا مِن الأَقْذَارِ وَالأَكْدَارِ
مَرَّ بَعْضُهُمْ عَلَى مَزْبَلَةٍ بِجَانِبِ مَقْبَرَةَ، فقَالَ: هَذِهِ كِنْزُ الرِّجَال، وَهَذِهِ كِنْزُ الأَمْوَالِ. خَلَق اللهُ جَلَّ وَعَلا الدُّنْيَا لِتَكُون فِي خِدْمَتِكَ، فَتَحَوَّلْتَ إِلَى خِدْمَتِهَا وَأَرَادَكَ مَلِكًا لَهَا وَأَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكًا لَهَا.
شِعْرًا:
…
أَنْتَ الأَمِيرُ عَلَى الدُّنْيَا بِزُهْدِكَ فِي
…
حُطَامِهَا وَطَرِيقُ الْحَقِّ مَسْلُوكُ
وَأَنْتَ عَبْدٌ لَهَا مَادُمْتَ تَعْشِقُهَا
…
إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يَهْوَاهُ مَمْلُوكُ
الدُّنْيَا مَحْبُوبَةٌ لِلإنْسِان ولكن يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ لا نَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا كَرهَهُ اللهُ وَلا نَمْنَعْ مِنْهَا شَيْئًا أَحَبَّهُ اللهُ وبذا لا يَضُرنا حُبُّنَا لَهَا.
الدُّنْيَا بَحْرٌ وَالآخِرَة سَاحِل والمركبُ التَّقْوَى والنَّاسُ سُفر.
الذنب يضر فاعله وقَدْ يضر غيره إن عَيَّرهُ ابتُلِي، وإن اغْتَابَهُ أثُِم، وإن رَضِي به شاركه، قِيْل: إن المسيح عليه السلام قَالَ: يَا رَبِّ مَن أَشرفُ النَّاسِ، فَأَوْحَى الله إليه أشرفُ النَّاس مَن إِذَا خلا علم أني ثانيه فأَجَلَّ قَدْرِي عَنْ أن يظهرني على معاصيه.
هجران المعاصي أفضل الهجرة والمحافظة على الفرائض أفضل الجهاد ولا يأتي أحد بشَيْء أحَبَّ إِلَى الله مِنْ ذِكْرِهْ. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} لا تَسْتَبْطِئ إجَابَةَ الدُّعَاء وقَدْ سَدَدَتَ طُرَقَهَا بالمعاصي.
التَّمَادِي بِالْمَعَاصِي يُوجِبُ الإِصْرَارَ عَلَيْهَا وَالإِصْرَارُ عَلَيْهَا يُوجِبُ الْغَفْلَةَ عَنْ الله ومَن غَفَل عَنْ الله تَجَرَّأَ عَلَيْهِ فَهَلَكَ.
أَخْسَرُ النَّاسِ صَفْقَةً مَنْ بَاعَ الْجَنَّةَ بِمَا فِيهَا بِشَهْوَة سَاعة، سُئِلَ بَعْضُهُمْ: هَلْ مِنْ عَلامٍَة لِمَنْ قَبِلَهُ الله؟ فقَالَ: الله أعْلَمْ ولكن هنا قرائن ودلائل